ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه- أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين، ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام، فيتمّ التوادّ والتصافي بينكم وبينهم.
وفى ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين، وتطيب لقلوبهم، وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ، ثم رخص لهم فى صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
روى أحمد فى جماعة آخرين عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبى بكر بهدايا- صناب (صباغ يتخذ من الخردل والزبيب) وأقط وسمن وهى مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة رضى الله عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل الله «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ» الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها
وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية فى خزاعة وبنى الحرث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
الإيضاح
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لعل الله يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، والله قدير على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة.(28/69)
وقد تمّ ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون فى دين الله أفواجا، وثم بينهم التصافي والتصاهر، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلات كما قال تعالى:
«وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» وقال: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .
ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال:
(لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي لا ينها كم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم فى الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبيانا فقال:
(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي إنما ينها كم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة فقاتلوكم وأخرجوكم أو عاونوا على إخراجكم كمشركى مكة، فإن بعضهم سعوا فى إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين.
ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال:
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم فى غير موضعها، وخالفوا أمر الله فى ذلك.(28/70)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
شرح المفردات
فامتحنوهن: أي فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنّهن فى الإيمان، علمتموهن: أي ظننتموهن، إلى الكفار: أي إلى أزواجهن الكفار أجورهن: أي مهورهن، وعصم: واحدها عصمة، وهى ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر: واحدتهن كافرة: فعاقبتم: أي فكانت العقبى لكم، أي الغلبة والنصر لكم، حتى غنمتم منهم.
المعنى الجملي
الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة:
(1) أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ» الآية.(28/71)
(2) أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» .
(3) أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله: «إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) أي إذا جاءكم أيها المؤمنون النساء اللاتي نطقن بالشهادة ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك- مهاجرات من بين الكفار فاختبروا حالهن، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن، أو هنّ منافقات،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للمتحنة: بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، بالله ما خرجت التماسا لدنيا، بالله ما خرجت إلا حبّا لله ورسوله.
ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب فقال:
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) منكم وهو يتولى السرائر، وفى هذا بيان أنه لا سبيل إلى ما تطمئن إليه النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله بعلمه.
(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن، فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
ثم بيّن العلة فى النهى عن إرجاعهن بقوله:
(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي لا المؤمنات حلّ للكفار، ولا الكفار يحلون للمؤمنات.
(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وأعطوا أزواجهن مثل ما أنفقوا من المهور.(28/72)
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أمر عليّا أن يكتب بالصلح فكتب:
باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يرده إليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جندل بن سهيل، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا ردّه فى مدة العهد، وإن كان مسلما، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أولادهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه فى أمرها ليردها إلى قريش فنزلت الآية، فلم يردها عليه الصلاة والسلام، ثم أنكحها زيد بن حارثة.
وعن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفى بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلب ردّها فأنزل سبحانه الآية فلم يردها وأعطاه ما أنفق، وتزوجها عمر رضى الله عنه.
ومن هذا تعلم أن الآية بيّنت أن العهد الذي أعطى كان فى الرجال دون النساء ومن ثم لم يردهن حين جئن مؤمنات.
(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي ولا إثم عليكم ولا حرج فى نكاح هؤلاء المؤمنات المهاجرات، بشرط أن تتعهدوا بالمهور، وتلتزموا بأدائها وإنما جاز هذا لأن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار، فكان من المصلحة أن يكون لهن عائل من المؤمنين يكفل أمر أرزاقهن.
(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي إنه لا ينبغى أن يكون علاقة من علاقات(28/73)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
الزوجية بين المؤمنين ونسائهم المشركات الباقيات فى دار الشرك، فلا يمنع نكاح إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها ما دامت فى العدة، لأنه لا عدة لهن.
(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم إذا ارتددن ولحقن بهم.
(وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم، والمراد أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك.
(ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي ذلكم الذي ذكر هو حكم الله فاتبعوه، يحكم به بينكم فلا تخالفوه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.
(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم للهور اللاتي دفعت لهن، ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن من الغنيمة مثل ما أنفقوا.
روى عن ابن عباس أنه يعطى الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس أي قبل أن تقسم أخماسا، كما هى القاعدة فى تقسيم الغنائم كما تقدم فى سورة الأنفال.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي وخافوا الله الذي أنتم به مصدقون، فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)(28/74)
شرح المفردات
يبايعنك: أي يلتزمن لك الطاعة، ولا يقتلن أولادهن: أي ولا يئدن البنات والمراد بالبهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن: الولد الذي كانت ألصقته بزوجها كذبا، والافتراء: الكذب، فى معروف: أي فى أمر برّ وتقوى، فبايعهن: أي فالتزم لهن ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء.
المعنى الجملي
روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضى الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه بهذه الآية: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ- إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ» . فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد بايعتك» كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة فى المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك.
وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما فى القرآن: ألّا نشرك بالله شيئا- حتى بلغ- ولا يعصينك فى معروف فقال: فيما استطعتن وأطقتن، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال إنى لا أصافح النساء، إنما قولى لامرأة واحدة قولى لمائة امرأة» .
الإيضاح
أي أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة، ملتزمات ألا يشركن بالله شيئا من صنم أو حجر، ولا يسرقن من مال الناس شيئا، ولا يزنين، ولا يئدن البنات كما كنّ يفعلن ذلك فى الجاهلية، ولا يلصقن أولاد(28/75)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
الأجانب بأزواجهن كذبا وبهتانا، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه كالنّوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه، وألا تخلو امرأة بغير ذى رحم محرم- فبايعهن على ذلك، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هن أطعنك فى كل ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفّين بما بايعن عليه.
وعن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: ألّا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين» الآية، قال فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرّى أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت فنعم، فبايعها بالآية» .
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
شرح المفردات
غضب الله عليهم: أي طردهم من رحمته، من الآخرة: أي من ثوابها ونعيمها، من أصحاب القبور: أي من رجوع موتاهم إليهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
المعنى الجملي
نهى سبحانه أول السورة عن موالاة المشركين، وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم، ثم أوعد على ذلك، ولما كان الأمر فى ذلك جدّ خطير فى سياسة الدولة(28/76)
الإسلامية ونشر الملة- كرر النهى عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودا كانوا أو نصارى، ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبى بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية، ويجعلون شئون الدنيا مقدمة على شئون الدين.
روى أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين، ليصيبوا من ثمارهم فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم واستحقوا الطرد من رحمته- أولياء لكم وأصدقاء تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة، ويحول دون تقدم شئون الملة.
ثم بيّن أوصافهم ومعتقداتهم فقال:
(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها، لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشّر به فى كتابهم، المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الباهرات فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له وعلموا أن لا سبيل لهم لنيل نعيمها، كما يئس الكفار من بعث موتاهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله.(28/77)
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) النهى عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك.
(2) ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه.
(3) امتحان النساء المؤمنات المهاجرات وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر.
(4) مبايعة النساء المؤمنات فى دار الإسلام.
(5) تأكيد النهى عن موالاة المشركين، حرصا على شئون الملة، ونشر الدعوة.(28/78)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
سورة الصف
هى مدينة وعدد آيها أربع عشرة، نزلت بعد التغابن.
ومناسبتها ما قبلها- أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفى ذلك تأكيد للنهى الذي تصمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين.
روى أحمد بسنده عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيّكم يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم منا أحد، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة:
(الصف) كلها.
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
شرح المفردات
(لِمَ) أي لأىّ شىء تقولون قد فعلنا كذا وكذا، وأنتم لم تفعلوا؟ والمراد بذلك التأنيب والتوبيخ على صدور هذا الكذب منهم، كبر: أي عظم، والمقت: أشد البغض وأعظمه، ورجل مقيت وممقوت إذا كان يبغضه كل أحد، والمرصوص:(28/79)
المحكم، قال المبرد: تقول رصصت البناء إذا لا أمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة.
المعنى الجملي
قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيّه، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي شهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرهما من صفات الكمال جميع ما فى السموات والأرض، وهو الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، الحكيم فى تدبير خلقه وفق ما سنّه من السنن، وأرشد إليه من ضروب الهداية.
وبعد أن وصف نفسه بصفات الكمال ذكر ما يلحق المخلوقين من صفات النقص فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟) أي لأى شىء ولأىّ غرض تقولون لوددنا أن نعمل كذا وكذا من أفعال الخير حتى إذا طلب منكم ذلك كرهتم ولم تفعلوا؟
والتوبيخ والإنكار موجه إلى عدم فعلهم ما وعدوا به، وإنما وجّه إلى القول لبيان أن معصيتهم مزدوجة، وأنهم عملوا جرمين. فهم تركوا فعل الخير.
وقد وعدوا بفعله.(28/80)
وبهذه الآية استدل السلف على وجوب الوفاء بالوعد، وبما ثبت فى السنة من
قوله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان» .
ثم بين شدة قبح ذلك وأنه بلغ الغاية فى بغض الله له فقال:
(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.
ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم، وجميل الخصال، وبه تكون الثقة بين الجماعات، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض، ويكونون يدا واحدة فيما انتووا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا فى أمة خلف الوعد قلّت الثقة بين أفرادها، وانحلت عرا الروابط بينهم، وأصبحوا عقدا متناثرا لا ينتفع به، ولا يخشى منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات، وعظمت الخطوب، لما يكون بينهم من التواكل، وعدم ائتمان بعضهم بعضا.
وبعد أن ذمّ المخالفين فى أمر القتال وهم الذين وعدوا ولم يفعلوا، مدح الذين قاتلوا فى سبيله وبالغوا فيه فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن الله يحب الذين يصفّون أنفسهم حين القتال ولا يكون بينهم فرج فيه كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبّت صبا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش فى العصر الحاضر.
وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا فى الطعان والنزال، والكرّ والفرّ، إلى ما فى ذلك من إدخال الرّوع والفزع فى نفوس العدو، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف فى الصلاة، وألا يجلس المصلى فى صف خلفى إلا إذا اكتمل ما فى الصف(28/81)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
الأمامى، وهكذا تراعى الأمم فى عصرنا الحاضر النظام فى كل أعمالها، فى أكلها ونومها ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجدّ وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك، ولهذا لا يوجد تواكل ولا تراخ فى الأعمال، ولا تحاذل فيها، ومن ثم
جاء فى الأثر.
«أفضل الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ» .
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 6]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
شرح المفردات
تؤذوننى: أي تخالفون أمرى بترك القتال، زاغوا: أي أصرّوا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، أزاغ الله قلوبهم: أي صرفها عن قبول الحق، الفاسقين: أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق المصرّين على الغواية، وأحمد: من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال حسان:
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ... والطيّبون على المبارك أحمد
المعنى الجملي
بعد أن أنّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟» ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بنى إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين(28/82)
بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» فلم يمتثلوا أمره وعصوه أشد العصيان، و «قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» وقالوا: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» وأصروا على ذلك وآذوه أشدّ الإيذاء، فوبخهم على ذلك بما جاء فى الآية الكريمة، وقد صرفهم الله عن قبول الحق وألحق بهم الضيم والذل فى الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
ومثلهم أيضا فى عصيانهم مثل بنى إسرائيل حين قال لهم عيسى: إنى رسول الله:
وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه وقال: إنى مبشر برسول سيأتى من بعدي يسمى أحمد، فعصوه وكذبوه ولم يمتثلوا أمره.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ؟) أي واذكر لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله حين قال لقومه: لم تؤذوننى وتخالفون أمرى فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقى فيما جئتكم به من رسالة ربى؟ وفى هذا تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم «رحمة الله على موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر»
كما أن فيه نهيا للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما جاء فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .
ثم بين عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله:
(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، وأصرّوا على ذلك، صرف الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الحيرة والشك، جزاء(28/83)
وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من الذنوب والآثام، ومخالفة أوامر رسوله، وانهما كهم فى الطغيان والمعاصي، فران على قلوبهم، وطمس على أعينهم، فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل، ولا تبصر ما ترى من برهان كما قال: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .
ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله:
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي والله لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله، بما يرين على قلبه من الضلالة، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت فى الكون، وجعلت منارا للعقول، وشفاء للصدر.
(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر لقومك ما قال عيسى ابن مريم لقومه: يا قوم إنى مرسل إليكم من الله، وإنى مصدق بالتوراة وبكتب الله وأنبيائه جميعا من تقدم منهم ومن تأخر.
(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي وداعيا إلى التصديق بهذا الرسول الكريم الذي جاءت البشارة به فى التوراة. فقد جاء فى الفصل العشرين من السّفر الخامس منها: أقبل الله من سينا، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه الربوات الأطهار عن يمينه. «سينا مهبط الوحى على موسى، وساعير مهبط الوحى على عيسى، وفاران جبال مكة مهبط الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم» .
وفيها فى الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إنى سأقيم لبنى إسرائيل نبيّا من إخوتهم مثلك، أجعل كلامى فى فيه، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي، أنا أنتقم منه ومن سبطه.(28/84)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
وكذلك جاء فى الإنجيل ما هو بشارة به- ففى إنجيل يوحنا فى الفصل الخامس عشر. قال يسوع المسيح: إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبى، يعلمكم كل شىء.
وفيه أيضا: قال المسيح من يحفظ كلمتى يحبنى، وأبى يحبه، وعنده يتخذ المنزلة، كلمتكم بهذا لأنى لست عندكم بمقيم، والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبى هو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم، أستودعكم سلامى، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإنى منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبونى تفرحون بمضيّى إلى الأب.
وفيه أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبى لأنى إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على خطيئته، وإن لى كلاما كثيرا أريد قوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتى، ويعرفكم جميع ما للأب.
(والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، فسره بعضهم بالحمّاد وبعضهم بالحامد، ففى مدلوله إشارة إلى اسمه عليه السلام أحمد) كما لا يخفى على من كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فحين جاءهم أحمد المبشّر به بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة، فاجئوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارا وعنادا وقالوا: إن ما جئت به ما هو إلا ترّهات وأباطيل، وسحر واضح لا شك فيه.
ونحو الآية قوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية.
[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 9]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)(28/85)
شرح المفردات
الإسلام: الاستسلام والانقياد والخضوع لله عز وجل، والمراد من إبطال نور الله بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام، بنحو قولهم هذا سحر مفترى، والله متم نوره:
أي والله متم الحق ومبلغه غايته، بالهدى: أي بالقرآن، ودين الحق: أي بالملة السمحة، ليظهره: أي ليعليه، على الدين كله: أي على سائر الأديان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مفترى- أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح، والبرهان الساطع.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
ثم بين أن السبب فى ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم فى صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بقية، وأنى له بذاك؟
فالله متم نوره، ومكمّل دينه مهما جدّ المشركون فى إطفائه فالرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنا فيه، ولا طريقا إلا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.(28/86)
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟) أي ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على الله الكذب وجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؟
وتلخيص المعنى- أىّ الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام والخضوع، فلا يجيب الداعي بل يفترى على الله الكذب بتكذيب رسوله وقسمية آياته سحرا؟
والمراد أنه أظلم من كل ظالم، لأنه قد أهدر عقله، وركب هواه، وألقى الأدلة وراءه ظهريا.
ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم فقال:
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم، لأنهم دسّوها باجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، فختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا تفهم الأدلة المنصوبة فى الكون، ولا تهتدى بهدى العقل، بل تسير فى عماية وتمشى فى ظلام دامس لا تلوى على شىء.
ثم ذكر جدّهم واجتهادهم فى إبطال الدين، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل فقال:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي إن مثلهم فى مقاومتهم لدعوة الدين، وجدّهم فى إخماد نوره- مثل من ينفخ فى الشمس بفيه ليطفىء نورها، ويحجب ضياءها، وأنى له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب فى حديد بارد، أو كمن يريد أن يضرم النار فى الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي والله معلن الحق ومظهر دينه، وناصر محمدا عليه الصلاة والسلام على من عاداه ولو كره ذلك الكافرون به.(28/87)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
روى عن ابن عباس «أن الوحى أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف:
يا معشر يهود أبشروا، أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره، فخزن الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ» الآية.
ثم بين العلة فى إخماد دعوتهم، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول فقال:
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي هو الله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والملة الحنيفة، ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، وقد أنجز الله وعده، فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وإنما قال أوّلا: ولو كره الكافرون، وقال ثانيا ولو كره المشركون، لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه فاللائق به الكفر، لأنه ستر وتغطية، وذكر ثانيا الحاسدين للرسول وأكثرهم من قريش، فناسب ذكر المشركين.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)(28/88)
شرح المفردات
التجارة هنا: ما يقدمه المرء من عمل صالح، لينال به الثواب كما قال سبحانه:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» طيبة: أي طاهرة مستلذة، جنات عدن: أي بساتين إقامة وخلود، قريب: أي عاجل وهو فتح مكة، وحوارىّ الرجل: صفيه وخليله، وأنصار الله: أي الناصرون لدينه، فأيدنا:
أي قوّينا وساعدنا، على عدوهم: أي الكفار، ظاهرين: أي غالبين.
المعنى الجملي
بعد أن حث فى الآية السابقة على الجهاد فى سبيله، ونهاهم أن يكونوا مثل قوم موسى فى التواكل والتخاذل، إذ قالوا له: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ونهاهم أيضا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى فى العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوته- ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس فى سبيله تجارة رابحة، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل، والثواب الآجل، فيظفر بالنصرة فى الدنيا والغلبة على العدو وأخذ الغنائم وكرائم الأموال، ويحظى فى الآخرة بغفران الذنب، ورضوان الرب، والكرامة فى جنات الخلود والإقامة، ولا فوز أعظم من هذا.
ثم ضرب لهم مثلا بقوم عيسى، فقد انقسموا فرقتين: فرقة آمنت به وهم حواريه، وفرقة كفرت به وهم البقية الباقية منهم، فأمد الله المؤمنين بروح من عنده، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين، وغلبوهم بإذن الله كما هى سنة الله فى البشر كما قال:
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقال: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» .(28/89)
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله: ألا أدلكم على صفقة رابحة، وتجارة نافعة، تنالون بها الربح العظيم، والنجح الخالد الباقي.
وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتى بعده، كما تقول: هل أدلك على عالم عظيم ذى خلق حسن، وعلم فياض؟ هو فلان، فيكون ذلك أروع فى الخطاب وأجلب لقبوله.
ثم بين هذه التجارة بقوله:
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي اثبتوا على إيمانكم، وأخلصوا لله العمل، وجاهدوا بالأنفس والأموال فى سبيل الله بنشر دينه وإعلاء كلمته.
والجهاد ضروب شتى: جهاد للعدو فى ميدان القتال لنصرة الدين، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع فى أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم، وجهاد فيما بين المرء والدنيا بألا يتكالب على جمع حطامها، وألا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع، وتقره العقول السليمة.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شىء فى الدنيا من نفس ومال وولد، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها.
ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة، وقد فصل كلا الأمرين وقدم الثانية فقال:
(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً(28/90)
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
أي إن فعلتم ذلك فآمنتم بالله وصدقتم رسوله، وجاهدتم فى سبيله- ستر لكم ذنوبكم ومحاها، وأدخلكم فراديس جناته وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس، وتقرّ بها العيون فى دار الخلد الأبدى، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده.
ثم ذكر الفوز العاجل فى الدنيا فقال:
(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم على هذا فوز فى الدنيا بنصركم على عدوكم، وفتحكم للبلاد، وتمكينكم منها حتى تدين لكم مشارق الأرض ومغاربها.
وقد أنجز الله وعده، فرفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من العالم فى زمن وجيز لم يعهد التاريخ نظيره، وامتلكوا بلاد القياصرة والأباطرة، وساسوا العالم سياسة شهد لهم بفضلها العدو قبل الصديق.
ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار الله فى كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، فارفعوا شأن دينه، وأعلوا كلمته، كما فعل الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصارى إلى الله؟ قالوا له: نحن أنصار الله وأنصار دينه.
وقصارى ذلك- كونوا أنصار الله فى جميع أعمالكم وأقوالكم، وأنفسكم وأموالكم، كما استجاب الحواريون لعيسى.
(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لما بلّغ عيسى عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من الحواريين من وازره، اهتدت طائفة من بنى إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة أخرى إما جحودا لرسالته ورميه هو وأمه بالعظائم كما فعل اليهود، وإما بالغلو وإعطائه فوق ما أعطاه الله من مرتبة النبوة(28/91)
فمن قائل إنه ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، الأب والابن وروح القدس، ومن قائل إنه الله.
(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا للمؤمنين على من عداهم، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» فغلبوا أعداءهم وظهروا عليهم كما قال «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» فله الحمد على ما أعطى، والمنة على ما أنعم، وصل ربنا على محمد وآله.
ما جاء فى أثناء السورة من موضوعات
(1) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.
(2) البشارة بمحمد على لسان عيسى.
(3) محمد صلى الله عليه وسلم أرسل بالهدى والدين الحق.
(4) التجارة الرابحة عند الله هى الإيمان والجهاد فى سبيله.
(5) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم(28/92)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
سورة الجمعة
مدنية وعدد آيها إحدى عشرة، نزلت بعد الصف.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه ذكر فى السورة قبلها حال موسى مع قومه وأذاه لهم، ناعيا عليهم ذلك، وذكر فى هذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته، تشريفا لهم، ليعلم الفرق بين الاثنين.
(2) إنه حكى فى السورة قبلها قول عيسى: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وذكر هنا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى.
(3) لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)(28/93)
شرح المفردات
القدوس: المنزه عن النقائص المتصف بصفات الكمال، الأميين: هم العرب، واحدهم أمي نسبة إلى الأم التي ولدته، لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو على الجبلة الأولى، يزكيهم: أي يطهرهم بتلاوة آياته، وآخرين واحدهم آخر بمعنى غير، لما يلحقوا بهم: أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وهم من جاء بعد الصحابة إلى يوم الدين.
الإيضاح
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما فى السموات والأرض، إذا نظرت إليه دلك على وحدانية خالقه، وعظيم قدرته، كما قال سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» .
(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي هو المالك لما فى السموات والأرض المتصرف فيهما بقدرته وحكمته، المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هو الغالب عباده المسخّر لهم بقدرته، الحكيم فى تدبير شئونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم، ويوصلهم إلى سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
ثم وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات المدح والكمال فقال:
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي هو الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وهم العرب.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب» .
وهذا الرسول من جملتهم أي مثلهم، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب،(28/94)
ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها، وإلى ذلك أشار البوصيرى بقوله:
كفاك بالعلم فى الأمىّ معجزة ... فى الجاهلية والتأديب فى اليتم
وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم فقد جاء العموم فى آيات أخرى كقوله: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وقوله: «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» .
ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيا مثلهم، ليفهموا ما أرسل به ويعرفوا صفاته وأخلاقه، ليسهل اقتناعهم بدعوته.
وخلاصة ما سلف: أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول، وأجملها فى أمور:
(1) أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ، لئلا يكون هناك مطعن فى نبوته، بأن يقولوا إنه نقله من كتب الأولين كما أشار إلى ذلك بقوله: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» .
(2) أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية، ويجعلهم منيبين إلى الله مخبتين إليه فى أعمالهم وأقوالهم، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره، من ملك أو بشر أو حجر.
(3) أنه يعلمهم الكتاب والحكمة: أي يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها، فلا يتلقون عنه شيئا إلا وهم يعلمون الغاية منه، والغرض الذي يفعله لأجله، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان، وقد تقدم مثل هذا فى سورة آل عمران.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ذاك أن العرب قديما كانوا على دين إبراهيم، فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركا، وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم(28/95)
بشرع عظيم فيه هداية للبشر، وبيان ما هم فى حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم، والتمتع بنعيم جناته، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي وبعثه فى غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة وهم من جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين من جميع الأمم كالفرس والروم وغيرهم،
روى البخاري عن أبى هريرة قال: «كنا جلوسا عند النّبى صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» قال رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال:
«والذي نفسى بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» .
وقد تكلم فى هذه الرواية جمع من المحدّثين.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو ذو العزة والسلطان، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر فى غيرها من الأمم روح العدل والنظام بإرسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم.
ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال:
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيا مطهرا لهم، هاديا معلما فضل من الله وإحسان منه إلى عباده، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم فى جميع أمورهم فى دنياهم وآخرتهم، فى معاشهم ومعادهم، فلا يجعلهم فى حيرة من أمرهم تنتابهم الشكوك والأوهام، ولا يجدون للخلاص منها سبيلا، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم، ويغتصب أموالهم(28/96)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
ويسعى فى الأرض بالفساد، ويهلك الحرث والنسل، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكفّ اللاعبين، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدى هملا لا صلاح لهم فى دين ولا دنيا.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
شرح المفردات
حمّلوا التوراة: أي علّموها وكلّفوا العمل بها، لم يحملوها: أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فى تضاعيفها، والأسفار: واحدها سفر وهو الكتاب الكبير، هادوا:
أي تهوّدوا وصاروا يهودا، أولياء لله: أي أحباء له، بما قدمت أيديهم: أي بسبب ما اجترحوه من الكفر والمعاصي.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه التوحيد والنبوة، وذكر أن الرسول بعث للأميين قال اليهود: إن الرسول لم يبعث لنا، فرد الله عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق(28/97)
الفهم، وعملوا بما فيها، لرأوا فيها نعت الرسول والبشارة به، وأنه يجب عليهم اتباعه، وما مثلهم فى حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعا.
ثم رد عليهم مقالا آخر إذ قالوا نحن أحباء الله وأولياؤه وإنه لن يدخلنا النار إلا أياما معدودات- بأنه لو كان ما تقولونه حقا لتمنيتم الموت حتى تخلصوا من هذه الدار دار الأكدار، وتذهبوا إلى دار النعيم، وإنكم لن تفعلوا ذلك فأنتم كاذبون فيما تدّعون، ولم تفرون منه وهو ملاقيكم ولا محالة؟ وهناك ترجعون إلى ربكم فينبئكم بما قدمتم من عمل ويجازيكم عليه، إن خيرا وإن شرا.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) يقول سبحانه ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثم لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار يحمل الكتب لا يدرى ما فيها، ولا كنه ما يحمل، بل هم أسوأ حالا من الحمر، لأن الحمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها، فهم كما قال فى الآية الأخرى: «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» .
وصفوة القول: إن هذا النبي الذي تقولون إنه أرسل إلى العرب خاصة، هو ذلك النبي المنعوت فى التوراة والمبشّر به فيها فكيف تنكرون نبوته، وكتابكم يحض على الإيمان به؟ فما مثلكم فى حملكم للتوراة مع عدم العمل بما فيها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يدرى ما فيها، فأنتم إذ لم تعملوا بما فيها وهى حجة عليكم إلا مثل الحمار ليس له إلا ثقل الحمل من غير انتفاع له بما حمل.
ثم بين قبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره فقال:(28/98)
(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) أي ما أقبح هذا مثلا لهم، لتكذيبهم بآيات الله التي جاءت على لسان رسوله لو كانوا يتدبرون ويتفكرون، إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوى العقول والحجا من ملك أو إنس، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه وهو الحمار.
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلّان عير الحىّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم الذين دسّوها حتى أحاطت بهم الخطيئة وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم، فلم تر نور الحق، ولم تشعر بحجة ولا برهان، بل هى فى ظلام دامس لا تهتدى لطريق، ولا تصل إلى غاية.
ولما كان من شأن من يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبّا للحياة تاركا لكل ما ينفعه فى الآخرة قال آمرا رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين، إن كنتم صادقين فيما تزعمون، وقد تقدم الكلام فى مثل هذه المباهلة (الملاعنة) لليهود فى سورة البقرة فى قوله: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» كما تقدمت مباهلة النصارى فى آل عمران فى قوله: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» ومباهلة المشركين فى قوله: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» .
ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدا لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم فقال:(28/99)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء أعمالهم لكفرهم بآيات الله وتدسبتهم أنفسهم بالمعاصي والشرور والآثام.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «والذي نفسى بيده لا يقولها أحد منكم إلا غصّ بريقه»
: فلم يتمنّ أحد لعلمهم بصدقه وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم، وحق عليهم الوعيد، وحل بهم العذاب الشديد.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ولا يخفى ما فى هذا من شديد التهديد والوعيد.
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولماذا تمتنعون من المباهلة خوفا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، فإن كنتم على الحق فلا تحفلوا بالحياة، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفادها.
(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السموات والأرض، فيخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من حسن وسيىء، ثم يجازيكم على كلّ بما تستحقون.
وغير خاف ما فى هذا من شديد التهديد وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)(28/100)
شرح المفردات
نودى للصلاة: أي النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، أما النداء الأول على الزوراء (أعلى دار بالمدينة حينئذ بقرب المسجد) فقد زاده عثمان لكثرة الناس، فاسعوا: أي فامشوا، وذكر الله: هو الصلاة، وذروا البيع: أي اتركوه، فانتشروا: أي فتفرقوا، من فضل الله:
أي من رزقه، والمراد باللهو: الطبول والمزامير ونحوها، انفضّوا: أي انصرفوا، قائما:
أي على المنبر وأنت تخطب.
المعنى الجملي
بعد أن نعى على اليهود فرارهم من الموت حبّا فى الدنيا والتمتع بطيباتها- ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا وخيراتها مع السعى لما ينفعه فى الآخرة كالصلاة يوم الجمعة فى المسجد مع الجماعة، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معا، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة كما
ورد فى الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» .
ثم نعى على المسلمين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تشاغلهم عن سماع عظاته وهو يخطب على المنبر بأمور الدنيا من تجارة وضرب دفّ وغناء بالمزامير ونحو ذلك، وأبان لهم أنّ ما عند الله من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي إذا أذّن المؤذن بين يدى الإمام وهو على المنبر فى يوم الجمعة للصلاة(28/101)
فاتركوا البيع واسعوا لتسمعوا موعظة الإمام فى خطبته، وعليكم أن تمشوا الهوينى بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد.
روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (تسرعون) وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» .
وعن أبى قتادة قال: «بينما نحن نصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» رواه البخاري ومسلم.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلكم السعى وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى، فهى المنافع الباقية، أما منافع الدنيا فهى زائلة، وما عند الله خير لكم إن كنتم من ذوى العلم الصحيح بما يضر وما ينفع.
ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة فقال:
(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فإذا أديتم الصلاة فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم فى آخرتكم، واطلبوا الثواب من ربكم، واذكروا الله وراقبوه فى جميع شئونكم، فهو العليم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية من أموركم، لعلكم تفوزون بالفلاح فى دنياكم وآخرتكم.
وفى هذا إيماء إلى شيئين:
(1) مراقبة الله فى أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأيّ الوسائل من حلال وحرام.(28/102)
(2) إن فى مراقبته تعالى الفوز والنجاح فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فلأن من راقبه لا يغشّ فى كيل ولا وزن ولا يغيّر سلعة بأخرى، ولا يكذب فى مساومة، ولا يحلف كذبا، ولا يخلف موعدا، ومتى كان كذلك شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق، وأما فى الآخرة فيفوز برضوان ربه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» وبجنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين.
وعن عراك بن مالك رضى الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: «اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين» .
ثم عاتب سبحانه عباده المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال:
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا أسرعوا وتركوك قائما وأنت تخطب الناس.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي فى جماعة عن جابر بن عبد الله قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير (إبل محملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت) فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً» إلى آخر السورة.
والذي قدم بهذه التجارة دحية الكلبي من الشام، وكان إذا قدم لم تبق عاتق (الشابة حين أدركت) بالمدينة، إلا أتته ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرجوا ليبتاعوا منه، وكان ذلك طريق الإعلان عن التجارة حينئذ.
ثم رغبهم فى سماع العظات فقال:
(قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي قل لهم مبينا خطأ ما عملوا:(28/103)
ما عند الله مما ينفعكم فى الآخرة خير لكم مما يفيدكم فى الدنيا من التمتع بخيراتها، وكسب لذاتها، فتلك باقية، وهذه فانية.
(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإليه سبحانه فاسعوا، ومنه فاطلبوا الرزق، ولن يفوتكم ذلك بسماع عظاته، فالله كفيل برزقكم، ولن ينقص بترككم البيع والشراء حين الصلاة، وحين سماع العظات والنصائح.
ولله الحمد فى الآخرة والأولى، وله الحكم وإليه ترجعون.
خلاصة موضوعات السورة
(1) وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال.
(2) صفات النبي الأمىّ الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
(3) النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.
(4) طلب مباهلة اليهود.
(5) الحث على السعى للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر.
(6) الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة.
(7) عتاب المؤمنين على تركهم النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قائما وتفرقهم لرؤية التجارة أو اللهو.(28/104)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
سورة المنافقين
هى مدنية وآياتها إحدى عشرة نزلت بعد الحج.
ووجه اتصالها بما قبلها- أنه ذكر فى الأولى حال المؤمنين الذين بعث إليهم النبي الأميّ يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها، وفى هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون الذين يشهدون كذبا بأن محمدا رسول الله ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك، ومن ثم كان النبي يقرأ فى صلاة الجمعة فى الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين على العبادة، وفى الركعة الثانية بسورة المنافقين، فيقرّع بها المنافقين.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
شرح المفردات
المنافق: من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، جنّة: أي وقاية وسترا لدمائهم وأموالهم، آمنوا: أي بألسنتهم، كفروا: أي بقلوبهم، طبع: أي ختم عليها كما يختم(28/105)
بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شىء، لا يفقهون: أي لا يعلمون، تعجبك أجسامهم: أي لصباحتها وتناسب أعضائها، تسمع لقولهم: أي لفصاحتهم وحسن حديثهم، خشب: واحدها خشباء وهى الخشبة التي نخرجوفها، والصيحة: الصوت، قاتلهم الله: أي لعنهم وطردهم من رحمته، يؤفكون: أي يصرفون عما هم عليه.
المعنى الجملي
وصف الله تعالى المنافقين بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح:
(1) أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون.
(2) أنهم لا يبالون بالحلف بالله كذبا، سترا لنفاقهم، وحقنا لدمائهم.
(3) أنهم جبناء، فهم على ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم.
الإيضاح
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبىّ وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك فى صدقها، إنك رسول من عند الله حقا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم أنى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تحقيقا لرسالته فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم فى مقالهم الذي حدّثوا به فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم فى هذه الشهادة.(28/106)
ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة فقال:
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة.
قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم.
وفى هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة.
ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهى إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال:
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول فى الإسلام، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد.
وقصارى ذلك- أنهم أجرموا جرمين:
(1) أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.
(2) أنهم يمنعون الناس عن الدخول فى الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بين قبح مغبّة ما يعملون، ووبال ما يصنعون فقال:
(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالا ووبالا فى الدنيا والآخرة.
أما فى الدنيا فسيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله: «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنّهم كفروا بالله ورسوله» .(28/107)
وأما فى الآخرة فحسبهم جهنم وبئس المهاد.
ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم، وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق، ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون.
ثم ذكر ما لهم من جمال فى الصورة واعتدال فى القوام فقال:
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم، وجمال صورهم.
كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال:
(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة.
ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال:
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال فى المنظر، وقبح فى المخبر، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهى مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل، ولا يستفاد منها خير، ولله در أبى نواس:
لاتخذ عنك اللحى ولا الصّور ... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسراب منتشرا ... وليس فيه لطالب مطر
فى شجر السّرو منهم مثل ... له رواه وما له ثمر
ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال:(28/108)
(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما نادى مناد فى العسكر، أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة- ظنوا أن العدو قد فجأهم، وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة، ولقد قالوا: يكاد المريب يقول خذونى، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه فى يدى، لما ألقى من الرعب فى قلوبهم، فهم يخافون أن تهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.
ونحو الآية قوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» وقد نظر المتنبي إلى الآية فى قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ... إذا رأى غير شىء ظنه رجلا
(هُمُ الْعَدُوُّ) الذي بلغ الغاية فى العداوة.
(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوىّ، والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه فى ذمهم وتوبيخهم، وعجّب من حالهم فقال:
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم، وما أشدهم غفلة عن مآلهم.
وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم، فكأنه قال: قولوا قاتلهم الله.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه.
وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة، وأعجب بها نقمة، جازاهم الله بها على سوء أعمالهم، وقبح فعالهم(28/109)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
شرح المفردات
لوّوا رءوسهم: أي حوّلوها استهزاء، يصدون: أي يعرضون عن القائل، الفاسقين: أي الخارجين من طاعة الله وطاعة الرسول، المنهمكين فى أنواع الشرور والآثام، حتى ينفضّوا: أي حتى يتفرقوا، خزائن السموات والأرض: أي خزائن الأرزاق فيهما، لا يفقهون: أي لا يعلمون علما صادرا عن إدراك لجلال الله وقدرته، والأعزّ: أي المنافقون، والأذل فى زعمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، والعزة:
الغلبة والنصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر كذب المنافقين فى قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله، وبيّن شنيع أفعالهم، بترويجها بالأيمان الفاجرة، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم، وأنهم أجسام البغال، وأحلام العصافير، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقا أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم، بما لا يدع شبهة لمن يلتمس لهم المعاذير، ويبرئهم من النفاق فمن ذلك:(28/110)
(1) أنهم إذا طلب منهم أن يتقدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب، أمالوا رءوسهم وأعرضوا استكبارا وأنفة أن يفعلوا.
(2) أنهم قالوا: لئن رجعنا من وقعة بنى المصطلق (قبيلة من اليهود) إلى المدينة لنخرجن الأذلاء محمدا وصحبه منها.
ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غزا بنى المصطلق علا المريسيع (ماء لهم) وهزمهم وقتل وأسر- ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب، وسنان الجهني، وكان حليف عبد الله بن أبىّ، واقتتلا فصرخ جهجاه وقال: يا للمهاجرين، وصرخ سنان وقال: يا للأنصار، فأعان جهجاها رجل من المهاجرين ولطم سنانا فقال عبد الله بن أبىّ للمهاجرين: ما صحبنا محمدا إلا لنلطم، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، ثم قال لقومه: لو أمسكتم عن هذا وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال: إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب (يريد صلى الله عليه وسلم أنه يهيج الشر) قال:
فإن كرهت أن يقتله مهاجر فأمر به أنصاريا، قال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟. ثم قال لعبد الله: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني، قال:
والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا (يريد زيد بن أرقم الذي بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم) لكاذب، فنزلت هذه الآيات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: يا غلام إن الله صدّقك وكذب المنافقين، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فأذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر(28/111)
لك فلوّى رأسه وقال: أمرتمونى أن أومن فآمنت، وأمر تمونى أن أزكّي فزكيت، وما بقي إلا أن أسجد لمحمد، ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات.
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل لجماعة المنافقين كعبد الله بن أبىّ: هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم، صدوا وأعرضوا، استكبارا وعتوّا.
قال الكلبي: لما نزل القرآن بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا فى الاستغفار فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبىّ من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنّفوه وأسمعوه ما يكره فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك، قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لى، وجعل يلوّى رأسه فنزلت:
ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم فقال:
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي الاستغفار لهم وعدمه سيان لا يجديانهم نفعا، لأن الله قد كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم، وبما اجترحت من الفسوق والآثام، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن الله لا يهدى من أحاطت به خطيئته فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا تسلكه، ولا المواعظ والنصائح متسعا فى فؤاده،(28/112)
فأنى للقلب أن يهتدى، وللعقل أن يرعوى، وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون؟
ثم ذكر هنة أخرى لهم فقال:
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي هم الذين يقولون للأنصار: لا تطعموا محمدا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة، فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه.
ثم رد عليهم وخطّأهم فيما يقولون فقال:
(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله جميع ما فى السموات والأرض من شىء، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، لا يقدر أحد أن يعطى أحدا شيئا إلا بمشيئته.
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بسنن الله فى خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده فى أي مكان كانوا متى عملوا وجدوا فى الحصول عليها.
ثم ذكر هنة ثالثة لهم وهى أعظمها فقال:
(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) أي يقول عبد الله ابن أبىّ ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة لنخرجنكم منها أيها المؤمنون فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء، وأنتم الضعفاء الأذلاء.
ثم رد عليهم مقالهم فقال:
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولله الغلبة والقوّة، ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين.
روى «أن عبد الله بن عبد الله بن أبىّ، وكان مؤمنا مخلصا، سلّ سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة وقال: لله علىّ ألا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك» .
وروى «أنه وقف واستل سيفه وجعل الناس يمرون عليه حتى جاء أبوه فقال:
وراءك، قال مالك ويلك؟ قال والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله(28/113)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل، فرجع حتى لقى رسول الله، وكان إنما يسير ساقة (فى آخر الجيش) ، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خلّ عنه يدخل ففعل» .
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره كما قال «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسنته تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بد جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد، وجاعل مخالفيه هم الأذلاء.
ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب، فى تلك القوّة التي يمد بها من يشاء، والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وإن الله منجز وعده لنبيه، كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
شرح المفردات
لا تلهكم: أي لا تشغلكم، وذكر الله: العبادات المذكرة به، والمال والأولاد يراد بها زخرف الدنيا، الخاسرون فى تجارتهم: إذ باعوا العظيم بالحقير، لولا: كلمة تفيد تمنى حصول ما بعدها.(28/114)
المعنى الجملي
بعد أن حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء، وأن المؤمنين هم الأذلاء، اغترارا بما لهم من مال ونشب، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله، وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانا حقا، ويؤدون فرائضه، ويقومون بما يقربهم من رضوانه أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب وأولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم فى أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنّى لهم ذلك ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه، والله خبير بما يعملون، وهو مجازيهم على أعمالهم، إن خيرا وإن شرّا.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي لا يشغلكم تدبير أموالكم، والعناية بشؤون أولادكم، عن القيام بحقوق ربكم، وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم، وللآخرة مثله، وهذا ما عناه
الحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» .
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ(28/115)
الرِّزْقِ»
وقوله: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» .
ثم توعد من يفعل ذلك فقال:
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن تلهّ بالدنيا وشغلته عن حقوق الله فقد باء بغضب من ربه، وخسرت تجارته، إذ باع خالدا باقيا، واشترى فانيا زائلا وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟
ومن أهم ما يقرب العبد من ربه، ويجعله يفوز برضوانه- رحمة البائسين من عباده، وبذل المال فى الوجوه التي فيها سعادة الأمة، وإعلاء شأن الملة، وانتشار الدعوة، ومن ثم قال:
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء من عباده، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب، فتجنوا ثمار ما عملتم، ولا تدخروه فى صناديقكم، وتدعوه لوارثكم، فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدا ولا مدحا، بل يكسبكم ذما وقدحا.
وقد جاء فى الخبر: «أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»
وجاء أيضا: «يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدّقت فأبقيت» .
ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار، وتروا الموت رأى العين، ثم تتمنون أن لو مدّ الله فى الأجل، وأطال العمر، لتتداركوا ما فات، وتحسنوا العمل، وتساعدوا البائسين وذوى الحاجة، فهيهات هيهات، فليس ذا وقت الندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فأتى للعمر أن يطول، وللحياة أن تزيد، ولكل نفس أجل لا تعدوه، وعمر(28/116)
لا يزيد ولا ينقص فماذا يفيد التمني، وماذا ينفع الندم والحسرة؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله:
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل، وتهيئوا الزاد ليوم المعاد «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ» .
وفى هذا عبرة لمن اعتبر، ولم يفرّط فى أداء الحقوق والواجبات.
ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم فى كل ما يأتون وما يذرون فقال:
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة إعراضا عنه وسخطا، وبعدا عن رضوانه: إنك لا تجنى من الشوك العنب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
تضمنت هذه السورة شيئين
(1) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.
(2) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.(28/117)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
سورة التغابن
هى مدينة، وآياتها ثمانى عشرة، نزلت بعد التحريم.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه فى السورة قبلها ذكر حال المنافقين، وخاطب بعد ذلك المؤمنين، وهنا قسم الناس قسمين مؤمن وكافر.
(2) نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذكر الله، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة.
(3) فى السورة السابقة حث على الإنفاق فى سبيل الله، وفى ذكر التغابن حث عليه أيضا.
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
الإيضاح
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن وجود ما فى السموات والأرض دالّ على تنزيه الله وكماله، وإن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له.(28/118)
(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فهو المتصرف فى جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلق ويقدر، لأنه مصدر الخيرات، ومفيض البركات.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن.
ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى فقال:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء.
ثم قسم هذا المخلوق فقال:
(فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة كما
جاء فى الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه»
وقد كانت الأدلة الكونية فى الأنفس ولآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم، ولكنكم ما فعلتم ذلك، بل تفرقتم شيعا، وجحدتم الخالق، وكفرتم بأنعمه عليكم، بعد أن أفصح الصبح لذى عينين.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه، وزكاء روحه، فيعطيه ما هو له أهل ومن خبثت طويته، وفسدت سجيته، ودسّى نفسه بكبائر الذنوب والآثام، وسيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم فى جهنم «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .
وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل فقال:
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالحكمة البالغة المتضمنة لمنافع الدين والدنيا (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث أودع فيكم القوى، والمشاعر الظاهرة والباطنة وجعلكم صفوة جميع مخلوقاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته فالإنسان يضم روحا هو من عالم الأرواح، ويدنا هو من عالم الأشباح، وأنشدوا:(28/119)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فى الحياة الآخرة، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، فاصرفوا ما خلق لكم فى شكره، والوفاء بحق نعمة المتظاهرة عليكم، ظاهرة وباطنة.
(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع، وقدرته الشاملة «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .
ثم خص بعض ما يعلمه، عناية بأمره، إذ عليه الثواب والعقاب فقال:
(وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين، لتنالوا الفوز برضوان الله وجميل مثوبته.
ثم علل هذا بقوله:
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء فى صدره واستكنّ فى قلبه، فلا يخفى عليه ما يسرّ وما يعلن.
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
شرح المفردات
ألم يأتكم: هذا الاستفهام للتعجب من حالهم، والنبأ: الخبر الهام وأصل الوبال:
الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الطعام الوبيل أي الثقيل على المعدة، والوابل: للمطر الثقيل القطر، ثم استعمل فى الضر لأنه يثقل على الإنسان، والأمر:(28/120)
الكفر وعبر به للإيذان بأنه جناية عظيمة وأمر هائل، والبينات: المعجزات، وتولوا:
أعرضوا، واستغنى الله: أي أظهر غناه عنهم إذ أهلكهم وقطع دابرهم.
المعنى الجملي
بعد أن بسط سبحانه الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه صورهم فأحسن صورهم، وأنه يعلم السر والنجوى- حذّر المشركين من كفار مكة على تماديهم فى الكفر، والجحود بآياته، وإنكار رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم عاقبة ما يحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم، فقد كذبوا رسلهم، وتمادوا فى عنادهم، وقالوا:
أيرسل الله من البشر رسلا؟ فحلّت بهم نقمة ربهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر فاصبحت ديارهم خرابا يبابا، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم، فيثوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النّهى.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حل بهم عقاب ربهم، وعظيم نقمته وأرسل عليهم ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها فمن صاعقة من السماء تجتاحهم، إلى رجفة فى الأرض تهلكهم، إلى صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر، وتمحوهم من صفحة الوجود، إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت، إن الله سريع الحساب.(28/121)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
وفى هذا الأسلوب تعجيب من حالهم، وأنه قد كان لهم فى ذلك مدّكر، لو كانوا يستبصرون، وعبرة لو كانوا يعتبرون.
ثم بيّن أسباب ما حل بهم من النقمة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاءوهم بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة وقالوا: إن من العجب العاجب أن يكون هدينا على يدى بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح، ولا بسلطان يتملكون به قيادنا. ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا، كما قالت ثمود:
«أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها الله من يشاء من عباده كما قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» .
وبعد أن أطال عنادهم وتمادوا فى غيّهم أهلكهم الله بسلطانه وجبروته، وقطع دابرهم، واستغنى عن إيمانهم، وهو الغنى عن العالمين جميعا، والغنى عن إيمانهم وطاعتهم، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم المتظاهرة عليهم، ظاهرة وباطنة.
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 10]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)(28/122)
شرح المفردات
زعم فلان كذا: أي ادعى علمه بحصوله، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل، بلى: كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده كما وقع فى الآية، لتبعثن: أي لتحاسبنّ وتجزونّ بأعمالكم، والنور: هو القرآن وسمى بذلك لأنه بيّن فى نفسه مبيّن لغيره، والخبير: هو العليم ببواطن الأشياء، يوم الجمع: هو يوم القيامة سمى بذلك لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين فى صعيد واحد، والتغابن، من قولهم: تغابن القوم فى التجارة: إذا غبن بعضهم بعضا كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته، فهذا غبن للبائع، أو يشتريه بأكثر من قيمته، وهذا غبن للمشترى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة بقولهم: «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» ؟ ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا- أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث، ثم بإثبات تحققه وأنه كائن لا محالة، وأن كل امرئ سيجازى بما فعل يوم يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد حين يغبن الكفار فى شرائهم، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، ويفوز المؤمنون فى تجارتهم بالصفقة الرابحة، لأن الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلا منه ورحمة.
الإيضاح
(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء فقالوا: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ؟ وقالوا: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؟.(28/123)
فأمر رسوله بالرد عليهم وإبطال زعمهم بقوله:
(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي قل لهم:
إن البعث كائن لا محالة، وإنكم وربى الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم ستحاسبنّ على أعمالكم وتجزونّ على الكثير والقليل، والنقير والقطمير، وذلك هين عليه يسير.
ونحو الآية قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» وقوله: «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» وقوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الآية.
وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا محال معه للإنكار- طالبهم بالإيمان بهما فقال:
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي فصدقوا بالله ورسوله وكتابه الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات.
ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون فقال:
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تخفى عليه أعمالكم، وسيحاسبكم على ما كسبت أيديكم من خير أو اكتسبت من شر، فراقبوه وخافوا شديد عقابه.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي وتذكروا يوم يجمع الله الأولين والآخرين للحساب والجزاء فى صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب.
ونحو الآية قوله تعالى: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وقوله: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» .(28/124)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين،
وفى الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة، ليزداد حسرة» .
والخلاصة- إنه لا غبن أعظم من أن قوما ينعمون، وقوما يعذبون، وأن قوما مغبونين فى الدنيا أصبحوا فى الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها.
ثم بين هذا التغابن وفصله بقوله:
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق بالله ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه- يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، لا نطوائه على النجاة من أعظم المهالك، وأجلّ المخاطر.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدا، وبئس النار مصيرا لهم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)(28/125)
شرح المفردات
المصيبة: ما ينال الإنسان ويصيبه من خير أو شر، بإذن الله: أي بقدرته ومشيئته، يهد قلبه: أي يشرحه لازدياد الخير والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس قسمان: كافر بالله مكذب لرسوله لا يألو جهدا فى إيصال الأذى بهم، ومؤمن بالله مصدق لرسله وهو يعمل الصالحات- أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره بحسب النّظم التي وضعها فى الكون، فعلى الإنسان أن يجدّ ويعمل، ثم لا يبالى بعد ذلك بما يأتى به القضاء، لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس فى طاقته، ولن يهوله أمره، ولن يحزن عليه، ثم أمر بعد ذلك بطاعة الله وطاعة الرسول، وأبان أن تولّى الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئا، فإنه قد أدى رسالته.
وما على الرسول إلا البلاغ، وأن على المؤمن أن يتوكل على الله وحده، وهو يكفيه شر ما أهمه.
الإيضاح
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي ما أصاب أحدا من خيرات الدنيا ولذاتها أو رزاياها وشرورها- فهو بقضاء الله وقدره بحسب ما وضع من السنن فى نظم الكون، فعلى المرء أن يعمل ويجدّ ويسعى لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه أو عن غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم هو لا يحزن ولا يغتمّ لما يصيبه بعد ذلك، لأنه قد فعل ما هو فى طاقته وما هو داخل فى مقدوره، وما بعد ذلك فليس له من أمره شىء.(28/126)
والخلاصة- إن على المؤمن واجبين:
(1) السعى وبذل الجهد فى جلب الخير ودفع الضر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(2) التوكل على الله بعد ذلك، اعتقادا منه أن كل شىء يحدث فإنما هو بقضائه وقدره، فلا يغتم ولا يحزن لدى حلول الشر، ولا يتمادى فى السرور عند مجىء الخير.
ثم بين أن الإيمان يضىء القلب، ويشرح الصدر لخير العمل فقال:
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ويشرح صدره، لازدياد الخير والمضي قدما فى طاعة الله، وأىّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟ جدّ فى عمل الخير، واستراحة لدى الغم والحزن، واطمئنان للنفس، ووثوق بفضل الله.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي والله عليم بالأشياء كلها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها، فاحذروه وراقبوه فى السر والعلن، كما جاء فى الأثر «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وأطيعوا الله فيما شرع، وأطيعوا رسوله فيما بلّغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر، فإن أعرضتم عن ذلك فإنما عليه أداء ما حمل من الرسالة، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة، وهو قد أدى ما عليه، ولا يكلف شيئا بعد ذلك.
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي وحدوا الله وأخلصوا له العمل وتوكلوا عليه، ونحو الآية قوله: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .
وفى هذا إيماء إلى أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه، ولا يتقوّى إلا به، لأنه يعتقد أنه لا قادر فى الحقيقة إلا هو، وفيه حث لرسوله صلى الله عليه وسلم على التوكل(28/127)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
عليه. والتقوّى به فى أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه، وكأنها تشير إلى أن من لا يتوكل عليه فليس بمؤمن، وهى كالخاتمة والفذلكة لما تقدم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
تفسير المفردات
فتنة: أي بلاء ومحنة، ومن يوق: أي من يحفظ نفسه، والشح: البخل مع الحرص، والقرض الحسن: هو التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وذكر أن المؤمن ينبغى أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه- ذكر هنا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم يثبطونهم عن الطاعة، ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، فعليكم أن تحذروهم ولا تتبعوا أهواءهم حتى لا يكونوا إخوان(28/128)
الشياطين يزينون لكم المعاصي ويصدونكم عن الطاعة ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما، فغصب المال أو غيره لأجلهما، فعليه أن يتقى الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولينفق ذو سعة من سعته، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشح فهو الفائز بخيرى الدنيا والآخرة، ومن أقرض الله قرضا حسنا فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد، وهو العزيز الحكيم فى تدبير شئون عباده.
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» فى قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا فى الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا» الآية.
وفى رواية عنه أنه قال:
كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته فيقول: أما والله لئن جمع الله بينى وبينكم فى دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ، فجمع الله بينهم فى دار الهجرة فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم، والأعمال الصالحة التي تنفعكم فى آخرتكم، وربما حملوكم على السعى فى اكتساب الحرام، واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتى زمان على أمتى يكون فيه هلاك للرجل على يد زوجه وولده يعيّرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك» .
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم، ليكونوا فى عيش رغد فى حياته(28/129)
وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك، وإن لم يطالبوه فيهلك.
ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية وقالوا: إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم، وجرّعوهم الغصص والآلام، وربما جرّ ذلك إلى وضع السّم فى الدسم أو إلى قتلهم، وفى المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر.
والخلاصة- إنه إما يراد بالعداوة، العداوة الأخروية، فإن الأزواج والأولاد ربما أضروا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها، وإما أن يراد العداوة فى الدنيا فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية.
ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال:
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها، وتغفروا بإخفائها، وتمهيد معذرتهم فيها، فهو خير لكم فإن الله رحيم بكم وبهم، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم.
ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال:
ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي إنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار، إذ كثيرا ما يترتب على ذلك الوقوع فى الآثام، وارتكاب كبير المحظورات.
وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة كما قال: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» .
أخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتى المال» .
َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأولاد وطاعتهم، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.(28/130)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا فى تقواه جهدكم وطاقتكم،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» .
ونحو هذا ما جاء فى قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه.
(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوى الحاجات، وفى الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة، وسعادة الدين والدنيا، وذلك خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وهذا حثّ على البذل، وبيان أن الامتثال خير لا محالة.
ثم زاد فى الحث على الإنفاق فقال:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال- يكن من الفائزين بكل ما يرجو، ونيل كل ما يبغى فى دينه ودنياه، فيكون محببا إلى الناس، قرير العين برضاهم عنه وحنوّهم عليه، سعيدا فى الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جناته.
ثم بالغ فى الحث على الإنفاق أيضا فقال:
(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي إن تنفقوا فى طاعة الله متقرّبين إليه بإخلاص وطيب نفس- يضاعف لكم ذلك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويستر لكم ما فرط من زلاتكم
جاء فى الصحيحين: «إن الله يقول:
من يقرض غير ظلوم ولا عديم» ؟
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله: استقرضت عبدى فأبى أن يقرضنى، ويشتمنى عبدى وهو لا يدرى، يقول وا دهراه وا دهراه» وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة هذه الآية» أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه.(28/131)
ونحو الآية ما جاء فى سورة البقرة: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» .
ثم بيّن علة المضاعفة ورغّب فى النفقة فقال:
(وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فيثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بعقوبته على كثرة الذنوب والخطايا.
ثم ذكر ما يزيد فى الترغيب فى النفقة أيضا فقال:
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه فى أمّ الكتاب، لا يعزب عنه مثقال ذرة وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء، وهو ذو العزة والقدرة، النافذ الإرادة، الحكيم فى تدبير خلقه على ما يعلم من المصلحة.
خلاصة ما حوته السورة
(1) صفات الله الحسنى.
(2) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث.
(4) بيان أن ما يحدث فى الكون فهو بأمر الله وتقديره.
(5) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.
(6) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.
(7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.
(8) الحث على التقوى والإنفاق فى سبيل الله.(28/132)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
سورة الطلاق
هى مدنية، وآيها ثنتا عشرة، نزلت بعد سورة الإنسان.
ومناسبتها لما قبلها- أنه قال فى السورة السابقة: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» وكانت هذه العداوة قد تفضى إلى الطلاق- أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه، فقال:
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
شرح المفردات
طلقتم النساء: أي أردتم طلاقهن كما جاء فى قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» أي إذا أردت قراءته، لعدّتهن: أي مستقبلين عدتهن بأن تطلقوهن فى طهر لا قربان فيه، وأحصوا العدة: أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل الإحصاء العدّ بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديما ثم استعمل فى العدّ والضبط، والفاحشة المبينة: هى ارتكاب ما يوجب الحد، أو البذاء على الأحماء أو على الزوج، أو الخروج قبل انقضاء العدة، وحدود الله: شرائعه التي أمر بها ونهى عن تركها، ظلم نفسه: أي أضرّ بها، والأمر: هو الندم على طلاقها والميل إلى رجعتها.(28/133)
المعنى الجملي
أمر الله المؤمنين أن يطلقوا نساءهم فى الطهر الذي يحسب لهن من عدتهن، وهو الطهر الذي لا وقاع فيه، ولا يطلقوهن فى حيض لا يعتددن به من قروئهن، كما أمرهم بضبط العدة وحفظها، والخوف من تعدى حدود الله، وعدم إخراجهن من مساكنهن التي كنّ فيها قبل الطلاق حتى تنتهى عدتهن إلا أن يأتين بمعصية ظاهرة كالبذاء على الأحماء والأزواج، أو الخروج من الدار قبل انقضاء العدة، ومن يتعد هذه الحدود فقد ظلم نفسه وارتكب ما يضرها ويجعلها تندم على ما فعلت، ثم أبان حكمة الإبقاء فى البيوت، وهى سهولة مراجعتها لميل القلب إليها وتحوّله من بغض إلى محبة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي أيها المؤمنون إذا أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن، وهو طهر لا قربان فيه حتى لا يطول عليهن زمان العدة، فإن طلقتموهن فى زمان الحيض كان الطلاق طلاقا بدعيا حراما، والمراد بالنساء المدخول بهن من ذوات الأقراء، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن، وذوات الأشهر سيأتى حكمهنّ فيما بعد.
أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي فى آخرين عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهى حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه ثم قال:
ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» .
وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، قاله فى الكشاف.(28/134)
والخلاصة- إن السنة فى الطلاق أن تطلق المرأة وهى طاهرة دون أن يكون قد لامسها فى هذا الطهر، أو أن يطلقها وهى حامل حملا مستبينا، ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقساما ثلاثة:
(1) طلاق سنة، وهو أن يطلقها طاهرة من غير قربان، أو حاملا حملا قد استبان.
(2) طلاق بدعة وهو أن يطلقها حين الحيض أو فى طهر قد واقعها فيه، فلا يدرى أحملت أم لا. والسر فى هذا أنه بعمله هذا أطال عليها العدة، لأن هذه الحيضة لا تحسب فى العدة، وكذا الطهر الذي بعدها، لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل.
(3) طلاق لا هو بسنة ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها.
وقد روى عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون ألا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضى العدة، وما كان أخسّ عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك ابن أنس: لا أعرف طلاقا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة فى طهر واحد. وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة بل هو مباح.
والخلاصة- أن مالكا يراعى فى طلاق السنة الواحدة والوقت، وأن أبا حنيفة يراعى التفريق والوقت، والشافعي يراعى الوقت وحده.
(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي واحفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول على المرأة. واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها.
وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء، لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليه.(28/135)
(وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) أي واخشوا الله ربكم، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن، وفى القيام بما للمعتدات من حقوق.
وفى وصفه تعالى بالربوبية مبالغة فى وجوب الامتثال لأمره، لما فى لفظ الرب من التربية التي هى الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها.
ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال:
(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق، غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن، لأن تلك السكنى حق الله تعالى أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة، كانهدام المنزل أو الحريق أو السيل أو خوف الفتنة فى الدين.
(وَلا يَخْرُجْنَ) أي لا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، إذ السكنى فى البيوت حق الشرع، فلا يسقط بالإذن، فإن خرجن ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما ولا تنتهى العدة.
ثم استثنى من لزوم المكث فى البيوت ما إذا دعت الضرورة إلى الإخراج فقال:
(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن إلا إذا فعلن ما يوجب حدّا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيّب، أو يبذون على الأحماء أو الأزواج، فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن، وسوء خلقهن، أو خرجن متحولات عن منازلهن اللاتي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها، فأىّ ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت، لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها.
(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي هذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدة، وإحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وألا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتى بفاحشة مبينة- هى حدود الله التي حدها لكم، فلا تتعدوها.
ثم بين عاقبة تجاوز تلك الحدود فقال:(28/136)
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع، وما أبيح له إلى ما لم يبح فقد ظلم نفسه وأضرّ بها من حيث لا يدرى.
ثم بين علة هذا الضرر فقال:
(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لا تعلم أيها المرء أن الله يقلب القلوب، فيجعل فى قلبك محبة لها، فتندم على فراقها، وتود الرجعة إليها، فلا يتسنى لك ذلك، لأن الفرصة تكون قد ضاعت، وما جرّ ذلك عليك إلا تعدى حدود الله.
والخلاصة- إن من يتعدّ حدود الله فقد أساء إلى نفسه، فإنه لا يدرى عاقبة ما هو فاعل، فلعل الله يحدث فى قلبه بعد ذلك الذي فعل من التعدي- أمرا يدعو إلى عكس ما فعل، فيبدّل البغض محبة، والإعراض إقبالا، ولا يتسنى له تلافى ذلك برجعة أو استئناف نكاح فتضيع الفرصة ويندم، ولات ساعة مندم.
تنبيه
الشريعة الإسلامية- وإن أباحت الطلاق- بغّضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاء رباط الزوجية الذي حبّبت فيه وجعلته من أجلّ النعم، فرغّبت فى إرسال حكم من أهله وحكم من أهلها قبل حدوث الطلاق، لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور، كما رغبت فى أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات، لعل النفوس تصفو بعد الكدر، والقلوب ترعوى عن غيها، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما فتكون الفرصة مواتية، ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا.
روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق»
وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .(28/137)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
وعن أبى موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله عز وجل لا يحب الذوّافين ولا الذواقات» .
وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به، حرّم الله عليها رائحة الجنة» أخرجه أبو داود والترمذي.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
شرح المفردات
فإذا بلغن أجلهن: أي قاربن انتهاء العدة، فأمسكوهن: أي فراجعوهن، بمعروف: أي مع حسن عشرة، أو فارقوهن بمعروف: أي مع إعطاء الحق واتقاء المضارة: كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة، بالغ أمره: أي منفذ حكمه وقضاءه فى خلقه يفعل ما يشاء، قدرا: أي تقديرا وتوقيتا.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بإيقاع الطلاق واحدة فواحدة ومنع الخروج من المنزل والإخراج منه إلا إذا أتين بفاحشة مبينة، ونهى عن تعدى تلك الحدود حتى لا يحصل الضرر والندم- خيّر الرجل إذا شارفت عدة امرأته على الانتهاء بين أمرين:(28/138)
(1) إما أن يراجعها ويعاشرها بإحسان.
(2) وإما أن يفارقها مع أداء حقوقها التي لها مع التفضل والإكرام.
فإذا اختار الرجعة فليشهد على ذلك شاهدين عدلين قطعا للنزاع، ودفعا للريبة.
ثم أبان أن هذه الأحكام إنما شرعت للفائدة والمصلحة. وأرشد إلى أن تقوى الله تفتح السبل للمرء وتخرجه من كل ضيق، وتهديه إلى الطريق المستقيم فى دينه ودنياه، وأن من يتوكل على ربه، يكفيه ما أهمه، ويفرّج عنه كربه.
ثم ذكر أن أمور الحياة جميعا بقضاء الله وقدره، فلا يجزع المؤمن مما يصيبه من النوائب، ولا يفرح ويبطر بما يناله من خيراتها.
الإيضاح
(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي فإذا قاربت العدة على الانتهاء، فإن شئتم فأمسكوهن وراجعوهن مع الإحسان فى الصحبة وحسن العشرة، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة، وإن صممتم على المفارقة فلتكن بالمعروف وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة، مع إيفاء ما لهنّ من حقوق لديكم كمؤخر صداق، وإعطاء متعة حسنة تذكركن بفصلها، ويتحدث الناس بحسن أحدوثتها، ويكون فيها جبر لخاطرهن، لما لحقن من ضرر بالفرق، وليكون فيها بعض السلوة لهن عما فقدنه من العشير والأنيس.
ثم بين ما يحسن إذا أردوا الرجعة فقال:
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا على الرجعة إن اخترتموها شاهدين من ذوى العدالة، حسبما للنزاع فيما بعد، إذ ربما يموت الزوج فيدعى الورثة أن مورثهم(28/139)
لم يراجع زوجته، ليمنعوها ميراثها، ودفعا للقيل والقال وتهمة الريبة، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضى عدتها، وتنكح زوجا غيره.
وهذا الإشهاد واجب عند الشافعي حين الرجعة، مندوب حين الفرقة، ويرى أبو حنيفة أن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.
ثم خاطب الشهود زجرا لهم فقال:
(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي واشهدوا على الحق إذا استشهدتم، وأدوا الشهادة على الصحة إذا أنتم دعيتم إلى أدائها.
وإنما حث على أداء الشهادة، لما قد يكون فيه من العسر على الشهود، إذ ربما يؤدى ذلك إلى أن يترك الشاهد مهامّ أموره، ولما فيها من عسر لقاء الحاكم الذي تؤدّى عنده، وقد يبعد المكان، أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها.
(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي أمرتكم به، وعرفتكم عنه من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك، عظة منا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ليعمل على نهجها وطريقتها.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى، لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء الله فقال:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يخش الله فلا يطلق المرأة فى الحيض حتى لا تطول عدتها ولا يضارّ المعتدة فلا يخرجها من مسكنها، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة- يجعل الله له مخلصا مما عسى أن يقع فيه من الغم ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها.
والخلاصة- من اتقى الله جعل له مخلصا من غم الدنيا وهمّ الآخرة وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة.(28/140)
روى عن ابن عباس أنه قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن ابني أسره العدو وجزعت أمه، فبم تأمرنى؟
قال آمرك وإياها أن تستكثرا من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه، فنزلت هذه الآية» أخرجه ابن مردويه.
وفى الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادة فى الدارين وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى، إذ هو أبغض الحلال إلى الله لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها، ولما فى الاحتياط فى العدة من المحافظة على الأنساب وهى من أجّل مقاصد الدين، ومن ثم شدّد فى إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى.
وروى عن ابن مسعود أنه قال: إن أجمع آية فى القرآن: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وإن أكبر آية فى القرآن فرجا: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» .
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه- كفاه ما أهمه فى دنياه ودينه، والمراد بذلك أن العبد يأخذ فى الأسباب التي جعلها الله من سننه فى هذه الحياة، ويؤديها على أمثل الطرق، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها، وليس المراد أن يلقى الأمور على عواهنها، ويترك السعى والعمل ويفوض الأمر إلى الله، فما بهذا أمر الدين بدليل قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»
إلى نحو ذلك مما هو مستفيض فى الكتاب والسنة.
وروى عن ابن عباس «أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال(28/141)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام إنى معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، لم ينغعوك إلا بشىء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشىء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» .
ثم ذكر السبب فى وجوب التوكل عليه فقال:
(إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شىء قدرا) أي إن الله تعالى منفذ أحكامه فى خلقه بما يشاء، وقد جعل لكل شىء مقدارا ووقتا، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شىء مما كنت تؤمل وترجو، فالأمور مرهونة بأوقاتها، ومقدرة بمقادير خاصة كما قال: «وكلّ شىء عنده بمقدار» .
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الطلاق السنىّ إنما يكون فى طهر لا وقاع فيه، ولم يبين مقدار العدة وكان قد ذكر فى سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن، والكبار اللائي يئسن من الحيض، وأنها ثلاثة(28/142)
أشهر، وعدة الحامل وأنها تكون بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها.
أخرج الحاكم والبيهقي فى جماعة آخرين عن أبىّ بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة فى عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر فى القرآن، الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل الله تعالى فى سورة النساء القصرى: «وَاللَّائِي يَئِسْنَ» الآية.
وروى أن قوما منهم أبىّ بن كعب وخلاد بن النعمان «لما سمعوا قوله تعالى:
«وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» قال: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت: «وَاللَّائِي يَئِسْنَ» الآية.
الإيضاح
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي بلغن سنّ اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذا الصغار اللواتى لم يحضن، إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها.
(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهنّ سواء كنّ مطلقات أو متوفى عنهنّ أزواجهنّ كما روى عن عمر وابنه، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهى حامل فقال: إذا وضعت حملها فقد حلّت، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن حلّت، وهكذا روى عن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال: من شاء لا عنته أن الآية التي فى النساء القصرى «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ» الآية نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها.(28/143)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
وروى أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها فى حجة الوداع وهى حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، فاختضبت واكتحلت وتزينت تريد الزواج، فأنكر ذلك عليها، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تفعل فقد خلا أجلها» .
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف الله ويرهبه، فيؤدى فرائضه ويجتنب نواهيه- يسهل عليه أموره، ويجعل له من كل ضيق فرجا، وينر له طريق الهدى فى كل ما يعرض له من المشكلات، فإن فى قلب المؤمن نورا يهديه إلى حلّ عويصات الأمور.
وفى الآية إيماء إلى فضيلة التقوى فى أمور الدنيا والآخرة، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض للمرء فيهما.
(ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السالفة فى الطلاق والسكنى والعدة- هو أمر الله الذي أمركم به وأنزله إليكم لتأتمروا به، وتعملوا وفق نهجه.
ثم كرر الأمر بالتقوى لأنها ملاك الأمر وعماده فى الدنيا والآخرة فقال:
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي ومن يخف الله فيؤدّ فرائضه ويجتنب نواهيه- يمح عنه ذنوبه كما وعد بذلك فى كتابه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» ويجزل له الثواب على يسير الأعمال.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)(28/144)
شرح المفردات
من وجدكم: أي من وسعكم، وقال الفراء: أي على قدر طاقتكم، ولا تضاروهن:
أي فى النفقة والسكنى، لتضيقوا عليهن: أي لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه، ائتمروا: أي تآمروا وتشاوروا، بمعروف: أي بجميل فى الأجر والإرضاع، فلا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة، وإن تعاسرتم: أي ضيق بعضكم على بعض بالمشاقة فى الأجر أو يطلب الزيادة، قدر عليه:
أي ضيق، آتاه الله: أي أعطاه، ما آتاها: أي إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق قلّ أو جلّ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل- أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة، ثم أردف ذلك ببيان أن الحوامل لهنّ النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت، فإذا هنّ ولدن وجب لهنّ الأجر على إرضاع المولود فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها، والأم أحق بالإرضاع إذا هى رضيت بمثل أجرتها، والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع، فالله لا يكلف نفسا إلا ما تطيق.
الإيضاح
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا مطلقات نسائكم فى الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب(28/145)
حجرتكم فأسكنوها فيها، وإنما أمر الرجال بذلك، لأن السكنى نوع من النفقة وهى واجبة على الأزواج.
ثم نهى عن مضارّة المطلقات فى السكنى فقال:
(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) أي ولا تستعملوا معهن الضرار فى السكنى بشغل المكان أو بإسكان غيرهنّ معهنّ ممن لا يحببن السكنى معه، لتلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنهن.
ثم بيّن نفقة الحوامل فقال:
(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنه بالوضع تنقضى العدة، وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة، أما المطلقة طلقة رجعية فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا.
وقال أبو حنيفة: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة وإن لم تكن ذات حمل لما
روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى المبتوتة: «لها النفقة والسكنى» ،
لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها.
ثم بين حكم إرضاع الطفل بعد ولادته فقال:
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي فإن أرضعن لكم وهنّ طوالق قد بنّ بانقضاء عدتهنّ، فلهنّ حينئذ أن يرضعن الأولاد ولهنّ أن يمتنعن، فإن أرضعن فلهنّ أجر المثل ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه.
وفى هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات.
(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات فى شئون الأولاد بما هو أصلح لهم فى أمورهم الصحية والخلقية والثقافية، ولا تجعلوا المال عقبة(28/146)
فى سبيل إصلاحهم، ولا يكن من الآباء مما كسة فى الأجر وسائر النفقات، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء، فالأولادهم فلذات أكبادهم، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع.
ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين فى الإنفاق فقال:
(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن ضيق بعضكم على بعض بأن شاحّ الأب فى الأجر، أو اشتطت الأم فى طلب زيادة لا يؤديها أمثاله، فليحضر الأب مرضعا أخرى تقوم بالإرضاع، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية فهى أحق بولدها.
وفى الآية إيماء إلى معاتبة الأم، فهو كقولك لمن تطلب منه حاجة فيتوانى فى قضائها:
إن لم تقضها فسيقضيها غيرك، وكأنه قال له: إنها ستقضى وأنت ملوم.
وإنما خص الأم بالعتاب، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو ليس بمال ولا مما يضنّ به فى العرف ولا سيما من الأم، والمبذول من جهة الأب هو المال وهو مضنون به فى العادة، فهى إذا أجدر باللوم وأحق بالعتب.
هذا إذا قبل الولد ثدى مرضع أخرى، فإن لم يقبل إلا ثدى الأم وجب عليها الإرضاع.
ثم بين مقدار الإنفاق بقوله:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق الولد على المرضع التي طلّقت منه بقدر سعته وغناه.
(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) أي ومن كان رزقه بمقدار القوت فحسب فلينفق على مقدار ذلك.
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا بمقدار ما آتاه من الرزق، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنى.(28/147)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
ونحو الآية قوله: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .
ثم بين أن الأرزاق تتحول من عسر إلى يسر والعكس بالعكس فقال:
(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيجعل الله بعد شدة رخاء، ومن بعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى، فالدنيا لا تدوم على حال كما قال سبحانه: «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
وهذا كالبشرى للمؤمنين الذين كان يغلب عليهم الفقر والفاقة فى ذلك الحين.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
شرح المفردات
وكأين من قرية: أي كثير من أهل القرى، عتت: أي تجبرت وتكبرت، نكرا: أي منكرا عظيما، وبال أمرها: أي عاقبة عتوّها، خسرا: أي خسارة فى الآخرة، ذكرا: أي قرآنا، رسولا: أي وأرسل رسولا.(28/148)
المعنى الجملي
بعد أن أمر بأن الطلاق لا يكون إلا فى أوقات خاصة، وبأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر، وذكر مدة العدة وما يجب للمعتدة من النفقة والكسوة، ونهى عن تجاوز حدود الله، وأن من يتجاوزها يكون قد ظلم نفسه توعد هنا من خالفوا أمره، وكذبوا رسله، وسلكوا غير ما شرعه، وأنذرهم بأن يحل بهم مثل ما حل بالأمم السالفة التي كذبت رسلها، فأخذها أخذ عزيز مقتدر، وأصبحت كأمس الدابر وصارت مثلا فى الآخرين.
الإيضاح
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولّجوا فى طغيانهم يعمهون، فحاسبناهم حسابا عسيرا، فاستقصينا عليهم ذنوبهم، وناقشناهم على النقير والقطمير، وعذبناهم عذابا نكرا فى الآخرة، وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق كما فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» .
ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم فقال:
(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي فجنت ثمار ما غرست أيديها ولا يجنى من الشر إلا الشر كما جاء فى أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقدر قدره.
ثم أكد هذا الوعيد بقوله:
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ الله لهم العذاب المرتقب، لتماديهم فى طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاءوا به من عند ربهم.
ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم فقال:(28/149)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فخافوا أيها المؤمنون عقاب الله، فأنتم أصحاب العقول الراجحة، والفطر السليمة، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم، وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
ثم بين ما يكون مذكرا لهم وداعيا لتقوى الله فقال:
(قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي قد أنزل الله إليكم يا ذوى البصائر ذكرا لكم وهو القرآن الكريم يذكركم به، لتستمسكوا بحبله المتين وتعملوا بطاعته وأرسل إليكم رسولا يتلو عليكم آيات هذا الكتاب الذي أنزل عليه، وهى واضحات لمن تدبرها وعقلها، كى يخرج من لديه استعداد للهدى من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إذا هو أنعم فى النظر فيها، وأجال الفكر فى أسرارها ومغازيها، فهى النبراس الساطع، والضوء اللامع، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ثم بين جزاء الإيمان والعمل الصالح فقال.
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً) أي ومن يصدق بالله وعظيم قدرته، وبديع حكمته، ويعمل بطاعته- يدخله بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها، وقد وسع الله لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)(28/150)
المعنى الجملي
بعد أن أنذر سبحانه مشركى مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا فى الدنيا، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له فى الآخرة- ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه، وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلى ليكون ذلك باعثا على اتباع ما شرع من الدين، واستجابة دعوة الرسول، والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي الله هو الذي خلق السموات السبع وخلق مثلهن فى العدد من الأرضين.
وهذا الأسلوب فى اللغة لا يفيد الانحصار فى السبعة، وإنما يفيد الكثرة، فالعرب تعنى فى كلامها بذكر السبعة والسبعين والسبعمائة الكثرة فحسب ويؤيد هذا أن علماء الفلك فى العصر الحاضر قالوا: إن أقل عدد ممكن من الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نسميها نجوما لا يقل عن ثلاثمائة مليون أرض، ولا شك أن هذا قول هو بالظن أشبه منه باليقين.
روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فى الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة» .
وروى عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله تعالى: «سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» الآية قوله: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها.(28/151)
وهذا من الحبر دليل على أن هناك عوالم كثيرة لا يجدر بالعلماء أن يحدثوا عنها العامة، فإن عقولهم تضل فى فهمها، فلتبق فى صدور العلماء وأهل الذكر حتى لا يفتنوا بها.
(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي يجرى أمر الله وقضاؤه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع، وحكمته فى إقامة نظمها، بحسب العدل والمصلحة.
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال: «فى كل سماء وفى كل أرض خلق من خلقه تعالى، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه عز وجل» .
(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك، كى تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا يتعذر عليه شىء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، فهو على ما يشاء قدير، ولتعلموا أن الله بكل شىء من خلقه محيط علما لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو قادر على ذلك، ومحيط بأعمالكم لا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
ما تضمنته هذه السورة من الشئون
اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية، ومناهج دينية، وفتاوى إسلامية، وضعت لإقامة العدل بين الخلق وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام، وقبضة من فيضه، وزهرة من شجرته، فإن قضى القضاة على كراسى الحكم بين العباد، فأعطوا زيدا ما يجب على عمرو، وقالوا للحامل عدتك وضع الحمل، فكم بين السموات والأرض من قضاء فى هذا(28/152)
الفضاء الواسع الصامت لفظا، الناطق معنى، وكم من حكم بيننا نرى أثره، ولا نسمع النطق به، نرى الشمس محكوما عليها أن تطلع من مواضع فى المشرق، وتغيب فى مواضع فى المغرب لا تجوزها، ونرى الرياح محكوما عليها، والسحب مأمورة، والأنهار جارية، والمزارع قد حكم عليها أن تكون فى زمن خاص، وأمكنة خاصة فليس للقطن أن ينبت فى البلاد الباردة، ولا أن يثمر فى زمن الشتاء، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس، وسعادتهم فى دنياهم.
فانظر أىّ الحكمين أكثر منفعة؟ أحكم لمصلحة أشخاص متنازعين، أم حكم لسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين؟.(28/153)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
سورة التحريم
هى مدنية، وآيها ثنتا عشرة، نزلت بعد الحجرات.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) أن سورة الطلاق فى حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي صلى الله عليه وسلم تعليما لأمته أن يحذروا أمر النساء، وأن يعاملوهن بسياسة اللين كما عاملهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن ينصحوهن نصححا مؤثّرا.
(2) أن كلتيهما افتتحا بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) أن تلك فى خصام نساء الأمة، وهذه فى خصومة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفردن بالذكر تعظيما لمكانتهن.
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)(28/154)
شرح المفردات
تحرّم: أي تمتنع، ما أحل الله لك: هو العسل، تبتغى: أي تطلب، فرض:
أي شرع وبيّن كما جاء فى قوله: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها» ، وتحلة أيمانكم:
أي تحليلها بالكفارة، وتحليلة القسم تستعمل على وجهين:
(1) أحدهما تحليله بالكفارة كما فى الآية.
(2) ثانيهما بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما جاء فى الحديث: «لن يلج النار إلا تحلة القسم» أي إلا زمنا يسيرا.
مولاكم: أي وليكم وناصركم، بعض أزواجه: هى حفصة على المشهور، نبأت به: أي أخبرت عائشة به، وأظهره: أي أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة، عرّف:
أي أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته، وأعرض عن بعض: أي لم يخبرها به، إن تتوبا: أي حفصة وعائشة، صغت قلوبكما: أي عدلت ومالت إلى ما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال، وإن تظاهرا عليه: أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول، مولاه: اى وليه وناصره، ظهير: أي ظهراء معاونون، وأنصار مساعدون، مسلمات: أي خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات: أي مصدّقات بتوحيد الله، مخلصات، قانتات: أي مواظبات على الطاعة، تائبات: أي مقلعات عن الذنوب، عابدات: أي متعبدات متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، سائحات. أي صائمات، وسمى الصائم بذلك من حيث إن السائح لا زاد معه، ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام كالصائم لا يزال كدلك حتى يجىء وقت الإفطار.(28/155)
المعنى الجملي
روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، وكان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل له: إنى أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط يكون بالحجاز) ، فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا.
وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال إن التي دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وحرّم على نفسه العسل أمامها هى حفصة فأخبرت عائشة بذلك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتمها الخبر كما استكتمها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسر عائشة، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتى من بعدي، فالسر كان لها بأمرين:
(1) تحريم العسل الذي كان يبغيه عند زينب.
(2) أمر الخلافة لأبويهما من بعده.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ؟) أي يا أيها النبي لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك، تلتمس بذلك رضا أزواجك؟
وهذا عتاب من الله على فعله ذلك، لأنه لم يكن عن باعث مرضى، بل كان طلبا لمرضاة الأزواج.
وفى هذا تنبيه إلى أن ما صدر منه لم يكن مما ينبغى لمقامه الشريف أن يفعله.(28/156)
وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بيا أيها النبي فى مفتتح العتاب حسن تلطف، وتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام، على نحو ما جاء فى قوله: «عفا الله عنك لم أذنت لهم؟» .
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب التائبين من عباده، وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك، رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب.
وإنما عاتبه على الامتناع عن الحلال وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه، تعظيما لقدره الشريف، وإجلالا لمنصبه أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله به، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعدّ كالذنب وإن لم يكن فى نفسه كذلك.
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها، فعليك أن تكفر عن يمينك.
وقد روى «أنه عليه الصلاة والسلام كفر عن يمينه فأعتق رقبة (عبدا أو أمة) » .
(وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) أي والله متولى أموركم بنصركم على أعدائكم، ومسهل لكم سبل الفلاح فى دنياكم وآخرتكم، ومنير لكم طريق الهداية إلى ما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم.
(وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي وهو العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم، الحكيم فى تدبير أموركم، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة.
ثم ساق ما هو كالدليل على علمه فقال:
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أنه كان يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، وقال لن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر، وأطلعه الله على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد طلب من حفصة أن تكتمه- أخبر حفصة(28/157)
ببعض الحديث الذي أفشته وهو قوله لها: كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله وقد حلفت، فلم يخبرها به تكرما منه لما فيه من مزيد خجلتها، ولأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حد امتناعه عن تناول ما أحل الله له.
(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فلما أخبر حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث، قالت من أنبأك بهذا؟ ظمّا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخبرنى ربى العليم بالسر والنجوى الخبير بما فى الأرض والسماء لا يخفى عليه شىء فيهما.
وفى الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة:
(1) أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
(2) أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه.
(3) أنه يحسن التلطّف مع الزوجات فى العتب والإعراض عن الاستقصاء فى الذنب.
ثم وجه الخطاب لحفصة وعائشة مبالغة فى العتب فقال:
(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا من ذنبكما وتقلعا عن مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم فتخبّا ما أحب وتكرها ما كرهه- فقد مالت قلوبكما إلى الحق والخير، وأديتما ما يجب عليكما نحوه صلى الله عليه وسلم من إجلال وتكريم لمنصبه الشريف.
روى عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضى الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» الآية.
حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق نزل ليتوضأ فصببت على يديه، فقلت يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان(28/158)
قال الله لهما «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» الآية؟ فقال وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث.
ثم ذكر سبحانه أنه حافظه وحارسه فلا يضره أذى مخلوق فقال:
(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاونا على العمل لما يؤذيه ويسوؤه من الإفراط فى الغيرة وإفشاء سره- فلن يضره ذلك شيئا، فإن الله ناصره فى أمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه، وجبريل والمؤمنون الصالحون والملائكة مظاهرون له ومعينون.
وقد أعظم سبحانه شأن النصرة لنبيه على هاتين الضعيفتين، للإشارة إلى عظم مكر النساء، وللمبالغة فى قطع أطماعهما بأنه ربما شفع لهما مكانتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين لأمومتهما لهم، وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما، ولتوهين أمر تظاهرهما، ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره فى أمر النبوة، وقهر أعداء الدين، إذ قد جرت العادة بأن الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيع زمنا من تفكيرهم فيها، وقد كانوا أحق به فى التفكير فيما هو أجدى نفعا، وأجلّ فائدة.
ثم حذرهما بما يلين من قناتهما، ويخفض من غلوائهما، ويطمئن من كبريائهما فقال:
(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي عسى الله أن يعطيه (صلى الله عليه وسلم) بدلكن أزواجا خيرا منكنّ إسلاما وإيمانا، ومواظبة على العبادة، وإقلاعا عن الذنوب، وخضوعا لأوامر الرسول، بعضهنّ ثيبات وبعضهنّ أبكارا، إن هو قد طلقكنّ.(28/159)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
والخلاصة- احذرن أيتها الأزواج من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والتألب عليه، والعمل على ما يسوؤه، فإنه ربما أخرج صدره فطلقكنّ فأبدله الله من هو خير منكنّ فى الدين والصلاح والتقوى، وفى الشئون الزوجية. فأعطاه بعضهنّ أبكارا وبعضهنّ ثيبات.
ولا شىء أشد على المرأة من الطلاق. ولا سيما إذا استبدل خير منها بها.
روى البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فى الغيرة عليه، فقلت: عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية.
وروى عن أنس عن عمر قال: بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ حتى أتيت على زينب، فقالت يا ابن الخطاب: أما فى رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأمسكت، فأنزل الله: «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» الآية.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)(28/160)
شرح المفردات
قوا أنفسكم: أي اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي، وأهليكم: أي بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، والوقود (بفتح الواو) : ما توقد به النار، والحجارة:
هى الأصنام التي تعبد لقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» ملائكة: هم خزنتها التسعة عشر، غلاظ: أي غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، شداد: أي أقوياء الأبدان، والتوبة النصوح: هى الندم على مافات والعزم على عدم العودة إلى مثله فيما هو آت.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة عما فرط من الزلات، وأبان لهم أن الله كالئ رسوله وناصره، فلا يضره تظاهرهن عليه، ثم حذرهن من التمادي فى مخالفته صلى الله عليه وسلم خوفا من الطلاق وحرمانهم من الشرف العظيم بكونهنّ أمهات المؤمنين ومن استبدالهنّ بغيرهنّ من صالحات المؤمنات- أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم من نار وقودها الناس والحجارة يوم القيامة، يوم يقال للكافرين: لا تعتذروا فقد فات الأوان، وإنما تلقون جزاء ما عملتم فى الدنيا، ثم أمر المؤمنين أن يقلعوا عن زلاتهم، وأن يتوبوا توبة نصوحا، فيندموا على ما فرط منهم من الهفوات، ويعزموا على عدم العودة فيما هو آت، ليكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم.(28/161)
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: ليعلم بعضكم بعضا ما تتقون به النار وتدفعونها عنكم، إنه طاعة الله تعالى وامتثال أوامره، ولتعلّموا أهليكم من العمل بطاعته ما يقون به أنفسهم منها، واحملوهم على ذلك بالنصح والتأديب.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» وقوله:
«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» .
روى أن عمر قال حين نزلت يا رسول الله: نقى أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟
فقال عليه السلام «تنهونهن عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهن بما أمركم الله به، فيكون ذلك وقاية بينهم وبين النار» .
أخرج ابن المنذر والحاكم فى جماعة آخرين عن علىّ كرم الله وجهه أنه قال فى الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم.
والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
وفى الآية إيماء إلى أنه يجب على الرجل تعلّم ما يحب من فرائض الدين وتعليمها لهؤلاء،
وقد جاء فى الحديث: «رحم الله رجلا قال يا أهلاه: صلاتكم، صيامكم، زكاتكم، مسكينكم، يتيمكم، جيرانكم، لعل الله يجمعكم معهم فى الجنة» .
(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي موكّل عليها ويلى أمرها وتعذيب أهلها تسعة عشر ملكا هم زبانيتها الذين سيأتى ذكرهم فى سورة المدثر فى قوله تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» .
(غِلاظٌ شِدادٌ) أي غلاظ على أهل النار أشداء عليهم.(28/162)
ثم بين عظيم طاعتهم لربهم فقال:
(لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي لا يخالفون أمره، بل يؤدون ما يؤمرون به فى وقته بلا تراخ، فلا يقدمونه عنه، ولا يؤخرونه.
وقد أفادت الجملة الأولى نفى العناد والاستكبار عنهم فهى كقوله: «لا يستكبرون عن عبادته» وأفادت الجملة الثانية نفى الكسل عنهم فهى كقوله تعالى:
«وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» .
وخلاصة ذلك- إنهم يمتثلون الأمر ولا يمتنعون عن تنفيذه، بل يؤدونه من غير تثاقل ولا توان.
وبعد أن ذكر شدة العذاب فى النار واشتداد الملائكة فى الانتقام من أعداء الله الكافرين- بين أنه يقال للكافرين لا فائدة فى الاعتذار لأنه توبة، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول فى النار فقال:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فقد فات الأوان، ولا يجدى رجاء ولا اعتذار، فلات ساعة مندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ثم بين السبب فى عدم فائدة الندم فقال:
(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لأنكم إنما تثابون اليوم وتعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا، فلا تطلبوا المعاذير منها.
والخلاصة- إن هذه الدار دار جزاء لا دار عمل، وأنتم قد دسّيتم أنفسكم فى الدنيا بالكفر والمعاصي بعد أن نهيتم عنها، فاجنوا ثمر ما غرستم، واشربوا من الكأس التي قد ملأتم.
وبعد أن ذكر أن التوبة فى هذا اليوم لا تجدى نفعا- نبّه عباده المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة النصوح فقال:(28/163)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله: ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله وإلى ما يرضيه عنكم- رجوعا لا تعودون فيه أبدا، عسى ربكم أن يمحوا سيئات أعمالكم التي سلفت منكم، ويدخلكم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار حين لا يخزى الله محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: التوبة النصوح أن يندم العبد على الذنب الذي أصابة، فيعتذر إلى الله ثم لا يعود أبدا، كما لا يعود اللبن إلى الضّرع، وهكذا روى عن عمرو بن مسعود وأبى بن كعب والحسن وغيرهم.
وقال الإمام النووي: التوبة النصوح ما استجمعت ثلاثة أمور:
(1) الإقلاع عن المعصية.
(2) الندم على فعلها.
(3) العزم الجازم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.
فإن كانت المعصية تتعلق بآدمى وجب رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه، أو تحصيل البراءة منه.
والخلاصة- إن المعصية إن كانت فى خالص حق الله كفى فيها الندم كما فى الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم العزم على إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما فى الغصب والقتل العمد، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما فى الغيبة إذا بلغته، ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش.
وجىء بكلمة (عَسى) التي تفيد الطمع فى حصول العفو فحسب، مع أن الله سبحانه وعد بقبول التوبة- جريا على سنن الملوك فى التخاطب، فإنهم يقولون(28/164)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
إذا أرادوا فعلا: عسى أن نفعل كذا، وإشعارا بأن ذلك تفضل منه سبحانه، والتوبة غير موجبة له، وأن العبد ينبغى أن يكون بين خوف ورجاء، وإن بالغ فى إقامة وظائف العبادة.
ثم بين ما يكون للنبى والذين آمنوا معه من علامات الظفر والفوز بالمطلوب فقال:
(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي نورهم يسعى بين أيديهم حين يمشون وبأيمانهم حين الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير لهم.
ثم بين ما يطلبونه من ربهم فقال:
(يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) أي يسألون ربهم أن يبقى لهم نورهم فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط، حين يقول لهم المنافقون والمنافقات: انظرونا نقتبس من نوركم، وقد تقدم نحو هذا فى سورة الحديد، ويطلبون أيضا منه أن يستر عليهم ذنوبهم، ولا يفضحهم بعقوبتهم عليها حين الحساب.
ثم ذكروا ما يطمعهم فى إجابة الدعاء فقالوا:
(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنك على إتمام نورنا، وغفران ذنوبنا، وكل ما نرجو منك ونطمع- قدير يا ربنا، فاللهم أجب دعاءنا، ولا تخيب رجاءنا.
وقد روى أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطئ قدمه، لأن النور على قدر العمل وروى أن السابقين إلى الجنة يمرون على الصراط مثل البرق، ويمر بعضهم كالريح، وبعضهم يحبو حبوا ويزحف زحفا، وهم الذين يقولون: «ربّنا أتمم لنا نورنا» .
[سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)(28/165)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
شرح المفردات
الجهاد تارة يكون بالسيف وأخرى بالحجة والبرهان، واغلظ عليهم: أي شدّد، والمأوى: مكان الأبواء والإقامة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله والإخبات إليه.
أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وذكر أن جزاءهم فى الآخرة جهنم وبئس المقيل والمأوى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي جاهد الكفار بالسيف وقاتلهم قتالا لا هوادة فيه، وجاهد المنافقين بالإنذار والوعيد وبيان سوء المنقلب، وعنّفهم بفضيحة عاجلة تبين قبح طواياهم وخبث نفوسهم، كما حدث منه صلى الله عليه وسلم فى المسجد الجامع لبعض المنافقين على ملأ من الناس فقال: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان، وأخرج منهم عددا كثيرا.
ثم بين سوء عاقبتهم فقال:
(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وسيكون مسكنهم جهنم وبئس المثوى والمقيل.
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(28/166)
شرح المفردات
ضرب المثل: ذكر حال غريبة لتعرف بها حال أحرى تشاكلها فى الغرابة، تحت عبدين: أي فى عصمتهما، فخانتاها: أي نافقتا فأخفتا الكفر وأظهرتا الإيمان، وكانت امرأة نوح تقول لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط نزل قومه على نزول أضيافه عليه، فلم يغنيا عنهما: أي لم يفيداهما ولم يجزيا عنهما من الله شيئا، امرأة فرعون:
على ما قيل هى آسية بنت مزاحم، نجنى من فرعون وعمله: أي خلصنى منه فإنى أبرأ إليك منه ومن عمله، والقوم الظالمون: هم الوثنيون أقباط مصر، وأحصنت فرجها: أي حفظته وصانته، والفرج: شق جيب الدرع (القميص) إذ الفرج لغة كل فرجة بين الشيئين، ويراد بذلك عفتها، وكلمات ربها: أي شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله، والقانتين: أي الطائعين المخبتين إلى الله الممتثلين أوامره.
المعنى الجملي
بعد أن أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح بالندم على ما فات، وعدم العودة فيما هو آت، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة لهم فى القول والعمل.
ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقبول الإيمان، وفى جوهرها صفاء ونقاء(28/167)
فلا تجدى فيها العظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط فقد كانتا فى بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام.
كذلك إذا كان جوهر النفس نقيا خالصا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئا، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين ولا عتوّ الظالمين، وضرب لذلك مثل امرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها، وتعتقد ألوهيته هو فأبت وجاهدت فى الله حق جهاده حتى لاقت ربها وهى آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل فى قلبها من نور الإيمان، وكذلك مريم بنة عمران التي عفّت فآتاها الله الشرف والكرامة، وأنجبت نبى الله عيسى، وصدقت بجميع شرائعه وكتبه وكانت من العابدين القانتين.
وفى هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبى صلى الله عليه وسلم لا تجديهم نفعا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم وجعلهم كالأجانب، بل أبعد منهم كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما، كما تضمن التعريض بأمى المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي ضرب الله مثلا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم- امرأة نوح وامرأة لوط إذ كانتا فى عصمة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصّلا ما فيه سعادتهما فى معاشهما ومعادهما، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة،(28/168)
فلم يدفع عنهما قربهما من ذينك السدين الصالحين شيئا، وحاق بهما سوء ما عملتا وسيحل بهما عقاب الله، وسيدخلان النار فى زمرة داخليها جزاء وفاقا لما اجترحتا من السيئات، وما دسّتا به أنفسهما من كبير الآثام، وعظيم المعاصي.
وفى هذا تعريض بأمهات المؤمنين، وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهنّ- إن أتين بمعصية- اتصالهنّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وكونهنّ فى عصمته.
وبعد أن ضرب مثلا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئا.
أرشد إلى عكس هذا فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئا فقال:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل الله حال امرأة فرعون مثلا يبين به أن وصلة المؤمنين بالكافرين لا تضرهم شيئا إذا كانت النفوس خالصة من الأكدار، فقد كانت تحت أعدى أعداء الله فى الدنيا، وطلبت النجاة منه ومن عمله، وقالت فى دعائها: رب اجعلنى قريبا من رحمتك، وابن لى بيتا فى الجنة، وخلصنى من أعمال فرعون الخبيثة، وأنقذنى من قومه الظالمين.
وفى هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدّقة بالبعث، ومن سنن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت.
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال مريم وما أوتيت من كرامة الدنيا وكرامة الآخرة، فاصطفاها ربها مع أن أكثر قومها كانوا كفارا، من قبل أنها منعت جيب درعها جبريل عليه السلام وقالت له:
«إنّى أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا» فأثبتت بذلك عفتها وكمال طهارتها، فنفخ جبريل فى جيب درعها فحملت بنبي الله وكلمته عيسى صلوات الله عليه، وصدقت بشرائع الله وكتبه التي أنزلها على أنبيائه، وكانت فى عداد القانتين العابدين المخبتين لربهم المطيعين له.(28/169)
روى أحمد فى مسنده: «سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة»
وفى الصحيح «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام» .
وإنما فضل الثريد لأنه مع اللحم غذاء جامع بين اللذة وسهولة التناول وقلة المئونة فى المضغ وسرعة المرور فى المريء، فضربه مثلا ليؤذن بأنها رضى الله عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق، وفصاحة الكلام، وجودة القريحة، ورزانة الرأى، ورصانة العقل، والتحبب للبعل، وبحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت ما لم يرو مثله الرجال.
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على شيئين:
(1) أخبار نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وحلفه صلى الله عليه وسلم ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهنّ، واطلاع الله له على ما أفشين من سرّ أمرهنّ بكتمه، من أول السورة إلى قوله: «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .
(2) ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى العشرين من شهر رمضان المعظم من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة.(28/170)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 ما قالته خولة بنت ثعلبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها.
7 أحكام الظهار والعقوبات التي شرعت لذلك.
9 من يشاقّ الله ورسوله يلحقه الخزي والهوان.
11 ما يتناجى ثلاثة إلا والله رابعهم ولا خمسة إلا والله سادسهم.
12 كان اليهود يحيون الرسول بغير تحية الله استهزاء به.
14 نهى المؤمنين عما سيكون سببا للتباغض من التناجي بالعدوان.
16 كان الصحابة يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه.
18 أمر المؤمنين بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه.
21 كان قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين.
25 المنافقون شاقوا الله ورسوله فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة.
27 لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله.
28 اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاشّ علىّ يدا ولا نعمة فيوده قلبى.
32 نقض اليهود للعهد وإجلاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى بلاد الشام 34 قذف الله الرعب فى قلوب اليهود فلم يجدوا للمقاومة سبيلا.
37 حكم ما أخذ من أموال اليهود.(28/171)
39 ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
41 مدح الأنصار.
44 «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» .
47 مناصحة المنافقين كعبد الله بن أبىّ ورفقته لليهود.
49 نكوص المنافقين فى عهودهم لليهود.
53 نصح المؤمنين بلزوم التقوى والعمل بما ينفعهم فى دنياهم وأخراهم.
54 من مواعظ أبى بكر رضى الله تعالى عنه.
56 القرآن الكريم مرشد وهاد.
61 ما فعله حاطب بن أبى بلتعة من نصيحته للمشركين.
63 ذكر الموانع التي تمنع من مناصحة المشركين.
65 أمر الصحابة بأن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام وأصحابه.
66 كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك.
69 وعد المؤمنين بأنه سيغير من طباع المشركين ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام.
71 الكافرون المعاندون أقسام ثلاثة.
73 كتاب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عام الحديبية.
75 مبايعة المؤمنات المهاجرات للنبى صلى الله عليه وسلم.
77 كان بعض فقراء المؤمنين يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ليصيبوا من ثمارهم.
80 أحب الأعمال إلى الله إيمان به، وجهاد لأهل معصيته.
81 أمر المؤمنين بالقتال صفا صفا كأنهم بنيان مرصوص.
84 ما جاء فى التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد عليه الصلاة والسلام.(28/172)
87 الصادّ عن دعوة الدين كمن يريد إطفاء نور الشمس.
88 فرح اليهود ببطء نزول الوحى على النبي صلى الله عليه وسلم.
89 الإيمان بالله والجهاد بالنفس تجارة رابحة.
90 الجهاد على ضروب.
91 رفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من الأرض فى زمن وجيز 94 الحكمة فى إرسال الرسول عربيا إلى العرب.
96 «لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس» .
97 النعي على المشركين بأنهم لم يفهموا التوراة.
99 آية المباهلة.
101 نهى المؤمنين عن تشاغلهم عن عظات النبي صلى الله عليه وسلم.
102 أمر المؤمنين أن يأتوا إلى الصلاة وعليهم السكينة.
102 مراقبة الله تنيل الفوز والسعادة فى الدنيا والآخرة.
106 وصف الله سبحانه المنافقين بأقبح الصفات.
107 كأنت عدّة المنافقين الأيمان الكاذبة.
108 وصف المنافقين بحسن المنظر وقبح المخبر.
110 ذكر الأدلة على نفاق المنافقين.
113 ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبىّ المنافق.
115 نهى المؤمنين عن تشاغلهم بالدنيا.
119 الإنسان يضم روحا من عالم الأرواح وبدنا من عالم الأشباح.
121 تحذير المشركين من تماديهم فى الجحود وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم(28/173)
123 إقامة الأدلة على أن البعث حق لا شك فيه.
126 ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره.
127 على المؤمن واجبان: السعى فى جلب الخير ودفع الضر، ثم التوكل على الله 128 من الأولاد والزوجات أعداء للإنسان يثبطونهم عن الطاعة.
130 فى الحديث «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتى المال» .
131 من يقرض غير ظلوم ولا عديم؟ الحديث.
134 الأمر بالطلاق فى الطهر الذي يحسب للمرأة.
135 الطلاق أقسام ثلاثة.
136 أمر المطلقة بالمكث فى البيت إلا أن تأتى بفاحشة مبينة.
137 «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» الحديث.
141 قصص عوف بن مالك الأشجعى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
142 عدّة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللائي يئسن من الحيض.
143 عدة الحامل وضع الحمل ولو بعد ساعة.
145 ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة.
146 نفقة الحوامل.
147 القدر الواجب فى النفقة.
149 لا تحل المطلقة لزوج آخر إلا بعد انقضاء عدتها.
152 ما تضمنته سورة الطلاق من الأحكام الشرعية والشئون الدينية.
156 فى الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل» 157 أسرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة حديثا فأخبرت به عائشة.(28/174)
158 لا حرج فى الإباحة بالسر إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
160 تحذير أمهات المؤمنين من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
163 الآخرة دار جزاء لا دار عمل.
164 شروط التوبة النصوح.
166 الأمر بقتال المشركين الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان.
167 النفوس إن لم يكن فى جوهرها صفاء لا تنفع فيها العظة.
169 ضرب المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران.
170 فى الحديث «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع» .(28/175)
الجزء التاسع والعشرون
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم احمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء التاسع والعشرون(29/1)
الطبعة الثالثة 1394 هـ- 1974 م(29/2)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
الجزء التاسع والعشرون
سورة الملك
هى مكية، وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة الطور.
ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفارا- افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عز وجل وقهره وتصرفه فى ملكه على ما سبق به قضاؤه.
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)(29/3)
شرح المفردات
البركة: الزيادة حسية كانت أو عقلية، خلق: أي قدّر، ليبلوكم: أي ليختبركم والمراد ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم، أحسن عملا: أي أخلصه لله، العزيز:
أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء، الغفور: أي كثير المغفرة والستر لذنوب عباده، طباقا: أي طبقة بعد طبقة، تفاوت: أي اختلاف وعدم تناسب، والفطور:
الشقوق، واحدها فطر، يقال فطره فانفطر، كرتين: أي رجعتين أخريين فى ارتياد الخلل، والمراد بذلك التكرير والتكثير: أي رجعة بعد رجعة، ينقلب: أي يرجع، خاسئا: أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى من الخلل، حسير: أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب، والحاسر: المعيا لنفاد قواه، والمصابيح: واحدها مصباح وهو السراج والمراد بها الكواكب، والرجوم: واحدها رجم (بِالْفَتْحِ) وهو ما يرجم ويرمى به، والشياطين: هم شياطين الإنس والجن، وأعتدنا: أي هيأنا، عذاب السعير: أي عذاب النار المسعّرة الموقدة.
المعنى الجملي
مجّد الله نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف فى جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، لقهره وحكمته وعدله، وهو القدير على كل شىء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا، وهو ذو العزة الغالب على أمره، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب، فانظر أيها الرائي أترى فيها(29/4)
شقا أو عيبا؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري، ويعلم بها عدد السنين والحساب، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات، وهى أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا فى حياتهم الدنيا.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقواما ويخفض آخرين، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام فى الموجودات على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع.
والخلاصة- تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف فى كل شىء، وهو قدير يتصرف فى ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإعطاء ومنع.
ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة فقال:
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي الذي قدر الموت وقدر الحياة وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو.
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص فى عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.(29/5)
وقد روى فى تفسير الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع فى طاعته عز وجل»
يعنى أيكم أتم فهما لما يصدر عن حضرة القدس، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع فى إجابة داعى الله.
وفيه ترغيب فى الطاعات وزجر عن المعاصي كما لا يخفى على ذوى الألباب.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي وهو القوى الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها.
وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى:
«نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» .
وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، ليجازى المحسن والمسيء بالثواب والعقاب، ويعلم المطيع من العاصي، فلا يقع خطأ فى إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابا كان أو عقابا.
ثم ذكر دلائل قدرته فقال:
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض فى جوّ الهواء بلا عماد، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات، كما جاء فى قوله: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» .
ثم ذكر دلائل العلم فقال:
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب، فلا يتجاوز شىء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا على نحو ما قيل:(29/6)
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهنّ اختلافا بل أتين على قدر
فإن كنت فى ريب من هذا فارجع البصر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة فى تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها.
وإنما قال: (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) دون أن يقول: (فيها) تعظيما لخلقهنّ، وتنبيها إلى سبب سلامتهنّ من التفاوت بأنهنّ من خلق الرحمن، وأنه خلقهنّ بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلا منه وإحسانا، وأن هذه الرحمة عامة فى هذه العوالم جميعا.
ثم أمره بتكرير البصر فى خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيبا وخللا فقال:
(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي إنك إذا كررت النظر لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرا ذليلا لم ير ما يهوى منهما، حتى كأنه طرد وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
والمراد بقوله «كرتين» التكثير كقوله:
لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم من منزل الذّام
وبعد أن بين خلوّ السموات من العيب ذكر أنها الغاية فى الحسن والبهاء فقال:
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي ولقد زينا السماء القربى من الأرض وهى التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزيّن الناس منازلهم ومساجدهم بالسّرج، ولكن أنّى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله؟
والخلاصة- أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح، هى بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين.(29/7)
(وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي وهذه الكواكب لا تقف عند حد الزينة بل بضوئها يكون ما فى الأرض: من رزق وحياة وموت، بحسب الناموس الذي سنناه، والقدر الذي أمضيناه، ويكون فى العالم الإنسانى وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعّة النازلة من عالم الكواكب المشرقة فى السماء.
وقصارى القول- إن هذه الكواكب كما هى زينة الدنيا، وأسباب لرزق ذوى الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هى أيضا سبب لتكوّن الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطى لكلّ ما استعدّ له فالنفوس الفاضلة، والنفوس الشريرة، استمدت من هذه المادة المسخّرة المقهورة، فصارت سببا لثواب النفوس الطيبة، وعذاب النفوس الخبيثة، وصار لهم فيها رجوم وظنون، إذ هم قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد أن المصابيح التي زيّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها، بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجنىّ أو يخبله.
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها فى البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم، وتعدى وظلم.
(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا إليه من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلا شهواتهم، أما عقولهم فقد احتجبت عنها.
والخلاصة- إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم فى شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم(29/8)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير فى الآخرة، لأن هذا يشاكل حالهم فى الدنيا، إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم فى نيران البخل والحقد والطمع، فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها فى الآخرة.
[سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
شرح المفردات
ألقوا فيها: أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب فى النار، والشهيق: تنفس كتنفس المتغيظ قاله المبرّد، تفور: أي تغلى بهم كغلى المرجل قاله ابن عباس، وقال الليث: كل شىء جاش فقد فار كفور القدر والماء من العين، تميز: أي ينفصل بعضها من بعض، والغيظ: شدة الغضب قاله الراغب، فوج: أي جماعة، خزنتها: واحدها خازن، وهم مالك وأعوانه، نذير: أي رسول ينذركم بأس الله وشديد عقابه، إن أنتم: أي ما أنتم، ضلال كبير: أي ضلال بعيد عن الحق والصواب، فسحقا لهم: أي فبعدا لهم من رحمة ربهم.(29/9)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن شياطين الإنس والجن قد أعدّ لهم عذاب السعير، أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته، مكذب برسله، منكر للبعث واليوم الآخر، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان، وتصطك لسماعها الأسنان، منها:
(1) أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها.
(2) أنها تفوز بهم كما يفور ما فى المرجل حين يغلى.
(3) أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها.
(4) أن خزنتها يسألون داخليها: ألم تأتكم الرسل فتبعدكم عن هذا العذاب؟
(5) أن أهلها يعترفون بأن الله ما عذبهم ظلما، بل قد جاءهم الرسل فكذبوهم وقالوا لهم: أنتم فى ضلال بعيد.
(6) دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة الله وألطافه، وكرمه وإحسانه.
الإيضاح
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قد سبق قضاؤنا، وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا، فقد استحق عذاب جهنم، وبئس المآل والمنقلب.
ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار فقال:
(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح المجرمون فيها سمعوا لها صياحا وصوتا كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وهى تغلى بهم كغلى المرجل بما فيه:
(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقال فلان يتميز غيظا، ويتعصف غيظا وغضبا(29/10)
فطارت منه شعلة فى الأرض وشعلة فى السماء، إذا وصفوه بالإفراط فى الغضب، من قبل أن الغضب إنما يحدث حين غليان دم القلب، والدم حين الغليان يأخذ حجما أكبر من حجمه، فتتمدد الأوعية الدموية فى البدن، وكلما كان الغضب أشد كان تمددها أكثر حتى تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض.
ثم بين سبحانه عدله فى خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة وإرسال الرسول إليه فقال:
(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟) أي كلما طرح فى جهنم جماعة من الكفار سألهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال تقريع وتوبيخ: هل أتتكم رسل من ربكم تنذركم شديد بأسه، وعظيم عقابه لمن عصاه وخالف أمره.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» .
حينئذ يجيبهم هؤلاء مع التحسر على ما فات والندم على ما كان.
(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي بلى جاءنا الرسول وأنذرنا فكذبناه وقلنا له: إن الله لم يوح إليك بشىء ولم يبعثك رسولا، وما أنت إلا بشر مثلنا، فما أنت فيما تدّعى إلا مجانف للحق، بعيد عن جادّة الصدق.
ونحو الآية قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» .
ثم عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا ينفع الندم فقالوا:
(وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحق، ما كنا على ما نحن عليه من الكفر بالله، والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها فى دنيانا، فبؤنا بسخط ربنا وغضبه، وحلّ بنا عقابه الأليم.(29/11)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل، تنزيلا لما عندهم منهما منزلة العدم، حين لم ينتفعوا بهما.
وقصارى ما سلف- إنهم قالوا: لو كنا سمعنا كلام النذير وقبلناه، اعتمادا على ما لاح من صدقه، وفكرنا فيه تفكير المستبصر، وعملنا به ما كنا فى زمرة المعذّبين.
ولكن هيهات هيهات، فلا يجدى الاعتراف بالذنب، ولا يفيد الندم، فقد فات أوانه، وسبق ما حمّ به القضاء.
صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب
ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته فقال:
(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل، وأنّى يفيدهم ذلك؟ فبعدا لهم من رحمتى، جحدوا أو اعترفوا، فهو ليس بمغن عنهم شيئا، فقد وقعت الواقعة، وحل بهم من بأسى ما ليس له من دافع.
روى أحمد عن أبى البحتري الطائي قال: أخبرنى من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» ،
وجاء
فى حديث آخر: «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة» .
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)(29/12)
شرح المفردات
بالغيب: أي غائبين عن أعين الناس، بذات الصدور: أي بما فى النفوس، واللطيف: هو العالم بالأشياء التي يخفى علمها على العالمين، ومن ثم يقال: إن لطف الله بعباده عجيب، ويراد به دقائق تدبيره لهم، الخبير: أي بظواهر الأشياء وبواطنها، ذلولا: أي سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وفيما فيها، والمناكب: واحدها منكب، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، والمراد طرقها وفجاجها، النشور: أي المرجع بعد البعث.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد الكفار بما أوعد، وبالغ فى ترهيبهم بما بالغ- وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق، فلا يخفى عليه شىء من أمرهم، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها، ثم عدد نعماءه عليهم، فذكر أنه عبّد لهم الأرض وذللها لهم، وهيأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم، وإليه بعثهم ونشورهم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن المعاصي، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو، مراقبين له فى السر والعلن، واضعين نصب أعينهم ما
جاء فى الحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
يكفر عنهم ما ألمّوا به من الذنوب والآثام، ويحزيهم جزيل(29/13)
الثواب، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كفاء ما أسلفوا فى الأيام الخالية.
وقد ورد فى الحديث: «سبعة يظلهم الله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم: ورجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله، ورجلا تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» .
ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر فقال:
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن عملكم وقولكم على أىّ سبيل وجد فالله عليم به، فدوموا أيها الخاشعون على خشيتكم، وأنيبوا أيها المفترون إلى ربكم، وكونوا على حذر من أمركم.
روى عن ابن عباس أنه قال: «كان المشركون ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيوحى إليه بما قالوا فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع ربّ محمد فنزلت الآية» .
وقدم السر على الجهر للايذان بافتضاح أمرهم ووقوع ما يحذرون على كل حال أسروا أو جهروا، ولأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة الجهر فما من شىء يجهر به إلا وهو أو مبادئه مضمر فى النفس.
وقوله «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» كالعلة والسبب لما قبله.
والخلاصة- إنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة فى الصدور، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به؟.
ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء فقال:
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي كيف لا يعلم السر والجهر من أوجد بحكمته، وواسع علمه، وعظيم قدرته، جميع الأشياء وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن.
وكأنه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم، من يعلم الدقائق والخفايا، جملها وتفاصيلها؟.(29/14)
ثم نبه إلى نعمه على عباده فقال:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي إن ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم، فجعلها قارّة ساكنة، لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأوجد فيها من العيون، لسقيكم وسقى أنعامكم وزروعكم وثماركم، وسلك فيها السبل، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا فى أرجائها، لأنواع المكاسب والتجارات، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق- والسعى فى الأرزاق لا ينافى التوكل على الله.
روى أحمد عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير. تغدو خماصا، وتروح بطانا»
فأثبت لها غدوّا ورواحا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخّر الميسر المسبّب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: «مرّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه فى بطن الأرض وتوكل على الله عز وجل» .
وجاء فى الأثر: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» .
وفى الآية إيماء إلى ندب التجارة والتكسب بجميع ضروبه، وفيها تهديد للكافرين كأنه قال لهم: إنى عالم بسركم وجهركم، فاحترسوا من عقابى، فهذه الأرض التي تمشون فى مناكبها، أنا الذي ذللتها لكم، وجعلتها سببا لنفعكم، وإن شئت خسفتها بكم، وأنزلت عليها ألوانا من المحن والبلاء.
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإليه المرجع يوم القيامة، فينبغى أن تعلموا أن مكثكم فى الأرض، وأكلكم مما رزقكم الله فيها، مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، ويستيقن أن مصيره إليه، فاحذروا الكفر والمعاصي فى السر والعلن.(29/15)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
شرح المفردات
الأمن: ضد الخوف، من فى السماء: هو ربكم الأعلى، وخسف الله به الأرض غيّبه فيها، ومنه قوله: «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» وتمور: أي تهتز وتضطرب حاصبا: أي ريحا شديدة فيها حصباء تهلككم، نذير: أي إنذارى وتخويفى، نكير: أي إنكارى عليهم بإنزال العذاب بهم، صافّات: أي باسطات أجنحتهن فى الجوّ حين طيرانها تارة، ويقبضن: أي ويضممنها تارة أخرى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعده للكافرين من نار تلظى، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان- أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم فى الدنيا مثل ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم: من خسف عاجل تمور به الأرض مورا، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل، ولا تبقى منهم ديّارا ولا نافخ نار ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء، فقد أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما- متتابعة- وأهلك فرعون وقومه بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلب منهم(29/16)
أن يروا الطير وهى تبسط أجنحتها فى الجو تارة، وتضمها أخرى بتسخير الله وتعليمه ما هى فى حاجة إليه.
الإيضاح
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أيء أمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون، فإذا هى تتحرك بكم حين الخسف، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابا.
ثم انتقل من الوعيد بهذا إلى الوعيد بوجه آخر فقال:
(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل أمنتم أن يرسل عليكم ريحا فيها حصباء (حجارة صغار) كما فعل بقوم لوط، وحينئذ تعلمون كيف يكون عقابى إذا شاهدتموه، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.
والخلاصة- كيف تأمنون من فى السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقد ذلل لكم الأرض، وزين لكم السماء بمصابيح، فإذا لم تشكروا النعم، فأنتم حريّون بأن يرسل عليكم النقم.
ونحو الآية قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» وقوله: «أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» .
ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم، لعله يكون فيه مزدجر لهم فقال:
(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مردّ له، وحل بهم من البأس ما لم يجدوا له دافعا على شدة هو له وعظيم فظاعته.
والخلاصة- إن الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم،(29/17)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ثم ذكر الدلائل على قدرته على إيصال أنواع العذاب بهم فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهى باسطات أجنحتهن فى الجو حين طيرانها تارة، وقابضات لها أخرى، وما يمسكهن فى الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العليم بها، وألهمهن حركات تساعد على الجري فى الهواء المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن، والبحث عن أرزاقهن؟.
ثم بين غلة هذا فقال:
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده.
والخلاصة- إنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها، والحكم التي أظهرناها فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذابا نصبّه عليكم صبّا، ولا معقّب لحكمنا، ولا دافع لقضائنا.
[سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)(29/18)
شرح المفردات
جند: أي عون، ينصركم: أي يساعدكم فيدفع العذاب عنكم، من دون الرحمن: أي من غيره، فى غرور: أي فى خداع من الشيطان الذي يغركم بأن لا عذاب ولا حساب، أمسك رزقه: أي بإمساك المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق، لجّوا: أي تمادوا، فى عتوّ: أي تكبر وعناد عن قبول الحق، ونفور:
أي إعراض وتباعد منه، مكبّا على وجهه: أي واقعا عليه، سويا: أي معتدلا منتصبا، والأفئدة: العقول واحدها فؤاد، ذرأكم: أي خلقكم، الوعد: أي الحشر الموعود، إنما العلم: أي العلم بوقته، زلفة: أي مزدلفا قريبا، سيئت وجوه الذين كفروا: أي تبين فيها السوء والقبح إذ علتها الكآبة والقترة، ويقال: ساء الشيء يسوء إذا قبح، تدّعون: أي تطلبونه وتستعجلونه استهزاء وإنكارا
المعنى الجملي
بعد أن أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير، ووبخهم على ترك التأمل فيها- أردفه بتوبيخهم على عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرا ورزقا، منكرا عليهم ما اعتقدوه، مبينا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمّلوه، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه.
أما وقد وضح الحق لذى عينين فهم فى لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة، ثم ضرب مثلا يبين حالى المشرك والموحّد، فمثّل حال الأول بحال من يمشى(29/19)
منحنيا إلى الأمام على وجهه، فلا يدرى أين يسلك، ولا كيف يذهب، فيكون حائرا ضالا، ومثّل حال الثاني بحال من يمشى منتصب القامة على الطريق الواضح، فيرى ما أمامه ويهتدى إلى ما يريد.
ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية بذكر خلق الإنسان فى الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم.
ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول عن ميقات البعث استهزاء به، وإجابته إياهم بأن علمه عند الله وليس له من علمه شىء، وإنما هو نذير مبين، وذكر أنه حين تقوم القيامة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة، ترهقها قترة، ويقال لهم: إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مردّ له، فماذا أنتم فاعلون؟.
الإيضاح
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الذي يعينكم فى دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءا؟
فما أنتم فى زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ الله لكم إلا فى ضلال مبين، وقد أغواكم الشيطان، وغركم بهذه الأمانى الباطلة.
وفى قوله: (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أنه برحمته أبقى الناس فى الأرض مع ظلمهم وجهالتهم، إذ رحمته وسعت كل شىء، فوسعت البرّ والفاجر، والطير فى السماء، والأنعام فى الأرض.
ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازق غيره فقال:
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟) أي بل من ذا الذي يرزقكم إن(29/20)
منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح، أو جعل ماء البحر غورا؟
والخلاصة- إنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم.
وبعد أن حصحص الحق قال مبينا عتوهم وطغيانهم:
(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره، فما هذا منهم إلا عناد واستكبار ونفور عن قبول الحق، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم وتدفع الضر عنهم وتقرّبهم إلى ربهم زلفى.
ثم ضرب مثلا يبين به الفارق بين حالى المشرك والموحد، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس، ليكون أبين للحجة، وأوضح لطريق المحجة فقال:
(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي أفمن يمشى وهو يتعثر فى كل ساعة، ويخر على وجهه فى كل خطوة، لتوعر طريقه، واختلاف أجزائها انخفاضا وارتفاعا- أهدى سبيلا وأرشد إلى المقصد الذي فؤمه، أم من يمشى سالما من التخبط والعثار على الطريق السوىّ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ - فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشى على وجهه فى النار يوم القيامة، والذي يمشى سويا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
وبعد أن امتنّ على عباده بما آتاهم من زينة السماء، وتذليل الأرض، وإمساك الطير فى الهواء- أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا وهو خلق أنفسنا فقال آمرا رسوله أن يبين لهم ذلك:
(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي قل لهم:
إن ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ، والأبصار لتنظروا(29/21)
بها بدائع صنع الخالق، والأفئدة لتتفكروا فى كل هذا، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادية.
ثم أبان أن الإنسان لنعمة ربه لكنود فقال:
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم فى طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وذلك هو شكرانها.
ثم لخص هذا كله بقوله آمرا رسوله:
(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم منبها إلى خطئهم: إن ربكم هو الذي برأكم فى الأرض وبعثكم فى أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، ثم يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء، فيجزى كل نفس بما كسبت، إنه سريع الحساب.
وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب- أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك فقال:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويسألون الرسول استهزاء وتهكما: متى يقع ما تعدنا به من الخسف والحاصب فى الدنيا، والحشر والعذاب فى الآخرة إن كنت صادقا فيما تدعى وتقول؟
فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارئ النسم فقال:
(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربى لا يعلمه إلا هو، وقد أمرنى أن أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة فاحذروه.
ونحو الآية قوله: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» .
ثم بين وظيفة الرسول فقال:
(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما أنا منذر من عند ربى أبين لكم شرائعه، ما حلل منها وما حرم، لتكونوا على بينة من أمركم، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.(29/22)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود فقال:
(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود قريبا «وكل آت قريب وإن طال زمنه» ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والخسران، وغشيتها القترة والسواد، إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
ونحو الآية قوله: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
شرح المفردات
أرأيتم: أي أخبرونى، غورا: أي غائرا فى الأرض لا تناله الدلاء، معين: أي جار سهل المأخذ تصل إليه الأيدى.
المعنى الجملي
روى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى الله عنهم فى آية أخرى بقوله: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» وقوله: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى(29/23)
أَهْلِيهِمْ أَبَداً»
فنزلت الآية، ثم أمره أن يقول لهم: إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله، ثم أمره أن يقول لهم: إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه، وستعلمون غدا من الهالك؟ ثم أمره أن يقول لهم: إن غار ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟
الإيضاح
أجاب سبحانه عن تمنى المشركين موته صلى الله عليه وسلم ومن معه بوجهين:
(ا) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل لهم موبخا: أخبرونى عن فائدة موتى لكم: سواء أماتنى الله ومن معى، أو أخر أجلنا فأى راحة لكم فى ذلك، وأي منفعة لكم فيه، ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم، أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب، فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟.
وخلاصة هذا- إنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب- سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإسلام كما نرجو، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغى، ونيل لما نحب ونهوى.
وفى هذا إيماء إلى أمرين:
(1) حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه.
(2) إنه كان ينبغى أن يكون ما هم فيه شاغلا لهم عن تمنى هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.
(ب) (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل لهم: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا فى جميع أمورنا كما قال: «فاعبده وتوكّل عليه» وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة.
وفى هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ(29/24)
أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ»
وإشارة إلى أنهم لا يرحمون فى الدارين، لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال:
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فسيستبين لكم من الضالّ منا ومن المهتدى. ولمن تكون العاقبة فى الدنيا والآخرة؟.
ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره أقام الدليل على ذلك فقال آمرا رسوله أن يقول لهم.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم: أخبرونى إن ذهب ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء جار تشربونه عذبا زلالا. ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله، وإذا فلم تجعلون ما لا يقدر على شىء شريكا فى العبادة لمن هو قادر على كل شىء.
وفى هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
وقصارى ذلك- إنه تعالى فضلا منه وكرما أنبع لكم المياه وأجراها فى سائر الأقطار بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة، فله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
ما حوته السورة من موضوعات
(1) وصف السموات (2) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف.
(3) وصف عذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة.
(4) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك.(29/25)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
سورة القلم
هى مكية إلا من آية 17 إلى 33، ومن آية 48 إلى آية 50 فمدنية.
وعدد آيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد العلق.
وهى من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر كما روى عن ابن عباس.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه ذكر فى آخر (الملك) تهديد المشركين بتغوير الأرض، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو ثمر البستان الذي طاف عليه طائف فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون.
(2) إنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه لو شاء لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا، وكان ما أخبر به هو ما أوحى به إلى رسوله، وكان المشركون ينسبونه فى ذلك مرة إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون- فبرأه الله فى هذه السورة مما نسبوه إليه، وأعظم أجره على صبره على أذاهم وأثنى على خلقه.
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)(29/26)
شرح المفردات
يسطرون: أي يكتبون، ممنون: أي مقطوع يقال منّه السير إذا أضعفه، والمنين: الضعيف، المفتون: المجنون لأنه فتن، أي ابتلى بالجنون.
المعنى الجملي
أقسم ربنا بالقلم وما يسطّر به من الكتب: إن محمدا الذي أنعم عليه بنعمة النبوة ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحى.
وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر فإنما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعمّ العلم والعرفان، وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية، ونكون كما وصف الله «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالا لأمره «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن.
ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيتبين لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنه سيكون العزيز المهيب فى القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولى عليهم ويأسر فريقا ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذ من المجنون؟ والله هو العليم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.(29/27)
الإيضاح
(ن) تقدم أن قلنا غير مرة إن أرجح الآراء فى معنى الحروف المقطعة التي وقعت فى أوائل السور أنها حروف تنبيه نحو ألا، وأما.
(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي أقسم بالقلم وما يكتب به من الكتب.
ثم ذكر المقسم عليه فقال:
(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي إنك لست بالمجنون كما يزعمون، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق.
ثم بين بعض نعمه عليه فقال:
(1) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد.
(2) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد برأك الله على الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق كريم.
روى الشيخان عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لى أفّ قط ولا قال لشىء فعلته لم فعلته؟ ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلته؟» .
وروى أحمد عن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله» .(29/28)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
وفى الآية رمز إلى أن الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد من الجنون.
ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة فقال:
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟) أي فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟
ونحو الآية قوله تعالى: «سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ» وقوله:
«وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
والخلاصة- ستبصر ويبصرون غلبة الإسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر وهيبتك فى أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.
وهذا يشمل ما كان فى بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلا للآخرين.
ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك سبحانه هو أعلم بمن حاد عن الطريق السوىّ المؤدى إلى سعادة الدارين، وهام فى تيه الضلالة، فلا يفرق بين ما ينفع وما يضر، بل يحسب الضر نفعا والنفع ضرا، وأعلم بالمهتدين إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل محذور، ويجازى كلّا من الفريقين بحسب ما يستحقون من العقاب والثواب.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)(29/29)
شرح المفردات
قال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة فى الكلام، وقال المبرد: يقال داهن الرجل فى دينه وداهن فى أمره إذا أظهر خلاف ما يضمر، والحلّاف: كثير الحلف فى الحق والباطل، والمهين: المحتقر الرأى والتمييز، والهماز: العياب الطعّان، والمشاء بالنميم: أي الذي يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، والمنّاع للخير: البخيل، والمعتدى: الذي يتجاوز الحق ويسير فى الباطل، والأثيم: الكثير الآثام والذنوب، والعتلّ: الشديد الخصومة الفظّ الغليظ، والزنيم: الذي يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (الجزء المسترخى من أذنها حين تشق ويبقى كالشىء المعلق) سنسمه:
أي نجعل له سمة وعلامة، والخرطوم: الأنف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة المشركين فى الرسول بنسبته إلى الجنون، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال فى الدين والخلق- أردفه مما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه، مع قلة العدد وكثرة الكفار (إذ هذه السورة من أوائل ما نزل) فنهاه عن طاعتهم عامة، ثم أعاد النهى عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت فى هذه الآيات خاصة، دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم، وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.
الإيضاح
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذبين عامة وتشدد فى ذلك.
وفى هذا إيماء إلى النهى عن مداراتهم ومداهنتهم، استجلابا لقلوبهم، وجذبا لهم إلى اتباعه.(29/30)
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ المشركون لو تلين لهم فى دينك بالركون إلى آلهتهم، فيدينون لك فى عبادة إلهك.
روى أن رؤساء مكة دعوة إلى دين آبائه فنهاه عن طاعتهم.
وخلاصة ذلك- ودوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم، فيفعلون مثل ذلك، ويتركون بعض ما لا ترضى، فتلين لهم ويلينون لك، وترك بعض الدين كله كفر بواح.
والمراد من هذا النهى التهييج والتشدد فى المخالفة والتصميم على معاداتهم.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» .
ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافا هانت عليهم نفوسهم فأفسدوا فطرتها، تشهيرا بهم فقال:
(1) (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي ولا تطع المكثار من الحلف بالحق وبالباطل.
والكاذب يتقى بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على الله- ضعفه ومهانته أمام الحق، وفيه دليل على عدم استشعاره الخوف من الله.
والكذب أسّ كل شر، ومصدر كل معصية، وكفى مزجرة لمن اعتاد الحلف، أن جعله الولي فاتحة المثالب، وأسّ المعايب.
(2) (مَهِينٍ) أي محتقر الرأى والتفكير.
(3) (هَمَّازٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالمكروه، وينال من أعراضهم بذكر مثالبهم.
(4) (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.
وأصل النميمة الحركة الخفيفة ومنه أسكت الله نأمنه أي ما ينمّ عليه من حركته.(29/31)
(5) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بماله ممسك له، لا يجود به لدى البأساء والضراء فهو لا يدفع عوز المعوزين، ولا يساعد المحتاجين البائسين، ولا ينجد الأمة إذا حزبها الأمر، وضاقت بها السبل، كدفع عدوّ يهاجم البلاد، أو دفع كارثة نزلت بها، تحتاج إلى بذل المال.
(6) (مُعْتَدٍ) أي متجاوز لما حدّه الله من أوامر ونواه، فهو يخوض فى الباطل خوضه فى الحق، ولا يتحرّج عن ارتكاب المآثم والمظالم.
(7) (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام ديدنه ذلك، فهو لا يبالى بما ارتكب، ولا بما اجترح.
(8) (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي وفوق ذلك هو فظ غليظ جاف، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة.
(9) (زَنِيمٍ) أي معروف بالشرور والآثام، كما تعرف الشاة بالزنمة روى عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل يمرّ على القوم فيقولون رجل سوء.
ثم ذكر بعض مار بما دعاه إلى طاعتهم فقال:
(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطع من هذه مثالبه من جراء ماله، وكثرة أولاده وتقوّيه بهم، فإن ذلك لا يجديه نفعا عند ربه كما قال سبحانه: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .
ثم ذكر سبب النهى عن طاعته فقال:
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا تلى عليه القرآن قال ما هو إلا من كلام البشر، ومن قصص الأولين التي دوّنت فى الكتب، وليس هو من عند الله.
ونجو الآية قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ(29/32)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» .
وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعّده فقال:
(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم.
وفى هذا إذلال ومهانة له، لأن السمة على الوجه شين، فما بالك بها فى أكرم موضع، وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحميّة والأنفة، ومن ثم قالوا: الأنف فى الأنف، وقالوا حمى أنفه، وقالوا: هو شامخ العرنين، وعلى عكسه قالوا فى الذليل:
جدع أنفه، ورغم أنفه، قال جرير:
لمّا وضعت على الفرزدق ميسمى ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفى التعبير بلفظ (الخرطوم) استخفاف به، لأنه لا يستعمل إلا فى الفيل والخنزير، وفى استعمال أعضاء الحيوان للانسان كالمشفر للشفة، والظّلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى.
والخلاصة- سنذله فى الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر، ونسمه يوم القيامة على أنفه، ليعرف بذلك كفره وانحطاط قدره.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)(29/33)
شرح المفردات
بلوناهم: أي امتحناهم بألوان من البلاء والآفات، والجنة: البستان، ليصر منّها:
أي ليقطعنّ ثمار نخيلها، مصبحين: أي وقت الصباح، ولا يستثنون: أي ولا ينثنون عما همّوا به من منع المساكين، فطاف عليها طائف من ربك: أي طرقها طارق من عذاب ربك، إذ أرسل عليها صاعقة من السماء أحرقتها، كالصريم: أي كالليل البهيم فى السواد بعد أن احترقت، فتنادوا: أي نادى بعضهم بعضا، أن اغدوا:
أي اخرجوا غدوة مبكّرين، حرثكم: أي بستانكم، صارمين: أي قاصدين الصّرم وقطع الثمار، يتخافتون: أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمناجاة حتى لا يسمعهم أحد، على حرد: أي على منع، لضالون: أي قد ضللنا طريق جنتنا وما هذه هى، محرومون: أي حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، أوسطهم: أي أرجحهم رأيا، تسبحون: أي تذكرون الله وتشكرونه على ما أنعم به عليكم، يتلاومون: أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين، طاغين: أي متجاوزين حدود الله.(29/34)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرد لما آتاه الله من النعم- أردف هذا ببيان أن ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانا ليرى أيصرف ذلك فى طاعة الله وشكره، فيزيد له فى النعمة، أم يكفر بها فيقطعها عنه، ويصب عليه ألوان البلاء والعذاب؟ كما أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمّر الله جنتهم، فما بالك بمن حادّ الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية.
روى أن هذه الجنة كانت على فرسخين من صنعاء بأرض اليمن لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما فى أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم من ذلك شىء كثير، فلما مات الرجل قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم الله بما يستحقون وأحرق جنتهم، ولم يبق منها شيئا.
الإيضاح
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي إنا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء، وما رحمناهم به من واسع العطاء، لنرى حالهم، أيشكرون هذه النعم ويؤدون حقها، وينيبون إلى ربهم، ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثناه لهم هاديا وبشيرا ونذيرا، أم يكفرون به ويكذبونه، فيجحدون حق الله عليهم، فيبتليهم بعذاب من عنده ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم، كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق الله فيه، وعزموا على ألا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل، ودمره شر التدمير.(29/35)
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي حين حلفوا ليجذّنّ ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير، فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء، ولم ينثنوا عما همّوا به.
ثم أخبر عما جازاهم به لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال:
(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا وهم نيام، إذ أرسل عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم فى السواد.
أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له، ثم تلا: فطاف عليها طائف الآية، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم» .
وقد غفلوا عما قدر لهم فلم يدروا مما كان شيئا، ومن ثم أرادوا تنفيذ ما عزموا عليه.
(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا هلمّوا واذهبوا غدوة لقطع ثمار بستانكم إن كنتم فاعلين.
وقد أحكموا التدبير وأخفوا الأمر جدّ الخفية حتى لا يتسمع لهم أحد كما قال:
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فمضوا إلى حرثهم يتسارّون ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم مسكينا من الدخول فيها.
(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وغدوا مصممين على منع المساكين وحرمانهم وهم قادرون على نفعهم، فهم قد تعجلوا الحرمان وكان أولى بهم أن تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه.(29/36)
ولكن وا خيبة أملاه، ووا ضياع مسعاهم، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين ولا يخطر لهم ببال، بستان كان بالأمس عامرا زاخرا بالخير والبركة أصبح قاعا صفصفا قد تغيرت معالمه، ودرست رسومه، حتى تشككوا فيه حين رأوه كما قال سبحانه:
(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما صاروا إلى بستانهم ورأوه محترقا أنكروه وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟
ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة وقالوا:
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لسنا بضالين، بل نحن قد حرمنا خيره بجنايتنا على أنفسنا، بشؤم عزمنا على البخل ومنع مساعدة البائسين والمعوزين، وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم.
(قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) أي قال أرجحهم رأيا، وأحسنهم تدبيرا: ألم أقل لكم: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدوا حق البائس الفقير، ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، لكنكم أعرضتم عما أدليت لكم به من الرأى وضربتم به عرض الحائط.
وبعد اللّتيا والتي، وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم كما حكى عنهم سبحانه بقوله:
(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا.
ثم أكدوا ندمهم واعترافهم بالذنب تحقيقا لتوبتهم وهضما لأنفسهم فقالوا:
(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بحرماننا البائس الفقير، ولكن هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصّة، وهكذا شأن الإنسان.
وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره وتشاحنوا، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:(29/37)
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) فيقول هذا لهذا: أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأى، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتنى فى جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل والثبور كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنهم:
(قالُوا يا وَيْلَنا) أي قالوا: أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك، ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم.
(إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي إنا اعتدينا على ما حده الله لنا من الإحسان على الفقراء والمعوزين، وتركنا الشكر على نعمه علينا.
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم خيرا من جنتهم فقالوا:
(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله يعطينا بدلا هو خير منها، بتوبتنا من زلاتنا، ويكفر عنا سيئاتنا، إنا راجون عفوه، طالبون الخير منه.
روى عن مجاهد أنهم تابوا فأبدلهم الله خيرا منها.
(كَذلِكَ الْعَذابُ) أي وهكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير.
وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصرّ على الكفر والمعصية؟.
وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة فقال:
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات، وعذاب تلك نار(29/38)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
وقودها الناس والحجارة، فلو كانوا من ذوى العلم والمعرفة لارتدعوا عن غيّهم وثابوا إلى رشدهم.
وفى هذا نعى عليهم بالغفلة، وأنهم ليسوا من أرباب النّهى والمعرفة.
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
شرح المفردات
تدرسون: أي تقرءون، تخيرون: أي تختارون، أيمان: أي عهود، بالغة:
أي متناهية فى التوكيد موثّقة، إلى يوم القيامة: أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم، أيهم بذلك زعيم: أي أيهم كفيل بذلك الحكم وأن لهم فى الآخرة ما للمسلمين فيها، كشف الساق: يراد به الشدة، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق.
قد شمّرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا
روى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا خفى عليكم شىء من القرآن فابتغوه فى الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الراجز:(29/39)
صبرا عناق إنه شرّ باق
قد سن لى قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق
خاشعة أبصارهم: أي ذليلة، سالمون: أي أصحاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه وخالفوا أمره- أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى فى الدار الآخرة، ثم ردّ على من قال من الكفار: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وصحبه، لم يفضلونا بل نكون أحسن منهم حالا، لأن من أحسن إلينا فى الدنيا يحسن إلينا فى الآخرة- بأنكم كيف تسوّون بين المطيع والعاصي فضلا عن أن تفضلوا العاصي عليه، ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال: أتلقيتم كتابا من السماء فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاءون، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين، أم أعطينا كم عهودا أكدناها بالأيمان فاستوثقتم بها فهى ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟
أم لكم أناس يذهبون مذهبكم فى هذا القول، وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب. وتدعونهم حينئذ إلى السجود فلا يستطيعون، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة، وقد كانوا يدعون فى الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء، فيأبون كل الإباء.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي طن لمن اتقوا ربهم فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه، جنات ينعمون فيها النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.(29/40)
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم فى الدنيا فلا بدّ أن يفضلنا عليكم فى الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة، فرد الله عليهم ما قالوا وأكد فوز المتقين بقوله:
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟) أي أفنحيف فى الحكم ونسوى بين هؤلاء وهؤلاء فى الجزاء، كلا ورب الأرض والسماء.
ثم عجّب من حكمهم واستبعده، وبين أنه لا يصدر من عاقل فقال:
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي ماذا حصل لكم من فساد الرأى وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟
ثم سدّ عليهم طريق القول، وقطع عليهم كل حجة يستندون إليها فيما يدّعون فقال:
(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه وتتداولونه، ينقله الخلف عن السلف، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون، أن لكم ما تختارون وتشتهون، وأن الأمر مفوض إليكم لا إلى غيركم؟
وخلاصة هذا- أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا، أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم؟.
(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون؟.
وخلاصة ذلك- أم أقسمنا لكم قسما إن لكم كل ما تحبون؟.
ثم طلب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع فقال:(29/41)
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الزعيم عند العرب الضامن والمتكلم عن القوم، أي قل لهم من الكفيل بتنفيذ هذا؟
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي أم لهم ناس يشاركونهم فى هذا الرأى، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين؟ وإن كان كذلك فليأتوا بهم إن كانوا صادقين فى دعواهم.
وقصارى هذا الحجاج- نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به فى تحقيق دعواهم، فنبه أوّلا إلى نفى الدليل العقلي بقوله: «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ثم إلى نفى الدليل النقلى بقوله: «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ» ثم إلى نفى الوعد بذلك- ووعد الكريم دين عليه- بقوله: «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا» ثم إلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» .
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة.
وحينئذ يدعى هؤلاء الشركاء إلى السجود توبيخا لهم على تركهم إياه فى الدنيا فلا يستطيعون، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه فى الدنيا وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا.
(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يدعون إلى السجود وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة فى ذلك اليوم، وقد كانوا فى الدنيا متكبرين متجبرين، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه.
(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي إنهم لما دعوا إلى السجود فى الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم، عوقبوا فى الآخرة بعدم قدرتهم عليه، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون، ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين(29/42)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحد، فكلما همّ بالسجود خرّ لقفاه بعكس السجود فى الدنيا.
وقال النخعي والشعبي: المراد بالسجود الصلوات المفروضة، وقال آخرون: إن المراد جميع العبادات.
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
شرح المفردات
تقول: ذرنى وإياه: أي كله إلىّ فإنى أكفيكه ويقال استدرجه إلى كذا:
إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورّطه فيه، وأملى لهم: أي أمهلهم وأطيل لهم المدة يقال أملى الله له: أي أطال له الملاوة وهى المدة من الزمن، والكيد هنا:
الإحسان، والمغرم: الغرامة المالية، مثقلون: أي مكلفون أحمالا ثقالا فهم بسببها يعرضون عنك، الغيب: هو ما كتب فى اللوح واستأثر الله بعلمه، يكتبون: أي يحكمون على الله بما شاءوا وأرادوا، حكم ربك: هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم،(29/43)
صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام، مكظوم: أي مملوء غيظا، من قولهم: كظم السقاء إذا ملأه، والعراء: الأرض الخالية، فاجتباه: أي اصطفاه، يزلقونك:
أي يزلون قدمك، يقولون: نظر إلىّ نظرة كاد يصرعنى، أو كاد يأكلنى: أي لو أمكنه بنظره أن يصرعنى أو يأكلنى لفعل، قال شاعرهم:
يتقارضون إذا التقوا فى موطن ... نظرا يزل مواطن الأقدام
والذكر: القرآن، ذكر: أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه.
المعنى الجملي
بعد أن خوف الكفار من هول يوم القيامة- خوّفهم مما فى قدرته من القهر فقال لرسوله مؤنّبا لهم وموبخا: خلّ بينى وبين من يكذب بهذا القرآن، فإنى عالم بما ينبغى أن أفعل بهم، فلا تشغل قلبك بهم، وتوكل علىّ فى الانتقام منهم، إنا سندنيهم من العذاب درجة فدرجة، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم، ونرزقهم من الصحة والعافية، فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون، فكلما جدّدوا معصية جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم شكرها.
ثم قال لرسوله: ماذا ينقمون منك؟ ء أنت تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة ثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب فى اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلا، لا هذا ولا ذاك، إذا فالقوم معاندون، فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك، وقد حكم بإمهالهم وتأخير نصرتك، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا.
ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه ففارقهم ونزل إلى السفينة فابتلعه الحوت ودعا ربه وقال: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» وهو مملوء غيظا وحنقا.(29/44)
ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شذرا حين يسمعون منه القرآن، ويقولون حسدا على ما آتاه من النبوة: «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» تنفيرا منه ومن دعوته، وما القرآن إلا عظة للجن والإنس جميعا، لا يفهمها إلا من كان أهلا لها.
الإيضاح
(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كل أيها الرسول أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إلىّ، ولا تشغل قلبك بشأنهم فأنا أكفيك أمرهم، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلا: دعنى وإياه، وخلّنى وإياه، فأنا أعلم بمساءته والانتقام منه.
وفى هذا تسلية لرسوله وتهديد للمشركين كما لا يخفى.
وخلاصة ذلك- حسبك انتقاما منهم أن تكل أمرهم إلىّ وتخلّى بينى وبينهم.
ثم بيّن كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالا من الكلام السابق فقال:
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أنه إيثار وتفضيل لهم على المؤمنين، مع أنه سبب فى هلاكهم فى العاقبة.
ونحو الآية قوله: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» وقوله: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» .
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنسئ فى آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمردهم علىّ لتتكامل حججى عليهم، وإن كيدى لأهل الكفر لقوى شديد.
وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدا «والكيد ضرب من الاحتيال» لكونه فى صورته، من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرا وهو يريد بهم الضرر،(29/45)
لما علم من خبث طويّتهم، وسوء استعدادهم وتماديهم فى الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي.
وفى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إنّ أخذه أليم شديد» .
ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال:
(1) (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرا دنيويا؟
فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول فى الدين الذي دعوتهم إليه.
وخلاصة ذلك- إن أمرهم لعجيب، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك من ربك، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وعنادا.
(2) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن، فهم يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم، ويخاصمونك بما يكتبون من ذلك، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك، والامتثال لما تقول.
ولما بالغ فى تزييف طريق الكافرين، وزجرهم عما هم عليه، أمر رسوله بالصبر على أذاهم فقال:
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك وفى هؤلاء المشركين، وامض لما أمرك به، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه- تكذيبهم وأذاهم لك.(29/46)
روى أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة فنزل قوله تعالى
(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي ولا تكن كيونس ابن متّى حين ذهب مغاضبا لقومه، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر والتقام الحوت له، وشروده به فى البحار، فنادى ربه فى الظلمات من بطن الحوت وهو مملوء غيظا من قومه إذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلى الإيمان.
وجاء فى الآية الأخرى: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» .
(لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لولا أن تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، لطرح بالفضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولكن تداركته نعمة من ربه فاصطفاه وأوحى إليه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وجعله من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم، المنتهين عما نهاهم عنه.
ثم بيّن بالغ عداوتهم له، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر فقال:
(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا، حتى ليكادون يزلون قدمك فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله، حسدا لك وبغضا.
ويرى بعضهم أن المراد إنهم يكادون يصيبونك بالعين، وروى أنه كان فى بنى أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمه الله وأنزل عليه هذه الآية.(29/47)
وقد صح هذا الحديث من عدة طرق:
«إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» .
وروى أحمد عن أبى ذرّ مرفوعا: «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه» .
والأحاديث فى هذا الباب كثيرة، وعن الحسن: رقية العين هذه الآية.
وسر هذا أن من خصائص بعض النفوس أن تؤثر فى غيرها بوساطة العين، لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه، والله يخص ما شاء بما شاء.
وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس فى بعض بوساطة التنويم المغناطيسى الذي أصبح الآن فناله أساليب علمية لا يمكن إنكارها.
(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ويقولون لحيرتهم فى أمره، وجهلهم بما فى تضاعيف القرآن من عجائب الحكم، وبدائع العلوم: إنه لمجنون.
(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يقولون ما قالوا، وما هو إلا تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، أفيكون من أنزل عليه مثل هذا وهو مطلع على أسراره، محيط بجميع حقائقه خبرا، ممن ينطبق عليه مثل هذا الوصف الذي قالوه، أم يكون مثل هذا من أدل الدلائل على كمال الفضل والعقل؟
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ما تضمنته هذه السورة من موضوعات
(1) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .
(2) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» إلى قوله: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» .
(3) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (4) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.
(5) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ» إلخ.
(6) أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.(29/48)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
سورة الحاقة
هى مكية، وآيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد سورة الملك.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إنه وقع فى ن ذكر يوم القيامة مجملا، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم.
(2) إنه ذكر فيما قبلها من كذب بالقرآن وما توعده به، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل وما جرى عليهم، ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)(29/49)
شرح المفردات
الحاقة: من حق الشيء، إذا ثبت ووجب، أي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء وهى يوم القيامة، ما الحاقة: أي أىّ شىء هى؟ تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها، وما أدراك ما الحاقة: أي أىّ شىء أعلمك ما هى؟ فلا علم لك بحقيقتها، إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين، والقارعة: هى الحاقة التي تقرع قلوب الناس بالمخافة والأهوال، وتقرع الأجرام بالانفطار والانتشار، وسميت قارعة لشدة هولها، إذ القرع ضرب شىء بشىء، والطاغية: هى الواقعة التي جاوزت الحد فى الشدة والقوة كما قال «إنّا لمّا طغى الماء» أي جاوز الحد، والمراد بها الصاعقة، والصرصر:
الشديدة الصوت التي لها صرصرة، عانية: أي بالغة منتهى القوة والشدة، سخرها عليهم: أي سلطها عليهم، حسوما: أي متتابعة واحدها حاسم، والحسم: القطع والاستئصال وسمى السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريد من عداوته، وصرعى:
واحدهم صريع أي ميت، وأعجاز: واحدها عجز، وهو الأصل، وخاوية: أي خالية الأجواف لا شىء فيها، والباقية: البقاء، والمؤتفكات: أي المنقلبات وهى قرى قوم لوط، جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة، والخاطئة: الخطأ، رابية: من ربا الشيء إذا زاد أي الزائدة فى الشدة، وطغى الماء: تجاوز حده وارتفع، حملناكم: أي حملنا آباءكم وأنتم فى أصلابهم، والجارية: السفينة التي تجرى فى الماء، وتعيها: أي تحفظها، وتقول لكل ما حفظته فى نفسك: وعيته، وتقول لكل ما حفظته فى غير نفسك:
أوعيته فيقال أوعيت المتاع فى الوعاء قال: «والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد» .
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أن يوم القيامة حق لا شك فيه، وأن الأمم التي عصت رسلها وكذبتهم، أصابها الهلاك والاستئصال بألوان من العذاب، فثمود أهلكت بالصاعقة(29/50)
وعاد أهلكت بريح صرصر عانية سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، فصاروا صرعى كأنهم أصول نخل جوفاء، لم يبق منهم ديّار، ولا نافخ نار وكذلك أهلك فرعون وقومه بالغرق، وقوم لوط بالزلزال الشديد الذي قلب قراهم وجعل عاليها سافلها، وأهلك قوم نوح بالطوفان.
الإيضاح
(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ؟) هذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة فى الغرض الذي يساق له، فكأنه قيل: أي شىء هى فى حالها وصفتها؟ فهى لا تحيط بها العبارة، ولا يبلغ حقيقتها الوصف.
ثم زاد سبحانه فى تفظيع شأنها، وتفخيم أمرها، وتهويل حالها فقال:
(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) أي أىّ شىء أعلمك ما هى؟ فهى خارجة عن دائرة علوم المخلوقات، لعظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، فلا تبلغها دراية أحد ولا وهمه، فكيفما قدرت حالها، فهى فوق ذلك وأعظم.
قال سفيان بن عيينة: كل ما فى القرآن قال فيه: وما أدراك، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر به، وكل شىء قال فيه: وما يدريك، فإنه لم يخبر به.
ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها، وما حاق بها من العذاب فقال:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود وعاد بالقيامة التي تقرع الناس بالفزع والهول، والسماء بالانفجار، والأرض والجبال بالنسف، والنجوم بالطمس والانكدار.
ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب فقال:
(1) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما ثمود فأهلكهم الله بصيحة جاوزت الحد فى الشدة كما جاء فى هود «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» وهى الصاعقة التي جاءت فى حم السجدة، والرجفة والزلزلة التي جاءت فى سورة الأعراف، فلا تعارض(29/51)
بين الآيات، لأن الهلاك فى بعضها نسب إلى السبب القريب، وفى بعضها نسب إلى السبب البعيد.
(2) (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي وأما عاد فأهلكوا بريح مهلكة عتت عليهم بلا شفقة ولا رحمة، فما قدروا على الخلاص منها بحيلة: من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء فى حفرة، فقد كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم، وقد دامت سبع ليال وثمانية أيام بلا انقطاع ولا فتور.
ثم ذكر نتائجها فقال:
(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟) أي فترى قوم عاد فى تلك السبع الليالى والثمانية الأيام المتتابعة صرعى هالكين، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد، وجاء فى آية أخرى: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» .
(3) (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود والقرى التي ائتفكت بأهلها، وصار عاليها سافلها، بسبب خطيئتها ومعصيتها.
ثم بيّن هذه الخطيئة بقوله:
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفار، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم ونحو الآية قوله: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» .
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي إنا لما ارتفع الماء، وجاوز الحد،(29/52)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
وجاء الطوفان حملنا آباءكم من مؤمنى قوم نوح فى السفينة، لننجيهم من الغرق الذي عمّ هؤلاء الكافرين جميعا.
والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
ثم ذكر ما فى هذه النجاة من العبرة فقال:
(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً)
أي لنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عظة وعبرة، لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته، وسعة رحمته.
(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
أي وتفهمها أذن حافظة سامعة عن الله، فتنتفع بما سمعت من كتابه ولا تضيع العمل بما فيه.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ: «إنى دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علىّ» قال علىّ كرم الله وجهه: فما سمعت شيئا فنسيته، وما كان لى أن أنسى.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
شرح المفردات
نفخة واحدة: هى النفخة الأولى، حملت الأرض والجبال: أي رفعت من أه كنها، فد كتادكة واحدة: أي ضرب بعضها ببعض حتى اندقت وصارت كثيبا مهيلا، الواقعة: النازلة وهى يوم القيامة، انشقت السماء: أي فتحت أبوابا، واهية:
أي مسترخية ضعيفة القوة، من قولهم: وهى السقاء إذا انخرق، ومن أمثالهم قول الراجز:
خلّ سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه(29/53)
أرجائها: أي جوانبها، واحدها رجا، ثمانية: أي ثمانية أشخاص، خافية: أي سريرة.
المعنى الجملي
بعد أن قص هذه القصص الثلاثة، ونبّه بها على ثبوت القدرة والحكمة، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة- شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم وما يكون فيه من أهوال.
الإيضاح
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.
(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها، ولا ندرى كيف رفعت فذلك من أنباء الغيب، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما، أو أن ملكا يحملهما، أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب، فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة، وترتفع الأرض من حيّزها.
(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالهما، وصارتا كثيبا مهيلا، وهباء منبثا لا يتميز شىء من أجزائهما عن الآخر.
(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ تقوم القيامة.
(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء لأنها يومئذ ضعيفة المنّة كالعهن المنفوش، بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة.
(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة على جوانب السماء ينظرون إلى أهل(29/54)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
الأرض، ولا ندرى كيف ذلك، ولا الحكمة فيه، فندع تفصيل ذلك ونؤمن به كما جاء فى الكتاب ولا نزيد عليه.
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل عرش ربك حينئذ فوق رءوسهم ثمانية من الملائكة.
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي فيومئذ تحاسبون وتسألون، لا يخفى على الله شىء من أموركم، فإنه تعالى عليم بكل شىء، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، كما جاء فى آية أخرى: «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» .
وفى هذا تهديد شديد، وزجر عظيم، ومبالغة لا تخفى، وفضيحة للكافرين، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيا عليهم من أعمالهم، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم.
والتعبير بالعرض تشبيه بعرض السلطان لعسكره، ليعرف أحوالهم، وفى هذا العرض إقامة للحجة، ومبالغة فى إظهار العدل.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن مردويه عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف فى الأيدى، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» .
[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 24]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)(29/55)
شرح المفردات
هاؤم: أي خذوا، ظننت: أي علمت، ملاق: أي معاين، راضية: أي يرضى بها صاحبها، عالية: أي مرتفعة المكان، والقطوف: ما يجتنى من الثمر، واحدها قطف (بكسر القاف وسكون الطاء) دانية: أي قريبة، هنيئا: أي بلا تنغيص ولا كدر، أسلفتم: أي قدمتم، الخالية: أي الماضية.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم يعرضون على الله ولا يخفى عليه شىء من أعمالهم- فصل أحكام هذا العرض، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه: خذ كتابى واقرأه، لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من الله، ويقول:
إنى كنت أعلم أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، وإنى سأحاسب على ما أعمل، وحينئذ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية، ويقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم لأنفسكم فى الدنيا.
الإيضاح
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطى كتابه بيمينه فيقول: تعالوا اقرءوا كتابى فرحا به، لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما نال.
ثم ذكر العلة فى حسن حاله فقال:
(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي إنى فرح مسرور، لأنى علمت أن ربى سيحاسبنى حسابا يسيرا، وقد حاسبنى كذلك، فالله عند ظن عبده به.(29/56)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قال الضحاك: كل ظن فى القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شكّ وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك.
وقال الحسن فى الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل لها.
ثم بيّن عاقبة أمره فقال:
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدر مع دوامها وما فيها من إجلال وتعظيم.
ثم فصل ذلك فقال:
(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو يعيش فى بستان عال رفيع ذى ثمار دانية القطوف، يأخذها المرء كما يريد، إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له، وهو قائم وجالس أو مضطجع، وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت له.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتى- من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشربتها، أكلا وشربا هنيئا لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله، وثوابا على ما قدمتم فى دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)(29/57)
شرح المفردات
القاضية: أي القاطعة للحياة فلم أبعث بعدها، ما أغنى عنى ماليه: أي لم يغن عنى مالى الذي تركته فى الدنيا، هلك: أي بطل، والسلطان: الحجة، غلّوه: أي شدّوه بالأغلال، والغلّ: القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق، والجحيم: النار المتأججة المشتعلة، وصليته النار وأصليته: أي أوردته إياها، ذرعها: أي طولها، فاسلكوه: أي فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك: أي الحبل الذي يدخل فى ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب، إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلفّ عليه، ويقال سلكته الطريق: إذا أدخلته فيه، حميم: أي قريب مشفق، والغسلين: الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحوم أهل النار قاله ابن عباس،
وعن أبى سعيد الخدري مرفوعا: «لو أن دلوا من غسلين يهراق فى الدنيا لأنتن أهل الدنيا» أخرجه الحاكم وصححه،
والخاطئون: أي الآثمون يقال خطئ الرجل: إذا تعمد الإثم والخطأ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم، ثم بيّن حسن أحوالهم فى معايشهم ومساكنهم- أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود فى أعناقهم وأيديهم، وإعطائهم الغسلين طعاما، ثم أعقبه بذكر سبب هذا، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحثون على مساعدة ذوى الحاجة والبائسين.(29/58)
الإيضاح
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فإنه لما نظر فى صحيفة أعماله، وتذكر قبيح أفعاله، خجل منها وتمنى أن لو كان عذب فى النار ولم يخجل هذا الخجل.
وفى هذا إيماء إلى أن العذاب الروحاني أشد ألما من العذاب الجسماني.
(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ؟) أي ولم أعلم أىّ شىء حسابى الذي أحاسب به، إذ كله وبال ونكال.
(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة التي متها فى الدنيا كانت نهاية الحياة، لم أبعث بعدها ولم ألق ما أنا فيه من نكال وسوء منقلب.
قال قتادة: تمنّى الموت ولم يكن فى الدنيا عنده شىء أكره من الموت اهـ، وشر من الموت ما يطيب له الموت، قال شاعرهم:
وشرّ من الموت الذي إن لقيته ... تمنيت منه الموت والموت أعظم
(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم يدفع عنى مالى الذي كنت أملكه فى الدنيا من عذاب الله ولا من بأسه شيئا.
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهب ملكى وتسلطى على الناس، وبقيت فقيرا ذليلا، ومراده التحسر والندم، إذ كان ينازع المحقين بسبب الملك والسلطان، فالآن ذهب ذلك وبقي الوبال.
ثم ذكر سبحانه سوء منقلبه فقال:
(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي فيقال لزبانية جهنم: خذوه فضعوا الغلّ فى عنقه، ثم أدخلوه فى النار الموقدة لقاء كفره بالله واجتراحه عظيم الآثام.
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي ثم أدخلوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركا ولا انفلاتا.(29/59)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبعمائة، والمقصد إثبات أنها طويلة المدى.
ثم بيّن سبب استحقاق هذا العذاب فقال:
(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) أي افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله فى الدنيا وإشراكه به سواه، وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه.
(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة، فضلا عن بذل المال لهم.
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي فليس له يوم القيامة من ينقذه من عذاب الله تعالى، لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه ويهرب الحبيب من حبيبه.
وجاء فى آية أخرى: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» وقال: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» .
(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من لحوم أهل النار من الدم والصديد الذي لا يأكله إلا من مرن على اجتراح السيئات، ودسّى نفسه وأحاطت به الخطايا.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
شرح المفردات
ما تبصرون: هى المشاهدات، وما لا تبصرون: هى المغيبات.(29/60)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الدليل على إمكان القيامة، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء، والكافرين الأشقياء- أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول المنزل عليه هذا القرآن.
قال مقاتل: سبب نزول الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي أقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم، قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي إن هذا القرآن كلام الله ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
(وما هو بقول شاعر) لأن محمدا لا يحسن قول الشعر.
(قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) أي تؤمنون بذلك القرآن إيمانا قليلا، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلا، فالعرب تقول: قلما يأتينا، يريدون أنه لا يأتينا.
وقد يكون المراد بالقلة أنهم قد يؤمنون فى قلوبهم ثم يرجعون عنه سريعا.
(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس بقول كاهن كما تزعمون، لأنه سبّ الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون بإلهامهم، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه- قلتم: إنه من كلام الكهان.(29/61)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
ثم أكد ما تقدم بقوله:
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على رسوله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 52]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
شرح المفردات
التقوّل: الافتراء، وسمى بذلك لأنه قول متكلّف، والأقاويل: الأقوال المفتراة، واحدها قول على غير قياس، لأخذنا منه: أي لأمسكناه، باليمين: أي بيمينه، والوتين: عرق يخرج من القلب ويتصل بالرأس، حاجزين: أي ما نعين، حق اليقين: أي عين اليقين.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين، وليس بشعر ولا كهانة- أكد هذا بأن محمدا لا يستطيع أن يفتعله، إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته، وأمتنا دعوته، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله، ولا يصغى(29/62)
السامعون إلى كلامه كما قال: «وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» ولا يستطيع أحد بعدئذ أن يدافع عنه.
ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقى الله ويخشى عقابه، وإنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين، وإنه لحق لا ريب فيه.
ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه العظيم ويشكره على ما آتاه من النعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.
الإيضاح
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة ونسبها إلينا لعاجلناه بالعقوبة، وانتقمنا منه أشد الانتقام.
والأخذ باليمين يكون عند ضرب الرقبة وإزهاق الروح، وقد جرى ذكر هذا على التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه، بل يضربون رقبته على الفور.
(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الوتين: عرق غليظ تصادفه شفرة الناخر.
قال الشماخ ابن ضرار:
إذا بلّغتنى وحملت رحلى ... عرابة فاشرقى بدم الوتين
والمراد- أنه لو كذب علينا لأزهقنا روحه، فكان كمن قطع وتينه، وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، إذ يأخذه القتّال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.
(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي فما أحد منكم يمنعنا عن عقوبته، والتنكيل به.
وجمع «حاجِزِينَ» باعتبار أحد، إذ هو فى معنى الجماعة، ويقع على الواحد والجمع(29/63)
والمذكر والمؤنث كما جاء فى قوله: «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» وقوله:
«لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» .
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن هذا القرآن لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب الله فيطيع أوامره، وينتهى عما نهى عنه، وخص (المتقين) بالتذكرة والعظة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعى، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارا للعدل.
والخلاصة- إن منكم من اتقى الله فتذكر بهذا القرآن وانتفع به، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه.
وفى هذا وعيد شديد لا يخفى.
(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة عظيمة على الكافرين فى دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين، وفى الآخرة إذا رأوا ثواب المصدقين.
(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإنه للحق الذي لا شك فى أنه من عند الله لم يتقوّله محمد صلى الله عليه وسلم.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه، تنزيها له عن لرضا بالتقوّل عليه، وشكرا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
ما تضمنته هذه السورة الكريمة
تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد:
(1) هلاك الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا من أول السورة إلى قوله: «أُذُنٌ واعِيَةٌ»
(2) عذاب الآخرة جزاء على التكذيب فى الدنيا.
(3) إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله وليس بقول شاعر ولا كاهن.(29/64)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
سورة المعارج
هى مكية، وآياتها أربع وأربعون، نزلت بعد الحاقة، وهى كالتتمة لها فى وصف القيامة وعذاب النار.
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
شرح المفردات
سأل سائل: أي دعا داع، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، كما جاء فى قوله:
«يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ» ليس له دافع: أي إنه واقع لا محالة، والمعارج: واحدها معرج، وهو المصعد (أسّنسير) كما قال: «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ»(29/65)
والمراد بها النعم التي تكون درجات متفاضلة، تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة، والروح: هو جبريل عليه السلام، والمهل: دردىء الزيت، وهو ما يكون فى قعر الإناء منه، والعهن: الصوف المصبوغ ألوانا، والحميم: القريب، يبصرونهم: أي يبصر الأحماء الأحماء ويرونهم، يود: أي يتمنى، والمجرم: المذنب، وصاحبته: زوجته، وفصيلته: هى عشيرته، تؤويه: أي تضمه ويأوى إليها، كلّا: هى كلمة تفيد الزجر عما يطلب، لظى: هى النار، والشوى: واحدها شواة، وهى جلدة الرأس تنتزعها النار انتزاعا فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت عليه، تدعو: أي تجذب وتحضر، تولى:
أي أعرض عن الطاعة، جمع فأوعى: أي جمع المال فجعله فى وعاء.
المعنى الجملي
كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض: إن محمدا يخوّفنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ولمن هو؟ وكان النضر بن الحرث ومن لفّ لفّه يقولون إنكارا واستهزاء:
«اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة، سواء طلب أم لم يطلب، لأنه نازل بالكافرين فى الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، فلماذا هم يطلبونه استهزاء؟.
(مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه امتنع ألا يفعله، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، ودرجات متفاوتة.(29/66)
والخلاصة- إن العذاب الذي طلبه السائلون واستبطئوه واقع لا محالة، وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلا لحكمة، وهى وضعهم فى الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم، وما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب.
وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد، ومنها دركات، فليكن هؤلاء فى الدركات، وليكن المؤمنون والملائكة فى الدرجات طبقا عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة.
ثم بيّن مقدار ارتفاع تلك الدرجات فقال:
(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد فى تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقى فى ذلك الصعود خمسين ألف سنة، لكنهم يصعدون إليها فى الزمن القليل، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد، بل المقصد أن مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد، فهم فى المادة مغموسون، وهناك عوالم ألطف وألطف، درجات بعضها فوق بعض، وكل عالم ألطف مما قبله، وكلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة وهكذا: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» .
(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) أي إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحى، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول- فاصبر صبرا جميلا بلا جزع ولا شكوى، لأنه أمر محقق، وكل آت قريب.
ثم بيّن أن هذا اليوم آت لا شك فيه فقال:
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- بعيدا غير ممكن، ونحن نراه قريبا هيّنا غير بعيد علينا ولا متعذر.
ثم ذكر وقت حدوثه فقال:
(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي إن العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنها عكر الزيت، والمراد أنها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة.(29/67)
(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي وتكون الجبال هشّة غير متلاحمة كأنها الصوف المنفوش إذا طيرته الريح، روى عن الحسن: أنها تسير مع الرياح ثم تنهدّ، ثم تصير كالعهن، ثم تنهدّ فتصير هباء منثورا.
(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي ولا يسأل قريب مشفق قريبا عن حاله، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله كما جاء فى قوله: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقوله: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (يُبَصَّرُونَهُمْ) من قولك بصّرته بالشيء إذا أو ضحته له حتى يبصره، أي يتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض بعد ذلك ثم أرشد إلى هول ذلك اليوم فقال:
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فدية، لينجيه من ذلك العذاب، فيؤدّ لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها، أو أهل الأرض جميعا فداء له ليخلص من ذلك العذاب.
والخلاصة- يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعا فى قبضة يده ليبذلهم فدية عن نفسه، ثم ينجيه ذلك- هيهات.
(كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، أو بأعزّ ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبا، أو بولده الذي كان حشاشة كبده فى الدنيا، أو بزوجته وعشيرته.
(إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس وتفرقها، ثم تعود إلى ما كانت عليه وأنشدوا قول الأعشى:
قالت قتيلة ماله ... قد جلّلت شيبا شواته(29/68)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
وهذه النار تجذب إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدّر أنهم فى الدنيا يعلمون عملها، من بين أهل المحشر، فدسّوا أنفسهم إذ كذبوا بقلوبهم، وتركوا العمل بجوارحهم، وجمعوا المال بعضه على بعض وكنزوه ولم يؤدوا حق الله فيه، وتشاغلوا به عن فرائضه من أوامر ونواه.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
شرح المفردات
الهلع: سرعة الحزن عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم:
ناقة هلوع: إذا كانت سريعة السير. وسأل محمد بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال:
قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه- يعنى قوله:
«إِذا مَسَّهُ» الآية. والجزع: حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه،(29/69)
والخير: المال والغنى، حق معلوم: أي نصيب معين يوجبونه على أنفسهم تقرّبا إلى الله وإشفاقا على المحتاجين، المحروم: الفقير الذي لا يسأل الناس فيظن أنه غنىّ، يصدقون بيوم الدين: أي يصدقون به تصديقا يكون له الأثر فى نفوسهم، فيسخرونها ويسخرون أموالهم فى طاعة الله ومنفعة الناس، مشفقون: أي خائفون، حافظون: أي كافّون لها عن الحرام، راعون: أي لا يخلّون بشىء من حقوقها:
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية، والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار- أردف هذا بذكر المؤهّلات التي توصل إلى تلك المراتب وتبعد عن ظلمة المادة التي تدخل النفوس فى النار الموقدة التي تنزع الشوى، وبيّن أنها عشر خصال تفكّه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها، وعاداته التي ألفها وركن إليها، وهى ترجع إلى شيئين: الحرص، والجزع. وهذه الخصال هى:
(1) الصلاة.
(2) المداومة عليها فى أوقاتها المعلومة.
(3) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب، والخشوع للربّ، ومراعاة سننها وآدابها.
(4) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك فى نفسه اعتقادا وعملا (5) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين.
(6) مراعاة العهود والمواثيق.
(7) أداء الأمانات إلى أهلها.
(8) حفظ فروجهم عن الحرام.
(9) أداء الشهادة على وجهها.
(10) الخوف من عذاب الله.(29/70)
الإيضاح
(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الهلع، فهو قليل الصبر، شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ فى الشكاة والجزع، وإذا صار غنيّا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له، علما بأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما فى طلب السعادة الأخروية، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية:
(1) (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم، خليق بالمقت إلا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات فى أوقاتها، لا يشغلهم عنها شىء من الشواغل.
وفى هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة،
أخرج بن حبّان عن أبى سلمة قال: حدثتنى عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملّوا، قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه وإن قلّ، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها، وقرأ أبو سلمة: الذين هم على صلاتهم دائمون
(2) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين فى أموالهم نصيب معين لذوى الحاجات والبائسين، تقربا إلى الله وإشفاقا على خلقه، سواء سألوا واستجدوا، أو لم يسألوا تعففا منهم.
والمراد بهذا الحق المعلوم: ما يوظفه الرجل على نفسه، فيؤديه كل جمعة أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال، كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها(29/71)
ما يستدعى البذل لمصلحة هامة لها، كالدفاع عن عدو أو دفع مجاعة أو ضرورة بلحّة مفاجئة.
(3) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب، فيعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب وتظهر آثار ذلك فى أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه.
(4) (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي والذين هم خائفون وجلون من تركهم للواجبات، وإقدامهم على المحظورات، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرا من التقصير، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.
ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» وقوله: «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» .
ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا ينبغى لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ فى الطاعة، ومن ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيرى الخوف والوجل كما يشعر بذلك قول بعضهم: ليت أمي لم تلدنى. وقول آخر: ليتنى شجرة تعضد، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية.
(5) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) راجع تفسير هذا بتوسّع فى سورة المؤمنين (6) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا.
(7) (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند(29/72)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
الحكام، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، والشهادة من جملة الأمانات، وخصها بالذكر لعظم شأنها، إذ بها تحيا الحقوق، وبتركها تموت.
(8) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يحافظون على صلاتهم، ويراعون شرائطها، ويكملون فرائضها فيجتهدون قبل الدخول فيها فى تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله، مع حضور القلب حين القراءة، وفهم ما يتلى فيها من آي الذكر الحكيم.
ثم وعد هؤلاء بحسن المآل فقال:
(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال فى بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات، وإلى ذلك أشار الحديث «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)(29/73)
شرح المفردات
قبلك: أي فى الجهة التي تليك، مهطعين: أي مسرعين نحوك، مادّى أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، ليظفروا بما يجعلونه هزوا، وأنشدوا:
بمكة أهلها ولقد أراهم ... إليه مهطعين إلى السماع
عزين: أي فرقا شتى حلقا حلقا، قال عبيد بن الأبرص.
فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
واحدهم عزة، وأصلها عزوة، لأن كل فرقة تعتزى وتنتسب إلى غير من تعتزى إليه الأخرى، بمسبوقين: أي بمغلوبين، والأجداث: القبور، واحدها جدث، والسّراع: واحدهم سريع، والنصب (بضمتين) كل شىء منصوب كالعلم والراية وكذا ما ينصب للعبادة، وهو المراد هنا، ويوفضون: أي يسرعون، خاشعة أبصارهم:
أي ذليلة، ترهقهم: أي تغشاهم.
المعنى الجملي
بعد أن وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال- أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود، ثم توعدهم بالهلاك، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم، ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث، يوم يخرجون من قبورهم مسرعين كأنهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، (وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها) وهم فى هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة، وترهق وجوههم قترة، لما تحققوا من عذاب لا منجاة لهم منه، وقد أوعدوه فى الدنيا فكذبوا به.(29/74)
روى: أنه عليه السلام كان يصلى عند الكعبة ويقرأ القرآن، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّ قبلهم، فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فما بالهم يسرعون إليك، ويجلسون حواليك، عن يمينك وعن شمالك، جماعات متفرقة، نافرين منك، لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه، ونصحه وإرشاده، وما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
ونحو الآية قوله: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .
أخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون، فقال: «مالى أراكم عزين، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الاول ويتراصّون فى الصف»
وقد كانت عادتهم فى الجاهلية أن يجلسوا حلقا مجتمعين.
قال شاعرهم:
ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقا عزينا
ثم أيأسهم من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يستمعون القول فيتبعون أحسنه فقال:
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ كَلَّا) أي أيطمع هؤلاء وهم نافرون من الرسول صلى الله عليه وسلم، معرضون عن سماع الحق- أن يدخلوا جنتى كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا؟ كلا لا مطمع لهم فى ذلك مع ما هم عليه.(29/75)
ثم ذكر السبب فى تيئيسهم منها فقال:
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.
ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم فقال:
(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي أقسم برب الكواكب ومشارقها ومغاربها، إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا ذلك، لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم.
والخلاصة- إن هؤلاء المشركين فى تناقض واضطراب فى الرأى، فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون فى دخول الجنة، وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أوّلا مما يعلمون، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيا.
وفى هذا تهكم بهم وتنبيه إلى تناقضهم فى كلامهم، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل فى العقل، ومجانفة لصواب الرأى.
ثم سلّى رسوله عما يقولون ويفعلون فقال:
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي دعهم فى تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم، ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء، يوم تجزى كل نفس بما عملت، لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم فصل أحوالهم فى هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب- سراعا(29/76)
يسابق بعضهم بعضا، كما كانوا فى الدنيا يهرولون إلى النّصب إذا عاينوه يبتدرون أيهم يستلمه قبل- مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب، تعلو وجوههم القترة، لما أصابهم من الكآبة والحزن.
ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه، كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة فقال:
(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا فى الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.
خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد:
(1) وصف يوم القيامة وأهواله.
(2) وصف النار وعذابها.
(3) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج، ويخرج من عالم المادة.
(4) وعيد الكافرين على ما يلاقونه فى ذلك اليوم.(29/77)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
سورة نوح
هى مكية، وعدد آيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة النحل.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) أنه قال فى السورة السابقة: «إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم إلا من قد آمن، وإبدالهم بمن هم خير منهم، فكأنها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى.
(2) تواخى مطلع السورتين فى ذكر العذاب الموعود به الكفار.
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه أرسل نوحا إلى قومه وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم، فقال نوح: يا قوم إنى نذير لكم، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه، فإن فعلتم ذلك غفر لكم ذنوبكم ومدّ فى أعماركم، ودرأ عنكم العذاب، وأمر الله إذا جاء لا يردّ ولا يدفع، فهو العظيم الذي قهر كل شىء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.(29/78)
الإيضاح
(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه وقلنا له: أنذرهم بأس الله وعذابه، قبل أن يغرقهم الطوفان.
ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر.
(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قال نوح لقومه: إنى أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به.
ثم فصل ما أنذرهم به، فذكر ثلاثة أشياء:
(1) (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي آمركم بعبادة الله وحده، والأمر بذلك يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح.
(2) (وَاتَّقُوهُ) أي وآمركم بتقواه وخوف عذابه، بأن تتركوا محارمه، وتحتنبوا مآثمه.
(3) (وَأَطِيعُونِ) أي وانتهوا إلى ما آمركم به واقبلوا نصيحتى لكم.
ولما كلفهم بهذه الثلاثة الأشياء وعدهم عليها بشيئين:
(1) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما أمركم به، وصدقتم ما أرسلت به إليكم- غفر لكم ذنوبكم وسامحكم فيما فرط منكم من الزلات.
وفى هذا وعد لهم بإزالة مضار الآخرة عنهم، وأمنهم من مخاوفها.
(2) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويمدّ فى أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدره لهم، على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان.
واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها فى العمر(29/79)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
حقيقة كما
جاء فى الحديث: «صلة الرحم تزيد فى العمر»
ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر، إذ طهارة الأرواح، ونقاء الأشباح تطيل العمر، فبها يحفظ الأمن، وتكتسب الفضائل، وتجتلب المنافع المادية.
والخلاصة- إن الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري وعبارته: فقد قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا: يؤخركم إلى أجل مسمى، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه، وهو الوقت الأطول، وهو تمام الألف اه.
ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول فلا بد من الموت فقال:
(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن أجل الله الذي كتبه على خلقه فى أم الكتاب إذا جاء لا يؤخر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم، لكنكم لستم من أهله، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به.
وفى قوله لو كنتم تعلمون: زجر لهم عن حب الدنيا والتهالك عليها، والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه، وكأنهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكون فى الموت.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)(29/80)
شرح المفردات
ليلا ونهارا: أي دائما، جعلوا أصابعهم فى آذانهم: أي سدوا مسامعهم، استغشوا ثيابهم: أي تغطوا بها لئلا يرونى كراهة النظر إلىّ، السماء: أي المطر كما جاء فى قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... فحلّوا حيثما نزل السماء
مدرارا: أي متتابعا، جنات: أي بساتين، ترجون: أي تخافون، وقارا:
أي عظمة وإجلالا، أطوارا: واحدها طور وهو الحال والهيئة، فطورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما، ثم تنشأ خلقا آخر، طباقا: أي بعضها فوق بعض، بساطا: أي منبسطة تتقلبون فيها، فجاجا: أي واسعة، واحدها فج، وهو الطريق الواسع قاله الفراء وغيره.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن نوحا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم، وعظيم بطشه، وأنه لبّى نداءه، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته، ليغفر ذنوبهم، ويمدّ فى أعمارهم- أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه، أنه أنذرهم بما امره به، فعصوه وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده، ولم يزدهم دعاؤه إلا إدبارا عنه، وهربا منه، وأنه كان يدعوهم تارة جهرة، وتارة سرّا، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم(29/81)
مغفرة ذنوبهم، ليرسل المطر عليهم، ويمدهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم الجنات والأنهار، ثم نبههم إلى عظمته تعالى، وواسع قدرته، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارا، وخلقه للسموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، وجعل الأرض كالبساط يتنقلون فيها من واد إلى واد، ومن قطر إلى قطر.
الإيضاح
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي قال رب إنى أنذرت قومى ولم أترك دعاءهم فى ليل ولا نهار امتثالا لأمرك، وكلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه، وحادوا عنه.
ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم تدل على الفظاظة وجفاء الطبع فقال:
(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي وإنى كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك، والعمل لطاعتك، والبراءة من عبادة كل ما سواك، لتغفر لهم ذنوبهم- سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائى، وتغطّوا بثيابهم كراهة النظر إلىّ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.
ثم بين أنه ما ترك وسيلة فى الدعوة إلا فعلها فقال:
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي ثم إنى كنت أسرّ لهم بالدعوة تارة، وأجهر لهم بها تارة أخرى، وطورا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار.
والخلاصة- إنه عليه الصلاة والسلام لم يترك سبيلا للدعوة إلا فعلها، فاستعمل طرقا ثلاثة:
(1) بدأهم بالمناصحة فى السر، فعاملوه بما ذكر فى الآية من سدّ الآذان(29/82)
والاستغشاء بالثياب، والإصرار على الكفر، والاستعظام عن سماع الدعوة.
(2) جاهرهم بالدعوة، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه.
(3) جمع بين الإعلان والإسرار.
ثم بين ما كان يقول لهم فقال:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحدوه وأخلصوا له العبادة.
(إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لذنوب من أناب إليه وتاب منها، متى صدقت العزيمة، وخلصت النية، وصحت التوبة، فضلا منه وجودا، وإن كانت كزيد البحر.
ولما كان الإنسان مجبولا على محبة الخيرات العاجلة كما قال: «وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» لا جرم أعلمهم أن إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحظ الأوفر فى الآخرة، الخصب والغنى وكثرة الأولاد فى الدنيا، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء:
(1) (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا، فتزرعون ما تحبون، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم فى معاشكم، من حبوب وثمار، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون، مما هو سبب السعادة والهدى.
(2) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) أي ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها.
(3) (وَبَنِينَ) أي ويكثر لكم الأولاد فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر فى أمة إلا إذا استتب فيها الأمن، وارتفع منها الظلم، وساد العدل بين الأفراد، وتوافرت لهم وسائل الرزق.
وأصدق شاهد على هذا الأمة المصرية، فقد كانت فى عصر المماليك فى القرن السابع عشر الميلادى، أيام الظلم والعسف والجبروت، فى فقر وضنك، وسلب ونهب، فتدهور عدد سكانها حتى بلغ الثلاثة الملايين.(29/83)
ولما اعتلى عرش مصر «محمد على» رأس الأسرة المالكة فى مصر فى أوائل القرن الثامن عشر، وساس البلاد بحكمته، وسعى جهد طاقته فى تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم، تكاثر النسل وما زال يزيد، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده فى عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا.
(4) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون، ولن يطمع الناس فى الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات، وكثرت الغلات.
(5) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله.
لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع، يعمها الرخاء، وتسعد فى حياتها الدنيوية.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر وقلّة النسل فقال له: استغفر الله، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه. فقال له:
استغفر الله، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من نفسى شيئا، إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» الآية.
وبعد أن أدّبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق، شرع يؤدبهم الأدب العلمي بدراسة علم التشريح، وعلم النفس، ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفلية فقال:
(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي مالكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة، فكنتم نطفة فى الأرحام، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسا عظامكم لحما، ثم أنشأكم خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.(29/84)
وقد ذكرت هذه الأطوار فى سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما.
وبعد أن ذكر النظر فى الأنفس أتبعه بالنظر فى العالم العلوي والسفلى فقال:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض، وجعل للقمر بروجا ومنازل وفاوت نوره، فجعله يزداد حينا حتى يتناهى، ثم يبتدئ ينقص حتى يستسر ليدل ذلك على مضىّ الشهور والأعوام، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل.
ونحو الآية قوله: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي والله أنبت أباكم آدم من الأرض كما قال:
«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» .
وقد يكون المعنى- إنه أنبت كل البشر من الأرض، لأنه خلقهم من النطف وهى متوالدة من الأغذية المتوالدة من النبات المتوالد من الأرض.
وجعلهم نباتا لأنهم ينمون كما ينمو النبات ويلدون ويموتون، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات: وعروقهم المتشعبة فى الجسم والتي يجرى فيها الدم وينتشر فى الأطراف، تشبه ما فى الشجر، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات، فمنه الحلو والمرّ والطيب والخبيث، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات، فلكل امرئ خاصة كما لكل نوع من النبات خاصة.
(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي ثم يعيدكم فى الأرض كما كنتم ترابا، ويخرجكم منها متى شاء أحياء كما كنتم بشرا.(29/85)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
ثم أخذ يعدد النعم التي أعدها للإنسان فى الأرض، وذكر أن الأرض مهيأة مسخرة لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلب عليه كما يشاء، ويظهر مواهبه لاستخراج ما فى بطنها من المعادن المختلفة، وخيراتها المنوعة فقال:
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي والله بسط لكم الأرض ومهّدها، وثبتها بالجبال الراسيات.
ثم بين حكمة هذا فقال:
(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) أي لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها، أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة.
وقصارى ما سلف- إن نوحا عليه السلام أمر قومه بالنظر فى علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار.
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 24]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
شرح المفردات
الخسار: الخسران، كبارا: أي كبيرا عظيما، لا تذرنّ: أي لا تتركنّ، ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر: أسماء أصنام كانوا يعبدونها:
المعنى الجملي
أخبر عن نوح أنه أعلم ربه وهو العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أنه مع ما استعمله من الوسائل والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورا والترهيب طورا(29/86)
آخر- كذبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه، ومتّع بمال وولد وقالوا: لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل، ولا عجب فقد أضلت الأصنام خلقا كثيرا، فدعا عليهم: رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزدهم إلا ضلالا.
الإيضاح
(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي قال نوح: رب إنهم عصونى فيما أمرتهم به، وأنكروا ما دعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم، واغتروا بأولادهم، فكان ذلك زيادة فى خسرانهم وخروجا عن محجة الصواب، وبعدا من رحمة الله.
(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي مكرا كبيرا، فاحتالوا فى الدين، وصدّوا الناس عنه بأساليب شتى، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام.
(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) أي وقال بعضهم لبعض: لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا رب نوح، ولا سيما هذه الأصنام التي هى أكبر المعبودات وأعظمها.
وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب فيما بعد. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت هذه الأوثان فى العرب بعد فكان:
ودّ: لكلب.
سواع: لهذيل.
يغوث: لغطيف بالجرف عند سبأ يعوق: لهمدان.
نسر: لحمير آل ذى الكلاع.
وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين:(29/87)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
اللات: لثقيف بالطائف.
العزّى: لسليم وغطفان وجشم.
مناة: لخزاعة بقديد.
أساف: لأهل مكة.
نائلة: « «هبل: « «وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة.
وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم، بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء وسموا بها أصنامهم.
(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي وقد ضل بعبادة هذه الأصنام التي استحدثت على صور هؤلاء النفر، كثير من الناس، فقد استمرت عبادتها قرونا كثيرة كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام فى دعائه: «واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام. ربّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس» .
ثم دعا على قومه لتمردهم وعنادهم فقال:
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالا وطبعا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حق، ولا يصلوا إلى رشد.
وقصارى ما قاله عليه الصلاة والسلام- أن دعا عليهم بالخذلان، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء فى قوله: «رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» .
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)(29/88)
شرح المفردات
مما خطيئاتهم: أي من أجل ذنوبهم وآثامهم، أغرقوا: أي بالطوفان، نارا:
أي عذابا فى القبر، ديّارا: أي أحدا، تبارا. أي هلاكا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة نوح وشكواه إليه- أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم، ثم أخبر بدعاء نوح على قومه، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة، ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا على قومه بالتبار والهلاك.
الإيضاح
(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذبهم فى قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارا ولا أعوانا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضلّ سعيهم، وخاب فألهم.
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي وقال نوح رب لا تدع على وجه الأرض منهم أحدا.(29/89)
ثم بيّن علة هذا الدعاء بشيئين:
(1) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين آمنوا بك.
(2) (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي وإنهم لا يلدون إلا الكفرة الفجرة.
وقد كان دعاؤه عليهم بعد حبرته لهم، وتمرّسه بأحوالهم، ومكثه بين ظهرانيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
روى أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إليه ويقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبى أوصانى بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك.
وبعد أن دعا على الكفار، دعا لنفسه ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة فقال.
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي رب استر على ذنوبى وعلى والدىّ وعلى من دخل مسجدى ومصلاى مصدقا بنبوّتى وبما فرضته علىّ، وعلى المصدّقين بوحدانيتك، والمصدقات بذلك من كل أمة إلى يوم القيامة.
ثم أعاد الدعاء على الكافرين مرة أخرى لغيظه منهم فقال:
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك إلا خسرانا وبعدا من رحمتك.
وصلّ ربنا على محمد وآله، واغفر لي ولوالدىّ وللمؤمنين والمؤمنات.(29/90)
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت:
(ا) طلب تركهم للذنوب، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين.
(ب) النظر فى خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.
(ح) النظر فى خلق الإنسان وأنه بخلق فى الأرض كما يخلق النبات، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء.
(2) كفر قومه وعقابهم فى الدنيا والآخرة:(29/91)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
سورة الجن
هى مكية، وآيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة الأعراف.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(1) أنه جاء فى السورة السابقة: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» وجاء فى هذه السورة: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» .
(2) أنه ذكر فى هذه السورة شىء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها.
(3) أنه ذكر عذاب من يعصى الله فى قوله: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» وذكر هناك مثله فى قوله: «أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً» .
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)(29/92)
شرح المفردات
النفر: ما بين الثلاثة والعشرة، والجن: واحدهم جنىّ كروم ورومى، عجبا:
أي عجيبا بديعا مباينا لكلام الناس فى حسن النظم ودقة المعنى، والجد: العظمة يقال جدّ فلان فى عينى: أي عظم، قال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا: أي جلّ قدره وعظم، والسفيه: الجاهل، شططا: أي غلوّا فى الكذب بنسبة الصاحبة والولد إليه، يعوذون: أي يلتجئون، وكان الرجل إذا أمسى يقفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، رهقا: أي تكبّرا، وأصل الرهق: الإثم وغشيان المحارم
المعنى الجملي
اعلم أن الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت وبما هو ألطف من ذلك كالنور، كما سمى ببعض الأنبياء، كيوسف ويونس وهود، وببعض الأخلاق كالتوبة، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى، وببعض المعادن كالحديد، وببعض الأماكن كالبلد، وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف فى الإسلام إلا من طريق الوحى، وليس للعقل دليل عليه ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الأرواح، ويطلعون على غوامض هذه العوالم، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، واتصل العالم الإنسى بالعالم الجنى، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة وقد خطب السير أو ليفرلوذج من أشهر علماء الطبيعة فى هذا العصر،(29/93)
فى بلاد الإنكليز فى مجمع من كبار العلماء قال: إنه حادث الأموات، وإن هناك عقولا أسمى من عقولنا فى عالم الأرواح، وإنهم يهتمون بنا، وإن إخوانى من رجال الجماعة الروحية الذين ماتوا- كلمتهم بعد موتهم، وبرهنوا بأدلة قاطعة أنهم هم الذين يكلموننى، وقال: إن كل ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله فهو حق بلا تأويل.
وجاء فى كتاب «إخوان الصفا» إن أرواح الأحياء بعد الموت هم الموسوسون إن كانوا أشرارا، وهم الملهمون الناس الخير إن كانوا أخيارا.
وقال شير محمد الهندي فى كتابه فى المجلس السابع: لقد جمعت بين ما جاء به الدين الإسلامى والكشف الحديث كقولهم: إن كل علم وكل خير وشر حاصل فى الأفئدة منشؤه الأرواح الفاضلة والأرواح الناقصة، وهو بعينه ما
جاء فى الحديث: «فى القلب لمّتان لمّة من الملك ولمّة من الشيطان»
وهذا مصداق لقوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» . والعجب أن الفرنجة يكشفون هذا ولا يعلمون أنه مصداق دين الإسلام اه.
واعلم أن ما جاء فى هذه السورة من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل قد بقي فى الإسلام حوالى أربعة عشر قرنا تتلقاه الأمة بالقبول جيلا بعد جيل دون بحث عن حقائقه حتى عنى علماء أوربا فى العصر الحديث بالبحث عنه، فظهر لهم أن الأرواح الناقصة تسمع كلام الناس وتهتدى به، وأنها لا تعرف ما فوق طاقتها، فلا تهتدى بهدى الأرواح العالية فالنبىّ صلى الله عليه وسلم مثلا قد ارتقى فى العلم إلى حد لا يمكن الأرواح الناقصة أن تتعلم منه فما أشبه حالهم بحال الجهال الذين يسمعون من أبنائهم المتعلمين العلم ولا يفهمونه، وما مثل حال الأرواح الناقصة بعد الموت إلا مثل حالها المشاهدة فى الدنيا، فإنا نرى الجهال لا يجلسون فى مجالس العلم إلا قليلا حين يتنزل العلماء لإصلاح حالهم، ولا يظهر لهم إلا القليل من ثمرات العلم، فهم فى الحياة الدنيا ممنوعون من السمع، وقد يشتد المنع إذا كان فى السماع مفسدة(29/94)
كمعرفة الأسرار الحربية، والخطط السياسية التي ينبغى أن تبقى سرا مكتوما بين الدول، وهذا المنع الذي نشاهده أشبه بالمنع من استراق السمع، لأنه إنما كان لحفظ الدرجات، وهى المعارج لأربابها.
الإيضاح
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أمر الله رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن، لما فى علمه من فوائد ومنافع للناس، منها:
(1) أن يعلموا أنه كما بعث عليه الصلاة والسلام إلى الإنس فقد بعث إلى الجن.
(2) أن يعلموا أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
(3) أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس.
(4) أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
(5) أن تعلم قريش أن الجن على تمردها لما استمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به.
وظاهر الآية يدل على أنه عليه الصلاة والسلام علم استماعهم له بالوحى لا بالمشاهدة
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس، ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب، فقالوا: ما ذاك إلا لشىء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ من ذهب منهم إلى تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى الفجر بأصحابه بنخلة، فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إلخ، فأنزل الله عليه: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ» الآيات، وقد كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقد حكى الله عن الجن أشياء:(29/95)
(1) (فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء فى قولهم: «فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ»
إنا سمعنا كتابا بديعا يهدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فصدقنا به، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك بالله.
(2) (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله نزهوا ربهم عن الزوجة والولد، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها، ولأنها من جنس الزوج كما قال: «خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» ، والولد للتكثر والاستئناس به، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة كما قال:
وكم أب علا بابن ذر اشرف ... كما علت برسول الله عدنان
والله سبحانه منزه عن ذلك، تعالى ربّنا علوا كبيرا.
والخلاصة- علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين يضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد.
(3) (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً) أي وإن الجهال من الجن كانوا يقولون قولا بعيدا عن الصواب، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.
(4) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي وأنا كنا نظن أن لن يكذب أحد على الله تعالى، فينسب إليه الصاحبة والولد، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين، وهذا منهم بإقرار بأنهم إنما وقعوا فى تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها الاستدلال والبحث.
(5) (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى الفقر برجال من الجن، فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا، بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم.(29/96)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
وخلاصة ذلك- أنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله، استذلوهم واجترءوا عليهم وزادوهم ظلما.
(6) (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده، والإيمان برسله واليوم الآخر.
[سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 17]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
شرح المفردات
لمسنا السماء: أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا، والحرس والحرس، واحدهم حارس، وهو الرقيب، شديدا: أي قويا، والسمع: الاستماع، والشهب:
واحدها شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، رصدا: أي أرصد له ليرمى به(29/97)
رشدا: أي خيرا وصلاحا، قددا: أي جماعات متفرقة وفرقا شتى، ويقال صار القوم قددا: إذا تفرقت أحوالهم، واحدها قدّة وهى القطعة من الشيء، هربا: أي هاربين إلى السماء، والمراد بالهدى القرآن، والبخس: النقص، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم، القاسطون: أي الجائرون العادلون عن الحق، تحرّوا رشدا: أي قصدوا طريق الحق، حطبا: أي وقودا للنار، والطريقة: هى طريق الإسلام، غدقا: أي كثيرا، يسلكه: أي يدخله، صعدا: أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه، يقال فلان فى صعد من أمره: أي فى مشقة، ومنه قول عمر: ما تصعّدنى شىء كما تصعّدنى فى خطبة النكاح، أي ما شقّ علىّ، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون فى الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة، فكان يشق عليه أن يقول الصدق فى وجه الخاطب وعشيرته.
الإيضاح
(7) (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث فى الأرض.(29/98)
(8) (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب، لنسترق السمع، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق، فكان ذلك من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز.
(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يهلكه ويمحقه.
وإنا لنؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب.
ويرى قوم أن مقاعد السمع هى مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن فى صدور الناس، ليصدوهم عن اتباع الحق، والحرس: هى الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها فى الأنفس والآفاق.
وعلى هذا يكون المعنى: إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها فى صدور الزائفين، ويحوكونها فى قلوب الضالين، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه، فمن يكفر فى إلقاء الشكوك والأوهام فى نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها.
(9) (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين:
(ا) إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة.
(ب) وإما لنبىّ مرشد مصلح.(29/99)
وكأنهم يقولون: أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟.
(10) (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا قوم دون ذلك، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هى الحال فى الإنس.
(11) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأنا علمنا أن لن نعجز الله فى الأرض أينما كنا فى أقطارها، ولن نعجزه هربا إن طلبنا، فلا نفوته بحال.
والخلاصة- إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا.
(12) (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة.
وقصارى ذلك- أنه ينال جزاءه وافرا كاملا.
(13) (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان بالله وطاعته، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة، وقصد ما ينجيه من العذاب.
ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا:
َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
أي وأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم، كما توقد بكفرة الإنس، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله: «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» .(29/100)
وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم فى الدنيا.
وإنما خص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة، ولندرة وجوده بين العرب، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» على تفسير الكوثر بالنهر الجاري، ونحو الآية قوله: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» .
وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم، وتكون الناس سواسية فى نيل الحقوق، فلا ظلم ولا إرهاق، ولا محاباة ولا رشا فى الأحكام.
ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال:
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم، فإن وفّوها حقها كان لهم منى الجزاء الأوفى، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» .
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه- يدخله فى العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه، ولا يطيق له حملا.(29/101)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 24]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
شرح المفردات
المساجد: واحدها مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين، فلا تدعوا: أي فلا تعبدوا، يدعوه: أي يعبده، لبدا: (بكسر اللام وفتح الباء) أي جماعات، واحدها لبدة، والمراد متراكمين متزاحمين، ولا رشدا: أي ولا نفعا، ملتحدا: أي ملجأ يركن إليه، قال:
يا لهف نفسى ونفسى غير مجدية ... عنّى وما من قضاء الله ملتحد
بلاغا من الله: أي تبليغا لرسالاته.
الإيضاح
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) أي قل أوحى إلىّ أنه استمع نفر من الجن، وأن المساجد لله فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ولا تشركوا به فيها شيئا.
وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى لهم، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد.(29/102)
وقال الحسن: المراد بالمساجد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعدّ لذلك أم لا، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.
وكأنه أخذ ذلك مما
فى الحديث الصحيح «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» .
(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي ولما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا، إذ رأوا عالم يروا مثله، ولا سمعوا مثل ما سمعوا.
وقال الحسن وقتادة: إنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله وحده مخالفا للمشركين فى عبادتهم الأوثان- كاد الكفار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات.
قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا، فأنزل الله:
(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل لأولئك الذين كادوا يكونون عليك لبدا: إنما أعبد الله ربى ولا أشرك به فى العبادة أحدا، وذلك ليس ببدع ولا مستنكر يوجب العجب والإطباق على عداوتى.
ثم بيّن أنه لا يملك من الأمر شيئا، فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم فقال:
(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إنى لا أملك لكم ضرا فى دينكم ولا دنياكم، ولا نفعا أجلبه لكم، وإنما الذي يملك ذلك كله هو الله الذي له ملك كل شىء، وهو القادر على ذلك وحده وكأنه عليه السلام أمر أن يقول: ما أردت إلا نفعكم فقابلتمونى بالإساءة، وليس فى استطاعتي النفع الذي أردت، ولا الضر الذي أكافئكم به، إنما ذان لله.(29/103)
وفى هذا تهديد عظيم لهم وتوكل على الله عز وجل وأنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه ويجزيهم بسوء صنيعهم، وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه.
ثم بيّن عجزه عن شئون نفسه بعد عجزه عن شئون غيره فقال:
(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل: إنى لن يجيرنى من الله أحد من خلقه إن أراد بي سوءا، ولن ينصرنى منه ناصر، ولا أجد من دونه ملجأ ولا معينا، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارنى.
والخلاصة- إنى لن يجيرنى من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته.
وبعدئذ بيّن جزاء العاصين لله ورسوله فقال:
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ومن يعص الله فيما أمر به، ونهى عنه، ويكذب برسوله فإن له نارا يصلاها ما كثا فيها أبدا إلى غير نهاية، ولا محيد عنها ولا خروج منها.
ثم سلى رسوله وسرّى عنه وعيّرهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطنة، وقلّة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء، بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء فقال.
(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي ولا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم، حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب فيستبين لهم من المستضعفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى، أم المشركون الذين لا ناصر لهم ولا معين؟.
وقصارى ذلك- إن المشركين لا ناصر لهم، وهم أقلّ عددا من جنود الله عزّ وجل.
ونظير الآية قوله: «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ» .(29/104)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
المعنى الجملي
أمر سبحانه رسوله أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدرى أقريب وقتها أم بعيد، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب إلا إذا أعلمه الله به، وهو سبحانه يعلم أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، ويعلم جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا.
قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» إلى آخر الآيات.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ؟ أمر الله رسوله أن يقول للناس: إن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن وقتها غير معلوم، ولا يدرى أقريب أم يجعل له ربى أمدا بعيدا؟
وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها،
«ولما تبدى له جبريل فى صورة أعرابى كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرنى عن الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابى بصوت جهورىّ فقال «يا محمد متى الساعة؟ قال ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟ قال أما إنى لم أعدّ لها(29/105)
كثير صلاة ولا صيام، ولكنى أحب الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشىء فرحهم بهذا الحديث.
(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه، وهذا لا يعلم به أحد إلا من ارتضى من الرسل صلوات الله عليهم، فإنه يطلعهم على ما شاء منه.
ونحو الآية قوله: «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ» .
وفى الآية إيماء إلى إبطال الكهانة والتنجيم والسحر، لأن أصحابها أبعد الناس عن الارتضاء وأدخلهم فى السخط وإلى أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بالقرآن، وفيها أيضا إبطال للكرامات، لأن من تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا رسلا، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب.
وقال الرازي: المراد أنه لا يطلع على غيبه المخصوص وهو قيام الساعة، والذي يدل على ذلك أمور:
(1) أن أرباب الأديان والملل مطبقون على صحة علم التعبير وتفسير الرؤيا، وأن المعبّر قد يخبر عن الوقائع الآتية فى المستقبل ويكون صادقا فيها.
(2) أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن أحوال آتية، ذكرت أشياء ثم وقعت وفق كلامها.
(3) أنا نشاهد فى أصحاب الإلهامات الصادقة (وليس ذلك مختصا بالأولياء بل قد يكون فى السحرة) من يكون صادقا فى كثير من أخباره، وكذلك الأحكام النجومية قد تكون مطابقة موافقة لما سيكون فى كثير من الأحيان، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن فى القرآن الكريم، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا اه بتصرف.(29/106)
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) الرصد القوم يرصدون كالحرس، والراصد للشىء الراقب له، والترصد الترقب، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة أي فإنه يسلك من بين يدى من ارتضى من رسله، ومن خلفهم حفظة من الملائكة يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحى به إليهم، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرونهم.
وعن الضحاك: ما بعث نبى إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك، فإذا جاء شيطان فى صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك.
والخلاصة- أنه يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم.
ثم علل هذا الحفظ بقوله:
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحى، ليعلم أن قد أبلغوا هذه الرسالات والمراد ليعلم الله ذلك منهم علم وقوع فى الخارج كما جاء نحو هذا فى قوله:
«وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» .
(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي وهو سبحانه قد أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، وأحصى ما كان وما سيكون فردا فردا، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتم وجه، فلا يشاركه فى ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم.
والخلاصة- أن الرسول المرتضى يعلمه الله بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلى، فأين علم الوسائط من علمه؟(29/107)
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى القفر برجال من الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا، وأن الجن لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.
(2) ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الخلق، ككونه لا يشرك بربه أحدا، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده.(29/108)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
سورة المزمل
هى مكية إلا قوله تعالى: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» . وقوله: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» إلى آخر السورة فمدنية.
وعدد آيها عشرون نزلت بعد سورة القلم.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) أنه سبحانه ختم سورة الجن بذكر الرسل عليهم السلام، وافتتح هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه السلام.
(2) أنه قال فى السورة السالفة: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ» وقال فى هذه: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» .
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)(29/109)
شرح المفردات
المزمل: أصله المتزمل من قولهم تزمل بثيابه إذا تلفف بها، ورتل القرآن:
أي اقرأه على تؤدة وتمهل مع تبيين حروفه، يقال ثغر رتل (بسكون التاء وكسرها) :
إذا كان مفلجا لا تتصل أسنانه بعضها ببعض، سنلقى عليك: أي سنوحى إليك، قولا ثقيلا: المراد به القرآن لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين عامة وعلى الرسول خاصة، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته، ناشئة الليل: هى النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة: أي تنهض وترتفع من قولهم نشأت السحابة إذا ارتفعت وطأ: أي مواطأة وموافقة من قولهم واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه ومنه قوله تعالى: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» أي ليوافقوا، أقوم قليلا: أي أثبت قراءة، لحضور القلب وهدوء الأصوات، سبحا طويلا: أي تقلبا وتصرفا فى مهامّ أمورك، واشتغالا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة، فعليكها فى الليل، وأصل السبح: السير السريع فى الماء، واذكر اسم ربك: أي ودم على ذكره ليلا ونهارا، وتبتل إليه تبتيلا: أي انقطع عن كل شىء إلى أمر الله وطاعته، واتخذه وكيلا: أي وفوض كل أمر إليه.
المعنى الجملي
قال ابن عباس: أول ما جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم خافه وظن أن به مسّا من الجن، فرجع من الجبل مرتعدا وقال: زمّلونى زمّلونى، فبينا هو كذلك إذ جاءه جبريل وناداه. «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ»
ثم أمره بترتيل القرآن وقراءته بتؤدة وتأنّ، ثم أخبره بأنه سيلقى عليه قرآنا فيه التكاليف الشاقة على المكلفين، وأن النهوض للعبادة بالليل شديد الوطأة ولكنه أقوم لقراءة القرآن لحضور القلب، أما قراءته فى النهار فتكون مع اشتغال(29/110)
النفوس بأحوال الدنيا، ثم أمره بذكر ربه والانقطاع إليه بالعبادة، وتفويض أموره كلها إليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) أي يا أيها النبي المتزمل بثيابه، المتهيئ للصلاة، دم عليها الليل كله إلا قليلا.
ثم فسر هذا القليل بقوله:
(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي إلا قليلا وهو النصف أو انقص من النصف أو زد على النصف إلى الثلثين، فهو قد خير بين الثلث والنصف والثلثين.
وقصارى ذلك- أنه أمر أن يقوم نصف الليل أو يزيد عليه قليلا أو ينقص منه قليلا، ولا حرج عليه فى واحد من الثلاثة.
وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال:
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي اقرأه على تمهل، فإنه أعون على فهمه وتدبره، وكذلك كان صلوات الله عليه، قالت عائشة رضى الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها،
وجاء فى الحديث: «زيّنوا القرآن بأصواتكم، ولقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود، يعنى أبا موسى الأشعري، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتى لحبّرته لك تحبيرا» .
وأخرج العسكري فى كتابه المواعظ عن على كرم الله وجهه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدّقل:
(أردأ التمر) ولا تهذّه: (لا تسرع به) هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» .
وعن عبد الله بن مغفل قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجّع فى قراءته» أخرجه الشيخان.(29/111)
وعن جابر قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال: اقرءوا وكلّ حسن، وسيجيئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح: (السهم) يتعجلونه ولا يتأجلونه، لا يجاوز تراقيهم» رواه أبو داود.
قال فى فتح البيان: والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها فى مكة المكرمة وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة، وليس هذا بأول قارورة كسرت فى الإسلام اه.
والحكمة فى الترتيل: التمكن من التأمل فى حقائق الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور الله- وبعكس هذا فإن الإسراع فى القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية، ومن سرّ بشىء أحب ذكره كما أن من أحب شيئا لا يحب أن يمر عليه مسرعا.
ثم أتى بحملة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي ليبين سهولة ما كلّفه من القيام فقال:
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي إنا سننزل عليك القرآن وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه، فلا تبال بهذه المشقة وامرن عليها لما بعدها.
وقال الحسن بن الفضل: ثقيلا أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد، وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل فى الدنيا يثقل فى الميزان يوم القيامة.
وقد يكون المراد- إنه ثقيل فى الوحى
فقد جاء فى حديث البخاري ومسلم: «إن الوحى كان يأتيه صلى الله عليه وسلم أحيانا فى مثل صلصلة الجرس، وهذا أشده(29/112)
عليه، فيفصم عنه (يفارقه) وقد وعى ما قال. وأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه فيعى ما يقول، وكان ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا»
يجرى عرقه كما يجرى الدم من الفاصد.
ثم علل الأمر بقيام الليل فقال:
(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي لأن قيام الليل أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان، وأجمع للخاطر فى أداء القراءة وتفهمها، وهو أفرغ للقلب من النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات والبحث عن أمور المعاش، ومن ثم قال:
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) أي إن لك فى النهار تقلّبا وتصرفا فى مهامّ أمورك واشتغالا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة، فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل.
ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له فقال:
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) أي ودم على ذكره ليلا ونهارا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن، وانقطع إليه بالعبادة، وجرد إليه نفسك وأعرض عما سواه.
ونحو الآية قوله: «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» أي فإذا فرغت من شئونك، فانصب فى طاعته وعبادته، لتكون فارغ القلب، خاليا من الهواجس والوساوس الدنيوية.
ثم بين السبب فى الأمر بالذكر والتبتل فقال:
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) أي هو المالك المتصرف فى المشارق والمغارب، لا إله إلا هو، فعليك أن تتوكل عليه فى جميع أمورك.
ونحو الآية قوله: «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» . وقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .(29/113)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
وجاء فى كلامهم: من رضى بالله وكيلا، وجد إلى كل خير سبيلا.
وقد ذكروا أن مقام التوكل فوق مقام التبتل، لما فيه من الدلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا:
هواى له فرض تعطّف أوجفا ... ومنهله عذب تكدر أو صفا
وكلت إلى المعشوق أمرى كلّه ... فإن شاء أحيانى وإن شاء أتلفا
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 18]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
شرح المفردات
الهجر الجميل: ما لا عتاب معه، والنعمة (بفتح النون) التنعم (وبكسر النون) الإنعام، مهّلهم: أي اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم، والأنكال: واحدها نكل (بكسر النون وفتحها) وهو القيد الثقيل، قالت الخنساء:
دعاك فقطّعت أنكاله ... وقد كن قبلك لا تقطع
والجحيم: النار الشديدة الإبقاد، ذا غصة: أي لا يستساغ فى الحلق فلا يدخل ولا يخرج، ترجف: أي تضطرب وتتزلزل، كثيبا: أي رملا مجتمعا، من قولهم: كثب(29/114)
الشيء إذا جمعه، مهيلا: أي رخوا ليّنا إذا وطئته القدم زل من تحتها، والوبيل:
الثقيل الرديء العقبى، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم لا يستمرأ لثقله، والشيب:
واحدهم أشيب، منفطر: أي منشق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر معاملة العباد لبارئهم وخالقهم من العدم- أردف ذلك معاملة بعضهم بعضا، فبيّن أن ذلك يكون بأحد أمرين:
(1) مخالطة فصبر جميل على الإيذاء والإيحاش.
(2) هجر جميل بالمجانبة بالقلب والهوى، والمخالفة فى الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة.
ثم أمر رسوله أن يترك أمر المشركين إليه، فهو الكفيل بمجازاتهم، ثم ذكر أنه سيعذبهم بالأنكال والنار المستعرة، والطعام ذى الغصة فى يوم القيامة حين تكون الجبال كثيبا مهيلا.
وبعد أن خوّفهم عذاب يوم القيامة خوفهم أهوال الدنيا، وأنه سيكون لهم فيها مثل ما كان للأمم المكذبة قبلهم كقوم فرعون حين عصوا موسى فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم عاد إلى تخويفهم بالآخرة مرة أخرى، وأبان لهم أن أهوالها بلغت حدا تشيب من هوله الولدان، وأن السماء تتشقق منه.
الإيضاح
(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) أي واصبر على ما يقول فيك وفى ربك سفهاء قومك المكذبون لك، واهجرهم هجرا جميلا بأن تداريهم وتجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتهم.
ونحو الآية قوله: «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»(29/115)
وقوله: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» ، وقوله: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» .
ثم تهدّدهم وتوعّدهم، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شىء فقال:
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) أي ودعنى والمكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإنى أكفيك أمرهم وأجازيهم بما هم له أهل، وتمهل عليهم قليلا حتى يبلغ الكتاب أجله، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم.
ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» والخلاصة- خلّ بينى وبينهم، فسأجازيهم بما يستحقون.
روى أنها نزلت فى صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين وقالت عائشة رضى الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر.
ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورا أربعة:
(1) (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا) أي إن لدينا لهؤلاء المكذبين بآياتنا قيودا ثقيلة توضع فى أرجلهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا إذلالا لهم قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال فى أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله، ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
(2) (وَجَحِيماً) أي نارا مستعرة تشوى الوجوه.
(3) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي طعاما لا يستساغ، فلا هو نازل فى الحلق، ولا هو خارج منه، كالزقوم والضريع كما قال تعالى: َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»
وقال: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» .
(4) (وَعَذاباً أَلِيماً) أي وألوانا أخرى من العذاب المؤلم الموجع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب.(29/116)
والخلاصة- إن لدينا فى الآخرة ما يضاد تنعمهم فى الدنيا، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصّون به والعذاب الأليم.
وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتى بطعام فعرضت له هذه الآية فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البنّانى ويزيد الضبي ويحيى البكّاء، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال:
(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) أي ذلك العذاب فى يوم تضطرب فيه الأرض، وتزلزل الجبال وتتفرق أجزاؤها، وتصير كالعهن المنفوش، وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجاره صماء، ثم ينسفها ربى نسفا، فلا يبقى منها شىء.
وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوّفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم فقال:
(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) أي إنا أرسلنا إليكم رسولا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتى، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقوننى فى القيامة، كما أرسلنا إلى فرعون رسولا يدعوه إلى الحق، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه فأخذناه أخذا شديدا فأهلكناه ومن معه بالغرق، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم مثل ما أصابه.
وقصارى ذلك- كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا، أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه.
وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة فقال:
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ(29/117)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
مَفْعُولًا)
أي كيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان، وتتشقق السماء وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم، والعرب تضرب المثل فى الشدة فتقول: هذا يوم تشيب من هوله الولدان، وهذا يوم يشيب نواصى الأطفال، ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب كما قال المتنبي:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبىّ ويهرم
فجعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة، فاحذروا هذا اليوم فإنه كائن لا محالة كما وعد الله.
والخلاصة- كأنه قيل: هبوا أنكم لا تؤاخذون فى الدنيا إخذة فرعون وأضرابه، فكيف تقون أنفسكم أهوال القيامة وما أعدّ لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه من الكفر.
[سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)(29/118)
شرح المفردات
تذكرة: أي موعظة، سبيلا: أي طريقا توصله إلى الجنة، أدنى. أي أقلّ، والله يقدّر الليل والنهار. أي يعلم مقادير ساعاتهما، أن لن تحصوه. أي لا يمكنكم الإحصاء وضبط الساعات، فتاب عليكم. أي بالترخيص فى ذلك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم، فاقرءوا ما تيسر من القرءان. أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، يضربون فى الأرض. أي يسافرون للتجارة، وأقرضوا الله. أي أنفقوا فى سبل الخيرات.
المعنى الجملي
بعد أن بدأ السورة بشرح أحوال السعداء وبيّن معاملتهم للمولى ثم معاملتهم للخلق، ثم هدد الأشقياء بأنواع من العذاب فى الآخرة، ثم توعدهم بعذاب الدنيا، وبعدئذ وصف شدة يوم القيامة- ختم السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد فمن شاء أن يسلك سبيل ربه بالطاعة والبعد عن المعصية فليفعل، ثم أخبره بما يقوم به هو والمؤمنون للعبادة من ساعات الليل: ثلثيه أو نصفه أو ثلثه، ثم خفف ذلك عنهم للأعذار التي تحيط بهم من مرض أو سفر للتجارة ونحوها أو جهاد للعدوّ، فليصلوا قدر ما يستطيعون، وليؤتوا زكاة أموالهم، وليستغفروا الله فى جميع أحوالهم، فهو الغفور الرحيم.
الإيضاح
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر- عبرة لمن اعتبر وادّكر.
(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي فمن شاء اتعظ بها، واتخذ سبيلا إلى ربه(29/119)
فآمن به وعمل بطاعته وأخبت إليه، وذلك هو النهج القويم، والطريق الموصل إلى مرضاته.
ثم رخص لأمته فى ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن ربك لعليم بأنك تقوم أقلّ من ثلثى الليل وأكثر من النصف، وتقوم النصف، وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل.
(وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلا الله، وأما أنتم فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات، فتاب عليكم بالترخيص فى ترك القيام المقدر، وعفا عنكم ورفع هذه المشقة.
قال مقاتل وغيره: لما نزلت «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم فقال تعالى «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ» .
والخلاصة- الله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامّا فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض، وإن نقصتم شق هذا عليكم، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر بالليل كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن. هو ما يقرأ فى صلاة المغرب والعشاء. وقال السدّى. ما تيسر منه هو مائة آية.
وفى بعض الآثار. من قرأ مائة آية فى ليلة لم يحاجّه القرآن، وعن قيس بن حازم قال:(29/120)
«صليت خلف ابن عباس فقرأ فى أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال: إن الله يقول: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» أخرجه الدار قطنى والبيهقي فى سننه.
ثم ذكر أعذارا أخرى تسوّغ هذا التخفيف فقال:
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب فى الأرض ابتغاء الرزق من فضل الله، وغزو فى سبيل الله فهؤلاء إذا لم يناموا فى الليل تتوالى عليهم أسباب المشقة ويظهر عليهم آثار الجهد، وفى هذا إيماء إلى أنه لا فرق بين الجهاد فى قتال العدوّ والجهاد فى التجارة لنفع المسلمين.
قال ابن مسعود: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن الإسلام صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان عند الله من الشهداء، ثم قرأ قوله تعالى:
«وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن عمر رضى الله عنه قال: ما من حال يأتينى عليه الموت بعد الجهاد فى سبيل الله أحب إلىّ من أن يأتينى، وأنا بين شعبتى جبل ألتمس من فضل الله، وتلا: «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» .
ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام عن هذه الأمة- ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال:
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن، والمراد صلّوا كما تقدم.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) أي وصلّوا الصلاة(29/121)
المفروضة وقوّموها فلا تكون قلوبكم غافلة، ولا أفعالكم خارجة عما رسمه الدين، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم، وأقرضوا الله قرضا حسنا بالإنفاق فى سبل الخير للأفراد والجماعات مما هو نافع لها فى رقيّها المدني والاجتماعى، وسيبقى لكم جزاء ذلك عند ربكم.
ونحو الآية قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» .
ثم حبّب فى الصدقة وفعل الخيرات فقال:
(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي وما تقدموا لأنفسكم فى دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها فى سبيل الله، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج أو غير ذلك، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة خيرا مما أبقيتم فى دار الدنيا، وأعظم منه عائدة لكم.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها ويسترها يوم الحساب والجزاء.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله ستّار على أهل الذنوب والتقصير، ذو رحمة فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما فرط منا من الزلات، بحرمة سيد خليقته، وسند أهل صفوته. وصلّ ربنا على محمد وشيعته.(29/122)
ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأشياء:
(1) أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.
(2) أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهّل.
(3) أن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة، وأن يجرد نفسه عما سواه.
(4) أن يتخذه وكيلا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه نحوها.
(5) أن يصبر على ما يقولون فيه: من أنه ساحر أو شاعر، وفى ربه من أن له صاحبة وولدا، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره.
(6) أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل، ففى الصلاة المفروضة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.(29/123)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
سورة المدثر
هى مكية، نزلت بعد سورة المزمل، وعدد آياتها ستّ وخمسون.
وصلتها بما قبلها:
(1) أنها متواخية مع السورة قبلها فى الافتتاح بنداء النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أن صدر كلتيهما نازل فى قصة واحدة.
(3) أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه صلى الله عليه وسلم بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
شرح المفردات
المدثر: أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه، أي يتغطى بها لينام أو ليستدفئ، والدثار: اسم لما يتدثر به، أنذر: أي حذّر قومك عذاب الله إن لم يؤمنوا، كبّر:
أي عظم، فطهر: أي طهر نفسك مما تذم به من الأفعال، وهذّبها عما يستهجن من الأحوال، والرجز: العذاب كما قال: «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» أي اهجر المآثم المؤدية إلى العذاب، ولا تمنن تستكثر: أي ولا تمنن بعملك على ربك تطلب(29/124)
كثرته، نقر: أي نفخ، الناقور: أي الصور، عسير. أي شديد، غير يسير.
أي غير سهل.
المعنى الجملي
روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى وعن يسارى، فلم أر شيئا فنظرت فوقى فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت:
دثّرونى دثّرونى، وصبوا علىّ ماء باردا، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ- إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) »
وقد أمر الله رسوله بالإنذار وتطهير نفسه من دنىء الأخلاق والمآثم والصبر على أذى المشركين، فإنهم سيلقون جزاءهم يوم ينفخ فى الصور، وهو يوم شديد الأهوال على الكافرين ليس بالهيّن عليهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أيها الذي تدثر بثيابه رعبا وفرقا من رؤية الملك عند نزول الوحى أول مرة: شمّر عن ساعد الجد وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.
والداعي إلى ربه الكبير المتعالي لا يتمّ له ذلك إلا إذا كان متخلقا بجميل الخلال وحميد الصفات، ومن ثم قال:
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّم ربك ومالك أمورك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله: «أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» .
(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) سئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا تلبسها على معصية(29/125)
ولا عن غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي:
فإنى بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنّع
والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به: إنه لدنس الثياب، وإذا وفى ولم يغدر، إنه لطاهر الثوب، قال السموأل بن عاديا اليهودي.
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
ولا تزال هذه المعاني مستعملة فى ديار مصر وغيرها فيقولون: فلان طاهر الذيل، يريدون أنه لا يلامس أجنبية.
ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب: غسلها بالماء إن كانت نجسة، وروى هذا عن كثير من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب الشافعي فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلى.
وقد استبان للمشتغلين بأصول التشريع وعلماء الاجتماع من الأوربيين أن أكثر الناس قذرا فى أجسامهم وثيابهم أكثرهم ذنوبا، وأطهرهم أبدانا وثيابا أبعدهم من الذنوب، ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام ونظافة الثياب، فحسنت؟؟؟، وخرجوا من السجون، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل.
وقال الأستاذ (بتنام) فى كتابه أصول الشرائع: إن كثرة الطهارة فى دين الإسلام مما تدعو معتنقيه إلى رقىّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتباع أوامره خير قيام.
ومن هذا تعلم السر فى قوله: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) .
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب فى الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.(29/126)
وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان:
(1) الغرور والفخر والعظمة، فيقول أنا مسد للنعم إليكم، ومفيض للخير عليكم.
(2) الأعداء، وهؤلاء يؤذونه ويتربصون به الدوائر، ويتتبعونه فى كل مكان ويتألّبون عليه ليل نهار، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدّعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين ويقولون: ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا، ولنبتعد عن الناس، فإنهم لا يعرفون قدر النعم، ولا يشكرون المنعمين، ومن ثم قال تعالى:
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي ولا تمنن على أصحابك بما علّمتهم وبلغتهم من الوحى مستكثرا ذلك عليهم. وقد يكون المعنى: لا تضعف، من قولهم: حبل منين أي ضعيف، ومنّه السير: أي أضعفه، فالمراد لا تضعف أن تستكثر من الطاعات التي أمرت بها قبل هذه الآية.
وقد يكون المراد كما قال ابن كيسان: لا تستكثر عملا فتراه من نفسك، إنما عملك منّه من الله عليك، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته.
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على طاعته وعبادته، وقال مقاتل ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب.
والخلاصة- لا تجزع من أذى من خالفك.
ولما أتمّ إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء فقال:
(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي اصبر على أذاهم فإن بين أيديهم يوما عسيرا يذوقون فيه عاقبة كفرهم وأذاهم حين ينفخ فى الصور، ويومئذ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم.
ثم أكد هذا بقوله:
(عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي يومهم عسير لا يسر فيه ولا فيما بعده، على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر، وعسره عليهم أنهم يناقشون(29/127)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
الحساب، ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوّد وجوههم، وتتكلم جوارحهم، فيفتضحون على رءوس الأشهاد.
وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لا يناقشون فيه حسابا، ويمشون بيض الوجوه.
أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس قال: لما نزلت «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 30]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
شرح المفردات
ذرنى ومن خلقت وحيدا: أي دعنى وإياه، فإنى أكفيكه، ممدودا: أي كثيرا، شهودا: أي حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم، ومهدت له تمهيدا: أي بسطت له الرياسة والجاه العريض، سأرهقه: أي سأكلفه، صعودا: أي عقبة(29/128)
شاقة لا تطاق، فقتل كيف قدر: أي لعنه الله كيف وصل بقوة خياله وسرعة خاطره إلى رميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش، عبس: أي قطب ما بين عينيه، بسر: أي كلح وجهه كما قال توبة بن الحميّر.
وقد رابنى منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتى وبسورها
لوّاحة، من لوّحته الشمس: إذا سودت ظاهره وأطرافه، قال:
تقول ما لا حك يا مسافر ... يا بنة عمّى لا حنى الهواجر
والبشر: واحدها بشرة، وهى ظاهر الجلد:
المعنى الجملي
روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فى المسجد يصلى والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، وهو يقرأ: «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم إلى استماعه أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بنى مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبونّ قريش كلهم، فقال أبو جهل:
أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال الوليد: ما لى أراك حزينا يا ابن أخى؟ فقال: وما يمنعنى أن أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبى كبشة وابن أبى قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أنى من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون(29/129)
لهم فضل طعام؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهّن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟
قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟
قالوا: اللهم لا (وكان رسول الله يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا:
(فما هو؟ قال:) ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه فنزلت هذه الآيات» .
وقد كان الوليد يسمى الوحيد، لأنه وحيد فى قومه، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم، وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة فى قومه، وكان يسمى ريحانة قريش.
الإيضاح
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خلّ بينى وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه.
وقال مقاتل. خلّ بينى وبينه فأنا أنفرد بهلكته.
وفى هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لى فى العرب نظير، ولا لأبى نظير، وقد تهكم الله به وبلقبه، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه، فجعله وحيدا فى الشر والخبث.(29/130)
(وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) أي أعطيته مالا كثيرا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة، قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا.
وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء.
(وَبَنِينَ شُهُوداً) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها لكسب عيش، ولا ابتغاء رزق، إذ كانوا فى غنى عن الضرب فى الأرض، بما لهم من واسع الثراء، فكان مستأنسا بهم، طيّب القلب بشهودهم.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه مهد الصبى، والمراد وسعت له الأرزاق، وبسطت له الجاه، فكان من الحق عليه أن يشكر الله على ما أنعم عليه، ولكنه كان لربه كنودا، فأعرض عن الداعي واستكبر، وقابل النعمة بالكفران، والجود بالجحود والعصيان.
ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال:
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده.
وفى هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان،
فقد جاء فى الحديث «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا»
وجاء فى الخبر «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» .
وروى عن الحسن أنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى.
ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال.
(كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية فى نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم، وهى آيات القرآن(29/131)
التي نزل بها الوحى على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال فيها ما قال، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.
وفى الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحق بقلبه، وينكره بلسانه، وهذا أقبح أنواع الكفر.
ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال:
(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة.
قال قتادة: سيكلف عذابا لا راحة فيه.
ثم حكى كيفية عناده فقال:
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر فى نفسه كلاما فى الطعن فى القرآن، وما يختلق فيه من المقال، وقدره تقديرا، أصاب به ما فى نفوس قريش، وما به وافق غرضهم.
والخلاصة- إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به، حين سئل عن ذلك؟
ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال:
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» .
وقصارى ذلك- إن هذا تعجيب من قوة خاطره، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد فى القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به.(29/132)
ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال:
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال فى الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه.
(ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر فى أمر القرآن مرة بعد أخرى، لعله يجول بخاطره ما يحبون، ويصل إلى ما يرجون.
(ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.
ثم أكد ما قبله فقال:
(وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه، قال سعد بن عبادة: لما أسلمت راغمتنى أمي، فكانت تلقانى مرة بالبشر، ومرة بالبسر.
وفى هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ينكره عنادا، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط، وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه.
(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.
ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل.
(فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدّعى، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففى العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه، بل التجئوا إلى السيف والسّنان، دون المعارضة بالحجة والبرهان، وقد رووا فى هذا(29/133)
الباب مضحكات أغلبها لا يصح، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغى أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، ومشفر وتيل إلخ.
ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه، وفظيع عمله فقال:
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.
ثم بالغ فى وصف النار وتعظيم شأنها فقال:
(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ؟) تقول العرب: ما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة والتهويل فى الأمر. أي وأىّ شىء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت فى الوصف حدا لا يمكن معرفته، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.
ثم بيّن وصفها بقوله.
(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى، وهكذا دواليك كما جاء فى الآية الأخرى. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» .
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل، قال ابن عباس: تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
عن البراء «أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر» رواه البيهقي وابن أبى حاتم وابن مردويه.(29/134)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
شرح المفردات
فتنة. أي سبب ضلال، أوتوا الكتاب. هم اليهود والنصارى، مرض. أي نفاق، مثلا: أي حديثا، ومنه قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» أي حديثها والخبر عنها، جنود ربك: أي هم خلقه من الملائكة وغيرهم، ذكرى: أي تذكرة وموعظة للناس، كلا: أي حقا، أدبر: أي ولّى، أسفر: أي أضاء، الكبر: أي البلايا والدواهي، واحدها كبرى، أن يتقدم: أي إلى الخير، يتأخر:
أي يتخلف عنه.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس «أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى:
«عليها تسعة عشر» قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع أن ابن أبى كبشة، (يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم) : يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدّهم «الشجعان» أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، فقال له أبو الأشد(29/135)
ابن كلدة الجمحي- وكان شديد البطش- أيهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة- يقول ذلك مستهزئا»
وفى رواية أن الحرث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» أي لم يجعلهم رجالا فيتعاطون مغالبتهم.
الإيضاح
(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟
وهؤلاء: هم النقباء والمدبرون لأمرها.
وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأقومهم بحق الله والغضب له سبحانه، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقّوا لهم ويرحموهم.
ثم ذكر الحكمة فى اختيار هذا العدد القليل فقال:
(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي وما جعلنا عددهم هذا العدد إلا محنة وضلالة للكافرين، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم.
وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزءوا به واستبعدوه وقالوا: كيف يتولى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين.
(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما فى القرآن لكتبهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.(29/136)
(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي وليزداد إيمان المؤمنين حين يرون تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أن العدد كما قال:
ثم أكد الاستيقان وزيادة الإيمان فقال:
(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى حقيقة ذلك العدد.
ولا ارتياب فى الحقيقة من المؤمنين، ولكنه تعريض بغيرهم ممن فى قلبه شك من المنافقين.
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) أي وليقول الذين فى قلوبهم شك فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والقاطعون بكذبه:
ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟
ثم بين أن الاختلاف فى الدين سنة من سنن الله تعالى فقال:
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدة خزنة جهنم: أىّ شىء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوّفنا بعدتهم؟ - يضل الله من خلقه من يشاء، فيخذله عن إصابة الحق، ويهدى من يشاء منهم، فيوفقه لإصابة الصواب.
والخلاصة- إن مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده، وتدسيته نفسه، وتوجيهها إلى سيىء الأعمال، واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى- ويهدى من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال، وتزكيته نفسه كلما لاح له سبيل الهدى.
(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه التي من جملتها الملائكة على ما هم عليه إلا الله عز وجل.(29/137)
وهذا ردّ على استهزائهم بكون الخزنة تسعة عشر، جهلا منهم وجه الحكمة فى ذلك.
قال مقاتل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر.
وخلاصة ذلك- إن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر.
(كَلَّا) أي كلا لا سبيل لكم إلى إنكارها لتظاهر الأدلة عليها.
(وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي أقسم بالقمر الوضاح، والليل إذا ولى وذهب، والصبح إذا أشرق- إن جهنم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر.
ثم بين أصحاب النذارة فقال:
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها ويردّها.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» .
وخلاصة ما سلف- هأنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه، ومن تأخر عنه سلكناه فيها.
قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزى بثواب لا ينقطع أبدا، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع أبدا.
وقال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر كقوله: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .(29/138)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
شرح المفردات
رهينة: أي مرتهنة بعملها مأخوذة به إما خلّصها وإما أوبقها، أصحاب اليمين:
هم من أعطوا كتبهم بأيمانهم، ما سلككم: أي ما أدخلكم تقول سلكت الخيط فى ثقب الإبرة: أي أدخلته فيه، نخوض مع الخائضين: أي نخالط أهل الباطل فى باطلهم فكلما غوى غاو غوينا معه، اليقين: هو الموت كما فى قوله: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» قاله ابن عباس، مستنفرة: أي نافرة، وقسورة: الرماة للصيد واحدهم قسور قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد، منشّرة: أي منشورة مبسوطة:
تقرأ وتنشر.(29/139)
الإيضاح
(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه، كافرة كانت أو مؤمنة، عاصية أو طائعة.
(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه.
ثم بين مآل أصحاب اليمين فقال:
(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟) أي هم فى غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم فى الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم فى سقر؟
فأجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة:
(1) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نكن فى الدنيا من المؤمنين الذين يصلون لله، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها.
(2) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا.
(3) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي وكنا لا نبالى بالخوض فى الباطل مع من يخوض فيه. قال ابن زيد: نخوض مع الخائضين فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم فنقول إنه كاذب ساحر مجنون، وفى أمر القرآن فنقول إنه سحر وشعر وكهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل.
(4) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب.
(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى الله فى الدار الآخرة.
(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع، لأن لهم النار خالدين فيها أبدا.(29/140)
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟) أي فأىّ شىء حصل لأهل مكة حتى أعرضوا عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى، قال مقاتل: إعراضهم عنه من وجهين:
(1) جحودهم وإنكارهم له.
(2) ترك العمل بما فيه.
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأن هؤلاء المشركين فى فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويتعقبونها لصيدها وافتراسها.
وفى هذا إيماء إلى أنهم مع موجبات الإقبال إلى الداعي والاتعاظ بما جاء به يعرضون عنه بغير سبب ظاهر، فأى شىء حصل لهم حتى أعرضوا عنه؟
وفى تشبيههم فى إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ، وشرادهم عنه بحمر وحشية جدّت فى نفارها مما أفزعها- تهجين لحالهم، وشهادة عليهم بالبله، فلا ترى مثل نفار حمر الوحش، واطرادها فى العدو إذا هى خافت من شىء.
ثم بين أنهم بلغوا فى العناد حدا لا يتقبله عقل، ولا يستسيغه ذو نفس حساسة فقال:
(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي هم قد بلغوا فى العناد حدا لا تجدى معهم فيه التذكرة، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيه، وجاء نحو هذا فى قوله تعالى حكاية عنهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» .
روى أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتى كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونومر فيه بأتباعك.(29/141)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إن المشركين كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار.
(كَلَّا) زجر لهم وتوبيخ على اقتراحهم لتلك الصحف المنشرة، أي فهم لا يؤتونها.
ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح فقال:
(بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها ومن ثم أعرضوا عن التأمل فى تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية فى الدلالة على صدق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوّغ له.
ثم وبخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال:
(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ليس الأمر كما يقول المشركون فى هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه ذكّرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكّرا ولا معرّفا.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء من عباده أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه، وبه سعادته فى الدارين.
ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال:
(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما يذكرون هذا القرآن ولا يتعظون بعظاته ويعملون بما فيه إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله، إذ لا يقع فى ملكه سبحانه إلا ما يشاء كما قال سبحانه:
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» .(29/142)
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف فقال:
(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي فالله هو الحقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو القمين بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا به وأطاعوه.
عن أنس رضى الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال:
قال ربكم: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معى إله، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها فأنا أهل أن أغفر له» أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة فى خلق كثير غيرهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله أجمعين.(29/143)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
سورة القيامة
هى مكية، وعدد آيها أربعون، نزلت بعد سورة القارعة.
ووجه اتصالها بما قبلها، أنه ذكر فى السورة السابقة قوله: «كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه، فوصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثم ما قبل ذلك من مبدإ الخلق.
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
شرح المفردات
(لا أُقْسِمُ) تزيد العرب كلمة (لا) فى القسم كما قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامرىّ لا يدّعى القوم أنى أفرّ ويرى قوم أن (لا) نافية ردّ لكلام كان قد تقدم وجواب لهم، وذلك هو(29/144)
المعروف فى كلام الناس فى محاوراتهم فإذا قال أحدهم: لا والله لا فعلت كذا- قصد بقوله (لا) رد الكلام السابق، وبقوله والله ابتداء يمين، فهم لما أنكروا البعث قيل لهم: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة:
إن البعث حق لا شك فيه.
ويرى جمع من المفسرين أنها للنفى على معنى أنى لا أعظمه بإقسامى به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من هذا وهو يستأهل فوق ذلك.
قال مجاهد: النفس اللوامة هى التي تلوم نفسها على مافات، وتندم على الشر لم فعلته؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ فهى لم تزل لأئمة وإن اجتهدت فى الطاعات (بَلى) كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيا، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرقها، والبنان واحده بنانة وهى الأصابع. قال النابغة:
بمخضّب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد
ليفجر أمامه: أي ليدوم على فجوره فى الحاضر والمستقبل لا ينزع عنه، برق تحير فزعا من قولهم: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، قال ذو الرمة:
ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت ... لعينيه مىّ سافرا كاد يبرق
وخسف القمر: ذهب ضوءه، والمفر: الفرار، والوزر: الملجأ وأصله الجبل المنيع، ومنه قوله:
لعمرك ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
ينبأ: أي يخبر، بصيرة: أي حجة شاهدة على ما صدر منه، والمعاذير:
ما يعتذر به.
المعنى الجملي
أقسم تعالى بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقىّ، الجانحة إلى العلوّ، التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى حال إلا أحبت ما تلاها- إن(29/145)
هناك حالا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها، فى عالم أكمل من هذا العالم، عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين.
وهذا القسم وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل، فهم كانوا يقسمون بالأب والعمر والكعبة ونحو ذلك.
روى أن عدىّ بن أبى ربيعة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة متى يكون وما حاله وأمره فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أومن بك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اكفنى شر جارى السوء» .
الإيضاح
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أقسم سبحانه بيوم القيامة وعظيم أهواله، وبالنفس التواقة للمعالى التي تندم على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لم تستكثر منه، فهى لم تزل لائمة وإن اجتهدت فى الطاعة- لتبعثنّ ولتحاسبنّ على ما تفعلون.
وقال الفرّاء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت هلّا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت ليتنى لم أفعل، وعلى هذا فهو مدح للنفس، والقسم بها سائغ حسن اه.
وقسمه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيم شأنه، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه. قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه.
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أيظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ بلى نحن قادرون على ذلك وأعظم منه، فنحن قادرون على أن نسوى بنانه وأطراف يديه ورجليه، ونجعلهما(29/146)
شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط، والتأنى فى عمل ما يراد من الشئون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان، إلى نحو أولئك.
والخلاصة- إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظاما ورفاتا فى بطون البحار، وفسيح القفار، وحيثما كانت، وعلى أن نسوّى أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئا واحدا فيكون كالجمل والحمار ونحوهما، فيأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وفى ذلك خسران كبير له، وتشويه لخلقه، وإفساد لوظيفته التي أعدّ لها فى الحياة.
(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، لكنه يريد أن يمضى قدما فى المعاصي لا يثنيه عنها شىء، ولا يتوب منها، بل يسوّف بالتوبة فيقول: أعمل ثم أتوب بعد ذلك.
والخلاصة- إنه انتقل من إنكار الحسبان، إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب، ليكون ذلك أشد فى لومه وتوبيخه كأنه قيل: دع تعنيفه على ذلك، فإنه قد بلغ من أمره أنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان ولا يتخلى عنه.
ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله:
(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) أي يسأل سؤال متعنت مستبعد، متى يكون هذا اليوم؟ ومن أنكر البعث أشد الإنكار، ارتكب أعظم الآثام، وخبّ فيها ووضع غير عابىّ بعاقبة ما يصنع، ولا مقدّر نتائج ما يكتسب.
ونحو الآية قوله: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» ، وقوله: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .(29/147)
وقصارى ما سلف أنهم أنكروا البعث لوجهين:
(1) شبهة تعترض الخاطر: كقولهم إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وسارت فى مشارق الأرض ومغاربها، كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلا، ولهؤلاء جاء الردّ بقوله: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» .
(2) حبّ الاسترسال فى اللذات، والاستكثار من الشهوات، فلا يود أن يقرّ بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته، ولمثل هؤلاء قال: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» .
وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة فقال:
(1) (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي إذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول ومن عظم ما يشاهد، قال الفرّاء: تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت: قد برق، وأنشد:
فنفسك فانع ولا تنعنى ... ودار الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم والجروح التي أصابتك.
ونحو الآية قوله: «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» .
(2) (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوءه، كما نعقله من حاله فى الدنيا، إلا أن الخسوف فى الدنيا إلى انجلاء، وفى الآخرة لا يعود ضوءه.
(3) (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أدرك كل واحد منهما صاحبه وطلعا من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين على ما روى عن ابن مسعود، وقد كان هذا مستحيلا فى الدنيا كما جاء فى قوله سبحانه: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» .(29/148)
(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي يقول الإنسان حينئذ لدهشته وحيرته:
أين المفرّ من جهنم؟ وهل من ملجأ منها؟ فأجيبوا حينئذ:
(كَلَّا لا وَزَرَ) أي كلا لا شىء يعتصم به من أمر الله، فلا حصن ولا جبل ولا سلاح يقيكم شيئا من أمره، قال السّدى: كانوا إذا فزعوا فى الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم منى.
ونحو الآية قوله: «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» .
ثم كشف عن حقيقة الحال وبيّنها بقوله:
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)
أي إلى ربك مرجعك فى جنة أو نار، وأمر ذلك مفوّض إلى مشيئته، فمن شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار.
ونحو الآية قوله: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» .
ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل فقال:
(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)
أي يخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال- بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها كما قال: «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .
قال القشيري: وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبع يجرى أجرها للعبد بعد موته وهو فى قبره، من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس ظلا، أو بنى مسجدا، أو ورّق مصحفا، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته» .
ثم بيّن أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهى نعم الشاهد عليه فقال:
(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، لأن نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما أنى بالمعاذير وجادل(29/149)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
عنها كما قال: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» .
وقال الفراء فى الآية: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشا:
كأن على ذى العقل عينا بصيرة ... بمجلسه أو منظر هو ناظرة
يحاذر حتى يحسب الناس كلّهم ... من الخوف لا يخفى عليهم سرائرة
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
شرح المفردات
لتعجل به: أي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، وقرءانه: أي قراءته أي إثباتها فى لسانك، قرأناه: أي قرأه جبريل عليك، فاتّبع قرءانه: أي فاستمع قراءته، وكررها حتى يرسخ فى نفسك، بيانه: أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه، والعاجلة: دار الدنيا، ناضرة: أي متهللة بشرا بما ترى من النعيم، ناظرة: أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، باسرة: أي شديدة العبوس كالحة متغيرة مسودة، تظن: أي تستيقن، فاقرة: أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن آيات الله، منكر لعظيم قدرته، وأنه سائر فى غلوائه، غير مكترث بما يصدر منه- أردفه بذكر حال من(29/150)
يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها، رجاء قبوله إياها، ليظهر بذلك تباين حال الفريقين: من يرغب فى تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها «وبضدها تتبين الأشياء» ثم عاد إلى ذكر السبب فى إنكار البعث وهو حبّ بنى آدم للعاجلة، وتركهم للآخرة، ثم ذكر ما يكون فى ذلك اليوم من استبشار المؤمنين وبسور المشركين وملاقاتهم للشدائد والأهوال، وظنهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم.
الإيضاح
علّم الله رسوله كيف يتلقى الوحى من الملك، إذ كان يسابقه فى قراءته فأمره أن يستمع إليه إذا جاء وقد كفل له: (1) أن يحفظه له. (2) أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه. (3) أن يبينه ويفسره له.
وقد أشار إلى الأول بقوله:
(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)
أي لا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرءان لسانك وشفتيك، لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى تثبته فى قلبك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه ويعرف ذلك فى تحريكه شفتيه حتى نزلت الآية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله.
عن ابن جبير عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة بتحريك شفتيه، فقال لى ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ»
رواه مسلم.(29/151)
وأشار إلى الثاني بقوله:
(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
أي فإذا تلى عليك فاعمل بما فيه من شرائع وأحكام وقد يكون المراد- فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك.
وأشار إلى الثالث بقوله:
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته، نبيّنه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا.
ثم أعاد القول فى توبيخ المشركين على إنكارهم للبعث فقال:
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون: من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة.
قال قتادة- اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم.
والخلاصة- إنكم يا بنى آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه، فتعجلون فى كل شىء، ومن ثمّ تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة.
ثم بيّن ما يكون من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين فقال:
(1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة، تشاهد عليها نضرة النعيم.
(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، قال جمهور أهل العلم:
المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام اه.(29/152)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
روى البخاري فى صحيحه «إنكم سترون ربكم عيانا»
وروى الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرة «أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال:
هل تضارّون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك» .
وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، قال الأزهرى: قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم فى هذا كثيرة جدا اه.
(2) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي ووجوه الفجار تكون يوم القيامة: عابسة كالحة مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» وقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» .
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)(29/153)
شرح المفردات
التراقى: العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، واحدها ترقوة، من راق:
أي من يرقيه وينجيه مما هو فيه على نحو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام الذي يعدّ لذلك والمراد هل من طبيب يشفى بالقول أو بالفعل، الفراق: أي من الدنيا حبيبته، التفّت الساق بالساق: أي التوت عليها حين هلع الموت وقلقه والمراد أنه اشتد عليه الخطب، المساق: المرجع والمآب، فلا صدّق ولا صلى: أي فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، يتمطى: أي يتبختر افتخارا، أولى لك: أي ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره، فأولى: أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، سدى: أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف فى الدنيا ولا يحاسب، نطفة: أي ماء قليلا وجمعها نطاف ونطف، يمنى: أي يراق ويصب فى الرحم، علقة: أي قطعة دم جامد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال يوم القيامة وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء بيّن أن الدنيا لها نهاية ونفاد ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة فى الدنيا، فلا هو صدّق بأوامر دينه ولا هو أدّى فرائضه ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين:(29/154)
(1) أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وثواب كل عامل بما يستحق وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جل وعلا.
(2) أنه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من منىّ يمنى، فأهون عليه أن يعيده خلقا آخر!
الإيضاح
(كَلَّا) ردع وزجر: أي ازدجروا وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت، فأقلموا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلّدين أبدا.
ثم وصف الحال التي تفارق فيها الروح الجسد فقال:
(إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي إذا بلغت الروح أعالى الصدر، وأشرفت النفس على الموت، قال دريد بن الصّمّة:
وربّ عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقى
والعرب تحذف من الكلام ما يدل عليه يقولون أرسلت: يريدون أرسلت السماء المطر، ولا تكاد تسمعهم يقولون: أرسلت السماء، قال حاتم يخاطب زوجه:
أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو الآية قوله: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ» .
(وَقِيلَ مَنْ راقٍ؟)
أي وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به؟ قال قتادة:
التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقى ... أم هل له من حمام الموت من راقى
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي وأيقن المحتضر أن ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد، وسمى هذا اليقين ظنّا لأن المرء مادامت روحه معلقة ببدنه(29/155)
يطمع فى الحياة لشدة حبه لهذه العاجلة كما قال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة.
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال ابن عباس: المراد التفّت شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة واختلطتا، فالتفّ بلاء ببلاء، والعرب تقول لكل أمر اشتد، شمّر عن ساقه، وكشف عن ساقه، قال النابغة الجعدي:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع والمآب، والمراد إنك صائر إلى جنة أو نار.
وجواب إذا وتمام الجملة يقدر بنحو قولنا- انكشفت للمرء حقيقة الأمر، أو وجد ما عمله من خير أو شر حاضرا بين يديه.
ثم ذكر ما كان قد فرط منه فى الدنيا فقال:
(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي فما صدّق بالله ووحدانيته، بل اتخذ الشركاء والأنداء وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدّى فرائضه التي أوجبها عليه، بل أعرض وتولى عن الطاعة.
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي ليته اقتصر على الإعراض والتولّى عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحا، يمشى الخيلاء متبخترا.
والخلاصة- إن هذا الكافر كان فى الدنيا مكذبا للحق بقلمه، متوليا عن العمل بجوارحه، معجبا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنا ولا ظاهرا ثم هدده وتوعده فقال:
(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك مرة بعد أحرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك(29/156)
ويرى قوم أن معنى أولى أجمل وأمرى، فيكون المراد- النار أولى بك وأجمل.
ثم كرر هذا الوعيد فقال:
(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت جدير بهذا.
روى قتادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبى جهل فقال: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد، والله ما تستطيع لى أنت ولا ربك شيئا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتله» .
وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به؟
قال بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله تعالى» .
ثم أقام الدليل على البعث من وجهين:
(1) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يترك الإنسان فى الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك فى قبره مهملا لا يحاسب، بل هو مأمور منهى محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوى الصالح المزكّى نفسه بصالح الأعمال، والطالح المدسّى نفسه باجتراح السيئات والآثام كما قال: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» وقال: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» .
وإذا فلا بد من دار للثواب والعقاب والبعث والقيامة.
(2) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى؟) أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه- نطفة فى صلب أبيه، ثم كان علقة ثم سواه بشرا ناطقا سميعا بصيرا، ثم جعل منه أولادا ذكورا وإناثا بإذنه وتقديره؟(29/157)
(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السوىّ من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ فذلك أهون من البدء فى قياس العقل كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .
وقد جاء من طرق عدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهمّ وبلى
وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ منكم: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» فليقل: بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» فليقل آمنا بالله»
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.(29/158)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
سورة الإنسان
هى مدنية، وآياتها إحدى وثلاثون، نزلت بعد سورة الرحمن.
وصلتها بما قبلها، أنه ذكر فى السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار يوم القيامة، وذكر فى هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم فى تلك الدار.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
شرح المفردات
هل: أي قد، حين: أي طائفة محدودة من الزمان، والدهر: الزمان غير المحدود، أمشاج: أي أخلاط واحدها مشج (بفتحتين) ومشيج، نبتليه: أي نختبره، السبيل: الطريق، أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات.
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئا يذكر ويعرف، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفا فى الأصلاب، ثم علقا، ثم مضغا فى الأرحام، ثم أوضح لهم السبيل، وبيّن لهم طريقى الخير والشر، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور.
الإيضاح
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي قد أتى على هذا النوع نوع الإنسان زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.(29/159)
قال الفراء وثعلب: المراد أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا.
وفى الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) من أن الإنسان لم بوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال، فقد كانت الأرض أوّلا ملتهبة بعد أن انفصلت من الشمس، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج، وأمكن أن ينبت فيها النبات، ثم بعض الطيور، ثم بعض الحيوان الداجن، ثم الإنسان وقد بينا ذلك عند تفسير قوله تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» وذكرنا هناك أن الأيام هى الأطوار التي مر عليها خلق السموات والأرض إلى آخر ما قلنا هناك.
ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة فى تكوين الإنسان فقال:
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد إذا شبّ وبلغ الحلم. قال الحسن: نختبر شكره فى السراء، وصبره فى الضراء.
وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: الأمشاج الحمرة فى البياض والبياض فى الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي يصف سهما:
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النّصل سيط به مشيج
وقال قتادة: هى أطوار الخلق، طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما كما قال فى سورة المؤمنين: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» الآية.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر فقال:
(فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر.(29/160)
وهذه من عالم أشرف من عالم المادة التي هى فى أسفل درجات النقص، والكمال إنما نزل إليه من عالم أرقى منها وهو العالم الروحي الإلهى.
فهو إما أن يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات، وإما أن يتفكر ويجدّ بالعلم والعمل، ليصل إلى عالم الكمال والجمال، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» .
والخلاصة- نحن نعامله معاملة المختبر له، أيميل إلى أصله الأرضى، فيكون حيوانا نباتيا معدنيا شهوانيا، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر، وهى من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكوّن منها.
ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال:
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد، ونصبنا له الدلائل فى الأنفس والآفاق، لتكون مسرحا لفكره، ومغنما لعقله.
ثم بين أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين فقال:
(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي فبعض اهتدى وعرف حق النعمة فشكر، وبعض أعرض فكفر.
وإجمال ذلك- إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته.
ونحو الآية قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» .
وروى مسلم عن أبى مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» .(29/161)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 12]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
شرح المفردات
أعتدنا: أي هيأنا وأعددنا، والأغلال: واحدها غلّ (بالضم) وهو القيد، والسعير: النار الموقدة، والأبرار: واحدهم برّ. قال فى الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البارّ البررة، والأبرار هم أهل الطاعة والإخلاص والصدق وقال قتادة: هم الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، وقيل هم الصادقون فى إيمانهم، المطيعون لربهم، الذين سمت همتهم عن المحقرات، فظهرت فى قلوبهم ينابيع الحكمة، والكأس: هى الإناء الذي فيه الشراب، وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو للمراد كما قال أبو نواس:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
وقال عمرو بن كلثوم:
صبنت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا(29/162)
والمزاج: ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، أي يكون شوبها وخلطها بماء الكافور كما قال:
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
وجعلت كالكافور لما فيه من البياض وطيب الرائحة والبرودة، بها: أي منها، يفجرونها: أي يجرونها إلى منازلهم وقصورهم حيث شاءوا، يوفون بالنذر: أي يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، شره: أي شدائده، مستطيرا: أي فاشيا منتشرا فى الأقطار من قولهم: استطار الحريق والفجر إذا انتشر، عبوسا:
أي تعبس فيه الوجوه، قمطريرا: أي شديد العبوس، تقول العرب يوم قمطرير وقماطر، وأنشد الفراء:
بنى عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذ
وقاهم: أي دفع عنهم، لقّاهم: أي أعطاهم، نضرة:
أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: نضرة فى وجوههم، وسرورا فى قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هدى الإنسان لطريق الخير وطريق الشر فى قوله:
«وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» ثم أردفه ببيان أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين: فريق وقفه الله واعتدى وشكر، وفريق أضله الله وكفر أعقب ذلك بما أعده لكل منهما يوم القيامة، فأعد للأولين جنات ونعيما، فهم يشربون الخمر (وهى ألذ شراب لديهم) ممزوجة بماء عذب زلال، طيب الرائحة، تأتيهم إلى غرفهم متى شاءوا وكيف أرادوا، ويلبسون الحرير ويجلسون على الأرائك لا يرون فيها حرّا ولا قرّا، ثم ذكر ما أعدوه فى الدنيا لنيلهم هذا الثواب العظيم، فبين أنهم يطعمون الطعام للفقراء البائسين واليتامى والأسارى، ويؤدون ما وجب عليهم لربهم، ويخافون عذاب يوم القيامة وأعد للآخرين سلاسل وقيودا ونارا تشوى الوجوه والأجسام.(29/163)
الإيضاح
(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) أي إنا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا وخالفوا أمرنا- سلاسل بها يقادون إلى الجحيم، وأغلالا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا، ونارا بها يحرقون.
ونحو الآية قوله: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهىّ ولباس بهيّ فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي إن الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدّوا فرائضه واجتنبوا معاصيه- يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردا وبياضا.
وهذا المراج من عين يشرب منها عباد الله المتقون وهم فى غرف الجنات، يسوقونها إليهم سوقا سهلا إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبون وصوله إليه.
قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا.
ثم ذكر ما لأجله استحقوا الكرامة فقال:
(1) (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، ومن أوفى بما أوجبه على نفسه فهو على الوفاء بما أوجبه الله عليه أولى.
وقضارى ذلك- إنهم يؤدونه ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر.(29/164)
(2) (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي ويتركون المحرمات التي نهاهم ربهم عنها خيفة سوء الحساب يوم المعاد، حين يستطير العذاب ويفشو بين الناس إلا من رحم الله.
(3) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي ويطعمون الطعام وهم فى محبة له وشغف به- المسكين العاجز عن الاكتساب، واليتيم: الذي مات كاسبه، والأسير: المأخوذ من قومه، المملوكة رقبته، الذي لا يملك لنفسه قوة ولا حيلة.
والمراد من إطعام الطعام الإحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأى وجه كان، وإنما خص الطعام لكونه أشرف أنواع الإحسان، لا جرم أن عبر به عن جميع وجوه المنافع.
ونحو الآية قوله: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» .
وقد وصّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقّاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» .
وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين- بيّن أن لهم فى ذلك غرضين:
(1) رضا الله عنهم، وإلى ذلك أشار بقوله:
(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) فلا نمنّ عليكم ولا نتوقع منكم مكافأة ولا غيرها مما ينقص الأجر، وقد كانت عائشة رضى الله عنها تبعث الصدقة إلى أهل بيت من البيوت ثم تسأل المبعوث، فإن ذكر دعاء دعت بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله.
ثم أكد هذا ووضحه بقوله:
(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها،(29/165)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
ولا أن تشكرونا لدى الناس: قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به، ليرغب فى ذلك راغب (2) خوف يوم القيامة، وإلى ذلك أشار بقوله:
(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ويتلقانا بلطفه فى ذلك اليوم العبوس القمطرير.
وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين: طلب رضا الله، والخوف من يوم القيامة- بيّن أنه أعطاهم الغرضين فأشار إلى الثاني بقوله:
(فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي فدفع الله عنهم ما كانوا فى الدنيا يحذرون من شر ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضى ربهم عنهم.
وأشار إلى الأول بقوله:
(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي وأعطاهم نضرة فى وجوههم وسرورا فى قلوبهم ونحو الآية قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» .
وقد جرت العادة أن القلب إذا سرّ استنار الوجه،
قال كعب بن مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضى الله عنها: دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه- الحديث.
(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكول هنى، وحريرا منه ملبس بهى، ونحو الآية قوله: «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)(29/166)
شرح المفردات
الأرائك: واحدتها أريكة، وهو السرير فى الحجلة (الناموسية) والزمهرير:
البرد الشديد، دانية: أي قريبة، ظلالها: أي ضلال أشجارها، وذلّلت: أي سخرت ثمارها وسهل أخذها وتناولها، والقطوف: الثمار، واحدها قطف (بكسر القاف) وآنية: واحدها إناء، وهو ما يوضع فيه الشراب، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا عروة له، والقوارير: واحدتها قارورة، وهى إناء رقيق من الزجاج، قدّروها تقديرا: أي قدرها السقاة على قدر رىّ شاربها، كأسا: أي خمرا، والزنجبيل: نبت فى أرض عمّان وهو عروق تسرى فى الأرض وليس بشجر، ومنه ما يأتى من بلاد الزنج والصين وهو الأجود، قاله أبو حنيفة الدينوري، وكانت العرب تحبه فى الشراب، لأنه يحدث لذعا فى اللسان إذا مزج بالشراب، قال الأعشى.
كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا والسلسبيل: الشراب اللذيذ، تقول العرب: هذا شراب سلسل وسلسال وسلسبيل:
أي طيب الطعم لذيذه، وتسلسل الماء فى الحلق: جرى، مخلدون: أي دائمون على(29/167)
البهاء والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون، نمّ: أي هناك، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، والأساور: واحدها سوار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم- أردفه وصف مساكنهم، ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته، ثم أعاد الكلام مرة أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحلي، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال، وبديع الخلال.
الإيضاح
(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي متكئين فى الجنة على السرر فى الحجال، ليس لديهم حرّ مزعج ولا برد مؤلم، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمدى، فهم لا يبغون عنها حولا.
والخلاصة- إنهم لا يرون فى الجنة حر الشمس، ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى:
منعّمة طفلة كالمها ... لم تر شمسا ولا زمهريرا
وفى الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ» .
(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي إن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار، مظلة عليهم زيادة فى نعيمهم.
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) أي سخرت للقائم والقاعد والمتكئ، قال مجاهد:
إن قام ارتفعت منه بقدر، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها، وكذلك إذا اضطجع، لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك.(29/168)
وعن البراء بن عازب قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا.
وبعد أن وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم- وصف شرابهم وأوانيه فقال:
(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي يدير عليهم خدمهم كؤوس السراب والأكواب من الفضة.
وقد تكوّنت وهى جامعة لصفاء الزجاجة وشفيفها، وبياض الفضة ولينها، وقد قدّرها لهم السقاة الذين يطوفون عليهم للسقيا على قدر كفايتهم وريهم، وذلك ألذّ لهم وأخف عليهم، فهى ليست بالملأى التي تفيض، ولا بالناقصة التي تغيض.
والخلاصة- إن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء فى صفاء الزجاج، فيرى ما فى باطنها من ظاهرها.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال: «ليس فى الجنة شىء إلا قد أعطيتم فى الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة» . ولا منافاة بين كون الأوانى من الفضة، وبين كونها من الذهب كما ذكر فى قوله: «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ» لأنهم تارة يسقون بهذه، وتارة يسقون بتلك.
وبعد أن وصف أوانى مشروبهم وصف المشروب نفسه فقال:
(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) أي ويسقى الأبرار فى الجنة خمر ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانوا يحبون ذلك ويستطيبونه، كما قال المسيّب بن علس يصف رضّاب امرأة:
وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته بسلاقة الخمر
(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) أي ويسقون من عين فى الجنة غاية فى السلاسة وسهولة الانحدار فى الحلق، قال ابن الأعرابى: لم أسمع السلسبيل إلا فى القرآن، وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها اه، ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم ... كأسا يصفّق بالرحيق السلسل(29/169)
وقال مقاتل: هو عين يتسلسل عليهم ماؤها فى مجالسهم كيف شاءوا اه.
وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما فى الدنيا، وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فالمعانى غير ما نعهد، والألفاظ لمجرد تخيل شىء مما نراه كما قال ابن عباس.
ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب فقال:
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة يأتون على ما هم عليه: من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة.
(إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي إذا رأيت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم وانتشارهم فى قضاء حوائج سادتهم- كأنهم اللؤلؤ المنثور «واللؤلؤ المنثور أجمل فى النظر من اللؤلؤ المنظوم» ولأنهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعا فى الخدمة.
وعن المأمون أنه قال ليلة زفّت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من الذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، ونظر إليه فاستحسن ذلك المنظر: لله درّ أبى نواس كأنه أبصر هذا حيث قال:
كأن صغرى وكبرى من قواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
ولما ذكر نعيم أهل الجنة بما تقدم ذكر أن هناك أمورا أعلى وأعظم من ذلك فقال:
(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وإذا نظرت فى الجنة رأيت نعيما عظيما وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف.
وقد اختلفوا فى المراد من هذا الملك الكبير، فقيل إن أدناهم منزلة من ينظر(29/170)
ملكه فى مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو استئذان الملائكة عليهم، فلا يدخلون إلا بإذنهم، وقيل هو الملك الدائم الذي لا زوال له.
ولم يجىء فى الأخبار الصحيحة ما يفسر هذا الملك الكبير، فأولى بنا أن نؤمن به ونترك تفصيله إلى علام الغيوب.
وبعد أن وصف شرابهم وآنيته وما هم فيه من النعيم، وصف ملابسهم فقال:
(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي إن لباس أهل الجنة فى الجنة الحرير، ومنه سندس، وهو رفيع الديباج للقمصان والغلائل ونحوها مما يلى أبدانهم، وإستبرق: وهو غليظ الديباج لا معه مما يلى الظاهر كما هو المعهود فى لباس الدنيا.
وبعدئذ ذكر حليّهم فقال:
(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي وقد حلوا أساور من فضة، وجاء هنا «مِنْ فِضَّةٍ» وفى سورة فاطر «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» لأنهم قد يجمعون بينهما، أو يلبسون الذهب تارة والفضة أخرى.
وقال سعيد بن المسيّب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفى يده ثلاثة أسورة واحدة من ذهب، وأخرى من فضة، وثالثة من لؤلؤ.
والتحلّي مما يختلف باختلاف العادات والطبائع، ونشأة الآخرة غير هذه النشأة، ومن المشاهد فى الدنيا أن بعض الملوك يتحلّون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي، ولا يرون فى ذلك بأسا لمكان الإلف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة فى الجنة حبّ التحلي دائما.
ثم ذكر أنهم يسقون شرابا آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالزنجبيل فقال:
(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين.(29/171)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قال أبو فلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان فى آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك.
ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله ونؤمن به كما أخبر به فى كتابه.
وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى فى مشربهم وملبسهم ومسكنهم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما قدموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال فقال:
(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذ: إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم تعملون من الصالحات، وكان عملكم فيها مشكورا، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة.
والغرض من ذكر هذا القول لهم زيادة سرورهم، فإنه إذا قيل للمعاقب:
هذا بعملك الرديء ازداد غمه وألم قلبه، وإذا قيل للمثاب: هذا بطاعتك وعملك الحسن، ازداد سروره وكان تهنئة له:
ونحو الآية قوله: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» وقوله: «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)(29/172)
شرح المفردات
نزّلنا عليك القرآن تنزيلا: أي أنزلناه عليك مفرقا منجما، حكم ربك: هو أخير نصرك على الكفار إلى حين، والآثم: هو الفاجر المجاهر بالمعاصي، والكفور:
هو المشرك المجاهر بكفره، بكرة وأصيلا: أي أول النهار وآخره، والمراد بذلك جميع الأوقات، أسجد: أي صلّ، سبحه: أي تهجد، وراءهم: أي أمامهم، شددنا أسرهم: أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، بدّلنا أمثالهم: أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم فى شدة الخلق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الآخرة وبيّن عذاب الكفار على سبيل الاختصار وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء، إرشادا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب- أردف ذلك ذكر أحوال الدنيا، وقدّم أحوال الطيعين، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته على أحوال المتمردين والمشركين:
وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهى أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالة لوحشته، وتقوية لقلبه، حتى يتم فراغ قلبه، ويشتغل بطاعة ربه وهو على أتمّ ما يكون سرورا ونشاطا.(29/173)
الإيضاح
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرقا منجما فى مدى ثلاث وعشرين سنة ليكون أسهل لحفظه وتفهّمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجدّ فى الكون، فتكون تثبيتا لايمان المؤمنين، وزيادة فى تقوى المتقين.
وقد يكون المعنى: نزلنا عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة ولا سحر، وبذا تزول الوحشة من قول الكفار: إنه كهانة أو سحر.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر لما ابتلاك به ربك وامتحنك به من تأخير نصرك على المشركين، ومقاساة الشدائد فى تبليغ رسالته ووحيه الذي أنزله عليك، فإن لذلك عاقبة حميدة، وغاية يثلج لها فؤادك.
(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي ولا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد فى الكفر، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة: اترك الصلاة وأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر، أو قال لك الكفور الوليد بن المغيرة: أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر، فلا تطع واحدا منهما ولا من غيرهما، فقد أعددنا لك النصر فى الدنيا، والجنة فى الآخرة.
وقصارى ذلك- لا تتبع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر، وهذا ما يفهم من قولك: لا تطع الظالم- من أن المعنى- لا تتبعه فى الظلم إذا دعاك إليه.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الآثم والكفور وهو لا يطيع واحدا منهما، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركب فى طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان(29/174)
أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم، ومن ثم وجب على كل مسلم ان يرغب إلى الله ويتضرع إليه فى أن يصونه عن اتباع الشهوات، ويعصمه عن ارتكاب المحرمات، لينجو من الآفات، ويسلم من الزلات، ليلقى ربه أبيض الصحائف من السيئات.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ودم على ذكره فى جميع الأوقات بقلبك ولسانك.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء.
(وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي وتهجد له طائفة من الليل، ونحو هذا ما جاء فى قوله:
«وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» وقوله: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» .
ثم قال منكرا على الكفار وأشباههم حب الدنيا والإقبال عليها، وترك الآخرة وراءهم ظهريّا.
(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) أي إن هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها، وينهمكون فى لذاتها الفانية، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده.
والخلاصة- لا تطع الكافرين واشتغل بالعبادة، لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة.
ثم بغى عليهم تركهم للعبادة، وعفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال:
(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي كيف يغفلون عنا ونحن الذين خلقناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب، أفبعد هذا نتركهم سدى؟.(29/175)
ثم توعّدهم وهدّدهم فقال:
(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي وإذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
ونحو الآية قوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» وقوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» وقوله: «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ» .
وقد جرت سنة الله بأن يزيل ما لا يصلح للرقى من خلقه، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم فيجعلهم مكانهم، كما هى قاعدة بقاء الصلاح والأصلح، وإهلاك ما لا يصلح للبقاء.
وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أن فى هذا الذكر تذكرة وموعظة للخلق، وفوائد جمة لمن ألقى سمعه، وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فقال:
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي إن هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع، ونسق عجيب، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تذكرة للمتأملين، وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخير لنفسه فى الدنيا والآخرة، فليتقرب إلى ربه بالطاعة، ويتبع ما أمره به، وينته عما نهاه عنه، ليحظى بثوابه، ويبتعد عن عقابه.
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما تشاءون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ولا تقدرون على تحصيلها إلا إذا وفقكم الله لاكتسابها، وأعدّكم لنيلها، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا فى الكسب، وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل، فمشيئة العبد وحدها لا نأتى بخير، ولا تدفع شرا، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الحير كما
فى حديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .(29/176)
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن الله عليم بمن يستحق الهداية فييسّرها له، ويقيّض له أسبابها، ومن هو أهل للغواية، فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيهديه ويوفقه للطاعة بحسب استعداده.
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي والذين ظلموا أنفسهم فماتوا على شركهم، أعدّ لهم فى الآخرة عذابا مؤلما موجعا، هو عذاب جهنم وبئس المصير.
نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار، ويجعل سعينا مشكورا لديه.
ما تضمنته السورة من المقاصد
اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد:
(1) خلق الإنسان.
(2) جزاء الشاكرين والجاحدين.
(3) وصف الجنة والنار.
(4) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر وذكر الله والتهجد بالليل.(29/177)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
سورة المرسلات
هى مكية إلا آية: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ» فمدنية.
وعدد آيها خمسون، نزلت بعد سورة الهمزة.
ومناسبتها لما قبلها- أنه هنا أقسم على تحقيق ما تضمنته السورة قبلها من وعيد الفجار، ووعد المؤمنين الأبرار.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
شرح المفردات
المرسلات: هم الملائكة الذين أرسلهم الله لإيصال النعمة إلى قوم، والنقمة إلى آخرين، عرفا: أي للمعروف والإحسان، والعاصفات: أي المبعدات للباطل كما تبعد العواصف التراب والتبن والهباء، والناشرات: أي الناشرات لأجنحتهنّ عند نزولهنّ إلى الأرض، فالفارقات فرقا: أي فالفارقات بين الحق والباطل، فالملقيات ذكرا: أي فالملقيات العلم والحكمة إلى الأنبياء، عذرا أو نذرا: أي للإعذار والإنذار،(29/178)
من قولهم: عذره إذا أزال الإساءة، وأنذر إذا خوّف، طمست: أي محقت وذهب نورها، فرجت: أي فتحت وشقت، نسفت: أي اقتلعت من أماكنها بسرعة من قولهم: انتسفت الشيء إذا اختطفته، أقّتت: أي عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على أممها، أجّلت: أي أخرت وأمهلت، الفصل: أي الفصل بين الخلائق بأعمالهم: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ويل: أي عذاب وخزى.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان والمعروف ليبلغوه للناس، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته فى النفوس الحية، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من الله- إن يوم القيامة لا ريب فيه، وحين تمحق أنوار النجوم، وتشقق السماء، وتنسف الجبال، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم، ويفصل بين الخلائق إبّان العرض والحساب يكون الخزي والعذاب للكافرين المكذبين.
الإيضاح
(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أي أقسم بملائكتى الذين أرسلتهم بالإحسان والمعروف، ليبلغوه أنبيائى ورسلى.
(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) أي فالملائكة المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الريح التراب والهباء.
(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي والملائكة الذين ينشرون آثارهم فى الأمم والنفوس الحية.(29/179)
(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي فالملائكة النازلين بأمر الله للفرق بين الحق والباطل، والهدى والغىّ.
(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي فالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم بعقاب الله إن هم خالفوا أمره.
(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) أي أقسم بهذه الأقسام إن ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة.
(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي فإذا ذهب ضوء النجوم، ونحو الآية قوله: «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» .
(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي وإذا السماء انفطرت وتشققت، وهذا كقوله:
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» وقوله: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» وقوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي وإذا الجبال فرقتها الرياح، فلم يبق لها عين ولا أثر، وهذا كقوله: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» .
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي وإذا جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، وهذا كقوله: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» .
(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟) أي ويقال حينئذ: لأى يوم أخّرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم، وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها، وفظاعة أهوالها.
والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه كأنه قيل: أي يوم هذا الذي أجّل اجتماع الرسل إليه؟ إنه ليوم عظيم.
ثم بين ذلك اليوم فقال:(29/180)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي ليوم يفصل الله فيه بين الخلائق، وهو اليوم الذي أجّل اجتماع الرسل له.
(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟) أي وما أعلمك بيوم الفصل وشدته وعظيم أهواله؟
ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذ فقال:
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزى لمن كذب بالله ورسله وكتبه وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
شرح المفردات
من ماء مهين: أي من نطفة قذرة حقيرة، فى قرار مكين: أي فى الرحم، إلى قدر معلوم: أي إلى مقدار معيّن من الوقت عند الله، فقدرنا: أي على خلقه وتصويره كيف شئنا، والكفات: ما يكفت، أي يضم ويجمع، من كفت الشيء.
إذا ضمه وجمعه، وأنشد سيبويه:
كرام حين تنكفت الأفاعى ... إلى أجحارهنّ من الصقيع
رواسى: أي جبالا ثوابت، شامخات: أي مرتفعات، فراتا: أي عذبا.(29/181)
المعنى الجملي
بعد أن حذر الكافرين وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة، وأقسم لهم بملائكته المقربين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علّام الغيوب- أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستعذبون فى الدنيا والآخرة، ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم، فإنه قد خلقهم من ماء مهين فى قرار مكين إلى زمن معلوم، ثم أنشأهم خلقا آخر، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ليشكروا نعم الله عليهم، فكفروا بها وأنكروا وحدانيته وعبدوا الأصنام والأوثان، ثم ذكرهم بنعمه فى الآفاق إذ خلق لهم الأرض وجعلها تضمهم أحياء وأمواتا، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم وجعل فيها الأنهار والعيون، ليشربوا منها ماء عذبا زلالا، فويل لمن كفر بهذه النعم العظام.
الإيضاح
(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ؟) أي ألم نهلك من كذب الرسل قبلكم، ونعذبهم فى الدنيا بشتى أنواع العذاب، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط إلى أشباه ذلك من المثلاث التي حلت بالأمم قبلكم، جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيئ أفعالهم، وإن سنننا فى المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وتندموا، ولات ساعة مندم.
(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم فعلوا مثل أفعالهم.
وفى هذا من شديد الوعيد لأهل مكة ما لا يخفى.(29/182)
ثم ذكر الحكمة فى إلحاقهم بهم فقال:
(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا فى جميع المجرمين واحدة، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم- نفعل بالمتأخرين الذين حذوا حذوهم، واستنوا سنتهم، فسنننا تجرى على وتيرة واحدة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء وإن عذبوا فى الدنيا بأنواع من العذاب، فالطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة، والتكرير للتوكيد شائع فى كلام العرب كما تقدم فى سورة الرحمن.
وقال القرطبي: كرر الويل فى هذه السورة عند كل آية لمن كذب بشىء لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فجعل لكل مكذب بشىء عذابا سوى عذابه بتكذيب شىء آخر اه.
ثم ذكّرهم بجزيل نعمه عليهم فى خلقهم وإيجادهم مما يستدعى جزيل شكرانهم فقال:
(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟) أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت فى الأرحام إلى حين الولادة، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون، إذ خلقناكم فى أحسن الصور والهيئات- أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث؟ لكنكم كفرتم أنعمه، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته، وعبدتم الأصنام والأوثان، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء، فسترون فى هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزى وعذاب لمن كذب بهذه المنن العوالي.
وبعد أن ذكّرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم فى الأنفس- ذكرهم بما أنعم عليهم فى الآفاق، وأرشد إلى أمور ثلاثة:(29/183)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
(1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً؟) أي ألم نجعل الأرض مهادا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها أحياء على ظهرها، وأمواتا فى بطنها، فالأحياء يسكنون فى منازلهم، والأموات يدفنون فى قبورهم.
خرج الشعبي فى جنازة فنظر إلى الجبّان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.
وكانوا يسمون بقيع الغرقد (مقبرة المدينة) كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى.
(2) (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي وجعلنا جبالا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم.
وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوّانية التي هى أبعد طبقات الأرض عن سطحها وتلك الطبقة تضم فى جوفها كرة النار المشتعلة التي فى باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها.
(3) (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وأسقيناكم ماء عذبا فراتا تشربون منه، إما آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإما من العيون النابعات منها ويمدها الثلج الذي يذوب شيئا فشيئا فوق ظهر الأرض متنزلا إلى بطنها، متجها إلى عيونها الجارية.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب عظيم فى الآخرة لمن كفر بهذه النعم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)(29/184)
شرح المفردات
لا ظليل: أي لا بقي من حر الشمس، والشرر: ما يتطاير من النار، كالقصر:
أي كالدار الكبيرة المشيدة، جمالة: واحدها جمل، فكيدون: أي فاحتالوا علىّ يقال: كدت فلانا إذا احتلت عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن للمكذبين بالله وأنبيائه واليوم الآخر العذاب فى يوم الفصل والجزاء- بين هنا نوع ذلك العذاب بما يحار فيه أولو الألباب، ويخرّ من هوله كل مخبت أوّاب، فأخبر بأنهم يؤمرون بالانطلاق إلى ما كانوا يكذبون به فى الدنيا، إلى ظلّ دخان جهنم المتشعب لكثرته وتفرّقه إلى ثلاث شعب عظيمة، وهو لا يظلّهم ولا يمنع عنهم حر اللهب المتكوّن من نار ترمى بشرر، كأنه القصر المشيد علوّا وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر انبساطا وتفرقا عن غير أعداد محصورة، وحركة غير معينة.
ولا شك أن هذا تشبيه على ما تعهده العرب إذا وصفت الأشياء بالعظم، ألا تراهم يشبهون الناقة العظيمة بالقصر كما قال:
فوقفت فيها ناقتى وكأنها ... فدن لأقضى حاجة المتلوّم
ثم أخبر بأن الويل للمكذبين بهذا اليوم، يوم لا ينطقون من شدة الدهشة والحيرة، ولا يؤذن لهم فى الاعتذار فيعتذرون، يوم يجمع الله الأولين والآخرين(29/185)
فى صعيد واحد، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتقريع: إن كنتم تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم شيئا من العذاب فهلمّوا.
الإيضاح
(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقول لهم خزنة جهنم حينئذ: اذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب فى الدنيا.
ثم بين هذا العذاب ووصفه بجملة صفات:
(1) (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي انطلقوا إلى ظل دخان جهنم المتشعب إلى ثلاث شعب: شعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم، وشعبة من فوقهم والمراد أنه محيط بهم من كل جانب كما جاء فى الآية الأخرى: «أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» .
(2) (لا ظَلِيلٍ) أي ليس بمظلّ فلا يقى من حر ذلك اليوم.
وفى هذا تهكم بهم، ونفى لأن يكون فيه راحة لهم، وإيذان بأن ظلهم غير ظل المؤمنين.
(3) (وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) أي ولا يدفع من حر النار شيئا، لأنه فى جهنم فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها كما قال فى سورة الواقعة: «فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» .
ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان فقال:
(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق فى جهات كثيرة كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصا.(29/186)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
ثم وصف اليوم الذي فيه العذاب فقال:
(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي هذا يوم لا يتكلمون من الحيرة والدهشة، ولا يؤذن لهم فى الاعتذار، لأنه ليس لديهم عذر صحيح، ولا جواب مستقيم.
وقد يكون المراد- إنهم لا ينطقون بما يفيد فكأنهم لا ينطقون، وتقول العرب لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما دعتهم إليه الرسل، فأنذرتهم عاقبته.
(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي هذا يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، فيؤتى كل عامل جزاء عمله من ثواب وعقاب، ويفصل بين العباد بعضهم مع بعض، فيقتص من الظالم للمظلوم، وترد له حقوقه ثم بين كيف يكون الفصل فقال:
(جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) أي جمعنا بينكم وبين من تقدمكم من الأمم فى صعيد واحد ليمكن الفصل بينكم، فيقضى بهذا على هذا، ولولا ذلك ما أمكن إذ لا يقضى على غائب.
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي فإن كان لكم حيلة فى دفع العذاب عنكم فاحتالوا، لتخلصوا أنفسكم من العذاب.
وفى هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين فى الدنيا، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالبعث لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه فى الدنيا.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)(29/187)
شرح المفردات
ظلال: واحدها ظل، وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، ولكن موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال فئ إلا لما زالت عنه الشمس، ويعبر بالظل أيضا عن الرفاهية، وعن العزة، وعيون: أي أنهار، اركعوا: أي صلوا، حديث: أي كلام.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه ما يحلّ بالكفار من الخزي والنكال يوم القيامة- أعقبه بذكر ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة حينئذ، فهم يكونون فى ترف ونعيم ويأكلون فواكه مما يشتهون، ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم فى الأيام الخالية، وهذا جزاء كل محسن لعمله.
ثم خاطب المكذبين مهدّدا لهم فقال: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا» ولا نصيب لكم فى الآخرة، لأنكم كافرون.
ثم ذكر أن الكفار إذا أمروا بطاعة الله والخشوع له أبوا وأصروا على ما هم عليه من الاستكبار فويل لهم مما يعملون، وإذا لم يؤمنوا بالقرآن والنبي الذي جاء به مع تظاهر الأدلة على صدقه. فبأى كلام بعده يصدقون؟(29/188)
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أي إن المتقين فى ظلال ظليلة، وكنّ كنين، وعيون وأنهار، أي فى ظلال الأشجار وظلال القصور، فلا يصيبهم أذى حرّ ولا قرّ، بخلاف الكافرين فإنهم فى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب كما تقدم.
ونحو الآية قوله فى سورة يس: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» .
(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ولديهم فواكه يأكلون منها كلما اشتهت نفوسهم لا يخافون ضرها ولا عاقبة مكروهها.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم: كلوا أيها الأبرار من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما شئتم أكلا هنيئا خالص اللذة، لا يشوبه سقم ولا يكدره تنغيص، وهو دائم لكم لا يزول ولا يورثكم أذى فى أبدانكم حزاء بما عملتم فى الدنيا من طاعة الله، واجتهدتم فيما يقربكم من رضوانه.
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيّانا فى الدنيا- نجزى أهل الإحسان لطاعتهم وعبادتهم لنا، فلا نضيع لهم أجرا، كما قال: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» .
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل للذين يكذبون ما أخبر الله به من تكريم هؤلاء المتقين بما أكرمهم به يوم القيامة.
ثم خاطب المكذبين مهددا لهم فقال:
(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي كلوا بقية آجالكم، وتمتعوا بقية أعماركم(29/189)
وهى قليلة المدى، وسنستنّ بكم سنة من قبلكم من مجرمى الأمم الخالية التي متعت إلى حين، ثم انتقمنا منهم بكفرهم وتكذيبهم لرسلنا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل، وكذبوا بما أخبرهم الله أنه فاعل بهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين اعبدوا الله وأطيعوه واخشوا يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، استكبروا وأصروا على عنادهم.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثقيفا بالصلاة، فقالوا لا نحبوا (لا نركع) فإنها سبّة علينا، فقال عليه السلام «لا خير فى دين ليس فيه ركوع ولا سجود» .
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: إنما يقال هذا فى الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، من جراء أنهم لم يكونوا يسجدون فى الدنيا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأوامر الله ونواهيه.
وبعد أن بالغ فى زجر الكفار بما تقدم ذكره، وحث على الانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجيب من هؤلاء المشركين الذين لم يسمعوا نصيحة الداعي، ولم يتبعوا عظاته، وما فيه رشدهم وصلاحهم فى آخرتهم ودنياهم فقال:
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها، فبأىّ كلام بعد هذا يصدقون؟
فالقرآن الكريم جامع لأخبار الدارين، مبين لأحوال النشأتين على نمط بديع تؤيده الحجج القاطعة، وتدعمه البراهين الناطقة.
وقصارى ذلك- إن القرآن قد اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت، وعدم الانتفاع بعسى ولعلّ وليت.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله أجمعين.(29/190)
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد
حوت هذه السورة المقاصد الآتية:
(1) الإخبار بأن يوم الفصل آت لا شك فيه، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام.
(2) وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين.
(3) توبيخ المكذبين على نكران نعم الله عليهم فى الأنفس والآفاق.
(4) وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان.
(5) وصف نعيم المتقين وما يلقونه من الكرامة فى جنات النعيم، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان والأرض والجبال، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته.
وصل ربنا على عبدك ورسولك محمد النبي الأمى وعلى آله وسلم.
وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية فى الثاني من ذى القعدة من السنة الخامسة والستين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية المباركة، فلله الحمد والمنة.(29/191)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 تمجيد الله نفسه وبيان أنه خالق الخلق والمتصرف فى الملك.
6 نظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات.
8 الكواكب زينة للسماء الدنيا وسبب لتكوّن الأرزاق.
10 وصف النار بما تشيب من هوله الولدان.
11 سؤال الزبانية للمشركين بقولهم: ألم يأتكم رسل ينذرونكم؟.
13 تهديد المشركين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السرّ والعلن.
15 تنبيه العباد على نعمه المتظاهرة عليهم.
فى الحديث «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» .
16 تخويف المشركين بحلول العذاب بهم كما حل بمن قبلهم.
19 ضرب المثل المبين لحالى المشرك والموحد.
22 الإنسان كنود لنعمة ربه.
24 أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين: هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله.
25 خلاصة ما حوته هذه السورة.
27 الإقسام بالقلم وما يسطر به من الكتب.
28 ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما ولا امرأة.
30 تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى التشدد مع قومه المشركين.
31 الكذب أسّ المعايب.
33 وعيد الكذاب النمام.
35 فى أىّ أرض كانت الجنة التي ذكرت فى الكتاب الكريم؟.
37 جزاء أصحاب الجنة على حرمانهم للفقراء.
41 كيف يسوّى بين المطيع والعاصي؟.
42 سدّ طرق الحجاج على المشركين.
44 تخويف المشركين بما فى قدرته تعالى من القهر.
46 ذكر الشبه التي ربما تكون مانعة لهم من قبول الحق.
48 ما جاء من الأحاديث فى الإصابة بالعين.(29/193)
48 ما تضمنته هذه السورة من موضوعات.
50 بيان أن يوم القيامة حق لا شك فيه.
51 تفصيل ما نزل بكل أمة من العذاب.
53 المشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
54 تفاصيل أحوال يوم القيامة.
56 ما أعده الله لمن أعطى كتابه بيمينه.
59 ما يتمناه من أوتى كتابه بشماله وجزاؤهم.
60 العرب تكنى بالسبعة والسبعين والسبعمائة عن الكثرة.
61 تعظيم القرآن والرسول المنزل عليه.
62 محمد صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يفتعل القرآن.
64 ما تضمنته هذه السورة الكريمة.
66 كان المشركون يقولون: ما هذا العذاب الذي يخوّفنا به محمد؟.
67 مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد.
بيان أن يوم القيامة آت بأهواله لا شك فيه.
68 تمنى الكافر الفداء بالعزيز لديه من مال وولد.
70 المؤهلات التي توصل المرء إلى المراتب العلى.
72 أثر عن السلف أنهم كانوا كثيرى الوجل والخوف من يوم القيامة.
74 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدع المشركين وشأنهم حتى يأتى اليوم الموعود.
76 يخرج الكافرون من الأجداث سراعا يسابق بعضهم بعضا.
77 خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة.
78 إنذار نوح لقومه وتخويفهم بحلول العذاب بهم.
79 تفصيل ما أنذرهم به.
80 صلة الرحم تزيد فى العمر.
81 شكوى نوح لربه أنه أنذر قومه فعصوه.
83 وعد نوح لقومه بسعادة الدنيا والدين إذا آمنوا 85 توجيه أنظارهم إلى بدء خلقهم.
86 تعداد النعم التي أنعم بها على الإنسان.
87 الأصنام التي كانت تعبدها العرب.
89 جزاء قوم نوح بالغرق على عصيانهم.
91 مقاصد هذه السورة.(29/194)
93 تسمية السور بأسماء تدعو إلى النظر والاعتبار.
94 ما جاء عن الجن من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل.
96 الصاحبة تتخذ للحاجة إليها.
98 مقال الجن حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم 101 الخصب والسعة فى الرزق لا توجد إلا إذا وجدت الطمأنينة والعدل ويزول الظلم.
105 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس لا علم له بقيام الساعة.
106 الآية: فلا يظهر على غيبه أحدا، تدل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر.
107 الرسول المرتضى يعلم بعض الغيوب بالوحى.
108 ما تضمنته هذه السورة.
110 أول ما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم خافه وظن أن به مسا من الجن 111 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وبترتيل القرآن.
112 كيفية مجىء الوحى.
113 أمره صلى الله عليه وسلم بمداومة الذكر والإخلاص فى العبادة.
115 حسن معاملة الناس.
116 ألوان العذاب التي أعدت للمكذبين.
119 التخفيف من قيام الليل للأعذار التي تحيط بهم.
121 ما يفعل بعد الترخيص.
123 ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام.
125 خوف النبي صلى الله عليه وسلم من الملك عند بدء الوحى.
126 ما قاله علماء الاجتماع فى حكمة النظافة فى البدن والثوب 127 ما يصادف الداعي للخير من العقبات.
129 ما قاله الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم.
130 تهديد الوليد بن المغيرة.
132 ذكر ما سيفعل به يوم القيامة.
133 ما استنبطه الوليد من الترّهات والأباطيل.
135 ما قاله أبو جهل حين سمع قوله تعالى عليها تسعة عشر.
137 ما يعلم جنود ربك إلا هو.
138 قال أبو جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر؟.
141 أسباب إعراض المشركين عن القرآن 143 ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته لآية: هو أهل التقوى وأهل المغفرة.(29/195)
146 ما قاله عدى بن ربيعة لما أخبر بيوم القيامة.
قال الفرّاء: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا تلوم نفسها.
دليل القدرة على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى الوضع الأول.
148 علامات يوم القيامة. 149 يخبر المرء يوم القيامة بجميع ما عمل.
151 تعليم الله رسوله كيف يتلقى الوحى.
152 تواترت الأحاديث الصحيحة برؤية المولى يوم القيامة.
154 الدليل على صحة البعث.
155 العرب تحذف من الكلام ما يدل عليه.
157 ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبى جهل.
158 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إذا قرأ: أليس ذلك بقادر: سبحانك اللهم وبلى 161 ما قاله علماء طبقات الأرض فى وجود الإنسان على ظهر البسيطة.
الناس فريقان شاكر وكفور. 161 الهداية لطريقى الخير والشر.
163 ما أعده الله للشاكرين من شراب شهى ولباس بهى.
165 وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء.
166 القلب إذا سر استنار الوجه. 169 وصف شراب المتقين وأوانيهم.
170 ما قاله المأمون ليلة زفافه ببوران بنت الحسن بن سهل.
171 التحلي يختلف باختلاف العادات والطبائع.
172 ما يلقاه السعداء من الكرامة كان جزاء لهم على أعمالهم.
174 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه.
نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع الآثمين والكافرين.
176 جرت سنة الله ببقاء الأصلح وإهلاك ما عداه.
تخويف الكفار بما حصل لمن قبلهم من الكفار المكذبين للرسل.
177 ما تضمنته السورة من المقاصد.
179 أقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة إن ما وعدتم به حق.
183 تذكير الإنسان بالنعم التي تترى عليه.
186 وصف العذاب الذي يكون للمكذبين يوم القيامة.
189 وصف ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة فى هذا اليوم.
190 ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف حين أمرهم بالصلاة.
القرآن الكريم اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح.
191 ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد.(29/196)
الجزء الثّلاثون
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثلاثون(30/1)
الطبعة الرابعة مزيدة ومنقحة 1390 هـ- 1970 م حقوق الطبع محفوظة للناشر(30/2)
الجزء الثّلاثون
سورة النبأ
هى مكية وعدد آيها أربعون، نزلت بعد سورة المعارج ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي ذكر فى السورة السالفة أن الكافرين كذبوا به.
(2) أن فى هذه وما قبلها تأنيبا وتقريعا للمكذبين، فهناك قال: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» وهنا قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً» .
(3) أن فى كل منهما وصف الجنة والنار وما ينعم به المتقون، ويعذب به المكذبون.
(4) أن فى هذه تفصيل ما أجمل فى تلك عن يوم الفصل، فهناك قال: «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» وهنا قال: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» إلى آخر السورة.(30/3)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
شرح المفردات
عمّ: أي عن أىّ شىء، يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضا، والنبأ: الخبر الذي يعنى به ويهتم بشأنه: والمراد به خبر البعث من القبور والعرض على مالك يوم الدين، كلا: كلمة تعيد ردّ ما تقدم من الكلام ونفيه، والمهاد: (بكسر الميم) والمهد فى نحو قوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» : المكان الممهد المذلل، والأوتاد:
واحدها وتد وهو ما يدق فى الأرض ليربط إليه الحبل الذي تشد به الخيمة، والأزواج واحدها زوج ويطلق على الذكر والأنثى، والسبات: (بضم السين) قطع الحركة لتحصيل الراحة، واللباس: ما يلبسه الإنسان ليستر به جسمه ويغطيه، معاشا:
أي وقتا لتحصيل أسباب المعاش والحياة، سبعا شدادا: أي سبع سموات قوية محكمة لا فطور فيها ولا تصدّع، والسراج: ما يضىء وينير، والوهاج: المتلألئ، والمراد به الشمس، والمعصرات: السحائب والغيوم إذا أعصرت: أي حان وقت أن تعصر(30/4)
الماء فيسقط منها، والثجاج: كثير الانصباب عظيم السيلان والمراد به المطر، والثج:
سيلان دم الهدى،
وفى الحديث «أحب العمل إلى الله العجّ والثّجّ»
والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دم الهدى، والحب: ما يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير، والنبات: ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش، والجنات: واحدها جنة، وهى الحديقة والبستان فيه الشجر أو النخل، والجنات الألفاف: الملتفة الأغصان، لتقاربها وطول أفنانها، ولا واحد لها كالأوزاع والأخياف، وقيل واحدها لف (بكسر اللام وفتحها) وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشرف.
المعنى الجملي
كان المشركون كلما اجتمعوا فى نادمن أنديتهم أخذوا يتحدثون فى شأن الرسول وفيما جاء به ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون غيرهم فيقولون: أساحر هو أم شاعر أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء؟، ويتحدثون فى شأن القرآن: أسحر هو أم شعر أم كهانة؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه، والرسول سائر قدما فى تبليغ رسالته، وأمامه مصباحه المنير الذي يضىء للناس سبيل الرشاد، وهو كتابه الكريم، كما كانوا يتحدثون فى شأن البعث، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ فمنهم من ينكرونه البتة، ويزعمون أنهم إذا ماتوا انتهى أمرهم، وما هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر ومنهم من كانوا يزعمون أنهم إنما تبعث أرواحهم لا أجسامهم بعد أن تأكلها الأرض، وتعبث بها يد البلى.
وربما لقى أحدهم بعض من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية.
وفى هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة ردّا عليهم وتكذيبا لهم، وإقامة للحجة على أن الله قادر على أن يبعثهم بعد موتهم وإن صاروا ترابا، أو أكلتهم السباع،(30/5)
أو احتوتهم البحار فكانوا طعاما للسماك، أو أحرقتهم النيران فطاروا مع الريح.
وقد ذكر لهم من مظاهر قدرته أمورا تسعة يشاهدونها بأعينهم لا يخفى عليهم شىء منها:
(1) انبساط الأرض وتمهيدها لتصلح لسير الناس والأنعام.
(2) سموق الجبال صاعدة فى الجوّ.
(3) تنوّع الآدميين إلى ذكور وإناث.
(4) جعل النوم راحة للإنسان من عناء الأعمال التي يزاولها عامة نهاره.
(5) جعل الليل ساترا للخلق.
(6) جعل النهار وقتا لشئون الحياة والمعاش.
(7) ارتفاع السموات فوقنا مع إحكام الوضع ودقة الصنع.
(8) وجود الشمس المنيرة المتوهجة.
(9) نزول المطر وما ينشأ عنه من النبات.
فكل ذلك داع لهم أن يعترفوا أن من قدر على كل هذا فلا تعجزه إعادتهم إلى النشأة الآخرة.
الإيضاح
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟) أي عن أي شىء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم؟
روى عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به، فنزلت: عمّ يتساءلون.
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله:
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي عن الخبر العظيم الشأن الذي اختلفوا فى أمره، فمن قائل إنه مستحيل كما حكى الله عنهم بقوله: «إِنْ هِيَ إِلَّا(30/6)
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا»
ومن شاكّ فيه بقوله: «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» .
وإيراد الكلام بصورة السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح، وتثبيت الجواب فى نفس السائل كما جاء فى قوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .
ثم أخذ سبحانه يردّ عليهم متوعدا لهم فقال:
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين يذكرون البعث بعد الموت، ثم توعدهم بأنهم سيعلمون إذا ما عاينوا بأنفسهم حقيقة ما كانوا ينكرون، وتنقطع عنهم الريبة، حين يسأل كل عامل عما عمل، ويفصل بين الخلائق.
وقصارى ذلك- فليزدجروا عما هم فيه، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال، إذا حلّ بهم العذاب والنكال، وأن ما يتساءلون عنه، ويضحكون منه حق لا شك فيه ولا ريب.
ثم أكد هذا الوعيد بقوله:
(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وفى تكرير الزجر مع الوعيد إيماء إلى غاية التهديد.
ثم شرع يبين عظيم قدرته وآيات رحمته التي غفل عنها هؤلاء المنكرون، مع أنها بين أعينهم فى كل حين فقال:
(1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي كيف تنكرون أو تشكون فى البعث، وقد عاينتم ما يدل عليه من قدرة تامة، وعلم محيط، وحكمة باهرة تقتضى ألا يكون ما خلق من الخلق عبثا، فمن ينعم بهذه النعم لا يهملها سدى.
انظروا إلى الأرض التي جعلت ممهدة موطأة للناس والدواب، يقيمون عليها ويفترشونها وينتفعون بخيراتها الظاهرة والباطنة.
(2) (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي وجعلنا الجبال لها كالأوتاد كى لا تميل بأهلها،(30/7)
وتضطرب بسكانها، ولولاها لكانت دائمة الاضطراب لما فى جوفها من المواد الدائمة الجيشان، فلا تتم الحكمة فى كونها مهادا لهم.
(3) (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي وجعلناكم أصنافا ذكورا وإناثا، ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة، وحفظ النسل وتكميله بالتربية والتعليم.
ونحو الآية قوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .
(4) (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي وجعلنا نومكم فى الليل قطعا للمتاعب التي تكابدونها فى النهار، سعيا فى تحصيل أمور المعاش، فالمشاهد أن فى نوم بضع ساعات فى الليل راحة للقوى من تعبها، ونشاطا لها من كسلها، وإعادة لما فقد منها، ولولا ذلك لنفدت القوى، وانقطع المرء عن العمل فى شئون الحياة المختلفة.
(5) (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي وجعلنا الليل بظلامه ساترا للأجسام ومغطيا لها كاللباس الذي يغطى الجسم ويستره. ووجه المنة فى ذلك- أن ظلمته تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوه أو إخفاء لما لا يحب أن يطلع عليه غيره، ولله درّ المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب «1»
(6) (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وجعلناه وقتا لتحصيل أسباب المعاش، لأن الناس يتقلبون فيه فى حوائجهم ومكاسبهم.
(7) (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي سبع سموات قوية الأسر، محكمة النسج والوضع، لا يؤثر فيها كرّ الغداة ولا مر العشى، ليس بها تصدّع ولا فطور.
(8) (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) أي وأنشأنا الشمس سراجا متلألئا بالغا الغاية فى الضوء والحرارة.
__________
(1) المانوية: طائفة تعتقد أن الخير من النهار والشر من الليل.(30/8)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
وقد جعل الله فى هذا الكوكب سر الحياة فالحرارة والضوء يطردان الأمراض وينعشان كل حى، ولا أدلّ على هذا مما نشاهد من فتك الأمراض بمن يكون بمنأى عن ضوئها وحرارتها، والجراثيم لا تتوالد إلا حيث يحتجب عنهما السكان، ويبتعدان عن المكان.
(9) (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) أي وأنزلنا من السحائب والغيوم التي تتحلب بالمطر ماء كثير السيلان، عظيم الانصباب.
ثم بين عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال:
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي لنبدل بوساطته جدب الأرض خصبا، فنخرج من الأرض حبّا يقتات به الناس كالحنطة والشعير، ونباتا تقتات به الدواب، وحدائق ذات أغصان ملتفة.
وقد جمع الله فى هذه الآية جميع أنواع ما تنبته الأرض، فإن ما يخرج منها إما أن يكون ذا ساق أولا والأول إذا اجتمع بعضه إلى بعض وكثر حتى التف فهو الحديقة والثاني إما أن يكون له أكمام فيها حب، وإما أن يكون بغير ذلك وهو النبات، وقدّم الحب لأنه غذاء أشرف أنواع الحيوان وهو الإنسان، وأعقبه بذكر النبات، لأنه غذاء بقية أنواع الحيوان، وأخر الحدائق لأن الفاكهة مما يستغنى عنها الكثير من الناس.
وقال الفرّاء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم.
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)(30/9)
شرح المفردات
يوم الفصل: هو يوم القيامة، وسمى بذلك لأن الله يفصل فيه بحكمه بين الخلائق، ميقاتا: أي حدّا تنتهى عنده الدنيا، والصور فى الأصل: البوق الذي ينفخ فيه فيحدث صوتا، وقد جرت عادة الناس إذا سمعوه أن يهرعوا إليه ويجتمعوا عند النافخ، والأفواج: واحدها فوج وهو الجماعة، وفتحت السماء: أي انشقت وتصدعت، وسيرت الجبال: أي زالت من أماكنها وتفتت صخورها، سرابا أي كالسراب، فهى بعد تفتتها ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبارا متراكما، المرصاد: موضع يرتقب فيه خزنتها المستحقين لها، للطاغين: أي للذين طغوا فى مخالفة ربهم ومعارضة أوامره، والمآب: المرجع، لابثين: أي مقيمين، أحقابا، واحدها حقب، وواحد الحقب حقبة: وهى مدة مبهمة من الزمان. قال متمم ابن نويرة:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والبرد: برد الهواء، وقد يراد به النوم، ومن أمثالهم «منع البرد البرد» أي أصابه من شدة البرد ما منعه النوم، ولا شرابا: أي شرابا يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم، والحميم: الماء الحار المغلى، غساقا: أي قيحا وصديدا وعرقا دائم السيلان من أجسادهم، وفاقا: أي وفق أعمالهم السيئة، لا يرجون: أي لا يتوقعون(30/10)
حسابا: أي محاسبة على أعمالهم، أو ثواب حساب، كذّابا: أي تكذبنا، وقرئ بالتخفيف بمعنى كذبا، وعليه قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه كتابا: أي إحصاء بالكتابة.
المعنى الجملي
بعد أن نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة، أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا فى إمكان حصوله وهو يوم الفصل، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه تخويفا لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضحت الأدلة واستبان الحق، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأنه عظيم وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات الله واتخذوها هزوا، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه، وأنهم سيقيمون فيها أحقابا طوالا لا يجدون شيئا من النعيم والراحة، ولا يذوقون فيها روحا ينفّس عنهم حر النار، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحارّ والصديد الذي يسيل من أجسادهم، جزاء سيىء أعمالهم، إذ هم كانوا لا ينتظرون يوم الحساب، ومن ثم اقترفوا السيئات، وارتكبوا مختلف المعاصي، وكذبوا الدلائل التي أقامها الله على صدق رسوله أشد التكذيب، وقد أحصى الله كل شىء فى كتاب علمه، فلم يغب عنه شىء صدر منهم، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا، وستكون له كلمة الفصل، فيقول لهم: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» .
الإيضاح
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين والآخرين يثابون فيه أو يعاقبون، ويتمايزون فيه ويكونون مرات ودرجات بحسب أعمالهم كما قال: «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» .(30/11)
وقد جعله الله حدا تنتهى عنده الدنيا، وتجتمع فيه الخلائق، ليرى كل امرئ ما قدمت يداه، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته.
ثم بين هذا اليوم وزاد فى تفخيمه وتهويله فقال:
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي يوم ينفخ فى الصور فتحيون وتبعثون من قبوركم وتأتون إلى الموقف من غير تلبث، وإمام كل أمة رسولها كما قال سبحانه «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» .
(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي وانشقت السماء وتصدعت. وقد جاء نحو هذا فى آيات كثيرة كقوله: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» . وقوله: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» .
وقوله: «يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» .
ذاك أنه يحصل اضطراب فى نظام الكواكب، فيذهب التماسك بينها، ولا يكون فيما يسمى سماء إلا مسالك وأبواب، لا يلتقى فيها شىء بشىء، وذلك هو خراب العالم العلوي كما يخرب الكون السفلى.
(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي إن الجبال لا تكون فى ذلك اليوم على ثباتها المعروف. بل يذهب ما كان لها من قرار وتعود كأنها سراب يرى من بعد.
فإذا قربت منه لم تجد شيئا. لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها.
والخلاصة- إنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة. فذكر أول أحوالها وهو الاندكاك بقوله: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» ثم ذكر أنها تصير كالعهن المنفوش كما قال: «وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» .
ثم ذكر أنها تصير هباء كما قال: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» ثم ذكر أنها تنسف وتحملها الرياح كما جاء فى قوله: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» ، ثم ذكر أنها تصير سرابا، أي لا شىء كما فى هذه الآية.(30/12)
وبعد أن عدّد وجوه إحسانه، ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة، وبيّن أهوال هذا اليوم، وامتياز شئونه وأحواله عن شئون أيام الدنيا وأحوالها- ذكر وعيد المكذبين وبيان ما يلاقونه فقال:
(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) أي إن دار العذاب وهى جهنم مكان يرتقب فيه خزنتها من يستحقها بسوء أعماله، وخبث عقيدته وفعاله.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس.
(لِلطَّاغِينَ مَآباً) أي إنها مرجع للذين طغوا وتكبروا ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق.
وبعد أن ذكر أن جهنم مستقرهم بيّن مدة ذلك فقال:
(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي إنهم سيمكثون فيها دهورا متلاحقة يتبع بعضها بعضا فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر كما قال: «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» .
ثم بين أحوالهم فيها فقال:
(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) أي لا يذقون فى جهنم بردا يبرد حر السعير عنهم إلا الغساق، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم، فهم لا يذوقون مع شدة الحرما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابا فيسكن عطشهم، ويزيل الحرقة من بواطنهم، ولكن يجدون الماء الحار المغلى، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق، وسائر الرطوبات المستقذرة.
والخلاصة- إنهم لا يذوقون فيها شرابا إلا الحميم البالغ الغاية فى السخونة، أو الصديد المنتن، ولا بردا إلا الماء الحار المغلى.(30/13)
(جَزاءً وِفاقاً) أي إنه تعالى ينزل بهم شديد عقابه من جزاء أنهم أتوا بفظيع المعاصي، فيكون العقاب وفق الذنب ومقداره كما قال: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» .
قال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله ما يسوءهم.
وبعد أن بين على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم- فصل أنواع جرائمهم فذكر أنها نوعان فقال:
(1) (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم، لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب ولا يتوقعونه.
ورغبة المرء فى فعل الخيرات، وترك المحظورات، إنما تكون غالبا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك فى الآخرة، فمن كان منكرا لها لا يقدم على شىء مما يحسن عمله، ولا يحجم عن أمر مما يقبح.
(2) (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي وكذبوا لجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد وبجميع ما جاء فى القرآن.
والخلاصة- إنهم أقدموا على جميع المنكرات، ولم يرعووا عن فعل السيئات وأنكروا بقلوبهم الحق واتبعوا الباطل.
وبعد أن بين فساد أحوالهم العملية والاعتقادية- أرشد إلى أنها فى مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى لا يغيب عنه شىء منها فقال:
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي إنا علمنا جميع ما عملوا علما ثابتا لا يعتريه تغيير ولا تحريف، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئا مما كانوا يصنعون فى الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات، لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاء لا يزول منه شىء ولا يغيب، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه كما قال: «أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ»(30/14)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
وإنما قيل (كِتاباً) دون أن يقال (إحصاء) لأن الكتابة هى النهاية فى قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحصى كلام متكلم حتى لا يغيب منه شىء عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: «وكل شيء أحصيناه إحصاء يساوى فى ثباته وضبطه ما يكتب» .
وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات- رتب عليه هذا الجزاء فقال:
(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه كما قال: «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» .
روى قتادة عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» .
ذاك أن فيها تقريعا وتوبيخا لهم فى يوم الفصل، وغضبا من أرحم الراحمين، وتيئيسا لهم من الغفران.
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
شرح المفردات
مفازا: أي فوزا بالنعيم والثواب، حدائق: أي بساتين فيها أنواع الثمر والشجر وأعنابا. واحدها عنب، وكواعب: واحدها كاعب، وهى التي نهد ثدياها وتكعبا، والأتراب: واحدهنّ ترب، وهى التي سنها من سن صاحبتها، والكأس: إناء من بلور للشراب، دهاقا: أي ممتلئة، يقال أدهق الحوض: أي ملأه. قال خداش ابن زهير:(30/15)
أتاتا عامر يبغى قرانا ... فأقرعنا له كأسا دهاقا
واللغو: الباطل من الكلام، والكذّاب: التكذيب، عطاء: أي تفضلا منه وإحسانا، حسابا: أي كافيا لهم، تقول أعطانى فلان حتى أحسبنى: أي حتى كفانى بعطائه. قال:
فلما حللت به ضمّنى ... فأولى جميلا وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال المكذبين، أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء من الله تعالى، وفى هذا استنهاض لعوالى الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير، وازديادهم من القربات والطاعات، كما أن فيها إبلاما لأنفس الضالين المكذبين.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي إن لمن اتقى محارم الله وخاف عقابه فوزا بالكرامة والثواب العظيم، فى جنات النعيم.
ثم فسر هذا الفوز وفصله فقال:
(حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار لها أسوار محيطة بها، وفيها الأعناب اللذيذة الطعم، مما تشتهيها النفوس، وتقرّ به العيون.
وقد أفردت بالذكر وهى مما يكون فى الحدائق عناية بأمرها كما جاء فى قوله:
«مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» .
ثم وصف ما فى الحدائق والجنات فقال:(30/16)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
(وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي وحورا كواعب لم تتدلّ ثديهن، وهنّ أبكار عرب أتراب.
والتمتع بالنساء على هذه الشاكلة مما يتمثله المرء فى الدنيا على نحو من اللذة، وإن كنا لا نعلم كنهه فى الآخرة، وعلينا أن نؤمن به، وأنه تمتع يفوق به ما هو مثله من لذات هذه الحياة، وأنه يشاكل أحوال العالم الأخروى.
(وَكَأْساً دِهاقاً) أي وكأسا من الخمر مترعة ملأى متتابعة على شاربيها.
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي لا يجرى بينهم حين يشربون- لغو الكلام ولا يكذب بعضهم بعضا، كما يجرى بين الشّرب فى الدنيا، لأنهم إذا شربوا لم تفتر أعصابهم، ولم تتغير عقولهم كما قال تعالى: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» ، واللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين المخلصين.
ولما ذكر أنواع النعيم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما عملوا، وتفضل منه سبحانه فقال:
(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاء كافيا وافيا.
[سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)(30/17)
شرح المفردات
الخطاب: المخاطبة والمكالمة، الروح: جبريل عليه الصلاة والسلام، والمآرب:
المرجع، والإنذار: الإخبار بالمكروه قبل وقوعه، والمرء الإنسان ذكرا كان أو أنثى، ما قدمت يداه: أي ما صنعه فى حياته الأولى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق، وتنتهى به أيام الدنيا، وأن دار العذاب معدة للكافرين، وأن الفوز بالنعيم للمتقين أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفّا صفا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا قولا صحيحا.
ثم أتبعه بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وأن الناس فيه فريقان: فريق بعيد من الله ومرجعه إلى النار، وفريق مآبه القرب من الله ومنازل الكرامة، فمن كانت له مشيئة صادقة، فليتخذ مآبا إلى ربه، وليعمل عملا صالحا يقرّبه منه، ويحلّه محل كرامته.
ثم عاد إلى تهديد المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم، وأنهم سيعلمون غدا ما قدمته أيديهم ويرونه حاضرا لديهم، وحينئذ يندمون، ولات ساعة مندم، ويبلغ من أمرهم أن يقولوا: ليتنا كنا ترابا لم نصب حظا من الحياة.
الإيضاح
(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي إنه سبحانه المالك لشئونهما، المدبر لأمورهما، ولا يملك أحد من أهلهما مخاطبته تعالى بالشفاعة إلا بإذنه.
ثم أكد هذا وقرره بقوله:(30/18)
(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) أي إن الملائكة على جلالة أقدارهم، ورفيع درجاتهم لا يستطيعون أن يتكلموا فى هذا اليوم، إجلالا لربهم، ووقوفا عند أقدارهم، إلا إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولا صدقا وصوابا.
وفى الآية دلالة على أنهم مع قربهم من ربهم لا يستطيع أحد منهم أن يشفع لأحد أو يطلب منحة إلا بعد أن يأذن له ربه، ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب، لأنه يقول الصواب، وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم لمن يأذن له ويختص به، ولا أثر له فيما أراده البتة.
والملائكة مخلوقات غيّبها الله عنا، ولم يجعل لنا قدرة على رؤيتها. فعلينا أن نؤمن بها وإن لم نرها، ونصدّق بما جاء فى كتابه من أوصافها غير باحثين عن حقيقتها.
وبعد أن ذكر أحوال المكلفين فى درجات الثواب والعقاب، وبيّن عظمة يوم القيامة- أردف ذلك بيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه فقال:
(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) أي ذلك اليوم متحقق لا ريب فيه ولا مفر منه، وأنه يوم تبلى فيه السرائر، وتنكشف فيه الضمائر، أما أيام الدنيا فأحوال الخلق فيها مكتوبة، وضمائرهم غير معلومة.
(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه، ويدنيه من كرامته وثوابه، ويباعد بينه وبين عقابه.
ثم زاد فى تخويف الكفار وإنذارهم فقال:
ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)
أي إنا نحذركم عذاب يوم القيامة وهو قريب، لأن كل ما هو آت قريب كما قال: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» .(30/19)
وإنهم ليجدون مقدماته إذا فارقت الروح البدن، فإنه يتكشف لهم ما كان ينتظرهم، ولا يزالون منه فى ألم إلى أن يلاقوا ربهم.
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)
أي هذا العذاب القريب يوم ينظر المرء ما صنعه فى حياته الأولى من الأعمال، فإن كان قد آمن بربه وعمل عمل الأبرار فطوبى له وحسن مآب، وإن كان قد كذب به وبرسوله فله الويل وأليم العذاب.
ونحو الآية قوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» .
َ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)
أي ويقول الكافر من شدة ما يلقى ومن هول ما يرى: ليتنى كنت ترابا، يريد: ليتنى لم أكن من المكلفين، بل كنت حجرا أو ترابا لا يجرى عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب.
وفى الآية إيماء إلى ما يكون عليه المؤمنون من الاستبشار والسرور بما رأوه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ما اشتملت عليه هذه السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على الموضوعات الآتية:
(1) سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
(2) تهديد المشركين على إنكارهم إياه.
(3) إقامة الأدلة على إمكان حصوله.
(4) أحداث يوم القيامة.
(5) ما يلاقيه المكذبون من العذاب.
(6) فوز المتقين بجنات النعيم.
(7) إن هذا اليوم حق لا ريب فيه.
(8) إنذار الكافرين بالعذاب الأليم وتمنيهم فى ذلك اليوم أن لو كانوا ترابا.(30/20)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
سورة النازعات
هى مكية، وآيها ست وأربعون، نزلت بعد سورة النبأ.
ووجه اتصالها بما قبلها أنه هناك أنذر بالعذاب يوم القيامة- وهنا أقسم على أن البعث حق لا ريب فيه.
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
شرح المفردات
والنازعات: أي الكواكب الجاريات على نظام معين فى سيرها كالشمس والقمر، يقال نزعت الخيل: إذا جرت، غرقا: أي مجدّة مسرعة فى جريها، لتقطع مسافة فلكها حتى تصل إلى أقصى المغرب، والناشطات نشطا: أي الخارجات من برج إلى برج، من قولهم: نشط النور إذا خرج، والسابحات سبحا: أي السائرات فى أفلاكها سيرا هادئا لا اضطراب فيه ولا اختلال، وقد جعل مرورها فى جوائها كالسبح فى الماء كما جاء فى قوله: «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» والسابقات سبقا:(30/21)
أي المسرعات عن غيرها فى سبحها، فتتم دورتها حول ما تدور عليه فى مدة أسرع مما يتم غيرها كالقمر فإنه يتم دورته فى شهر قمرى، والأرض تتم دورتها فى سنة شمسية، وهكذا غيرها من السيارات السريعة، ومنها ما لا يتم دورته إلا فى سنين، فالمدبرات أمرا: أي فالكواكب التي تدبر بعض الأمور الكونية فى عالمنا الأرضى بظهور بعض آثارها، فسبق القمر علّمنا حساب شهوره، وله الأثر العظيم فى السحاب والمطر وفى البحر من المدّ والجزر، ولضيائه حين امتلائه فوائد فى تصريف منافع الناس والحيوان، وسبق الشمس فى أبراجها علّمنا حساب الشهور، وسبقها إلى تتميم دورتها السنوية علمنا حساب السنين، وخالف بين فصول السنة، واختلاف الفصول من أسباب حياة النبات والحيوان، وقد نسب إليها التدبير، لأنها أسباب ما نستفيده منها، والمدبر الحكيم: هو الله تعالى جل شأنه.
وترجف: أي تضطرب وتتحرك، والراجفة: الأرض بمن عليها، والرادفة: السماء وما فيها تردفها وتتبعها، فإنها تنشق وتنثر كواكبها، الواجفة: أي الشديدة الاضطراب خاشعة: أي ذليلة، الحافرة: الحياة الأولى، أي الحياة بعد الموت وقد ظنوها حياتهم الأولى، يقال رجع فى حافرته: أي فى طريقه التي جاء فيها، والنخرة: البالية الجوفاء التي تمر فيها الرياح، والكرّة: الرجعة من الكرّ، وهو الرجوع، والخاسرة: هى التي يخسر أصحابها ولا يربحون، والزجرة: الصيحة، والمراد بها النفخة الثانية يبعث بها الأموات، والساهرة: الأرض البيضاء المستوية، لأن السراب يجرى فيها، وسميت بذلك لأن شدة الخوف التي تعترى من عليها تطير النوم من أعينهم فلا يذوقون نوما، فهى ساهرة: أي ساهر من عليها.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بالجلف بأصناف من مخلوقاته- إن ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر البعث وعرض الخلائق على ربهم، لينال كل عامل جزاء(30/22)
عمله- حق لا ريب فيه فى يوم تعظم فيه الأهوال، وتضطرب القلوب، وتخشع الأبصار، ويعجب المبعوثون من عودتهم إلى حياتهم الأولى بعد أن كانوا عظاما نخرة تمر فيها الرياح، ويتحققون أن صفقتهم كانت خاسرة، إذا أنهم أنكروا فى الدنيا معادهم، ويجابون على تعجبهم بألا يحسبوا أن الإحياء صعب على الله، فما الأمر عنده إلا صيحة واحدة، فإذا الناس جميعا ظاهرون فى أرض المعاد.
لو تدبرنا أمر القسم ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم لوجدناه يرجع إلى أحد أمرين:
(1) أن تكون هذه المخلوقات قد عظمت فى أعين بعض الناس، وقوى سلطانها فى نفوسهم، حتى عبدوها واتخذوها آلهة من دون الله كالشمس والقمر فى نحو قوله:
«وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» وقد ذكر سبحانه بجانب ذلك بعض صفاتها الدالة على أنها مخلوقة له كتغيرها من حال إلى حال، وما يطرأ عليها من الأفول والزوال، مما لا يكون من شأن الآلهة المستحقة للعبادة.
(2) أن تكون مما احتقره الناس لغفلتهم عن فائدته، وذهولهم عن موضع العبرة فيه، ولو أنهم تدبروا فيما هو عليه من جليل الصنعة، وبديع الحكمة لاهتدو إلى معرفة خالقة، ونعتوه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
فأقسم سبحانه على التوحيد فى قوله: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» .
وأقسم على أن الرسول حق بقوله: «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
وأقسم إن القرآن حق فى قوله: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» .(30/23)
وحلف إن الجزاء حق، وإن الناس سيبعثون إلى ربهم، وإن كلا منهم سيلاقى جزاء عمله كما قال: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» .
الإيضاح
(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) افتتح سبحانه هذه السورة بالقسم بالكواكب والنجوم والشموس والأقمار، إظهارا لعظم شأنها، وإتقان نظامها، وغزارة فوائدها، وأنها مسخرة لبارئها، خاضعة لأمره- لتبثنّ بعد الموت، ويدل على هذا ما حكاه عنهم بعد من قولهم:
«أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟» أي أنبعث إذا صرنا كذلك؟.
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، فيسمع لها صوت شديد.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» .
(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي تتلوها السماء بما فيها من كواكب، إذ تنشق وتنثر كواكبها إثر اضطراب الأرض وميدانها.
عن أبىّ بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترجف الأرض رجفا وتزلزل بأهلها، وهى التي يقول الله فيها- يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» .
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي قلوب يومئذ مضطربة قلقة خائفة، والمراد بها(30/24)
قلوب الكفار، ذاك أنهم بعد أن عاينوا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكره لهم ويشاهدونه فى دنياهم ولم يؤمنوا به، تضطرب نفوسهم، مخافة أن يحل بهم ما أنذروا به، كما هى حال من تهدده بعقوبة إن لم يقلع عن جرائره- يهلع قلبه إن شاهد بوادر التنفيذ.
(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحابها خاشعة تظهر فيها الذلة والخوف.
وقد حكى الله عنهم أقوالا ثلاثة استبعدوا بها أمر البعث، واستهزءوا فيها بالرسول والمؤمنين.
(1) (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟) أي يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركى قريش إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت: أإنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا قبل مماتنا.
وتقول العرب لكل من كان فى أمر ثم خرج منه ثم عاد إليه: قد رجع إلى حافرته: أي إلى أمره الذي كان فيه أوّلا.
(2) (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟) أي أنردّ إلى الحياة بعد أن نصير عظاما بالية لو لمست لتفتّت؟
(3) و (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي إن صح ما قلتم من البعث يوم القيامة بعد أن نصير عظاما نخرة، فنحن إذا خاسرون، لأنا كذبنا به ولم نأخذ العدّة له، فياويلنا فى هذا اليوم! وهذا منهم استهزاء وتهكم، اعتقادا منهم أن ذلك لن يكون.
وقد ردّ الله عليهم مقالتهم بقوله:
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي لا تستبعدوا ذلك وتظنوه عسيرا شاقّا علينا، فإنما هى صيحة واحدة، وهى النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى فإذا الناس كلهم على سطح الأرض أحياء.(30/25)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
ونحو الآية قوله: «وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ» .
وخلاصة هذا- لا تحسبوا أن هذه الرجعة عسيرة شاقة علينا، فما إعادتكم التي ظننتموها صعبة إلا أن نأمر ملكا من ملائكتنا أن يصيح صيحة واحدة، فإذا أنتم جميعا لدينا محضرون، لا يتخلف منكم أحد، ولا يستطيع التخلف إن أراد.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
شرح المفردات
المقدس: أي المبارك المطهر، والوادي المقدس: هو واد بأسفل جبل طور سينا من برّية الشام، طوى: واد بين أيلة ومصر، طغى: أي تجاوز الحد فتكبر على الله وكفر به، هل لك إلى كذا: أي هل ترغب فيه، وتزكى: أي تتزكى وتتطهر من العيوب، وأهديك: أي أدلك، فتخشى: أي فتخاف، والآية الكبرى: أي العلامة الدالة على صدقه فى دعواه النبوة، وهى انقلاب العصا حية، أدبر: أي ترك(30/26)
موسى، يسعى: أي فى مكايدته. فحشر: أي فجمع السحرة الذين فى بلاده، والنكال:
العذاب، والآخرة: يوم القيامة، والأولى: الدنيا.
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن كفار مكة إصرارهم على إنكارهم البعث وتماديهم فى العتو والطغيان واستهزاءهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يشق عليه، ويصعب على نفسه، ذكر له قصص موسى مع فرعون طاغية مصر، وبين له أنه قد بلغ فى الجبروت حدّا لم يبلغه قومك، فقد ادعى الألوهية وألبّ قومه على موسى، وكان موسى مع هذا كله يحتمل المشاق العظام فى دعوته إلى الإيمان- ليكون ذلك تسلية لرسوله عما لاقيه من قومه من شديد العناد وعظيم الإعراض، يرشد إلى ذلك قوله: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» .
وفى ذلك عبرة أخرى لقومه- وهى أن فرعون مع أنه كان أقوى منهم شكيمة أشد شوكة وأعظم سلطانا، لما تمرد على موسى وعصا أمر ربه أخذه الله نكال لآخرة والأولى، ولم يعجزه أن يهلكه ويجعله لمن خلفه آية، فأنتم أيها القوم مهما عظمت حالكم وقوى سلطانكم لم تبلغوا مبلغ فرعون، فأخذكم أهون على الله منه.
وفى هذا تهديد لهم وإنذار بأنهم إن لم يؤمنوا بالله ورسوله، فسيصيبهم مثل ما أصاب فرعون وقومه كما قال فى آية أخرى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» .(30/27)
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي ألم يبلغك حديث موسى مع فرعون وقومه، وقد أمره الله بالتلطف فى القول، واللين فى الدعوة إلى الحق إقامة للحجة والوصول من أقرب محجة كما جاء فى سورة طه «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» .
فاتبع نهجه واسلك سبيله يكن ذلك أقرب للفوز ببغيتك وبلوغ مطلبك كما فاز موسى وانتصر.
وكان ذلك حين ناداه ربه بالوادي المطهر المبارك من طور سيناء من برّية الشام بعد مضى وقت من الليل.
ثم فصل هذه المناجاة بقوله:
(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهب له وعظه، فإنه تجاوز الحد وتكبر على الله وكفر به، وتجبّر على بنى إسرائيل، واستعبدهم حتى بلغ من أمره أن ذبح أبناءهم واستحيا نساءهم.
ثم طلب إلى موسى أن يلين له القول ليكون ذلك أنجع فى الدعوة فقال:
(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي فقل له: هل ترغب أن تطهّر نفسك من الآثام التي انغمست فيها، وتعمل بما أدلك عليه من طرق الخير، وتبعد عما أنت فيه من اجتراح السيئات، وتخشى عاقبة مخالفة أمر ربك، حتى تأمن من عقابه، إذا أديت ما ألزمك به من فرائضه، واجتنبت ما نهاك عنه من معاصيه.
ثم ذكر أنه لم يخضع للدليل والبرهان، ولم يقنع بما أدلى إليه موسى من حجة، فاضطر إلى أن يظهر له دليلا يراه ويشاهده فقال:
(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي فلما لم يقنع بالدليل القولى أظهر له آية ودليلا يراه بعينه، وهو انقلاب العصا حية، ومع ذلك كذب الداعي، وعصى سلطان البرهان وأظهر تمرده عليه، كما أشار إلى ذلك بقوله:(30/28)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
(فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أي فكذب موسى ثم ولى معرضا عما دعاه إليه من طاعة ربه وخشيته، وطفق يخبّ فى المعاصي ويضع، غير متدبر فى عاقبة أمره، ولا مفكر فى غده.
(فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي فجمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه كما جاء فى قوله: «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» فقام فيهم يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» فلا سلطان يعلو سلطانى، ولم يزل فى عتوّه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر (بحر القلزم) عند خروجهم من مصر فأغرق فيه هو وجنوده، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله:
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي فنكل الله به ولم يكن ذلك النكال مقصورا على ما عذب به فى الدنيا من الغرق فى البحر، بل عذبه فى الآخرة أيضا فى جهنم وبئس القرار.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي إن فيما ذكر لموعظة لمن له عقل يتدبر به فى عواقب الأمور ومصايرها، فينظر فى حوادث الماضين، ويقيس بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
شرح المفردات
أشد خلقا: أي أصعب إنشاء، والبناء: ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة، والسمك: قامة كل شىء،(30/29)
فسواها: أي جعل كل جزء موضوع فى موضعه، أغطش ليلها: أي أظلمه، ضحاها:
أي نورها وضياء شمسها، دحاها: أي مهدها وجعلها قابلة للسكنى، قال زيد بن عمرو ابن نفيل:
وأسلمت وجهى لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
مرعاها: أي نباتها، متاعا لكم: أي متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم.
المعنى الجملي
بعد أن قص على المشركين قصص موسي عليه السلام مع فرعون وأومأ بهذا القصص إلى أنهم لا يعجزون الذي أخذ من فرعون ونكل به وجعله عبرة للباقين، وسلى به رسوله حتى لا يحزن لتكذيب قومه له، وعدم إيمانهم بما جاءهم به، أخذ يخاطب منكرى البعث، وينبههم إلى أنه لا ينبغى لهم أن يجحدوه فإن بعثهم هين إذا أضيف إلى خلق السموات التي تدل بحسن نظامها وجلالها، على حكمة مبدعها وعظيم قدرته، وواسع حكمته، وإلى خلق الأرض التي دحاها بعدها وجعلها معدة للسكنى، وهيأ فيها وسائل المعيشة للإنسان والحيوان، فأخرج منها الماء الذي به حياة كل شيء وأنبت فيها النبات الذي به قوام الإنسان والحيوان.
الإيضاح
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ؟) أي أأنتم أيها الناس وقد خلقتم من ماء مهين ضعافا عاجزين لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة- أصعب إبداعا وإنشاء أم هذه السماء التي ترون خلقها، وبديع تركيبها وعظمة شأنها؟
إنكم لا تنازعون فى أنها أشد منكم خلقا، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها، فكيف تظنون أنا نعجز عن إعادتكم بعد موتكم، يرشد إلى ذلك قوله: «لَخَلْقُ(30/30)
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ»
. وقوله: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟» .
وفى هذا من التقريع والتوبيخ ما لا يخفى.
وبعد أن أشار إلى عظم خلق السموات إجمالا شرع يبين ذلك تفصيلا فقال:
(بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) أي ضم أجزاءها المتفرقة وربطها بما يمسكها حتى حصل عن جميعها بنية واحدة، فقد أبدع فى خلق الكواكب وجعل كل كوكب منها على نسبة من الآخر، وجعل لكل منها ما يمسكه فى مداره حتى كان من مجموعها ما يشبه البناء وهو ما نسميه بالسماء.
وقد جعلها ذاهبة فى العلوّ صعدا، وعدّ لها فوضع كل جزء منها فى موضعه الذي يستحقه ويحسن أن يكون فيه.
(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي وجعل ليلها مظلما بمغيب كواكبها، وأبرز نهارها، وعبر عن النهار بالضحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس فى سائرها.
وتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيىء الأرض للسكنى ومن ثم قال:
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي ومهد الأرض بعد ذلك وبسطها للسكنى، وسير الناس والأنعام عليها، وقد كانت مخلوقة غير مدحوّة قبل ذلك، فلا تخالف هذه الآية ما جاء فى سورة السجدة من قوله: «أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» .(30/31)
فإن هذه الآية تدل على أن خلق السموات كان بعد خلق الأرض، والآية التي نحن بصددها تشير إلى أن الله تعالى دحا الأرض ومهدها لسكنى الناس بعد أن خلق السماء.
فالآيتان ترشدان إلى أن الله تعالى خلق الأرض أوّلا ثم خلق السموات بعد ذلك، ثم عاد إلى الأرض فمهدها ودحاها، فآية السجدة حكاية للخلق الأول ومبدئه وهذه الآية حكاية للإصلاح الذي كان بعد الخلق.
ثم فسر التمهيد بما لا بد منه فى تأتى سكناها من أمر المآكل والمشارب وإمكان القرار عليها فقال:
(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات سواء أكان قوتا لبنى آدم كالحب والثمر، أم قوتا للأنعام والماشية كالعشب والحشيش.
(وَالْجِبالَ أَرْساها) أي وثبت الجبال فى أماكنها وجعلها كالأوتاد، لئلا تميد بأهلها وتضطرب بهم.
ثم بين الحكمة فى ذلك فقال:
(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي إنما جعلنا ذلك كله، ليتمتع به الناس والأنعام من الإبل والغنم والبقر.
ونحو الآية قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» .
أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحيون، ورافع السماء فوقكم، وممهد الأرض تحتكم- قادر على بعثكم؟ وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبر أمركم هذا التدبير المحكم، ووفّر لكم هذا الخير الكثير.(30/32)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
شرح المفردات
الطامة الكبرى: أي الداهية العظمى التي تطمّ على الدواهي أي تغلب وتعلو، وهى النفخة الثانية التي يكون معها البعث قاله ابن عباس، وبرّزت الجحيم: أي كانت فى مكان بارز يراها كل من له عينان، طغى: أي تكبر وتجاوز الحد، آثر:
أي قدّم وفضل، المأوى: المستقر، مقام ربه: أي جلاله وعظمته، ونهى النفس عن الهوى: أي زجرها وكفها عن هواها المردي لها بميلها إلى الشهوات.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن أنه تعالى قادر على نشر الأموات كما قدر على خلق الأكوان، بين صدق ما أوحى به إلى نبيه من أن ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، كائن لا بد منه، فإذا جاءت طامته الكبرى التي تفوق كل طامة حين تعرض الأعمال على العاملين، فيتذكر كل امرئ ما عمل، ويظهر الله الجحيم وهى دار العذاب للعيان فيراها كل ذى بصر، فى ذلك اليوم يوزع الجزاء على العاملين فأما من جاوز الحدود التي حدها الله فى شرائعه، وفضل لذائذ الدنيا على ثواب الآخرة فدار العذاب مستقره ومأواه وأما من خاف مقامه بين يدى ربه فى ذلك اليوم،(30/33)
وزجر نفسه عن هواها، فلم تجر وراء شهواتها فالجنة منزله ومأواه، جزاء ما قدمت يداه.
الإيضاح
(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي فإذا حل ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان، وتشاهد فيه النار، فينسى المرء كل هول دونها- فصل الله بين الخلائق، فأدخل الطائعين الأبرار الجنة، وأدخل المتمردين العصاة النار.
وقد وصف هذا اليوم بوصفين:
(1) (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي حين يرى الإنسان أعماله مدوّنة فى كتابه وكان قد نسيها فتعاوده الذكرى، كما قال سبحانه: «أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ» .
(2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي وأظهرت النار حتى يراها كل ذى عينين سواء منهم المؤمن والكافر، سوى أنها تكون مقرّا للكافرين، وينجى الله المؤمنين.
والخلاصة- إذا جاء ذلك اليوم فصل الله بين الخلائق كما فصّله بعد بقوله:
(فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي فأما من تكبر وتجاوز الحد وآثر لذات الحياة الدنيا، وشهواتها على ثواب الآخرة، فالنار مثواه ومستقره.
(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي وأما من حذر وقوفه بين يدى ربه يوم القيامة، وأدرك مقدار عظمته وقهره، وغلبة جبروته وسطوته، وجنب نفسه الوقوع فى محارمه، فالجنة مثواه وقراره.
وقد ذكر سبحانه من أوصاف السعداء شيئين يضادان أوصاف الأشقياء:
(1) فقوله: «خافَ مَقامَ رَبِّهِ» يقابل قوله: «طَغى» وقوله: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» يضاد قوله: «وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» وقد مدح الحكماء مخالفة(30/34)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
الهوي فقالوا: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقيل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصدّيقين. وقيل:
فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به فى مصرع أىّ مصرع
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
شرح المفردات
الساعة: هى ساعة يبعث الله الخلائق من قبورهم، وهى يوم القيامة، أيان: أي متى، مرساها: أي إرساؤها، وإقامتها: أي حصولها، فيم أنت من ذكراها: أي فى أىّ شىء أنت من أن تذكر لهم وقت حصولها، وتبين لهم الزمان المعين لوقوعها، إلى ربك منتهاها: أي إن منتهى علم حصولها عند ربك لم يؤته أحدا من خلقه، واللبث:
الإقامة، والعشية طرف النهار من آخره، والضحى: طرفه من أول.
المعنى الجملي
كان المشركون يسألون الرسول عنادا واستهزاء عن الساعة، ويطلبون إليه أن يعجل بها كما يرشد إلى ذلك قوله: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» وربما سألوه عن تحديد وقتها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد فى نفسه ما يقولون، ويتمنى لو أمكن أن يجيب عما يسألون، كما هو شأن الحريص على الهداية، المجدّ فى الإقناع- فهاه الله عن تمنى ما لا يرجى، وأبان له أنه لا حاجة لك إلى ذلك،(30/35)
فإن علمها عند ربك، وإنما شأنك أن تنذر من يخافها فتنبهه من غفلته، حتى يستعد لما يلقاه حينئذ، أما هؤلاء المعاندون فدعهم فى غوايتهم، ولا تشغل نفسك بالجواب عما يسألون، فإذا جاء هذا اليوم خيل إليهم أنهم لم يلبثوا من يوم خلقوا إلى يوم البعث إلا طرفا من نهار أوله أو آخره، ولم يلبثوا نهارا كاملا لمفاجأتهم لهم على غير استعداد لوقوعها.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟) أي يسألك أيها الرسول هؤلاء المكذبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم، متى قيامها وظهورها؟
(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي ما هذه الذكرى الدائمة لها، وما هذا الاهتمام الذي جعلك لا تألو جهدا فى السؤال عنها؟.
روى عن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية» .
وتلخيص المعنى- لا تشغل نفسك بهذا الأمر، ولا تكلفها عناء البحث عنه، واستكناه أسراره، ومعرفة ما حجبه الله عن خلقه من شأنه.
(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي إلى ربك ينتهى علم الساعة، فلا يعلم وقت قيامها غيره، ولم يعطه لملك مكرم، ولا لنبى مرسل.
(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما أنت رسول مبعوث للإنذار والتخويف، وتحذير الناس من المعاصي والقبائح، ولم تكلف علم وقتها، فدع علم ما لم تكلف به، واعمل ما أمرت به من إنذار من أمرت بإنذاره.
ونحو الآية قوله: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» وقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» ثم قرر ما دل عليه الإنذار من سرعة مجىء المنذر به، فقال:(30/36)
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي إن هذا اليوم الذي لجوا فى إنكاره سيقع البتة، ويرونه بأعينهم، فإذا عاينوه حسبوا أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار ثم انقضت.
والخلاصة- إنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلا عشية يوم أو ضحى تلك العشية، وتقول العرب: آتيك العشية أو غداتها، وآتيك الغداة أو عشيتها، والمراد أنهم يستقصرون مدة لبثهم، ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
موضوعات السورة الكريمة
(1) إثبات البعث.
(2) مقالة المشركين فى إنكاره والردّ عليهم (3) قصص موسى مع فرعون، وفيه تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم.
(4) إقامة البرهان على إثبات البعث.
(5) أهوال يوم القيامة.
(6) الناس فى هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء بحسب أعمالهم فى الدنيا.
(7) سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها.
(8) نهى الرسول عن البحث عنها واشتغاله بأمرها.
(9) ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما يلبثوا فى الدنيا.(30/37)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
سورة عبس
هى مكية، وآياتها ثنتان وأربعون، نزلت بعد سورة النجم.
ومناسبتها- لما قبلها- أنه ذكر هناك أنه منذر من يخشاها- وذكر هنا من ينفعه الإنذار.
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
شرح المفردات
عبس: أي قطب وجهه من ضيق الصدر، وتولى: أي أعرض، أن جاءه الأعمى: أي لأجل أن جاءه، وما يدريك: أي أىّ شىء يعرّفك حال هذا الأعمى؟
يزكى: أي يتطهر بما يلقن من الشرائع، يذّكر: أي يتعظ، استغنى: أي بماله وقوته عن سماع القرآن، تصدى: أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه، يسعى أي يسرع، يخشى: أي يخاف من الغواية، تلهى: أي تتلهى وتتغافل.
المعنى الجملي
نزلت هذه السورة فى ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ابن خال خديجة، وكان أعمى وهو من المهاجرين الأولين. استخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة يصلى بالناس مرارا، وكان يؤذن بعد بلال.(30/38)
وكان من حديثه أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ومعه صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم للإسلام، ويذكّرهم بأيام الله، ويحذرهم بطشه وجبروته، ويعدهم أحسن المثوبة إن أسلموا، وهو شديد الحرص على أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، لأنه يعلم أن سيسلم بإسلامهم خلق كثير، إذ بيدهم مقادة العرب.
فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئنى وعلمنى مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره الرسول قطعه لكلامه، وظهرت فى وجهه الكراهة، فعبس وأعرض عنه.
وقد عاتب الله نبيّه بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغى أن يكون باعثا على كراهة كلامه والإعراض عنه، لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم كما قال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» وقال: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» .
ولأنه كان ذكىّ الفؤاد إذا سمع الحكمة وعاها، فيتطهر بها من أو ضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكّر بها ويتعظ فتنفعه العظة فى مستأنف أيامه.
أما أولئك الأغنياء فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغى التصدي لهم، طمعا فى إقبالهم على الإسلام، ليتبعهم غيرهم.
وقوّة الإنسان إنما هى فى ذكاء لبّه، وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لا حت له أماراته، أما المال والنشب، والحشم والأعوان فهى عوار تجىء وترتحل، وتفرّ حينا ثم تنتقل.(30/39)
والخلاصة- إنه سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذى العقل الذكي، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذى الجاه القوى، فإن الأول حىّ بطبعه والثاني غائب عن حسّه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن أم مكتوم ويقبل عليه ويتفقده، ويقول له إذا رآه: أهلا بمن عاتبنى فيه ربى، ويسأله هل لك حاجة؟
الإيضاح
(عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) أي قطب الرسول صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه.
وفى التعبير عنه بالأعمى إشعار بعذره فى الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم حين تشاغله بالقوم، وقد يكون ذلك لذكر العلة التي اقتضت الإعراض عنه، والتعبيس فى وجهه، فكأنه قيل: إنه بسبب عماه كان يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك أن تخصه بالغلظة.
وهذا كما تقول لرجل جاءه فقير فانتهره وآذاه: أتؤذي هذا المسكين الذي يستحق منك الشفقة ومزيد الحنان والعطف؟
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟) أي وأىّ شىء يعلمك حال هذا الأعمى؟ لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، فتزول عنه أو ضار الآثام، أو يتعظ فتنفعه ذكراك وموعظتك.
والخلاصة- إنك لا تدرى ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر، ولو دريت لما كان الذي كان.
وفى هذا إيماء إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم التزكى ولا التذكر.(30/40)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
ثم ذكر أن أمره مع الحاضرين مجلسه انحصر فى شيئين:
(1) (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي أما من استغنى بماله وقوّته عن الإيمان، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزّل عليك، فأنت تقبل عليه، حرصا على إسلامه، ومزيد الرغبة فى إيمانه.
(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟) أي وأىّ عيب عليك فى بقائه كذلك، وألا يتطهر من وسخ الجهالة؟ فما أنت إلا رسول مبلغ عن الله، وقد أديت ما يجب عليك، فما بالك يشتد بك الحرص على إسلامه.
وقصارى ذلك- لا يبلغنّ بك الحرص على إسلامهم، والاشتغال بدعوتهم، أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
(2) (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي وأما من جاءك مسرعا فى طلب الهداية والقرب من ربه، وهو يخشاه ويحذر الوقوع فى الغواية، فأنت تتلهى عنه، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه.
[سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 16]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
شرح المفردات
كلا: كلمة يقصد بها زجر المخاطب عن الأمر الذي يعاتب عليه، لئلا يعاوده، وهنا هو التصدي للمستغنى والتلهي عن المستهدى، تذكرة: أي موعظة، ذكره:
أي اتعظ به، فى صحف مكرمة: أي مودعة فى صحف شريفة، مرفوعة: أي عالية القدر، مطهرة: أي من النقص لا تشوبها الضلالات، سفرة: واحدهم سافر، من سفر بين القوم إذا نصب نفسه وسيطا ليصلح من أمورهم ما فسد.(30/41)
قال شاعرهم:
فما أدع السفارة بين قومى ... ولا أمشى بغشّ إن مشيت
والمراد هنا الملائكة والأنبياء، لأنهم وسائط بين الله وخلقه فى البيان عما يريد، كرام: واحدهم كريم، بررة: واحدهم بارّ، والمراد أنهم كرام على الله، أطهار لا يقارفون ذنبا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حادث ابن أم مكتوم وعتبه على رسوله فيما كان منه معه، أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها الله إلى البشر على ألسنة رسله، ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها فى النفوس وتثبيتها فى القلوب، وإنما هى تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل الخلق عليه من معرفة توحيده فمن أعرض عن ذلك فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه، وتنازعه إليه نفسه.
فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك، لتذكر به الناس، وتنبه الغافل، أما أن تحابى القوىّ المعاند، ظنا منك أن مداجاته ترده عن عناده، فذلك ليس من شأنك، «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» .
وهذه الهداية أودعها سبحانه فى الصحف الإلهية الشريفة القدر، المطهرة من النقائص والعيوب، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة.
الإيضاح
(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي ما الأمر كما تفعل أيها الرسول، بأن تعبس فى وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتقبل على من استغنى، بل الهداية المودعة فى الكتب الإلهية وأجلّها القرآن، تذكير ووعظ وتنبيه لمن غفل عن آيات ربه.
وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على ما لها من عظيم الشأن فقال:(30/42)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي إن هذه التذكرة بينة ظاهرة، فلو أن إنسانا أراد أن يتدبرها، ويتفهم معناها، ويتعظ بها، ويعمل بموجبها- لقدر على ذلك واستطاعه، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادا واستكبارا.
(2) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي وقد أودعت هذه التذكرة فى الكتب الإلهية ذات الشرف والرفعة، المطهرة من النقائص ولا تشوبها شوائب الضلالات، تنزّل بوساطة الملائكة على الأنبياء، وهم يبلغونها للناس.
وكل من الملك والنبي سفير، وكل منهما رسول، والملائكة كرام على الله كما قال: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» وأبرار أطهار لا يقارفون ذنبا، ولا يجترحون إثما، كما قال سبحانه: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» .
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 23]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
شرح المفردات
قدره: أي أنشأه فى أطوار وأحوال مختلفة، طورا بعد طور، وحالا بعد حال، والسبيل: الطريق، يسره: أي سهل له سلوك سبل الخير والشر، فأقبره: أي جعل له قبرا يوارى فيه، أنشره: أي بعثه بعد الموت، كلا: زجر له عن ترفعه وتكبره.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد- أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما(30/43)
كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه، ولا يفكر فى منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوّره فى أحسن الصور، فى أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع فى لحده، إلى أمد قدره الله فى علمه، ثم يبعثه من قبره، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره، واجتناب نواهيه!
الإيضاح
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.
يقولون إذا تعجبوا من إنسان: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.
(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها، وأكثر ذهوله عن مسديها، وعمن غمره بها من حين إيجاده، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث:
المبدأ والوسط والمنتهى، وأشار إلى الأولى بقوله:
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟) أي من شىء حقير، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.
وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله:
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين، وقدره أطوارا وأحوالا، طورا بعد طور وحالا بعد حال، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.(30/44)
وقد أثر عن بعضهم: كيف يتكبر الإنسان، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمّال عذرة.
وروى عن علىّ كرم الله وجهه قوله: كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين.
وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله:
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر، فآتاه قدرة العمل، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر، والتحذير من الشر، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم.
وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله:
(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه.
وفى قوله: «إِذا شاءَ» إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهو القادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا.
ثم أكد كفرانه بالنعم فقال:
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الآثار.(30/45)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
ما يحرك الأنظار، ويسير بها إلى صواب الآراء، وصحيح الأفكار- لم يقض ما أمره به من التأمل فى دلائل قدرته، والتدبر فى معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه، الناطقة بأن لها موجدا يستحق أن يقصده وحده دون سواه، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به.
والخلاصة- إن الإنسان قد بلغ فى جحده آيات خالقه مبلغا لا ينتهى منه العجب إذ قد رأى فى نفسه وفى السموات والأرض وسائر ما يحيط به من العوالم، الآيات الناطقة بوحدانية الخالق، الدالة على عظيم قدرته، ثم هو لا يزال مستمرا فى نكران نعمته عليه، فإذا ذكّر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله الأقوم ولا يزال يرتكب ما نهى عنه، ويترك ما أمر به.
[سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 32]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
شرح المفردات
القضب: الرطبة، وهى ما يؤكل من النبات غضا طريا وسمى قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، غلبا: واحدها غلباء أي ضخمة عظيمة، والأبّ: المرعى لأنه يؤب: أي يؤم وينتجع، متاعا لكم ولأنعامكم: أي أنبتناه لكم لتتمتعوا به وتننفعوا وتنتفع أنعامكم.(30/46)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الدلائل على قدرته تعالى وهى كامنة فى نفسه، يراها فى يومه بعد أمسه- أردفها ذكر الآيات المنبثة فى الآفاق الناطقة ببديع صنعه، وباهر حكمته.
الإيضاح
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه، وليفكر فى أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاء صالحا تقوم به بنيته، ويجد فى تناوله لذة تدفعه إليه، ليحفظ بذلك قوّته مدى الحياة التي قدرت له.
وقد فصل ذلك بقوله:
(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من المزن إنزالا بعد أن بقي حينا فى جو السماء مع ثقله.
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي ثم شققنا الأرض شقا مشاهدا مرئيا لمن نظر إليها بعد أن كانت متماسكة الأجزاء.
وقد اقتضت حكمته ذلك، ليدخل الهواء والضياء فى جوفها، ويهيئانها لتغذية النبات.
ثم ذكر سبحانه ثمانية أنواع من النبات:
(1) (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالحنطة والشعير والأرز وهو الأصل فى الغذاء.
(2) (وَعِنَباً) وهو من وجه غذاء، وفاكهة من وجه آخر.
(3) (وَقَضْباً) وهو كما قال ابن عباس والضحاك ومقاتل واختاره الفراء وأبو عبيدة والأصمعى- الرطبة: هى ما يؤكل من النبات غضّا طريا.
(4، 5) (وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا) وقد تقدم بيان منافعهما، وسيأتى أيضا.(30/47)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
(6) (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي وبساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ذات حوائط تحيط بها، وعظم الحدائق إما بالتفاف أشجارها وكثرتها، وإما بعظم كل شجرة وغلظها وكبرها.
وفى ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة فى الأشجار بجملتها، وليست فى ثمرها خاصة، فمن خشبها يتخذ أرقى أنواع الأثاث وأدوات العمل وآلاته لمختلف الحرف والصناعات، وكذا الوقود لتدبير الطعام والخبز على ضروب شتى، وتستعمل فى صهر الحديد وأنواع المعادن المختلفة.
(7) (وَفاكِهَةً) يتمتع بلذتها الإنسان خاصة كالتين والتفاح والخوخ وغيرها.
(8) (وَأَبًّا) أي مرعى للحيوان خاصة.
ثم ذكر الحكمة فى خلق هذه الأشياء فقال:
(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أنبتنا ذلك، لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم، منه ما ينتفع به الإنسان، ومنه ما يأكله الحيوان.
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
شرح المفردات
الصخّ: الضرب بالحديد على الحديد، وبالعصا الصّلبة على شىء مصمت، فيسمع إذ ذاك صوت شديد والمراد هنا بالصاخة هو المراد بالقارعة فى سورتها،(30/48)
وهى الطامة الكبرى، ويكون نذيرها ذلك الصوت الهائل الذي يحدث من تخريب الكون ووقع بعض أجرامه على بعض، ومن ثمّ سميت صاخة وقارعة، شأن: أي شغل، يغنيه: أي يصرفه ويصده عن مساعدة ذوى قرابته، قال شاعرهم:
سيغنيك حرب بنى مالك ... عن الفحش والجهل فى المحفل
مسفرة: أي مضيئة مشرقة يقال: أسفر الصبح إذا أضاء، مستبشرة: أي فرحة بما نالت، والغبرة: ما يصيب الإنسان من الغبار، ترهقها: أي تغشاها، والقترة:
سواد كالدخان، والفجرة: واحدهم فاجر، وهو الخارج عن حدود الله المنتهك لحرماته.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه آلاءه على عباده، وذكّرهم بإحسانه إليهم فى هذه الحياة، وبين أنه لا ينبغى للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام- أعقب هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه، ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته، وصحة البعث وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله، ويتزوّد بصالح الأعمال التي تكون نبراسا يضىء أمامه فى ظلمات هذا اليوم.
وذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق ضاحك مستبشر، فرح فرح المحب يلقى حبيبه، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق، وفريق تعلو وجهه الغبرة، وترهقه القترة، وهو الذي تمرد على الله ورسوله، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحقّ، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال.
الإيضاح
(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك للصوت الهائل الذي يصخّ الأسماع ويصكها بشدته- فما أعظم أسف الكافرين، وما أشد ندمهم.(30/49)
ثم فصل بعض أهوال هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يوم يشغل كلّ امرئ ما يصيبه من الأهوال، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به، ويطلب معونته، على ما هو فيه، فيتوارى من أخيه، بل من أمه وأبيه، بل من زوجه التي هى ألصق الناس به، وقد كان فى الدنيا يبذل النفس والنفيس فى الدفاع عنها، بل من بنيه وهم فلذات كبده، وقد كان فى الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» .
وإنما كان الأمر كذلك، لأن لكل امرئ منهم من الرهب، وما يرهب من الهول، وما يخشى من مناقشة الحساب- شأنا يغنيه، ويصدّه عن ذوى قرابته، فليس لديه فضل فكر ولا قوة يمدّ بها غيره.
وقد يكون المعنى- يغنيه ذلك الهم الذي ركبه بسبب نفسه، وشغله حتى ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر.
وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للناس فى ذلك اليوم، وأنها لا تسعف أحدا بمواساة أحد ولا الالتفات إليه مهما يكن عطفه واتصاله به- أردفه بيان أن الناس فى ذلك اليوم سعداء وأشقياء، وأشار إلى الأولين بقوله:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي وجوه يومئذ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها ستوفّى ما وعدت به جزاء إيمانها وما قدمت من عمل صالح، وبشكرها لنعم ربها وآلائه، وإيثارها ما أمرها به على ما تهواه.
وأشار إلى الآخرين بقوله:
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي ووجوه يعلوها غبار الذل وسواد الغم والحزن، وهى وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا(30/50)
بالله، وبما جاء به أنبياؤه، وخرجوا عن حدود شرائعه، واجترحوا السيئات، واقترفوا المعاصي.
وقصارى ما سلف- إن الناس إذ ذاك فريقان:
(1) فريق كان فى دنياه يطلب الحق وينظر فى الحجة، ويعمل ما استقام عليه الدليل، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين، ولا قوة المعاندين، وهؤلاء سيطمئنون إلى ما أدركوا، ويفرحون بما نالوا، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور.
(2) فريق احتقر عقله، وأهمل النظر فى نعم الله عليه، وارتضى الجهل، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الآباء والأجداد، وظل يخبّ ويضع فى أهوائه الباطلة، وعقائده الزائفة- وهؤلاء سيجدون كل شىء على غير ما كانوا يعرفون، فتظهر عليهم آثار الخيبة والفشل، وتعلو وجوههم الغبرة، وترهقها القترة، لأنهم كانوا فى حياتهم الدنيا كفرة فجرة.
اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة، وصلّ ربنا على نبيك وآله وصحبه.
ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد
(1) عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.
(2) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه.
(4) أهوال يوم القيامة.
(5) الناس فى هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، وذكر حال كل منهما حينئذ.(30/51)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
سورة التكوير
هى مكية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد المسد.
ومناسبتها لما قبلها- أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.
وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) » .
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
شرح المفردات
تكوير الشمس: لفها كتكوير العمامة والمراد منه اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها، وانكدار النجوم: انتثارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها، وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض، فتقطّع أوصالها وتفصل منها أجبالها، وتقذفها فى الفضاء والعشار: واحدها عشراء (بضم العين(30/52)
وفتح الشين) وهى الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر، وهى أكرم مال لدى المخاطبين وقت التنزيل، قال الأعشى فى المدح:
هو الواهب المائة المصطفا ... ة إما مخاضا وإما عشارا
وتعطيلها: إهمالها وذهابها حيث تشاء، لعظم الهول وشدة الكرب، حشرت:
أي ماتت وهلكت، وتسجير البحار: تفجير الزلزال ما بينها حتى تختلط وتعود بحرا واحدا، زوّجت: أي قرنت الأرواح بأجسادها، الموءودة: هى التي دفنت وهى صغيرة، وقد كان ذلك عادة فاشية فيهم فى الجاهلية، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال:
ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توءد
يريد جدّه صعصعة، وكان يشتريهن من آبائهن، فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة، والمراد بالصحف صحف الأعمال التي تنشر على العباد حين يقفون للحساب، كشطت: أي كشفت وأزيلت عما فوقها كما يكشط جلد الذبيحة عنها، سعرت: أي أوقدت إيقادا شديدا، أزلفت: أي أدنيت من أهلها وقربت منهم، ما أحضرت:
أي ما أعدّ لها من خير أو شر.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من حوادث عظام، ليفخّم شأنه، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر، ووجدت ذلك أمامها مائلا، ورأت ما أعدّ لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته، واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا، لا تهويل فيه ولا تضليل.(30/53)
الإيضاح
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي إذا كورت الشمس وأمحى ضوؤها وسقطت حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحىّ فى حياته الدنيا، ولا يبقى فى عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شىء من هذه الأجرام.
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي وإذا النجوم تناثرت وذهب لألاؤها كما جاء فى قوله: «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» .
(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي وإذا الجبال قلعت عن الأرض وسيرت فى الهواء حين زلزلة الأرض، فتقطع أوصالها وتقذف فى الفضاء، وتمر على الرءوس مرّ السحاب ونحو الآية قوله: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وقوله: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» .
(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي وإذا النوق العشار وهى أكرم الأموال لديهم، وأعزها عندهم- أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب، وفداحة الهول.
وهذا على وجه المثل، لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء، ولكن مثّل هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه قاله القرطبي.
(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي ماتت وهلكت، تقول العرب إذا أضرّت السنة بالناس وأصابتهم بالقحط والجدب، حشرتهم السنة: أي أهلكتهم، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم.
(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا وهذا على نحو ما جاء فى قوله: «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» .
وقد يكون المراد من تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما فى باطن الأرض من النار يظهر بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا، وحينئذ يصير الماء بخارا، ولا يبقى إلا النار.(30/54)
وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين، وهى جبال النار التي فى باطن الأرض، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال فى بعض الأطراف كما حدث فى مسّينا بإيطاليا سنة 1909 م، وحدث فى اليابان بعد ذلك.
وجاء فى بعض الأخبار «إن البحر غطاء جهنم» .
وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء وبطلان الحياة فى الأرض وامتناع المعيشة فيها- أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور فقال:
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي وإذا زوجت الأرواح بأبدانها حين النشأة الآخرة، قاله عكرمة والضحاك والشعبي.
وفى هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد، فبعد أن كانت منفردة عن البدن تعود إليه.
(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟) أي وإذا سئلت الموءودة بين يدى وائدها عن السبب الذي لأجله قتلت، ليكون جوابها أشد وقعا على الوائد، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته.
وقد افتنّ العرب فى الوأد، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ولا يقتلها، أمسكها مهانة إلى أن تقدر على الرعي، ثم ألبسها جبة من صوف أو شعر وأرسلها فى البادية ترعى إبله، وإن أراد أن يقتلها تركها حتى إذا كانت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا فى الصحراء حتى إذا بلغها قال لها انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تسوى البئر بالأرض، ومنهم من كان يفعل ما هو أنكى وأقسى من ذلك.
فيالله، ما أعظم هذه القسوة بقتل البريئات بغير جرم سوى خوف الفقر أو العار، وكيف استبدلت الرحمة بالفظاظة، والرأفة بالغلظة، بعد أن خالط الإسلام قلوبهم، ومحا وصمة هذا الخزي عنهم.(30/55)
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين فى موقف الحساب حتى لا يرتابوا فيها، ولا ينبغى أن نبحث عن تلك الصحف، لنعلم أهي على مثال الأوراق التي نكتب فيها فى الدنيا، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله فى الكتابة، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا، ولم يجئ نص قاطع عن المعصوم صلى الله عليه وسلم يفسر ذلك.
(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فلم يبق غطاء ولا سماء، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان أوقدت إيقادا شديدا، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مسّ النيران للأجسام الحية، وقد جاء فى سورة البقرة: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» .
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي وإذا الجنة أدنيت من أهلها: أي أعدت لنزولهم.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» .
(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة، تعلم كل نفس ما كان من عملها متقبلا وما كان منه مردودا عليها، فكثير من الناس كانوا فى الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضىّ عنها، بل هى مبعدة من الله مستحقة لغضبه فالذين يعملون أعمالهم رئاء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح.
والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب ملىء بالإيمان، عامر بحبه والرغبة فى رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.(30/56)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
تفسير المفردات
الخنس: واحدها خانس، وهو المنقبض المستخفى يقال خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى، والكنّس واحدها كانس أو كانسة من قولهم: كنس الظبى إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بالخنس الجوار الكنس: جميع الكواكب، وخنوسها: غيبوبتها عن البصر نهارا، وكنوسها: ظهورها للبصر ليلا، فهى تظهر فى أفلاكها، كما تظهر الظباء فى كنسها.
وعسعس: أي أدبر، وتنفس: أسفر وظهر نوره، قال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
والرسول: هو جبريل عليه السلام، وكريم: أي عزيز على الله، ذى قوة:
أي فى حفظه، مكين: أي ذى مكانة وجاه عند ربه يعطيه ما سأله يقال مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة، ثمّ (بفتح الثاء) أي هناك، أمين:
أي على وحيه ورسالاته، صاحبكم: هو محمد صلى الله عليه وسلم، بالأفق المبين:(30/57)
أي بالأفق الواضح، وضنين: أي بخيل، رجيم: أي مرجوم مطرود من رحمة الله، فأين تذهبون: أي أىّ مسلك تسلكون وقد قامت عليكم الحجة، أن يستقيم:
أي على الطريق الواضح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر، وبيّن أن الناس حينئذ يقفون على حقائق أعمالهم فى النشأة الأولى، ويستبين لهم ما هو مقبول منها وما هو مردود عليهم- أردف ذلك بيان أن ما يحدّثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بينات من الهدى، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم: إنه ساحر أو مجنون، أو كذاب، أو شاعر ما هو إلا محض افتراء، وأن لجاجكم فى عداوته وتألّبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار، وأنكم فى قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره، ودخيلة دعوته.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا إن هذه عبارة للعرب فى القسم تريد بها تأكيد الخبر كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، وكأنه يقول: أنا لا أقسم بكذا وكذا على إثبات ما أذكره، ولا على وجوده فهو واضح جلىّ ليس فى حاجة إلى الحلف والمراد به القسم المؤكد.
(بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي بالكواكب جميعها، وهى تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل: أي تطلع فى أماكنها كالوحش فى كنسها وقد أقسم بها سبحانه، لما فى حركاتها وظهورها طورا واختفائها طورا آخر من الدلائل على قدرة مصرّفها، وبديع صنعه، وإحكام نظامه.(30/58)
ويرى بعض العلماء أن المراد بها الدرارىّ الخمسة وهى: عطارد، والزّهرة، والمرّيخ، والمشترى، وزحل، لأنها تجرى مع الشمس، ثم ترى راجعة حتى تختفى فى ضوئها، فرجوعها فى رأى العين هو خنوسها، واختفاؤها هو كنوسها.
(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي والليل إذا أدبر وولى، وفى إدباره زوال الغمّة التي تغمر الأحياء، بانسدال الظلمة وانحسارها.
(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والصبح إذا أسفر وظهر نوره، وفى ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة فى نهار جديد، إذ تنطلق الإرادات، لتحصيل الرغبات، وسدّ الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت.
ثم ذكر المحلوف عليه فقال:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن ما أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الساعة ليس بكهانة ولا اختلاق، بل هو قول نزل به جبريل وحيا من ربه، وإنما كان قوله لأنه هو الذي حمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وقد وصف هذا الرسول بخمسة أوصاف:
(1) (كَرِيمٍ) أي عزيز على ربه، إذ أعطاه أفضل العطايا، وهى الهداية والإرشاد، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده.
(2) (ذِي قُوَّةٍ) فى الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ، وقد جاء فى آية أخرى: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» .
(3) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذى جاه ومنزلة عند ربه يعطيه ما سأل.
(4) (مُطاعٍ ثَمَّ) أي هو مطاع عند الله فى ملائكته المقربين، فهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه.
(5) (أَمِينٍ) على وحي ربه ورسالاته، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال.
وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه فقال:(30/59)
(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد صلى الله عليه وسلم بالمجنون كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر مما لم يكن معروفا لهم كما حكى عنهم فى قوله: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» وقوله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» وقوله: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .
وفى التعبير (بِصاحِبِكُمْ) استدلال عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم فى دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة، وصدق لهجة، وكمال عقل، ووفور حلم، وتفوّق على جميع الأنداد والأتراب فى صفات الخير- لم يكن ادّعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا.
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي وإن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى، وقد تمثل له جبريل فى مثال يظهر ويبصر، فتجلى لعينيه، وأعلم أنه جبريل فعرفه.
وقد ذكرت هذه الرؤية فى سورة النجم فى قوله: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى» .
(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وليس محمد بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين لا يأتى به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب فى ماضى حياته، فهو غير متّهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه.
ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقوّلونها عليه فقال:
(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا الذي يتكلم به محمد بقول ألقاه(30/60)
الشيطان على لسانه حين خالط عقله كما تزعمون، فإنه قد عرف بصحة العقل، وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين.
وقد حكى الله سبحانه عن الأمم جميعا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون فقال:
«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .
ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر، وجهلوا سبيل الحكمة فقال:
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأىّ سبيل تسلكونها وقد سدّت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم، وبطلت مفتريانكم، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.
ثم بيّن حقيقة القرآن فقال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة يتذكرون بها ما غرز فى طباعهم من حب الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع، والقدوة السيئة.
ثم بيّن أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال:
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي إنه ذكر يتذكر به من وجّه إرادته للاستقامة على جادّة الحق والصواب أما من انحرف عن ذلك فلا يؤثر فيه هذا الذكر ولا يخرجه من غفلته.
والخلاصة- إن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ويطلبه، ويجدّ فى كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثم دفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة فى فعل ما يريد، وله الاختيار التام فيما يفعل، وهو منقطع العلاقة فى إرادته من سلطان ربه فقال:
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي إن إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله فيكم بقدرته، الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم(30/61)
إرادة فعل الخير فتنصرف هممكم إليه، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها.
وفى قوله: «رَبُّ الْعالَمِينَ» بيان لعلة هذا، فإنه لما كان رب العالمين، وهو الذي منحكم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها، وهو صاحب السلطان عليكم- كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته، وخاضعة لسلطانه، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما وجهت له توجهت، ولو شاء أن يمحوها محيت، فله الأمر وله الحكم وهو على كل شىء قدير.
موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) أهوال يوم القيامة.
(2) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند الله بوساطة ملائكته.
(3) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
(4) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.
(5) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه، وليس لها استقلال بالعمل.(30/62)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
سورة الانفطار
هى مكية، وآياتها تسع عشرة، نزلت بعد سورة النازعات.
وهى كسابقتها مبدوءة بوصف أهوال يوم القيامة.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
شرح المفردات
انفطرت: أي انشقت، انتثرت: أي تساقطت متفرقة، فجرت: أي فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من الحواجز واختاط عذبها بملحها، بعثرت: أي قلب ترابها الذي حثى على موتاها، وأزيل وأخرج من دفن فيها، ما قدمت: أي من أعمال الخير، وما أخرت: أي منها بالكسل والتسويف.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة منها أمران علويان هما: انفطار السماء وانتثار الكواكب، وأمران سفليان هما تفجير البحار وبعثرة القبور. ثم أبان أنه فى ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها.
فلا ترى خيرا فى صورة شر، ولا تتخيل شرا فى مثال خير، كما يقع فى الدنيا لأغلب(30/63)
النفوس. فيعرف أهل الخير أنهم- وإن نجوا- مقصرون، فيأسفون على ما تركوا ويستبشرون بما عملوا، ويعضّ أهل السوء بنان الندم، ويوقنون بسوء المنقلب، ويتمنون أن لو كانوا ترابا.
الإيضاح
(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى، عند خراب هذا العالم بأسره.
وجاء نحو الآية قوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وقوله: «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» وقوله: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .
(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي سقطت وتفرقت. وهذا يجىء تاليا لما قبله.
إذ متى انشقت السماء وانتقض تركيبها، واختل نظامها- انتثرت كواكبها.
(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي أزيل ما بينها من حواجز فاختلط عذبها بملحها.
وفاضت على سطح الأرض حينا من الدهر كما قال: «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» أي ملئت وفاض ماؤها، لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد، ووقوع الخلل فى جميع أجزائها.
والخلاصة- إن هذا العالم تزول صفاته. وتتبدل أحواله. فتكون الأرض غير الأرض. والسماء غير السماء كما قال: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» .
(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي أثيرت وقلب أسفلها أعلاها. وباطنها ظاهرها.
ليخرج من فيها من الموتى أحياء.(30/64)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علم كل أحد ما قدم لنفسه من عمل ولم يقصر فيه وعلم ما أخره وتكاسل عن أدائه.
وفى هذا ترغيب فى الطاعة، وزجر عن المعصية.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
شرح المفردات
ما غرك: أي أىّ شىء خدعك وجرّأك على العصيان؟ الكريم: أي العلى العظيم فسواك: أي جعل أعضاءك سويّة سليمة معدّة لمنافعها، فعدلك: أي جعلك معتدلا متناسب الخلق، فى أي صورة ما شاء ركبك: أي ركبك فى صورة هى من أعجب الصور وأحكمها، وكلمة (ما) جاءت زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه، وهى طريقة متبعة فى كلامهم عند إرادة التهويل، وسلوك سبيل التعظيم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى صدر السورة أنه فى يوم القيامة يبدّل نظام هذا العالم، ويسأل الخلائق عما قدمت أيديهم، ويحاسبهم على ما اقترفوا من آثام، ويقرّعهم على تكاسلهم فى أداء ما أمروا به، ويجزيهم أحسن الجزاء على ما قدموا من عمل صالح- أردف هذا بخطاب الإنسان واستفساره عما دعاه إلى مخالفة خالقه، وتماديه فى فجوره وطغيانه، واسترساله مع دواعى النفس الأمارة بالسوء مع أنه لو تدبر فى نفسه وفى خلقه لوجد من شواهد ربوبية خالقه ما هو جدير بشكرانه، ومداومته على(30/65)
طاعته وهو للذى خلقه فسواه وجعله على أحسن صورة. وكمله بالعقل والفهم والتدبر فى عواقب الأمور ومصايرها.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي أيها الإنسان العاقل الذي أوتى من قوة الفكر، وبسطة القدرة ما أوتى حتى صار بذلك أفضل المخلوقات- أىّ شىء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر. ولا تزال أياديه تتوالى عليك، ونعمه تترى لديك؟ ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك، وجعلك معتدل القامة، تامّ الخلق.
ووصف نفسه بالكريم دون القهار، إيذانا بأن ذلك مما لا يصلح أن يكون مدارا لاغتراره، وإغواء الشيطان له بنحو قوله: افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك فى الدنيا وسيفعل مثل ذلك فى الآخرة، بل هذا يصلح للمبالغة فى الإقبال على الإيمان والطاعة.
والخلاصة- كأنه قيل ما حملك على عصيان ربك الذي من صفاته الكرم، الزاجر لك عن عصيانه ومخالفة أمره؟
قال عمر بن الخطاب وقد تلا الآية: غرّه جهله وقرأ: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» وقال قتادة: غرّه عدوه المسلّط عليه.
ثم أجمل ما فصله أوّلا بقوله:
(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركبك فى صورة هى من أبهى الصور وأجملها، وأدّ لها على بقائك الأبدى فى نشأة أخرى بعد هذه النشأة. فإن الكريم يوفّى كل مرتبة من الوجود حقها، فمن خص بهذه المنزلة الرفيعة لا ينبغى أن يعيش(30/66)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
كما يعيش سائر الحيوان، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذرّ، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها، ولا فناء بعدها، يوفّى فيها كل ذى حق حقه، وكل عامل جزاء عمله.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 19]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18)
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
شرح المفردات
كلا: كلمة تفيد نفى شىء قد تقدم وتحقيق غيره، والدين: الجزاء، حافظين أي يحصون أعمالكم خيرا كانت أو شرا، والأبرار: واحدهم برّ، وهو من يفعل البر (بكسر الباء) ويتقى الله فى كل أفعاله، والفجار: واحدهم فاجر، وهو التارك لما شرعه الله وحدّه لعباده، يصلونها: أي يقاسون حرها، يوم الدين: أي يوم الجزاء، ما أدراك: أي ما أعلمك وعرفك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة. وأن ذلك يدل على أن له حياة أخرى غير هذه الحياة: فيها يجازى بما عمل من خير أو شر- أعقب هذا بيان أنه لا شىء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد(30/67)
والتكذيب، فالشعور النفسي يوحى به، والدليل النقلى الذي أتى به الرسول يصدقه، والله لم يترك عملا لعباده إلا أحصاه وحفظه، ليوفى كل عامل أجره، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغرض والنسيان بكتابته وضبطه.
ثم ذكر أن الناس فى هذا اليوم فريقان، بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى، وهؤلاء يتقلبون فى النعيم، وفجرة يتركون أوامر الدين، وأولئك يكونون فى دار العذاب والهوان يقاسون حر النار، وأنه فى هذا اليوم لا يجد المرء ما يعوّل عليه سوى ما قدمت يداه، فيجفوه الأولياء، ويخذله الشفعاء، ويتبرأ منه الأقرباء فلا شفيع ولا نصير، ولا وزير ولا مشير، والحكم لله وحده، وهو المهيمن على عباده، وبيده تصريف أمورهم، وهو الصادق فى وعده، العدل الحكيم فى وعيده، فلا مهرب لعامل مما أعدّ له من الجزاء على عمله.
الإيضاح
(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي ارتدعوا عن الاغترار بكرمى لكم. فإنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمى عليكم، ويدعوه إرشادى لكم، بل تجترئون على ما هو أعظم منه. فتكذبون بيوم الجزاء والحساب على القليل والكثير، يوم تبعثون للفصل بينكم، فتجازى كل نفس بما عملت، وما قدمت وأخرت.
ثم حذرهم من تماديهم فى غيهم ببيان أن أعمالهم محصاة عليهم فقال:
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي إن أعمالكم محصاة عليكم، فقد وكل بكم ملائكة حفظة، كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير وشر.
وقد ذكر ذلك فى غير موضع من الكتاب الكريم كقوله: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» وقوله: «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» .(30/68)
وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا أن نعرف من أي شىء خلقوا وما عملهم، وكيف يحفظون الأعمال، وهل عندهم أوراق وأقلام، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال، فتبقى فيها بقاء المداد فى القرطاس. كل ذلك لم نكلّف العلم به، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر فى حقيقته إلى الله.
ثم ذكر نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، وبين أن العاملين فى ذلك اليوم فريقان، وبين مآل كل منهما فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي وإن أهل الثواب وهم الأبرار يكونون فى دار النعيم. وإن أهل العقاب وهم الفجار يكونون فى دار الجحيم، دار العذاب الأليم يقاسون أهوالها.
ثم بين أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مهرب فقال:
(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي إنهم لا يغيبون عن الجحيم، ولا ينفكون عن عذابها، بل هم ملازمون لها.
ثم عاد إلى تفخيم ذلك اليوم وتهويل أمره فقال:
(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب، فأنت لاه عن هذا اليوم غير مبال به، وقد كنت خليقا أن تتعرف حقيقة حاله، لتأخذ لنفسك الحيطة، وتتدبر أمرك، ولا تركن إلى عفو ربك وكرمه وصفحه، فإنك لا تدرى ما قدّر لك.
ثم زاده توكيدا وتعظيما فقال:
(ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟) أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم.
كأنك قد أدركت كنهه. وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال. ولو عرفته حق معرفته للانت قناتك. ورجعت إلى ربك تائبا. وعدت إليه مستغفرا. طالبا الصفح عما قدمت يداك.(30/69)
ثم بين حقيقة أمره فقال:
(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي يوم لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا الله وحده. فكل امرئ مشغول بما هو فيه، كما قال: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» وقال: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .
ثم أكد ما سبق بقوله:
(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده، فلا أحد يحمى أحدا، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.
وقد استأثر الله بالأمر كله، فبيده تصريفه، وإليه المرجع والمآب.
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
ما فى هذه السورة من مقاصد
(1) وصف بعض أهوال يوم القيامة.
(2) تقصير الإنسان فى مقابلة الإحسان بالشكران.
(3) بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون.
(4) بيان أن الناس فى هذا اليوم: إما بررة منعمون، وإما فجرة معذبون.(30/70)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
سورة المطففين
آياتها ست وثلاثون، نزلت بعد سورة العنكبوت، وهى آخر سورة نزلت بمكة.
ومناسبتها لما قبلها. أنه قال هناك: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» وذكر هنا ما يكتبه الحافظون: «كِتابٌ مَرْقُومٌ» يجعل فى عليين أو فى سجّين.
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
شرح المفردات
ويل: أي هلاك عظيم، والتطفيف: البخس فى الكيل والوزن وسمى بذلك لأن ما يبخس شىء حقير طفيف، اكتالوا على الناس: أي اكتالوا من الناس حقوقهم، يستوفون: أي يأخذونها وافية كاملة، كالوهم: أي كالوا لهم، يخسرون:
أي ينقصون الكيل والميزان، يقوم الناس لرب العالمين: أي يقف الناس للعرض على خالقهم، ويطول بهم الموقف إجلالا لعظمة ربهم.
المعنى الجملي
فصل سبحانه فى هذه السورة ما أجمله فى سابقتها، فذكر فيها نوعا من أنواع الفجور وهو التطفيف فى المكيال والميزان، ثم نوعا آخر وهو التكذيب بيوم الدين ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.(30/71)
الإيضاح
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي عذاب وخزى شديد يوم القيامة لمن يطفف فى المكيال والميزان.
وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد، من قبل أنه كان فاشيا منتشرا بمكة والمدينة، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه ولا يوفون حق المشترى.
روى أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير، فكان إذا أراد أن يشترى من أصحاب الزروع والحبوب والثمار اشترى بالكيل الكبير، وإذا باع للناس كال للمشترى بالكيل الصغير.
هذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى على نفوسهم الجثع- هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعّدهم النبي صلى الله عليه وسلم وتهددهم
بقوله: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلا منعوا النبات، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر» .
وقد بين سبحانه عمل المطففين الذي استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله:
(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كان لهم عند الناس حق فى شىء من المكيلات لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيا كاملا، وإذا كان لأحد عندهم شىء وأرادوا أن يؤدوه له أعطوه ناقصا غير واف.
واقتصر النظم على الاكتيال حين الاستيفاء، وذكر الكيل والميزان فيه حين الإخساء، لأن التطفيف فى الكيل يكون بشىء قليل لا يعبأ به فى الأغلب، دون التطفيف فى الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضى إلى شىء كثير، ولأن ما يوزن أكثر(30/72)
قيمة فى كثير من الأحوال مما يكال، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم، علم أنهم لا يبقون عليهم والكثير الذي لا يتسامح فيه إلا نادرا بالطريق الأولى.
وكما يكون التطفيف فى الكيل والميزان يكون فى أشياء أخرى، فمن استأجر عاملا ووقف أمامه يراقبه ويطالبه بتجويد عمله، ثم إذا كان هو عاملا أجيرا لم يراقب ربه فى العمل ولم يقم به على الوجه الذي ينبغى أن يقوم به- يكون واقعا تحت طائلة هذا الوعيد، مستوجبا لأليم العذاب، مهما يكن عمله، جلّ أو حقر وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال الحيل المختلفة.
لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا فى عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين.
ثم هوّل فى شأن هذا العمل فقال:
(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن تطفيف الكيل والميزان واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة- لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة ويحاسب على عمله، إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل ولا بخس الميزان.
والخلاصة- إنه لا يجسر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب الله فيه عباده على أعمالهم، فما بالك بمن يستيقن ذلك.
ثم وصف هذا اليوم فقال:
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا اليوم هو اليوم الذي يقف فيه الناس للعرض والحساب، ويطول بهم الموقف إعظاما لجلاله تعالى.(30/73)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
ولا يخفى ما فى الوصف برب العالمين من الدلالة على عظم الذنب وتفاقم الإثم فى التطفيف، إذ أن الميزان هو قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض.
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول: اتق الله تعالى وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن، حتى إن العرق ليلجمهم.
وعن عكرمة أنه قال: أشهد أن كل كيال ووزان فى النار، فقيل له: إن ابنك كيال، فقال: أشهد إنه فى النار، وكأنه أراد المبالغة وبيان أن الغالب فيهم التطفيف.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 13]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
شرح المفردات
سجين: اسم للكتاب الذي دوّنت فيه أعمال الفجرة من الثقلين، مرقوم: من رقم الكتاب إذا جعل له علامة، والعلامة تسمى رقما، معتد: أي متجاوز منهج الحق، أثيم: أي يكثر من ارتكاب الآثام: وهى المعاصي، أساطير الأولين: أي أخبار الأولين أخذها محمد عن بعض السابقين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد الله به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة- أمرهم بالكف عما هم فيه، وذكر أن الفجار(30/74)
قد أعدّ لهم كتاب أحصيت فيه جميع أعمالهم ليحاسبوا بها، فويل للمكذبين بيوم الجزاء، وما يكذب به إلا كل من تجاوز حدود الدين وانتهك حرماته، وإذا تليت عليهم آيات القرآن قالوا ما هى إلا أقاصيص الأولين نقلها محمد عن السابقين، وليست وحيا يوحى كما يدعى.
الإيضاح
(كَلَّا) أي ازدجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي كفوا عما أنتم عليه، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم، وقد أعد الله لهم كتابا أحصى فيه أعمالهم يسمى (سجّينا) .
(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟) أي ليس ذلك مما تعلمه أنت ولا قومك.
ثم فسره له فقال:
(كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي كتاب قد جعلت له علامة بها يعرف من رآه أنه لا خير فيه.
وقصارى ما سلف- إن للشر سجلا دونت فيه أعمال الفجار وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين. كما تقول:
إن كتاب حساب قرية كذا فى السجل الفلاني المشتمل على حسابها وحساب غيرها من القرى فلكل فاجر من الفجار صحيفة. وهذه الصحائف فى السجل العظيم، المسمى بسجين.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي شدة وعذاب لمن يكذب بيوم الجزاء، سواء كان بجحد أخباره أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب.(30/75)
وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم، والمداومة على اقتراف السيئات.
ثم بين أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال:
(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق، وعمى عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الجرائم، إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة، لأنه يأبى النظر فى أدلتها، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها، إلى أنه يعلل نفسه بالإنكار، ويهوّن عليها الأمر بالتغافل، أو التعلق بالأمانى من نصرة الأولياء، أو توسط الشفعاء.
أما من كان ميالا إلى العدل، واقفا عند ما حدّ الله لعباده فى شرائعه وسننه فى نظام الكون. فأيسر شىء التصديق باليوم الآخر، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه.
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قرئ عليه القرآن أنكر كونه منزلا من عند الله، وزعم أنه أخبار الأولين، أخذها محمد من غيره من السابقين.
ونحو الآية قوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .
وقد يكون المعنى- إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها ولم تجز عليهم، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعمون أن تكذيبنا بها يعتبر عجلة منا، فإنا إنما تأسّينا فى تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا.(30/76)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
[سورة المطففين (83) : الآيات 14 الى 17]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
شرح المفردات
ران على قبله: أي غطى عليه، قال الزجاج: الرين كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق. وقال أبو عبيدة: ران على قلوبهم غلب عليها، قال الفرّاء: كثرت منهم المعاصي والذنوب، فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها، لمحجوبون: أي لمطرودون عن أبواب الكرامة، لصالوا الجحيم: أي لداخلوا النار وملازموها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم قالوا: إن القرآن أساطير الأولين وليس وحيا من عند الله- أردف ذلك بيان أن الذي جرأهم على ذلك هى أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها، فعمّيت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة.
ثم ردّ عليهم فرية كانوا يقولونها، ويكثرون من تردادها- وهى إن كان ما يحدّث به محمد صحيحا فنحن سنكون فى منزلة الكرامة عند ربنا، فأبان لهم أنهم كاذبون، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها، ويقال لهم هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول.
الإيضاح
(كَلَّا) زجر لكل معتد أثيم يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين.(30/77)
ثم بين سبب الذي حملهم على ذلك فقال:
(بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها فصارت سببا لحصول الرين على قلوبهم، فالتبست عليهم الأمور ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح، والصدق الواضح، والدليل اللائح.
وبعد أن بين منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين- دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة فقال:
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده كما قال: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» .
ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال:
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي وبعد أن يحجبوا فى عرصات القيامة عن الدنو من ربهم، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونها- يقذف بهم فى النار ويصلون سعيرها ويقاسون حرها.
ثم أرشد إلى أنهم حينئذ يبكّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام فقال:
(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا الذي عوقبتم به- هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق، كزعمكم أنكم لن تبعثوا، وأن القرآن أساطير الأولين، وأن محمدا ساحر أو كذاب، إلى نحو ذلك من مقالاتكم، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم، وعاينتم بأنفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه.(30/78)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكّر وهو يتألم، بأن وسائل نجاته من مصابه كانت فى متناول يديه وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريّا.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
شرح المفردات
عليين: أي فى مكان عال وقد تقدم أن سجينا مكان فى نهاية السفلى، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين وأعمال الخاسرين، وليس علينا أن نعرف ما هما؟
أمن أوراق أو أخشاب أو معادن أخرى، والأرائك. هى الأسرّة فى الحجال (والحجال واحدها حجلة وهى مثل القبة) وحجلة العروس بيت: أي خيمة تزين بالثياب والأسرّة والستور، ونضرة النعيم: بهجته ورونقه، ورحيق: أي شراب خالص لا غش فيه، مختوم: أي ختمت أوانيه وسدت، ختامه مسك: أي ما يختم به رأس قارورته هو المسك مكان الطين، وأصل التنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه، والمراد فليستبق المتسابقون وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالعاملين، والمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خاط أحد الشيئين بالآخر، والتسنيم: عين من ماء تجرى من أعلى(30/79)
إلى أسفل، وهو أشرف شراب فى الجنة، ويكون صرفا للمقرّبين ممزوجا لأصحاب اليمين وسائر أهل الجنة، والمقربون: هم الأبرار الذين سلف ذكرهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين، وبين منزلتهم عند الله يوم القيامة- أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة.
وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان.
وفى ذلك ترغيب فى الطاعة، وحفر لعزائم المحسنين، ليزدادوا إحسانا، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم.
الإيضاح
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين.
(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي إن كتاب أعمال الأبرار مودع فى أعلى الأمكنة، بحيث يشهده المقربون من الملائكة، تشريفا لهم وتعظيما لشأنهم.
كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار فى أسفل سافلين- إذلالهم وتحقير شأنهم، وبيان أنه لا يؤبه بهم ولا يعنى بأمرهم.
ثم عظم شأن عليين وفخم أمره فقال:
(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي وما أعلمك أي شىء هو؟
ثم فسره وبين المراد منه فقال:(30/80)
(كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي إن كتابهم فى هذا السجلّ الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم، وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار.
وقد يكون المراد- إنهم ينقلون ما فى تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار.
وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار- أخذ يفصل حال الأبرار فقال:
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي إن البررة المطيعين لربهم، الذين يؤمنون بالبعث والحساب، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله- لفى لذة، وخفض عيش، وراحة بال، واطمئنان فس.
ثم ذكر أوصاف هذا النعيم وفخم شأنه فقال:
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة فى حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم فى الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك.
ثم بين أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال:
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إنك إذا نظرت إليهم أدركت أنهم أهل نعمة، لما ترى فى وجوههم من الأمارات الدالة على ذلك فمن ضحك، إلى هدوء بال، إلى استبشار كما قال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» .
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) أي يسقون خمرا لا غش فيها، ولا يصيب شاربها خمار ولا يناله منها أذى كما قال تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» .
وقد ختمت أوانيها بختام من مسك بدل الطين، تكريما وصونا لها عن الابتذال على ما جرت به العادة من ختم الإنسان على ما يكرّم ويصان.(30/81)
وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجرى فى الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله: «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» .
ثم رغب فى العمل لذلك النعيم فقال:
(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي وفى ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره، واجتناب نواهيه.
وفى هذا إيماء إلى أن التنافس يجب أن يكون فى مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا فى النعيم الذي يشوبه الكدر وهو سريع الفناء.
(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج هذا الرحيق ينصبّ عليهم من الأعالى. وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال: هذا مما قال الله. «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» .
ثم بين هذا التسنيم فقال:
(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي أمدح عينا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجا إذا أرادوا، وقد وصفهم الله بالمقربين تكريما لهم وزيادة فى مدحهم.
وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبين لهم أنهم فى الآخرة يشربون رحيقا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر، إذا شاءوا أن يمزجوه.
وقصارى ما سلف- أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار فى دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس، وبما يشوّقها إليه، ليكون حضا للذين يعملون الصالحات على الاسترادة من العمل والاستدامة عليه، وحثا لهمم المقصرين، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد منه ليكون لهم مثل ما لأولئك.
إلى ما فيه من تحزين العصاة المصرّين على عصيانهم، وبلوغ الغاية فى إيلامهم، فإن العدو يسوءه أن يرى عدوه فى نعمة، أو يسمع أن النعمة تنتظره.(30/82)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
شرح المفردات
الغمز: الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء وسخرية، وقد يراد به العيب فيقال غمز فلان فلانا إذا عابه وذكره بسوء. ويقال فلان لا مغمز فيه: أي ليس فيه ما يعاب به، فكهين: أي معجبين بما هم فيه من الشرك والضلالة والعصيان، حافظين: أي رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم، والتثويب والإثابة: المجازاة. يقال ثوّبه وأثابه إذا جازاه كما قال:
سأجزيك أو يجزيك عنى مثوّب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الحياة الدنيا، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم فى الحياة الأولى.
روى أن صناديد قريش كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وأضرابهم، كانوا يؤذون رسول الله(30/83)
صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرضون عليهم سفهاءهم وغلمانهم.
وهم الذين قال الله فيهم: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .
وروى أن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه جاء فى نفر من المسلمين فرآه بعض هؤلاء الكفار فسخروا منه وممن معه وضحكوا منهم وتغامزوا بهم، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي إن المعتدين الأئمة الذين ضريت نفوسهم على الشر، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق- كانوا فى الدنيا يضحكون من الذين آمنوا.
ذاك أنه حين رحم الله العالم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأى الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه الصلاة والسلام، ثم يهمس بها بعض من يلبى دعوته من الضعفاء فيسرّ بها إلى من يرجو الخير فيه ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه.
ومن شأن القوى المعتزّ بقوته وكثرة ماله وعزة نفره أن يضحك ممن يخالفه فى المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرف، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش كأبى جهل وشيعته، وأمثالهم كثيرون فى كل زمان ومكان، متى عمت البدع وخفى طريق الحق، وتحكمت الشهوات، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، وإذا صار الناس إلى هذه الحال، ضعف صوت الحق، وازدرى السامعون منهم، بالداعي إليه.
(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ)
أي وإذا مر المؤمنون بهم يعيبونهم ويذكرونهم بالسوء، ويشيرون إليهم مستهزئين.(30/84)
(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي وإذا رجعوا إلى ذوى قرابتهم وبنى جلدتهم وأشياعهم من أهل الشرك والضلالة- رجعوا معجبين بما فعلوا من العيب على أهل الإيمان ورميهم بالسّخف وقلة العقل، ويقولون: عجبا لهم، إذ يقولون لا تدعوا إلا إلها واحدا، ولا تتوجهوا بالطلب إلا إليه، فأين الأولياء والشفعاء، فكم ضرّوا وكم نفعوا- إلى نحو ذلك مما يتندرون به ويعدونه فكاهة ويتلذذون بحكايته.
(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي وإذا رأوا المؤمنين قالوا إن هؤلاء لضالون، إذ نبذوا ما عليه الكافة، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف، كابرا عن كابر، وجيلا بعد جيل.
فرد سبحانه على هؤلاء الكفار فقال:
(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي إن الله لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين، ولم يؤتهم سلطة محاسبتهم على أفعالهم، وتعريف باطلها من صحيحها، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالا بعقولهم الفاسدة، وإنما كلفهم أن ينظروا شئون أنفسهم، فيعدّلوا منها ما اعوجّ، فإذا فعلوا ذلك قاموا بما يجب عليهم فى هذه الحياة.
ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة، تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى وتقوية لقلوبهم، وشدّا لعزائمهم على التذرع بالصبر فقال:
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي إنهم فى يوم الدين يضحك المؤمنون ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم وخذلان أعدائهم، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم، وظهر لهم سفه عقولهم وفساد أقوالهم.
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى ما صنع الله بأعدائهم، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم ويهزءون بهم.(30/85)
ثم ذكر ما ينظرون إليه ليستيقنوا من حصوله فقال:
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنهم ينظرون ليتحققوا: هل جوزى الكفار بما كانوا يفعلون بهم فى الدنيا.
وإنما سمى الجزاء على العمل ثوابا، لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر.
ولله الحمد على إنعامه، والشكر على إحسانه وإفضاله.
مقاصد هذه السورة
(1) وعيد المطففين.
(2) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين.
(3) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين.
(4) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
(5) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال.
(6) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
(7) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال.(30/86)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
سورة الانشقاق
هى مكية، وآياتها خمس وعشرون، نزلت بعد سورة الانفطار.
ومناسبتها لما قبلها- أنه فى السابقة ذكر مقر كتب الحفظة، وفى هذه ذكر عرضها يوم القيامة.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
شرح المفردات
انشقت: أي تشقّقت بالغمام كما جاء فى قوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وأذنت لربها: أي استمعت له كما قال:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وحقّت: أي وحق لها أن تمتثل ذلك أي يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير:(30/87)
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت
مدت: أي بسطت بزوال جبالها ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وألقت ما فيها: أي ألقت ما فى جوفها من الموتى والكنوز، وتخلت:
أي خلت مما فيها فلم يبق فيها شىء، كادح: أي جاهد مجدّ. قال شاعرهم:
ومضت بشاشة كلّ عيش ... وبقيت أكدح للحياة وأنصب
فملاقيه: أي فملاق له عقب ذلك، ينقلب: أي يرجع، أهله: أي عشيرته المؤمنين، وراء ظهره: أي بؤتاه بشماله من وراء ظهره، والثبور: الهلاك أي ينادى ويقول: وا ثبوراه أقبل فهذا أوانك، ويصلى: أي يقاسى، وسعيرا: أي نارا مستعرة، مسرورا: أي فرحا، يحور: أي يرجع قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والمراد أنه لن يرجع إلى الله، بلى: أي بلى يحور ويرجع.
المعنى الجملي
بين سبحانه فى أوائل هذه السورة أهوال يوم القيامة، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال، وتخليها عما فى جوفها- يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه، وينقسم الناس حينئذ فريقين:
(1) فريق الصالحين البررة، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.
(2) فريق الكفرة والعصاة، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.(30/88)
الإيضاح
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لفساد تركيبها واختلال نظامها، حينما يريد الله خراب هذا العالم بحدث من الأحداث، كأن يمر كوكب فى سيره بالقرب من كوكب آخر، فيتجاذبان ويتصادمان، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره، ويحدث من ذلك غمام يظهر فى مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع.
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي استمعت وانقادت لتأثير قدرته، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتثل ما أمر به،
وفى الحديث: «ما أذن الله لشىء إذنه لنبىّ يتغنى بالقرآن» .
(وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تمتثل لأنها مخلوقة من مخلوقاته وهى فى قبضته، فإن أراد تبديد نظامها فعل ولم يكن لها أن تعصى إرادته.
(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي وإذا اضطربت الأرض ودكت جبالها، وتقطعت أوصالها، وفقدت ما بينها من التماسك، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن بل تمدّ مدّ الأديم العكاظىّ كما روى عن ابن عباس (والأديم: الجلد، والعكاظي: المدبوغ فى عكاظ) والمراد أنه لا انشقاق فيها ولا اعوجاج.
(وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت ما فى جوفها من الناس والمعادن، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها.
ونحو هذا قوله: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» وقوله: «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» وقوله «إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» .
(وَتَخَلَّتْ) أي خلت من جميع ما فى جوفها، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها، وهى فى ذلك خاضعة لأوامر ربها، منقادة لمشيئته.(30/89)
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي واستمعت وأطاعت أوامره لأنها فى قبضة القدرة الإلهية تصرّفها فى الفناء، كما صرفتها فى الابتداء.
وجواب «إِذَا» الذي صدّرت به السورة محذوف لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره- ترون ما عملتم من خير أو شر فاكدحوا لذلك اليوم، تفوزوا بالنعيم.
وقصارى ذلك- وصف أحوال العالم يوم القيامة «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها فى هذه الحياة، فتبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا فى حياتهم من عمل فيجازيهم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة السوءى، وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته، ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء.
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) أي أيها الإنسان، إنك عامل فى هذه الحياة ومجدّ فى عملك، ومبالغ فى إدراك الغاية إلى أن تنتهى حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر به وتلهو عنه، وكل خطوة فى عملك فهى فى الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس.
ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله.
والناس حينئذ صنفان:
(1) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي فأما من عرض عليه سجلّ أعماله وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرّف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية.(30/90)
وقد روى عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم حاسبنى حسابا يسيرا، قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: ينظر فى كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش الحساب فقد هلك» .
ومن حوسب هذا الحساب اليسير رجع إلى أهله المؤمنين مسرورا مبتهجا قائلا:
«هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» .
(2) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم، واجتراح المعاصي، فيؤتون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، ومدّ اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة، وأظهر فى الدلالة على الكراهة والنفور أن يستدبره ويعرض عنه فيكون من وراء ظهره.
وقصارى ما سلف- إن من عرض عليه كتابه وقدم إليه ليأخذه، فاندفع إليه بعزيمة صادقة، لشعوره بأنه مستودع الصالحات، وسجلّ البر والكرامات، فشأنه كذا وكذا.
ومن قدّم إليه كتابه وعرض عليه عمله، فخزيت نفسه وخارت عزيمته، فمد إليه يساره أو أعرض عنه فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات، وسجّين المخازي فأمره كيت وكيت.
يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل فى سورة الحاقة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» ودعوة الناس إلى القراءة علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة.
«وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» .
ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه.(30/91)
والخلاصة- إن إيتاء الكتاب باليمين، أو باليسار أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله فى ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر وتناول كتابه بيمينه، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر وأعرض عنها وأدبر، وتمنى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر، وحينئذ يدعو وا ثبوراه، أي يا هلاك أقبل فإنى لا أريد أن أبقى حيا، علما منه بأن ذلك داع إلى طول العذاب، وأنه سيدخل النار ويقاسى سعيرها.
ثم ذكر سبحانه سببين فى استحقاقه للعذاب فى الآخرة فقال:
(1) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي لأنه كان فى حياته الدنيا فرحا بطرا لا يفكر فى أمور الآخرة، ويقدم على المعاصي ظنا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة، ولا تورث التردي فى نار الجحيم، ومن ثم أبدله الله بهذا النعيم الزائل عذابا لا ينقطع، وآلاما لا تنفد.
(2) (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي إنه ظن أن لن يرجع إلى ربه، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا، ولو علم أن الله سيبدل سروره هما، وفرحه حزنا وغما- لأقلع عما هو فيه، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها ولا يزول سرور أهلها.
وفى الآية إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم، الساعين وراء لذاتهم ليسوا بظانين فضلا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم، بل الراجح عندهم أنهم لا يحاسبون، وأن الله مخلف وعده، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله وبوعده ووعيده، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.
ثم رد عليه ظنه الخاطئ فقال:
(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي بلى ليحورنّ وليرجعنّ إلى ربه، وليحاسبنه على عمله، فيجزى على الخير خيرا وعلى الشر شرا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدّا(30/92)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
لما لا يتناهى من الكمال، بما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقضى حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة يثمر فيها أعماله، ويوافى فيها كماله.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
شرح المفردات
الشفق: هو الحمرة التي تشاهد فى الأفق الغربي بعد الغروب، وأصله رقة الشيء، يقال ثوب شفق: أي لا يتماسك لرقته، ومنه أشفق عليه: أي رق له قلبه قال:
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
وسق: أي ضم وجمع، يقال وسقه فاتسق واستوسق: أي جمعه فاجتمع، وإبل مستوسقة: أي مجتمعة قال:
إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لم يجدن سائقا
واتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا، لتركبنّ: أي لتلاقنّ، والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس:
إنى امرؤ حلبت الدهر أشطره ... وساقنى طبق منه إلى طبق
والمراد لتركبن أحوالا بعد أحوال هى طبقات فى الشدة بعضها أرفع من بعض(30/93)
وهى الموت وما بعده، لا يسجدون: أي لا يخضعون ولا يستكينون، يوعون: أي يجمعون فى صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت فى العذاب تهكما، وممنون: أي مقطوع من قولهم منّ فلان الحبل إذا قطعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات، أقسم بآيات له فى الكائنات، ظاهرات باهرات، إن البعث كائن لا محالة، وإن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.
ونحو الآية قوله: «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» وقوله: «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» فمن عجيب أمرهم أنهم لا يؤمنون به، وأعجب منه أنه إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون له ولا يستكينون، لأن العناد صدهم عن الإيمان، ومنعهم من الإذعان، والله أعلم بما تكنه صدورهم، وسيجازيهم بشديد العذاب.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم ثواب عند ربهم لا ينقطع.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا: إن العرب اعتادت أن تأتى بمثل هذا القسم حين يكون المقسم عليه أمرا ظاهرا لا يحتاج إلى التوكيد، فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أذكره لكم لأن أمره ظاهر، وثبوته غير محتاج إلى الحلف عليه.
ويرى بعض العلماء أنه إنما يستعمل حين يكون الحلف على أمر جليل القدر.
عظ الشأن لا يكفى القسم لإثباته. فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء(30/94)
على إثبات ما أريد، لأن إثباته أعظم وأجلّ من أن يقسم عليه بهذه الأمور الهينة والغرض على هذا الوجه تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه.
(بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها، استدل بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها.
(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي لتلاقنّ أيها الناس أمورا بعد أمور وأحوالا بعد أحوال، إلى أن تصيروا إلى ربكم وهناك الخلود فى جنة أو نار.
ويدخل فى هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به منذ أن كان نطفة فى بطن أمه إلى أن صار شخصا، وما مرّ به فى حياته الأولى من طفولة وشيخوخة ثم موته ثم حشره للحساب، ثم مصيره إلى الجنة أو النار.
والخلاصة- لتركبنّ حالا بعد حال والحال الثانية تطابق الأولى، أي لتكونن فى حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها وتطابقها من حيث الحس والإدراك، والألم واللذة، وإن خالفت فى بعض شئونها الحياة الأولى.
وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب أنكر عليهم استبعادهم له فقال:
(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟) أي فأىّ شىء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله وأنكروا صحة البعث، وكل شىء أمامهم ينادى بباهر قدرته، ويرشد إلى عظيم سلطانه.
وقصارى ذلك- إنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب.
(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي وماذا حدث لهم حتى صاروا إذا قرئ عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها فأمرهم عجب، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة، وذا يقتضى أن يعلموا إعجازه، ومتى علموه استكانوا وخضعوا له، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به، ووجبت عليهم طاعته.(30/95)
ثم بين السبب فى عدم إيمانهم به وانقيادهم له فقال:
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي إن الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة، لكنهم قوم معاندون مصرّون على التكذيب إما لأنهم يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية، والرياسات التقليدية، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة، وأفعال مستهجنة.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي والله سبحانه مطلع على ما فى قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك ودواعى العناد والاستمرار على ما هم عليه.
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء إعراضهم على التكذيب والجحود، وإصرارهم على سيىء العمل، وفاسد الاعتقاد.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله وخضعوا للقرآن الكريم وعملوا بما جاء فيه، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده، ولا ينقص منه.
وفى هذا ترغيب فى الطاعة، وزجر عن المعصية، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة على مقصدين:
(1) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.
(2) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة، إما فى نعيم مقيم، وإما فى عذاب أليم.(30/96)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
سورة البروج
هى مكية، وآياتها ثنتان وعشرون، نزلت بعد سورة الشمس.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) اشتمالها كالتى قبلها على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته.
(2) أنه ذكر فى السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والإلقاء فى حمارة القيظ. وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم، ففد عذبوا المؤمنين بالنار كما فعل أصحاب الأخدود.
وفى هذا عظة لقريش، وتثبيت من يعذبون من المؤمنين.
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
شرح المفردات
البروج: واحدها برج، ويطلق على الحصن والقصر العالي وعلى أحد بروج السماء الاثني عشر، وهى منازل الكواكب والشمس والقمر، فيسير القمر فى كل برج منها(30/97)
يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين، وتسير الشمس فى كل برج منها شهرا، ستة منها فى شمال خط الاستواء وستة فى جنوبه فالتى فى شماله هى:
الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة، والتي فى جنوبه هى الميزان والعقرب والقوس والجدى والدّلو والحوت. وتقطع الثلاثة الأولى فى ثلاثة أشهر أوّلها اليوم العشرون من شهر مارس، وهذه المدة هى فصل الربيع، وتقطع الثلاثة الثانية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الحادي والعشرون من شهر يونيه، وهذه المدة هى فصل الصيف، وتقطع الثلاثة الأولى من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا، أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر سبتمبر، وهذه المدة هى فصل الخريف، وتقطع الثلاثة الثانية من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر ديسمبر، وهذه المدة هى فصل الشتاء، واليوم الموعود: هو يوم القيامة، لأن الله قد وعد به، والشاهد والمشهود: جميع ما خلق الله تعالى فى هذا العالم، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته وعظيم حكمته.
وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد
وهو مشهود أيضا لكل ذى عينين، والأخدود: الشق فى الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود: قوم كافرون ذوو بأس وقوة رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم فحملوهم على الكفر فأبوا فشقوا لهم شقا فى الأرض وحشوه بالنار وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق وما نقموا منهم: أي ما عابوا عليهم، العزيز: أي الذي لا تغلب قوته، الحميد: أي الذي يحمد على كل حال.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بما فيه غيب وشهود، وهو السماء ذات البروج، فإن كواكبها مشهود نورها، مرئىّ ضوؤها، معروفة حركاتها فى طلوعها وغروبها، وكذلك البروج(30/98)
نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس، وهو حقيقة الكواكب وما أودع الله فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها.
وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب.
وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد: أي ذو الحس، والمشهود: وهو ما يفع عليه الحس.
أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم فى إيذائهم، حتى خدّوا لهم الأخاديد، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم الله من أعدائهم وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به.
وقد حكى الله هذا القصص، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين، ووعدا لعباده الصالحين، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة فى سبيله، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ- فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» .
الإيضاح
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي قسما بالسماء ذات الكواكب العظيمة التي لم يستطع لها إحصاء ولا عدّ، منها ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فى ألف ألف سنة وخمسمائة ألف، مع أن الضوء يسير فى الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو، ويصل فى سيره إلى القمر فى قدر ثانية وثلث الثانية، ولو جرى حول الكرة(30/99)
الأرضية لدار حولها فى الثانية الواحدة نحو ثمان مرات، ولو أطلق مدفع فإن قنبلته نجرى نحو سنة ونصف سنة حتى تقطع المسافة التي يقطعها الضوء فى ثانية واحدة.
فما أبعد الكواكب التي يصل ضوؤها إلينا بعد مليون سنة ونصف المليون، وإلى أىّ حد هى عظيمة بالنسبة إلى شمسنا.
وقد أقسم الله بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة، وباهر الحكمة، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس فى هذه الحياة تدل على أن لها صانعا حكيما مدبرا إلى أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم، لنستدل بذلك على عظيم قدرته، وجليل حكمته.
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به على ألسنة رسله، وفيه يتفرد ربنا بالملك والحكم.
(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وبجميع ما خلق الله فى هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأى العين، فمنهم من يتدبر ويستفيد من النظر إليه، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئا.
وقصارى ذلك- إنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة، وليعتبروا بما حضر، ويبذلوا جهدهم فى درك حقيقة ما استتر.
(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.
ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن رجل ممن كانوا على دين عيسى بن مريم فدعا أهلها إلى دينه وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم وكان يتمسك باليهودية. فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذهم خيرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار وصار يؤتى(30/100)
بالرجل منهم فيخيره، فمن جزع من النار وخاف العذاب ورجع عن دينه ورضى اليهودية تركه، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء- ألقاه فى النار وكان حولها يشرف على هلاكه.
ثم بيّن من هم أصحاب الأخدود فقال:
(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي إن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، لا جرم يكون حريقها عظيما، ولهيبها متطايرا.
(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها، ويحرقون فيها كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم، يشاهدون ما يفعله بهم من أتباعهم.
وفى هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، وتمكن الكفر منهم، إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدة جلدهم، ورباطة جأشهم، واستمساكهم بدينهم.
وقد يكون المعنى- يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فى التنكيل بالمؤمنين.
(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شىء لا يجوز العقاب عليه، بل ينبغى لكل أحد أن يكون عليه، ويدعو غيره إلى التمسك به، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه، وتهاب صولته، المنعم الذي يرجى ثوابه، وترتقب نعماؤه.
ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله:
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لأنه مالك الأمر كله فيهما، فلا مفرّ لأولئك الظالمين من سلطانه، وأن ما يلاقيه المؤمنون ليس إلا امتحانا وابتلاء مما يمحض الله به أهل طاعته، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.(30/101)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال:
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
شرح المفردات
فتنوا: أي ابتلوا وامتحنوا، عذاب الحريق: هو عذاب جهنم ذكر تفسيرا وبيانا له، الفوز الكبير: أي الذي تصغر الدنيا بأسرها عنده، بما فيها من رغائب لا تفنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة أصحاب الأخدود وبين ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين وذيّل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمنين، وأنه إن أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب فى الدنيا فهو لم يهملهم، بل أجّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار- ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم، جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين، وما أعد للمؤمنين من جميل الثواب، وعظيم الجزاء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب، ليردوهم عن دينهم،(30/102)
وثبتوا على كفرهم وعنادهم ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت- أعدّ الله لهم عذابا فى جهنم بالحريق.
وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه، حرصا على ما ألفوا من الباطل، وتشيعا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين، على غير بصيرة، ولا استشارة للعقل السليم، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين.
أنظر إلى أصحاب الأخدود تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار وأحرقوهم بها، وإلى كفار قريش ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء، فعذبوا آل ياسر بفنون من العذاب، وعذبوا بلالا بما لا يحصى من ضروب الأذى، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم وألحقوا به كثيرا من العنت والأذى، فرموه بالحجارة حتى أدموه، بل فعلوا معه أكثر من هذا فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه، ويتمنون لو يتمكنون منه ليقتلوه، ولكن الله منعه منهم:
«وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .
وفى قوله: «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا» إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم غفر الله لهم ما قدّموا قبل التوبة من ذنب.
وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم- أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم، ليكون ذلك أنكى للأعداء، وأشد فى غيظهم، وأبعث للأسى والحزن فى نفوسهم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وعملوا صالح الأعمال ائتمارا بأوامره وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه- لهم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وهذا هو الظفر الكبير لهم، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم.(30/103)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
شرح المفردات
البطش: الأخذ بالعنف والشدة، يبدئ ويعيد: أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء مرة أخرى، ليجازيهم بما عملوا فى حياتهم الأولى، الغفور: أي الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته، الودود: أي الذي يحب أولياءه ويتودّد إليهم بالعفو عن صغير ذنوبهم، ذو العرش: أي صاحب الملك والسلطان والقدرة النافذة، المجيد: أي السامي القدر المتناهي فى الجود والكرم، تقول العرب: «فى كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» : أي تناهيا فى الاحتراق حتى يقتبس منهما.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ووصف ما أعدّ لهم من الثواب كفاء أعمالهم- أردف ذلك كله بما يدل على تمام قدرته على ذلك، ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته فى النفوس إلا بأمرين:
(1) الجود الشامل والإنعام الكامل، وبذا يرجى خيره.
(2) الجيوش الجرارة والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه وتنكل بهم، وبذلك يهاب جانبه، وإليهما معا أشار بقوله فيما سلف: «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وهنا زاد الأمر إيضاحا بقوله «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» الآية.(30/104)
الإيضاح
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن انتقامه من الجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعقوبة- لهو الغاية فى الشدة، والنهاية فى الأذى والألم.
وفى هذا إرهاب لقريش ومن معها، وتعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن معه.
وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدا فقال:
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه يخلق الخلق ابتداء، ثم يعيدهم بعد أن صيّرهم ترابا، وإذا كان قادرا على البدء والإعادة فهو قادر على شديد البطش بهم، لأنهم تحت قبضته، وخاضعون لسلطانه.
فكأنه سبحانه يقول: إن مرجعكم إلى ربكم، فإذا لم يعاقبكم فى هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير فى شأنهم، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم.
ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال:
(1) (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن يرجع إليه بالتوبة، فيتجاوز عن سيئاته.
(2) (الْوَدُودُ) لمن خلصت نفسه بالمحبة له.
(3) (ذُو الْعَرْشِ) أي ذو الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي لا يردّ.
(4) (الْمَجِيدُ) أي العظيم الكرم والفضل.
(5) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يريد شيئا إلا فعله وفق إرادته، فإذا أراد هلاك الجاحدين المعاندين ونصر أهل الحق الصادقين لم يعجزه ذلك، وأين هم ممن سبقهم ممن كانوا أضل منهم وأشد قوة؟(30/105)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
شرح المفردات
الجنود: تطلق تارة على العسكر، وتطلق أخرى على الأعوان والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم، فرعون: هو طاغية مصر، ثمود: قبيلة بائدة من العرب لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه الله علينا، محيط: أي هم فى قبضته وحوزته كمن أحيط به من ورائه فانسدت عليه المسالك، مجيد: أي شريف محفوظ: أي مصون من التحريف، والتغيير والتبديل.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص أصحاب الأخدود وبيّن حالهم، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين- أردف ذلك ببيان أن حال الكفار فى كل عصر، وشأنهم مع كل نبىّ وشيعته جار على هذا المنهج، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسل الله نبيا إلا لقى من قومه مثل ما لقى هؤلاء من أقوامهم.
والغرض من هذا كله تسلية النبي وصحبه، وشد عزائمهم على التدرّع بالصبر، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود: فرعون، وثمود.
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي هل بلغك ما صدر من أولئك الجنود من التمادي فى الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.(30/106)
والمعنى- إنه قد أتاك خبرهم وعرفت ما فعلوا، وما جازاهم ربهم به، فذكر قومك بأيام الله، وأنذرهم أنه سيصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم من أهل الضلال.
ثم بيّن من هم أولئك الجنود فقال:
(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وحديث هذين مشهور متعارف بينهم، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم الله موسى من العناد والإصرار على الكفر، وما كان من عاقبة أمره وأن الله أغرقه فى اليمّ هو وقومه، وأذاقه الوبال فى الآخرة والأولى.
كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام وأنهم عقروا الناقة التي جعلها الله لهم آية، فدمّر بلادهم وأهلكهم ولم يترك لهم من باقية، وهم يمرّون على ديارهم فى أسفارهم ويسمعون أخبارهم.
وخلاصة ذلك- إن الكفار فى كل عصر متشابهون، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل، فهم فى عنادهم واستكبارهم سواسية كأسنان المشط، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم، فقد سبقتهم أمم قبلهم وحلّ بهم من النكال ما سيحل بقومك إن لم يؤمنوا، «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» .
وقد أشار إلى أن هذه شنشنتهم فى كل عصر ومصر فقال:
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي إن الكفار فى كل عصر غارقون فى شهوة التكذيب حتى لم يدع ذلك لعقلهم مجالا للنظر، ولا متسعا للتدبر، ولا يزالون فى غمرة حتى يؤخذوا على غرة.
ثم سلى رسوله من وجه آخر فقال:
(وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي إنه سبحانه مقتدر عليهم وهم فى قبضته لا يجدون مهربا، ولا يستطيعون الفرار، إذا أرادوا.
فلا تجزع من تكذيبهم واستمرارهم على العناد، فلن يفوتونى إذا أردت الانتقام منهم.(30/107)
ثم رد على تماديهم فى تكذيب القرآن وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال:
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي إن هذا الذي كذبوا به كتاب شريف متفرد فى النظم والمعنى، محفوظ من التحريف، مصون من التغيير والتبديل.
واللوح المحفوظ شىء أخبرنا الله به، وأنه أودعه كتابه، ولكن لم يعرّفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن به، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأت به خبر من المعصوم صلوات الله عليه وسلامه.
مقاصد هذه السورة
(1) إظهار عظمة الله وجليل صفاته.
(2) إنه يبيد الأمم الطاغية فى كل حين، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات.(30/108)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
سورة الطارق
هى مكية، وآياتها سبع عشرة نزلت بعد سورة البلد.
مناسبتها لما قبلها:
(1) أنه ابتدأ هذه بالحلف بالسماء كالسورة قبلها.
(2) أنه ذكر فى السابقة تكذيب الكفار للقرآن، وهنا وصف القرآن بأنه القول الفصل، وفيه ردّ على أولئك المكذبين.
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
شرح المفردات
السماء: كل ما علاك فأظلك، الطارق: هو الذي يجنيئك ليلا، النجم الثاقب:
هو الذي يثقب ضوؤه الظلام كأن الظلام جلد أسود والنجم يثقبه، حافظ: أي رقيب يراقبها فى أطوار وجودها، وهو الله تعالى.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه فى مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة- إن النفوس لم تترك سدى ولم ترسل مهملة، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصى أعمالها وهو الله سبحانه.
وفى هذا وعيد للكافرين وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكأنه يقول لهم: لا تخزنوا لإيذاء قومكم لكم، ولا يضق صدركم لأعمالهم، ولا تظننّ أنا نهملهم ونتركهم سدى، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون، لأنا نحصى عليهم أعمالهم(30/109)
ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا «فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» والعدّ إنما يكون للحساب والحزاء.
الإيضاح
(وَالسَّماءِ) أكثر فى القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل، لأن فى أحوالها وأشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها من عجائب وغرائب- دلائل لمن يتدبر ويتفكر بأن لها خالقا مدبرا يقوم بشئونها ويحصى أمرها، لا يشركه سواه فى هذا الإبداع والصنع.
(وَالطَّارِقِ) أي الكوكب البادي ليلا.
(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟) يقولون: وما أدراك ما كذا أي وأىّ شىء يعلمك حقيقته؟ وهو أسلوب من كلامهم يراد به التفخيم والتعظيم، كأنه فى فخامة أمره لا يمكن الإحاطة به ولا إدراكه.
ثم فسر هذا الطارق بقوله:
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي لا أقسم بكل طارق من الكواكب، بل أقسم بطارق معين هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ونهتدى به فى ظلمات البر والبحر، ونقف به على أوقات الأمطار وغيرها من أحوال يحتاج إليها الإنسان فى معاشه، وهو الثريا عند جمهرة العلماء، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب لأن له ضوءا ثاقبا لا محالة.
ثم ذكر المقسم عليه فقال:
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي أحلف بالسماء وبالنجم الثاقب إن للنفوس رقيبا يحفظها ويدبر شئونها فى جميع أطوار وجودها حتى ينتهى أجلها، وذلك الحافظ والرقيب هو ربها المدبر لشئونها، المصرّف لأمورها فى معاشها ومعادها.(30/110)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 10]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
شرح المفردات
دافق: أي منصبّ بدفع وسيلان وسرعة، والصلب: الظهر، والترائب:
عظام صدر المرأة، والمراد من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وقال الحسن وروى عن قتادة: يخرج من صلب كل وأحد من الرجل والمرأة، وترائب كل منهما وهو الموافق لما أثبته العلم حديثا كما سيأتى، ورجعه: أي إعادته، تبلى: أي تختبر وتمتحن والمراد تظهر، والسرائر: ما يسرّ فى القلوب من العقائد والنيات وما خفى من الأعمال، واحدها سريرة، قال الأحوص:
سيبقى لها فى مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه أن الإنسان لم يترك سدى، ولم يخلق عبثا نبهه إلى الدليل الواضح على صحة معاده، وأنه لا بد أن يرجع إلى ربه ليجازيه على ما عمل، فذكّره بنفسه، ولفت نظره إلى كيفية خلقه ومنشئه، وأنه خلق من الماء الدافق الذي لا تصوير فيه، ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء وغيرها، ثم أنشأه خلقا كاملا مملوءا بالحياة والعقل والإدراك، قادرا على القيام بالخلافة فى الأرض.
فالذى خلقه على هذه الأوضاع قادر أن يعيده إلى الحياة فى يوم تتكشف فيه المستورات، وتبين الخفايا، فيكون إبداؤها زينا فى وجوه بعض الناس، وشينا(30/111)
فى وجوه بعض آخرين، وليس للمرء حينئذ قوة يدفع بها عن نفسه ما يحل به من العذاب، ولا ناصر يعينه على الخلاص من الآلام.
الإيضاح
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟) أي فلينظر بعقله، وليتدبر فى مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه، وأنه إذا قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو على إعادته أقدر فليعمل بما به يسرّ حين الإعادة.
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله:
(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي خلق من ماء مدفوق يخرج من الظهر والترائب لكل من الرجل والمرأة، فهو إنما يكون مادة لخلق الإنسان إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع فى رحم المرأة.
والخلاصة- إن الولد يتكوّن من منىّ مدفوق من الرجل، فيه جرثومة حية دقيقة لا ترى إلا بالآلة المعظمة (الميكرسكوب) ، ولا تزال تجرى حتى تصل إلى جرثومة نظيرتها من جراثيم المرأة وهى البويضة، ومتى التقت الجرثومتان اتحدتا وكوّنتا جرثومة الجنين.
وقد استفتيت فى نظرية الحمل وكيفية تكوين الجنين النطاسي البارع عبد الحميد العرابى بك وكيل مستشفى الملك سابقا، فأجابنى حفظه الله بما يأتى:
كيفية حصول الحمل ونمو الجنين فى الرحم
قال الله تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» وقال أيضا: «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» .(30/112)
اعلم أخى وفقك الله أن فى هاتين الآيتين وما شاكلهما من الآيات سرّا من أسرار التنزيل ووجها من وجوه إعجازه، إذ فيهما معرفة حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا.
بيان هذا: أن صلب الإنسان هو عموده الفقرى (سلسلة ظهره) وترائبه هى عظام صدره، ويكاد معناها يقتصر على حافة الجدار الصدرى السفلى.
وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا فى منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب، وذهب فيها المفسرون مذاهب شتى على قدر ما أوتى كل منهم من علم، وإن كان بعيدا عن الفهم الصحيح والرأى السديد.
ذاك أنه فى الأسبوع السادس والسابع من حياة الجنين فى الرحم ينشأ فيه ما يسمى (جسم وولف وقناته) على كل جانب من جانبى العمود الفقرى، ومن جزء من هذا تنشأ الكلى وبعض الجهاز البولى، ومن جزء آخر تنشأ الخصية فى الرجل والمبيض فى المرأة.
فكل من الخصية والمبيض فى بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصّلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقرى تقريبا ومقابل أسفل الضلوع.
ومما يفسر لنا صحة هذه النظرية أن الخصية والمبيض يعتمدان فى نموهما على الشريان الذي يمدهما بالدم، وهو يتفرع من الشريان الأورطي فى مكان يقابل مستوى الكلى الذي يقع بين الصلب والترائب، ويعتمدان على الأعصاب التي تمد كلا منهما وتتصل بالضفيرة الأورطية ثم بالعصب الصدرى العاشر، وهو يخرج من النخاع من بين الضلع العاشر والحادي عشر، وكل هذه الأشياء تأخذ موضعها فى الجسم فيما بين الصلب والترائب.
فإذا كانت الخصية والمبيض فى نشأتهما وفى إمدادهما بالدم الشرياني وفى ضبط نشئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا فى ذلك كله على مكان فى الجسم يقع بين الصلب والترائب(30/113)
فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم، وجاء به رب العالمين، ولم يكشفه العلم إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب.
هذا، وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ فى الهبوط إلى مكانه المعروف فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها فى الصفن، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه فى الحوض بجوار بوق الرحم.
وقد يحدث فى بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه، فتقف الخصية فى طريقها ولا تنزل إلى الصفن، فتحتاج إلى عملية جراحية حتى تصل إلى وضعها فى الموضع الطبيعي.
هذا، والإنسان يبدأ حياته جنينا، والجنين يتكوّن من تلقيح بويضة تخرج من المبيض مندفعة نحو بوق الرحم بالحيوان المنوي الذي تفرزه خصية الرجل، ويكون التلقيح فى الغالب فى داخل أحد البوقين أو فيهما معا، ثم تسير البويضة فى طريقها إلى الرحم حتى تستقر فى قرار مكين إلى أجل مسمى.
هذا إذا صادفها أحد الحيوانات المنوية، أما إذا أخطأها التلقيح فتكون ضمن الإفرازات الرحمية التي تطرد فى خارج الجسم.
ومما يلاحظ أن إفراز البويضات عند المرأة هو عملية فسيولوجية شهرية لا علاقة لها بالاجتماع الجنسي، غير أن هذا الاجتماع ضرورى لعملية التلقيح بالحيوان المنوي الذي يسبح فى ماء الرجل.
ومما سبق تعلم أن الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة، أما ماء الرجل فيتكون من الحيوانات المنوية وسوائل أخرى تفرزها الخصية والبر وستاتة والحويصلات المنوية، وهذه السوائل كلها جعلت مباءة ومستقرا للحيوان المنوي الذي يدونه لا يتم التلقيح.(30/114)
وهكذا الحال فى البويضات التي يفرزها مبيض المرأة، فإنها بعد أن تكون فى المبيض على شكل حويصلة صغيرة تسمى حويصلة (جراف) تنمو وتبلغ أشدها فى نحو شهر حتى تقترب من المبيض ثم تنفجر كما تنفجر الفقاعة وتندفع منها البويضات مع السائل الذي خرج من الفقاعة إلى البوق حيث يقابلها حيوان منوى يقوم بعملية التلقيح- وكلا الماءين ماء الرجل وماء المرأة دافق، أي ينصبّ مندفعا، وهذا هو الحاصل فعلا.
ومن هذا يتبين بوضوح أن الإنسان خلق ونشأ من الماء الدافق (ماء الرجل وأ همّ ما فيه الحيوان المنوي وماء المرأة وأ همّ ما فيه البويضة) الذي ينصب مندفعا من عضوين هما الخصية والمبيض، ومنشؤهما وغذاؤهما وأعصابهما كلها بين الصلب والترائب.
وقد ثبت فى علم الأجنة أن البويضة ذات الخلية الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة، ثم تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا، ثم تصير المضغة جنينا صغيرا وزعت خلاياه إلى طبقات ثلاث يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة فى أول الأمر، فإذا تمّ نموها كونت جسم الإنسان.
وإذا هدى الفكر إلى كل هذا فى مبدإ خلق الإنسان، سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث فى اليوم الآخر، لأن خلق الإنسان من أجزاء منتشرة متفرقة فى الكون فالماء متولد من الأطعمة التي يتناولها الإنسان، فجمعها الله، ثم جمع الأبوين، ثم جمع ماءهما فى مكان واحد، ثم خلق منه الولد، وليس فى إعادته مثل ذلك، فهى أهون، ومن ثم قال:
(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء من هذه المادة- قادر أن يرده حيّا بعد أن يموت.
ونحو الآية قوله: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» وأصرح منهما قوله:
«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .(30/115)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
ثم بيّن وقت الرجع فقال:
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي هو قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة فى اليوم الذي تنكشف فيه السرائر، وتتضح الضمائر، ويتميز الطيب من الخبيث، فلا يبقى فى سريرة سرّ، بل تنقلب كل خفيّة إلى الجهر، ولا يكون جدال ولا حجاج، ولا يبقى لذوى الأعمال إلا انتظار الجزاء على ما قدموا، فإما حلول فى نعيم، وإما مصير إلى عذاب أليم.
(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي فلا تكون لأحد قوة على الإفلات مما قدّر له جزاء عمله إن كان مسيئا، ولا ناصر ينصره فيحميه مما حتم أن يقع عليه.
والخلاصة- إن القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه، إما من ذاته وقد نفاها بقوله: «فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ» وإما من غيره وقد نفاها بقوله: «وَلا ناصِرٍ» .
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
شرح المفردات
الرجع: إعادة الشيء إلى حال أو مكان كان فيه أوّلا، والمراد به المطر، وسمى بذلك لكونه يعاد إلى الأرض من السماء، والصدع: الشق الناشئ من تفرق بعض أجزاء الأرض وانفصال بعضها من بعض بالنبات، فصل: أي يفصل بين الحق والباطل، ويقطع الجدل والمراء، يكيدون كيدا: أي يعملون المكايد فى إبطال أمره، وإطفاء نوره، وأكيد كيدا: أي أقابلهم بكيدى فى إعلاء أمره، وانتشار نوره، رويدا: أي قريبا.(30/116)
المعنى الجملي
بعد أن بين قدرته تعالى على إعادة الإنسان بعد الموت، ولفت النظر إلى التدبر فى برهان هذه القدرة- شرع يثبت صحة رسالة رسوله الكريم إلى الناس، وصحة ما يأتيهم به من عند الله، وأهمّ ذلك القرآن الكريم الذي كانوا يقولون عنه: إنه أساطير الأولين، فأقسم بالسماء التي تفيض بمائها، والأرض التي تقيم أمور المعاش للناس والحيوان بنباتها، إنه لقول حق لا ريب فيه.
ثم بين أنه عليم بأن الذين يدافعون عن تلك الأباطيل التي هم عليها- قوم ما كرون لا يريدون بك إلا السوء، وسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، فلا يحزنك ما ترى منهم، ولا تستبطئ حلول النكال بهم، بل أمهلهم قليلا وسترى ما سيحل بهم.
ولا يخفى ما هذا من وعيد شديد بأن ما سيصيبهم قريب، سواء أكان فى الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت، ووعد للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكل داع إلى الحق بأنهم سيبلغون من النجاح ما يستحقه عملهم، وأن المناوئين لهم هم الخاسرون.
الإيضاح
(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي قسما بالسماء ذات المطر، وهو أنفع شىء ينتظره المخاطبون من السماء، إذ يبدّل جدبهم خصبا، ويعيد موات أرضهم حيّا، ويصير به لهب صحرائهم هواء عليلا.
(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي والأرض التي تتصدع بالنبات والشجر والثمار مما به حياتهم وحياة أنعامهم، وهم فى بلاد قفراء جدباء.
ونظير هذا قوله: «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا» الآية.
ثم ذكر المقسم عليه فقال:
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي قسما بالسماء والأرض إن هذا القول الذي(30/117)
جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم لقول حق لا مجال للريب فيه، وهو جدّ لا هزل فيه فمن حقه أن يهتدى به الغواة، وتخضع له رقاب العتاة.
أخرج الترمذي والدارمي عن علىّ كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال:
كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضى عجائبه. هو الذي لم تنته الجن لما سمعته أن قالوا: «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم» .
ثم بين ما يدبرونه للمؤمنين وما تحويه صدورهم من غلّ لهم فقال:
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي إنهم يمكرون بالناس بدعوتهم إلى مخالفة القرآن بإلقاء الشبهات كقولهم: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» قولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» أو بالطعن فيه بكون الرسول ساحرا أو مجنونا أو شاعرا، أو تبييتهم قتله، كما جاء فى قوله: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ» .
بعدئذ ذكر ما قابلهم ربهم به وما جازاهم عليه كفاء عملهم فقال:
(وَأَكِيدُ كَيْداً) أي وأقابل كيدهم بنصر الرسول وإعلاء دينه، وجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وقد سمى مجازاتهم كيدا منه، للتجانس فى اللفظ كما قال: «نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» . وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا(30/118)
ثم أمر رسوله أن يتأنى عليهم، ليرى أخذه تعالى لهم فقال:
(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي سر فى دعوتك ولا تستعجل عذابهم، فإنا سنمهلهم ليزدادوا إثما، حتى إذا أخذناهم لم يبق لهم من راحم.
ثم أكد طلب الإمهال وأقته بوقت قريب فقال:
(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي إنا سنمهلهم قليلا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال.
وفى هذا بعث للطمأنينة إلى قلوب المؤمنين الذين كانوا يخشون صولة الكفار ويحذرون اعتداءاتهم التي لا حد لها، وتخويف لهم من عاقبة إصرارهم على ما هم فيه من الكفر والمشاقّة لله ورسوله وللمؤمنين.
ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .
وصلّ ربنا على محمد وآله، وقنا عذاب الجحيم.
مقاصد السورة
(1) إن كل نفس عليها حافظ.
(2) إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق كرة أخرى.
(3) إن القرآن منزل من عند الله وأن محمدا رسول الله.
(4) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالانتظار حتى يحل العقاب بالكافرين.(30/119)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
سورة الأعلى
هى مكية وآياتها تسع عشرة، نزلت بعد سورة التكوير.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى تلك خلق الإنسان، وأشار إلى خلق النبات بقوله: «وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» . وذكر هنا خلق الإنسان فى قوله:
«خَلَقَ فَسَوَّى» . وخلق النبات فى قوله: «أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» وقصة النبات هنا أوضح وببسط أكثر، وخلق الإنسان هناك أكثر تفصيلا.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى العيدين ويوم الجمعة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى- وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا» .
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
شرح المفردات
التسبيح: التنزيه، خلق: أي خلق الكائنات، فسوى: أي فسواها ووضع خلقها على نظام كامل، لا تفاوت فيه ولا اضطراب، قدّر: أي قدّر لكل حى ما يصلحه مدة بقائه، فهدى: أي هداه وعرّفه وجه الانتفاع بما خلق له، والمرعى:
كل ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزروع المختلفة، والغثاء: ما يقذف به السيل إلى جانب الوادي من الحشيش والنبات، والأجوى: الذي يضرب لونه إلى السواد. قال ذو الرمة:
لمياء فى شفتيها حوّة لعس ... وفى اللّثات وفى أنيابها شنب(30/120)
المعنى الجملي
أمر سبحانه رسوله أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به واسم الله ما يعرف به، والله إنما يعرف بصفاته من نحو كونه عالما قادرا حكيما، وهذا الاسم هو الذي يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام، وهو المراد بالوجه فى قوله: «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وهو المذكور فى قوله: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» أي علمه رسوم الأشياء وما تعرف به.
فالله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم أي تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق به من شبه المخلوقات، أو ظهوره فى واحد منها بعينه، أو اتخاذه شريكا أو ولدا له، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق الكائنات وهو الذي أوجدها وسوّاها، وأنه هو الذي أخرج المرعى ثم جعله جافّا حتى لفظه السيل بجانب الوادي.
الإيضاح
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزه اسم ربك عن كل ما لا يليق بجلاله فى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه فلا تذكره إلا على وجه التعظيم له، ولا تطلق اسمه على غيره زاعما أنه يشاركه فى صفاته.
ثم وصف ذلك الاسم الأعلى فقال:
(1) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي الذي خلق الكائنات جميعا فسوى خلقها وجعلها منسقة محكمة ولم يأت بها متفاوتة غير ملتئمة، دلالة على أنها صادرة عن عالم حكيم مدبّر، أحسن تدبيرها، فأحكم أسرها.
(2) (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي والذي قدر كل واحد منها على ما يستحقه، ويكون به استقرار شأنه فقدر السموات وما فيها من الكواكب، وقدر الأرض وما فيها من المعادن، وما يظهر على وجهها من النبات، وما يعيش عليها من الحيوان(30/121)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
ثم هدى كل دابة إلى استعمال ما يصلحها، وما هو أمسّ بحاجتها، بما خلق فيها من الميول والإلهامات، لتحصيل ما لها من مقاصد وغايات.
(3) (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي والذي أنبت النبات جميعه، لترعاه الدوابّ والنّعم، فما من نبت إلا وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان من الأجناس الحيّة.
(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي فجعل هذا المرعى بعد أن كان أخضر هشيما باليا كالغثاء يميل لونه إلى السواد، فهو القادر على إنبات العشب، وعلى تبديل حاله، لا الأصنام التي عبدها الكفرة الفجرة.
وقصارى ما سلف- إنا مأمورون أن نعرف الله جل شأنه بأنه القادر العالم الحكيم الذي شهدت بصفاته آثاره فى خلقه، وألا ندخل فى هذه الصفات ما لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتخذوا من دونه شركاء، أو وصفوه بما به يشبه خلقه.
وإنما توجه إلينا الأمر بتسبيح الاسم دون تسبيح الذات، ليرشدنا إلى أن مبلغ جهدنا أن نعرف الصفات بما يدل عليها، أما الذات فهى أعلى وأرفع من أن تتوجه إليها عقولنا إلا بما نلحظ من هذه الصفات بما يدل عليها.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 8]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)
شرح المفردات
سنقرئك: أي نجعلك قارئا للقرآن، فلا تنسى: أي فلا تنساه بل تحفظه، واليسرى: أعمال الخير التي تؤدى إلى اليسر.(30/122)
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بتسبيح اسمه، وعلّم أمته المأمورة بأمر الله له، كيف يمكنها أن تعرف الاسم الذي تسبحه على نحو ما ذكرنا، ولا يكمل ذلك إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، فكان هذا مدعاة إلى شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على حفظه ومن ثم وعده بأنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه، وتبيين ما أوجب أن يعرف من صفاته، وأحكام شرائعه كما وعده بأنّ ما يقرئه إياه لا ينساه.
الإيضاح
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سننزل عليك كتابا تقرؤه، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك.
وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه، فوعد بأنه لا ينساه.
ونحو الآية قوله: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» وقوله: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» .
وخلاصة ذلك- إنا سنشرح صدرك، ونقوّى ذا كرتك، حتى تحفظه بسماعه مرة واحدة، ثم لا تنساه بعدها أبدا.
ولما كان هذا الوعد على سبيل التأبيد يوهم أن قدرته تعالى لا تسع تغييره جاء بالاستثناء فقال:
(إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي فإن أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك.
قال الفرّاء: إنه ما شاء أن ينسى محمد صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا أن القصد من هذا الاستثناء بيان أنه لو أراد أن يصيّره ناسيا لقدر على ذلك كما جاء فى قوله:
«وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» .(30/123)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
وإنا لنقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك.
وقصارى هذا- إن فائدة هذا الاستثناء بيان أنه تعالى قادر على أن ينسيه، وأن عدم النسيان فضل من الله وإحسان لا من قوّته.
ثم أكد هذا الوعد مع الاستثناء فقال:
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي إن الذي وعدك بأنه سيقرئك، وأنه سيجعلك حافظا لما تقرأ فلا تنساه- عالم بالجهر والسر، فلا يفوته شىء مما فى نفسك، وهو مالك قلبك وعقلك، وخافى سرك وجهرك، ففى مقدوره أن يحفظ عليك ما وهبك وإن كان من خفيات روحك، ولو شاء لسلبه ولن تستطيع دفعه، لأنه ليس فى قدرتك أن تخفى عنه شيئا.
ولما كان فى الوعد بالإقراء الوعد بتشريع الأحكام، وفيها ما يصعب على المخاطبين احتماله- أردف ذلك الوعد بما يزيده حلاوة فى النفوس فقال:
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي ونوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، ولا يصعب على العقول فهمها، ورحم الله البوصيرى حيث يقول:
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
وقد جعلت الآية الإنسان هو الميسّر للفعل، وليس الفعل هو الميسر للإنسان، من قبل أن الفعل لا يحصل إلا إذا وجدت العزيمة الصادقة، والإرادة النافذة لإيجاده، مع التوفيق لسلوك أقوم الطرق التي توصل إليه، كما
جاء فى الحديث: «اعملوا، فكل ميسّر لما خلق له» .
[سورة الأعلى (87) : الآيات 9 الى 13]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)(30/124)
شرح المفردات
التذكر: أن يتنبه الإنسان إلى شىء كان قد علمه من قبل ثم غفل عنه، ومن يخشى الله صنفان: مذعن معترف بالله وببعثه للعباد للثواب والعقاب، ومتردد فى ذلك، الأشقى: هو المعاند المصرّ على الجحد والإنكار، المتمكن من نفسه الكفر، يصلى النار: أي يذوق حرها. والنار الكبرى هى أسفل دركات الجحيم، لا يموت: أي فيستريح ولا يحيا: أي حياة طيبة فيسعد كما أشار إلى ذلك شاعرهم فقال:
ألا ما لنفس لا تموت فينقضى ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم
المعنى الجملي
بعد أن وعد سبحانه رسوله بذلك الفضل العظيم وهو حفظ القرآن وعدم نسيانه- أمره بتذكيره عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم- وتنبيههم من غفلاتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير لهم، وبين أن الذكرى لا تنجع إلا فى القلوب الخاشعة التي تخشى الله وتخاف عقابه. أما القلوب الجاحدة المعاندة فلا تجدى فيها الذكرى شيئا، فهوّن على نفسك، ولا يحزننّك جحدهم وعنادهم كما أشار إلى ذلك فى آية أخرى فقال: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
ثم ذكر أن أولئك الجحدة العصاة يكونون فى قعر جهنم لا هم يموتون ولا يسعدون بحياة طيبة.
الإيضاح
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي فذكر الناس بما أوحينا به إليك، واهدهم إلى ما فيه من بيان الأحكام الدينية. فإن أصرّ المعاندون على عنادهم ولم يزدهم(30/125)
وعظك إلا تماديا فى الجحود والإنكار «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» حرصا على إيمانهم، وحزنا على بقائهم على كفرهم، وادع من تعلم أنه يجيبك ولا يحبهك ولا يؤذيك وإلى ذلك أشار بقوله:
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى الله ويخاف عقابه، لأنه هو الذي يتأمل فى كل ما تذكره له، فيتبين له وجه الصواب، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعوّل عليه.
وفى التعبير بقوله (سَيَذَّكَّرُ) إيماء إلى أن ما جاء به الرسول بلغ حدّا من الوضوح لا يحتاج معه إلا إلى التذكير فحسب، وإنما الذي يحول بينهم وبين اتباعه واقتفاء آثاره- تقليد الآباء والأجداد فكأنهم عرفوه واستيقنوا صحته، ثم زالت هذه المعرفة بانتهاجهم خطة آبائهم من قبل.
ثم أشار إلى عدم جدواها بالنظر للمعاندين الجاحدين فقال:
(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي ويبتعد عن هذه التذكرة المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا، وهو الذي يذوق حر النار الكبرى فى دركات جهنم كما قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» إذ لا يليق بحكمة الحكيم المتعالي أن يسوّى بين من اجترأ عليه وتهاون بأمره وارتكب أشنع الذنوب ومن كان نقىّ الصحيفة ميمون النقيبة، مطيعا لأمره، مؤديا فرائضه منتهيا عن الفحشاء والمنكر.
وقصارى ما سلف- إن الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام ثلاثة:
(1) عارف صحتها، موقن بصدقها، لا يدور بخلده تردّد ولا شكّ، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يخشى ربه.
(2) متردد متوقف إلى أن يقوم لديه البرهان، فإذا هو سنح له بادر إلى التصديق بها، وهذا أدنى من سابقه.(30/126)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
(3) شقىّ معاند لا يلين قلبه للذكرى، ولا تنال الدعوة من نفسه قبولا، وهو شر لأقسام الثلاثة، وأبعدها من الخير.
ثم بيّن عاقبة هذا الأشقى ومآل أمره فقال:
(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي ومن شقى هذا الشقاء، ولقى هذا العذاب بتلك النار- يخلد فيها، ولا يقف عذابه عند غاية، ولا يجد لآلامه نهاية، فلا هو يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة فيسعد بها.
ونحو الآية قوله: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا. وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» .
والعرب تقول لمن هو مبتلى بمرض يقعده: لا هو حىّ فيرجى، ولا ميت فينعى.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
شرح المفردات
أفلح: أي فاز ونجا من العقاب وتزكى: أي تطهر من دنس الرذائل، ورأسها جحد الحق وقسوة القلب، وذكر اسم ربه: أي ذكر فى قلبه صفات ربه من الكبرياء والجلال، فصلى: أي فخشع وخضعت نفسه لأوامر بارئه، تؤثرون:
أي تفضلون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر فى الدلائل التي تدل على وجود الله ووحدانيته وإرسال الرسل وعلى البعث والحساب- أتبعه بالوعد لمن زكى نفسه(30/127)
وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد- بالفوز بالفلاح والظفر بالسعادة فى دنياه وآخرته.
ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حبّ العاجلة، وتفضيلها على الآجلة، ولو فكروا قليلا لا ستبان لهم أن الخير كل الخير فى تفضيل الثانية على الأولى.
ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية فى كل الأديان واحدة، فما فى القرآن هو ما فى صحف إبراهيم وموسى.
الإيضاح
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي قد أدرك الفلاح، وظفر بالبغية من طهر نفسه ونقاها من أوضار الكفر، وأزال عنها أدران الشرك والآثام.
ومن هذا تعلم أن تزكية النفس إنما تكون بالإيمان بالله ونفى الشركاء، والتصديق بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم مع صالح العمل.
(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي وأحضر فى قلبه صفات ربه من الجلال والكمال فخضع لجبروته وقهره. فإن المرء متى تذكر ربه العظيم وجل قلبه، وخاف من سطوته وامتلأت نفسه خشية منه ورهبة لجلاله، كما قال فى آية أخرى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» .
ثم رد سبحانه على قوم ممن قست قلوبهم، ولم يأخذوا من العبادات إلا بصورها وظنوا أن ذلك هو غاية ما يطالب الله عباده بقوله.
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل، لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه لكنتم تفضلون الآخرة على الدنيا، كما يرشد إلى ذلك العقل، ويهدى إليه الشرع، فمتاع الآخرة دائم ونعيمها لا يزول، ولا تنغيص فيه ولا منّ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار، وتحوط به الآلام، فمن استعجل هذا النعيم، واستحب زينة الدنيا(30/128)
لا يكون مصدّقا بالآخرة ونعيمها، أو يكون إيمانه إيمانا لا يجاوز طرف لسانه، ولا يصل إلى قلبه، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون.
ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت فى هذه الشريعة هى بعينها التي جاءت فى جميع الشرائع السماوية فقال:
(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أي إن ما أوحى به إلى نبيه من أمر ونهى ووعد ووعيد هو بعينه ما جاء فى صحف إبراهيم وموسى، فدين الله واحد، وإنما تختلف صوره، وتتعدد مظاهره، فإذا كان المخاطبون قد آمنوا بإبراهيم أو بموسى فعليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يأت إلا بما جاء فى صحفهم، وإنما هو مذكّر أو محى لما مات من شرائعهم.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» وقوله جل شأنه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» .
وقصارى ذلك- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين، وداعيا إلى وجهها الصحيح الذي أفسده كرّ الغداة ومر العشىّ، كما طمس معالمه اتباع الأهواء، واقتفاء سنن الآباء والأجداد.
اللهم وفقنا لسلوك دينك الحق، واهدنا إلى صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.(30/129)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
سورة الغاشية
هى مكية، وآياتها ست وعشرون، نزلت بعد سورة الذاريات.
ومناسبتها لما قبلها- أنه أشير فى السورة السابقة إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا، وبسط الكلام فيها هنا.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
شرح المفردات
الغاشية: القيامة، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها، خاشعة:
أي ذليلة: عاملة: أي وقع منها عمل فى الدنيا، ناصبة: أي تعبة من قولهم نصب فلان بالكسر: أي تعب، تصلى من قولهم صلى النار (بالكسر) أي قاسى حرها، حامية:
أي متناهية فى الحرّ من قولهم حميت النار إذا اشتد حرها، والعين: ينبوع الماء، والآنية الشديدة الحر، والضريع: شجر ذو شوك لائط بالأرض، فإذا كان رطبا سمى بالشّبرق، قال أبو ذؤيب الهذلي:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعا بان عنه النحائص
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) أي هل بلغك نبأ يوم القيامة وعلمت قصصه، وإننا سنعلمك شأنه الخطير.(30/130)
وهذا أسلوب من الكلام لا يراد منه حقيقة الاستفهام، بلى يراد منه تعجيب السامع مما سيذكر بعد، وتشويقه إلى استماعه، وتوجيه فكره إلى أنه من الأحاديث التي من حقها أن تتناقلها الرواة، ويحفظها الوعاة.
ثم فصل شأن أهل الموقف فى ذلك اليوم، وذكر أن أهله فريقان: فريق الكفرة الفجرة. وفريق المؤمنين البررة، وقد أشار إلى الأولين بقوله:
(1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي وجوه يومئذ يظهر عليها الخزي والهوان مما ترى وتشاهد من الهول.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وقوله: «وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» .
والخشوع والذل وإن كان فى الحقيقة لأرباب الوجوه، نسب إلى الوجوه لما كان أثره يظهر عليها.
ثم وصف الوجوه بصفات أخرى فقال:
(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي إن هؤلاء الكفار كانوا فى حياتهم الدنيا يعملون ويجتهدون فى أعمالهم، لكن لم يتقبلها ربهم، لأنهم لم يقدّموا عليها الإيمان بالله ورسوله، وهو الدعامة الأولى فى قبول العمل عنده، ولأنهم لم يقصدوا بها وجهه تعالى، ولأنهم كانوا يجتهدون فى مشاقة الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا.
والخلاصة- إن هؤلاء الكفار وقع منهم فى الدنيا عمل، وأصابهم فيه تعب ونصب، لكنهم لم يستفيدوا منه شيئا، فآثار الخيبة وحبوط العمل بادية على وجوههم.
ثم ذكر جزاءها فى هذا اليوم فقال:
(تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي هذه الوجوه تقاسى حر النار وتعذب بها، لأن أعمالها(30/131)
فى الدنيا كانت خاسرة، غلبها الشر، وجانبها الخير، وهذه النار الحامية لا نعرف كنهها، ولكن علينا أن نؤمن بها، وبأن حلفاء الباطل يصلونها.
(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي إن أهل النار إذا عطشوا فى تلك الدار وطلبوا ما يطفئ غتّهم، جىء لهم بماء من ينبوع بلغ من الحرارة غايتها، فهو لا يطفىء لهبا، ولا ينقع غلّة.
وبعد أن ذكر شرابهم أردفه بوصف طعامهم فقال:
(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) أي إنهم إذا أحسوا بالجوع وطلبوا الطعام أتى لهم بالضريع وهو ذلك المرعى السوء الذي لا تعقد عليه السائمة شحما ولا لحما، وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها، والمراد بهذا كله أنه يؤتى لهم بردىء الطعام.
ثم وصف هذا الضريع بأنه لا يجدى ولا يفيد فقال:
(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي إن هذا الطعام لا يدفع جوعا، ولا يفيد سمنا، فليس له فائدة الطعام التي لأجلها يؤكل فى الدنيا، وقد سمى الله ذلك الطعام بالضريع تشبيها له، وإلا فذلك العالم ليس فيه نمو أبدان ولا تحلل مواد على النحو الذي يكون فى الدنيا، بل هو عالم خلود وبقاء، واللذائذ فيه لذائذ سعادة، والآلام آلام شقاء، فكل ما فى ذلك العالم إنما يقع بينه وبين ما فى عالمنا نوع مشابهة، لا اتفاق ولا مجانسة.
وقد جاء فى سورة الحاقة فى طعام الكافرين: «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» وفى سورة الواقعة: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» وفى سورة الدخان: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» .
فهذا كله يدل على أن طعام النار شىء يوافق النشأة الآخرة، عبر عنه بعبارات مختلفة، ليصور فى أذهاننا بشاعته وخبثه، لتنفر منه نفوسنا، وتطلب كل وسيلة للفرار منه، فتبتعد عن العقائد الفاسدة، والأعمال الخاسرة.(30/132)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 16]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
شرح المفردات
ناعمة: أي ذات بهجة وحسن، عالية: أي فى المكان لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، واللاغية: اللغو والكذب والبهتان، عين جارية:
أي ينبوع ماء جار، والسرر: واحدها سرير وهو ما يجلس أو ينام عليه، وأفضله ما كان مرفوعا عن الأرض، والأكواب: واحدها كوب وهو ما لا عروة له من الكيزان، موضوعة: أي معدة ومهيأة للشراب، والنمارق: واحدها نمرقة (بضم النون وكسرها) وهى الوسادة قال:
كهول وشبّان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
والزرابيّ: واحدها زربىّ (بكسر الزاى) وزربية وهو البساط، وأصل الزرابي أنواع النبات إذا احمرت واصفرت وفيها خضرة، ويقال أزرب النبات إذا صار كذلك سموا بهذا البسط لشبهها به، ومبثوثة: أي مفرقة فى المجالس بحيث يرى فى كل مجلس شىء منها كما يرى فى بيوت ذوى الثراء.
الإيضاح
بعد أن وفى الكفرة الفجرة حقهم من الوصف- وصف أهل الإخلاص والصدق لتقرّ أعينهم بما سيلقون من فضله فقال:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي ووجوه يومئذ ذات نضرة وبهجة كما قال: «تَعْرِفُ(30/133)
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ»
ولا تكون كذلك إلا إذا كانت منعمة فرحة بما لاقت جزاء سعيها فى الدنيا ورضى الله عنها ومن ثم قال:
(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي إنهم جميعا يسعون فى العمل لله حين رأوا ثمرته وعاقبته الحسنى، كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه الجميل، ويظهر له منه عاقبة حميدة، فيقول ما أحسن ما عملت، ولقد وفقت إلى الصواب فيما فعلت.
وبعد أن وصف أهل الثواب وصف ديارهم بسبعة أوصاف فقال:
(1) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة، لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.
وقد يكون المراد منه العلوّ فى الدرجة، لأن نعيم الجنة بعضه أرفع من بعض فالنعيم الذي يتمتع به السابقون من الأنبياء والشهداء والصالحين أعلى منزلة وأرفع قدرا مما يتمتع به الذين اتبعوهم بإحسان.
(ب) (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي إنها منزهة عن اللغو، إذ أنها منزل جيران الله وأحبائه، وقد نالوها بالجد والعمل لا باللغو، ومنازل أهل الشرف فى الدنيا تكون مبرأة من اللغو والكذب والبهتان، فكيف بأرفع المجالس فى جوار رب العالمين، ومالك قلوب الخلق أجمعين.
(ح) (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي فى تلك الجنة ينبوع ماء جار، والمياه الجارية من الينابيع تكون صافية، وفى منظرها مسرة للنفوس، وقرّة للعيون، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» .
(د) (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي مرفوعة عالية إذا جلس عليها المؤمن رأى جميع ما أعطاه الله من النعيم ورأى من فى الجنة وفى ذلك من التشريف والتكريم ما لا خفاء فيه.(30/134)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
(هـ) (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافات العيون كلما أرادوا الشرب وجدوها.
(و) (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) أي ووسائد مصفوف بعضها إلى جوانب بعض، فإن شاءوا جلسوا عليها، وإن أرادوا استندوا إليها، وإن أحبوا أن يجلسوا على بعضها ويستندوا إلى بعض فعلوا.
(ز) (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي وبسط مبسوطة فى المجالس، بحيث يرى فى كل مجلس من مجالسهم منها شىء، كما يرى فى بيوت المترفين وذوى الثراء فى الدنيا.
وقد ذكر سبحانه كل ما سلف تصويرا لترف أهل الجنة تصويرا يقرّبه من عقولهم، ويستطيعون به إدراكه وفهمه، وإلا فإن نعيم الجنة مما يسمو على الفكر ويعلو فوق متناول الإدراك فالأشياء التي عدّدها سبحانه تتشابه مع نظائرها التي فى هذه الحياة بأسمائها، فأما حقائقها وذواتها فليست مثلها ولا قريبا منها، كما أثر عن ابن عباس أنه قال: ليس فى الدنيا مما فى الآخرة إلا الأسماء.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 20]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
شرح المفردات
الإبل: واحدها بعير ولا واحد لها من لفظها كنساء وقوم، ورفع السماء.
إمساك ما فوقنا من شموس وأقمار ونجوم، ونصب الجبال: إقامتها أعلاما للسائرين، وملجأ للحائرين، وسطح الأرض: تمهيدها وتوطئتها للإقامة عليها والمشي فى مناكبها.(30/135)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مجىء يوم القيامة، وبين أن الناس حينئذ صنفان أشقياء وسعداء وأن الأشقياء يكونون فى غاية الذل والهوان، وأن السعداء يكونون يومئذ مستبشرين بادية على وجوههم علائم المسرة- أعقب هذا بإقامة الحجة على الجاحدين المنكرين لذلك، وتوجيه أنظارهم إلى آثار قدرته فيما بين أيديهم، وما يقع تحت أبصارهم من سماء تظلّ، وأرض تقلّ، وإبل ينتفعون بها فى حلّهم وترحالهم، ويأكلون من لحومها وألبانها ويلبسون من أوبارها، وجبال تهديهم فى تلك الفيافي والقفار.
أخرج عبد بن حميد فى آخرين عن قتادة قال: لما نعت الله تعالى ما فى الجنة تعجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
الإيضاح
(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) أي أينكر هؤلاء المشركون ما ذكرنا من أمر البعث وما يتصل به من سعادة وشقاء، ويستبعدون وقوعه، ولا يتدبرون فى الإبل التي هى نصب أعينهم، ويستعملونها فى كل حين؟ ولو أنهم تدبروا فى خلقها لرأوا خلقا بديعا لا يشاكل خلق أكثر الحيوان، فلها من عظم الجثة، وشدة القوة، وعظيم الصبر على الجوع والعطش ما لا يشاركها فيه حيوان آخر- إلى أنها تحتمل المشاقّ، وتنهض بالأوقار، وتقطع شاسع المسافات، حتى لقبوها: سفينة الصحراء- قال شاعرهم:
ما فرّق الألا ... ف بعد الله إلا الإبل
وما غراب ... البين إلا ناقة أو جمل
إلى أنها تنقاد للصغير والكبير وتحمل أذاهما. قال العباس بن مرداس:
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير(30/136)
وتكتفى فى المرعى بما تيسر لها من الشوك والشجر، إلى أنها أعجب ما عندهم، وهم واقفون على أحوالها، عالمون بطباعها.
وجاء الكلام بطريق الاستفهام، إنكارا عليهم، وتوبيخا لهم على جحد أمر البعث.
(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي ألا يشاهدون السماء وقد رفعت رفعا سحيق المدى بغير عمد؟
(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي وإلى الجبال كيف وضعت وضعا ثابتا لا ميدان فيه ولا اضطراب، فيتسنى ارتقاؤها فى كل حين، وتجعل أمارة للسالكين فى تلك الفيافي والقفار، وتنزل عليها المياه التي ينتفع بها فى سقى النبات ورىّ الحيوان.
(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) ومهدت على ما يقتضيه صلاح أمور ساكنيها وانتفاعهم بما فى ظاهرها من المنافع وما فى باطنها من المعادن.
وقصارى ما سلف- إنه لو نظر هؤلاء الجاحدون المعاندون فيما تقع عليه أنظارهم من هذه الأشياء وفكروا فيها، لعلموا أنها صنعة لا توجد إلا بموجد عظيم، ولا تحفظ إلا بحافظ قدير، ولأدركوا أن القادر على خلق هذه المخلوقات وسوّاها وحفظها ووضعها على قواعد الحكمة- قادر على أن يرجع الناس فى يوم يوفى فيه كل عامل جزاء عمله، وأن ينشئ النشأة الآخرة من غير أن يعرفوا طريق إنشائها، فلا ينبغى أن يكون جهلهم بكيفية يوم القيام سببا فى جحده وإنكاره.
وإنما خص هذه المخلوقات بالذكر، لأن الناظر منهم يفكر فى أقرب الأشياء إليه، فهو يرى بعيره الذي يمتطيه، ثم إذا هو رفع رأسه فوق رأى السماء، ثم إذا التفت يمنة أو يسرة رأى ما حواليه من الجبال فإذا مدّ ناظريه أمامه أو تحته رأى الأرض، فالعربى يرى ذلك كل يوم، ومن ثمّ أمره الله بالتدبر فيها.(30/137)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
شرح المفردات
فذكر: أي عظ قومك وابعثهم على النظر فى ملكوت السموات والأرض، بمسيطر: أي بمسلط تجبرهم على ما تريد، إيابهم: أي رجوعهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دليل قدرته تعالى على بعث الأجساد ولفت أنظار الجاحدين إلى مظاهر قهره وغلبته لهذا العالم، ثم وبخهم على إنكارهم وتماديهم فى باطلهم، على وضوح الحجة وظهور البرهان، أردف ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بهذه الأدلة وأشباهها مما لا يبقى معه مجال للشك والتردد.
الإيضاح
(فَذَكِّرْ) بآياتى، وعظهم بحججي، وبلغهم رسالاتى، وحذرهم أن يتركوا ذلك، ثم بعدئذ لا تذهب نفسك عليهم حسرات إن لم يؤمنوا.
ثم علل الأمر بالتذكير فقال:
(إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي إنما بعثت للتذكير فحسب وليس من الواجب عليك أن يؤمنوا: فما عليك إلا التبشير والتحذير، فإن آمنوا فقد اهتدوا إلى ما تسوق إليه الفطرة، وإن أعرضوا فقد تحكمت فيهم الغفلات، وتغلبت عليهم الشهوات، واستولت على عقولهم الأهواء والجهالات.
ثم أكد الإنذار وقرره بقوله:(30/138)
(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لست عليهم بمسلط تجبرهم على ما تريد، وتتعهد أحوالهم، وتكتب أعمالهم، فلم نؤت قوة الإكراه على الإيمان، والإلجاء إلى ما تدعوهم إليه كما قال: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟» وقال:
«وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» .
(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي إنك وإن كنت داعيا وليس لك سلطان على ما فى نفوسهم، فالله هو المسيطر عليهم، وصاحب السلطان على سرائرهم فمن تول منهم وأعرض عن الذكرى، وجحد الحق المعروض عليه فالله يعذبه العذاب الأكبر فى الآخرة وقد يضم إلى ذلك عذابا فى الدنيا من قتل أو سبى الذرية أو غنيمة للأموال، إلى نحو أولئك من صنوف البلاء التي ينزلها بهم.
ثم أكد تعذيب الله لمن تولى وكفر فقال:
(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي لا مفرّ للمعرضين، ولا خلاص لهم من الويل الذي أوعدوا به فإنهم راجعون إلينا، وقد حق القول منا فى عقابهم وسنحاسبهم على ما كسبت أيديهم.
وفى هذا تسلية لقلب رسوله، وإزالة أحزانه وآلامه، لتكذيبهم إياه، وإصرارهم على معاندته.
وصلى الله على محمد وآله البررة الكرام.
مقاصد هذه السورة
تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد:
(1) وصف أهل الجنة ووصف أهل النار.
(2) ذكر عجائب الصنعة الإلهية.
(3) أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير بما أرسل إليه من الشرائع.(30/139)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
سورة الفجر
هى مكية، وآياتها ثلاثون، نزلت بعد سورة الليل.
ومناسبتها لما قبلها.
(1) أنه ذكر فى تلك الوجوه الخاشعة والوجوه الناعمة، وذكر فى هذه طوائف من المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وطوائف من الذين وجوههم ناعمة.
(2) أن القسم الذي فى أول السورة كالدليل على صحة ما تضمنته خاتمة السورة السابقة من الوعد والوعيد.
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
الإيضاح
(وَالْفَجْرِ) الفجر هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء، وينفجر النور، وقد أقسم ربنا به، لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وما يترتب على ذلك من المنافع كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق، وهو كقوله:
«وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» وقوله: «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» .
(وَلَيالٍ عَشْرٍ) هى عشر ليال يتشابه حالها مع حال الفجر، فيكون ضوء القمر فيها مطارد الظلام الليل إلى أن تغلبه الظلمة، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى يسطع النهار، ولا يزال الضوء منتشرا إلى الليل الذي بعده.(30/140)
وضوء الأهلة فى عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه، فيسدل على الكون حجبه، وهذه الليالى العشر غير متعينة فى كل شهر فإن ضوء الهلال قد يظهر حتى تغلبه الظلمة فى أول ليلة من الشهر.
وقد يكون ضئيلا يغيب ضوؤه فى الشفق فلا يعدّ شيئا.
والخلاصة- إن الليالى العشر تارة تبتدئ من أول ليلة، وأخرى من الليلة الثانية.
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي والزوج والفرد من هذه الليالى فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد.
وبعد أن أقسم بضروب من الضياء أقسم بالليل مرادا منه الظلمة فقال:
(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي والليل إذا يمضى ويذهب، وهو كقوله: «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» وقوله: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» .
ونعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما بحسب الأزمنة والفصول- مما لا يجحدها إلا مكابر، لا جرم أقسم ربنا بهما تنبيها إلى أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم، عالم بما فى ذلك من المصلحة لعباده.
انظر إلى ما فى إقبال الصبح من عميم النفع، فإنك لترى أنه يفرج كربة الليل وينبه إلى استقبال العمل، وكذلك تدرك ما فى الليالى المقمرة من فائدة، فهى تستميل النفس إلى النّقلة، وتيسر للناس النّجعة، وبخاصة فى أيام الحر الشديد فى بلاد كبلاد العرب.
وكذا نعرف ما فى الظلام من منفعة، فإن فيه تهدأ النفوس، وتسكن الخواطر وتستقر الجنوب فى مضاجها، لتستريح من عناء العمل، وتستعين بالنوم على إعادة القوى، وتختفى الناس من مطاردة اللصوص، ولله در المتنبي حيث يقول:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانوية تكذب(30/141)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
ثم قرر فخامة الأشياء التي أقسم بها قبل، وكونها أهلا لأن تعظم فقال:
(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) الحجر (بكسر الحاء وسكون الجيم) العقل، ويقولون: فلان ذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها، مضيّقا عليها.
والمراد أن من كان ذا لبّ وعقل يفطن إلى أن فى القسم بهذه المخلوقات المشتملة على باهر الحكمة، وعجيب الصنعة، الدالة على وحدانية صانعها- مقنعا أيّما مقنع، وكفاية أعظم كفاية.
وجاء الكلام بصورة الاستفهام لتأكيد المقسم عليه وتقريره، كما تقول لمن يحاجّك فى أمر ثم تقيم له الحجة الناصعة التي تثبت ما تدّعى: هل فيما ذكرت لك كفاية، ومرادك أنى قد ذكرت لك أقوى الحجج وأبينها، فلست تستطيع جحد ما قلت بعد هذا.
وجواب القسم محذوف يدل عليه قوله بعد: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ» الآية، ويقدر بنحو قوله إن ناصية المكذبين بيدي، ولئن أمهلتهم فلن أهملهم، ولآخذنهم أخذ الأمم قبلهم، وقد ترك لتسترسل نفس القارئ فى تأمل ما مضى وما يتبع ليجد الجواب بينهما، فيتمكن المعنى لديه فضل تمكن.
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
شرح المفردات
عاد: جيل من العرب البائدة يقولون إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ويلقب أيضا بإرم، وذات العماد: أي سكان الخيام، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضر موت.(30/142)
وثمود: قبيلة من العرب البائدة كذلك وهى من ولد كاثر بن إرم بن سام، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز، جابوا الصخر: أي قطعوه ونحتوه، بالواد: أي الوادي الذي كانوا يسكنون فيه، وفرعون: هو حاكم مصر الذي كان فى عهد موسى عليه السلام، والأوتاد: المبانى العظيمة الثابتة، والطغيان: تجاوز القدر فى الظلم والعتوّ، وصب: أي أفرغ وألقى، وسوط عذاب: أي أنواعا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم، والمرصاد: هو المكان الذي يقوم فيه الرصد، والرصد من يرصد الأمور: أي يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر، ويطلق أيضا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه.
المعنى الجملي
بعد أن أقسم سبحانه أنه سيعذب الكافرين جزاء كفرهم وإصرارهم على مخالفة أوامره- شرع يذكر بعض قصص الأمم السالفة ممن عاندوا الله ورسوله ولجوا فى طغيانهم فأوقع بهم شديد العذاب وأخذهم أخذ العزيز الجبار، ليكون فى ذلك زجر لهؤلاء المكذبين. وتثبيت للمؤمنين الذين اتبعوا الرسول وناصروه، وتطمين لقلوبهم بأن أعداءهم سيلقون ما يستحقون من الجزاء.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟) أي ألم تعلم أيها الإنسان، كيف أهلك ربك عادا الأولى الذين كانوا أشد الناس أجساما وأطولهم قامة، وأرفعهم مكانة، والذين لم يخلق فى البلاد كلها مدينة كمدينتهم.
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي وثمود الذين قطعوا الصخر ونحتوه وبنوا منه القصور والأبنية العظيمة كما قال فى آية أخرى: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» .(30/143)
وفى هذا دليل على ما أنعم الله به عليهم من القوة والعقل وحسن التدبير.
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي وفرعون ذى المبانى العظيمة التي شادها هو ومن قبله من فراعنة مصر فى قديم الأزمان كالأهرام وغيرها وما أجمل التعبير عما تركه المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة، إذ يبتدئ البناء عريضا وينتهى بأدق مما بدأ.
ثم وصف من سبق ذكرهم بأقبح الأوصاف فقال:
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم من عاد وثمود وفرعون قد استعملوا سلطانهم وقوتهم فى هضم حقوق الناس، واغتروا بعظيم قدرتهم، فكانوا سببا فى إفساد البلاد.
ذاك أن من اغتر بنفسه وتهاون بحقوق غيره واعتدى عليها، وأخذ ما ليس له ولم يعط الذي عليه- يكون قد فكك شمل الجماعة وأفسد فى البلاد، فيختل نظام العمران، ويقف دولاب التعامل، ويوجس كل امرئ خيفة من بنى جلدته، ولا شك أن أمما هذه حالها تكون عاقبتها الخراب والدمار، ومن ثم ذكر عاقبة أمرها فقال:
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فأنزل الله تعالى بهم ألوانا من البلاء، وشديد العقاب.
وقد شبه سبحانه ما أوقعه بهم من صنوف العذاب، وما صبّه عليهم من ضروب الهلاك- بالسوط، من قبل أن السوط يضرب به فى العقوبات، والله يوقع العذاب بالأمم عقوبة لها على ما يقع منها من أنواع التفريط فى أوامر دينه.
ثم ذكر العلة فى تعذيبه لهم فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي إن شأن ربك ألا يفوته من شئون عباده نقير(30/144)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
ولا قطمير، ولا يهمل أمة تعدّت فى أعمالها حدود شرائعه القويمة، بل يأخذها بذنوبها أخذ العزيز المقتدر، كما يأخذ الراصد القائم على الطريق من يمر به بما يريد من خير أو شر، لا يفرّط فيما رصد له.
وقد أجمل الله فى هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب، وفصله فى غير موضع من كتابه الكريم، فقال فى سورة الحاقة: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» وقال: «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» .
والحكمة فى تكرار القصص فى القرآن الكريم، وفى ذكر بعضها على طريق الإشارة فى بعض المواضع، وبالتفصيل فى بعض آخر- أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى، وتوحده فى ملكه، وقهره لعباده حينا، وترقيق قلوب المخاطبين حينا آخر، وإنذار عباده وإعذارهم مرة ثالثة، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز لا يكون لغيره.
وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن الله سيمهل الكافرين ولا يهملهم، وهو ليس بغافل عنهم، وحينئذ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت ولم تترك سدى- كافية جدّ الكفاية لمن فكر وتدبر.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)(30/145)
شرح المفردات
ابتلاه: أي اختبره ببسط الرزق وإقتاره، فأكرمه: أي صيره مكرما يرفل فى بحبوحة النعيم، قدر عليه رزقه: أي صيره فقيرا مقترا عليه فى الرزق، تقول قدرت عليه الشيء: أي ضيقته عليه، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه كما قال: «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه لا يفوته من شأن عباده شىء. وأنه يأخذ كل مذنب بذنبه- أردف ذلك ذكر شأن من شئون الإنسان، وبين أنه لا يهتم إلا بأمور الدنيا وشهواتها، فإذا أنعم الله عليه وأوسع له فى الرزق ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه وجنبه منازل العقوبة، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهى، ولا يبالى أكان ما يصنع خيرا أم شرا، فيطغى ويفسد فى الأرض، وإذا ضيق عليه الرزق (وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص أو لتظهر قوة صبره، فإن الفقر لا يزيد ذوى العزائم إلا شكرا) يقول ربى قد أهاننى، ومن أهانه الله وصغرت قيمته لديه لم يكن له عناية بعمله، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر، أو يكافئه على ما يصنع من خير، فلا شكره يكافأ بإحسان، ولا كفره يجازى بعقوبة، فينطلق يكسب عيشه بأى وسيلة عنّت له، ولا تحجزه شريعة، ولا يقف أمام قانون، ويسلك سبيل الجبارين، ويبخس الحقوق، ويفسد نظم المجتمع، ولا تزال أحوال الناس هكذا كما وصف الله فأرباب السلطان يظنون أنهم فى أمن من عقاب ربهم ولا يذكرونه إلا بألسنتهم، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم، لا يبالون ماذا يفعلون؟(30/146)
الإيضاح
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي إن الإنسان إذا أنعم الله عليه وأوسع له فى الرزق- زعم أن هذا الذي هو فيه من السعة- إكرام من الله له، وخيّل إليه الوهم أن الله لا يؤاخذه غلى ما يفعل، فيطغى ويفسد فى الأرض.
(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي وإن رأى أن رزقه لا يأتيه إلا بقدر ظن أن ذلك إهانة من الله له وإذلال لنفسه.
والإنسان فى الحالين مخطئ مرتكب أشنع وجوه الغفلة، لأن إسباغ النعمة فى الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك، ولو دل على هذا لما رأيت عاصيا موسعا عليه فى الرزق، ولا شاهدت كافرا ينعم بصنوف النعم.
ولعل من حكمة الله فى بسط الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض آخر أن وجدان المال سبب للانغماس فى الشهوات، وأنه قاطع عن الاتصال بالله، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة.
انظر إلى
قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يدعو به ربه من قوله: «اللهم أحينى مسكينا، وأمتنى مسكينا، واحشرني فى زمرة المساكين»
تدرك سر ذلك.
إلى أن من يمتحنهم الله بإسباغ النعمة عليهم يظنون أن الله قد اصطفاهم على عباده ورفعهم فوق سائر خلقه، ثم لا يزال بهم شيطان الغواية حتى يذهبوا مع أهوائهم كل مذهب، ويسيروا فى طريق شهواتهم المهلكة إلى أبعد غاية، لا يرجعون إلى ربهم، ولا يدركون أن ما عنده خير وأبقى.(30/147)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
شرح المفردات
ولا تحاضون: أي لا يأمر بعضكم بعضا، والتراث: الميراث، لمّا: أي شديدا، جمّا: أي كثيرا قال:
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأىّ عبد لك لا ألمّا
المعنى الجملي
بعد أن بين خطأ الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق أو قتر عليه- أردف ذلك زجرهم عما يرتكبون من المنكرات، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان، وكانوا على الحال التي يرتقى إليها الإنسان- لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس، فعنوا بإكرامه فإن الذي يفقد أباه معرّض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم، ويشتدون فى أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية.
وصفوة القول- إن شرههم فى المال، وقرمهم إلى اللذات، وانصرافهم إلى التمتع بها، ثم قسوة قلوبهم إلى ألا يألموا إلى ما تجر إليه الاستهانة بشئون اليتامى من فساد أخلاقهم، وتعطيل قواهم. وانتشار العدوى منهم إلى معاشريهم. فينتشر(30/148)
الداء فى جسم الأمة- دليل على أن ما يزعمون من اعتقادهم بإله يأمرهم وينهاهم، وأن لهم دينا يعظهم، زعم باطل، وإذا غشّوا أنفسهم وادّعوا أنهم يتذكرون الزواجر، ويراعون الأوامر، فذلك مقال تكذبه الفعال.
الإيضاح
(كَلَّا) أي لم أبتل الإنسان بالغنى لكرامته عندى، ولم أبتله بالفقر لهوانه علىّ، فالكرامة والإهانة لا يدوران مع المال سعة وقلة، فقد أوسّع على الكافر لا لكرامته، وأضيّق على المؤمن لا لهوانه، وإنما أكرم المرء بطاعته، وأهينه بمعصيته، وقد أوسع على المرء بالمال لأختبره أيشكر أم يكفر؟ وأضيق عليه لأختبره أيصبر أم يضجر؟
ثم انتقل وترقى من ذمهم بقبيح الأقوال إلى النعي عليهم بقبيح الأفعال فقال:
(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي بل لكم أفعال وأحوال شر من أقوالكم تدل على تهالككم على المال، فقد يكرمكم الله بالمال الكثير فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم وبره والإحسان إليه وقد جاء فى الحديث الحث على ذلك،
فلقد قال صلى الله عليه وسلم: «أحب البيوت بيت فيه يتيم مكرم»
وورد أيضا: «أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة»
وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.
قال مقاتل: أنزلت الآية فى قدامة بن مظعون وكان يتيما فى حجر أمية ابن خلف.
(وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث بعضكم بعضا على إطعامه وإصلاح شأنه، وإذا لم تكرموا اليتيم ولم يوص بعضكم بعضا بإطعام المسكين فقد كذبت مزاعمكم فى أنكم قوم صالحون.
وإنما ذكر التحاضّ على الطعام ولم يكتف بالإطعام، فيقول ولم تطعموا(30/149)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
المسكين- ليبين أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يوصى بعضهم بعضا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع التزام كلّ بفعل ما يأمر به أو ينهى عنه.
ثم بين أن إهمالهم أمر اليتيم، وخلوّ قلبهم من الرحمة بالمسكين لم يكونا زهدا فى لذائذ الحياة وتخلصا من متاعبها، وعكوفا على شئون أنفسهم، بل جاء من محبتهم للمال فقال:
(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا) أي إنكم تأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منكم أكلا شديدا، فتحولون بينه وبين من يستحقه، وتجمعون بين نصيبكم منه ونصيب غيركم.
(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا، ميراثا كان أو غيره.
وخلاصة ذلك- أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة، لا نصرفتم عما يترك الموتى ميراثا لأيتامهم، ولكنكم تشاركونهم فيه، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه، ولا مدخل لكم فى تحصيله وجمعه، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة لما ضريت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه، من حلال أو من حرام.
فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من صلاح وإصلاح، وأنكم على ملة إبراهيم خليل الرحمن.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 26]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)(30/150)
شرح المفردات
الدكّ: حط المرتفع بالبسط والتسوية ومنه اندكّ سنام البعير إذا انغرس فى ظهره، دكا دكا: أي دكا بعد دك: أي كرّر عليها الدك وتتابع حتى صارت كالصخرة الملساء، صفا صفا: أي صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم فى الفضل، وجىء يومئذ بجهنم: أي كشفت للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم، وأنى له الذكرى؟ أي ومن أين له فائدة التذكر وقد فات الأوان، والوثاق: الشدّ والربط السلاسل والأغلال.
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم أقوالهم وادعاءهم أن الغنى إكرام لهم، وأن الفقر إهانة لهم، ونعى عليهم أفعالهم من حرصهم على الدنيا واستفراغ الجهد فى تحصيلها، وتكالبهم على جمعها من حلال وحرام- أردفه بيان أن ما يزعمونه من أنهم لربهم ذاكرون مع فراغ قلوبهم من الرأفة بالضعفاء وامتلائها بحب المال والميل إلى الشهوات- زعم لا حقيقة له، وإنما يتذكرون ربهم فى ذلك اليوم العظيم حين يشهدون الهول. ويعوزهم الحول، ويظهر لهم مكانهم من النكال والوبال، ولكن هذه الذكرى قد فات أوانها، وانتهى إبّانها، فإن الدار دار جزاء لا دار أعمال، فلا يبقى فيها لأولئك الخاسرين إلا الحسرة والندامة، وقول قائلهم: «لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» ويكون لهم من العذاب ما لا يقدر قدره، ومن الإهانة ما يحل عن التشبيه والتمثيل.
الإيضاح
(كَلَّا) زجر لهم وإنكار لأفوالهم وأفعالهم، أي لا ينبغى أن يكون هذا شأنهم فى الحرص على الدنيا من حيث تتهيأ لهم سواء كانت من حلال أو حرام، وكأنهم يتوهمون أن لا حساب ولا جزاء، وسيأتى يوم يندمون فيه أشد الندم،(30/151)
ولكن لا تنفعهم الندامة، ويتمنون لو كانوا أفنوا حياتهم فى التقرب إلى ربهم بصالح الأعمال.
ثم بين ذلك اليوم ووصفه بأوصاف ثلاثة فقال:
(1) (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا دكت الأرض دكا بعد دك، وتتابع عليها. ذلك حتى صارت كالصخرة الملساء، وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور.
(2) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي وتجلت لأهل الموقف السطوة الإلهية، كما تتجلى أبّهة الملك للأعين إذا جاء الملك فى جيوشه ومواكبه، ولله المثل الأعلى.
(3) (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي وكشفت جهنم للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم.
ونحو الآية قوله: «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» أي أظهرت حتى رآها الخلق وعاينوها، وليس المراد أنها نقلت من مكانها إلى مكان آخر.
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي حينئذ تذهب الغفلة، ويتذكر المرء ما كان قد فرّط فيه، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالا، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها.
ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة منها فقال:
(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي ومن أين لهذه الذكرى فائدة، أو ترجع إليه بعائدة وقد فات الأوان، وحمّ القضاء.
والخلاصة- إنه إذا حدثت هذه الأحداث انكشفت عن الإنسان الحجب، ووضح له ما كان عليه، وذهبت عنه الغفلة، وإذ ذاك يتمنى أن يعود ليعمل صالحا، ولكن أنى له ذلك؟
ثم بين تذكره بقوله:
(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنى أن يكون قد عمل صالحا ينفعه فى حياته الأخروية التي هى الحياة الحقيقية.(30/152)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ثم بين مآله وعاقبة أمره فقال:
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي فيومئذ لا يصاب أحد بعذاب مثل ذلك العذاب الذي يصيب ذلك الإنسان الذي أبطره الغنى فجحد نعمة الله عليه، أو أفسده الفقر حتى عثا فى الأرض فسادا، ولا يوثق أحد من الخلائق وثاقا مثل هذا الوثاق الذي يوثقه ذلك الإنسان.
ولا يخفى ما فى ذلك من تقوية الذكرى لمن له قلب يذكر، ووجدان يشعر.
[سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
شرح المفردات
المطمئنة. من الاطمئنان وهو الاستقرار والثبات، إلى ربك: أي إلى ثوابه وموقف كرامته، فى عبادى: أي فى زمرة عبادى المكرمين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال الإنسان الذي خلّى وطبعه، فاستولى عليه جشعه وحرصه على رغباته وشهواته، حتى خرجت عن سلطان الحكمة والعقل، ثم ذكر عاقبة أمره فى الآخرة- أعقب هذا بذكر حال الإنسان الذي ارتقى عن ذلك الطبع وسمت نفسه إلى مراتب الكمال، فاطمأن إلى معرفة خالقه، واستعلى برغائبه إلى المطامع الروحية، ورغب عن اللذات الجسمانية، فكان فى الغنى شاكرا لا يتناول إلا حقه، وفى الفقر صابرا لا يمد يده إلى ما لغيره، وبين أنه فى ذلك اليوم يكون بجوار ربه راضيا بعمله فى الدنيا، مرضيا عنده، يدخله فى زمرة الصالحين المكرمين من عباده.(30/153)
الإيضاح
(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي يا أيتها النفس التي قد استيقنت الحق، فلا يخالجها شك، ووقفت عند حدود الشرع، فلا تزعزعها الشهوات، ولا تضطرب بها الرغبات.
(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) أي ارجعي إلى محل الكرامة بجوار ربك، راضية عما عملت فى الدنيا، مرضيا عنك، إذ لم تكونى ساخطة لا فى الغنى ولا فى الفقر، ولم تتجاوزى حدود الشرع فيما لك من حق وما عليك من واجب.
ثم ذكر جميل عاقبتها فقال:
(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي فادخلى فى زمرة عبادى المكرمين، وانتظمى فى سلكهم، وكونى فى جملتهم، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة، يشرق بعضها على بعض، وكأنها تربّى فى هذه الدنيا بالآلام وتزين بالمعارف والعلوم، حتى إذا فارقت الأبدان جعلت فى أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودة، وحسن صلة ومحبة.
(وَادْخُلِي جَنَّتِي) فتمتعى فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
اللهم اجعلنا من النفوس المطمئنة، الراضية المرضية، وأدخلنا فى جنتك مع المتقين، من الأنبياء والشهداء والصالحين، والحمد لله رب العالمين.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة:
(1) القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.
(2) ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.(30/154)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
(3) كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.
(4) وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.
(5) تمنى الأشقياء العودة إلى الدنيا.
(6) كرامة النفوس الراضية المرضية، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها.
سورة البلد
هى مكية، وآياتها عشرون، نزلت بعد سورة ق.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) أنه ذم فى الأولى من أحب المال وأكل التراث ولم يحضّ على طعام المسكين، وذكر هنا الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، والإطعام فى يوم المسبغة.
(2) ذكر هناك حال النفس المطمئنة، وذكر هنا ما يكون به الاطمئنان.
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
شرح المفردات
البلد: مكة، حلّ: أي حالّ مقيم فيه، ووالد وما ولد: أي وأىّ والد وأىّ مولود من الإنسان والحيوان والنبات، والكبد: المشقة والتعب، قال لبيد يرثى أخاه أربد:
يا عين هل رأيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم فى كبد(30/155)
الإيضاح
(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدّم أن قلنا إن مثل هذا التعبير قسم مؤكد فى كلام العرب، وقد أقسم ربنا بمكة التي شرفها فجعلها حرما آمنا، وجعل فيها البيت الحرام مثابة للناس يرجعون إليه ويعاودون زيارته كلما دعاهم إليه الشوق، وجعل فيه الكعبة قبلة لأهل المشرق والمغرب، وأمر بالتوجه إليها فى الصلوات التي تكرر كل يوم فقال: «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» .
(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت مقيم بهذا البلد حالّ فيه، وكأنه سبحانه جعل من أسباب شرف مكة وعظمتها كونه صلى الله عليه وسلم مقيما فيه، ولا شك أن الأمكنة تشرف بشرف ساكنيها، والنازلين بها.
وأتى بهذه الجملة ليفيد أن مكة جليلة القدر فى كل حال حتى فى الحال التي لم يراع أهلها فى معاملتك تلك الحرمة التي خصها الله بها.
وفى هذا إيقاظ وتنبيه لهم من غفلتهم، وتقريع على حط منزلة بلدهم.
(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي وكل والد وكل مولود من الإنسان وغيره.
وفى القسم بهذا لفت لأنظارنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد، وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه كل من الوالد والمولود فى إبداء النشء، وتبليغ الناشئ وإبلاغه حده من النمو المقدّر له.
انظر إلى البذرة فى أطوار نموها، كم تعانى من اختلاف الأجواء، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، وتستعد لأن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها، وتزين الوجود بجمال منظرها.
وأمر الإنسان والحيوان فى ذلك أعجب وأعظم، والتعب والعناء الذي يلاقيا كل منهما فى سبيل حفظ نوعه، واستبقاء جمال الكون بوجوده أشد وأكبر.(30/156)
ثم ذكر المحلوف عليه فقال:
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد، مبتدئة بالمشقة، منتهية بها فهو لا يزال يقاسى من ضروبها ما يقاسى منذ نشأته فى بطن أمه إلى أن يصير رجلا، وكلما كبر ازدادت أتعابه وآلامه، فهو يحتاج إلى تحصيل أرزاقه وتربية أولاده، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل، ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود. ثم بعد هذا كله يمرض ويموت، ويلاقى فى قبره وفى آخرته من المشاقّ والمتاعب، ما لا يقدر عليه إلا يتيسير الله سبحانه.
والسر فى التنبيه إلى أن الإنسان قد خلق فى عناء- الرغبة فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاقّ، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان.
إلى ما فيه من تنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة فى أنفسهم، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران، وكأنه يقول لهم: لا تتمادوا فى غروركم، ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم، فإن الإنسان لا يخلو من العناء فى تصريف شئونه وشئون ذويه، ومهما عظمت منزلته، وقويت شكيمته. فهو لا يستطيع الخلاص من مشاقّ الحياة.
وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد، ليشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودا عظيما يكون إكليلا لمجد النوع الإنسانى وشرفه، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد فى تربية ولده، والمولود فى بلوغ الغاية فى سبيل نموه إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون.(30/157)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
[سورة البلد (90) : الآيات 5 الى 10]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
شرح المفردات
أيحسب: أي أيظن، أهلكت: أي أنفقت، لبدا: أي كثيرا، والنجد:
الطريق المرتفعة والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر.
المعنى الجملي
بعد ذكر أنه لا ينبغى للمفتونين بقوة أبدانهم، المغرورين بواسع جاههم، أن يتمادوا فى صلفهم وكبريائهم- شرع يوبخهم على الاغترار بقوتهم الزائلة ويذكرهم بما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة الحسية والعقلية.
روى أن قوله: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» ؟ نزل فى أبى الأشد أسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترا بقوته البدنية وأن قوله: «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» نزل فى الحرث بن نوفل وكان يقول: أهلكت مالا لبدا فى الكفارات منذ أطعت محمدا.
وسواء أكانت هذه الآيات نزلت فى هؤلاء أم فى غيرهم فإن معناها عام كما علمت.
الإيضاح
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟) أي أيظن ذلك المغترّ بقوته، المفتون بما أنعمنا به عليه- أنه مهما عظمت حاله، وقوى سلطانه، يبلغ منزلة لا يقدر عليه فيها(30/158)
أحد؟ ما أجهله إذا ظن ذلك، فإن فى الوجود قوة جميع القوى هى المهيمنة على كل قوة، والمسيطرة على كل قدرة، وهى القوّة التي أبدعته، والقدرة التي أنشأته.
ثم ذكر صنفا آخر من الأغنياء البخلاء المرائين فقال:
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) أي إنهم إذا طلب إليهم أن يعملوا عملا من أعمال البر قالوا: إننا ننفق الكثير من أموالنا فى المفاخر والمكارم، ولم يعلموا أن المكرمة ما عدّه الله مكرمة، والبرّ ما اعتبره الله برا، فليس من البر إنفاقهم المال فى مشاقة الله ورسوله، ولا إنفاقهم طائل الأموال فى الصدّ عن سبيل الله، والكيد للذين آمنوا بالله ورسوله.
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي أيظن ذلك المغتر بماله، المدعى أنه أنفقه فى سبيل الخير- أن الله لم يطلع على أفعاله ولم يعلم ما دعاه إلى الإنفاق؟ إنه لا ينبغى له أن يظن ذلك، فإن البارئ له مطلع على قرارة نفسه، عالم بخبيئات قلبه، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، عليم بأنه لم ينفق شيئا من ماله فى سبيل الخير المشروع والبر المحمود، وإنما أنفق ما أنفق للرياء والسمعة، أو لمشاقة الله ورسوله، أو فى وجوه أخرى يظنها خيرا وهى خسران وضلال مبين.
وبعد أن أنكر على هؤلاء اغترارهم بقوتهم وكثرة أموالهم- شرع يذكر آثار قدرته الغالبة، ليبين لهم أن هناك قوة لها من الآثار ما هم يشاهدون فقال:
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) فهو إذا أبصر شيئا فإنما يكون ذلك بما خلقنا له من العينين، فهذه النعمة التي يعتز بها إنما هى من عملنا.
(وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) فإذا أبان عما فى نفسه، فإنما يبين بما وهبنا له من لدنا من تلك الجارحة التي يتكلم بها، فإذا غرّه حديثه، أو قوة حجته، فليس فضل ذلك راجعا إليه، وإنما الفضل لمن وهبه ذلك.(30/159)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي وأودعنا فى فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر، وجعلنا له من العقل والفكر ما يكون مذكرا ومنبها، ونصبنا له الدلائل على حسن الخير وأرشدناه إلى ما فى الشر من هنوات وعيوب، ثم أقدرناه على أن يسلك أىّ الطريقين شاء، بعد أن آتيناه قوة التمييز، والقدرة على الاختيار والترجيح، ليسلك الطريق التي أراد منهما.
فليكن نجد الخير أحبّ إلى أحدكم من نجد الشر فمن نازعته نفسه واتجهت إلى نجد الشر فليقمعها بالنظر فى آيات الله، والتدبر فى دلائله، ليعلم أن ذلك الطريق مظلم معوجّ يهوى بصاحبه إلى طريق الردى، ويوقعه فى المهالك.
وإنما سماهما الله نجدين، للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار، وإلى أن فى كل منهما وعورة يشق معها السلوك، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها.
وفى ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية وتوصّل إلى الغاية.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(30/160)
شرح المفردات
اقتحم الشيء: دخل فيه بشدة، والعقبة: الطريق الوعرة فى الجبل يصعب سلوكها، والمراد بها مجاهدة الإنسان نفسه وهواه ومن يسوّل له فعل الشر من شياطين الإنس والجن، وفك الرقبة: عتقها أو المعاونة عليه، والمسبغة: الجوع، يقال سغب الرجل يسغب إذا جاع، والمقربة: القرابة فى النسب، تقول فلان من ذوى قرابتى ومن أهل مقربتى إذا كان قريبك نسبا، والمتربة: الفقر، تقول ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب، تواصوا بالصبر: أي نصح بعضهم بعضا به، والميمنة: طريق النجاة والسعادة، والمشأمة: طريق الشقاء، مؤصدة: أي مطبقة عليهم من آصدت الباب، أي أغلقته، قال:
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ... ومن دونها أبواب صنعاء موصده
المعنى الجملي
بعد أن وبخ سبحانه هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة، وحبّا فى الأحدوثة، وأنّبهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلوّ بواطنهم من حسن النية، وبين لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر، والنفع والضر هو منه سبحانه، وهو القادر على سلبه منهم- أردفه بيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم، ويختاروا طريق الخير، ويرجحوا سبيل السعادة، فيفيضوا على الناس بشىء مما أفاض به عليهم، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم لضعفهم وعجزهم، ثم هم مع ذلك يكونون صحيحى الإيمان، صبورين على أذى الناس، وعلى ما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدعوة إلى الحق، رحماء بعباده، مواسين لهم حين الشدائد.(30/161)
هذه هى الطريق التي كان من حق العقل أن يرشد إليها، لكن الإنسان قد خدعه غروره فلم يقتحم هذه العقبة، ولم يسلك هذه السبيل القويمة، ولم يسر فيما يرشد إليه العقل السليم.
الإيضاح
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فهلا جاهد النفس والشيطان وعمل أعمال البر، وقد ضرب الله العقبة مثلا لهذا الجهاد، لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هى فعل الخيرات.
ثم فخم شأن العقبة وعظم أمرها فقال:
(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي وأىّ شىء أعلمك ما اقتحام العقبة؟
ثم أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير منها:
(1) (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي عتق الرقبة أو الإعانة عليها، وقد ورد فى الكتاب الكريم والسنة الترغيب فى العتق والحث عليه.
روى البراء بن عازب رضى الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلّنى على عمل يدخلنى الجنة، قال: عتق النسمة وفك الرقبة، قال: يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال لا: عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها» .
والكلام بتقدير مضاف: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة، فك رقبة، لأن فك الرقبة ليس هو العقبة نفسها، وإنما هو اقتحامها لأنه سبب موصل إلى مجاوزة العقبة والوصول إلى عالم الأنوار.
(2) (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي أو إطعام يتيم من أقاربه فى أيام الجوع والعوز.(30/162)
وفى هذا جمع بين حقين: حق اليتيم وحق القرابة.
(3) (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي أو إطعام المسكين الذي لا وسيلة له إلى كسب المال لضعفه وعجزه.
(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي ثم كان مع اقتحامه العقبة من صادق الإيمان الذين يصبرون على الأذى وما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدفاع عن الحق، ويرحمون عباد الله ويواسونهم ويساعدونهم حين البأساء.
وإنما اشترط الإيمان مع فعل هذه المبارّ، لأن من فعلها دون أن يكون مؤمنا لم ينتفع بها، ولم يكن له ثواب عليها، إذ لا ينفع مع الكفر برّ.
ثم بيّن مآل فاعلى هذه المبرات فقال:
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أولئك الذين اقتحموا العقبة ففكوا الرقاب، وأطعموا المساكين، وواسوا ذوى القربى فى يوم المسغبة هم السعداء الممتعون بجنات النعيم، وهم الذين عناهم الله بقوله: «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» .
ثم ذكر مقابل هؤلاء وهم الذين صدوا عن سبيل الله، وتواصوا بالإثم وتواصوا بالعدوان ومعصية الرسول فقال:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي والذين جحدوا آياتنا الكونية وآياتنا السمعية التي جاءت على ألسنة الرسل كالقرآن وغيره من الكتب السماوية هم أصحاب المشأمة، أي أهل الشمال الذين وصفهم الله بقوله: «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ(30/163)
كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» .
(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي عليهم نار تطبق عليهم فلا يستطيعون الفكاك منها ولا الخلاص من عذابها. نجانا الله منها بمنه وكرمه، وجعلنا من أصحاب الميمنة.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على خمسة مقاصد:
(1) ما ابتلى به الإنسان فى الدنيا من النصب والتعب.
(2) اغترار الإنسان بقوته.
(3) نكران النعم التي أنعم الله بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر (4) سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.
(5) كفران الآيات سبيل الشقاء.(30/164)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة الشمس
هى مكية، وآياتها خمس عشرة، نزلت بعد سورة القدر.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) أنه سبحانه ختم السورة السابقة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، وأعاد ذكر الفريقين فى هذه السورة بقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .
(2) ختم السورة السالفة بشىء من أحوال الكفار فى الآخرة، وختم هذه بشىء من أحوالهم فى الدنيا.
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
شرح المفردات
ضحى الشمس: ضوؤها، تلاها: أي تبعها، يقال تلا فلان فلانا يتلوه إذا تبعه، وجلاها: أي كشف الشمس وأتمّ وضوحها، يغشاها: أي يزيل ضوءها ويحجبه، والسماء: كل ما ارتفع فوق رأسك، والمراد به هذا الكون الذي فوقك وفيه الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تجرى فى مجاريها، بناها: أي رفعها، وجعل كل(30/165)
كوكب من الكواكب بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة تحيط بك، وطحا الأرض بسطها وجعلها فراشا، سوّاها: أي ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها، ألهمها: عرّفها ومكّنها، والفجور: ما يكون سببا فى الخسران والهلكة، والتقوى: إتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة، أفلح: أي أصاب الفلاح، وهو إدراك المطلوب، وزكاها: أي طهرها من أدناس الذنوب، وخاب:
أي خسر، ودسّاها: أي أنقصها وأخفاها بالذنوب والمعاصي قال:
ودسست عمرا فى التراب فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيّعا
الإيضاح
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أقسم سبحانه بالشمس نفسها غابت أو ظهرت، لأنها خلق عظيم على قدرة مبدعها، وأقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة فى كل حى، فلولاها ما أبصرت حيّا ولا رأيت ناميا، ولولاها ما وجد الضياء ولا انتشر النور، وإذا أرسلت خيوطها الذهبية على مكان فرّ منه السقم، وولت جيوش الأمراض هاربة، لأنها تفتك بها فتكا ذريعا.
(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي والقمر إذا تلا الشمس فى الليالى البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضىء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر.
وهذا قسم بالضوء فى طور آخر، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.
وقد يكون المراد- بتلاها أي تبعها فى كل وقت، لأن نوره مستمد من نور الشمس فهو لذلك يتبعها، وقد قال بهذا الفرّاء قديما وأثبته علماء الفلك حديثا.
(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي والنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها وأتمّ وضوحها، إذ كلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أكمل وضوحا.(30/166)
وأقسم بهذه المخلوقات، للإشارة إلى تعظيم أمر الضوء وإعظام أمر النعمة فيه، وفيه لفت لأذهاننا إلى أنه آية من آيات ربنا الكبرى، ونعمة من نعمه العظمى.
وفى قوله: جلاها بيان للحال التي يكشف فيها النهار تلك الحكمة البالغة، والآية الباهرة.
وبعد أن أقسم بالضياء فى أطوار مختلفة أقسم بالليل فى حال واحدة فقال:
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي والليل إذا يغشى الشمس فيزيل ضوءها فى الليالى الحالكة التي لا أثر لضوء الشمس فيها، لا مباشرة كما فى النهار، ولا بالواسطة كضوء القمر المستفاد منها، وهى قليلة فإنها ليلة أو ليلتان أو بعض ليال فى الشهر.
وفى هذا إيماء إلى أن الليل يطرأ على هذا الكواكب العظيم فيذهب ضوءه، ويحيل نور العالم ظلاما فهو على جليل نفعه وعظيم فائدته، لا يتخذ إلها لأن الإله لا يحول ولا يزول، ولا يعتريه تغير ولا أفول.
وفيه ردع وتأنيب للمشركين على تأليهه وعبادته.
وبعد أن ذكر الأوصاف الدالة على عظمة هذه الأجرام- أردفه ذكر صفات تدل على حدوثها فقال:
(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي والسماء ومن قدّرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته.
وفى ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة، وأن لها صانعا حكيما قد أحكم وضعها وأجاد تقديرها، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها حتى يتماسك.
ولما كان الخطاب موجها إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينظروا فى هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرا، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى- عبر عن نفسه بلفظ (ما) التي هى الغاية فى الإبهام.(30/167)
(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي والأرض والذي بسطها ومهدها للسكنى، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان، وبما فى باطنها من مختلف المعادن.
ونحو الآية قوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً» .
وقصارى ما سلف- إنه بعد أن أقسم سبحانه بالضياء والظلمة، أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب، وبالذي بناها وجعلها مصدرا للضياء، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشا ومصدرا للظلمة، فإنها هى التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر فيظهر فيه الظلام.
ثم أقسم بعد هذا بالنفس الإنسانية لما لها من شرف فى هذا الوجود فقال:
(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي قسما بالنفس ومن سواها وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها، وألف لها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى.
ثم بين أثر هذه التسوية فقال:
(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي فألهم كل نفس الفجور والتقوى وعرفها حالهما، بحيث تميز الرشد من الغىّ، ويتبين لها الهدى من الضلال، وجعل ذلك معروفا لأولى البصائر.
وبعد أن ذكر أنه ألهم النفوس معرفة الخير والشر ذكر ما تلقاه جزاء على كل منهما فقال:
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي قد ربح وفاز من زكى نفسه ونمّاها حتى بلغت غاية ما هى مستعدة له من الكمال العقلي والعملي، حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها.
(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي وخسر نفسه وأوقعها فى التهلكة من نقصها حقها بفعل المعاصي ومجانبة البر والقربات، فإن من سلك سبيل الشر، وطاوع داعى(30/168)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
الشهوة فقد فعل ما تفعل البهائم، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان، واندرج فى عداد الحيوان.
ولا شك أنه لا خيبة أعظم، ولا خسران أكبر من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله.
والمحلوف عليه الذي افتتحت به السورة- محذوف للعلم به من نظائره، وكأنه قيل: «وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... » لينزلنّ بالمكذبين منكم مثل ما نزل بثمود إذ كذبت نبيّها فأصابها العذاب، ودليل ذلك قوله بعد: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» الآيات، فإنها ترشد إلى أن الله يعاقب من يكذب رسله، نحو ما سبق فى سورة البروج.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
شرح المفردات
الطّغوى والطغيان: مجاوزة الحد المعتاد، انبعث: أي قام بعقر الناقة، أشقاها:
أي أشقى ثمود وهو قدار بن سالف، رسول الله: هو صالح عليه السلام، ناقة الله، أي احذروا التعرض لناقة الله، وسقياها: أي شربها الذي اختصها به فى يومها، فعقروها: أي فنحروها، فدمدم: أي فأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدم عليه القبر: أي أطبقه عليه، فسواها: أي فسوى القبيلة فى العقوبة فلم يفلت منها أحد، عقباها: أي عاقبة الدمدمة وتبعتها.(30/169)
المعنى الجملي
جرت عادة القرآن أن يذكر بعض أخبار الأمم السابقة وما كان منهم مع رسلهم وما قابلوه به من التكذيب والإيذاء، ثم يذكر ما جرت به سنته سبحانه من الإيقاع بالمكذبين، وأخذهم بظلمهم وبما عملوا مع أنبيائهم، ليكون فى ذلك سلوة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يلق إلا ما لقى إخوانه الأنبياء، ولم يكابد من قومه إلا مثل ما كابدوا، وليكون فى ذلك تخويف لأولئك المكذبين الذين يعاندون رسول الله ويلحفون فى تكذيبه، بأنهم إذا استمروا على ذلك حاق بهم مثل ما حاق بالأمم السالفة ونالوا من الجزاء مثل ما نالوا.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي كذبت ثمود نبيّها صالحا بسبب طغيانها وبغيها.
ثم بين أمارة ذلك التكذيب فقال:
(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كان انطلاق الأشقى لعقر الناقة والقوم راضون عنه علامة ظاهرة على تكذيبهم لنبيهم الذي جعلها دليل نبوته، وبرهانا على صدق رسالته، وأوعدهم إذا هم تعرضوا لها، وسكوت قومه على ما يفعل دليل رضاهم عن فعله، فكانوا مكذبين مثله.
ثم ذكر ما توعدهم به الرسول على فعلهم فقال:
(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها) أي فقال لهم صالح: احذروا ناقة الله التي جعلها آية نبوّتى، واحذروا شربها الذي اختصّت به فى يومها، فلا تؤذوها ولا تتعدوا عليها فى شربها ولا فى يوم شربها، وكان صالح عليه السلام قد اتفق معهم على أن للناقة شرب يوم، ولهم ولمواشيهم شرب يوم، فكانوا يجدون فى أنفسهم حرجا لذلك ويتضررون منه، فهمّوا بقتلها فحذّرهم أن يفعلوا ذلك،(30/170)
وخوّفهم عذاب الله وعقابه الذي ينزله بهم إن هم أقدموا على هذا الفعل، لكنهم كذبوه ولم يستمعوا لنصحه كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) أي إنهم لم يتورّعوا عن تكذيبه، ولم يحجموا عن عقر الناقة، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العذاب وأليم العقاب.
وقد تقدم أن قلنا: إنهم لما رضوا بهذا الفعل نسب إليهم جميعا، وكأنهم صنعوه معه.
ثم بين عاقبة عملهم وذكر ما يستحقونه من الجزاء فقال:
(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي فأطبق عليهم العذاب، وأهلكهم هلاك استئصال ولم يبق منهم ديّارا ولا نافخ نار، كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَسَوَّاها) أي فسوّى القبيلة فى العقوبة ولم يفلت منها أحد، بل أخذ بها كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ» .
وقد يكون المعنى- جعل الأرض فوقهم مستوية كأن لم تثر، ودمّر مساكنها على ساكنيها.
(وَلا يَخافُ عُقْباها) أي إن الله أهلكهم ولا يخاف عاقبة إهلاكهم، لأنه لم يظلمهم فيخيفه الحق، وليس هو بالضعيف حتى يناله منهم مكروه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
والمراد أنه بالغ فى عذابهم إلى غاية ليس فوقها غاية، فإن من يخاف العاقبة لا يبالغ فى الفعل، أما الذي لا يخاف العاقبة ولا تبعة العمل فإنه يبالغ فيه ليصل إلى ما يريد.
وقد علمت أن القصص مسوق لتسلية رسوله بأنه سينزل بالمكذبين به مثل ما أنزل بثمود، ولقد صدق الله وعده، فأهلك من أهلك من أهل مكة فى وقعة(30/171)
بدر بأيدى المؤمنين، ثم لم يزل يحل بهم الخزي والعذاب بالقتل تارة وبالإبعاد أخرى حتى لم يبق فى جزيرة العرب مكذّب، ولو سارت الدعوة إلى الإسلام سيرتها فى عهد الصحابة لما بقي فى الأرض مكذب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
(1) الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة فقد أفلح وفاز، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه فقد خاب.
(2) ذكر ثمود مثلا لمن دسى نفسه فاستحق عقاب الله الذي هو له أهل.(30/172)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
سورة الليل
هى مكية، وآياتها إحدى وعشرون، نزلت بعد سورة الأعلى.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم وخيبة المدسّين لها وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح وما تحصل فيه الخيبة، فهى كالتفصيل لسابقتها.
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
شرح المفردات
يغشى: أي يغطى كل شىء فيواريه بظلامه، تجلى: أي ظهر وانكشف بظهوره كل شىء، وما خلق: أي والذي خلق، وشتى: واحدها شتيت، وهو المتباعد بعضه من بعض.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بما أقسم بأن سعى البشر مختلف، فأقسم:
(1) بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مستقره، ويسكن عن الاضطراب إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه.
(2) بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم، وفيه تغدو الطير من أو كارها وتخرج الهوامّ من أجحارها.
(3) بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى وميّز بين الجنسين مع أن المادة(30/173)
التي تكوّنا منها واحدة، والمحل الذي تكوّنا فيه واحد، وفى ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة كما قال: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» .
الإيضاح
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي قسما بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها فى ظلامه، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم، بما يشملهم من النوم والهدوء.
(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) بزوال ظلمة الليل، فيتحرك الإنسان والحيوان، طلبا لمعاشهما، وبهذا يظهر وجه المصلحة فى اختلافهما، إذا لو كان الدهر كله ليلا لتعذر المعاش على الناس، ولو كان كله نهارا لبطلت المصلحة، فكان فى تعاقبهما آية بالغة يستدل بها على علم الصانع وحكمته، اقرأ إن شئت قوله: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» .
(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي قسما بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد.
وفى هذا دليل على أنه عليم جدّ العلم بدقائق المادة وما فيها، إذ لا يعقل أن يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى فى الحيوان بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، فإن الأجزاء الأصلية فى المادة متساوية النسبة فيهما، فحدوث هذا التخالف فى الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع ويضع.
وقصارى ما سلف- إن بعض الماء يكون تارة سببا للحمل، وأخرى يكون غير مستعدّ للتلقيح، والأول يكون من بعضه الذكران، ومن بعضه الإناث.
سبحانه ما أعظم قدرته، وأجلّ حكمته، لا إله إلا هو الفعال لما يريد.(30/174)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
ثم ذكر المحلوف عليه فقال:
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن أعمالكم أيها الناس لمتباعدة متفرقة، بعضها ضلال وعماية، وبعضها هدى ونور، وبعضها يستحق النعيم، وبعضها يستحق العذاب الأليم كما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
وقال: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» .
[سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
شرح المفردات
أعطى: أي بذل ماله، واتقى: أي ابتعد عن الشر وإيصال الأذى إلى الناس، بالحسنى: أي بالخصلة الحسنى التي هى أفضل من غيرها، لليسرى: أي للخصلة التي تؤدى إلى يسر وراحة بتمتعه بالنعيم، استغنى: أي عدّ نفسه غنيا عما عند الناس بما لديه من مال، فلا يجد فى قلبه راحة لضعفائهم ببذل المال والمعونة لهم، بالحسنى:
أي بالفضيلة وبأنها ركن من أركان الاجتماع، للعسرى: أي الخصلة التي تؤديه إلى العسر، ويقال تردى فلان من الجبل إذا هوى من أعلاه وسقط إلى أسفله.
المعنى الجملي
بعد أن أشار إلى اختلاف أعمال الناس فى أنواعها وصفاتها، والجزاء الذي يعود على فاعلها- أخذ يفصل هذا الاختلاف، ويبين عاقبة كل عمل منها.(30/175)
الإيضاح
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي فأما من أعطى المال وأنفقه فى وجوه الخير، سواء كان واجبا عليه أم لا كالصدقات والنوافل كفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم، وابتعد عن كل ما لا ينبغى، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس.
(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب، ونحو ذلك مما هو مركوز فى طبيعة الإنسان، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير.
ولا يكون تصديقا حقا، ولا ينظر الله إليه إلا إذا صدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه وهو بذل المال، واتقاء مفاسد الأعمال.
وكثير من الناس يظن نفسه مصدّقا بفضل الخير على الشر ولكن هذا التصديق يكون سرابا فى النفس، خيّله الوهم، لأنه لا يصدر عنه ما يليق به من الأثر، فتراه قاسى القلب، بعيدا عن الحق، بخيلا فى الخير، مسرفا فى الشر.
ثم ذكر جزاءه على ذلك فقال:
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما فى أصل الفطرة، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه سعادتها فالإنسان إنما يمتاز عن غيره من الحيوان بالتفكير فى الأعمال ووزنها بنتائجها.
فإذا حصل ذلك وظهرت آثاره فيها سهل الله له ما هو مسوق إليه بأصل فطرته.
وفاعل الخير للخير يجد أريحيّة فى نفسه، ويذوق لذة لا تعد لها لذة، فتزيد فيه رغبته، وتشتد لفعله عزيمته وهذا هو التيسير الإلهى الذي يوفق الله له الصالحين من عباده.
(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي وأما من أمسك ماله أو أنفقه فى شهواته، ولم ينفقه فيما يقرب من ربه، وخدعته ثروته وجاهه، فظن أنه بذلك لا يحتاج إلى أحد ولا يحس(30/176)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
بأنه واحد من الناس يصيبه ما أصابهم من السوء.
(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي وكذب بأن الله يخلف على المنفقين فى سبيله، فبخل بماله ولم ينفق إلا فيما يلذ له ويمتّعه فى حاضره ولا يبالى بما عدا ذلك.
ويدخل فى المكذبين بالحسنى أولئك الذين يتكلمون بها تقليدا لغيرهم، ولا يظهر أثرها فى أعمالهم.
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي ومن مرنت نفسه على الشر وتعودت الخبث فيسهل الله له الخطة العسرى، وهى الخطة التي يحط بها قدر نفسه، وينزل بها إلى حضيض الآثام ويغمسها فى أوحال الخطيئة.
(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وإذا يسرناه للعسرى فأى شىء يغنى عنه ماله الذي بخل به على الناس ولم ينفقه فى المصالح العامة، وفيما يعود نفعه على الجماعة، ولم يصحب منه شيئا إلى آخرته التي هى موضع حاجته وفقره كما قال: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» .
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
شرح المفردات
تلظى: أصله تتلظى، أي تتوقد وتلتهب، يقال: تلظت النار تلظيا بمعنى التهبت التهابا ومنه سميت النار لظى، يصلاها: أي يحترق بها، كذب: أي كذب(30/177)
الرسول فيما جاء به عن ربه، وتولى: أي أعرض عن طاعة ربه، وسيجنبها: أي يبعد عنها ويصير منها على جانب، والأتقى: المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي: الشديد التحرز منهما، يتزكى: أي يتطهر، تجزى: أي تجازى وتكافأ، ابتغاء وجه ربه:
أن طلب مثوبته.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن سعى الخلائق مختلف فى نفسه وعاقبته، وأرشد إلى أن المحسن فى عمله يوفقه الله إلى أعمال البر، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان- أردفه أنه قد أعذر إلى عباده بتقديم البيان الذي تنكشف معه أعمال الخير والشر جميعا، ووضح السبيل أمام كل سالك، فإن شاء سلك سبيل الخير فسلم وسعد، وإن أراد ذهب فى طريق الشر فتردّى فى الهاوية.
روى أن الآيات نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه. وقد كان من أمره أن بلال ابن رباح عليه الرضوان، وكان مولى لعبد الله بن جدعان- جاء إلى الأصنام وسلح عليها، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم، ووهب لهم مائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء، وكان يقول وهم يعذبونه: أحد أحد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب فيقول له: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه بما يلقى بلال فى الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب وابتاعه من المشركين وأعتقه، فقال المشركون:
ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله:
«وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» الآيات.
الإيضاح
(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي إنا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ثم بعثنا له الكملة من أفراده، وهم الأنبياء وشرعنا لهم الأحكام(30/178)
وبينا لهم العقائد تعليما وإرشادا، ثم هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين: سبيل الخير والفلاح، والسبيل المعوجّ فيتردّى فى الهاوية.
وقصارى ذلك- إن الإنسان خلق نوعا ممتازا عن سائر الحيوان بما أوتيه من العقل، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد.
ثم زاد الأمر توكيدا فأبان عظيم قدرته فقال:
(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي وإنا لنحن المالكون لكل ما فى الدنيا وكل ما فى الآخرة، فنهب ما نشاء لمن نريد، ولا يضيرنا أن يترك بعض عبادنا الاعتداء بهدينا الذي بيّناه لهم، ولا يزيد فى ملكنا اهتداء من اهتدى منهم، لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما ربك بظلام للعبيد.
وإذا كان ملك الحياتين لله كان هديه هو الذي يجب اتباعه فيهما، لأن المالك لأمر عالم بوجوه التصرف فيه.
ثم بين سبيل الهداية الذي أوجبه على نفسه فقال:
(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى، فأنذرناكم نارا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من الآيات، وأعرض عن اتباع شرائعه، وانصرف عن وجهة الحق ولم يعد إليها تائبا نادما.
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيبعد عنها المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي، الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما له ببال.
ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه فقال:
(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي إن الأتقى هو الذي ينفق أمواله فى وجوه البر، طالبا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه، لا مريدا بذلك رياء ولا سمعة ولا طالبا مديح الناس له، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل، ولا يكون(30/179)
لصاحبه عليه ثواب مهما أتعب نفسه وأجهدها، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه.
وقد أكد هذا بقوله:
(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها، ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه.
ثم أكده مرة ثانية فقال:
(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي لكنه يفعل ذلك قاصدا رضا ربه طالبا مثوبته وحده، تقول: فعلت كذا أبتغى وجه فلان، أي لم يحملنى على الفعل إلا إجلاله وقصد مرضاته، وخيفة الوقوع فيما يغضبه.
ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه فقال:
(وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يرضيه ربه فى الآخرة بثوابه وعظيم جزائه.
وفى قوله: (وَلَسَوْفَ) إيماء إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفى القليل من المال، لأن يبلغ العبد منزلة الرضا الإلهى.
وقصارى ما سلف: إن الناس أصناف:
(1) الأبرار الذين منحهم الله من قوة العقل وصفاء اليقين ما يجعلهم يبتعدون عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(2) الذين يلون هؤلاء، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانا فيقعون فى الذنب، ثم يثوب إليهم رشدهم فيتوبون ويندمون، وهذان القسمان يدخلان فى (الْأَتْقَى) .
(3) من يخلط بين الخير والشر فيعتقد وحدانية الله ويقترف بعض السيئات، ويصرّ عليها ولا يتوب منها، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدّق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد.
يرشد إلى ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»
والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن(30/180)
ذهن المخالف وتوجد عنده ضروب أخرى من الصور تقاوم أثر هذه فى النفس وتغلب عليها.
(4) الكافرون الجاحدون بالله وبرسله وبما أنزل عليهم، وهذان القسمان يشملهما (الْأَشْقَى) وقد أعدت النار لكل منهما، إلا أن الفاسقين لا يخلدون فيها، ويدخلها الكافرون وهم فيها خالدون.
اللهم ابعدنا عن هذه النار التي تتلظى، وأدخلنا فسيح جناتك.
مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان:
(1) فريق يهيئه الله للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها، وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على من أنفقوا.
(2) فريق يهيئه الله للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات، وأنكروا ما وعد الله به من ثواب الجنة.
(ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما، وإما نارا وعذابا أليما.(30/181)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
سورة الضحى
هى مكية، وآياتها إحدى عشرة، نزلت بعد سورة الفجر.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السابقة «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» ولما كان سيد الأتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ذلك سبحانه بذكر نعمه عزّ وجل عليه.
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
شرح المفردات
الضحى: صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقى أشعتها على هذا الكون، وسجى: أي سكن والمراد سكن الأحياء فيه وانقطعوا عن الحركة، ما ودعك ربك: أي ما تركك، وما قلى: أي وما قلاك وما أبغضك، والقلى: شدة الكره والبغض.
المعنى الجملي
أجمع الرواة على أن سبب نزول هذه السورة حدوث فترة فى نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا إلى الجبال ليتردّى من شواهقها، وأنه ما كان يمنعه إلا تمثل الملك له وإخباره إياه أنه رسول الله حقّا.
وإنما حزن لهذه الفترة خيفة أن يكون ذلك من غضب أو قلى من ربه له، بعد أن ذاق حلاوة الاتصال به، وشاهد من جمال الأنس بالوحى ما يثير لواعج(30/182)
شوقه إلى التزوّد منه، وقد كان يعلم أنه بشر، لا فضل له على غيره إلا بهذا القرب الذي يعلو به على من عداه، وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على تكميل نفسه وإعدادها لتحمل ما هى بسبيله من أعباء الرسالة.
لا جرم يكون حزنه لهذه الفترة شديدا، وأن يتوجس منه خيفة، ولا عجب أن يدعوه ذلك إلى التفكير فيما كان يفكر فيه، وأن يهمّ بتنفيذه.
ومن ثم نزلت هذه السورة حاملة له أجمل البشرى، ملقية فى نفسه الطمأنينة، معدّدة ما أنعم الله به عليه، وكأنه تعالى يقول لرسوله: إن من أنعم عليك بكذا وكذا لم يكن ليتركك ولا ينساك بعد أن هيأك لحمل أمانته، وأعدّك للاضطلاع بأعباء رسالته، فلا تحزن على ما كان من فترة الوحى عنك، ولا يكن فى صدرك حرج منها، فما ذلك إلا لتثبيت قلبك، وتقوية نفسك على احتمال مشاقّها.
الإيضاح
(وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أقسم سبحانه لرسوله بآيتين عظيمتين من آياته فى الكون ضحى النهار وصدره والليل وظلامه- إنه ما تركك وما أبغضك كما يقال لك وما تتوهم فى نفسك.
ثم ذكر له ما يثلج صدره، وما فيه كمال الطمأنينة والبشرى فقال:
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي وإن أحوالك فى مستأنف حياتك خير لك مما مضى منها، وأن كل يوم ستزداد عزّ، إلى عزّ، وسيرتفع شأنك كل يوم عما قبله، وسأمنحك كل آن جلالا فوق جلالك، ورفعة فوق رفعتك وكأنه يقول له لا تظنّن أنى كرهتك أو تركتك، بل أنت عندى اليوم أشد تمكينا وأقرب اتصالا.
ولقد صدق الله وعده، فما زال يسمو بنبيه، ويرفع درجته يوما بعد يوم حتى بلغ الغاية التي لم يبلغها أحد قبله، فجعله رسول الرحمة والهداية والنور إلى جميع خلقه،(30/183)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وجعل محبته من محبة الله، واتباعه والاقتداء به سببا للفوز العظيم بنعيمه، وجعله وأمته شهداء على الناس جميعا، ونشر دينه، وبلّغ دعوته إلى أطراف المعمورة، فأى فضل فوق ذلك الفضل؟ وأي نعمة أضفى من هذه النعمة؟ وأي إكرام فوق هذا الإكرام؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم زاده فى البشرى فقال:
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه، ويوالى عليك مننه، ومنها توارد الوحى عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة، وسيظهر دينك على الأديان كلها، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شئون الناس جميعا.
[سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 11]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
شرح المفردات
ضالا فهدى: أي غافلا عن الشرائع فهداك إلى مناهجها، عائلا: أي فقيرا، فلا تقهر: أي فلا تستذل، فلا تنهر: أي فلا تزجر، فحدّث: أي فأدّ الشكر لموليها
المعنى الجملي
بعد أن ذكر رضاه عن رسوله، ووعده له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه، ويثلج قلبه- أردف ذلك بيان أن هذا ليس عجبا منه جل شأنه، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولا فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته،(30/184)
ثم نهاه عن أمرين: قهر اليتيم وزجر السائل، لما لهما من أكبر الأثر فى التعاطف والتعاون فى المجتمع، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوى الحاجة، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها فى موضعها وأداء حقها.
الإيضاح
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) أي ألم تكن يتيما لا أب لك يعنى بتربيتك، ويقوم بشئونك، ويهتم بتنشئتك فما زال يحميك ويتعهدك برعايته، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنسانى.
وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم يتيما، إذ توفى أبوه وهو فى بطن أمه، فلما ولد عطف الله عليه قلب جده عبد المطلب، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفى والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فى سن الثامنة، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، فكان به حفيّا، شديد العناية بأمره، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع، حتى أرسله الله رسولا، فقام يؤازره وينصره، ويدفع عنه أذى قريش حتى مات، فاستطاعت قريش أن تنال منه، وتجرّأ عليه سفهاؤهم، وسلطوا عليه غلمانهم، حتى اضطروه إلى الهجرة.
ولو تدبر المنصف فى رعاية الله له، وحياطته بحفظه وحسن تنشئته، لوجد من ذلك العجب، فلقد كان اليتيم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق، لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه، وكان فى خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية فى إضلاله لو أنه سار سيرتهم، لكن عناية الله كانت ترعاه، وتمنعه السير على نهجهم، فكان الوفىّ الذي لا يمين، والأمين الذي لا يخون، والصّادق الذي لا يكذب، والطاهر الذي لم يدنّس برجس الجاهلية.
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي ووجدك حائرا مضطربا فى أمرك، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم، فعبادتهم باطلة، ومعتقداتهم فاسدة، وكان(30/185)
يفكر فى دين اليهودية، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه، إذ بدلوا دينهم، وخالفوا ما كان عليه رسولهم، فيبدو عليه الإعراض عنه، ثم يفكر فى دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود، فيرجع عن التفكير فيه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع.
وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه فى العرب أنفسهم من سخف فى العقائد، وضعف فى البصائر، باستيلاء الأوهام عليهم وفساد أعمالهم، وشؤمها فى أحوالهم، بتفرق الكلمة، وتفانيهم فى سفك الدماء، والإشراف على الهلاك باستبعاد الغرباء لهم وتحكمهم فيهم فالحبشة والفرس من جانب، والرومان من جانب آخر.
فما العمل فى تقويم عقائدهم، وتخليصهم من تحكم العادات فيهم؟ وأىّ الطرق ينبغى أن يسلك فى إيقاظهم من سباتهم؟
وقصارى ذلك، إنه كان فى قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليسنت خيرا من حالهم لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه، بل أنزل عليه الوحى ببين له أوضح السبل كما قال: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» .
(وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) أي إنك كنت فقيرا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناك بما أجراه لك من الريح فى التجارة، وبما وهبته لك خديجة من مالها.
وخلاصة ما تقدم- إن من آواك فى يتمك، وهداك من ضلالك، وأغناك من فقرك، لا يتركك فى مستقبل أمرك.
وبعد أن بين نعمه السابقة طالبه بشكر هذه النعم وأداء حقها فقال:(30/186)
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تقهر اليتيم ولا تستذله، بل ارفع نفسه بالأدب، وهذّبه بمكارم الأخلاق، ليكون عضوا نافعا فى جماعتك، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك.
ومن ذاق مرارة الضيق فى نفسه، فما أجدره أن يستشعرها فى غيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتيما، فباعد الله عنه ذل اليتيم فآواه، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرا لله على نعمته.
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وأما المستجدى فلا تزجره، ولكن تفضل عليه بشىء أو ردّه ردّا جميلا، وقد يكون المراد من (السَّائِلَ) المسترشد وهو أيضا يطلب الرفق به وبيان ما أشكل عليه من الأمر.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي أوسع فى البذل على الفقراء بمالك، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها، وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة فى حديثها، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق فى شىء.
وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة فى قبض أيديهم عن البذل، ولا تجدهم إلا شاكين من القلّ أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل مما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه وقد استفاضت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الإنفاق على الفقراء، عظيم الرأفة بهم، واسع الإحسان إليهم، وكان يتصدق بكل ما يدخل فى ملكه ويبيت طاويا.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الذي أوحيت إليه وأرضيته، وشرحت صدره، واجعلنا من الذين يقتفون آثاره، ويتبعون سنته.(30/187)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
مقاصد السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد:
(1) أن الله ما قلا رسوله ولا تركه.
(2) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه.
(3) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.
(4) طلب الشكر منه على هذه النعم.
سورة الشرح
هى مكية، وآيها ثمان، نزلت بعد سورة الضحى.
وهي شديدة الاتصال بما قبلها حتى روى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان: هما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما فى الركعة الواحدة، وما كانا يفضلان بينهما بالبسملة، ولكن المتواتر كونهما سورتين وإن كانتا متصلتين معنى، إذ فى كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها.
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
شرح المفردات
الشرح: البسط والتوسعة، والعرب تطلق عظم الصدر وتريد به القوة وعظيم المنة والمسرة وانبساط النفس، ويفخرون بذلك فى مدائحهم، من قبل أن سعة(30/188)
الصدر تعطى الأحشاء فسحة للنمو والراحة، وإذا تم ذلك للمرء كان ذهنه حاضرا لا يضيق ذرعا بأمر، والوزر: الحمل الثقيل، وأنقض: أي أثقل، والظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي صوت خفى.
الإيضاح
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أي إنا شرحنا لك صدرك، فأخرجناك من الحيرة التي كنت تضيق بها ذرعا، بما كنت تلاقى من عناد قومك واستكبارهم عن اتباع الحق، وكنت تتلمس الطريق لهدايتهم، فهديت إلى الوسيلة التي تنقذهم بها من التهلكة، وتجنبهم الردى الذي كانوا مشرفين عليه.
وقصارى ذلك- إنا أذهبنا عن نفسك جميع الهموم حتى لا تقلق ولا تضجر، وجعلناك راضى النفس، مطمئنّ الخاطر، واثقا من تأييد الله ونصره، عالما كل العلم أن الذي أرسلك لا يخذلك، ولا يعين عليك عدوا.
(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي حططنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة حتى تبلغها، فجعلنا التبليغ عليك سهلا، ونفسك به مطمئنة راضية، ولو قوبلت بالإساءة ممن أرسلت إليهم، كما يرضى الرجل بالعمل لأبنائه ويهتم بهم، فالعبء مهما ثقل عليه يخففه ما يجيش بقلبه من العطف عليهم، والحدب على راحتهم، ويتحمل الشدائد وهو راض بما يقاسى فى سبيل حياطتهم وتنشئتهم.
(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي وجعلناك عالى الشأن، رفيع المنزلة، عظيم القدر، وأىّ منزلة أرفع من النبوة التي منحكها الله؟ وأي ذكر أنبه من أن يكون لك فى كل طرف من أطراف المعمورة أتباع يمتثلون أوامرك، ويجتنبون نواهيك، ويرون طاعتك مغنما، ومعصيتك مغرما.
وهل من فخار بعد ذكرك فى كلمة الإيمان مع العلىّ الرحمن؟ وأي ذكر أرفع(30/189)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
من ذكر من فرض الله على الناس الإقرار بنبوته، وجعل الاعتراف برسالته بعد بلوغ دعوته، شرطا فى دخول جنته.
هذا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أنقذ أمما كثيرة من رقّ الأوهام، وفساد الأحلام، ورجع بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل والإرادة، والإصابة فى معرفة الحق، ومعرفة من يقصد بالعبادة، فاتحدت كلمتهم فى الاعتقاد بإله واحد بعد أن كانوا متفرقين طرائق قددا، عبّاد أصنام وأوثان، وشموس وأقمار، لا يجدون إلى الهدى سبيلا، ولا للوصول إلى الحق طريقا فأزاح عنهم تلك الغمّة، وأنار لهم طريق الهدى والرشاد.
[سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 8]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
شرح المفردات
العسر: الفقر والضعف وجهالة الصديق وقوة العدو وإنكار الجميل، فرغت:
أي من عمل: فانصب: أي اتعب.
المعنى الجملي
بعد أن أبان بعض نعمه على رسوله من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، بعد استحكام الكرب، وضيق الأمر- ذكر أن ذلك قد وقع على ما جرت به سنته فى خلقه، من إحداث اليسر بعد العسر، وأكد هذا بإعادة القضية نفسها مؤكدة لقصد تقريرها فى النفوس وتمكينها فى القلوب.
الإيضاح
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي فإن مع الضيق فرجا، ومع قلة الوسائل إلى إدراك المطلوب مخرجا إذا تدرّع المرء بالصبر وتوكل على ربه، ولقد كان هذا حال النبي(30/190)
صلى الله عليه وسلم فإنه قد ضاق به الأمر فى بادئ أمره قبل النبوة وبعدها إذ تألب عليه قومه، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه، ولم يقلل من حدّه، بل صبر على مكروههم وألقى بنفسه فى غمرات الدعوة متوكلا على ربه، محتسبا نفسه عنده، راضيا بكل ما يجد فى هذا السبيل من أذى، ولم تزل هذه حاله حتى قيض الله له أنصارا أشربت قلوبهم حبه، وملئت نفوسهم بالرغبة الصادقة فى الدفاع عنه وعن دينه، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية، فاشتروا ما عند الله من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم، ثم كان منهم من فوّض دعائم الأكاسرة، وأباد جيوش الأباطرة والقياصرة.
وقصارى ذلك- إنه مهما اشتد العسر، وكانت النفس حريصة على الخروج منه، طالبة كشف شدته، مستعملة أجمل وسائل الفكر والنظر فى الخلاص منه، معتصمة بالتوكل على ربها، فإنها ولا ريب ستخرج ظافرة مهما أقيم أمامها من عقبات واعترضها من بلايا ومحن وفى هذا عبرة لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيبدّل حاله من الفقر إلى الغنى، ومن قلة الأعوان إلى كثرة الإخوان، ومن عداوة قومه إلى محبتهم إلى أشباه ذلك.
ثم أعاد الأسلوب للتوكيد فقال:
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إذا احتملت ذلك العزيمة الصادقة، وعملت بكل ما أوتيت من قوة على التخلص منه، وقابلت ما يقع من عسر بالصبر والأخذ بأسباب تفريجه ولم تستبطئ الفرج، فيدعوها ذلك إلى التواني، وفتور العزيمة.
وبعد أن بين نعمه على رسوله ووعده بتفريج كربه- طلب منه أن يقوم بشكر هذه النعم بالانقطاع لصالح العمل والاتكال عليه دون من عداه فقال:
(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي فإذا فرغت من عمل فاتعب فى مزاولة عمل آخر، فإنك ستجد فى المثابرة لذة تقرّبها عينك ويثلج لها صدرك.(30/191)
وفى هذا حث له عليه الصلاة والسلام على المواظبة على العمل واستدامته.
(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي ولا ترغب فى ثواب أعمالك وتثميرها، إلا إلى ربك وحده، فإنه هو الحقيق بالتوجه إليه والضراعة له، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد:
(1) تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم.
(2) وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن.
(3) أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة.
(4) التوكل عليه وحده، والرغبة فيما عنده.(30/192)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التين
هى مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة البروج.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة حال أكمل خلق الله صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا حال النوع الإنسانى وما ينتهى إليه أمره، وما أعد سبحانه لمن آمن يرسوله.
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
شرح المفردات
المراد بالتين كما قال الأستاذ الإمام هنا: عهد الإنسان الأول الذي كان يستظل فيه بورق التين حينما كان يسكن الجنة والمراد بالزيتون: عهد نوح عليه السلام وذريته حينما أرسل الطير فحمل إليه ورقة من شجر الزيتون، فاستبشر وعلم بأن الطوفان انحسر عن الأرض، وطور سينين: الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عنده، والبلد الأمين: مكة التي كرمها الله بالكعبة، والتقويم: جعل الشيء على ما ينبغى أن يكون عليه فى التأليف والتعديل يقال قوّمه تقويما: واستقام الشيء وتقوّم:
إذا جاء وفق التقويم، وممنون: أي مقطوع، والدّين: الجزاء بعد البعث.(30/193)
الإيضاح
(وَالتِّينِ) أي قسما بعصر آدم أبى البشر الأول، وهو العهد الذي طفق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة.
(وَالزَّيْتُونِ) أي وقسما بعصر الزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك الله من أهلك بالطوفان، ونجّى نوحا فى سفينته، وبعد لأى ما جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر، وعلم أن غضب الله قد سكن وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتعمر ويسكنها الناس، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده وعمروا الأرض.
وقصارى ذلك- إن التين والزيتون يذكّران بهذين العصرين عصر آدم أبى البشر الأول، وعصر نوح أبى البشر الثاني.
(وَطُورِ سِينِينَ) وهو تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة، ثم عرضت لها البدع، فجاء عيسى مخلّصا لها مما أصابها، ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف فى الدين، حتى منّ الله على الناس بعهد النور المحمدي، وإليه الإشارة بقوله:
(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) الذي شرفه الله بميلاد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكرّمه بالبيت الحرام.
وخلاصة ما سلف- إن الله أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور.(30/194)
ثم ذكر المحلوف عليه فقال:
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي لقد خلقنا الإنسان فى أحسن صورة، فجعلناه مديد القامة، حسن البزّة، يتناول ما يريد بيده لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات، وله من الحول والطّول ما يمتد إلى كل شىء.
لكن قد غفل عما ميّز به، وظنّ نفسه كسائر المخلوقات، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل، ولا ترضى عنه الفطرة، وانطلق يتزوّد من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأعرض عن النظر فيما ينفعه فى معاده، وما يرضى به ربه وما يوصله إلى النعيم المقيم، «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .
وهذا ما أشار إليه بقوله:
(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إنه استشرى فيه الفساد، وأمعن فى سبيل الضلالة، ونسى فطرته وعاد إلى حيوانيته، وتردّى فى هاوية الشرور والآثام، إلا من عصمهم الله فظلوا على فطرتهم التي فطرهم عليها، وهم من عناهم سبحانه بقوله:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إلا الذين أشربت قلوبهم عقيدة الإيمان، وعرفوا أن لهذا الكون موجدا دبّر أمره، ووضع لخلقه شرائع يسيرون على نهجها، وأيقنوا أن للشر جزاء وللخير مثله.
وهؤلاء سيعطون أجر صالح أعمالهم إذا انتقلوا إلى الحياة الثانية، وهم أتباع الأنبياء ومن هداهم الله إلى الحق من كل أمة.
ثم وبخ المشركين على التكذيب بالجزاء بعد ظهور الدليل عليه فقال:
(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟) أي فأىّ سبب يحملك أيها الإنسان على التكذيب(30/195)
بالجزاء على أعمالك بعد أن تظاهرت لديك الأدلة على ذلك، فإن الذي خلقك من نطفة ثم صيّرك بشرا سويّا- قادر على أن يبعثك ويحاسبك فى نشأة أخرى، ومن شاهد ذلك وتدبره وأعمل فيه فكره ثم بقي على عناده، فقد طمس على بصيرته وضل سواء السبيل.
ثم زاد ما سلف توكيدا فقال:
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) صنعا وتدبيرا، ومن ثم وضع الجزاء لهذا النوع الإنسانى، ليحفظ له منزلته من الكرامة التي أعدها له بأصل فطرته، ثم انحدر منها إلى المنازل السفلى بجهله وسوء تدبيره، ولهذا أرسل له الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الشرائع ليبينوها له ويدعوه إليها رحمة به.
سبحانك، ما أعدلك وأحكمك، وأنت اللطيف الخبير، وإليك المرجع والمصير.(30/196)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
سورة العلق
هى مكية، وآياتها تسع عشرة، وهى أول ما نزل من القرآن.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر هناك خلق الإنسان فى أحسن تقويم، وذكر هنا خلق الإنسان من علق، إلى أنه ذكر هنا من أحوال الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما سلف.
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
تقدمة تاريخية
جاء فى صحيح الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتى غار حراء (حراء جبل بمكة) يتعبد فيه الليالى ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى فجأه الوحى وهو فى الغار إذ جاءه الملك فقال له: اقرأ، قال ما أنا بقارئ، قال:
فأخذه ثانية فغطّه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، قال ما أنا بقارئ. قال فأخذه ثالثة فغطّه حتى بلغ منه الجهد فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
قال الرواة: فرجع ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمّلونى زملونى، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع فأخبر خديجة الخبر، ثم قال: قد خشيت على نفسى، فقالت له: كلّا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.(30/197)
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى (ابن عم خديجة) وكان امرأ قد تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخى ما ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على عيسى، ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجىّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب أن توفّى، رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
ومن ذلك تعلم أن صدر هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول رحمة رحم الله بها عباده، وأول خطاب وجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بقية السورة فهو متاخر النزول، نزل بعد شيوع بعثته صلى الله عليه وسلم، وبعد أن دعا قريشا إلى الإيمان به، وآمن به قوم منهم، وكان جمهرتهم يتحرشون بمن آمن به ويؤذونهم، ويحاولون ردهم عن تصديقه، والإيمان بما جاء به من عند ربه.
الإيضاح
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي صر قارئا بقدرة الله الذي خلقك وإرادته بعد أن لم تكن كذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا، وقد جاءه الأمر الإلهى بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا، وسينزل عليه كتابا يقرؤه، وإن كان لا يكتبه.(30/198)
وقصارى ذلك- إن الذي خلق الكائنات وأوجدها، قادر أن يوجد فيك القراءة، وإن لم يسبق لك تعلمها.
ثم بين كيفية الخلق فقال:
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق: الدم الجامد، أي إن الذي خلق الإنسان وهو أشرف المخلوقات كلها من العلق، وآتاه القدرة على التسلط على كل شىء مما فى هذا العالم الأرضى، وجعله يسوده بعلمه، ويسخره لخدمته، قادر أن يجعل من الإنسان الكامل كالنبى صلى الله عليه وسلم قارئا وإن لم يسبق له تعلّم القراءة.
والخلاصة- إن من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا حيا ناطقا يسود المخلوقات الأرضية جميعها، قادر أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم قارئا وإن لم يتعلم القراءة والكتابة.
(اقْرَأْ) أي افعل ما أمرت به من القراءة.
وكرر الأمر لأن القراءة لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة وتكرار الأمر الإلهى يقوم مقام تكرار المقروء، وبذلك تصير القراءة ملكة للنبى صلى الله عليه وسلم، تدبر قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» .
ثم أزاح العذر الذي بينه صلى الله عليه وسلم لجبريل حين
قال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ،
أي إنى أمي لا أقرأ ولا أكتب فقال:
(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي وربك أكرم لكل من يرتجى منه الإعطاء، فيسير عليه أن يفيض عليك نعمة القراءة من بحار كرمه.
ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة فقال:
(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الذي جعل القلم واسطة التفاهم بين الناس على بعد الشّقّة، كما أفهمهم بواسطة اللسان والقلم آلة جامدة لا حياة فيها وليس من شأنها الإفهام، فمن جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان. أفيصعب عليه أن يجعل منك قارئا مبيّنا، وتاليا معلّما، وأنت إنسان كامل؟(30/199)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وقد وصف سبحانه نفسه بأنه خلق الإنسان من علق، وأنه علمه بالقلم ليبين.
أحوال هذا الإنسان، وأنه خلق من أحقر الأشياء، وبلغ فى كماله الإنسانى أن صار عالما بحقائق الأشياء، فكأنه قيل: تدبر أيها الإنسان تجد أنك قد انتقلت من أدنأ المراتب وأخسها، إلى أعلى الدرجات وأرفعها، ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شىء خلقه.
ثم زاد الأمر بيانا بتعداد نعمه فقال:
(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي إن من صدر أمره بأن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم قارئا، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وممتاز به عن غيره من الحيوان، وكان فى بدء أمره لا يعلم شيئا، فهل من عجب أن يعلمك القراءة، ويعلمك كثيرا من العلوم سواها، ونفسك مستعدة لقبول ذلك.
وفى الآية دليل على فضل القراءة والكتابة والعلم.
ولعمرك لولا القلم ما حفظت العلوم، ولا أحصيت الجيوش، ولضاعت الديانات، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل، وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم، ولما سجّل تاريخ السابقين: المسيئين منهم والمحسنين، ولا كان علمهم نبراسا يهتدى به الخلف، ويبنى عليه ما به ترقى الأمم، وتتقدم المخترعات.
كما أن فيها دليلا على أن الله خلق الإنسان الحي الناطق مما لا حياة فيه ولا نطق، ولا شكل ولا صورة، وعلمه أفضل العلوم وهى الكتابة، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئا، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان!.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)(30/200)
شرح المفردات
المراد بالإنسان: أي فرد من هذا النوع، يطغى: أي يتكبر ويتمرد: استغنى:
أي صار ذا مال وأعوان يغنى بهما، والرجعى والمرجع والرجوع: المصير والعودة، أرأيت: أي أخبرنى والمراد من الاستخبار إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها على نحو ما جاء فى قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟» والسفع: الجذب بشدة والناصية: شعر الجبهة والمراد بذلك القهر والإذلال بأشد أنواع العذاب، والنادي:
المكان الذي يجتمع فيه القوم، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله قال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
والزبانية: واحدهم زبنية (بكسر فسكون) وزبنى (بالكسر) ، والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله على تعذيب العصاة من خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وعلامات الحكمة، ودقة الصنع، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل ألا يلتفت إليه، أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي فى طغيان الإنسان وتكبر وتماديه، وهو حبه للدنيا، واشتغاله بها، وجعلها أكبر همه، وذلك يعمى قلبه، ويجعله يغفل عن خالقه، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم، وقد كان ينبغى أن يكون حين الغنى والميسرة، وكثرة الأعوان، واتساع الجاه، أشد حاجة إلى الله(30/201)
منه فى حال الفقر والمسكنة، لأنه فى حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه، أما فى حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله.
ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل؟ وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى، وأنه يوجب على غيره طاعته، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه.
أما ينبغى له أن يهتدى ويشتغل بأمر نفسه؟ فمن كان ذا عقل ورأى وثروة وجاه وأعوان، واختار الهدى، وتخلق بأخلاق المصلحين، كان ذلك خيرا له، وأجدى.
وإنا لننكلنّ به نكالا شديدا فى العاجلة، ونهيننّه يوم العرض والحساب، وليدع أمثاله من المغرورين، فإنهم لن يمنعوه، ولن ينصروه ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلا وإبلاغا للناس، مبتغيا بذلك القربى منه.
الإيضاح
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي حقا إن أمر الإنسان لعجيب فإنه متى أحسّ من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخشوع لربه، وتطاول بأذى الناس، وعدّ نفسه فوقهم جميعا، وقد كان من حقه أن يكون وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون فى السراء والضراء.
ويحب الخير لهم كما يحب لنفسه.
روى البخاري: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» .
وروى عن علىّ فى نصيحته لابنه الحسن: أحب الخير لغيرك كما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها.
وقد حكم على الإنسان باعتبار الأعم الأغلب فى أفراده، وإلا فإن الغنى والقوة فى أيدى الأتقياء من وسائل الخير، وأفضل أسباب السعادة الدنيوية والأخروية،(30/202)
لأنهم يستعملونهما فيما يرضى ربهم، ويعود عليهم بالنفع فى دينهم ودنياهم.
ثم حذر من الطغيان وأنذر من عاقبته، وأبان أن ما بيد الطاغي عارية، وليست نفسه بباقية، وأن مرجع الأمر كله لله فقال:
(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)
أي إن المرجع إلى ربك وحده، وهو مالك أمرك وما تملك، وسيتبين لك عظيم غرورك حينما تخرج من هذه الحياة، وتظهر فى مظهر الذل، وتحاسب على كل ما اجترحته فى حياتك الأولى، قلّ أو كثر، عظم أو حقر كما قال: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» .
ثم أعقب ما تقدم بالوعيد والتهديد والتعجيب فقال:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أخبرنى عن حال هذا الأحمق، فإن أمره لعجب، فقد بلغ به الكبر والتمرد والعناد أن ينهى عبدا من عبيد الله عن صلاته ويعتقد أنه يجب عليه طاعته، وهو ليس بخالق ولا رازق، فكيف يستسيغ ذلك لنفسه، ويعرض عن طاعة الخالق الرازق.
وقد روى أن عليا كرم الله وجهه رأى قوما يصلون قبل صلاة العيد فقال:
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» .
(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أخبرنى عن حال ذلك الطاغية لو تخلق بأخلاق المصلحين، ودعا إلى البر وتقوى الله، أما كان ذلك خيرا له من الكفر به والنهى عن طاعته، فإن ذلك يفوّت عليه أعلى المراتب، ويجعله فى أحط الدركات وأدناها.(30/203)
والخلاصة- أما كان الأفضل له أن يهتدى ويهدى غيره إلى خصال البر والخير، وقد كانت هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم فعمله كان إما فى إصلاح نفسه بالعبادات من صلاة وصيام وغيرهما، وإما فى إصلاح غيره بأمره بالتقوى ودعائه إليها.
(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) أي أنبئنى عن حال هذا الكافر، إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة. وأمارات القدرة الباهرة، وأعرض عن دعوتك والاستماع لهديك، ودعا الناس إلى مثل ذلك أفلا يخشى أن تحل به قارعة، ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله؟ ألا عقل له يرشده إلى أن خالق هذا الكون مطلع على عمله، وأنه حكيم لا يهمل عقابه، وأنه سيؤاخذه بكل ما اقترف من جرم؟
ولا يخفى ما فى هذا من تهديد وتخويف للعصاة والمذنبين.
ثم زاد فى الزجر والوعيد فقال:
(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي لا يستمرنّ بهذا الكافر جهله وغروره وطغيانه، قسما لئن لم ينته عن هذا الطغيان، ويكفّ عن نهى المصلى عن صلاته لنأخذن بناصيته ولنذيقنه العذاب الأليم.
ألا إن تلك الناصية لكاذبة لغرورها بقوتها، مع أنها فى قبضة خالقها، فهي تزعم ما لا حقيقة له، وإنها لخاطئة، لأنها طغت وتجاوزت حدها، وعتت عن أمر ربها.
ونسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية، والكاذب والمخطئ صاحبها، من قبل أنها مصدر الغرور والكبرياء.
وقد أمر هذا الكافر على ضرب من التهكم والتوبيخ بأن يدعو أهل الدفاع من قومه وذوى النجدة والبطش لينقذوه مما سيحل به فقال:
(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي فليجمع أمثاله ممن ينتدى معهم ليمنع المصلين المخلصين، ويؤذى أهل الحق الصالحين، فإنه إن فعل ذلك تعرض لسخط(30/204)
ربه والتنكيل به، وسندعو له من جنودنا كل قوىّ متين لا قبل له بمغالبته فيهلكه فى الدنيا، أو يرديه فى النار فى الآخرة.
والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله على تعذيب العصاة من خلقه، وسمّوا زبانية لأنهم يزبنون الكفار فى النار أي يدفعونهم ويسوقونهم إليها.
روى أن أبا جهل قال للنبى صلى الله عليه وسلم حين أغلظ له فى القول: يا محمد بمن تهددنى؟ وإنى لأكبر هذا الوادي ناديا.
وروى أنه قال: لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو فعل لأخذته الملائكة.
ثم بالغ فى زجر الكافر عن صلفه وكبريائه، ونفى قدرته علي ما تهدد به فقال:
(كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي إنه لن يصل إلى زعمه وأن يدعو نادى قومه، ولئن دعاهم لا ينفعونه ولا ينصرونه، فإنه أذل وأحقر من أن يقاومك، فلا تطعه إذا نهاك عن عبادة ربك كما قال: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» وتوفر على عبادته بالفعل وإبلاغ الرسالة للناس، وتقرّب بذلك إليه، ولا تبتعد عنه بتركها، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وصلّ وسلم ربنا على من أمرته بالتقرب إليك، ونهيته عن طاعة عدوك الصّلف المتكبر.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على المقاصد الآتية:
(1) حكمة الله فى خلق الإنسان، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية.
(2) إنه لكرمه وعظيم إحسانه علمه من البيان ما لم يعلم، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما فى الأرض.
(3) بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر.(30/205)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة عبس.
ومناسبتها لما قبلها- أن فى تلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وفى هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله، وأنه من عند ربه ذى العظمة والسلطان، العليم بمصالح الناس وبما يسعدهم فى دينهم ودنياهم، وأنه أنزله فى ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة الكريمة.
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
شرح المفردات
القدر: العظمة والشرف، من قولهم لفلان قدر عند فلان: أي منزلة وشرف، تنزل الملائكة: أي تنزل وتتجلى للنفس الطاهرة التي هيأها الله لقبول تجليها، وهى نفس النبي الكريم، سلام: أي أمن من كل أذى وشر، مطلع الفجر: أي وقت طلوعه.
تقدمة تبين ميقات هذه الليلة
أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فى أربعة مواضع من كتابه الكريم، والقرآن يفسر بعضه بعضا.(30/206)
(1) فى سورة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» .
(2) فى سورة الدخان: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
(3) فى سورة البقرة: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» .
(4) فى سورة الأنفال: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
فآية القدر صريحة فى أن إنزال القرآن كان فى ليلة القدر، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان فى ليلة مباركة، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان فى شهر رمضان، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله كان فى ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين فى غزوة بدر، التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان، ومن ذلك يتضح أن هده الليلة هى ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.
الإيضاح
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي إنا بدأنا ننزل الكتاب الكريم فى ليلة الشرف، ثم أنزلناه بعد ذلك منجما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شىء منه، تبيانا لما أشكل من الفتوى فيها، أو عبرة(30/207)
بما يقص فيه من قصص وزواجر، ولا شك أن البشر كان فى حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى وأمر النشأة الآخرة، لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يسنّوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين، وحوادث الكون التي نراها رأى العين كفيلة بأن تبين وجه الحق فى ذلك، فإن الناس من بدء الخليقة يبدئون ويعيدون. ويصححون ويراجعون فى قوانينهم الوضعية، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمن أنها لا تكفى لهدى المجتمع والأخذ بيده إلى موضع الرشاد، وتمنعه من الوقوع فى مهاوى الزلل، ومن ثم قيل: لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحى يضع لهم مقابيس الأشياء وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها، كما لا غنى له عن الاعتقاد فى قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها اهـ.
ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط به إلا هو فقال:
(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟) أي ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها، ومنتهى علوّ قدرها.
وفى هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم وأنشأها من العدم.
ثم أوضح مقدار فضلها فقال:
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر، ويكون فيها وضع الحجر الأساسى لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم فى كل زمان ومكان، هى خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها فى ظلام الشرك وضلال الوثنية، حيارى لا يهتدون إلى غاية، ولا يقفون عند حد.(30/208)
وقد يكون التحديد بالألف جاريا على ما يستعملونه فى تخاطبهم من إرادة الكثرة منه، لا إرادة العدد المعين، كما جاء فى قوله: «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» .
والله تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل، وله الحكمة البالغة.
وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدئ فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه صلى الله عليه وسلم حقب متتابعة وهم فى ضلال الوثنية.
وأىّ شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده، يبشرهم وينذرهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة، وجبروت الأكاسرة، ويجمعهم بعد الفرقة، ويلمّ شعثهم بعد الشتات.
فحقّ على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدا لهم، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي، الذي وجه المسلمين تلك الوجهة الصالحة النافعة، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم، شكرا له على نعمه، ورجاء مثوبته.
ثم ذكر سبحانه بعض مزايا هذه الليلة المباركة فقال:
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تنزلت الملائكة من عالمها الروحاني حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، وتمثل له الروح (جبريل) مبلّغا للوحى، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ عباده ما فيه الخير والبركة لهم.
ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شئونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه(30/209)
المادي بشتى وسائله إلا النذر اليسير من الأكوان كما قال تعالى: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .
والخلاصة- إن هذه الليلة عيد للمسلمين لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه الله فى الأرض.
(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة التي حفّها الخير بنزول القرآن، وشهود ملائكة الرحمن، ليلة كلها سلامة وأمن، وكلها خير وبركة، من مبدئها إلى نهايتها ففيها فرّج الله الكرب عن نبيه، وفتح له سبل الهداية والإرشاد.
وصل وسلم ربّنا على محمد الذي أكرمته بإنزال الدستور الشامل لخير البشر إلى يوم القيامة.(30/210)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
سورة البينة
هى مدنية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الطلاق.
ووجه مناسبتها لما قبلها- أن قوله: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» إلخ كالعلة لإنزال القرآن، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة.
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
شرح المفردات
أهل الكتاب: اليهود والنصارى، المشركون: عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم، منفكين: أي مفارقين ما هم عليه، والبينة: الحجة الواضحة، والمراد(30/211)
بها النبي صلى الله عليه وسلم، والصحف: واحدها صحيفة: وهى ما يكتب فيه، مطهرة: أي مبرأة من الزور والضلال، والقيمة: المستقيمة التي لا عوج فيها لاشتمالها على الحق، والبينة: الثابتة الدليل، والإخلاص: أن يأتى بالعمل خالصا له تعالى، لا يشرك به سواه، الدين: العبادة، وإخلاص الدين لله: تنقيته من أدران الشرك، حنفاء: واحدهم حنيف، وهو فى الأصل المائل المنحرف والمراد به المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه لله، والبرية: الخليقة، خشى الله: أي خاف عقابه.
المعنى الجملي
كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب فى ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم، إلا من عصم الله، لأن أسلافهم غيروا وبدّلوا فى شرائعهم، وأدخلوا فيها ما ليس منها، إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم، وإما لاستحسانهم ضروبا من البدع توهموها مؤيدة للدين، وهى هادمة لأركانه، وإما لإفحام خصومهم، والرغبة فى الظفر بهم.
وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه من قبلهم حتى خفيت معالم الحق، وطمست أنوار اليقين.
وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها، والخنوع لها، وأصبح من العسير تحويلهم عنها، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود، وحينا آخر بين المشركين والنصارى، وكان اليهود يقولون للمشركين: إن الله سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه، وآزروه، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.
قد كان هذا وذاك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قام المشركون يناوئونه(30/212)
ويرفعون راية العصيان فى وجهه، وألّبوا الناس عليه، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار الله بصائرهم، وشرح صدورهم لمعرفة الحق.
كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه.
ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه- نزلت هذه السورة.
الإيضاح
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لم يكن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا، حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فيحدث مجيئه رجّة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عاداتهم، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم وليس بمستحسن أن يتبع، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم.
ثم فسر البينة التي تعرّفهم وجه الحق فقال:
(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي هذه البينة هى محمد صلى الله عليه وسلم يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس، والتي(30/213)
تنبعث منها أشعة الحق كما قال: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» ، وقال: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» .
وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قويم، أو الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام الله، والتي بها يتبين الحق من الباطل كما قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ» .
وقصارى ذلك- إن حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد محى الرسول تخالف حالهم قبلها، فقد كانوا قبل مجيئه كفارا يتيهون فى عماية من الأهواء والجهالات، فلما بعث آمن به قوم منهم، فلم تبق حالهم كما كانت قبل، إلى أنهم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين بما هم عليه، واثقين بصحته، فلما بعث إليهم تغيرت حال جميعهم، فمنهم من آمن به، واعتقد أن ما كان فيه ضلال وباطل، ومنهم من لم يؤمن ولكنه صار مترددا فى صحة ما هو عليه، أو هو واثق بعدم صحته، ولكن يمنعه العناد والتكبر والاقتداء بالآباء من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلم عن تفرق القوم فى شأنه فقال:
(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات، ولا يكوننّ فى صدرك حرج منهم، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم، وتفرقوا طرائق قددا حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند غيره بغيا وعدوانا وقولا بالتشهى والهوى، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم، فهم إن يجحدوا(30/214)
ييّنتك فقد جحدوا بينة من قبلك، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الله بعد ما استيقنتها أنفسهم.
وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ظنك بالمشركين وهم أعرق فى الجهالة وأسلس مقادة للهوى.
ثم أنّبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال فقال:
(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي إنهم تفرقوا واختلفوا وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم، وما يجلب لهم سعادة فى معاشهم ومعادهم من إخلاص لله فى السر والعلن، وتخليص أعمالهم من الشرك به، واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له كما قال: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقال:
«ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» .
والمراد من إقامة الصلاة الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود، ليعتاد الخضوع له، وإيتاء الزكاة إنفاقها فيما عين لها فى الكتاب الكريم من المصارف.
(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي هذا الذي ذكر من إخلاص العبادة للخالق، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، هو الدين الذي جاء فى الكتب القيمة.
وقصارى ما سلف- إن أهل الكتاب افترقوا فى أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ويخلصوا له فى عقائدهم وأعمالهم، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف.
وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب فى افتراقهم فى دينهم، فما بالنا نحن المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعا ومحدثات، وتفرقنا فيه شيعا، أفليس ما نحن فيه من ذلّ وهوان، وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم، والسير على الصراط المستقيم؟.(30/215)
ثم بين جزاء الذين جحدوا رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي إن هؤلاء الذين دسّوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي، وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه كما يعرفون أبناءهم، يجازيهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدا، فيدخلهم نارا تلظى جزاء ما كسبت أيديهم، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي، وهدت إليه الفطرة.
ثم حكم عليهم بحكم آخر فقال:
(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي هم شر الخليقة على الإطلاق، إذ منكر الحق بعد معرفته، وقيام الدليل عليه منكر لعقله، جالب لنفسه الدمار والوبال.
وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين، أردفه جزاء المؤمنين المخبتين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين سطع نور الدليل فى قلوبهم، فاهتدوا به وصدقوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا صالح الأعمال، فبذلوا النفس فى سبيل الله وجهاد أعدائه، وبذلوا نفيس المال فى أعمال البر، وأحسنوا معاملة خلقه، أولئك هم خير الخليقة، لأنهم بمتابعة الهدى أدّوا حق العقل الذي شرفهم الله به، وبعملهم للصالحات حفظوا الفضيلة التي جعلها الله قوام الوجود الإنسانى.
ثم بين ما سيلقون من جزاء عند ربهم فقال:
(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي هؤلاء يجازيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدا، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا.
وعلينا أن نؤمن بالجنة ولا نبحث عن حقيقتها، ولا أين موضعها، ولا كيف نتمتع فيها، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه.(30/216)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
ثم ذكر أسباب هذا الجزاء فقال:
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي إنهم حازوا رضا الله بالتزام حدود شريعته، فحمدوا مغبة أعمالهم، ونالوا ما يرضيهم فى دنياهم وآخرتهم.
(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي هذا الجزاء الحسن إنما يكون لمن ملأت قلبه الخشية والخوف من ربه.
وفى ذلك تحذير من خشية غير الله، وتنفير من إشراك غيره به فى جميع الأعمال كما أن فيه ترغيبا فى تذكر الله ورهبته لدى كل عمل من أعمال البر حتى يكون العمل له خالصا، إلى أن فيه إيماء إلى أن أداء بعض العبادات كالصلاة والصوم بحركات وسكنات مجردين عن الخشية لا يكفى فى نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجزاء، لأن الخشية لم تحلّ قلوبهم، ولم تهذب نفوسهم.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا، وينير بصائرنا، حتى لا نرهب سواه، ولا نخشى إلا إياه، والحمد لله رب العالمين.
سورة الزلزلة
هى مدنية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة النساء.
ووجه مناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر فيما سلف جزاء المؤمنين والكافرين، بين هنا وقت ذلك الجزاء وعلاماته.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)(30/217)
شرح المفردات
الزلزلة: الحركة الشديدة مع اضطراب، والأثقال: واحدها ثقل، وهو فى الأصل متاع البيت كما قال: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» والمراد هنا ما فى جوف الأرض من الدفائن كالموتى والكنوز، وتقول أوحيت له وأوحيت إليه ووحي له ووحي إليه، أي كلمه خفية أو ألهمه كما جاء فى قوله: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» يصدر: أي يرجع، فالوارد هو الآتي للماء ليشرب أو يستقى، والصادر: هو الراجع عنه، أشتاتا: واحدهم شتيت أي متفرقين متمايزين لا يسير محسنهم ومسيئهم فى طريق واحدة، الذرة: النملة الصغيرة، أو هى الهباء الذي يرى فى ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة، ومثقال الذرة: وزنها، وهو مثل فى الصغر.
سبب نزول هذه السورة
كان الكفار كثيرا ما يسألون عن يوم الحساب فيقولون «أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» ويقولون: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» وما أشبه ذلك، فذكر لهم فى هذه السورة علامات ذلك فحسب، ليعلموا أنه لا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم الذي يعرض الناس فيه على ربهم لعقاب المذنبين وثواب المؤمنين.
الإيضاح
(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي إذا اضطربت الأرض وتحركت حركة شديدة ونحو الآية قوله: «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا» ، وقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» .
وفى ذلك إيماء إلى شدة الحال يومئذ، ولفت لأنظار الكافرين إلى أن يتدبروا(30/218)
الأمر ويعتبروا، وكان يقال لهم: إذا كان الجماد يضطرب لهول هذا اليوم، فهل لكم أن تستيقظوا من غفلتكم، وترجعوا عن عنادكم؟.
(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي وأخرجت الأرض ما فى جوفها من الكنوز والدفائن والأموات، فإنها لشدة اضطرابها يثور باطنها ويقذف ما فيه.
ونحو الآية قوله: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ» .
ومثال هذا ما نراه فى حياتنا الدنيا من جبال النار الثائرة (البراكين) كما حدث فى إيطاليا سنة 1909 من ثوران بركان ويزوف وابتلاعه مدينة مسينا ولم يبق من أهلها ديّارا ولا نافخ نار.
(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟) أي وقال من يكون من الناس مشاهدا لهذا الزلزال الذي يخالف أمثاله فى شدته، ويحار العقل فى معرفة أسبابه، ويصيبه الدّهش مما يرى ويبصر: ما لهذه الأرض، وما الذي وقع لها مما لم يعهد له نظير من قبل؟ كما جاء فى آية أخرى: «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى» .
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي فى ذلك الوقت وقت الزلزلة تحدثك الأرض أحاديثها، والمراد أن حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب، وما لم يعهد له نظير من الخراب، تعلم السائل وتفهمه أن ما يراه لم يكن لسبب من الأسباب التي وضعت لأمثاله مما نراه حين استقر نظام هذا الكون.
ثم بين سبب ما يرى فقال:
(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي إن ما يكون للأرض يومئذ إنما هو بأمر إلهي خاص، فيقول لها كونى خرابا كما قال لها حين بدء النشأة الأولى كونى أرضا، وإنما سمى ذلك وحيا، لأنه أتى على خلاف ما عهد منذ نشأة الأرض، قاله الأستاذ الإمام.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي يوم يقع الخراب العظيم لهذا العالم الأرضى، ويظهر ذلك الكون الجديد كون الحياة الأخرى، يصدر الناس متفرقين(30/219)
متمايزين فلا يكون محسن فى طريق واحد مع مسىء، ولا مطيع مع عاص، ليريهم الله جزاء ما قدمت أيديهم، ويجنوا ثمر ما غرسته أيمانهم.
ثم فصل ذلك بقوله:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يجد جزاءه، ومن يعمل الشر ولو قليلا يجد جزاءه، لا فرق بين المؤمن والكافر.
وحسنات الكافرين لا تخلصهم من عذاب الكفر فهم به خالدون فى الشقاء، وما نطق من الآيات بحبوط أعمال الكافرين وأنها لا تنفعهم، فالمراد به أنها لا تنجيهم من عذاب الكفر وإن خففت عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم من السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر فلا يخفف عنهم منه شىء، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:
«وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» . فقوله: «فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» صريح فى أن المؤمن والكافر فى ذلك سواء. وأن كلا يوفّى يوم القيامة جزاءه، وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا تلخيص ما قاله الأستاذ الإمام فى تفسير الآية.
مقاصد السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين:
(1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.
(2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم.(30/220)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
سورة العاديات
هى مكية، وآياتها إحدى عشرة، نزلت بعد سورة العصر.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها- أنه لما ذكر هناك الجزاء على الخير والشر أتبعه تعنيف الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يستعدون لحياتهم الثانية، بتعويد أنفسهم فعل الخير.
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
شرح المفردات
العاديات: واحدها عادية من العدو وهو الجري، والضبح: صوت أنفاس الخيل حين الجري. قال عنترة:
والخيل تكدح حين تضبح فى حياض الموت ضبحا والموريات: واحدها مورية من الإيراء، وهو إخراج النار، تقول: أورى فلان إذا أخرج النار بزند ونحوه، والقدح: الضرب لإخراج النار كضرب الزناد بالحجر، والمغيرات: واحدها مغيرة من أغار على العدو إذا هجم عليه بغتة ليقتله أو يأسره، أو يستلب ماله، والإثارة: التهييج وتحريك الغبار، والنقع: الغبار، وسطن:(30/221)
أو توسطن تقول وسطت القوم أسطهم وسطا: إذا صرت فى وسطهم، والكنود:
الكفور، يقال كند النعمة أي كفرها ولم يشكرها وأنشدوا:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنودا لنعماء الرجال يبعّد
وأصل الكنود الأرض التي لا تنبت شيئا، شبه بها الإنسان الذي يمنع الخير ويجحد ما عليه من واجبات، لشهيد: أي لشاهد على كنوده وكفره بنعمة ربه، والخير: المال كما جاء فى قوله: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» ، لشديد: أي لبخيل، بعثر:
أي بعث وأثير، وحصّل: أي أظهر محصلا مجموعا، ما فى الصدور: أي ما في القلوب من العزائم والنوايا.
الإيضاح
(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أي قسما بالخيل التي تعدو وتجرى ويسمع لها حينئذ ضبح أي زفير شديد.
(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي والخيل التي تخرج النار بحوافرها ويتطاير منها الشرر أثناء الجري.
(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي والخيل التي تعدو لتهجم على العدو وقت الصباح، لأخذه على غير أهبة واستعداد.
(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي فهيجن فى الصبح غبارا لشدة عدوهن.
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي فتوسطن جمعا من الأعداء ففرقنه وشتتن شمله.
أقسم سبحانه بالخيل التي لها هذه الصفات، والتي تعمل تلك الأعمال، ليعلى من شأنها فى نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل، وليعنوا بتربيتها وتعويدها الكرّ والفرّ، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها ليكون كل امرئ مسلم منهم عاملا ناصبا إذا جدّ الجد واضطرت الأمة إلى صد عدوّ أو بعثها باعث على كسر شوكته، يرشد إلى ذلك قوله فى آية أخرى:(30/222)
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» .
وفى إقسام الله بها بوصف العاديات المغيرات الموريات- إشارة إلى أنه يجب أن تقنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء، وخضد شوكتهم، وصد عدوانهم.
وقصارى ذلك- إن للخيل فى عدوها فوائد لا يحصى عدّها، فهى تصلح للطلب، وتسعف فى الهرب، وتساعد جد المساعدة فى النجاء، والكر والفر على الأعداء وقطع شاسع المسافة فى الزمن القليل.
ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الأيمان الشريفة فقال:
(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي إن الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له إلا من عصمهم الله وهم الذين روّضوا أنفسهم على فعل الفضائل، وترك الرذائل، ما ظهر منها وما بطن.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده»
أي إنه لا يعطى شيئا مما أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباده، كما رأف به، فهو كافر بنعمته، مجانف لما يقضى به العقل والشرع.
وسر هذه الجبلّة- أن الإنسان يحصر همه فيما حضره، وينسى ماضيه، وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة غرته غفلته، وقسا قلبه، وامتلأ جفوة على عباده.
(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإنه مع كنوده، ولجاجته فى الطغيان، وتماديه فى الإنكار والبهتان، إذا خلّى ونفسه رجع إلى الحق، وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على نعمه، إلى أن أعماله كلها جحود لنعم الله، فهى شهادة منه على كنوده، شهادة بلسان الحال، وهى أفصح من لسان المقال.(30/223)
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره- لبخيل شديد فى بخله، حريص متناه فى حرصه، ممسك مبالغ فى إمساكه متشدد فيه، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد
ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله:
(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ؟. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم الله عليه، الجاحد لفضله وأياديه- أنه سبحانه عليم بما تنطوى عليه نفسه، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصّل ما فى الصدور ويبعثر ما فى القبور؟
وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم- بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم، وهذا كثير فى الكلام، تقول لشخص فى معرض التهديد: سأعرف لك عملك هذا مع أنك تعرفه الآن قطعا، وإنما عرفانه الآتي هو ظهور أثر المعرفة وهو مجازاته بما يستحق، وقد جاء على هذا النسق قوله تعالى: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» مع أن كتابة أقوالهم حاصلة فعلا، فالمراد سنجازيهم بما قالوا الجزاء الذي هم له أهل، والله أعلم.
سورة القارعة
هى مكية، وآياتها إحدى عشرة، نزلت بعد سورة قريش.
ومناسبتها لما قبلها- أن آخر السابقة كان فى وصف يوم القيامة، وهذه السورة يأسرها فى وصف ذلك اليوم، وما يكون فيه من الأهوال.(30/224)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الإيضاح
(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة كالحاقة والصاخّة والطامّة والغاشية وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها، كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة، قال تعالى: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ» أي حادثة عظيمة تقرعهم وتصك أجسادهم فيألمون لها.
(مَا الْقارِعَةُ؟) أي أىّ شىء هى القارعة، وهذا أسلوب يراد به تهويل أمرها كأنها لشدة ما يكون فيها من الأهوال، التي تفزع منها النفوس، وتدهش لها العقول يصعب تصوّرها، ويتعذر إدراك حقيقتها.
ثم زاد أمرها تعظيما فقال:
(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) أي وأىّ شىء يعرّفك بها، كأنه لا شىء يحيط بها فمهما تخيلت أمرها وحدست شأنها فهى أعظم من تقديرك.
ولما ذكر سبحانه أن إدراك حقيقتها مما لا سبيل إليه، أخذ يعرف بزمانها الذي تكون فيه، وما يحدث للناس حينئذ من الأهوال فقال:(30/225)
(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الفراش: هو الحشرة التي تراها تترامى على ضوء السراج ليلا، وبها يضرب المثل فى الجهل بالعاقبة قال جرير:
إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى
والمبثوث: المفرق المنتشر، تقول بثثت الشيء: أي فرقته.
أي إن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم لا يدرون ماذا يفعلون، ولا ماذا يراد بهم كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة.
بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى.
وجاء تشبيههم فى آية أخرى بالجراد المنتشر فى كثرتهم وتتابعهم فقال: «كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» .
(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن (بكسر العين وسكون الهاء) الصوف ذو الألوان، والمنفوش: الذي نفش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أضعف ريح.
أي إن الجبال لتفتتها وتفرق أجزائها لم يبق لها إلا صورة الصوف المنفوش فلا تلبث أن تذهب وتتطاير، فكيف يكون الإنسان حين حدوثها وهو ذلك الجسم الضعيف السريع الانحلال.
وقد كثر فى القرآن ذكر حال الجبال يوم القيامة فقال: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال: «وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» وقال:
«وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» كل ذلك ليبين أن هذه الأجسام العظيمة التي من طبعها الاستقرار والثبات تؤثر فيها هذه القارعة، فما بالك أيها المخلوق الضعيف الذي لا قوة له؟
وفى هذا تحذير للإنسان وتخويف له كما لا يخفى.
وبعد أن ذكر أوصاف هذا اليوم بما يكون من أحوال بعض الخلائق- أعقب ذلك بذكر الجزاء على الأعمال فقال:(30/226)
(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) يقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع فى ميزان كان له به رجحان، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة، والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم ويكونون فى عيشة راضية، تقرّ بها أعينهم، وتسر بها نفوسهم.
ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات.
ولما ذكر نعيم أهل الخير أردفه عقاب أهل الشر فقال:
(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يقال خف ميزانه: أي سقطت قيمته فكأنه ليس بشىء حتى لو وضع فى كفة ميزان لم يرجح بها على أختها، ومن كان فى الدنيا كثير الشر، قليل فعل الخير، فدسّى نفسه بالشرك واجتراح المعاصي وعاث فى الأرض فسادا، لم يكن شيئا، فلا ترجح له كفة ميزان لو وضع فيها.
وعلى الجملة فعلينا أن نؤمن بما ذكره الله من الميزان فى هذه الآية وفى قوله:
«وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» ومن وزن الأعمال، وتمييز مقدار لكل عمل، وليس علينا أن نبحث وراء ذلك، فلا نسأل كيف يزن، ولا كيف يقدر؟
فهو أعلم بغيبه، ونحن لا نعلم.
أما أن الميزان له لسان وكفّتان فهذان لم يرد به نص عن المعصوم يلزمنا التصديق به، وكيف يوزن بهذا الميزان الذي تعلمه الإنسان فى مهد البداوة الأولى، ويترك ما هو أدق منه مما اخترع فيما بعد وهدى إليه الناس، على أن جميع ما عمله البشر، فهو ميزان للأثقال الجسمانية لا ميزان للمعانى المعقولة كالحسنات والسيئات، فلنفوض أمر ذلك إلى عالم الغيب.
والمراد من كون أمه هاوية- أن مرجعه الذي يأوى إليه مهواة سحيقة فى جهنم يهوى فيها، كما يأوى الولد إلى أمه، قال أمية بن أبى الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد(30/227)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟) أي وأىّ شىء يخبرك بما هى تلك الهاوية، وأنها أىّ شىء تكون؟
ثم فسرها بعد إبهامها فقال:
(نارٌ حامِيَةٌ) أي هى نار ملتهبة يهوى فيها ليلقى جزاء ما قدّم من عمل، وما اجترح من سيئات.
وفى هذا إيماء إلى أن جميع النيران إذا قيست بها ووزنت حالها بحالها لم تكن حامية، وذلك دليل على قوة حرارتها، وشدة استعارها.
وقانا الله شر هذه النار الحامية، وآمننا من سعيرها بمنه وكرمه.
سورة التكاثر
هى مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الكوثر.
ومناسبتها لما قبلها- أن فى الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها وجزاء الأخيار والأشرار، وأن فى هذه ذكر الجحيم وهى الهاوية التي ذكرت فى السورة السابقة، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال فى الحياة الدنيا، وهذا بعض أحوال الآخرة.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)(30/228)
شرح المفردات
اللهو: ما يشغل الإنسان، سواء أكان مما يسرّ أم لا، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور وإذا ألهى المرء بشىء فهو غافل به عما سواه، والتكاثر: التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر أنا أكثر منك مالا، أنا أكثر منك ولدا، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب، حتى زرتم المقابر: أي حتى صرتم من الموتى، قال جرير:
زار القبور أبو مالك ... فأصبح ألأم زوّارها
علم اليقين: أي علم الأمر الميقون الموثوق به، والجحيم: دار العذاب. عين اليقين:
أي عين هى اليقين نفسه.
أسباب نزول السورة
أخرج ابن أبى حاتم عن أبى بريدة قال: نزلت «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» فى قبيلتين من الأنصار وهما بنو حارثة وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما:
أفيكم مثل فلان وفلان؟ وقالت الأخرى: مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء ثم قالوا:
انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل فلان وتشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله هذه السورة.
الإيضاح
(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع، وصرفكم ذلك عن الجد فى العمل، فكنتم فى لهو بالقول عن الفعل، وفى غرور وإعجاب بالآباء والأعوان، وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه(30/229)
وفى صحيح مسلم عن مطرّف عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر قال: يقول ابن آدم مالى ومالك، يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس»
وروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان: ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب» .
قال الأستاذ الإمام: وقد يكون معنى التكاثر التغالب فى الكثرة، أي طلب كل واحد منهما أن يكون أكثر من الآخر مالا أو جاها، والسعى إلى ذلك لمجرد المغالبة، لا يبغي الساعي فى سعيه إلا أن يكون ماله أكثر من مال الآخر، أو أن يكون عضده أقوى من عضده، لينال بذلك لذة التعلى والظهور بالقوة كما هو شأن الجمهور الغالب من طلاب الثروة والقوة، ولا ينظر الدائب منهم فى عمله إلى تلك الغاية الرفيعة غاية البذل مما يكسب فى سبل الخير، أو النهوض بالقوة إلى نصر الحق، وحمل المبطلين على معرفته والتوجه إليه، ثم المحافظة بعد ذلك عليه.
وهذا معنى معقول ذهب إليه بعض المفسرين، وهو يتفق كل الاتفاق مع ما يفهم من لفظ (أَلْهاكُمُ) فإن الذي يلهى الناس عن الحق فى كل حال، ويصرف وجوههم عنه إلى الباطل: هو طمع كل واحد منهم أن يكون أكثر من الآخر مالا أو عدد رجال، ليعلو عليه، أو ليستخدمه لسلطانه، بقدر ما يدخل فى إمكانه، أما التفاخر بالأقوال فإنما يلهيهم فى بعض الأحوال اهـ.
(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى هلكتم وصرتم من الموتى، فأضعتم أعماركم فيما لا يجدى فائدة، ولا يعود عليكم بمائدة، فى حياتكم الباقية الخالدة.
قال العلماء: إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها تذكر بالموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد فى الدنيا وترك الرغبة فيها،(30/230)
ومن ثم
قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهّد فى الدنيا وتذكركم الآخرة» .
كما لا خلاف فى منع زيارتها إذا حدث فى ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الدين كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها.
ثم نبههم إلى خطإ ما هم فيه، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة فقال:
(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران، والضغينة والأحقاد، والجئوا إلى التناصر على الحق، والتكاثف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات، من تقويم الأخلاق، وتطهير الأعراق، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صحيح نافع لكم فى العقبى.
ثم أكد هذا وزاد فى التهديد فقال:
(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهذا وعيد بعد وعيد فى مقام الزجر والتوبيخ كما يقول السيد لعبده: أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل.
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإنّ ما تدعونه علما ليس فى الحقيقة بعلم، وإنما هو وهم وظن لا يلبث أن يتغير، لأنه لا يطابق الواقع، والجدير بأن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع، بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة فى زجرهم لتغريرهم بأنفسهم، فقد جرت عادة الغافلين أنهم إذ ذكّروا بعواقب حالهم أن يقولوا: إنهم يعلمون العواقب، وأنهم فى منتهى اليقظة وسداد الفكرة.(30/231)
ثم ذكر لهم بعض ما ينهى إليه هذا اللهو، وهو عذاب الآخرة بعد خزى الدنيا فقال:
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي إن دار العذاب التي أعدت لمن يلهو عن الحق لا ريب فيها ولترونّها بأعينكم، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة فى أذهانكم، لتنبهكم إلى ما هو خير لكم مما تلهون به.
والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، وهذا استعمال شائع فى الكتاب الكريم.
ثم كرر ذلك للتأكيد فقال:
(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي لترونها رؤية هى اليقين نفسه، إلى أي دين أو إلى أي شخص كانت نسبتكم فلتتقوا الله ربكم، ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة، ولترعوا حق الله فيها، فاستعملوها فيما أمر أن تستعمل فيه، ولا تجترحوا السيئات وتقترفوا المنكرات، إنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو الله عنهم، ويزحزحهم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإسلامى وتلقيبكم بألقابه، مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإسلام.
ثم شدد عليهم وزاد فى تأنيبهم فقال:
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهى بعضكم بعضا- ستسألون عنه- ماذا صنعتم به؟ هل أديتم حق الله فيه.
وراعيتم حدود أحكامه فى التمتع به، فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء فى دار البقاء.
روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: «أىّ نعيم نسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظلال المساكن والأشجار، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد، والماء البارد فى اليوم الحار» .(30/232)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح آمنا فى سربه، معافى فى بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
اللهم وفقا لشكر نعمتك وأداء حقها، لنجد الجواب حاضرا حين سؤالنا عنها، اللهم آمين.
سورة العصر
هى مكية، وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة الشرح.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر وبكل ما من شأنه أن يلهى عن طاعة الله، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية له إلى البوار، وموقعة له فى الدمار إلا من عصم الله وأزال عنه شرر نفسه، فكأن هذا تعليل لما سلف- إلى أنه ذكر فى السالفة صفة من اتبع نفسه وهواه، وجرى مع شيطانه حتى وقع فى التهلكة، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع، فآمن بالله وعمل الصالحات، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق، والاصطبار على مكارهه.
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
شرح المفردات
العصر: الدهر، والإنسان: هو هذا النوع من المخلوقات، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة،(30/233)
والحق: هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شريعة صحيحة جاء بها نبى معصوم، والصبر: قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة فى العمل الطيب، وتهوّن عليها احتمال المكروه فى سبيل الوصول إلى الأغراض الشريفة.
والتواصي بالحق: أن يوصى بعضهم بما لا سبيل إلى إنكاره وهو كل فضيلة وخير، والتواصي بالصبر: أن يوصى بعضهم بعضا به ويحثه عليه، ولا يكون ذلك نافعا مقبولا إلا إذا كمّل المرء نفسه به وإلا صدق عليه قول أبى الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السّقام وذى الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
الإيضاح
(وَالْعَصْرِ) أقسم ربنا سبحانه بالدهر لما فيه من أحداث وعبر يستدل به على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار وهما آيتان من آيات الله كما قال: «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» وإلى ما فيه: من سراء وضراء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وراحة وتعب، وحزن وفرح، إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأى إلى أن للكون خالقا ومدبرا، وهو الذي ينبغى أن يوجه إليه بالعبادة ويدعى لكشف الضر وجلب الخير- إلى أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر، فيقولون هذه نائبة من نوائب الدهر، وهذا زمان بلاء، فأرشدهم سبحانه إلى أن الدهر خلق من خلقه، وأنه ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرّها، فإن وقعت للمرء مصيبة فبما كسبت يداه، وليس للدهر فيها من سبب.
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي إن هذا الجنس من المخلوقات- لخاسر فى أعماله ضربا من الخسران إلا من استثناهم الله، فأعمال الإنسان هى مصدر شقائه، لا الزمان(30/234)
ولا المكان، وهى التي توقعه فى الهلاك، فذنب المرء فى حق بارئه، ومن يمنّ عليه بنعمه الجليلة، وآلائه الجسيمة، جريمة لا تعد لها جريمة أخرى.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فاعتقدوا اعتقادا صحيحا أن للعالم كله إلها خالقا قادرا يرضى عن المطيع، ويغضب على العاصي، وأن هناك فرقا بين الفضيلة والرذيلة، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير- وجماع ذلك نفع المرء نفسه ونفعه للناس أجمعين.
وخلاصة أمرهم- أنهم باعوا الفاني الخسيس، واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيالها من صفقة ما أربحها، ومنقبة جامعة للخير ما أوضحها.
(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره، ولا زوال فى الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله من إيمان بالله عز وجل واتباع لكتبه ورسله فى كل عقد وعمل.
(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية، وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها، وعلى ما يبتلى الله تعالى به عباده من المصايب ويتلقاها بالرضا ظاهرا وباطنا، فلا بد للنجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ويمكّنوه من قلوبهم، ثم يحمل بعضهم بعضا على سلوك طريقه، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها، ولا دليل يهدى إليها.
وخلاصة ما سلف- إن الناس جميعا فى خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء:
الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء.
والإنسان جميعه خسر مساعيه وضلّ مناهجه، وصرف عمره فى غير مطالبه، فهو قد جاء إلى الأرض ليخلص نفسه من الرذائل ويتحلى بالفضائل، حتى إذا رجع(30/235)
إلى عالم الأرواح كان أقوى جناحا، وأمضى سلاحا، لكنه حين رجع إلى مقره فى عالم السموات بالموت لم يجد إلا نقصا يحيط به، وجهلا يرديه، فندم إلا طائفة منه عاشوا فى الدنيا مفكرين، فآمنوا بأنبيائهم وصدقوا برسلهم، وأحبوا بنى جنسهم، وأحسنوا إلى إخوانهم فساعدوهم بأنفسهم وأموالهم، وصاروا معهم متعاضدين متعاونين وصبروا على ما نزل بهم من الحدثان، ورموا به من البهتان، فهؤلاء فى الدنيا يفوزون بما يريدون، وفى الآخرة بالنعيم يفرحون.
جعلنا الله فى زمرة أولئك العاملين الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
سورة الهمزة
هى مكية، وآياتها تسع، نزلت بعد سورة القيامة.
ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر سبحانه فى السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون فى الضلال إلا من عصم الله- ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال.
أسباب نزول هذه السورة
قال عطاء والكلبي: نزلت هذه السورة فى الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مقاتل: نزلت فى الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن فيه فى وجهه.
وقال محمد بن إسحق صاحب السيرة: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت فى أمية ابن خلف.(30/236)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
شرح المفردات
ويل: أي خزى وعذاب، وهو لفظ يستعمل فى الذم والتقبيح والمراد به التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم، والهمزة للمزة: الذي يطعن فى أعراض الناس ويظهر عيوبهم ويحقّر أعمالهم، تلذذا بالحط منهم وترفعا عنهم وأصل الهمز: الكسر يقال همز كذا: أي كسره، وأصل اللمز الطعن، يقال لمزه بالرمح: أي طعنه ثم شاع استعمالها فيما ذكرنا، قال زياد الأعجم:
إذا لقيتك عن شحط تكاشرنى ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
وعن مجاهد وعطاء: الهمزة الذي يغتاب ويطعن فى وجه الرجل، واللمزة:
الذي يغتاب من خلفه إذا غاب، ومنه قول حسان:
همزتك فاختضعت بذلّ نفس ... بقافية تأجّج كالشواظ
عدّده: أي عده مرة بعد أخرى شغفا به، أخلده: أي ضمن له الخلود فى الدنيا، والنبذ: الطرح مع الإهانة والتحقير، والحطمة: من الحطم وهو الكسر، يقال رجل حطمة إذا كان شديدا لا يبقى على شىء. وفى أمثالهم: شرّ الرّعاء الحطمة: أي الذي يحطم ما شيته ويكسرها بشدة سوقها قال:
قد لفّها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر وضم(30/237)
والمراد بها النار، لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب، تطّلع على الأفئدة: أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها، مؤصدة: أي مطبقة من أوصدت الباب: أي أغلقته قال:
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ... ومن دونها أبواب صنعاء موصده
والعمد: واحدها عمود، وممدّدة: أي مطولة من أول الباب إلى آخره.
الإيضاح
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي سخط وعذاب من الله لكل طعّان فى الناس، أكال للحومهم، مؤذ لهم فى غيبتهم أو فى حضورهم.
ثم ذكر سبب عيبه وطعنه فى الناس فقال:
(الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ) أي إن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال وتعديده مرة بعد أخرى، شغفا به وتلذذا بإحصائه، لأنه يرى أن لا عزّ إلا به، ولا شرف بغيره، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته، وهزأ بكل ذى فضل ومزية دونه، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزة ولمزه وتمزيقه أعراض الناس، لأن غروره أنساه الموت، وأعمى بصيرته عن النظر فى مآله، والتأمل فى أحواله.
ثم بين خطأه فى ظنه فقال:
(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود فى الدنيا، وأعطاه الأمان من الموت، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيّا أبد الدهر، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سىء الأعمال.(30/238)
وبعد أن توعد من هذه صفاته بشديد العقاب، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخلال للمقوتة، من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت، أعقبه بتفصيل ما أعدّ له من هذا العذاب المحتوم فقال:
(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي ازدجر أيها العيّاب عما خيل إليك من أن المال يخلدك ويبقيك، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل، فإنك والله مطروح فى النار لا محالة، لا يؤبه لك ولا ينظر إليك.
وأثر عن علىّ كرم الله وجهه من عظة له: يا كميل هلك خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم فى القلوب موجودة.
يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس، لأنهم لا ينالون منهم شيئا، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان ينتفع بعلمهم، ويغترف من بحار فضلهم.
ثم أخذ يهوّل أمر هذه النار ويعظم شأنها فقال:
(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) أي إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك، ولا يقف على حقيقتها عقلك، فلا يعلم شأنها، ولا يقف على كنهها، إلا من أعدها لمن يستحقها.
ثم فسر هذه الحطمة بعد إبهامها فقال:
(نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) أي إنها النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، إذ هو الذي أنشأها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين، وفى وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تخمد أبدا بل هى ملتهبة التهابا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها.
ثم وصفها بأوصاف تخالف نيران الدنيا ليؤكد مخالفتها لها فقال:
(1) (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي إنها تتغلب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل فى الأجواف حتى تصل إلى الصدور، فتأكل الأفئدة، والقلب أشد أجزاء البدن تألما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته، فقد بلغ العذاب بالإنسان غاية لا يقدرها قدرها.(30/239)
وقد يكون المراد بالاطلاع المعرفة والعلم، وكأن هذه النار تدرك ما فى أفئدة الناس يوم البعث، فتميز العاصي عن المطيع، والخبيث عن الطيب، وتفرق بين من اجترحوا السيئات فى حياتهم الأولى، ومن أحسنوا أعمالهم، وإنا لنكل أمر ذلك إلى علام الغيوب.
وفى وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان فى أخفى مكان منه- إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولا وأكثر تغلبا.
(2) (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها، ولا يستطيعون الخروج إذا شاءوا، فهم «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها» .
(3) (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال مقاتل: إلا الأبواب أطبقت عليهم، ثم شدّت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح اهـ.
والمراد بذلك تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم، والمبالغة فى ذلك ليودع فى قلوبهم اليأس من الخلاص منها.
وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كون العمد من نار أو حديد ولا فى أنها تمتد طولا أو عرضا، ولا فى أنها مشبهة لعمد الدنيا، بل نكل أمر ذلك إلى الله، لأن شأن الآخرة غير شأن الدنيا، ولم يأتنا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك، فالكلام فيه قول بلا علم، وافتراء على الله الكذب.
نسأل الله أن يحفظنا من غضبه، وبقينا شر النار الموصدة، بمنه وكرمه.(30/240)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الكافرين.
ومناسبتها لما قبلها- أنه بين فى السورة السابقة أن المال لا يغنى من الله شيئا وهنا أقام الدليل على ذلك بقصص أصحاب الفيل.
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
شرح المفردات
الكيد: إرادة وقوع ضر بغيرك على وجه الخفاء، والتضليل: التضييع والإبطال تقول ضلّلت كيد فلان إذا جعلته باطلا ضائعا، والطير: كل ما صار فى الهواء، صغيرا كان أو كبيرا، والأبابيل: الجماعات، لا واحد له من لفظه، والسجيل: الطين الذي تحجر، والعصف: ورق الزرع الذي يبقى بعد الحصاد، وتعصفه الرياح: فتأكله الماشية، مأكول: أي أكلت الدواب بعضه وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها.
المعنى الجملي
ذكّر الله سبحانه نبيه ومن تبلغه رسالته بعمل عظيم دالّ على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهى خاضعة لسلطانها- ذاك أن قوما أرادوا أن يتعززوا بفيلهم(30/241)
ليغلبوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشرّ وأذى، فأهلكهم الله، وردّ كيدهم، وأبطل تدبيرهم، بعد أن كانوا فى ثقة بعددهم وعددهم ولم يفدهم ذلك شيئا.
قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير
حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: ولد عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك.
وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم- أن قائدا حبشيا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدى على الكعبة المشرّفة ويهدمها، ليمنع العرب من الحج إليها، فتوجه بجيش جرار إلى مكة، واستصحب معه فيلا أو فيلة كثيرة زيادة فى الإرهاب والتخويف ولم يزل سائرا يغلب من يلاقيه، حتى وصل إلى «المغمّس» وهو موضع بالقرب من مكة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم البيت، ففزعوا منه، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينظرون ما هو فاعل.
وفى اليوم الثاني فشا فى جند الحبشي داء الجدرىّ والحصبة، قال عكرمة:
وهو أول جدرىّ ظهر ببلاد العرب، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذعر الجيش وصاحبه وولّوا هاربين، وأصيب الحبشي ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة، وأنملة أنملة، حتى انصدع صدره ومات فى صنعاء.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟) أي ألم تعلم الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته، فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام، فتلك حال قد جاءت على غير ما يعرف من(30/242)
الأسباب والعلل، إذ لم يعهد أن يجىء طير فى جهة فيقصد قوما دون قوم، وهم معهم فى جهة واحدة، فذلك أمارة أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنقاذ مقصد معين.
وإنما عبر عن العلم بالرؤية، للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصص متواتر مستفيض، فالعلم به مساو فى قوة الثبوت مع الوضوح- للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة.
وخلاصة ذلك- إنك قد علمت ذلك علما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء.
ثم بين الحال التي وقع عليها فعله فقال:
(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ؟) أي إنك لترى ما كان عليه فعل الله بأولئك القوم، فقد ضيع تدبيرهم، وخيّب سعيهم.
ثم فصل تدبيره فى إبطال كيد أولئك القوم فقال:
(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي إنه تعالى أرسل عليهم فرقا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتلوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى هلكوا.
وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل فى مسامّه، فأثار فيه قروحا تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه.
ولا شك أن الذباب يحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوّثة بالمكروب على الإنسان كافية فى إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجمّ الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يهلك جيشا كثير العدد ببعوضة واحدة لم يكن ذلك بعيدا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى فى الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه، من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور، وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام القهر الإلهى، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقضّ مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح.(30/243)
قال الأستاذ الإمام: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت، أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكه، وهى نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم، حفظا لبيته حتى يرسل إليه من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه، ولا ذنب اقترفه.
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي فجعل هؤلاء القوم كعصف وقع فيه الاكال وهو السوس، أو أكلت الدواب بعضه، وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها.
وصلّ ربنا على محمد الذي قصصت عليه ما فيه العبرة لمن ادّكر، وأوحيت إليه ما فيه مزدجر، لمن تدبر واعتبر، إنك أنت العليم الحكيم.
سورة قريش
هى مكية، وآياتها أربع، نزلت بعد سورة التين.
ومناسبتها لما قبلها- أن كلا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم الله على أهل مكة فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء ليهدم بيتهم وهو أساس مجدهم وعزهم والثانية ذكرت نعمة أخرى هى اجتماع أمرهم، والتئام شملهم، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء فى تجارتهم، وجلب الميرة لهم.
ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبىّ بن كعب يعتبرهما سورة واحدة، حتى روى عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة.(30/244)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
شرح المفردات
تقول ألفت الشيء إلفا وإلافا، وآلفته إيلافا: إذا لزمته وعكفت عليه مع الأنس به وعدم النفور منه، وقريش: اسم للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة، والرحلة: ارتحال القوم أي شدهم الرحال للمسير، أطعمهم: أي وسع لهم الرزق، ومهّد لهم سبيله، وآمنهم: أي جعلهم فى أمن من التعدي عليهم، والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم.
الإيضاح
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فلتعبد قريش ربها شكرا له على أن جعلهم قوما تجرا ذوى أسفار فى بلاد غير ذات زرع ولا ضرع، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتى من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد ورحلة فى الصيف إلى بلاد الشام لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها.
وقد كان العرب يحترمونهم فى أسفارهم، لأنهم جيران بيت الله وسكان حرمه، وولاة الكعبة، فيذهبون آمنين، ويعودون سالمين، لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع.
فكان احترام البيت ضربا من القوة المعنوية التي تحتمى بها قريش فى الأسفار، ولهذا ألفتها نفوسهم، وتعلقت بالرحيل، استدرارا للرزق.(30/245)
وهذا الإجلال الذي ملك نفوس العرب من البيت الحرام، إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه، وقد حفظ حرمته، وزادها فى نفوس العرب ردّ الحبشة عنه حين أرادوا هدمه، وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرا، بل قبل أن يدنوا منه.
ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب، ونقصت حرمته عندهم، واستطالت الأيدى على سفّارهم لنفروا من تلك الرحلات، فقلّت وسائل الكسب بينهم، لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم وهم فى عقر ديارهم ليأخذوا منها، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق وتنقطع عنهم ينابيع الخيرات.
َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ)
الذي حماه من الحبشة وغيرهم، ومكّن منزلته فى النفوس، وكان من الحق أن يفردوه بالتعظيم والإجلال.
ثم وصف رب هذا البيت بقوله:
(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي إنه هو الذي أوسع لهم الرزق، ومهد لهم سبله، ولولاه لكانوا فى جوع وضنك عيش.
(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي وآمن طريقهم، وأورثهم القبول عند الناس، ومنع عنهم التعدي والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم، ولولاه لأخذهم الخوف من كل مكان فعاشوا فى ضنك وجهد شديد.
وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره، وتوسيط سواه عنده؟ مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه فى شىء من النعمة التي هم فيها، نعمة الأمن ونعمة الرزق: وكفاية الحاجة.
اللهم ألهم قلوبنا الشكر على نعمك التي تترى علينا، وزدنا بسطة فى العلم والرزق.(30/246)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
هى مكية، وآياتها سبع، نزلت بعد سورة التكاثر.
ووجه مناسبتها لما قبلها:
(1) أنه لما قال فى السورة السابقة: «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» ذم فى هذه من لم يحضّ على طعام المسكين.
(2) أنه قال فى السورة السابقة: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ»
وهنا ذم من سها عن صلاته.
(3) أنه هناك عدّد نعمه على قريش وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه.
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
شرح المفردات
أرأيت: أي هل عرفت وعلمت والمراد بذلك تشويق السامع إلى تعرّف ما يذكر بعده مع تضمنه التعجب منه، كما تقول: أرأيت فلانا ماذا صنع، وأ رأيت فلانا كيف عرّض نفسه للمخاطر- أنت فى كل ذلك تريد بعث المخاطب على التعجب مما فعل، والدين: هو الخضوع لما وراء المحسوس من الشؤون الإلهية التي لا يمكن الإنسان أن يعرف حقيقتها، وإنما يجد آثارها فى الكون باعثة على الإذعان(30/247)
والتصديق، كوجود الله ووحدانيته، وبعثه الرسل مبشرين ومنذرين، والتصديق بحياة أخرى يعرض الناس فيها على ربهم للجزاء، يدعّ اليتيم: أي يدفعه ويزجره زجرا عنيفا كما جاء فى قوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» يحض: أي يحث ويدعو الناس إلى ذلك، يراءون: أي يفعلون بقدر ما يرى الناس أنهم يفعلون ذلك من غير أن تستشعر قلوبهم خشية الله بها وحقيقة الرياء طلب ما فى الدنيا بالعبادة وطلب المنزلة فى قلوب الناس، ويكون فعل ذلك على ضروب (1) بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس.
(2) بلبس الثياب القصار أو الخشنة ليأخذ بذلك هيبة الزهاد فى الدنيا.
(3) بإظهار السخط على الدنيا، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير.
(4) بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لرؤية الناس له.
والماعون: ما جرت العادة بأن يسأله الفقير والغنى كالقدر والدلو والفأس.
وقال جار الله: ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها
لقوله عليه الصلاة والسلام: «ولا غمّة فى فرائض الله»
لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا الاقتداء به كان جميلا، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح، وعن بعضهم أنه رأى رجلا فى المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها فقال: ما أحسن هذا لو كان فى بيتك؟
وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة.
على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص، ومن ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرياء أخفى من ديب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على المسح الأسود» اهـ.
المسح: كساء خشن من صوف يلبسه الزهاد.(30/248)
الإيضاح
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية، والشئون الغيبية، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، فإن كنت لا تعرفه بذاته، فاعرفه بصفاته وهى:
(1) (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي فذلك المكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم ويزجره زجرا عنيفا إن جاء يطلب منه حاجة، احتقارا لشأنه وتكبرا عليه.
(2) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث غيره على إطعامه، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه، فهو لا يفعله بالأولى.
وفى هذا توجيه لأنظارنا إلى أنا إذا لم نستطع مساعدة المسكين كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك كما تفعل جماعات الخير: «الجمعيات الخيرية» .
وقصارى ما سلف- إن للمكذب بالدين صفتين: أولاهما أن يحتقر الضعفاء ويتكبر عليهم. وثانيتهما أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج، أو يبخل بسعيه لدى الأغنياء، ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة، ويقوم لهم بكفاف العيش.
وسواء أكان المحتفر للحقوق، البخيل بالمال والسعى لدى غيره مصليا أو غير مصلّ فهو فى وصف المكذبين، ولا تخرجه صلاته منهم، لأن المصدق بشىء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدّق به، فلو صدّق بالدين حقا لصار منكسرا متواضعا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم فمن لم يفعل شيئا من ذلك فهو مراء فى عمله، كاذب فى دعواه، ومن ثم قال سبحانه:
(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي فعذاب لمن يؤدى الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر فى نفسه، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي(30/249)
شرعت لأجلها، لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان، وتفعله الجوارح، فيركع وهو لاه عن ركوعه، ويسجد وهو لاه عن سجوده، ويكبر وهو لا يعى ما يقول وإنما هى حركات اعتادها، وكلمات حفظها، لا تدرك نفسه معناها، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها.
(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي إنهم يفعلون أفعالا ظاهرة بقدر ما يرى الناس، دون أن تستشعر قلوبهم بها، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها.
(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي ويمنعون ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الفقير والغنى، وينسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق كالقدر والفأس، والقدوم ونحو ذلك.
قال الأستاذ الإمام: فأولئك الذين يصلّون، ولا يأتون من الأعمال إلا ما يرى للناس، مما لا يكلفهم بذل شىء من مالهم، ولا يخشون منه ضررا يلحق بأبدانهم، أو نقصا يلمّ بجاههم، ثم يمنعون ما عونهم، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سدّ حاجة المعوزين، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم وطمأنينتهم- لا تنفعهم صلاتهم، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين، لا فرق بين من وسموا أنفسهم بسمة الإسلام أو غيره، فإن حكم الله واحد، لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة، التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع.
فخاصة المصدّق بالدين التي تميزه عن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس، وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هى احتقار حقوق الضعفاء وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة، وحب الأثرة بالمال، والتعزز بالقوة، ومنع المعروف عمن يستحقه من الناس.
فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون فى هذه السورة الشريفة؟
ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين؟ وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا فى ظواهر أعضائهم، وبهذا الجوع الذي يسمونه صياما(30/250)
ولا أثر له إلا فى عبوس وجوههم، وبذاذة ألسنتهم، وضياع أوقاتهم فى اللهو والبطالة، ويرجعوا إلى الحق من دينهم، فيقيموا الصلاة، ويحيوا صورتها بالخشوع للعلىّ الأعلى فلا يخرجون من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد لله يلتمسون رضاه فى رعاية حقوقه بما يراه، ويجعلوا من الصوم مؤدبا للشهوة، ومهذّبا للرغبة، رادعا للنفس عن الأثرة، فلا يكون فى صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ولا يبخلون بالمعونة فيما ينفع الخاصة والعامة اهـ والله أعلم:
سورة الكوثر
هى مكية وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة العاديات.
ومناسبتها لما قبلها- أنه وصف فى الأولى الذي يكذب بالدين بأمور أربع:
البخل. الإعراض عن الصلاة. الرياء. منع المعونة- وهنا وصف ما منحه رسوله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة، فذكر أنه أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير، والحرص على الصلاة ودوامها، والإخلاص فيها والتصدّق على الفقراء.
أسباب نزول هذه السورة
كان المشركون من أهل مكة والمنافقون من أهل المدينة يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويلمزونه بأمور:
(1) أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء، ولو كان ما جاء به الدين صحيحا لكان أنصاره من ذوى الرأى والمكانة بين عشائرهم، وهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة، فقد قال قوم نوح له فيما قصه الله علينا: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» .(30/251)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وقد جرت سنة الله فى خلقه أن يسرع فى إجابة دعوة الرسل الضعفاء، من قبل أنهم لا يملكون ما لا فيخافوا أن يضيع فى سبيل الدعوة الجديدة، ولا جاها ونفوذا فيخافوا أن يضيعا أمام الجاه الذي منحه صاحب الدعوة- وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا فى دين الله وهم له كارهون، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل الله، ويأخذون فى انتقاصهم. وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة، والله ينصر رسله ويؤيدهم ويشدّ أزرهم.
وعلى هذا السّنن سار أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدا له ولقومه الأدنين.
(2) إنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون، يقولون: انقطع ذكر محمد وصار أبتر، يحسبون ذلك عيبا فيلمزونه به ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه.
(3) إنهم كانوا إذا رأوا شدة نزلت بالمؤمنين طاروا بها فرحا وانتظروا أن تدول الدّولة عليهم وتذهب ريحهم، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد.
فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون وهم لا حقيقة له، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم، ولتردّ كيد المشركين فى نحورهم، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة. وأن أتباعه هم المفلحون.
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)(30/252)
شرح المفردات
الكوثر: المفرط فى الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، ويقال للرجل الكثير العطاء هو كوثر، قال الكميت الأسدى:
وأنت كثير يا ابن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
والمراد به هنا النبوة والدين الحق والهدى وما فيه سعادة الدنيا والآخرة، والشانئ:
المبغض، وأصل الأبتر: الحيوان المقطوع الذنب، والمراد به هنا ما لا يبقى له ذكر ولا يدوم له أثر- شبه بقاء الذكر الحسن واستمرار الأثر الجميل بذنب الحيوان من حيث إنه يتبعه وهو زينة له. وشبه الحرمان منه ببتر الذنب وقطعه.
الإيضاح
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير الذي بعجز عن بلوغه العدّ، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه، فإنما ذلك من فساد عقولهم، وضعف إدراكهم.
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك وما هو نسك لك لله أيضا، فإنه هو الذي رباك وأسبغ عليك نعمه دون سواه كما قال: تعالى آمرا له: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» .
وبعد أن بشر رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم البشارة، وطالبه بشكره على ذلك، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورا ذليلا، أعقبه بقوله:
(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك كائنا من كان هو المقطوع ذكره من(30/253)
خيرى الدنيا والآخرة، وأما أنت فستبقى ذريتك، ويبقى حسن صيتك، وآثار فضلك إلى يوم القيامة.
وشانئوه ما كانوا يبغضونه لشخصه، لأنه كان محبّبا إلى نفوسهم، بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة، لأنه سفّه أحلامهم، وعاب معبوداتهم، ونادى بفراق ما ألفوه ونشئوا عليه.
وقد حقق الله فى شانئيه من العرب وغيرهم فى زمنه صلى الله عليه وسلم ما يستحقونه من الخذلان والخسران، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر أما النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اهتدى بهديه فإن الله رفع منزلتهم فوق كل منزلة، وجعل كلمتهم هى العليا.
قال الحسن رحمه الله: عنى المشركون بكونه أبتر: أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك اهـ.
وصلّ ربنا على نبيك محمد الذي أعليت ذكره، وأذللت شانئه، صلاة تبقى ما بقي الدهر.
سورة الكافرون
هى مكية، وآياتها ستّ، نزلت بعد سورة الماعون.
ومناسبتها لما قبلها- أنه فى السورة السابقة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعبادته، والشكر له على نعمه الكثيرة، بإخلاص العبادة له، وفى هذه السورة التصريح بما أشير إليه فيما سلف.(30/254)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
أسباب نزول السورة
روى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف فى جماعة آخرين من صناديد قريش وساداتهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: هلمّ يا محمد فاتبع ديننا ونتبع دينك، ونشر كك فى أمرنا كله. تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا حظا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا فى أمرنا، وأخذت حظك منه، فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره، وأنزل الله ردا على هؤلاء هذه السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رءوسهم، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك، وطفقوا يؤذونه ويؤذون أصحابه حتى كانت الهجرة.
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الإيضاح
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي قل لهم: إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده، لأنكم تعبدون من يتخذ الشفعاء أو الولد، أو يتجلى فى شخص أو يتجلى فى صورة معينة أو نحو ذلك مما تزعمون، وأنا أعبد إلها لا مثيل له ولا ندّ، وليس له ولد ولا صاحبة، ولا يحل فى جسم، ولا تدرك(30/255)
كنهه العقول، ولا تحويه الأمكنة، ولا تمر به الأزمنة، ولا يتقرّب إليه بالشفعاء، ولا تقدم إليه الوسائل.
وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد، فارق عظيم، وبون شاسع، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودى أن يتصف بها.
(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي إنكم لستم بعابدين إلهى الذي أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال.
وبعد أن نفى الاختلاف فى المعبود نفى الاختلاف فى العبادة، من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم. أو فى المعابد التي أقاموها لها أو فى خلواتهم وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم فى شىء فقال:
(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أنا بعابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتى قاله أبو مسلم الأصفهانى.
وخلاصة ما سلف- الاختلاف التامّ فى المعبود، والاختلاف البيّن فى العبادة فلا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودى منزه عن الندّ والنظير، متعال عن الظهور فى شخص معين، وعن المحاباة لشعب أو واحد بعينه، والذي تعبدونه أنتم على خلاف ذلك.
كما أن عبادتى خالصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك، مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة.
ثم هددهم وتوعدهم فقال:
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاؤكم على أعمالكم ولى جزائى على عملى كما جاء فى قوله تعالى: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» .
وصل ربنا على محمد الذي جعل الدين لك خالصا، وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/256)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
سورة النصر
هى مدنية، وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة التوبة.
ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر فى السورة السابقة اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه، ودين الكفار الذي يعكفون عليه- أشار فى هذه السورة إلى أن دينهم سيضمحل ويزول، وأن الدين الذي يدعو إليه سيغلب عليه، ويكون هو دين السواد الأعظم من سكان المعمورة.
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
شرح المفردات
النصر: العون يقال نصره على عدوه ينصره نصرا: أي أعانه، ونصر الغيث الأرض: إذا أعان على إظهار نباتها ومنع من قحطها، قال شاعرهم:
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزى ... بلاد تميم وانصرى أرض عامر
والفتح: الفصل بينه وبين أعدائه وإعزاز دينه وإظهار كلمته، والأفواج:
واحدهم فوج وهو الجماعة والطائفة، واستغفره: أي اسأله أن يغفر لك ذنوبك ولقومك الذين اتبعوك، توّابا: أي كثير القبول لتوبة عباده.
المعنى الجملي
كان المؤمنون أيام قلتهم وفقرهم وكثرة عدد عدوهم وقوته، يمر الضجر بنفوسهم ويقضّ مضاجعهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن ويضيق صدره،(30/257)
لتكذيب قومه له على وضوح الحق وسطوع البرهان، كما قال تعالى مخاطبا رسوله:
«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال:
«فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقال:
«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .
وفى هذا القلق والضجر استبطاء لنصر الله للحق الذي بعث به نبيّه، بل فيه سهو عن وعد الله بتأييد دينه، كما جاء فى قوله: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» ؟.
هذا الضجر ليس بنقص يعاب به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله يعدّه على أقرب عباده إليه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد يراه النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى نفسه وخرج من غمرة شدته ذنبا يتوب إلى الله منه ويستغفره، ومن ثم ورد الأمر الإلهى بالاستغفار مما كان منه من حزن وضجر فى أوقات الشدة حين يجىء الفتح والنصر.
الإيضاح
(إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) أي إذا رأيت نصر الله لدين الحق، وانهزام أهل الشرك وخذلانهم، وفتح الله بينك وبين قومك، بجعل الغلبة لك عليهم، وإعزاز أمرك، وإعلاء كلمتك.
(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) أي ورأيت الناس يدخلون فى دينك، وينضوون تحت لوائك جماعات لا أفرادا كما كان فى بدء أمرك وقت الشدة.(30/258)
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي إذا تمّ لك كل ذلك فنزّه ربك وقدّسه عن أن يهمل الحق، ويدعه للباطل يتغلب عليه، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به، بأن يجعل كلمتك العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ويتم نعمته عليك ولو كره الكافرون.
وليكن تنزيهه بحمده على ما أولاك من نعم، وشكره على ما منحك من خير، والثناء عليه بما هو له أهل، فإنه هو القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين، فلن يضيع أجر العاملين.
(وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واسأله أن يغفر لك ولمن اتبعك من أصحابك ما كان منهم من القلق والضجر والحزن والأسى لتأخر النصر.
والتوبة من هذا القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليبها على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وإن كان ذلك مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله قد علم أن نفس رسوله قد تبلغ ذلك الكمال، ومن ثم أمره به، وهكذا يحدث فى نفوس الكملة من أصحابه وأتباعه ما يقارب ذلك، والله يتقبله منهم.
ثم علل طلب الاستغفار بقوله:
(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إنه سبحانه كثير القبول لتوبة عباده، لأنه يربى النفوس بالمحن، فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدّد عزيمتها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ مرتبة الكمال.
وخلاصة ما سلف- إذا حصل الفتح وتحقق النصر، وأقبل الناس على الدين الحق فقد زال الخوف، فعليك أن تسبّح ربك وتشكره وتنزع عما كان من خواطر النفس وقت الشدة، فلن تعود الشدائد تأخذ نفوس المخلصين من عباده ماداموا على تلك الكثرة، ينزل بساحتهم الإخلاص وتجمعهم الألفة.(30/259)
وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أن الأمر قد تمّ، ولم يبق إلا أن يلحق بالرفيق الأعلى، فقال فيما
روى عنه: إنه قد نعيت إليه نفسه.
قال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى فى حجة الوداع، ثم نزلت «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فعاش بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزلت: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزلت: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما.
وصلّ وسلّم ربّنا على محمد وآله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا ورابطوا فى سبيل الله.
سورة المسد
هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفتح.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء فى الدنيا، والثواب الجزيل فى العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.
أسباب نزول هذه السورة
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقونى؟ قالوا نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبّا لك!! وفى رواية:
إنه قام ينفض يديه ويقول: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .(30/260)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
شرح المفردات
التباب: الهلاك والخسران: قال تعالى: «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» وأبو لهب: أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب، وتبّ: أي قد تبّ وخسر، يصلى نارا: أي يجد حرها ويذوقه، ولهب النار:
ما يسطع منها عند اشتعالها وتوقدها، والجيد: العنق، والمسد: الليف.
الإيضاح
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) هذا دعاء عليه بالخسران والهلاك، ونسب الهلاك إلى اليدين، لأنهما آلة العمل والبطش، فإذا هلكتا وخسرتا كان الشخص كأنه معدوم هالك.
(وَتَبَّ) أي وقد تب وهلك.
والجملة الأولى دعاء عليه بالخسران والهلاك، والجملة الثانية إخبار من الله بأن هذا الدعاء قد حصل، وقد خسر الدنيا والآخرة.
ثم ذكر أن ما كان يعتزّ به فى الدنيا من مال وجاه لم يغن عنه من الله شيئا يوم القيامة فقال:
(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي لم يفده حينئذ ماله ولا عمله الذي كان يأتيه فى الدنيا من معاداته رسول الله طلبا للعلوّ والظهور فكما أن ذلك لم يجده شيئا(30/261)
فى الدنيا، إذ لم يتغلب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقطع ما أراد الله أن يوصل لم يفده فى الآخرة، بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار.
وقد كان أبو لهب شديد العداوة للنبى صلى الله عليه وسلم، شديد التحريض عليه شديد الصدّ عنه.
روى أحمد عن ربيعة بن عباد قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فى الجاهلية فى سوق ذى المجاز وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضىء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابىء كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصدّ عن الحق، وينفّر عن اتباعه، وذاع عنه تكذيبه للرسول صلى الله عليه وسلم وتحدّيه واتباع خطواته لدحض دعوته، والحط من شأن دينه وما جاء به.
(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيذوق حر النار ويعذب بلظاها.
وخلاصة ما سلف- خسر أبو لهب وضل عمله، وبطل سعيه الذي كان يسعاه للصد عن دين الله، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جدّه واجتهاده فى ذلك، فإن الله أعلى كلمة رسوله، ونشر دعوته، وأذاع ذكره، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب، وإحراق شديد، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين، فوق تعذيبه فى الدنيا بإبطال سعيه، ودحض عمله وستعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده فى مشاكسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه، وكانت تمشى بالنميمة للإفساد، وإيقاد نار الفتنة والعداوة كما قال:
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي وستعذب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت أبى سفيان بن حرب، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعى بالنميمة إطفاء لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم والعرب تقول لمن يسعى فى الفتنة ويفسد(30/262)
بين الناس: هو يحمل الحطب بينهم، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلات.
وقيل إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسّعدان، وتنثرها بالليل فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائه.
وقد زاد سبحانه فى تبشيع عملها وتقبيح صورته فقال:
(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي فى عنقها حبل مما مسد من الحبال أي أحكم فتله، وقد صوّرها الله بصورة من تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها فى جيدها كبعض الحطّابات الممتهنات احتقارا لها، واحتقارا لبعلها، حين اختارت ذلك لنفسها.
وقصارى أمرها- إنها فى تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس وإيقاد نيران العداوة بينهم، بمنزلة حاملة الحطب التي فى عنقها حبل خشن تشدّ به ما تحمله إلى عنقها حين تستقلّ به، وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب وهى على تلك الحال.
ويرى بعض العلماء أن المراد بيان حالها وهى فى نار جهنم، إذ تكون على الصورة التي كانت عليها فى الدنيا، حين كانت تحمل الشوك إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهى لا تزال تحمل حزمة من حطب النار، ولا يزال فى جيدها حبل من سلاسلها، ليكون جزاؤها من جنس عملها فقد روى عن سعيد بن المسيّب أنه قال:
كانت لأم جميل قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنّها فى عداوة محمد، فأعقبها الله حبلا فى جيدها من مسد النار.
نسأل الله الوقاية من النار، والبعد من الصدّ عن دينه وكتابه، إنه هو السميع العليم.(30/263)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
سورة الإخلاص
هى مكية، وآياتها أربع، نزلت بعد سورة الناس.
أسباب نزولها
روى الضحاك أن المشركين أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن الطّفيل فقال له عنهم: شققت عصانا (فرّقت كلمتنا) ، وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونا داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجنا كها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست بفقير ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته، فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له: بيّن لنا جنس معبودك، أم من ذهب أم من فضة؟ فأنزل الله هذه السورة:
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
شرح المفردات
أحد: أي واحد لا كثرة فى ذاته، فهو ليس بمركب من جواهر مختلفة مادية ولا من أصول متعدّدة غير مادية، والصمد: الذي يقصد فى الحاجات كما قال:
لقد بكر الناعي بخير بنى أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
الكفء والمكافئ: النظير فى العمل والقدرة.(30/264)
المعنى الجملي
هذه السورة تضمنت أهمّ الأركان التي قامت عليها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهى توحيد الله وتنزيهه، وتقرير الحدود العامة للأعمال، ببيان الصالحات وما يقابلها، وأحوال النفس بعد الموت من البعث وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب،
وقد ورد فى الخبر: «إنها تعدل ثلث القرآن»
لأن من عرف معناها، وتدبر ما جاء فيها حق التدبر، علم أن ما جاء فى الدين من التوحيد والتنزيه تفصيل لما أجمل فيها.
الإيضاح
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي قل لمن سألك عن صفة ربك: الله هو الواحد المنزه عن التركيب والتعدّد، لأن التعدد فى الذات مستلزم لافتقار المجموع إلى تلك الأجزاء والله لا يفتقر إلى شىء.
(اللَّهُ الصَّمَدُ) أي هو الله الذي يقصده العباد ويتوجهون إليه، لقضاء ما أهمهم دون واسطة إلى شفيع وبهذا أبطل عقيدة مشركى العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء، وعقيدة غيرهم من أهل الأديان الأخرى الذين يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند ربهم ينالون بها التوسط لغيرهم فى نيل مبتغاهم، فيلجئون إليهم أحياء وأمواتا، ويقومون عند قبورهم خاضعين خاشعين، كما يخشعون لله أو أشد خشية.
(لَمْ يَلِدْ) أي تنزه ربنا عن أن يكون له ولد، وفى هذا ردّ لمزاعم مشركى العرب الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، ولمزاعم النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، اقرأ إن شئت قوله تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
(وَلَمْ يُولَدْ) لأن ذلك يقتضى مجانسته لسواه، وسبق العدم قبل الوجود- تنزه ربنا عن ذلك.(30/265)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
وأثر عن ابن عباس أنه قال: لم يلد كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيسى وعزير، وهو ردّ على النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، وعلى اليهود الذين قالوا:
عزير ابن الله.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له ندّ ولا مماثل، وفى هذا نفى لما يعتقده بعض المبطلين من أن لله ندّا فى أفعاله كما ذهب إلى ذلك مشركو العرب حيث جعلوا الملائكة شركاء لله.
والخلاصة- إن السورة تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه، فقد نفى الله عن نفسه أنواع الكثرة بقوله: «الله أحد» ونفى عن نفسه أنواع الاحتياج بقوله:
«اللَّهُ الصَّمَدُ» ونفى عن نفسه المجانسة والمشابهة لشىء بقوله: «لَمْ يَلِدْ» ونفى عن نفسه الحدوث والأوّلية بقوله: «وَلَمْ يُولَدْ» ونفى عن نفسه الأنداد والأشباه بقوله:
«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
سورة الفلق
هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفيل.
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
شرح المفردات
أعوذ: أي ألجأ، والفلق: شق الشيء وفصل بعضه من بعض، تقول فقلت الشيء فانفلق كما قال تعالى: «فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» والشيء المفلوق يسمى فلقا،(30/266)
والمراد به كل ما يفلقه الله كالأرض التي تنفلق عن النبات، والجبال التي تنفلق عن عيون الماء، والسحائب التي تنفلق عن ماء الأمطار، والأرحام التي تنفلق عن الأولاد.
والغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه، ووقب: دخل ظلامه فى كل شىء، ويقال وقبت الشمس إذا غابت، والنفاثات: واحدهم نفاثة كعلامة، من النفث وهو النفخ من ريق يخرج من الفم، والعقد: واحدها عقدة، والحاسد: هو الذي يتمنى زوال نعمة المحسود.
الإيضاح
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي قل: أستعيذ برب المخلوقات، ومبدع الكائنات، من كل أذى وشر يصيبنى من مخلوق من مخلوقاته طرّا.
ثم خصص من بعض ما خلق أصنافا يكثر وقوع الأذى منهم فطلب إليه التعوذ من شرهم ودفع أذاهم، وهم:
(1) (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي ومن شر الليل إذا دخل وغمر كل شىء بظلامه، والليل إذا كان على تلك الحال كان مخوفا باعثا على الرهبة- إلى أنه ستار يختفى فى ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى- إلى أنه عون لأعدائك عليك.
(2) (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي ومن شر النمامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبددون شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمى الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمى الارتباط بين الزوجين:
(عقدة النكاح) .
فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربا من السحر، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها فالنمام يأتى لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد(30/267)
أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه، إذ يقول كلاما ويعقد عقدة وينفث فيها، ثم يحلها إيهاما للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين.
قال الأستاذ الإمام ما خلاصته: قد رووا هاهنا أحاديث فى أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتى شيئا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك، وأخرجت موادّ السحر من بئر، وعوفى صلى الله عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة.
ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه عليه الصلاة والسلام- ماس بالعقل آخذ بالروح، فهو مما يصدق قول المشركين فيه: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» .
والذي يجب علينا اعتقاده أن القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة والسلام، حيث نسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبخهم على ذلك.
والحديث على فرض صحته من أحاديث الآحاد التي لا يؤخذ بها فى العقائد، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلا باليقين، ونفى السحر عنه صلى الله عليه وسلم لا يستلزم نفى السحر مطلقا، فربما جاز أن يصيب السحر غيره بالجنون، ولكن من المحال أن يصيبه صلى الله عليه وسلم، لأن الله عصمه منه.
إلا أن هذه السورة مكية فى قول عطاء والحسن وجابر، وما يزعمونه من السحر إنما وقع بالمدينة، فهذا مما يضعف الاحتجاج بالحديث، ويضعف التسليم بصحته.
وعلى الجملة فعلينا أن نأخذ بنص الكتاب، ونفوض الأمر فى الحديث ولا نحكمه فى عقيدتنا اهـ.
(3) (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) أي ونستعيذ بك ربنا من شر الحاسد إذا أنفذ حسده، بالسعي والجدّ فى إزالة نعمة من يحسده، فهو يعمل الحيلة، وينصب(30/268)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
شباكه، لإيقاع المحسود فى الضرر، بأدق الوسائل، ولا يمكن إرضاؤه، ولا فى الاستطاعة الوقوف على ما يدبره، فهو لا يرضى إلا بزوال النعمة، وليس فى الطوق دفع كيده، وردّ عواديه، فلم يبق إلا أن نستعين عليه بالخالق الأكرم، فهو القادر على ردّ كيده، ودفع أذاه، وإحباط سعيه.
نسألك اللهم وأنت الوزر والنصير، أن تقينا أذى الحاسدين، وتدفع عنا كيد الكائدين، إنك أنت الملجأ والمعين.
سورة الناس
هى مكية، وآياتها ست، نزلت بعد سورة الفلق
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
شرح المفردات
رب الناس: أي مربيهم ومنميهم ومراعى شؤونهم، الوسواس: أي الموسوس الذي يلقى حديث السوء فى النفس، والخناس: من الخنوس وهو الرجوع والاختفاء والجنة: واحدهم جنىّ، كإنس وإنسى.
الإيضاح
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أمر رسوله أن يستعين بمن يربى الناس بنعمه، ويودبهم بنقمه.(30/269)
(مَلِكِ النَّاسِ) أي مالكهم ومدبر أمورهم، وواضع الشرائع والأحكام التي فيها سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
(إِلهِ النَّاسِ) أي المستولى على قلوبهم بعظمته، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه بل يخضعون بما يحيط منها بنواحي قلوبهم، ولا يدرون من أىّ جانب يأتيهم، ولا كيف يسلط عليهم.
وإنما قدم الربوبية، لأنها من أوائل نعم الله على عباده، ثم ثنى بذكر المالكية لأن العبد إنما يدرك ذلك بعد أن يصير عاقلا مفكرا، ثم ثلّث بذكر الألوهية، لأن المرء بعد أن يدرك ويعقل يعلم أنه هو المستوجب للخضوع والعزة والمستحق للعبادة وإنما قال: رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وهو رب كل شىء ومالك كل شىء وإله كل شىء من قبل أن الناس هم الذين أخطئوا فى صفاته وضلوا فيها عن الطريق السوىّ، فجعلوا لهم أربابا ينسبون إليهم بعض النعم، ويلجئون إليهم فى دفع النقم، ويلقبونهم بالشفعاء، ويظنون أنهم هم الذين يدبرون حركاتهم، ويرسمون لهم حدود أعمالهم.
وبحسبك أن تقرأ قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» وقوله: «وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» .
والخلاصة- إنه سبحانه أراد أن ينبه الناس بأنه هو ربهم، وهم أناس مفكرون، وملكهم وهم كذلك، وإلههم وهم هكذا، فباطل ما اخترعوا لأنفسهم من حيث هم بشر.
(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) أي ألجأ إليك ربّ الخلق وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء، لأنه يأتى من ناحية(30/270)
الباطل، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوإ مصير، إذا انجرّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال.
وهذه الأحاديث النفسية إذا سلط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، ولكن الموسوس عند إلقائها.
وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس، يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ وبعثك على فعل السوء ثم كرّته بأوامر الدين يخنس ويمسك عن القول، إلى أن تستح له فرصة أخرى.
وقد وصف الله هذا الوسواس الخناس بقوله:
(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي إن هذا الوسواس الخناس الذي يوسوس فى صدور البشر، قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس، كما جاء فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» فشيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى، وشيطان الإنس كذلك، فكثيرا ما يريك أنه ناصح شفيق، فإذا زجرته خنس وترك هذه الوسوسة، وإذا أصغيت إلى كلامه استرسل واستمر فى حديثه وبالغ فيه،
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتى عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه أبو هريرة وخرّجه مسلم.
وإنما جعل الوسوسة فى الصدور من قبل أنه عهد فى كلام العرب أن الخواطر فى القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، ألا تراهم يقولون: إن الشك يحوك فى صدرك، ويجيش فى صدرى كذا، ويختلج ذلك بخاطري، وما الشك إلا فى نفسه وعقله، وأفاعيل العقل تكون فى المخ، ويظهر لها أثر فى حركات الدم وضربات القلب، وضيق الصدر وانبساطه.
قال الأستاذ الإمام: الموسوسون قسمان:
(1) قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد فى أنفسنا(30/271)
أثرا ينسب إليهم، ولكل واحد من الناس شيطان، وهى قوة نازعة إلى الشر، ويحدث منها فى نفسه خواطر السوء.
(2) قسم الناس، ووسوستهم ما نشاهده ونراه بأعيننا، ونسمعه بآذاننا.
وما أوردوه فى خرطوم الشيطان وخطمه ومنقاره وجثومه على الصدر أو على القلب ونحو ذلك فهو من قبيل التمثيل والتصوير اهـ ملخصا.
وقد بدئت السورة برب الناس، ومن كان مربيهم فهو القادر على دفع إغواء الشيطان ووسوستهم.
وقد أرشد فى هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه، كما أرشد إليها فى الفاتحة للإشارة إلى أن ملاك الأمر كله هو التوجه إليه وحده، والإخلاص له فى القول والعمل والالتجاء فيما لا قدرة لنا على دفعه.
اللهم اجعلنا من المخلصين فى أعمالنا، وادفع عنا أذى شياطين الإنس والجن، وأبعد عنا شر الموسوسين، وقنا عذاب جهنم، ولا تفضحنا يوم العرض.
وصل ربنا على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الذين ذادوا عن دينك، بقدر ما غرست فى قلوبهم من برد اليقين، وأثلجت صدورهم بمحبة هذا الدين.(30/272)
خاتمة التفسير
حمدا لك اللهم على نعمائك، وشكرا لك على جزيل آلائك، سبحانك رب وفقتني لتفسير كتابك الكريم، وبيان أسراره ومغازيه لجمهرة المسلمين، بعد أن كانت تقوم أمامهم عقبات تلو عقبات فمن مصطلحات للعلوم لا تستسيغها إلا طوائف ممن تخصصوا لدرسها، ومن تفسير لنظريات طبية أو فلكية دلت أبحاث العلماء المحدثين على أن تفسير العلماء القدامى لها كان مجانفا للحقائق التي أثبتها العلم الحديث، ومن قصص دوّن فى كتب التفسير يعوزه الدليل النقلى الصحيح، ولا يوافق على صدقه العقل الرجيح، ولا سيما قصص الأنبياء وأخبار الأمم البائدة، وبدء التكوين، وخلق السموات والأرض.
وكم سهرت الليالى الطوال فى أيام القرّ، وإبّان الحرّ، لا تؤنسني إلا معونة الله وجميل توفيقه، وما أشعر به من لذة تخفف عنى ما أنقض ظهرى.
وحينما كنت أحس بسأم من العمل المضنى- آنس أن نفحة من روح الله يهب نسيمها على قلبى، فأنشط للعمل، وأدأب على المضي قدما، لمواصلة الدرس والتأليف.
وهكذا كانت تمر الليالى والأيام، فلا أجد مع ذلك الجهد إلا انشراحا وسرورا بمواصلة العمل. وقد أعاننى الله على إتمامه بعد سبع سنين دائبا العمل ليل نهار، صباح مساء.
وكان مسك الختام، وإنجاز التفسير فى سلخ ذى الحجة من سنة 1365 خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.
ولله الحمد فى الآخرة والأولى، وإليه المرجع والمآب.(30/273)
خاتمة الطبع
بسم الله الرّحمن الرّحيم حمدا لمن أنزل القرآن تبيانا للناس وهدى وموعظة للمتقين، وأرسل سيدنا محمدا بشيرا ونذيرا ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه مصابيح الهدى وترجمان القرآن الذي هو حجة الله على الناس أجمعين.
أتى رب العالمين فيه بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة على انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه جل ذكره بالمعبودية. دمغ به الباطل وأزهقه، وزيف به عقائد العرب وبين لهم النجدين، فمنهم من مال إلى الإسلام، ومنهم من خضع بالسيف والسنان.
ولقد وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده، وبين مراميه وفسر بعض آياته، واقتدى به الصحابة ومن بعدهم فى ذلك.
ولله در حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ «أحمد مصطفى المراغي بك» حيث خاض لجة بحر علم تفسير القرآن، فشرح الألفاظ المفردة التي يصعب على القارئ فهمها لأول وهلة، ثم تلاها بالمعنى المراد من الآيات فى عبارة مختصرة، ثم ثلثها بإيضاح المعاني إيضاحا شاملا شافيا، مع تجنب القصص الإسرائيلية المدسوسة والخرافات الدخيلة على هذا العلم النفيس، فذكر منها الصريح والنقل الصحيح. اهتدى إلى ما لم يهتد إليه الفحول من متقدميه، واستدل بأحاديث الرسول فى بعض المواضيع، وبأشعار العرب، وبأقوال أهل اللغة والعلماء الموثوق بعلمهم ونقلهم، فهو كما قال القائل:
وإنى وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقد قام بطبعه طبعا متقنا ونشره بين الأنام السادة النبلاء من نشروا كتب الجهابذة الأعلام فى أنحاء المعمورة، أصحاب:
[شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر] فلله درهم حيث قدموه لجمهور القراء بهذا الشكل البديع مع الاعتناء بتصحيحه بمعرفة لجنة التصحيح بالشركة.(30/274)
فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 كان المشركون كثيرا ما يتحدثون فى شأن البعث والحساب فنزلت سورة عم 8 للظلمة فوائد وللنور فوائد 9 فى الشمس سر الحياة 11 أمر الكائنات فى يوم الفصل على غير ما نعهد 14 ذكر جرائم الكفار التي استحقوا عليها العذاب 17 التمتع بالنساء فى الآخرة يكون على نهج يشاكل العالم الأخروى 19 الملائكة مخلوقات غيبية نصدق بما جاء فى الكتاب من أوصافها 20 فى يوم القيامة تتجلى للمرء أعماله التي كانت فى حياته الأولى 23 الإقسام ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم يكون لأحد أمرين 25 استبعد المشركون أمر البعث لأسباب ثلاثة 27 قصص موسى مع فرعون طاغية مصر 30 البعث هين إذا قيس بخلق السموات والأرض 31 تعاقب الليل والنهار يهيىء الأرض للسكنى 33 يوم القيامة يتذكر كل امرئ ما عمل فى الدنيا 35 كان المشركون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فأمره أن يقول لهم:
علمها عند ربى 37 يوم القيامة يظن المشركون أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا عشية أو ضحاها(30/275)
9 عتاب الله لنبيه على الإعراض عن هذا الأعمى 42 الهداية تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل 47 الآيات المنبثة فى الآفاق والأنفس 49 ذكر بعض أهوال يوم القيامة التي توجب الفزع 50 الناس فريقان: سعداء وأشقياء 53 حين تقع أحداث القيامة تعلم كل نفس ما قدّمت من عمل 55 افتنّ العرب فى وأد البنات 56 لا يتقبل الله من الأعمال إلا ما كان عن قلب ملىء بالإيمان 59 أوصاف جبريل عليه السلام 60 صفة النبي عليه الصلاة والسلام 61 على مشيئة المكلف تتوقف الهداية 65 فى يوم الحشر يسأل الإنسان عما دعاه إلى مخالفة خالقه.
66 الإنسان لا يعيش كما يعيش سائر الحيوان 67 لا يمنع الإنسان من التصديق بالبعث إلا العناد.
71 جزاء التطفيف فى الكيل والميزان 73 التطفيف يكون فى غير الكيل والميزان 75 مقالة المشركين فى القرآن.
76 لا يكذب بيوم الدين إلا المعتدى الأثيم 78 ما يقال للكفار يوم القيامة 80 أعمال الأبرار فى كتاب يسمى عليين وأعمال الفجار فى كتاب يسمى سجينا(30/27639)
81 أثر النعيم فى أهل الجنة 83 ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الدنيا 84 من شأن القوى أن يضحك ممن يخالفة 88 الناس فى الآخرة فريقان: بررة وفجرة 89 حين اختلاف نظام هذا العالم تمدّ الأرض مدّ الأديم العكاظي 91 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم حاسبنى حسابا يسيرا 92 إيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال تصوير وتمثيل 94 إقسام الله تعالى بآياته الباهرات فى هذا الكون 98 الإقسام بما فيه غيب وشهود 99 تعذيب المشركين للمؤمنين شنشنة قديمة 100 حديث أصحاب الأخدود 102 ما أعد الله للكافرين من العذاب الأليم 104 ما يعظم به الملك فى الدنيا 106 فى قصص أصحاب الأخدور تسلية للنبى وصحبه 107 أحوال الكفار متشابهة فى كل عصر 109 إقسام الله تعالى بأن النفوس لم تخلق سدى 112 كيفية خلق الجنين ونموّ الحمل كما أثبته العلم حديثا 114 الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة 118 فى الحديث «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم» إلخ 121 اسم الله ما يعرف به(30/277)
123 وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه 125 أمره صلى الله عليه وسلم بتذكير عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم 126 الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام ثلاثة 127 وعد من زكى نفسه بالفوز والفلاح والظفر بالسعادة 129 الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيان من شرائع المرسلين 134 وصف الجنة وما فيها.
136 إقامة الحجة على المنكرين ليوم البعث 137 ضرب أمثلة دالة على قدرته تعالى.
141 نعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار 143 ذكر قصص الأمم الماضية وما فيها من سلوى لرسوله صلى الله عليه وسلم 143 الإنسان لا يهتم إلا بشئون الدنيا 148 توبيخ الإنسان على زجر اليتيم والمسكين 150 إيثار الناس للحياة الدنيا على الآخرة 151 يندم الإنسان على ما فرط منه حين لا يجدى الندم 152 وصف يوم القيامة وما فيه من أحداث 157 خلق الإنسان فى عناء 161 الحض على مواساة اليتيم وإطعام المسكين 163 فعل البر لا يجدى نفعا إلا مع الإيمان واطمئنان القلب 166 الحكمة فى القسم بالشمس والقمر والليل والنهار(30/278)
168 ألهم الله تعالى النفوس الفجور والتقوى وعرّفها حالها 170 ذكر بعض أخبار الأمم الماضية وما جوزوا به 174 اختلاف الأجنة فى الذكورة والأنوثة دليل على أن واضع النظام عليم بما يفعل 178 أعذر الله إلى عباده فأبان لهم الخير والشر وأرشد إلى عاقبتهما 180 الناس أصناف ثلاثة 182 سبب نزول سورة الضحى 184 تعداد ما أنعم الله به على رسوله قبل النبوة 186 مطالبته عليه الصلاة والسلام بشكر هذه النعم 187 كان صلى الله عليه وسلم كثير الإنفاق على الفقراء عظيم الرأفة بهم 189 لا فخار أعظم من ذكره صلى الله عليه وسلم فى كلمة الإيمان مع العلى الرحمن 191 ستخرج النفس ظافرة مهما اشتد العسر إذا اعتصمت بالصبر وتوكلت على ربها 194 أقسم ربنا بالعهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر 197 صدر سورة اقرأ أول القرآن نزولا 200 نعم الله على عباده 201 أسباب طغيان الإنسان 205 ما دار من الحواريين النبي صلى الله عليه وسلم وأبى جهل 206 أشار القرآن إلى نزول القرآن فى أربعة مواضع 208 فضل ليلة القدر 215 النعي على المسلمين فيما أحدثوا من البدع 217 علامات يوم القيامة(30/279)
223 أقسم الله سبحانه بالخيل ليعلى من قدرها 227 نحن نؤمن بالميزان يوم القيامة لكنا لا نعرف حقيقته.
230 زيارة القبور أعظم دواء للقلب القاسي 232 يسأل الكفار عن النعيم الذي كانوا يتمتعون به فى الدنيا 234 الدهر خلق من خلق الله تقع فيه الحوادث خيرها وشرها 235 الناس فى خسر إلا من اتصفوا بأربع صفات 238 سخط الله وعذابه لكل طعان فى الناس أكّال للحوم 242 قصص أصحاب الفيل كما رواه الثقات.
243 البعوض الذي أهلك أصحاب الفيل 245 تعداد النعم على قريش 248 الرياء على ضروب 251 أسباب نزول سورة الكوثر 257 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لتكذيب قومه له 262 كان أبو لهب يصدّ عن الحق وينفر الناس عن اتباعه 264 ورد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن.
264 سورة الإخلاص تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه 267 علمنا الله أن نتعوّذ به من أصناف من الخلق 268 نفى تأثير السحر فى النبي صلى الله عليه وسلم 271 الموسوسون قسمان 273
خاتمة التفسير 274
خاتمة الطبع(30/280)