تفسير المفردات
فرض عليك: أي أوجب عليك، ومعاد الرجل: بلده، لأنه يتصرف فى البلاد ثم يعود إليه، ظهيرا: أي معينا، هالك: أي معدوم، وجهه: أي ذاته، الحكم:
أي القضاء النافذ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون، وبين بغى قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإيذائهم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة، وفتحه إياها منصورا ظافرا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه- لرادّك إلى محل عظيم القدر اعتدته وألفته، وهو مكة، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح، وقد كان للعود إليها شأن عظيم، لاستيلاء رسول الله عليها عنوة، وقهره أهلها، وإظهار عز الإسلام، وإذلال المشركين.
وهذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فى أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا.
روى مقاتل «أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الغار (حين الهجرة) وسار فى غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال له: أنشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، فقال جبريل: فإن الله يقول: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) .(20/104)
وهذه إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر.
ولما قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لفى ضلال مبين) نزل قوله تعالى:
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لمن خالفك وكذّبك من قومك المشركين ومن تبعهم: ربى أعلم بالمهتدي منى ومنكم، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن تكون له الغلبة والنصرة فى الدنيا والآخرة.
ثم ذكّره سبحانه نعمه، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم فقال:
(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت أيها الرسول ترجو أن ينزل عليك القرآن، فتعلم أخبار الماضين من قبلك، وما سيحدث من بعدك وما فيه من تشريع، فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم وآداب هى منتهى ما تسمو إليه نفوسهم وتطمح إليها عقولهم ثم تتلو ذلك على قومك، ولكن ربك رحمك فأنزله عليك.
ثم بين ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة فقال:
(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي فاحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك ولا تكونن عونا لمن كفروا به ولكن فارقهم ونابذهم.
ثم شدد عزمه وقواه بألا يأبه بمخالفتهم فقال:
(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا تبال بهم ولا تهتم بمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك ومؤيدك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان.
ثم أمره أن يصدع بالدعوة ولا يألو جهدا فى تبليغ الرسالة فقال:
(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم واعبده وحده لا شريك له.(20/105)
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تتركن الدعاء إلى ربك وتبليغ المشركين رسالتك، فتكون ممن فعل فعل المشركين بمعصيته ومخالفة أمره.
ثم فسر هذا وبينه بقوله:
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تعبد أيها الرسول مع الله الذي له عبادة كل شىء- معبودا آخر سواه.
ثم علل هذا بقوله:
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، ونحو الآية قوله:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .
ثم بين صفاته فقال:
1- (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق، كما قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها لبيد: «ألا كل شىء ما خلا الله باطل» .
2- (لَهُ الْحُكْمُ) أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ فى الخلق.
3- (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وصل ربنا على محمد وآله.(20/106)
خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض
(1) استعلاء فرعون وإفساده فى الأرض.
(2) استضعافه بنى إسرائيل وقتله أبناءهم واستبقاؤه نساءهم.
(3) منته تعالى على بنى إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون وجعلهم أئمة فى أمر الدين والدنيا ووراثتهم أرض الشام.
(4) إغراق فرعون وجنوده.
(5) إلقاء موسى فى اليمّ، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه.
(6) قتل موسى للقبطى، ثم هربه إلى أرض مدين، وتزوجه ببنت كاهنها، وبقاؤه بها عشر سنين.
(7) عودة موسى إلى مصر، ومناجاته ربه.
(8) معجزات موسى من العصا واليد البيضاء.
(9) طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هرون ليكون له وزيرا وإجابته إلى ذلك.
(10) تبليغه رسالة ربه إلى فرعون، وتكذيب فرعون له، واستكباره فى الأرض بغير الحق.
(11) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره عن قصص الماضين، دون أن يكون حاضرا معهم، ولا أن يتعلم ذلك من معلم.
(12) إنكار قريش لنبوته، بعد أن جاءهم بالحق من ربهم، وقولهم: إن ما جاء به سحر مفترى.
(13) إيمان أهل الكتاب بالقرآن وإعطاؤهم أجرهم مرتين.
(14) إثبات أن الهداية بيد الله، لا بيد رسوله، فلا يمكنه أن يهدى من يحب.
(15) معاذير قريش فى عدم إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دحضها.
(16) بيان أن الله لا يعذب أمة إلا إذا أرسل إليهم رسولا، حتى لا يكون لهم حجة على الله.(20/107)
(17) نداء المشركين على رءوس الأشهاد، وأمرهم بإحضار شركائهم ونداؤهم، ليسألهم عما أجابوا به الرسل، فلم يستطيعوا لذلك ردا.
(18) بيان أن اختيار الرسل لله، لا للمشركين، فهو الذي يصطفى من يشاء لرسالته.
(19) التذكير بنعمته على عباده باختلاف الليل والنهار.
(20) شهادة الأنبياء على أممهم.
(21) ذكر قارون وبغيه فى الأرض، ثم خسف الأرض به.
(22) بيان أن ثواب الآخرة لا يكون إلا لمن لا يريد العلو فى الأرض ولا الفساد فيها.
(23) مضاعفة الله للحسنات، وجزاء السيئة بمثلها.
(24) الإنباء بالغيب عن نصر الله لرسوله، وفتحه لمكة.
(25) بيان أن كل ما فى الوجود فهو هالك، إلا الله تبارك وتعالى.(20/108)
سورة العنكبوت
هى مكية إلا من أولها إلى قوله: «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» فمدنية، نزلت بعد سورة الروم، آيها تسع وستون.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(1) إنه ذكر فى السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بنى إسرائيل تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر، كما قال: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» .
(2) ذكر فى السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
(3) نعى هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد- وهنا نعى عليهم أيضا وبيّن أنهم فى ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
(4) هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
(5) ذكر هناك فى الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله:
«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» ، وفى خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
.(20/109)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
تفسير المفردات
الفتنة: الامتحان والاختبار، ليعلمن الله الذين صدقوا: أي ليظهرنّ صدقهم، السبق: الفوت والمراد به الفوت عن المجازاة، والسيئات: هى الشرك بالله والمعاصي التي يجترحونها، ساء ما يحكمون: أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا.
المعنى الجملي
بعد أن قال فى أواخر السورة السالفة «وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» وكان فى الدعاء إليه توقع الطعن والضرب فى الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين- أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.
روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردّوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم، أنزلت فيكم آية كذا وكذا؟ فقالوا: تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .(20/110)
قال مقاتل: نزلت فى مهجع مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ:
«سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» الآية.
الإيضاح
(الم) تقدم أن قلنا إنه ينطق بالحروف المقطعة فى أوائل السور بأسمائها ساكنة فيقال: (ألف. لام. ميم) .
والحكمة فى البداءة بها التنبيه وطلب إصغاء السامعين إلى ما يلقى بعدها، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال قدّم على المقصود شيئا غيره ليلفت المخاطب بسببه إليه، فحينا يكون كلاما مفهوما كقول القائل اسمع أو ألق بالك إلىّ، وحينا يكون فى معنى الكلام المفهوم كقولك يا على، وحينا يكون صوتا غير مفهوم المعنى كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه.
فالنبى صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظ الجنان فهو إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم الخبير أن يقدّم على المقصود حروفا هى كالمنبّهات لا يفهم منها معنى، لتكون أتم فى إفادة التنبيه، لأنه إذا كان المقدم قولا مفهوما فربما ظن السامع أنه هو المقصود ولا كلام للمتكلم بعد ذلك ليصغى إليه، أما إذا سمع صوتا لا معنى له جزم بأن هناك كلاما آخر سيرد بعد، فيقبل إليه تمام الإقبال، ويرهف السمع إلى ما سيأتى.
وقد ثبت بالاستقراء أن كل سورة فى أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو «الم ذلِكَ الْكِتابُ، المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، يس وَالْقُرْآنِ، ص وَالْقُرْآنِ، ق وَالْقُرْآنِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ» إلا ثلاث سور «كهيعص، الم أَحَسِبَ النَّاسُ، الم غُلِبَتِ الرُّومُ» .(20/111)
وقد حصل التنبيه فى القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ» ، وقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ؟» ، من قبل أن تقوى الله أمر عظيم، ومثلها تحريم ما أحل الله.
وقد بدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البدء بالقرآن أو الكتاب من قبل أن فيها ذكر جميع التكاليف، وهى شاقة على النفس، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يلقى بعدها:
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أظن الذين نجوا من أصحابك من أذى المشركين أن نتركهم بغير اختبار ولا امتحان بمجرد قولهم: آمنا بك وصدقناك فيما جئنا به من عند الله، كلا لنمتحننّهم بشاقّ التكاليف كالهجرة، والجهاد فى سبيل الله، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وأفانين المصايب فى الأنفس والأموال والثمرات، ليمتاز المخلص من المنافق، والراسخ فى الدين من المتزلزل فيه، ونجازى كلا بحسب مراتب عمله.
ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» .
والخلاصة: أيظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا دون أن يبتلوا بالفرائض البدنية والمالية كالهجرة من الأوطان والجهاد فى سبيل الله ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين وإغاثة البائسين والملهوفين.
ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم بما نال من قبلهم بالمشاقّ فقال:
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ولقد اختبرنا أتباع الأنبياء من الأمم السالفة وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ، فابتلينا بنى إسرائيل بفرعون وقومه وأصابهم منه البلاء العظيم والجهد الشديد، وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه- لا جرم ليصيبنّ أتباعك أذى شديد وجهد عظيم ممن خالفهم وناصبهم العداء.(20/112)
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟
ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» .
وعن أبى سعيد الخدري قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدى عليه، فوجدت حره بين يدى فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال إنا كذلك يضعّف لنا البلاء ويضعّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله:
أىّ الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (يمزقها) وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء» .
ونحو الآية قوله: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا» .
(فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي وليظهرنّ الله الصادقين منهم فى إيمانهم من الكاذبين بما يشبه الامتحان والاختبار، وليجازينّ كلا بما يستحق.
وخلاصة ما سلف: أيها الناس لا تظنوا أنى خلقتكم سدى، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم وأرقى منه فى كل شئونه، ولا يتم ذلك إلا بتكليفكم بعلم وعمل، واختباركم من آن إلى آخر بإنزال النوازل والمصايب، فى الأنفس والأموال والثمرات، والتخلي عن بعض الشهوات، وفعل التكاليف من الزكاة والصيام والحج ونحوها فحياتكم حياة جهاد وشقاء، شئتم أو أبيتم.(20/113)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار وتفوزون بالنجاح فيه يكون مقدار الجزاء والثواب، وتلك سنة الله فيكم وفى الأمم من قبلكم، وتاريخ الأديان ملىء بأخبار هذا البلاء وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل.
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟) أي بل أيظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم، ولا نستطيع أن نجرى العدل فيهم، وما قضت به سنتنا فى الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟.
قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبى معيط وحنظلة بن أبى سفيان والعاص بن وائل.
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكما يحكمونه هذا الحكم، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لم نخلق الخلق سدى، بل رييناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم، لعلهم يلمحون فى هذا العالم نور جمالى وجلالى.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 الى 7]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
تفسير المفردات
يرجو: أي يطمع، لقاء الله: أي نيل ثوابه وجزائه، أجل الله: الوقت المضروب للقائه، جاهد أي بذل جهده فى جهاد حرب أو نفس.(20/114)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك فى الدنيا سدى، وأن من ترك ما كلف به عذّب- أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيّع الله عمله ولا يخيّب أمله، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى الله تعالى فهو غنىّ عن الناس جميعا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة.
الإيضاح
(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي من كان يطمع فى ثواب الله يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه، وعمل ما يوصله إلى مرضاته، ويجتنب ما يبعد من سخطه، فإن أجل الله الذي أجّله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بعقائدهم وأعمالهم، ويجازى كلا بما هو أهل له، وفى هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجوّ والمخوف وعدا ووعيدا.
ثم بين سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس لنفع يعود إليه، بل لفائدة المكلف فقال:
(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ومن بذل جهده فى جهاد عدو أو حرب نفس فإنما يجاهد لنفع نفسه، لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده، وهربا من عقابه، وليس بالله إلى فعله حاجة، فهو غنى عن جميع خلقه، له الملك وله الأمر يفعل ما يشاء.
ونحو الآية: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» وقوله: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» .
ثم بين بالتفصيل جزاء المطيع فقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ(20/115)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)
أي والذين آمنوا بالله ورسوله وصح إيمانهم حين ابتلائهم، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم، وعملوا صالح الأعمال، فأدّوا فرائضه وقاموا بها حق القيام، فواسوا البائس الملهوف، وأغاثوا المظلوم، وقدّموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه، فرأبوا صدعه، وسدّوا ثغره، وكانوا للمؤمنين سندا ومعينا، حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضا- لنكفرنّ عنهم سيئاتهم التي فرطت منهم فى شركهم أو صدرت منهم لماما فى إيمانهم وندموا على ما اجترحوه منها، ولنثيبنهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون، فنقبل القليل من الحسنات، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وتجزى على السيئة بمثلها، أو نعفو عنها.
ونحو الآية قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات- أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما، لأنهما سبب وجوده، فلهما عليه الإحسان والطاعة.
فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق، وإلى الوالدة بالإشفاق، إلا إذا حرّضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين، فإنه لا يطيعهما فى ذلك، ثم بين أن من يعمل الصالحات يدخله الله فى زمرة الأنبياء والأولياء، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة والزلفى عنده مثل ما أوتى هؤلاء.(20/116)
روى الترمذي «أن الآية نزلت فى سعد بن أبى وقّاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارّا بأمه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتعيّر بذلك أبد الدهر يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى، فكلى إن شئت، وإن شئت فلا تأكلى، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما فى الشرك به» .
الإيضاح
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي وأمرناه بتعهدهما والبر بهما، والإحسان إليهما، كما قال فى آية أخرى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» .
(وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن حرضاك على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فإياك أن تفعل ذلك، وجاء فى الحديث الصحيح «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» .
ومعنى قوله: (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أنه لا علم لك بإلهيته، وإذا كان لا يجوز له أن يتّبع فيما لا يعلم صحته فأحر به ألا يتبع فيما يعلم بطلانه.
ثم توعد من يفعل ذلك بقوله:
(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي مرجعكم جميعا إلىّ يوم القيامة،(20/117)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
من آمن منكم ومن كفر، ومن بر والديه، ومن عقّ، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بما هو أهل له.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي والذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله وعملوا ما يصلح نفوسهم، ويزكّى أرواحهم ويطهرها، لندخلنهم فى زمرة الصالحين، ونجعلهم فى عدادهم فندخلهم الجنة معهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
المعنى الجملي
الناس فى الدين أقسام ثلاثة: مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما، يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر فى فؤاده، وقد بين القسمين الأولين بقوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وبين أحوالهما بقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلى قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثم أردف ذلك ذكر القسم الثالث بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) إلخ.
روى أن الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذى وضرب فارتدّ وقد كان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخويه لأمه، ثم عاش بعد ذلك دهرا وحسن إسلامه.(20/118)
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) أي ومن الناس فريق يقول: آمنا بالله وأقررنا بوحدانيته، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه، جعل فتنة الناس فى الدنيا كعذاب الله فى الآخرة، فارتد عن إيمانه، ورجع إلى كفره، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى، ويجعل قلبه مطمئنا بالإيمان، ولكنه جعل فتنة الناس صارفة له عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وعذاب الناس له دافع، وعذاب الله ليس له دافع، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده العقاب الأليم، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدّها عذابا.
قال الزجاج: ينبغى للمؤمن أن يصبر على الأذى فى الله.
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو ليلى عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت فى الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علىّ ثالثة، ومالى ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ماوارى إبط بلال» .
وخلاصة ذلك: إن من الناس من يدّعون الإيمان بألسنتهم، فإذا جاءتهم محنة وفتنة فى الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى منهم، فارتدّوا عن الإسلام، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلا فى حنايا ضلوعهم وشغاف قلوبهم.
ونحو الآية قوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» .
(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي ولئن جاء نصر قريب من لدى ربك بالفتح والمغانم ليقولنّ هؤلاء المنافقون: إنا كنا معكم إخوانا فى الدين ننصركم على أعدائكم، وهم كاذبون فيما يدّعون.
ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا(20/119)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟» .
ثم توعدهم وذكر أنه عليم بما فى صدورهم، لا يخفى عليه شىء من أمرهم فقال:
(أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟) أي أو ليس الله أعلم بما فى قلوب المنافقين وما تكنّه صدورهم، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سر؟.
ثم ذكر أن هذه الفتنة إنما هى ابتلاء واختبار من الله، ليستبين صادق الإيمان من المنافق، الذي لا يتجاوز الإيمان طرف لسانه، ولا يعدوه إلى قلبه فقال:
(وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي وليختبرن الله عباده بالسراء والضراء، ليميز صادق الإيمان من المنافق، من يطيع الله فى كل حال فيصبر على اللأواء إذا مسته، ويعدّها اختبارا له، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوّض الأمر فيها إليه، ومن يعصيه إذا حزبه الأمر، واشتد به الخطب، ولا يجد الصبر إلى قلبه سبيلا.
ونحو الآية قوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» وقوله: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)(20/120)
تفسير المفردات
المراد بالحمل هنا: تبعة الذنوب، والأثقال واحدها ثقل: وهو الحمل الذي يئود حامله، والمراد به الذنب والإثم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد- أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينا آخر بنحو قولهم لهم: لا عليكم بذلك من بأس، إننا نحتمل تبعات ذنوبكم، ثم ردّ مقالتهم ببيان كذبهم، فإن أحدا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين.
روى عن مجاهد: أن الآية نزلت فى كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي وقال الكافرون من قريش لمن آمن منهم واتبعوا الهدى: ارجعوا إلى ديننا الذين كنتم عليه، واسلكوا طريقنا، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها وهى فى رقابنا، كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك فى رقبتى.
فردّ الله عليهم كذبهم بقوله:
(وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وإنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة فإن أحدا لا يحمل وزر أحد كما قال تعالى: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقال «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ» .(20/121)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
ثم أكد ما سبق وقرره بقوله:
(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوه إنهم يحملون عنهم الخطايا، قال صاحب الكشاف:
وترى المتّسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم: افعل هذا وإثمه فى عنقى، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم اهـ.
وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم، بين ما يستتبعه ذلك القول من المضرّة لأنفسهم فقال:
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وليحملن الدعاة إلى الكفر والضلال يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخرى، بما أضلّوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا كما جاء فى الآية الأخرى «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»
وفى الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» .
ثم ذكر أنهم يوم القيامة يسألون على افترائهم على ربهم فقال:
(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وليسألن حينئذ سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبونه فى الدنيا بوعد من أضلوهم بالأباطيل، وقولهم لهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) .
قصص نوح عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)(20/122)
الإيضاح
بعد أن ذكر افتتان المؤمنين بأذى الكفار، وأرشد إلى أن من قبلهم من الأمم قد فتنوا، أعقبه بتفصيل من فتنوا من الأنبياء: كنوح وإبراهيم وهود ولوط وشعيب تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلوا بما أصابهم من المكاره، وصبروا عليها، فليكن ذلك قدوة للمؤمنين.
وقد بدأ بذكر أبى الأنبياء نوح عليه السلام فذكر أنه مكث فى قومه ألف سنة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا، وما زادهم ذلك إلا فرارا من الحق، وإعراضا عنه، وتكذيبا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان فأهلكهم وهم مستمرون فى الظلم، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة، فأنجى الله نوحا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه، وكانت تلك السفينة عبرة وموعظة أمدا طويلا مدة بقائها على جبل الجودي، ينظر إليها الناس، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان، كما قال: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» وقد تقدم تفصيل هذا فى سورة هود.
وجاء النظم هكذا: إلا خمسين عاما، ولم يقل: تسعمائة سنة وخمسين سنة، لأن فى الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه، إلى أن ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض، وجىء بالمميّز أولا بالسنة، ثم بالعام دفعا للتكرار، ولأن العرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة، ونوح لما استراح بقي فى زمن حسن.
العبرة من هذا القصص
لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإنى وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم، فإن مصيرهم إلى البوار، ومصيرك ومصير(20/123)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
أصحابك إلى العلو والنصر، كفعلنا بقوم نوح: إذ أغرقناهم بالطوفان، وأنجينا نوحا وأتباعه من راكبى السفينة وجعلناها عبرة للعالمين.
وفى ذلك إيماء إلى أن نوحا قد لبث هذا الأمد الطويل يدعو قومه، ولم يؤمن إلا القليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر، لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
الإيضاح
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) أي واذكر لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله، وقدر على النظر والاستدلال، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له فى السر والعلن، واتقاء سخطه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
ثم بين لهم فائدة ذلك فقال:
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه(20/124)
إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم، تميزون بها الخير من الشر، وتعلمون ما ينفعكم فى مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية.
ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه، وفساد ما هم عليه بقوله:
(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي ما تعبدون من دون الله إلا تماثيل هى مصنوعة بأيديكم، وتكذبون حين تسمّونها آلهة، وتدّعون أنها تشفع لكم عند ربكم.
ثم زاد فى النعي عليهم والتهكم بهم، وبيان أن ذلك لا يجديهم نفعا فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي إن أوثانكم التي تعبدونها لا تقدر أن ترزقكم شيئا من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه، فكيف تعبدونها؟
ثم ذكر لهم من ينبغى أن يعبد فقال:
(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي فالتمسوا الرزق عند الله لا عند أوثانكم تدركوا ما تطلبون، واعبدوه وحده، واشكروا له نعمه عليكم مستجلبين بذلك المزيد من فضله.
وبعد أن ذكر أنه هو الرازق فى الدنيا والمنعم على عباده، بين أن المرجع إليه فى الآخرة فهو الذي يطلب رضاه، والتقرب إليه، والزلفى عنده، فقال:
(إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له، فإنكم إليه ترجعون فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره، وأنتم عباده وخلقه وفى نعمه تتقلبون، ومن رزقه تأكلون.
ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق حذّرهم من تركه، وهددهم بما حل بمن قبلهم من المكذبين للرسل فقال:
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وإن تصدقونى فقد فزتم بسعادة الدارين، وإن تكذبونى فيما أخبرتكم به فلا تضرونى بتكذيبكم، فقد كذب أمم(20/125)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
قبلكم رسلهم: كقوم إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام، فجرى الأمر على ما سنه الله فى الخلق من نجاة المصدّقين للرسل، وهلاك العاصين لهم.
(وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وما ضر ذلك الرسل شيئا، بل هم قد ضروا أنفسهم، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك، وما عليه أن يصدقه قومه، وقد خرجت من عهدة التبليغ، ولا علىّ بعد ذلك أصدقتم، أم كذبتم؟.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
تفسير المفردات
النشأة: الخلق والإيجاد، تقلبون: أي تردّون بعد موتكم، بمعجزين: أي جاعلين الله عاجزا، من ولىّ: أي قريب، ولا نصير: أي معين.
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية، ثم الرسالة بقوله: (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) شرع يبين الأصل الثالث وهو البعث والنشور، وقد قلنا فيما سلف: إن هذه الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها من بعض فى الذكر الإلهى، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.(20/126)
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أرشد إبراهيم خليل الرحمن قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه فى أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة، وتصرفهم فى الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده، بل هو أهون عليه كما قال فى آية أخرى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .
وخلاصة هذا: أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهى أهون عليه؟
وبعد أن ساق هذا الدليل المشاهد فى الأنفس، أرشد إلى الاعتبار بما فى الآفاق من الآيات المشاهدة فقال:
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي سيروا فى الأرض وشاهدوا السموات وما فيها من الكواكب النيرة. ثوابتها وسياراتها، والأرض وما فيها من جبال ومهاد، وبراري وقفار، وأشجار وثمار، وأنهار وبحار، فكل ذلك شاهد على حدوثها فى أنفسها وعلى جود صانعها الذي يقول للشىء كن فيكون.
أو ليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى، ويوجده مرة ثانية وهو القادر على كل شىء؟.
وشبيه بالآية قوله فى الآية الأخرى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» .
ولما أقام الدليل على الإعادة رتب عليها ما سيكون بعدها فقال:
(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي يعذب من يشاء منكم ومن غيركم فى الدنيا والآخرة بعدله فى حكمه بحسب سننه فى خلقه، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته،(20/127)
فهو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي وإليه تردّون بعد موتكم والمراد أنه إن تأخر ذلك عنكم فلا تظنوا أنه قد فات، فإن إليه إيابكم، وعليه حسابكم، وعنده يدّخر ثوابكم وعقابكم.
(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي إنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سمواته ولا أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شىء فقير إليه، فلو صعد إلى السمّاكين، أو هبط إلى موضع السموك فى الماء ما خرج من قبضته وما استطاع الهرب منه.
ولما بين أنه مقدور عليهم جميعا لا يفلتون منه، ذكر أنه لا يستطيع أحد نصرهم فقال:
(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما كان لكم أيها الناس ولى بلى أموركم، ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضى أو سماوى، ولا نصير يدفع عذاب الله عنكم إن قدّر لكم.
ولما قرر التوحيد والبعث هدد من خالفهما وتوعده فقال:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه فى الكون دالة على توحيده، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة، أولئك لا أمل لهم فى رحمته، لأنهم لم يخافوا عقابه، ولم يرجوا ثوابه، ولهم عذاب مؤلم موجع فى الدنيا والآخرة.
ونحو الآية قوله: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» .(20/128)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
المعنى الجملي
بعد أن أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية وإرسال الرسل والحشر والجزاء أردف هذا ببيان أنهم جحدوا وعاندوا ودفعوا الحق بالباطل بعد أن ألزمهم الحجة، ولم يجدوا للدفاع سبيلا، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، فقالوا لقومهم: «ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم» ، فأنجاه الله من كيدهم، وجعلها عليه بردا وسلاما، فعاد إلى لومهم بعد أن أخرج من النار، وقال: إن تمسككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه فى السيرة والطريقة ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمى القلوب، وتستبين الأمور للّبيب الأريب، ويكفّر بعضكم بعضا، فيقول العابد: ما هذا معبودى، ويقول المعبود: ما هؤلاء بعبدتي، ويلعن بعضكم بعضا، فيقول هذا لذاك: أنت الذي أوقعتنى فى العذاب حيث عبدتنى، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي أوقعتنى فيه حيث أضللتنى بعبادته، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه، وأنّى لهما ذلك، وهما مجتمعان فى النار؟ وما لهما ناصر يخلّصهما منها كما خلصنى ربى من النار التي ألقيتمونى فيها.(20/129)
الإيضاح
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) أي فلم يكن جوابهم إذ قال لهم: اعبدوا الله واتقوه. إلا أن قال بعضهم لبعض: اقتلوه أو أحرقوه بالنار، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله منها، ولم يسلطها عليه، بل جعلها بردا وسلاما.
ثم ذكر ما فى هذا من العبرة لمن اعتبر فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى إنجائنا لإبراهيم من النار، وقد ألقى فيها وهى تستعر وتصييرها بردا وسلاما عليه- لأدلة وحججا لقوم يؤمنون بالله إذا عاينوا ورأوا مثل هذه الحجة.
ثم ذكر ما قاله إبراهيم لهم بعد إنجائه من النار:
(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال لهم إبراهيم مؤنبا وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان: إنما اجتمعتم على عبادتها فى الدنيا للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض، فأنتم تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم، لا لقيام الدليل عندكم على صحة عبادتها.
وقصارى ذلك: إن مودة بعضكم بعضا هى التي دعتكم إلى عبادتها، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها، فعبدتموها موافقة لهم لمودتكم إياهم، كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا، فيفعله مودة له.
ثم ذكر أن حالهم فى الآخرة ستكون على نقيض هذا فقال:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة، فتنقلب الصداقة والمودة بغضا(20/130)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وشنآنا وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن بعضكم بعضا، فيلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع كما قال: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» ثم مرجعكم إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
تفسير المفردات
لوط: هو ابن أخى إبراهيم على ما قاله النسابون- مهاجر إلى ربى: أي إلى الجهة التي أمرنى بالهجرة إليها، وإسحاق هو ابنه الأكبر، ويعقوب: حفيده وابن إسحاق، وأجر الدنيا: الرزق الواسع الهنى، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن، والصالح لغة: هو الباقي على ما ينبغى، يقال: طعام بعد صالح أي هو باق على حال حسنة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنجاء إبراهيم من النار، وأن ذلك معجزة له لا يفقه قدرها إلا من كان ذكى الفؤاد، قوى الفطنة، يفهم الدلائل التي أودعها الله فى الكون- أردف هذا بيان أنه لم يصدّق بما رأى إلا لوط عليه السلام، فقد آمن به، واستقر الإيمان فى قلبه. ثم بين أن إبراهيم لما يئس من إيمان قومه هاجر إلى بلاد الشام- فرارا بدينه وقصدا إلى إرشاد الناس وهدايتهم، ثم عدّد نعمه العاجلة عليه فى الدنيا بأن آتاه بنين وحفدة، وجعل فيهم النبوة، وأنزل عليهم الكتب، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة، ونعمه الآجلة أنه مكتوب فى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى.(20/131)
الإيضاح
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي فلما رأى لوط معجزة إبراهيم آمن به وقال إبراهيم: إنى جاعل بلاد الشام دار هجرتى إذ أمرنى ربى بالتوجه إليها، ويقال:
إن مهجره كان من كوثى من سواد الكوفة إلى أرض الشام، فإنه لما بالغ فى الإرشاد ولم يهتد به أحد من قومه إلا لوط أصبح بقاؤه بينهم مفسدة، لأنه إما اشتغال بما لا فائدة فيه وهو عبث، وإما سكوت وهو دليل الرضا، فلم تبق إلا الهجرة.
ذكر البيهقي عن قتادة قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضى الله عنه،
قال أنس بن مالك: خرج عثمان بن عفان ومعه رقيّة بنت رسول الله إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته، قال على أىّ حال رأيتهما؟ قالت: رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة (التي تدب فى الأرض ولا تسرع) وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» .
ثم ذكر العلة فى الهجرة فقال:
(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن ربى هو العزيز الذي لا يذلّ من نصره، بل يمنعه ممن أراده بسوء، الحكيم فى تدبير شئون خلقه، وتصريفه إياهم فيما صرّفهم فيه.
ثم ذكر سبحانه ما منّ به عليه من النعم فى الدنيا والآخرة كفاء إخلاصه له فقال:
(1) - (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي ورزقناه من لدنّا إسحاق ولدا ويعقوب من بعده حفيدا.
ونحو الآية قوله: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» وقوله: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً»(20/132)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
وفى الصحيحين: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» .
(2) - (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فلم يوجد نبى بعده إلا وهو من سلائله، فجميع أنبياء بنى إسرائيل من أولاد يعقوب، حتى كان آخرهم عيسى بن مريم.
(3) - (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) فبدل الله أحواله فى الدنيا بأضدادها، فبدّل وحدته بكثرة الذرية، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان لا مال له ولا جاه وهما غاية اللذة فى الدنيا، فكثر ماله، وعظم جاهه، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء، وصار معروفا بأنه شيخ الأنبياء بعد أن كان خامل الذكر، حتى قال قائلهم: «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» وهذا لا يقال إلا فى المجهول بين الناس، إلى أنه تعالى اتخذه خليلا، وجعله للناس إماما.
(4) - (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي وإنه فى الآخرة لفى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى، المستحقين لتوفير الأجر، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلى من لدن رب العالمين.
وقصارى أمره- إنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين، وآتاه الحسنى فى الحياتين.
قصص لوط عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)(20/133)
تفسير المفردات
الفاحشة: الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة، السبيل: الطريق وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال.
المعنى الجملي
بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتوّ والجبروت، ثم نصره له نصرا مؤزرا- أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتنّ قومه فى فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام.
الإيضاح
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه، فأنكر عليهم سوء صنيعهم وقبيح أفعالهم التي اختصّوا بها، ولم يسبقهم إليها أحد من قبلهم، لفظاعتها، ونفرة الطباع السليمة منها.
ثم فصل هذه الفاحشة وكرر الإنكار عليها فقال:(20/134)
(1) (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) إتيان الشهوة، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء.
(2) (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي وتقفون فى الطرقات تتعرضون للمارّة تقتلونهم وتأخذون أموالهم.
(3) (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي وتفعلون من الأفعال والأقوال فى أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة الحصيفة.
أخرج أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون (يرمون بالحصى) أبناء السبيل، ويسخرون منهم»
وفى رواية عن ابن عباس «هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك (اللبان) والسواك بين الناس وحل الإزار والسّباب والفحش فى المزاح» .
ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم فقال:
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها عليهم إلا قولهم:
ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا به إن كنت صادقا فيما تقول، ومنجزا ما تعد، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك.
وهذا الجواب صدر منهم فى أولى مواعظه، فلما ألحف عليهم فى الإنكار والنهى قالوا «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» كما جاء فى سورة الأعراف وفى هذا إيماء إلى شديد كفرهم، وعظيم عنادهم.
ولما يئس من هدى قومه واتباعهم نصحه طلب من الله نصره فقال:
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) أي قال رب انصرني على هؤلاء الذين ابتدعوا الفواحش، وجعلوها سنة فيمن بعدهم، وأصروا عليها، وجعلوا وعيدنا لهم تهكما وسخرية، فأنزل عليهم رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.(20/135)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
تفسير المفردات
القرية: هى سذوم، الغابرين: الباقين، وهو لفظ مشترك فى الماضي والباقي يقال فيما غير من الزمان: أي فيما مضى، ويقال الفعل ماض، وغابر: أي باق، سىء بهم:
أي جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء، ضاق بهم ذرعا: أي عجز عن تدبير شئونهم، يقال طال ذرعه وذراعه على الشيء إذا كان قادرا عليه، ومثله رحب ذرعه، وضده ضاق ذرعه، لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيره، والرجز: العذاب الذي يقلق المتعذب أي يزعجه من قولهم: ارتجز فلان وارتجس:
أي اضطرب.
المعنى الجملي
لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله: (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاءوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له: إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادى أهلها فى الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن(20/136)
فى القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون.
الإيضاح
(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي ولما جاءت رسل الله مبشرة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب- قالوا لإبراهيم إنا مهلكو قرية سذوم قرية قوم لوط.
ثم ذكروا سبب ذلك فقالوا:
(إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم بتماديهم فى فنون الفساد، وأنواع المعاصي، وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما قالت له الملائكة ذلك:
(قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) أي قال إبراهيم إشفاقا على لوط ليعلم حاله: إن فى القرية لوطا وهو ليس من الظالمين لأنفسهم، بل هو من رسل الله وأهل الإيمان به والطاعة له، فقال الرسل نحن أعلم منك بمن فيها من الكافرين، وبأن لوطا ليس منهم.
ثم زادوا ما سلف إيضاحا وطمأنوه بذكر ما يسره من نجاته بقولهم.
(لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي لننجينه وأتباعه من الهلاك الذي هو نازل بأهل القرية إلا امرأته فإنها من الباقين فى العذاب لممالأتها إياهم على الكفر والبغي وفعل الخبائث.
ثم ذكر ما كان من أمر لوط حين مجىء الرسل ضيوفا لديه فقال:
(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) أي ولما أن جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه(20/137)
خاف عليهم من قومه، وحصلت له مساءة وغم بسببهم، مخافة أن يقصدهم أحد بسوء وهو عاجز عن مدافعة قومه، وتدبير الحيلة لحمايتهم ودفع الأذى عنهم، وحين رأوه على هذه الحال من القلق والاضطراب قالوا له: هوّن على نفسك ولا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك، فإنهم قد بلغوا فى الخبث مبلغا لا مطمع فى رجوعهم عنه مهما نصحت وألحفت فى الإرشاد.
ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه وما يشيرون به إلى أنهم ملائكة فقالوا:
(إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي إنا منجوك من العذاب الذي سينزل بقومك، ومنجو أتباعك معك، فلن يصيبكم ما يصيبهم منه إلا امرأتك فإنها من الهالكين، لمظاهرتها إياهم والميل إلى شد أزرهم والدفاع عنهم، فقد كانت تدلهم على ضيوفه، فيقصدونهم بالسوء، فصارت شريكة لهم فى الجرم.
وبعد أن بشروه بالنجاة قالوا له:
(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي منزلون عليها عذابا من لدنا يرتجزون له (يضطربون) وتنخلع له قلوبهم، لأن الفسق قد تغلغل فى أفئدتهم، وصار هجّيراهم وديدنهم.
وأشهر الآراء أن زلزلة خسفت بهم الأرض، وابتلعتهم فى باطنها وصار مكان قريتهم بحيرة ملحة (البحر الميت) .
وبعدئذ بين أن ما حل بهم عبرة لمن اعتبر وادّكر فقال:
(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ولقد أبقينا مما فعلنا بهم عبرة بينة، وعظة زاجرة، لقوم يستعملون عقولهم فى الاستبصار، وجعلناها مثلا للآخرين.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
وتقدم أن قلنا آنفا عند ذكر هذه القصة ما أثبته الكشف الحديث فى هذا الموضع.(20/138)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
قصة شعيب عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
تفسير المفردات
مدين: أبو القبيلة، وارجوا اليوم الآخر: أي توقعوه وتوقعوا ما يحدث فيه من الأهوال، ولا تعثوا: أي ولا تفسدوا، والرجفة: الزلزلة الشديدة، جاثمين: أي مقيمين، من جثم الطائر: إذا قعد ولصق بالأرض، والمراد أنهم ماتوا.
الإيضاح
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وارجوا بعبادتكم إياه جزاء اليوم الآخر وثوابه، ولا تفسدوا فى الأرض، ولا تبغوا على أهلها، فتنقصوا المكيال والميزان، وتقطعوا الطريق على الناس، بل توبوا إلى ربكم وأنيبوا إليه.
ثم ذكر ما أعقب هذا النصح فقال:
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فكذبوه فيما جاءهم به من عند ربهم، فأهلكهم بزلزلة عظيمة ارتجفت لها القلوب، واضطربت الأفئدة، فأصبحوا فى دارهم ميتين لا حراك بهم.
وقد تقدمت هذه القصة مبسوطة فى السور: الأعراف، وهود، والشعراء.(20/139)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
قصص هود وصالح عليهما السلام
[سورة العنكبوت (29) : آية 38]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
الإيضاح
أي وأهلكنا أيضا عادا قوم هود عليه السلام وكانوا يسكنون الأحقاف، وهى قريبة من بلاد اليمن. وثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى مع ما كانوا عليه من العتوّ والتكبر، وكانت العرب تعرف مساكنهم معرفة تامة وتمر عليهم كثيرا وترى ما حل بهم.
وما سبب ما جرى عليهم إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم من عبادة غير الله، وصدهم عن الطريق السوي الذي يوصلهم إلى النجاة، وقد كانوا متمكنين من النظر والاستبصار، فلم يكن لهم عذر فى الغفلة وعدم التدبر فى العواقب.
قصص موسى عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : آية 39]
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39)
تفسير المفردات
يقال سبق فلان طالبه: أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أىّ إدراك، فتداركوا نحو الدمار والهلاك.
الإيضاح
أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الطائلة والكنوز الكثيرة، وفرعون ملك الملوك فى عصره ومصره ووزيره هامان، ولقد جاءهم موسى بآيات بينات تدل(20/140)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
على صدق رسالته، فاستكبروا فى الأرض وأبوا أن يصدقوه وأن يؤمنوا به، وما كانوا فائتين الله ولا هاربين من عقابه، بل هو قادر عليهم وآخذهم أخذ عزيز مقتدر.
عاقبة الأمم المكذبة لرسلها
[سورة العنكبوت (29) : آية 40]
فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
تفسير المفردات
الحاصب: الريح العاصفة فيها حصباء: أي حجارة صغيرة.
الإيضاح
(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي أهلك الله الأمم المكذبة بأربعة ألوان من العذاب:
(1) (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) كقوم عاد إذ قالوا من أشد منا قوة؟
فجاءتهم ريح صرصر عاتية باردة شديدة الهبوب تحمل الحصباء فألقتها عليهم.
(2) (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كقوم ثمود حين قامت عليهم الحجة ولم يؤمنوا، بل استمروا فى طغيانهم وكفرهم وتهددوا نبى الله صالحا ومن آمن معه، فجاءتهم صيحة أخمدت منهم الأصوات والحركات.
(3) (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون الذي طغى وبغى، وعصى الرب الأعلى، ومشى فى الأرض مرحا، وتاه بنفسه عجبا. فخسف الله به وبداره الأرض.
(4) (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح أغرقوا بالطوفان، وفرعون وهامان وجنودهما أغرقوا فى صبيحة يوم واحد.
ثم بين أن هذه العقوبة جزاء ما اجترحوا من الآثام والذنوب ولم تكن ظلما لهم فقال:(20/141)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولم يكن الله ليهلكهم بغير جرم اجترموه، لأن ذلك ليس من سننه تعالى، وهو لا يوافق منهج الحكمة، فلا يصدر عن الحكيم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم، وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، وتقلبهم فى آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
المعنى الجملي
بعد أن أسلف- سبحانه- أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه فى الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده- أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هى أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هى ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشىء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشىء؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبىء الكلام وظاهره، وسره(20/142)
وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السموات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهى ما أرشد إليها بقوله: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .
وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفى النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) أي مثل الذين اتخذوا الأصنام والأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرهم ونفعهم لدى الشدائد فى قبيح احتيالهم وسوء اختيارهم لأنفسهم، كمثل العنكبوت فى ضعفها وقلة حيلتها، اتخذت لنفسها بيتا يكنّها من حر وبرد ودفع أذى، فلم يغن عنها شيئا حين حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا، ولم يدفعوا عنهم ما أحله الله بهم من سوء العذاب بكفرهم به وعبادتهم سواه.
وخلاصة ذلك- إن بيت العنكبوت لا يكنّ ولا يمنع أذى الحر والبرد كما هو شأنها فيما ترون، فكذلك المعبود ينبغى أن يكون منه الخلق والرزق، وجر المنافع، ودفع المضار، وما عبده الكافرون لم يفدهم شيئا من ذلك، فكيف يصرّون على عبادتهم؟.
ثم ذكر جهلهم وسوء تقديرهم لما صنعوا فقال:
(وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء- يعلمون أن أولياءهم لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا، كما لا يجدى بيت العنكبوت عنها شيئا- ما فعلوا ذلك لكنهم قد بلغ بهم الجهل وسوء(20/143)
التقدير حدّا لا يستطيعون معه العلم بعواقب ما يفعلون، ومن ثم فهم يحسبون أنهم ينفعونهم ويقربونهم إلى الله زلفى.
وإجمال ما تقدم: مثل المشرك الذي يعبد الوثن إذا قيس بالموحّد الذي يعبد الله، كمثل العنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجرّ وجصّ، أو نحته من صخرة، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت، فأضعف الأديان إذا سبرتها دينا فدينا عبادة الأوثان.
ثم زاد الإنكار توكيدا وتثبيتا فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن الله يعلم حال ما تعبدون من دونه من الأوثان والأصنام والجن والإنس، وأنها لا تنفعكم ولا تضركم إن أراد الله بكم سوءا، وإن مثلها فى قلة غنائها لكم، كمثل بيت العنكبوت فى قلة غنائه لها.
وقد يكون المعنى: ليس الذين يدعون من دونه شيئا، إذ هو لحقارته وقلة الاعتداد به لا يسمى شيئا.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي والله هو العزيز فى انتقامه ممن كفر به، وأشرك فى عبادته معه غيره، فاتقوا- أيها المشركون به- عقابه بالإيمان به قبل نزوله بكم، كما نزل بالأمم الذين قص الله قصصهم فى هذه السورة، فإنه إن نزل بكم لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه شيئا، وهو الحكيم فى تدبير خلقه فمهلك من استوجب عمله الهلاك، ومؤخر من رأى فيه الرجاء للصلاح والاستقامة.
ثم بين فائدة ضرب الأمثال فقال:
(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وهذا المثل ونظائره من الأمثال التي اشتمل عليها الكتاب العزيز فضربها للناس تقريبا لما بعد من أفهامهم، وإيضاحا لما أشكل عليهم أمره، واستعصى عليهم حكمه، وما يفهم مغزاها ومعرفة تأثيرها، واستتباعها لكثير من الفوائد إلا الراسخون فى العلم، المتدبرون فى عواقب الأمور.(20/144)
روى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال «العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه» .
ولما قدم سبحانه أن لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن خذله، أقام الدليل على ذلك بقوله:
(خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي خلق السموات والأرض لحكم وفوائد دينية ودنيوية ولم يخلقها عبثا ولهوا، فبخلقها أمكن إيجاد كل ممكن تعلق به العلم، واقتضت الإرادة إيجاده، وأمكن معرفة الخالق الذي أوجدها وعبادته كفاء نعمه، كما جاء فى الحديث القدسي حكاية عن الله عز وجل: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى» .
ولا يفهم هذه الأسرار إلا من آمنوا بالله وصدقوا رسوله، لأنهم هم الذين يستدلون بالآثار على مؤثّرها كما أثر عن بعض العرب: «البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على السير» .
ثم خاطب رسوله مسليا له بقوله:
(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي أدم تلاوة الكتاب تقربا إلى الله بتلاوته، وتذكرا لما فى تضاعيفه من الأسرار والفوائد وتذكيرا للناس، وحملا لهم على العمل بما فيه من أحكام وآداب ومكارم أخلاق.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي وأدّ الصلاة على الوجه القيّم مريدا بذلك وجه الله والإنابة إليه مع الخشوع والخضوع له فإنها إن كانت كذلك نهتك عن الفحشاء والمنكر لما تحويه من صنوف العبادات من التكبير والتسبيح، والوقوف بين يدى الله عز وجل، والركوع والسجود بغاية الخضوع والتعظيم، ففى أقوالها وأفعالها ما يومئ إلى ترك الفحشاء والمنكر، فكأنها تقول: كيف تعصى ربا هو أهل لما أتيت به؟ وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه؟ وأنت وقد أتيت بما أتيت به من أقوال وأفعال تدل على عظمة المعبود وكبريائه، وإخباتك له، وإنابتك(20/145)
إليه، وخضوعك لجبروته وقهره إذا عصيته وفعلت الفحشاء والمنكر تكون كالمناقض نفسه بين قوله وفعله.
(وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) أي ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير أو شر وهو يجازيكم كفاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما جرت بذلك سنته فى خلقه، وهو الحكيم الخبير.
ولا يخفى ما فى ذلك من وعد ووعيد وحث على مراقبة الله فى السر والعلن «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» .
ثم تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم بمدينة حلوان من أرياض القاهرة حاضرة الديار المصرية فى اليوم الثامن والعشرين من شهر ربيع الثاني من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.(20/146)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 3 ما أجاب به قوم لوط لوطا بعد سماع نصائحه 5 أمره عليه السلام بأن يحمد الله على نعمه 7 توبيخ المشركين على عبادتهم للأصنام والأوثان 10 طلب الدليل على صحة عبادة الأصنام 11 لا يعلم الغيب إلا الله 12 قالت عائشة: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على الله 14 مقالة المشركين بأن البعث ما هو إلا من أساطير الأولين 16 كل ما يحصل فى الوجود فهو فى اللوح المحفوظ 17 إعجاز القرآن من وجوه 18 صفة القرآن 19 تيئيس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمان قومه 20 إنك لا تستطيع أن تهدى العمى عن ضلالتهم 21 ذكر مقدمات يوم القيامة 22 حال المكذبين عند مجىء الساعة 23 ذكر الدليل على التوحيد والحشر 26 أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: إنما أمرت أن أعبد الله وحده 28 أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بترغيب قومه وترهيبهم(20/147)
32 كان من سياسة فرعون إزكاء العداوة والبغضاء بين أفراد الشعب (فرّق تسد) 34 ما خص به الشعب الإسرائيلى من الكرامة 35 للدول هرم كما تهرم الأفراد 36 ما أوحى به إلى أمّ موسى 39 قتل فرعون وجنوده لأولاد بنى إسرائيل خطأ عظيم 40 ما قالته أمّ موسى لأخته 43 ما أنعم الله به على موسى حين كبره 44 ما حدث من موسى حين دخول مصر 48 نصيحة المؤمن الذي يكتم إيمانه لموسى 49 ما حصل لموسى حين وصوله إلى مدين من الأحداث 50 ما قالته ابنة الكاهن لموسى بعد مشورة أبيها 52 ما قاله الكاهن لموسى 53 عودة موسى إلى مصر بعد إتمام الأجل 54 خبر النار التي رآها موسى من جانب الطور 55 ما أراد الله لموسى من الآيات 56 طلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هرون وزيرا وإجابة طلبه 58 ادعاء فرعون أن موسى ساحر 59 تهكم فرعون بإله موسى وطلبه من وزيره بناء صرح ليطلع عليه 60 ما نال فرعون من عقاب فى الدنيا قبل الآخرة 63 ما أوتى موسى من الآيات البينات 64 الحاجة إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 65 ذكر قصص موسى فى القرآن على هذا الوجه دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم(20/148)
66 إرسال الأنبياء قطع للحجة على الناس 68 طلب المشركين من الرسول أن يأتى بمعجزات كمعجزات موسى وقد كفر المعاندون من قبل بها 69 الحكمة فى إنزال القرآن منجما 70 من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين 71 فى الحديث: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين 72 أوصاف المؤمنين من أهل الكتاب 74 «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» نزلت فى أبى طالب 75 احتجاج المشركين على عدم إيمانهم 76 عدم الإيمان موجب لهلاك القرى 77 لا يهلك الله قرية إلا إذا ظلم أهلها 78 زينة الدنيا ظل زائل، وما عند الله خير وأبقى 80 يسأل المشركون يوم القيامة عن الأوثان الذين عبدوهم من دون الله 81 جواب الرؤساء الدعاة إلى الضلال 83 يسأل المشركون عن تكذيبهم للأنبياء 84 حال من تاب من الكفار يوم القيامة 85 اصطفاء بعض المخلوقات بالرسالة من حق الله، لا من حق البشر 86 الاستخارة الشرعية 87 بعض صفات كماله سبحانه 88 تفصيل ما يجب أن يحمد عليه من النعم 89 المخالفة بين الليل والنهار فضل من الله 90 اتخاذ الشركاء لله لم يكن عن دليل، بل كان عن محض الهوى 92 قصص قارون فيه بيان عاقبة أهل البغي والجبروت(20/149)
93 أسباب بغيه 94 النصائح التي أسداها قومه له 95 مقالة قارون لقومه ردّا عليهم 97 مظاهر بغى قارون بتباهيه بماله وخدمه وحشمه وأعوانه 98 حين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين 99 ما آل إليه بطره من وبال ونكال 100 العبرة من ذكر قصص قارون للناس 102 الدار الآخرة وما فيها من ثواب أعده الله للمؤمنين المتواضعين الذين لا يترفعون على الناس 104 قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه وإيفاؤهم لهم 105 أمره صلى الله عليه وسلم أن يصدع بالدعوة ويبلّغ الرسالة 107 خلاصة ما حوته سورة القصص من أغراض 109 وجه الاتصال بين القصص والعنكبوت 110 لا يتبين الإيمان الحق إلا بالامتحان 111 الحكمة فى بدء السور بالحروف المقطعة 112 أتباع الأنبياء السابقين فتنوا كما فتن محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه 113 إن الخلق لم يخلقوا سدى 114 من يعمل للآخرة لا يضيع عمله سدى 116 البرّ بالوالدين والإحسان إليهما 117 لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق 118 الناس فى الدين أقسام ثلاثة 119 من الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى فى الله ارتد عن دينه(20/150)
121 كان الكافرون يقولون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم 122 قصص نوح عليه السلام 123 العبرة من قصص نوح عليه السلام 124 قصص إبراهيم عليه السلام 126 ما على الرسول إلا البلاغ المبين 126 إقامة الدليل على البعث والنشور 127 تهديد من ينكر البعث 129 بعد أن حاج إبراهيم قومه استعملوا
معه القوة وقالوا: اقتلوه أو حرقوه 130 يوم القيامة يكفر بعض المشركين ببعض 131 حين يئس إبراهيم من إيمان قومه هاجر إلى الشام 132 منة الله على إبراهيم فى الدنيا والآخرة 134 قصص لوط عليه السلام مع قومه 136 مجىء الملائكة لإبراهيم بالبشرى 137 ما كان من لوط حين مجىء الرسل 139 قصص شعيب عليه السلام مع قومه 140 قصص هود وصالح عليهما السلام 140 قصص موسى عليه السلام مع فرعون 141 عاقبة الأمم المكذبة لرسلها 142 تمثيل حال من عبد غير الله بحال العنكبوت اتخذت بيتا 144 فوائد ضرب الأمثال 145 الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر(20/151)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
الجزء الحادي والعشرون
[تتمة سورة العنكبوت]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
تفسير المفردات
الجدل: الحجاج والمناظرة، مسلمون: أي خاضعون مطيعون، والجحد: نفى ما فى القلب ثبوته أو إثبات ما فى القلب نفيه والمراد به هنا الإنكار عن علم، والارتياب:
الشك، الظالمون: أي الذين ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.(21/3)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة فى تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» وقوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» إلى أشباه ذلك- أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفّه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاءوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغى من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغى إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة فى القول، والأسلوب الجافّ فى الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم: آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له.
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل فى الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب فى صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتى بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب، ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل فى محيط نشأ به، ولا فى بلد كان يأويه- لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.(21/4)
الإيضاح
(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تجادلوا من أراد الاستبصار فى الدين من اليهود والنصارى إلا باللين والرفق، وقابلوا الغضب بكظم الغيظ، والشّغب بالنصح، والسّورة بالأناة.
ونحو الآية قوله: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وقوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله لموسى وهرون حين بعثهما إلى فرعون «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» .
إلا من ظلموا منهم وحادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم يجد فيهم الرفق، فمثل هؤلاء لا ينفع فيهم إلا الغلظة:
ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
قال سعيد بن جبير ومجاهد: المراد بالذين ظلموا منهم- الذين نصبوا القتال للمسلمين وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي إذا حدّثكم أهل الكتاب عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه وأن يكونوا كاذبين، ولم تعلموا حالهم فى ذلك- فقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم، ومعبودنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، منقادون لأمره ونهيه والطاعة له.
روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم،(21/5)
وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون»
وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذّبوا بحق، وإما أن تصدّقوا بباطل»
وفى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدّث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب.
ثم بين أنه لا عجب فى إنزال القرآن على الرسول فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل فقال:
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول- أنزلنا إليك هذا الكتاب، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى يؤمنون به، إذ كانوا مصدقين بنزوله بحسب ما علموا عندهم من الكتاب، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به.
(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويغطّى ضوء الشمس بالوصائل، ويغمط حق النعمة عليه، وينكر التوحيد عنادا واستكبارا.
ثم ذكر ما يؤيد إنزاله ويزيل الشبهة فى افترائه فقال:
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي وما كنت من قبل إنزال الكتاب إليك تقدر أن تتلو كتابا ولا تخطه بيمينك: أي ليس من دأبك وعادتك ذلك، إذ لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب المشركون وقالوا لعله التقط ذلك من كتب الأوائل، ولما لم يكن أمرك هكذا لم يكن لارتيابهم وجه.(21/6)
قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون فى كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.
وخلاصة ما سلف- إنك قد لبثت فى قومك عمرا طويلا قبل أن تأتى بهذا القرآن، لا تقرأ ولا تكتب، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهذه صفتك فى الكتب المتقدمة كما قال: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» .
فلا وجه إذا للشك فى أن هذا القرآن منزّل من عند الله وليس مفتعلا من صنع يدك تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم:
«وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» .
ثم أكد ما سلف وبين أنه منزل من عند الله حقا فقال:
(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحق، يسّر الله حفظها وتفسيرها للعلماء كما قال: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟» .
روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» .
(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي وما يكذب آياتنا ويبخس حقها ويردها إلا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.
ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .(21/7)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم- أردف هذا شبهة أخرى لهم، وهى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتى لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهى القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما فى السموات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.
أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم»(21/8)
فنزلت «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ» الآية.
وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن»
أي يستغن به عن غيره.
وعن عبد الله ابن الحرث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظى من الأمم» أخرجه عبد الرزاق.
الإيضاح
(وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال كفار قريش تعنتا وعنادا:
هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة التي ترى رأى العين، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس وأدهش للعقول، فتلجئ إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة.
فأمره الله أن يجيبهم بقوله:
(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل لهم: إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى لله، ولو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى ما سألتم، لأن ذلك سهل يسير عليه، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم كما قال سبحانه «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها» .
(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وليس من شأنى إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات، لا الإتيان بما اقترحتموه منها، فعلىّ أن أبلغكم رسالة ربى وليس علىّ هداكم كما قال:(21/9)
«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» وقال. «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .
ثم بين سبحانه سخفهم وجهلهم، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم فقال:
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أما كفاهم دليلا على صدقك أنزلنا الكتاب عليك، يتلونه ويتدارسونه ليل نهار، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما فى الصحف الأولى، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه كما قال: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى» .
ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر- لرحمة لمن آمن به، ببيان الحق وإزالة الباطل، وتذكرة بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم، وبما سيحل بهم من النكال والوبال، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم وكذب بالآيات بعد وضوحها.
وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به- أمره أن يكل علم ذلك إلى الله وهو العليم بصدقه وكذبه فقال:
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي كفى الله عالما بما صدر منى من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار، وهو المجازى كلّا بما يستحق، وإنى لو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى كما قال: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» بل إنى صادق فيما أخبرتكم به، ومن ثمّ أيدنى بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات(21/10)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
ثم علل كفايته وأكدها بقوله:
(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو العليم بكل ما فيهما، ومن جملته شأنى وشأنكم، فيعلم ما تنسبونه إلىّ من التقوّل عليه، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لى به عجزكم عن الإتيان بمثله، فهو حجتى الفالجة عليكم، التي لم تستطيعوا لها ردا ولا دفعا.
ولما بين طريق الجدل مع كلّ من أهل الكتاب والمشركين- عاد إلى تهديد المشركين وبين مآل أمرهم، فقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين يعبدون الأوثان والأصنام ويكفرون بالله، مع تظاهر الأدلة التي فى الآفاق والأنفس على الإيمان به، ويكفرون برسوله مع تعاضد البراهين على صدقه، أولئك هم الأخسرون أعمالا، المغبونون فى صفقتهم، من حيث اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدى الملك الديّان.
وخلاصة ذلك: إن الله سيجزيهم على ما صنعوا من تكذيبهم بالحق، واتباعهم للباطل، وتكذيبهم برسول الله، مع قيام الأدلة على صدقه «ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)(21/11)
المعنى الجملي
بعد أن أنذر المشركين بالعذاب، وهدّدهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء:
إن كان هذا حقا فأتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجّل باستعجالكم، لأن الله أجّله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى، الذي قتضته حكمته، وارتضته رحمته، لعجّله لكم ولأوقعه بكم، وإنه ليأتينّكم فجأة وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم فى طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم فى جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون:
الإيضاح
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب، بنحو قولهم «مَتى هذَا الْوَعْدُ» وقولهم: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ولولا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم، لجاءهم حين استعجالهم إياه.
(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وليأتينهم العذاب فجأة، وهم لا يشعرون بمجيئه، بل يكونون فى غفله عنه، واشتغال بما ينسيهموه.
ثم زاد فى التعجيب من جهلهم بقوله:
(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يطلبون منك إيقاع العذاب ناجزا فى غير ميقاته، ويلحقون فى ذلك، ولو علموا ما هم صائرون إليه، لتمنّوا أنهم لم يخلقوا، فضلا عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم فى الخلاص منه.
ثم بين السبب فى جهلهم وحمقهم، فقال:
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن جهنم ستحيط بالكافرين المستعجلين للعذاب يوم القيامة.(21/12)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
ثم ذكر كيف تحيط بهم، فقال:
(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يوم يجلّلهم العذاب، ويكون من الأهوال والأحوال، ما لا يفى به المقال، ويقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ونحو الآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» وقوله «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» وقوله: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ» الآية، وقوله: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» وقوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار- اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة فى ديارهم.(21/13)
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك فى سبيل الله لتنالوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجرى من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
روى أن الآية نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا: نخشى إن نحن هاجرنا عن الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح
(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)
أي يا عبادى الذين وحّدونى وآمنوا بي وبرسولى محمد صلى الله عليه وسلم، إنّ أرضى لم تضق عليكم فتقيموا منها بموضع لا يحل لكم المقام فيه، فإذا انتشرت فى موضع ما معاصى الله، ولم تقدروا على تغييرها، فاهربوا منه إلى موضع آخر تتمكنون من القيام فيه بشعائر دينكم.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم»
ومن ثم لما ضاق على المستضعفين مقامهم بمكة خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة، فآواهم وأيدهم بنصره، وأنزلهم ضيوفا مكرمين ببلاده، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة.
والخلاصة: إن الله أمر المؤمنين بالهجرة إن لم يتسنّ لهم إقامة شعائر دينهم، إلى أرض يستطيعون ذلك فيها.(21/14)
ثم حث على إخلاص العبادة له والهجرة من الوطن، فبين أن الدنيا ليست دار بقاء، وأن وراءها دار الجزاء، التي يؤتى فيها كل عامل جزاء عمله فقال:
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي أينما تكونوا يدرككم الموت، فكونوا فى طاعة الله وافعلوا ما أمركم به، فذلك خير لكم، فإن الموت لا محالة آت، ولله در القائل:
الموت فى كل حين ينشد الكفنا ... ونحن فى غفلة عما يراد بنا
لا تركننّ إلى الدنيا وزهرتها ... وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لها سكنا؟
سقاهم الموت كأسا غير صافية ... صيّرتهم تحت أطباق الثرى رهنا
ثم إلى الله مرجعكم، فمن كان مطيعا له جازاه خير الجزاء وآتاه أتم الثواب.
والخلاصة: لا يصعبنّ عليكم ترك الأوطان، مرضاة للرحمن، بل هاجروا إلى أوفق.
البلاد وإن بعدت، فإن مدى الدنيا قريب، والموت لا محيص منه، ثم إلى ربكم ترجعون، فيوفيكم جزاء ما تعملون، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم، وجنة عرضها السموات والأرض.
ثم بيّن جزاء المؤمن بربه، المهاجر بدينه، فرارا من شرك المشركين، فقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي والذين صدّقوا الله ورسوله فيما جاء به من عنده، عملوا بما أمرهم به، فأطاعوه وانتهوا عما نهاهم عنه لنزلنهم من الجنة علالىّ وقصورا، تجرى من تحت أشجارها الأنهار، ما كثين فيها إلى غير نهاية، جزاء لهم على ما عملوا ونعم الجزاء.
ثم بين صفات هؤلاء العاملين الذين استحقوا تلك الجنات بقوله:
(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء العاملون هم الذين صبروا على(21/15)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
أذى المشركين، وشدائد الهجرة وغيرهما من الجهود والمشاقّ، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون، كأرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ولا يتراجعون ثقة منهم بأن الله معل كلمتهم، وموهن كيد الكافرين، وأنّ ما قسم لهم من الرزق من يفوتهم.
ثم ذكر سبحانه أن مما يعين على التوكل عليه معرفة أنه الكافي أمر الرزق فى الوطن والغربة فقال:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هاجرو أيها المؤمنون بالله ورسوله، وجاهدوا أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم لا تطيق جمع قوتها ولا حمله، فترفعه من يومها لغدها عجزا منها عن ذلك، الله يرزقها وإياكم يوما بيوم وساعة فساعة، وهو السميع لقولكم نخشى من فراق أوطاننا العيلة، العليم بما فى أنفسكم، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه.
روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)(21/16)
المعنى الجملي
لما بين الأمر للمشركين وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم- خاطب المؤمنين بما فيه مدّكر لهم، وإرشاد للمشرك لو تأمله وفكر فيه، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان: أحدهما رشيد والآخر مفسد، فهو ينصح المفسد أوّلا، فإن لم يسمع يعرض عنه، ويلفت إلى الرشيد قائلا: إن هذا لا يستحق أن يخاطب، فاسمع أنت ولا تكن كهذا المفسد، فيكون فى هذا نصيحة للمصلح، وزجر للمفسد، ودعوة له إلى سبيل الرشاد.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله: من خلق السموات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه؟ ليقولنّ: الذي خلق ذلك وفعله هو الله.
(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فيكف يصرفون عن توحيده، وإخلاص العبادة له، بعد إقرارهم بأنه خالق كل ذلك.
والخلاصة- إنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسموات والأرض، والمسخر للشمس والقمر، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه، ويتوكلون على غيره، فكما أنه الواحد فى ملكه، فليكن الواحد فى عبادته، وكثيرا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية التي كانوا يدينون بها بنحو قولهم: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
ولما ذكر اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق، من قبل أن كمال الخلق ببقائه، ولا بقاء له إلا بالرزق فقال:
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي إن الله يوسع رزقه على من يشاء من خلقه، ويقتّر على من يشاء، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى لا بيد أحد سواه،(21/17)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
فلا يؤخّرنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم خوف العيلة والفقر، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن أرزاقها.
ونحو الآية قوله: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» .
ثم علل التفاوت فى الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة فى ذلك فقال:
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه هو العليم بمصالحكم، فيعلم من يصلحهم البسط ومن يفسدهم، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء.
ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألتهم من ينزل من السحاب ماء فيحيى به الأرض القفر فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك- لم يجدوا إلا سبيلا واحدة، هى الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله، فهو الموجد لسائر المخلوقات، ومن عجب أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته التي لا تقدر على شىء من ذلك.
ولما أثبت أنه الخالق بدءا وإعادة- نبّه إلى عظمة صفاته التي يلزم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي قل متعجبا من حالهم: الحمد لله على إظهار الحجة، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى، ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه من النفع فى دينهم وما فيه الضر لهم، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده.
والخلاصة- إن أقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه مما هم معترفون بأنه خلقه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)(21/18)
تفسير المفردات
اللهو: الاستمتاع باللذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيه، الحيوان: أي الحياة التامة التي لا فناء بعدها.
المعنى الجملي
لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق وأنه هو الرزاق، وهم بعد ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها- أردف ذلك أن هذه الدنيا باطل وعبث زائل، وإنما الحياة الحقة هى الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها فلو أوتوا شيئا من العلم ما آثروا تلك على هذه.
ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سواه فى الدعاء والعبادة، إذا هم ابتلوا بالشدائد، كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق نادوا الله، معترفين بوحدانيته، وأنه لا منجّى سواه، وليتهم استمروا على ذلك، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى، ويعودون سيرتهم الأولى، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة.
الإيضاح
(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون إلا شىء يتعلّل به، ثم هو منقض عما قريب، لا بقاء له ولا دوام، ومن ثم قيل: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها، وأنشدوا:
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجرى الليالى باجتماع وفرقة ... وتطلع فيها أنجم وتغور(21/19)
فمن ظن أن الدهر باق سروره ... فذاك محال لا يدوم
سرور عفا الله عمن صيّر الهمّ واحدا ... وأيقن أن الدائرات تدور
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي وإن الدار الآخرة لهى دار الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع.
(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن ذلك كذلك لما آثروا عليها الحياة الدنيا السريعة الزوال، الوشيكة الاضمحلال.
ثم أخبر بأن تلك حال المشركين فى الرخاء، فإذا ابتلوا بالشدائد دعوا الله وحده ليخلصهم منها كما قال:
(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فإذا ركب هؤلاء المشركون فى السفينة وخافوا الغرق، دعوا الله وحده، وأفردوا له الطاعة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ليخلصوهم من تلك الشدة، فهلا يكون هذا منهم دائما؟
ثم بين سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكا فقال:
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي فلما خلّصهم مما كانوا فيه من الضيق، ونجاهم من الهلاك، ووصلوا إلى البر، رجعوا القهقرى، وعادوا سيرتهم الأولى، وجعلوا مع الله الشركاء، ودعوا الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» .
روى محمد بن إسحاق فى السيرة عن عكرمة بن أبى جهل قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهبت فارّا منها، فلما ركبت البحر إلى الحبشة اضطربت بنا السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا منجّى هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: لئن كان لا ينجى فى البحر غيره فإنه لا ينجى فى البر أيضا غيره، اللهم لك علىّ عهد، لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعن يدى فى يد محمد فلأجدنّه رءوفا رحيما فكان كذلك» .(21/20)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا فى البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتد عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا يا رب يا رب.
قال الرازي فى اللوامع: وهذا دليل على أن معرفة الرب فى فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا فى السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه فى حال الضراء اهـ.
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها.
ثم تهددهم وتوعدهم فقال:
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون يوم القيامة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 69]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا فى الفلك ونحوه لجئوا إلى الله وحده مخلصين له العبادة- ذكر هنا أنهم حين الأمن كما إذا كانوا فى حصنهم الحصين وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به ويعبدون معه سواه، وتلك حال من التناقض لا يرضاها لنفسه عاقل، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاة منه لا من سواه، فكيف يكفرون به حين الأمن، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلا ولا قطميرا؟(21/21)
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟) أي أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة دون سائر عبادنا، فأسكناهم بلدا حرّمنا على الناس أن يدخلوه لغارة أو حرب، وآمنا من سكنه من القتل والسبي والناس من حولهم يقتلون ويسبون فى كل حين، فيشكرونا على ذلك، ويزدجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم.
والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا، فهم فى أمن عظيم، والأعراب حولهم نهب مقسّم، يقتل بعضهم بغضا، ويسبى بعضهم بعضا، ثم هم مع ذلك يكفرون به، ويعبدون معه سواه.
ونحو الآية قوله: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» .
ثم بين أن العقل كان يقضى بشكرهم على هذه النعمة، لكنهم كفروا بها، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم، فقال:
(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟) أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله.
والخلاصة: إنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم إخلاص العبادة له، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه، لكنهم كذبوه فقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم، ومن ثم سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، بقتل من قتل منهم ببدر، وأسر من أسر، حتى قطع دابرهم يوم الفتح، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم(21/22)
ولما استنارت الحجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنع، بين أنهم قوم ظلمة مفترون، وضعوا الأمور فى غير مواضعها بكذبهم على الله، فقال:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي ومن أظلم ممن كذبوا على الله، بأن زعموا أن له شريكا، وأنهم إذا فعلوا فاحشة قالوا: إن الله أمرنا بها، والله لا يأمر بالفحشاء، وكذبوا بالكتاب حين مجيئه، دون أن يتأملوا فيه أو يتوقفوا، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.
وفى هذا من تسفيه آرائهم، وتقبيح طرائقهم ما لا يخفى ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفهام التقريرى، وهو أبلغ فى إثبات المطلوب، فقال:
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) أي ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثّواء فى جهنم، فقد افتروا على الله الكذب، فكذبوا بالكتاب لما جاءهم بلا تريّث ولا تلبث؟.
والخلاصة: إن مثوى هؤلاء وأشباههم جهنم وبئس المصير.
وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا يهدى الله وجاهدوا فى سبيله، فقال:
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب، المكذبين لما جاءهم به رسوله، مبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا، ونصرة ديننا، لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقا لسلوكها كما قال: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ»
وجاء فى الحديث: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم»
، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا فى العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لاورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد فى الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع(21/23)
الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس فى طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.
ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي وإن الله ذا الرحمة لمع من أحسن من خلقه، فجاهد أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة على من جاهد من أعدائه، وبالمغفرة والثواب فى العقبى.
روى ابن أبى حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
وقد انتهى بهذا تفسير السورة الكريمة، ولله الحمد أولا وآخرا.(21/24)
مشتملات هذه السورة الكريمة
(1) اختبار المؤمنين ليعلم صدقهم فى إيمانهم.
(2) فى الجهاد فائدة للمجاهد، والله غنىّ عن ذلك.
(3) الحسنات يكفّرن السيئات.
(4) الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما مع عدم طاعتهما فى الإشراك بالله.
(5) حال المنافق الذي يظهر الإيمان ولا يحتمل الأذى فى سبيل الله.
(6) حال الكافرين الذين يضلون غيرهم، ويقولون للمؤمنين: نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين.
(7) قصص الأنبياء: كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب وصالح وموسى وهرون، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب.
(8) حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم مما فيه تقريعهم وتأنيهم.
(9) حجاج أهل الكتاب، والنهى عن جدلهم بالفظاظة والغلظة.
(10) إثبات النبوة ببيان صدق معجزته صلى الله عليه وسلم.
(11) ذكر بعض شبههم فى نبوته، والرد على ذلك.
(12) استعجالهم بالعذاب تهكما.
(13) أمر المؤمنين بالفرار بدينهم من أرض يخافون فيها الفتنة.
(14) العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.
(15) اعترافهم بأن الخالق الرازق هو الله.
(16) بيان أن الدار الآخرة هى دار الحياة الحقة.
(17) امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام، ثم كفرانهم بهذه النعمة بإشراكهم به سواه.(21/25)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
سورة الروم
هى مكية إلا قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» فمدنية وآيها ستون، نزلت بعد سورة الانشقاق.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(1) إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا فى الأرض ليناموا على مهاد الراحة، بل خلقوا ليجاهدوا حتى يلاقوا ربهم، وأنهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل والأمم التي يكونون فيها، وهذه السورة قد بدئت بما يتضمن نصرة المؤمنين ودفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم يجاهدون فى الله ولوجهه فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة.
(2) إنّ ما فى هذه السورة من الحجج على التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس مفصل لما جاء منه مجملا فى السورة السالفة، إذ قال فى السالفة: «فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» إلخ، وهنا بيّن ذلك، فقال: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» إلخ، وقال:
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» .
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)(21/26)
تفسير المفردات
الروم: أمة عظيمة من ولد روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم، كذا قال النسابون من العرب، أدنى الأرض: أي أقربها من الروم، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة الذين يساق إليهم الحديث، والبضع: ما بين الثلاث إلى العشر، وقال: المبرد ما بين العقدين فى جميع الأعداد، ظاهر الحياة الدنيا: هو ما يشاهدونه من زخارفها ولذاتها الموافقة لشهواتهم التي تستدعى انهما كهم فيها وعكوفهم عليها.
المعنى الجملي
روى أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات، فخرج أبو بكر رضى الله عنه إلى المشركين فقال:
أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم (لا يسرّنكم) فو الله لتظهرنّ الروم على فارس كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبىّ ابن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه (أراهنك) على عشر قلائص منى، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال عليه السلام: زايده فى الخطر وماده فى الأجل، فخرج أبو بكر، فلقى أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك فى الخطر، وأمادك فى الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبى كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه(21/27)
عبد الرحمن، فلما أراد أبىّ الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا، ومات أبىّ من جرح جرحه إياه النبي صلى الله عليه وسلم فى الموقعة وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبىّ وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق به
(وقد كان هذا قبل تحريم القمار كما أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي، لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر بالمدينة) .
الإيضاح
(الم) تقدم فى السورة قبلها ما فيه الكفاية من الكلام فى أمثال هذه الحروف فى أوائل السور، وقد بينا هناك أنه ينطق بأسمائها فيقال (ألف. لام. ميم) .
(غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس الروم فى أقرب أرض الروم بالنسبة إلى بلاد العرب، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس فى بضع سنين، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الوقعة الأولى.
ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم بعد من أكبر الدلائل على إعجازه، وأنه كلام الله العليم بكل شىء لا كلام البشر.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي لله الأمر من قبل غلب دولة الروم على فارس ومن بعدها، فمن غلب فهو بأمر الله وقضائه وقدره كما قال: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» فهو يقضى فى خلقه بما يشاء ويحكم بما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه.
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) أي ويوم تغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمتوا من كفار مكة، وأنه سيكون فألا حسنا لغلبة المؤمنين على الكافرين.(21/28)
ثم أكد قوله «لِلَّهِ الْأَمْرُ» بقوله:
(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه ويغلّبه عليه على مقتضى السنن التي وضعها فى الخليقة، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم، الرحيم بعباده، فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم كما قال:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» .
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس، والله لا يخلف ما وعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لجهلهم بشئونه تعالى وعدم تفكرهم فى النواميس والسنن التي وضعها فى الكون، فإنه قد جعل من تلك السنن أن وعده لا يخلف إذ هو مبنى على مقدمات ووسائل هو يعلمها، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها، وجعل قانون الغلب فى الأمم والأفراد مبنيا على الاستعداد النفسي والاستعداد الحربي، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر من أناة وصبر وتضحية بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس.
وهكذا حكم الفرد فهو لا ينجح فى الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام حتى يغلبها بجدّه وكدّه، فهذه الأمور وأمثالها تحتاج إلى دقة نظر لا يدركها إلا ذوو البصائر.
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كتدبير معايشهم، وإحسان مساكنهم، وتنمية متاجرهم، وتصرفهم فى مزارعهم، على النحو الذي يجعلها تزدهر وتفى بحاجة المجتمع (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت وأنها ستلبس ثوبا آخر فى حياة أخرى، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق ولا تجد النفوس(21/29)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
لاحتمالها سبيلا، وهى ما قبلت تلك الآلام واحتملتها إلا لأنها توقن بسعادة أخرى وراء ما تقاسى من المناعب فى هذه الحياة، ولله در القائل:
ومن البلية أن ترى لك صاحبا ... فى صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة فى ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعر
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
المعنى الجملي
لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده، وأنكروا البعث كما قال وهم عن الآخرة هم غافلون- أردف هذا أن الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفات على وجوده وتفرده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، وأنها لم تخلق سدى ولا باطلا، بل خلقت بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة، ثم أمرهم بالسير فى أقطار الأرض ليعلموا حال المكذبين من الأمم قبلهم، وقد كانوا أشد منهم بأسا وقوة، فكذبوا رسلهم فأهلكهم الله وصاروا كأمس الدابر والمثل الغابر، وما كان ذلك إلا بظلمهم وفساد أنفسهم لا بظلم الله لهم.(21/30)
الإيضاح
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى؟) أي أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك فى خلق الله لهم ولم يكونوا شيئا، ثم تصريفهم أحوالا وتارات حتى صاروا كاملى الخلق كاملى العقل فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازى المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بدون حرم صدر منه، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله، لأنه العدل الذي لا يجور، فهو ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى، فإذا حل الأجل أفنى ذلك كله، وبدل الأرض غير الأرض، وبرزوا للحساب جميعا.
ثم ذكر أن كثيرا من الناس غفلوا عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء فقال:
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لأنهم لم يتفكروا فى أنفسهم، ولو تفكروا فيها ودرسوا عجائبها لأيقنوا بلقاء ربهم، وأن معادهم إليه بعد فنائهم.
ثم نبههم لى صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحة، من إهلاك من جحد نبوتهم، ونجاة من صدقهم فقال:
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أو لم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة، فى البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم فى تكذيبهم رسلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ثم أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم، بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم.(21/31)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
والخلاصة- إنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد كانوا أكثر منكم أموالا وأولادا، ومكّنوا فى الدنيا تمكينا لم تبلغوا معشاره، وعمّروا فيها أعمارا طوالا واستغلوها أكثر من استغلالكم، ولما جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم وفرحوا بما أوتوا فأخذوا بذنوبهم ولم تغن عنهم أموالهم شيئا، ولم تحل بينهم وبين بأس الله ثم أكد ما سلف بقوله:
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان العذاب عاقبتهم، أما فى الدنيا فلهم البوار والهلاك، وأما فى الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج الله وآياته، وهم أنبياؤه ورسله، وسخروا منهم عنتا وكبرا.
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
تفسير المفردات
يبلس المجرمون: أي يسكتون وتنقطع حجتهم، الروضة: الأرض ذات النبات والماء ويقال أراض الوادي واستراض إذا كثر ماؤه، وأرض القوم: أرواهم بعض الرّىّ، يحبرون: يسرون، يقال حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبورا: إذا سره سرور لتهلل له(21/32)
وجهه، وظهر فيه أثره، وفى المثل: امتلأت بيوتهم حبرة، فهم ينتظرون العبرة، محضرون: أي مدخلون فيه لا يغيبون عنه.
المعنى الجملي
بعد أن بين أن عاقبة المجرمين النار، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة، بل أقام عليه الدليل بأن أبان أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته لا يعجز عن رجعته، ثم بين ما يكون حين الرجوع من إفلاس المجرمين وتحقق بأسهم وحيرتهم، إذ لا تنفعهم شركاؤهم، بل هم يكفرون بهم، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق فى الجنة وفريق فى السعير، فالأولون يمتعون بسرور وحبور، والآخرون يصلون النار دأبا لا يغيبون عنها أبدا.
الإيضاح
(اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الله ينشىء جميع الخلق بقدرته، وهو منفرد بإنشائه من غير شريك ولا ظهير، ثم يعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه كما بدأه خلقا سويا ولم يك شيئا، ثم إليه يردّون فيحشرون لفصل القضاء بينهم، فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم بين ما سيحدث فى هذا اليوم من الأهوال للأشقياء، والنعيم والحبور للسعداء، فقال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم وحشرهم إلى موقف الحساب- يسكت الذين أشركوا بالله واجترحوا فى الدنيا مساوى الأعمال، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال.
ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام نفى ذلك بقوله:(21/33)
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهؤلاء المجرمين من شركائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة- شفعاء يستنقذونهم من عذاب الله، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم إذ قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله:
(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي وجحدوا ولاية الشركاء وتبرءوا منهم كما جاء فى آية أخرى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» .
ثم بين بعدئذ أن الله يميز الخبيثين من الطيبين فقال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به فأما أهل الإيمان به فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها.
ثم بين كيف يكون كل من الفريقين فقال:
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمرهم الله به وانتهوا عما نهاهم عنه، فهم فى رياض الجنات يمرحون، وبألوان الزّهر والسندس الأخضر يتمتعون، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهنى.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة، فأولئك فى عذاب الله محضرون لا يغيبون عنه أبدا.(21/34)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حالى الفريقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والكافرين المكذبين بالآيات، وما أعدّ لكل منهما من الثواب والعقاب- أرشد إلى ما يفضى إلى الحال الأولى وينجى من الثانية، وهو تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وحمده، والثناء عليه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم التي هى أشبه بالموت منها إلى اليقظة، وكأنها حياة بعد موت- أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقة.
الإيضاح
(فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي نزّهوا الله سبحانه فى وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه، وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه.
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي والله هو المحمود من جميع خلقه فى السموات من سكانها من الملائكة، وفى الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها.
(وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي ونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء كما قال: «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» ، وقال: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» .
وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر فى أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام(21/35)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
فى المساء، ومن الظلام إلى النور فى الإصباح، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى، وهكذا.
ثم بين صفات ذلك الإله المستحق للثناء والتقديس، فقال:
(1) (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فهو القادر على خلق الأشياء المتقابلة بعضها من بعض، فيخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة، كما يفعل ضد هذا، فيخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر، وفى هذا دلالة على كمال قدرته، وبديع صنعه، وكون البيضة والنطفة كائن حى لا تعرفه العرب ولا تعترف به.
(2) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ويحيى الأرض بالمطر، فتخرج النبات الغض بعد أن كانت صعيدا جرزا.
ونحو الآية قوله: «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» وقوله: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» .
(3) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها- يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)(21/36)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بتنزيهه عن الأسواء والنقائص التي لا تليق بجلاله وكماله، ذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، ذكر هنا أدلة باهرة، وحججا ظاهرة على البعث والإعادة، ومنها: خلقكم من التراب الذي لم يشمّ رائحة الحياة، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه فى ذاتكم وصفاتكم، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد، فإذا مات الأب فام ابنه مقامه، لتبقى سلسلة الحياة متصلة بهذا النوع وبسائر الأنواع الأخرى بالازدواج والتوالد إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدام: أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون فى الأرض. تتصرفون فيها فى أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي ومن آياته الدالة على البعث والإعادة: أن خلق لكم أزواجا من جنسكم لتأنسوا بها، وجعل بينكم المودة والرحمة لتدوم الحياة المنزلية على أتم نظام.
ونحو الآية قوله: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» .(21/37)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما سلف من خلقكم من تراب، وخلق أزواجكم من أنفسكم، وإبقاء المودة والرحمة- لعبرة لمن تأمل فى تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح، فهى لم تخلق عبثا، بل خلقت لأغراض شتى، تحتاج إلى الفكر حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذّكن والعقل الراجح.
[سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 23]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل وجوده بما ذكره فى خلق الإنسان- أعقبه بذكر الدلائل فى الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلا، وحركتهم السريعة نهارا، فى السعى على الأرزاق، والجدّ والكد فيها.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن دلائل وجوده وآيات قدرته:
خلقه السموات المزدانة بالكواكب، والنجوم الثوابت والسيارة المرتفعة السموك الواسعة الأرجاء، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار.
(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له، فمن عربية إلى فرنسية، إلى إنجليزية، إلى هندية، إلى صينية، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص فى الأصوات والألوان، وهذا مما لا غنى عنه فى منازع الحياة ومختلف(21/38)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
أغراضها، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات، وبذا نعرف الصديق من العدو، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما، كما نميزها بلغاتها، فنعرف من أي الأجناس هى.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق الله، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر.
(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن علامات قدرته نومكم بالليل واستقراركم فيه، حتى لا تكون حركة ولا حس، وسعيكم للأرزاق نهارا بمزاولة أسباب المعاش ووسائله.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى فعل الله ذلك لعبرا وأدلة لمن يسمعون مواعظه فيتعظون بها، ويفهمون حججه عليهم، على أن صانع ذلك لا يعجزه بعث العالم وإعادته.
[سورة الروم (30) : الآيات 24 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف- ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق ونشاهده رأى العين الفينة بعد الفينة، مما فيه العبرة لمن ادّكر، ونظر فى العوالم نظرة متأمل معتبر فى بدائع الأكوان، ليتوصّل إلى معرفة مدبرها وخالقها الذي أحسن كل شىء خلقه ثم هدى.(21/39)
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته أنه يريكم البرق، فتخافون مما فيه من الصواعق، وتطمعون فيما يجلبه من المطر الذي ينزل من السماء، فيحيى الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك الذي سلف ذكره لبرهانا قاطعا، ودليلا ساطعا، على البعث والنشور، وقيام الساعة، فإن أرضا هامدة لا نبات فيها ولا شجر يجيئها الماء فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج: لهى المثال الواضح، والدليل اللائح، على قدرة من أحياها على إحياء العالم بعد موته، حين يقوم الناس لرب العالمين.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن الحجج الدالة على قدرته على ما يشاء قيام السماء والأرض بلا عمد، بل بإقامته وتدبيره فالأرض تجرى، والسحاب يجرى حولها، والهواء تبع لها، وهى والقمر والسيارات يجرين حول الشمس، والشمس ولواحقها يجرين حول كواكب أخرى، لا نعلم عنها إلا هذه الآثار العلمية الضئيلة.
وقصارى ذلك: إلى إمساك هذه العوالم، وإقامتها وتدبيرها وإحكامها من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها.
(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهى أجل الدنيا، ويختل نظام العالم، فتبدل الأرض غير الأرض، وتدك الجبال دكا، وحينئذ تخرجون من قبوركم سراعا حينما يدعوكم الداعي.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» وقوله: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله:
«إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» .(21/40)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية وهى الأصل الأول، وعلى القدرة على الحشر، وهى الأصل الثاني- أعقب ذلك بهاتين الآيتين وجعلهما كالنتيجة لما سلف.
الإيضاح
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي إن من فى السموات والأرض من خلق الله مطيع له فيما أراد به، من حياة أو موت، من سعادة أو شقاء، من حركة أو سكون، إلى أشباه ذلك، وإن عصاه بقوله أو فعله فيما يكسبه باختياره، ويؤثره على غيره.
ثم كرر ذكر البعث والإعادة مرة أخرى لشدة إنكارهم له فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له، فينشئه بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور فى عقول المخاطبين، من أن من فعل شيئا مرة كانت الإعادة أسهل عليه.
والخلاصة: إن الإعادة أسهل على الله من البدء بالنظر لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شىء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء والمراد بذلك التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء.(21/41)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
وقصارى ذلك: إنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم، وبالقياس إلى أقداركم.
روى عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى «كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمنى ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياى.
فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته، وإما شتمه إياى، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» .
(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الوصف البديع فى السموات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو، ليس كمثله شىء، تعالى عن الشبيه والنظير.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب، الحكيم فى تدبير خلقه، وتصريف شئونه فيما أراد، وفق الحكمة والسّداد.
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
تفسير المفردات
من أنفسكم: أي منتزعا من أحوال أنفسكم، التي هى أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم، ملكت أيمانكم: أي مماليككم وعبيدكم، فيما رزقناكم: أي من العقار والمنقول، فأنتم فيه سواء: أي تتصرفون فيه كتصرفكم، تخافونهم: أي تخافون أن يستبدوا بالتصرف فيه، كخيفتكم أنفسكم: أي كما يخاف الأحرار بعضهم من(21/42)
بعض، نفصل الآيات: أي نبيتها بالتمثيل الكاشف للمعانى، فمن يهدى من أضل الله؟:
أي لا أحد يهديهم، وما لهم من ناصرين: أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير.
المعنى الجملي
بعد أن بين القدرة على الإعادة بإقامة الأدلة عليها، ثم ضرب لذلك مثلا أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية بعد إقامة الدليل عليها.
الإيضاح
(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟) أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها التي هى أقرب الأمور إليكم، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
هل أنتم أيها الأحرار تشركون معكم عبيدكم فى أموالكم، فيساوونكم فى التصرف فيها؟ لا، لا يتصرفون فيها إلا بإذنكم خوفا من لأئمة تلحقهم منكم، كما يخاف بعضكم بعضا، وإذا كنتم لا ترضون بذلك لأنفسكم وأنتم وهم عبيد الله، فكيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا عبيده شركاء له؟
وهذا مثل ضربه الله للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه، إذ كانوا يقولون فى التلبية والدعاء، حين أداء مناسك الحج: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وخلاصة المثل: إن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده فى التصرف فى أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟.(21/43)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ومثل هذا التفصيل البديع بضرب الأمثال الكاشفة للمعانى، المقربة لها إلى العقول، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس التي هى به ألصق، ولإداركه أقرب- نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض التي لأجلها ضربت، ولمثلها استعملت، فيستبين الرشد من الغى، والحق من الباطل، ولأمرمّا كثرت الأمثال فى جلاء الحقائق، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين.
ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره، سفها من أنفسهم وجهلا، لا ببرهان قد لاح لهم فقال:
(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم جهلا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان فى عبادته، ولو قلّبوا وجوه الرأى، واستعملوا الفكر والتدبر لربما ردّهم ذلك إلى معرفة الحق، ووصلوا إلى سبيل الرشد، ولكن أنّى لهم ذلك؟
(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟) أي فمن يهدى من خلق الله فيه الضلال، وجعله كاسباله باختياره، لسوء استعداده وميله بالفطرة إليه، وعلم الله فيه ذلك؟
(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله وشديد انتقامه إذا حل بهم، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(21/44)
تفسير المفردات
أقم: من أقام العود وقوّمه إذا عدّله والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه، حنيفا: من الحنف وهو الميل، فهو مائل من الضلالة إلى الاستقامة، والفطرة:
هى الحال التي خلق الله الناس عليها من القابلية للحق، والتهيؤ لإدراكه، وخلق الله:
هو فطرته المذكورة أوّلا، القيم: أي المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، منبين إليه: أي راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل، من قولهم: ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى، واتقوه: أي خافوه، فرقوا دينهم: أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، شيعا: أي فرقا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه البينات. والأدلة على وحدانيته، وأثبت الحشر وضرب لذلك المثل، وسلى رسوله ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم، لأن الله قد ختم على قلوبهم، فلا مخلص لهم مما هم فيه ولا ينقذهم من ذلك لا هو ولا غيره فلا تذهب نفسك عليهم حسرات- أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه، وعدم المبالاة بأمرهم، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنة ولا يسرة، فهو فطرة الله التي خلق العقول معترفة بها.
الإيضاح
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك لطاعته، وهو الدين القيم، دين الفطرة، ومل عن الضلال إلى الهدى.
(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزموا خلقة الله التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به، لكونه موافقا لما يهدى إليه(21/45)
العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم:
«كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء» (مستوية لم يذهب من بدنها شىء) «هل تحسون فيها من جدعاء» (مقطوعة الأذن أو الأنف) .
ثم علل وجوب الامتثال بقوله:
(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا ينبغى أن تبدّل فطرة الله أو تغير، وهذا خبر فى معنى النهى كأنه قيل: لا تبدّلوا دين الله بالشرك.
بيان هذا أن العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها، فهى تنبت حنظلا وفاكهة، ودواء وسمّا، والنفس يرد عليها الديانات والمعارف فتقبلها، والخير أغلب عليها من الشر، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعى، والقليل منه سمّ لا ينتفع به، ولا تغير بالآراء الفاسدة إلا بمعلم يعلمها ذلك كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين، ولو ترك الطفل وشأنه لعرف أن الإله واحد ولم يسقه عقله إلى غير ذلك، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج، هكذا صحيفة العقل لا تغيّر إلا بمؤثّر خارجى يضلّها بعد علم.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الذي أمرتكم به من التوحيد هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تدبرهم فى البراهين الواضحة الدالة عليه، ولو علموا ذلك حق العلم لا تبعوه، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه.
(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) أي فأقم وجهك أيها الرسول أنت ومن اتبعك، حنفاء لله منيبين إليه، وخافوه، وراقبوا أن تفرطوا فى طاعته، وترتكبوا معصيته.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وداوموا على إقامتها، فهى عمود الدين، وهى التي تذكّر المؤمن ربه، وتجعله يناجيه فى اليوم خمس مرات، وتحول بينه وبين الفحشاء(21/46)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
والمنكر، لأنها تعوّد النفس الخضوع والإخبات له، ومراقبته فى السر والعلن، كما جاء فى الحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به غيره، بل أخلصوا له العبادة ولا تريدوا بها سواه، وحافظوا على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
ثم بين صفات هؤلاء المشركين بقوله:
(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) أي من المشركين الذين بدلوا دين الفطرة وغيّروه، وكانوا فى ذلك فرقا مختلفة كلها جانبت الحق، وركنت إلى الباطل، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر الأديان الباطلة.
والخلاصة: إن أهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحل باطلة، كل منها تزعم أنها على شىء.
(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل طائفة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق، وأحدثوا من البدع ما أحدثوا- فرحون بما هم به مستمسكون، ويحسبون أن الصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل والمذاهب الأخرى.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)(21/47)
المعنى الجملي
لما أرشد سبحانه إلى التوحيد، وأقام الأدلة عليه، وضرب له المثل أعقبه بذكر حال للمشركين يعرفون بها، وسيماء لا ينكرونها، وهى أنهم حين الشدّة يتضرعون إلى ربهم، وينيبون إليه، فإذا خلصوا منها رجعوا إلى شنشنتهم الأولى، وأشركوا به الأوثان والأصنام، فليضلوا ما شاءوا، فإن لهم يوما يرجعون فيه إلى ربهم، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون، بل هو الهوى المطاع، والرأى المتّبع، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتهم لله رهن إصابتهم من الدنيا، فإن آتاهم ربهم منها رضوا، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده، وقد جعل لذلك أسبابا متى سلكها فاعلها وصل إلى ما يريد، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون، فكله بقدر الله وقضائه، وعلينا أن نستسلم له، ونعمل ما طلب إلينا عمله من الأخذ من الأسباب والجد فى العمل جهد الطاقة.
الإيضاح
(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر- ضرّ فأصابهم جدب وقحط أخلصوا لربهم التوحيد، وأفردوه بالتضرع إليه واستغاثوا به منيبين إليه، تائبين إليه من شركهم وكفرهم.
(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر وفرجه عنهم، وأصابهم برخاء وخصب وسعة، إذا جماعة منهم يشركون به فيعبدون معه الآلهة والأوثان.
والخلاصة: إنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له، وإذا أسبغ عليهم(21/48)
نعمه إذا فريق منهم يشركون به سواه، ويعبدون معه غيره.
ثم أمرهم أمر تهديد كما يقول السيد لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره:
اعصنى ما شئت، قال:
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي فليجحدوا نعمى عليهم وإحسانى إليهم كيف شاءوا، فإن لهم يوما نحاسبهم فيه، يوم يؤخذون بالنواصي، ويجرّون بالسلاسل والأغلال، ويقال لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون.
ومثله الأمر بعده وهو:
(فَتَمَتَّعُوا) أي فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء، وسعة النعمة فى الدنيا، فما هى إلا أو يقات قصيرة تمضى كلمح البصر.
ثم هددهم أشد التهديد بقوله:
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا وردتم علىّ ما يصيبكم من شديد عذابى، وعظيم عقابى، على كفركم بي فى الدنيا.
روى عن بعض السلف أنه قال: والله لو توعدنى حارس درب لخفت فيه، فكيف والمتوعّد هو الله الذي يقول للشىء كن فيكون؟.
ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره بلا دليل، فقال:
(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون فى عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا فيه تصديق لما يقولون، وإرشاد إلى حقيقة ما يدّعون.
وإجمال القصد: إنه لم ينزّل بما يقولون كتابا ولا أرسل به رسولا، وإنما هو شىء افتعلوه اتباعا لأهوائهم.
ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلّته إلا من عصمه الله فقال:
(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ(21/49)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
يَقْنَطُونَ)
أي إن الإنسان قد ركّب فى طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة، كما حكى الله عنه: «لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة، وعصيانه أوامر الدين، قنط من رحمة الله وأيس منها، فهو كما قيل:
كحمار السوء إن أعلفته ... رمح الناس وإن جاع نهق
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم راضون بما قسمه لهم ربهم من خير أو شر، علما منهم أن الله حكيم، لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد، وفى الحديث الصحيح:
«عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» .
ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء، فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله، فما بالهم لم يشكروا فى السراء، ويحتسبوا فى الضراء، كما يفعل المؤمنون، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لهم فيها من الخير كالتأديب والتذكير والامتحان، فهو كما يربى عباده بالرحمة يربيهم بالتعذيب فلو أنهم شكروه حين السراء، وتضرعوا إليه فى الضراء، لكان خيرا لهم.
والخلاصة: إنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه فى الرخاء والشدة، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم، ولا شدة تحدث فى قلوبهم اليأس، بل يكونون فى السراء والضراء منيبين إليه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك البسط على من بسط له والقدر على من قدر عليه- لدلالة واضحة لمن صدّق بحجج الله إذا عاينها.
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)(21/50)
تفسير المفردات
حقه: هو صلة الرحم والبرّ به، والمسكين: هو المعدم الذي لا مال له، وابن السبيل:
هو المسافر الذي احتاج إلى مال وعزّ عليه إحضاره من بلده، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة، ربا: أي زيادة، والمراد بها الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة، فلا يربو عند الله: أي فلا يبارك فيه، والمراد بالزكاة الصدقة، المضعفون:
أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر- أردف ذلك ببيان أنه يحبّ الإحسان على ذوى القربى وذوى الحاجات من المساكين وأبناء السبيل، فإنه إذا بسط الرزق لم ينقصه الإنفاق، وإذا قدر لم يزده الإمساك:
إذا جادت الدنيا عليك فجدبها ... على الناس طرّا إنها تتقلّب
فلا الجود يفنيها إذا هى أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هى تذهب
الإيضاح
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين: الأقارب الفقراء جزءا من مالك صلة للرحم، وبرا بهم لأنهم أحق الناس بالشفقة ومن ثم حكى عن أبى حنيفة أنه استدل بهذه الآية على وجوب النفقة على كل ذى رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب(21/51)
وكذا المسكين الذي لا مال له إذا وقع فى ورطة الحاجة، فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته، وسدّ عوزه.
ومثله المسافر البعيد عن ماله، الذي لا يستطيع إحضار شىء منه لانقطاع السبل به فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته، حتى يصل إلى مأمنه، وسرعة طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة.
(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم، من فعل الخير الذي يتقبّله الله، ويرضى عن فاعليه، ويعطيهم جزيل الثواب، وأولئك قد ربحوا فى صفقتهم، فأعطوا ما يفنى، وحصلوا على ما يبقى، من النعيم المقيم، والخير العميم.
وإنما كان هذا العمل خيرا، لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة، وتعاونها فى السراء والضراء، وتعاون الأسرة العامة، وهى الأمة الإسلامية جمعاء، كما
جاء فى الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» .
ولا يخفى ما لذلك من أثر فى تولد المحبة والمودة، وفى التكاتف لدفع عوادى الأيام، ومحن الزمان.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) أي ومن أهدى هدية يريد أن تردّ بأكثر منها، فلا ثواب له عند الله، وقد حرم الله ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم على الخصوص، كما قال تعالى: «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» أي ولا تعط العطاء تريد أكثر منه.
روى عن ابن عباس أنه قال: الربا ربوان: ربا لا يصح وهو ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية.
وقال عكرمة: الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام فأما الربا الحلال: فهو الذي يهدى، يلتمس ما هو أفضل منه وعن الضحاك فى هذه الآية: هو الربا الحلال(21/52)
الذي يهدى، ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له أجر وليس عليه فيه إثم.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطوا صدقة يبتغون بها وجه الله تعالى خالصا، فأولئك من الذين يضاعف لهم الثواب والجزاء، كما قال تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؟» ،
وجاء فى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد (جبل) » .
ولما بين أنه لا زيادة إلا فيما يزيده، ولا خير إلا فيما يختاره أكد ذلك بقوله:
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الله الذي لا تصح العبادة إلا له، ولا ينبغى أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم ما به تقوم شئونكم فى هذه الحياة، ثم يقبض أرواحكم فى الدنيا، ثم يحييكم يوم القيامة للبعث.
ثم وبخ هؤلاء المشركين الذين يعبدون الآلهة والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت بقوله:
(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لى فى العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟.
وإجمال المعنى: إن شركاءكم لا يفعلون شيئا من ذلك، فكيف يعبدون من دون الله؟.
ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها، فقال:
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن الشريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.(21/53)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
تفسير المفردات
البر: الفيافي والقفار، ومواضع القبائل، والبحر: المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها كما قال سعد بن عبادة فى عبد الله بن أبى بن سلول: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة (المدينة) ليتوّجوه.
وقال ابن عباس: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين عبدوا مع الله سواه، وأشركوا به غيره، والشرك سبب الفساد، كما يرشد إلى ذلك قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» - أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات الله، واجترحوا المعاصي، وفشا بينهم الظلم والطمع، وأكل القوى مال الضعيف، فصب عليهم ربهم سوط عذابه، فكثرت الحروب، وافتنّ الناس فى أدوات التدمير والإهلاك، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها، إلى طائرات قاذفات للحمم والموادّ المحرقة، إلى مدافع تحصد الناس حصدا، إلى دبابات سميكة الدروع تهدّ المدن هدا وما الحرب القائمة(21/54)
الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية، والمجازر البشرية التي سلط الله فيها العالم بعضه على بعض، فارتكب المظالم، واجترح المآثم، والإنسان فى كل عصر هو الإنسان.
وكما أهلك الله الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم، فليجعلوا من سبقهم مثلا لهم، ليتذكروا عقاب الله وشديد عذابه للمكذبين.
الإيضاح
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ظهر الفساد فى العالم بالحروب والغارات، والجيوش والطائرات، والسفن الحربية والغواصات، بما كسبت أيدى الناس من الظلم وكثره المطامع، وانتهاك الحرمات، وعدم مراقبة الخلاق، وطرح الأديان وراء ظهورهم، ونسيان يوم الحساب، وأطلقت النفوس من عقالها، وعاثت فى الأرض فسادا، إذ لا رقيب من وازع نفسى، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها، ويمنع أذاها، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويتذكرون أن هناك يوما يحاسب الناس فيه على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيخيّم العدل على المجتمع البشرى، ويشفق القوىّ على الضعيف، ويكون الناس سواسية فى المرافق العامة، وحاج المجتمع بقدر الطاقة البشرية.
وبعد أن بين أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم أرشدهم إلى أن من كان قبلهم وكانت أفعالهم كأفعالهم، أصابهم بعذاب من عنده، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم، قال:
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: سيروا فى البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم وكذبوا رسله، كيف أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرة لمن بعدهم؟.(21/55)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب، فقال:
(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فما حل بهم من العذاب كان جزاء وفاقا لكفرهم بآيات ربهم، وتكذيبهم رسله.
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
تفسير المفردات
لا مرد له: أي لا يقدر أحد أن يردّه، يصّدّعون: أي يتصدعون ويتفرقون، كما قال متمّم بن نويرة من قصيدة يرثى بها أخاه مالكا:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا «1»
فأصبحنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
يمهدون: من مهد فراشه إذا وطّأه حتى لا يصيبه ما ينغّص عليه مرقده من بعض ما يؤذيه، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وتمهيد العذر بسطه وقبوله، لا يحب الكافرين: أي إنه يبغضهم، وسيعاقبهم على ما فعلوا.
__________
(1) وجذيمة: هو جذيمة الأبرش، وكان ملكا فى الحيرة، ونديماه مالك وعقيل، وبهما يضرب المثل فى طول المنادمة، فقد نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثا كان قالاه من قبل.(21/56)
المعنى الجملي
بعد أن نهى الكافر عن بقائه على حاله التي هو عليها خيفة أن يحل به سوء العذاب- أردف ذلك أمر رسوله ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه، بعبادتهم الواحد الأحد، قبل أن يأتى يوم الحساب، الذي يتفرق فيه العباد، فريق فى الجنة، وفريق فى السعير، فمن كفر فعليه وبال كفره، ومن عمل صالحا فقد أعد لنفسه مهادا يستريح عليه بما قدم من صالح العمل، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه ما لا يخطر له ببال، ولا يدور له فى حسبان.
والكافر سيلقى فى هذا اليوم العذاب والنكال، لأن ربه يبغضه ويمقته جزاء ما دسّى به نفسه من سيئ العمل.
الإيضاح
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي فاسلك أيها الرسول الكريم الطريق الذي رسمه لك ربك بطاعته، واتباع نهجه القويم، الذي لا عوج فيه ولا أمت، من قبل أن يجىء ذلك اليوم الذي لا راد له، وهو يوم الحساب الذي كتب الله مجيئه وقدّره، وما قدّر لا بد أن يكون.
ثم ذكر حال الناس يومئذ، فقال:
(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يومئذ يتفرق الناس بحسب أعمالهم، فريق فى الجنة يؤتى ثمرة عمله، وفريق يزجى إلى النار بما اجترح من الآثام، وبما ران على قلبه مما كسبت يداه.
ثم بين أن ما ناله كل منهما من الجزاء كان نتيجة حتمية لعمله فقال:
(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر بالله، ودسّى نفسه بما عمل من السيئات، واجترح من الآثام، فعليه وحده أوزار جحوده(21/57)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
وكفره بنعم ربه، ومن عمل الصالحات، وأطاع الله فيما به أمر، وعنه نهى، فقد أعدّ لنفسه العدّة، ووطأ لنفسه الفراش حتى لا يقضّ عليه مضجعه، ويقع فى عذاب السعير.
ثم بين العلة فى تفرقهم، فقال:
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي إنهم يتفرقون ليجازى المؤمنين بالحسنى من فضله، فيكافئ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من المنح والعطايا.
وذكر جزاء الكافرين بما يدل عليه قوله:
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي إنه يبغضهم، وذلك يستدعى عقابهم، ولا يخفى ما فى ذلك من تهديد ووعيد.
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر فى البر والبحر بسبب الشرك والمعاصي، نبههم إلى دلائل وحدانيته بما يشاهدونه أمامهم من إرسال الرياح وبالأمطار، فتحيا بها الأرض بعد موتها وجرى الفلك حاملة لما هم فى حاجة إليه، مما فيه غذاؤهم، وعليه مدار حياتهم.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى، والحجج القائمة على أنه رب كل شىء، أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر مبشرات بالغيث الذي به تحيا(21/58)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
الأرض وينبت الثمر والزرع، فتأكلون منه مالذ وطاب، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلا من ربكم، وتجرى السفن ما خرة للبحار، حاملة للأقوات وأنواع الثمار، متنقلة من قطر إلى قطر، فتأتى بما فى أقصى المعمور من الشرق إلى أقصاه فى الغرب، والعكس بالعكس، فلا تحتجن الثمرات والأقوات فى أماكنها، وتكون وقفا على قوم بأعيانهم.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدّكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة، وخيراته العميمة التي لا تحصى، كما قال: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه البراهين الساطعة الدالة على الوحدانية والبعث والنشور، ولم يرعو بها المشركون، بل لجّوا فى طغيانهم يعمهون، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنك لست أول من كذّب، فكثير ممن قبلك جاءوا أقوامهم بالبينات، فلم تغنهم الآيات والنذر، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولنجرينّ عليك وعلى قومك سنننا، ولننتقمنّ منهم، ولننصرنّك عليهم، فالعاقبة للمتقين
الإيضاح
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
أي ولقد أرسلنا أيها الرسول رسلا من قبلك إلى أقوامهم(21/59)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
الكافرين، كما أرسلناك إلى قومك عابدى الأوثان من دون الله، فجاءوهم بالحجج الواضحة على أنهم من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عنده، كما ردوا عليك ما جئتهم به، فانتقمنا من الذين اجترحوا الآثام، واكتسبوا السيئات من أقوامهم، ونجينا الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، ونحن فاعلوا ذلك بمجرمى قومك، وبمن آمن بك، سنة الله التي شرعها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو لا يخلف الميعاد.
أخرج الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردويه والترمذي عن أبى الدرداء قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
: ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والبشارة بالظفر على أعدائه، والوعيد والنكال، والخسران فى المآل، لمن كذب به من قومه.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 51]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)(21/60)
تفسير المفردات
تثير: أي تحرك، يبسط: أي ينشر، فى السماء: أي فى سمتها وجهتها، كسفا: أي قطعا، والودق: المطر، خلاله: واحدها خلل، وهو الفرجة بين الشيئين، لمبلسين:
أي لآيسين.
المعنى الجملي
عود على بدء، بعد أن سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذى قومه ببيان أنه ليس ببدع فى الرسل، فكائن من رسول قبله قد كذّب، ثم دالت الدّولة على المكذبين، ونصر الله رسوله والمؤمنين، أعاد الكرة مرة أخرى، فأتبع البرهان بالبرهان لإثبات الوحدانية، وإمكان البعث والنشور بما يشاهد من الأدلة فى الآفاق، مرشدة إلى قدرته، وعظيم رحمته، ثم بما يرى فى الأرض الموات من إحيائها بالمطر، وهو دليل لائح يشاهدونه، ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادّكر؟.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي الله الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء، تارة سائرا، وأخرى واقفا، وحينا قطعا، فترى المطر يخرج من وسطه، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.(21/61)
والخلاصة: إنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبل ذلك أيضا، إذ هم ترقّبوه فى إبّانه فتأخر، ثم مضت فترة فترقبوه فيها فتأخر، ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط، وبعد أن كانت أرضهم هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة.
وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا، ومن ثم قال:
(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث.
ثم أكد هذا بقوله:
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شىء، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه، ونحو الآية قوله: «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها. أَوَّلَ مَرَّةٍ» .
ثم ذمهم على تزلزلهم وسوء اضطرابهم، فإذا أصابهم الخير فرحوا به، وإن أصابهم السوء يئسوا وأبلسوا، وانقطع رجاؤهم من الخير، فقال:
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة على الزرع الذي زرعوه وبما واستوى على سوقه، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته- لظلّوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم الله السابقة عليهم.
ولا يخفى ما فى ذلك من المبالغة فى احتقارهم لتزلزلهم فى عقيدتهم، إذ كان الواجب(21/62)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
عليهم أن يتوكلوا على الله فى كل حال، ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر، ولا يبأسوا من روح الله، ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه، لكنهم قد عكسوا الأمر، وأبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم.
[سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صنوف الأدلة، ثم ضرب المثل على توحيده ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضا، ولا تكرار النصح إلا إصرارا وعنادا- أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي فى الإعراض، وكثرة العناد واللجاج، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى، فأنّى لك أن تسمعهم، وكأنهم صمّ، فكيف يسمعون دعاءك حتى يستجيبوا لك؟ إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات الله، فهو إذا سمع كتابه تدبره وفهمه، فيخضع لك بطاعته، ويتذلل لمواعظ كتابه.
الإيضاح
(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبوا أسماعهم بأن تجعل لهم(21/63)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
أسماعا، ولا تقدر أن تهدى من تصامّوا عن فهم آيات كتابه فتجعلهم يسمعونها ويفهمونها كما لا تقدر أن تسمع الصم- الدعاء إذا ولّوا عنك مدبرين.
ثم بين أن الهداية والضلالة بيده لا بيد الرسول، فقال:
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس فى طوقك أن تهدى من أضله الله، فتردّه عن ضلالته، بل ذلك إليه وحده، فإنه يهدى من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه.
والخلاصة: إن هذا ليس من عملك، ولا بعثت لأجله.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيتّبعه، إلا من يؤمن بآياتنا، لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله تدبره وفهمه، وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدوده التي حدها، فهو مستسلم خاضع له، مطيع لأوامره، تارك لنواهيه.
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته أردفها دلائل الأنفس، فذكر خلق الأنفس، فى أطوارها المختلفة من ضعف إلى قوة، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف، ثم إلى شيخوخة وهرم. وبين أنه العليم بها فى مختلف أحوالها، القدير على تغييرها واختلاف أشكالها.(21/64)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يقول سبحانه محتجا على المشركين المنكرين للبعث: إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ثم جعل لكم قوة على التصرف من بعد ضعف الصغر والطفولة، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر، بعد أن كنتم أقوياء فى شبابكم- قادر أن يعيدكم مرة أخرى بعد البلى، وبعد أن تكونوا عظاما نخرة.
والخلاصة: إن تنقل الإنسان فى أطوار الخلق حالا بعد حال من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف- دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء، الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم كرّة أخرى.
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة، وشباب وشيب وهو العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء، لا يمتنع عليه شىء أراده، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء:
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
تفسير المفردات
الساعة الأولى: يوم القيامة سميت بذلك لأنها تقوم فى آخر ساعة من ساعات لدنيا، ما لبثوا: أي ما أقاموا بعد الموت، غير ساعة: أي غير قطعة قليلة من الزمان(21/65)
يؤفكون: أي يصرفون عن الحق، المعذرة: العذر، يستعتبون: أي يطلب منهم إزالة عتب الله وغضبه عليهم بالتوبة والطاعة، فقد حق عليهم العذاب، يقال:
استعتبني فلان فأعتبته: أي استرضانى فأرضيته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى، وذكر الإعادة والبعث، وأقام عليه الأدلة فى شتى السور وضرب له الأمثال- أردف ذلك ذكر أحوال البعث وما يجرى فيه من الأفعال والأقوال من الأشقياء والسعداء ليكون فى ذلك عبرة لمن يدّكر.
الإيضاح
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي ويوم تجئ ساعة البعث، فيبعث الله الخلق من قبورهم، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله فى الدنيا، ويكتسبون فيها الآثام، إنهم ما أقاموا فى قبورهم إلا قليلا من الزمان، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم فى البرزخ على طولها، وهم قد صرفوا فى الآخرة عن معرفة مدة مكثهم فى ذلك الحين.
(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذبوا فى قولهم ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا فى الدنيا يحلفون على الكذب وهم يعلمون. والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها، كى يقلعوا عن العناد، ويرجعوا إلى سبل الرشاد، وكأنه قيل: مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون فى الدنيا اغترارا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة.
ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم وتهكمهم بهم:
(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي وقال(21/66)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله لأولئك المنكرين: لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث فى قبوركم.
وفى هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه، وإطلاع لهم على الحقيقة.
ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على؟؟؟ البعث بقولهم:
(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه فى الدنيا، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم فى النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه.
ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، ذكر أن المعاذير لا تجدى فى هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم، فقال:
(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففى هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل، وقد حقت عليهم كلمة ربهم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والخلاصة: إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها.
ونحو الآية قوله: «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» .
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)(21/67)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر، بشتى البراهين، وبديع الأمثال- أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي والله لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترى، وما هى إلا أساطير الأولين.
ونحو هذا قوله: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم فى طغيانهم يعمهون.
ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى عنادهم، فقال:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى(21/68)
المشركين، وبلغهم رسالة ربك، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك فى الأرض- حق لا شك فيه، وليكونن لا محالة.
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات- على الخفة والقلق، فيثبطوك عن أمر الله والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته.
وفى هذا إرشاد لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتعليم له، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم.
أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو فى صلاة الفجر فقال: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فأجابه وهو فى الصلاة:
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .
ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من على كرم الله وجهه، وهو مدينة العلم.
وصل ربنا على محمد وآله الكرام، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(21/69)
خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.
(2) البراهين الدالة على الوحدانية.
(3) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.
(4) الأدلة التي فى الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته.
(5) الأدلة على صحة البعث.
(6) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.
(7) الأمر بعبادة الله وحده وهى الفطرة التي فطر الناس عليها.
(8) النهى عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.
(9) من طبيعة المشرك الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء.
(10) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(11) الأمر بالتصدق على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.
(12) الدلائل التي وضعها سبحانه فى الأنفس شاهدة على وحدانيته.
(13) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
(14) فى النظر فى آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.
(15) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.
(16) بيان أن الكافرين يكذبون فى الآخرة كما كانوا يكذبون فى الدنيا.
(17) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية فى الإعذار والإنذار، وأن قومه قد بلغوا الغاية فى التكذيب والإنكار.
(18) أمره صلى الله عليه وسلم بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به.(21/70)
سورة لقمان
هى مكية إلا الآيات 28، 29، 30 فمدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أعنيتنا أم قومك؟ قال: كلّا عنيت، فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شىء، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك فى علم الله قليل، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
وآيها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات.
وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه وعن برّه والديه، فنزلت.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه تعالى قال فى السورة السالفة: «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وأشار إلى ذلك فى مفتتح هذه السورة.
(2) إنه قال فى آخر ما قبلها: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» وقال فى هذه: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً» .
(3) إنه قال فى السورة السابقة: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال هنا: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» ، ففى كلتيهما إفادة سهولة البعث.
(4) إنه ذكر هناك قوله: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» ، وقال هنا: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» فذكر فى كل من الآيتين قسما لم يذكره فى الآخر.(21/71)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
(5) إنه ذكر فى السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا، وذكر هنا قصة عبد مملوك زهد فيها، وأوصى ابنه بالصبر والمسألة، وذلك يقتضى ترك المحاربة، وبين الأمرين التقابل وشاسع البون كما لا يخفى
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الإيضاح
(الم) تقدم تفسير هذا مرارا بإسهاب.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا.
(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي هذه آيات الكتاب الهادي من الزيغ، الشافي من الضلال، لمن أحسنوا العمل، وانبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة على الوجه الأكمل، الذي رسمه الدين فى أوقاتها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وأيقنوا بالجزاء فى الدار الآخرة، ورغبو إلى الله فى ثواب ذلك لم يراءوا به، ولا أرادوا به جزاء ولا شكورا.
ولما كان المتصفون بهذه الخلال هم الغاية فى الهداية والفلاح قال:
(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن هؤلاء الذين ذكرت أوصافهم على نور من ربهم، وأولئك الذين رجوا ما أمّلوا من ثوابه يوم القيامة، وقد تقدم مزيد إيضاح لهذا أول سورة البقرة.
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)(21/72)
تفسير المفردات
المراد بلهو الحديث: الجواري المغنيات، وكتب الأعاجم، وقد اشتريت حقيقة.
وقال ابن مسعود: لهو الحديث: الرجل يشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا،
وعن ابن عمر «أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى لهو الحديث: إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل» ،
وسبيل الله: هو دينه، والهزو: السخرية، مهين: أي تلحقهم به الإهانة، وقرا: أي صمما يمنعهم من السماع.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه وهم الذين قال الله فيهم: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» - أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
روى عن ابن عباس أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق بها إليه، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه.
وروى عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا، ويقول لهم: إن محمدا يحدثكم. حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم(21/73)
حديث رستم وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهّى به عن الحديث النافع للإنسان فى دينه، فيأتى بالخرافات والأساطير والمضاحيك وفضول الكلام، كالنضر بن الحارث الذي كان يشترى الكتب، ويحدّث بها الناس، وربما اشترى الفتيات، وأمرهن بمعاشرة من أسلم، ليحملهم على ترك الإسلام، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال، والصد عن دين الله وقراءة كتابه، واتخاذه هزوا ولعبا.
وعن نافع قال «كنت أسير مع عبد الله بن عمر فى الطريق، فسمع مزمارا، فوضع أصبعيه فى أذنيه، وعدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت:
لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع» .
وعن ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان» .
والخلاصة: إن سماع الغناء الذي يحرك النفوس، ويبعثها على اللهو والمجون بكلام يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا خلاف فى تحريمه، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح: كالعرس والعيد، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان فى حفر الخندق وحدو أنجشه (عبد أسود كان يقود راحلة نساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع) فأما ما ابتدعه الصوفية من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو،(21/74)
فقد ضرب بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح» فكنّ يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار.
ولا بأس من استعمال الطبل والدف فى النكاح. وكذا الآلات المشهرة به والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه.
وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز.
ثم بين عاقبة أمرهم، فقال:
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة، لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل- جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق:
ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى فى نفسه، فكلما تليت عليه آية ازداد إباء ونفورا، فقال:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله- يعرض عن سماعها ويولّى مستكبرا، كأن لم يسمعها، كأن فى أذنيه ثقلا، فلا يصيخ لها، ولا يأبه لتلقّفها وتأملها.
ونحو الآية قوله: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» .
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما بزيل كبره وعظمته قال:
(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.(21/75)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال من أعرض عن الآيات وبيّن مآله- عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها) أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة، فأتوا بما أمرهم به ربهم فى كتابه على لسان رسله، وانتهوا عما نهاهم عنه- لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسارّ من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا.
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي ما أخبرنا به كائن لا محالة، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده وهو الكريم المنّان على عباده.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد فى انتقامه من أهل الشرك به، الصادّين عن سبيله، الحكيم فى تدبير خلقه، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)(21/76)
تفسير المفردات
العمد: واحدها عماد، وهو ما يعمد به أي يسند به، تقول: عمدت الحائط إذا دعمته، رواسى: أي جبالا ثوابت، تميد: أي تضطرب، والبثّ: الإثارة والتفريق كما قال: «كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» والمراد الإيجاد والإظهار: وزوج: أي صنف، كريم:
أي شريف كثير المنفعة.
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف كمال قدرته وعلمه وإتقان عمله- أردف ذلك الاستشهاد لما سلف بخلق السموات والأرض وما بعده، مع تقرير وحدانيته، وإبطال أمر الشرك، وتبكيت أهله.
الإيضاح
(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي ومن الأدلة على قدرته البالغة، وحكمته الظاهرة أن خلق السموات السبع بغير عمد تستند إليه، بل هى قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الرعد.
(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وجعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال، لئلا تضطرب بكم، وتميد بالمياه المحيطة بها، الغامرة لأكثرها.
(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها ومقادير أشكالها وألوانها إلا الذي فطرها.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي وأنزلنا من السماء مطرا فكان ذلك سببا لإنبات كلّ صنف كريم من النبات ذى المنافع الكثيرة.
ثم بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه، فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال:
(هذا خَلْقُ اللَّهِ) أي هذا الذي تشاهدونه من السموات والأرض وما فيهما من الخلق- خلق الله وحده دون أن يكون له شريك فى ذلك.(21/77)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
(فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟) أي فأخبرونى أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان: أىّ شىء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه فى العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالفكم وخالق هذه لأشياء التي عددتها لكم؟.
ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعى للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه، فقال:
(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل المشركون بالله، العابدون معه غيره فى جهل وعمى واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنّى لهم أن يرعووا عن غىّ أو يهتدوا إلى رشد وحق؟.
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
تفسير المفردات
لقمان كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشافر آتاه الله الحكمة، ومنحه النبوة.
والحكمة: العقل والفطنة، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شىء كثير، كقوله لابنه: أي بنىّ إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثيرون، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو، ولا أراك ناجيا.
وقوله: من كان له من نفسه واعظ، كان له من الله حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه، زاده الله بذلك عزا، والذل فى طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله: يا بنىّ لا تكن حلوا فتبتلع، ولا مرّا فتلفظ.(21/78)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وقوله: يا بنى إذا أردت أن تواخى رجلا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه فآخه، وإلا فاحذره.
والشكر: الثناء على الله تعالى، وإصابة الحق، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له.
المعنى الجملي
بعد أن بين فساد اعتقاد المشركين بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شىء، ثم بين أن المشرك ظالم ضالّ- أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة فى السموات والأرض، والباطنة: من العلم والحكمة ترشد إلى وحدانيته، وقد آتاها لبعض عباده كلقمان الذي فطر عليها دون نبىّ أرشده، ولا رسول بعث إليه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي ولقد أعطى سبحانه لقمان الحكمة، وهى شكره وحمده على ما آتاه من فضله بالثناء عليه بما هو أهل له، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له.
(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الله يجزل له على شكره الثواب، وينقذه من العذاب كما قال: «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» .
(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ومن كفر نعم الله عليه، فإلى نفسه أساء، لأن الله معاقبه على كفرانه إياها، والله غنى عن شكره، لأن شكره لا يزيد فى سلطانه، وكفرانه لا ينقص من ملكه، وهو المحمود على كل حال، كفر العبد أو شكر.
[سورة لقمان (31) : الآيات 13 الى 19]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(21/79)
تفسير المفردات
العظة: تذكير بالخير يرقّ له القلب، والوهن: الضعف، والفصال: الفطام، جاهداك: أي حرصا على متابعتك لهما فى الكفر، أناب: أي رجع، المثقال:
ما يوزن به غيره، ومثقال حبة الخردل مثل فى الصغر، لطيف: أي يصل علمه إلى كل خفىّ، خبير: أي عليم بكنه الأشياء وحقائقها، من عزم الأمور: أي من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب، تصعير الخد: ميله وإبداء صفحة الوجه، وهو من فعل المتكبرين، قال أعرابى: وقد أقام الدهر صعرى بعد أن أقمت صعره، وقال عمرو بن حنىّ التغلبي:
وكنا إذا الجبار صعّر خدّه ... أقمنا له من ميله فتقوّما(21/80)
وفى الحديث: «يأتى على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر»
والأصعر:
المعرض بوجهه كبرا،
وفى الحديث «كل صعّار ملعون»
أي كل ذى أبهة وكبر هو كذلك. مرحا: أي فرحا وبطرا، والمختال: هو الذي يفعل الخيلاء وهى التبختر فى المشي كبرا، والفخور: من الفخر وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك، اقصد: أي توسط، اغضض: أي انقص منه وأقصر، من قولهم: فلان يغضّ من فلان إذا قصّر به ووضع منه وحط من قدره، أنكر الأصوات: أي أقبحها وأصعبها على السمع من نكر (بالضم) نكارة، أي صعب.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتى الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها فى الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار- أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد فى أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصّى بها سبحانه الأولاد فى معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أي واذكر أيها الرسول الكريم موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه، وأحبهم لديه حين أمره أن يعبد الله وحده، ونهاه عن الشرك، وبين له أنه ظلم عظيم أما كونه ظلما، فلما فيه من وضع الشيء فى غير موضعه، وأما أنه عظيم، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه، وهو سبحانه وتعالى، ومن لا نعمة لها، وهى الأصنام والأوثان.(21/81)
روى البخاري عن ابن مسعود قال: لما نزل قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بذلك. ألا تسمعون لقول لقمان: «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .
وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه فى إيجاده أحد، وذكر ما فى الشرك من الشناعة أتبعه بوصيته الولد بالوالدين لكونهما السبب فى وجوده، فقال:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي وأمرناه ببرهما وطاعتهما، والقيام بحقوقهما، وكثيرا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين كقوله: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .
ثم ذكر منّة الوالدة خاصة لما فيها من كبير المشقة، فقال:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته وهى فى ضعف يتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق، ثم مدة النفاس.
ثم أردفها ذكر منه أخرى، وهى الشفقة عليه وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئا، فقال:
(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه فى عامين تقاسى فيهما الأم فى رضاعه وشئونه فى تلك الحقبة جمّ المصاعب والآلام التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها، ومن لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
وقد وصى بالوالدين لكنه ذكر السبب فى جانب الأم فحسب، لأن المشقة التي تلحقها أعظم، فقد حملته فى بطنها ثقيلا، ثم وضعته وربته ليلا ونهارا، ومن ثم
قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أبرّ؟: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: ثم أباك.(21/82)
ثم فسر هذه الوصية بقوله:
(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي وعهدنا إليه أن اشكر لى على نعمى عليك، ولوالديك، لأنهما كانا السبب فى وجودك، وإحسان تربيتك، وملاقاتهما ما لا قيا من المشقة حتى استحكمت قواك.
ثم علل الأمر بشكره محذّرا إياه بقوله:
(إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إلىّ الرجوع، لا إلى غيرى، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمرى، وسائلك عما كان من شكرك لى على نعمى عليك، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرّك بهما.
وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين وأكد حقهما، ووجوب طاعتهما استثنى من ذلك حقوقه تعالى، فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه، فقال:
(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن ألحف عليك والداك فى الطلب، وشدّ النكير عليك، بأن تشرك بي فى عبادتى غيرى مما لا تعلم أنه شريك لى، فلا تطعهما فيما أمراك به، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به.
روى أن هذه الآية نزلت فى سعد بن أبى وقاص قال: «لما أسلمت حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، فناشدتها أول يوم فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مائة نفس لخرجت قبل أن أودع دينى هذا، فلما رأت ذلك وعرفت أنى لست فاعلا أكلت» .
(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وصاحبهما فى أمور الدنيا صحبة يرتضيها الدين، ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما فى القبر إذا ماتا.(21/83)
وقوله: (فِي الدُّنْيا) إشارة إلى تهوين أمر الصحبة، لأنها فى أيام قلائل وشيكة الانقضاء، فلا يصعب تحمل مشقتها.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن فى الدين ببعض محاباة فيه نفى ذلك بقوله:
(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) أي واسلك سبيل من تاب من شركه ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة: واتبع سبيلى بالتوحيد، والإخلاص والطاعة، لا سبيلهما.
(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم إلىّ بعد مماتكم، فأخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
ثم عاد إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه بعد أن نهى فى مطلعها عن الشرك وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله:
(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) أي يا بنى إن الفعلة من الإساءة والإحسان إن تك وزن حبة من خردل فتكن فى أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو فى أعلى مكان كالسموات أو فى أسفله كباطن الأرض- يحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط، ويجازى عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما قال تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» .
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إن الله لطيف يصل علمه إلى كل خفى، خبير: يعلم ظواهر الأمور وخوافيها.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها كاملة على النحو المرضى، لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا تم ذلك صفت النفس وأنابت إلى بارئها فى السراء والضراء كما
جاء فى الحديث: «اعبد الله كأنك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .(21/84)
وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفية لحق الله عليه عطف على ذلك تكميله لغيره، فقال:
(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك، تزكية لها، وسعيا إلى الفلاح، كما قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .
(وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي وانه الناس عن معاصى الله ومحارمه التي توبق من اكتسبها، وتلقى به فى عذاب السعير، فى جهنم وبئس المصير.
(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى الناس فى ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر.
وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة، وختمها بالصبر، لأنهما عمادا لاستعانة إلى رضوان الله كما قال: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» .
ثم ذكر علة ذلك، فقال:
(إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك الذي أوصيك به من الأمور التي جعلها الله محتومة على عباده لا محيص منها، لما لها من جزيل الفوائد، وعظيم المنافع، فى الدنيا والآخرة، كما دلت على ذلك تجارب الحياة، وأرشدت إليه نصوص الدين.
وبعد أن أمره بأشياء حذره من أخرى، فقال:
(1) (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا واحتقارا له، بل أقبل عليه بوجهك كله متهللا مستبشرا من غير كبر ولا عتوّ.
ومن هذا ما
رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» .
(2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش فى الأرض مختالا متبخترا، لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون فى الأرض، ويظلمون الناس، بل امش هونا، فإن ذلك يفضى إلى التواضع، وبذا تصل إلى كل خير.(21/85)
روى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: «جلست إلى عبد الله ابن عمرو بن العاصي، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، فيقول: يا بن آدم ما غرّك بي؟ ألم تعلم أنى بيت الوحدة؟ ألم تعلم أنى بيت الظلمة؟ ألم تعلم أنى بيت الحق؟ يا بن آدم ما غرك بي؟ لقد كنت تمشى حولى فدّادا (ذا خيلاء وكبر) » .
وفى الحديث: «من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة» .
ثم ذكر علة هذا النهى بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن الله لا يحب المختال المعجب بنفسه، الفخور على غيره، ونحو الآية ما مر من قوله: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» .
(3) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطىء المتثبّط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق، بإظهار التواضع أو التكبر.
روى عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا، فقالت: ما لهذا؟ فقيل:
إنه من القرّاء (الفقهاء العالمين بكتاب الله) قالت: كان عمر سيّد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع.
ورأى عمر رجلا متماوتا، فقال له: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له: «ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض» .
(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه وأقصر، ولا ترفع صوتك حيث لا يكون إلى ذلك حاجة، لأنه أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه.
ثم علل النهى وبيّنه بقوله:
(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي إن أبشع الأصوات وأقبحها برفعها فوق(21/86)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
الحاجة بلا داع هو صوت الحمير، وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيها بصوت الحمار فى علوه ورفعه، وهو البغيض إلى الله.
وفى ذلك ما لا يخفى من الذم، وتهجين رفع الصوت، والترغيب عنه، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغة فى التنفير من عمله، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة.
وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، قال شاعرهم:
جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النّعم
ويعدو على الأين عدو الظّليم ... ويعلو الرجال بخلق عمم «1»
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبىّ- عاد إلى خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحة للعيان، يشاهدونها فى كل آن، فى السموات والأرض، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم فى المعاش والمعاد، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة ثم أبان أن كثيرا من الناس يجادلون
__________
(1) الرواء بالضم: المنظر الحسن، والنعم: الإبل، والأين: الإعياء. والخلق العمم: التام.(21/87)
فى توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلى على ما يدّعون، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين، لم يجدوا جوابا إلا تقليد الآباء والأجداد بنحو قولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وما ذاك إلا من نزغات الشيطان، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصّل إلى النار، وبئس القرار.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي ألم تروا أيها الناس أن الله الذي سخر لكم ما فى السموات من شمس وقمر، ونجوم، تستضيئون بها ليلا ونهارا، وتهتدون بها فى ظلمات البر والبحر، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقى الناس والحيوان والمزارع المختلفة، وما فى الأرض من الدوابّ والأشجار، والمياه والبحار، والسفن والمعادن التي فى باطنها، إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم، فتتمتعون ببعض ذلك، وتنتفعون بجميع ذلك، وأتمّ عليكم نعمه محسوسة وغير محسوسة.
والخلاصة: إنه تعالى نبّه خلقه إلى ما أنعم به عليهم فى الدنيا والآخرة بأن سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية:
«الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيئ عملك»
وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة والعقل وقيل: الظاهرة:
ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء فى نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.(21/88)
ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى بعض الناس دون برهان من عقل ولا مستند من نقل، فقال:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وهناك فريق من الناس يجادل فى توحيد الله وصفاته كالنضر بن الحارث وأبىّ بن خلف اللذين كانا يجادلان النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك بلا علم من عقل، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور يؤيد صحة ما يدّعون.
ثم بين أنه لا مطمع فى إيمان مثل هؤلاء، لأنهم قد بلغوا الغاية فى الغباوة، واستسلموا للتقليد، وتركوا الدليل وإن كان لائحا ظاهرا، فقال:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع- لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم: إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح.
فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هى من حبائل الشيطان ووساوسه فقال:
(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل؟ فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترّهات الأباطيل، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس، لا تستند إلى حجة ولا برهان.
والخلاصة- أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال؟
وفى هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم، وأنهم بلغوا الدّرك الأسفل فى هدم العقل، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته، واستقامت محجته(21/89)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
تفسير المفردات
يسلم وجهه: أي يفوّض أمره، محسن: أي مطيع لله فى أمره ونهيه، والمراد بالعروة الوثقى، أوثق العرى وأمتنها، وهو مثل: وأصله أن من يرقى فى جبل شاهق أو يتدلى منه يستمسك بحبل متين مأمون الانقطاع، نضطرهم: أي نلزمهم، وغليظ:
أي ثقيل ثقل الأجرام الغلاظ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل فى الله بغير علم- أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوّض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلّغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل، وعلى الله الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ فى جهنم وبئس المصير.
الإيضاح
(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع مع الإحسان فى العمل بفعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه ومحبته، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.(21/90)
ثم بين العلة فى أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال:
(وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن المصير إلى الله لا إلى غيره، فلا يكوننّ لأحد إذ ذاك أمر ولا نهى، ولا عقاب ولا ثواب، فيجازى المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويعاقب المسيء أنكل العذاب.
ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال:
(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن على كفرهم بالله وبما جئت به، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن قدر الله نافذ فيهم.
ثم بين لرسوله أنه لا يهملهم على أعمالهم بل هو مجازيهم عليها فقال:
(إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي إن مصيرهم يوم القيامة إلينا فنخبرهم بما عملوا فى الدنيا من خبيث الأعمال حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار ثم نجازيهم على ذلك أشد الجزاء.
ثم بين أنه عادل فى الجزاء لسعة علمه وعظيم إحاطته بكل شىء فقال:
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى يجازيهم بكل ما عملوا، إذ لا تخفى عليه خافية.
ثم بين أن ما يمتعون به فى الدنيا عرض قليل وظل زائل لا ينبغى لعاقل أن يقيم له وزنا بجانب العذاب الدائم فقال:
(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نمهلهم فى الدنيا زمنا قليلا يتمتعون فيه بزخارفها ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاقّ على نفوسهم.
ونحو الآية قوله: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ»(21/91)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى بخلق السموات بلا عمد وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم- أردف ذلك ببيان أن المشركين معترفون بذلك غير جاحدين له، وهذا يستدعى أن يكون الحمد كله له وحده، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة فأمرهم عجب يعلمون المقدمات ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها، فيعبدون من لا يستحق عبادة، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلق السموات والأرض؟ ليقولن الله.
وفى هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود ولما استبان بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال آمرا رسوله.
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به فى العبادة التي لا يستخقها سوى الخالق المنعم على عباده.
ثم بين أنهم بلغوا الغاية فى الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه فقال:
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون من له الحمد، وأين موضع الشكر، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك.
ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال استدل على ذلك بقوله:(21/92)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي له سبحانه كل ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة فيهما غيره، وهو الغنى عن عبادة جميع خلقه، لأنهم ملكه وهم المحتاجون إليه المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرة وباطنة، وأن له ما فى السموات وما فى الأرض- أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوقات لا حصر لها، ولا يعلمها إلا خالقها كما قال: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .
ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها، أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها وتصريف شئونها كما يريد- دفع هذا بقوله: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) .
روى أنه لما نزل بمكة قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول:
«وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أتعنينا أم تعنى قومك؟ قال: كلّا عنيت: قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شىء، فقال صلى الله عليه وسلم هى فى علم الله قليل، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، قالوا كيف تزعم هذا وأنت(21/93)
تقول: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير، فنزلت الآية: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلخ.
الإيضاح
(وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ) أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمدته سبعة أبحر والخلائق جميعا يكتبون بها كلمات الله الدالة على عظمته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله:
ونحو الآية قوله «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» وإنما ذكرت السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة، لا لقصد هذا العدد بعينه، فقد تقدم أن قلنا آنفا إن العرب تذكر السبعة والسبعين، والسبعمائة، وتريد بذلك الكثرة كما
جاء فى الحديث «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله»
وفى الآية: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ» .
وقصارى ذلك: إنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها كما
ورد فى الحديث: «سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» .
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن الله قد عز كل شىء وقهره، فلا مانع لما أراد، ولا معقّب لحكمه، وهو الحكيم فى خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شئونه.
ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علما، ولا يعجزه شىء فيه متى أراد، فقال:
(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس ولا بعثهم(21/94)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كخلق نفس واحدة، فالكل هين عليه كما قال:
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقال «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» ، وقال «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» .
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
تفسير المفردات
يولج: أي يدخل، والمراد أنه يضيف الليل إلى النهار، والعكس بالعكس، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا، تجرى أي تسير سيرا سريعا، بنعمة الله أي بما تحمله من الطعام والمتاع ونحوهما، غشيهم: أي غطاهم، والظلل: واحدها ظلة، وهى كما قال الراغب: السحابة تظلّ، مقتصد: أي سالك للقصد أي للطريق المستقيم وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، وما يجحد: أي ما ينكر، وختار: من الختر، وهو أشد الغدر، قال عمرو بن معد يكرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر(21/95)
وقال الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختّار
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للانسان ما فى السموات وما فى الأرض- ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل فى النهار إلخ، وبعض ما فى السموات بقوله وسخر الشمس والقمر، وبعض ما فى الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمة الله، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن فى بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع فى شدة، وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شىء بإرادة الله.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل فى ساعات النهار، ويزيد ما نقص من ساعات النهار فى ساعات الليل.
والخلاصة: إنه يأخذ من الليل فى النهار، فيقصر ذاك ويطول هذا، وذاك فى مدة الصيف، إذ يطول النهار إلى الغاية، ثم يبتدئ النهار فى النقصان، ويطول الليل إلى الغاية فى مدة الشتاء.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح خلقه ومنافعهم.
(كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل منهما يجرى بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدد، إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.
(وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وأن الله بأعمالكم من خير وشر خبير بها لا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو مجازيكم بها.(21/96)
ثم بين الحكمة فى إظهار آياته للناس، فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي إنما يظهر آياته للناس ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي يضمحلّ ويفنى، فهو الغنى عما سواه، وكل شىء فقير إليه.
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأنه تعالى المرتفع على كل شىء، والمتسلط على كل شىء، فكل شىء خاضع له، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته أشار إلى آية أرضية، فقال:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهى تسير فى البحر حاملة للأقوات والمتاع، من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو فى حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس فى أيديهم.
وفى هذا دليل على عجبب قدرته التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.
ثم ذكر من يستفيد من النظر فى الآيات، فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار فى الضراء، شكور فى الرخاء. قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . وقوله: «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر» .
ثم بين أن المشركين ينسون الله فى السراء ويلجئون إليه حين الضراء، فقال:
(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وإذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان- الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن- فزعوا بالدعاء إلى الله مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره.(21/97)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها، وخلصوا إلى البر، فمنهم متوسط فى أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موفّ بما عاهد عليه الله فى البحر، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة، وكفر بأنعم الله عليه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
تفسير المفردات
اتقوا ربكم: أي خافوا عقابه، لا يجزى: أي لا يغنى، والغرور: ما غرّ الإنسان من مال وجاه، وشهوة وشيطان، والساعة: يوم القيامة، ما فى الأرحام: أي ما فى أرحام النساء من صفاته وأحواله كالذكورة والأنوثة، والحياة والموت، وغيرها من الأعراض.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة، وأشكال منوّعة- أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم، يوم يحكم الله بين عباده، يوم لا تنفع فيه قرابة، ولا تجدى فيه صلة رحم، فلو أراد والد أن يفدى ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان(21/98)
فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه، مما فى الكائنات، وهى الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة، مما لم يؤت علمها ملك مقرّب، ولا نبى مرسل.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) أي يا أيها المشركون من قريش وغيرهم، اتقوا الله وخافوا أن يحل بكم سخطه فى يوم لا يغنى والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع فى الدنيا، بل لا تجدى عنده إلا وسيلة واحدة، هى العمل الصالح الذي قدمه المرء فى حياته الأولى.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي اعلموا أن مجىء هذا اليوم حق، لأن الله قد وعد به، ولا خلف لوعده.
ثم حذرهم من شيئين، فقال:
(1) (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي فلا تخدعنّكم زينة هذه الحياة ولذاتها، فتميلوا إليها وتدّعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله فى ذلك اليوم.
(2) (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ولا يغرنكم الشيطان، فيحملنّكم على المعاصي بتزيينها لكم، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم، فلا تتخذنّ له زادا، ولا تعدّنّه معادا.
ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء لا يعلمها إلا هو، فقال:
(1) (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يعلمها أحد سواه لا ملك مقرّب، ولا نبى مرسل، كما قال: «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» .
(2) (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فى وقته المقدر له، ومكانه المعين فى علمه تعالى، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية،(21/99)
فليس ذلك غيبا، بل بأمارات وأدلة تدخل فى مقدور الإنسان، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانا فى مرتبة الظن، لا فى مرتبة اليقين.
(3) (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر هو أم أنثى، أتامّ الخلق أم ناقصه، أو نحو ذلك من الأحوال العارضة له.
(4) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر.
(5) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي لا يدرى أحد أين مضجعه من الأرض؟ أفي بحر أم فى برّ، أم فى سهل، أم فى جبل.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بجميع الأشياء، خبير ببواطنها كما هو خبير بظواهرها.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة «أن رجلا يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة، وقد أجدبت بلادنا، فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتى حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟
وقد علمت بأى أرض ولدت، فبأى أرض أموت، فنزلت الآية: إن الله عنده علم الساعة إلخ» .
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما فى الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا، وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير» .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(21/100)
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) القرآن هداية ورحمة للمؤمنين.
(2) قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوا.
(3) وصف العالم العلوي، والعالم السفلى، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله.
(4) قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه.
(5) الأمر بطاعة الوالدين إلا فيما لا يرضى الخالق.
(6) النعي على المشركين فى ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر فى الكون وعبادة الخالق له.
(7) لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات لله وعمل الصالحات.
(8) تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين.
(9) تعجيب رسوله من المشركين بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل شىء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم.
(10) نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها.
(11) الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها.
(12) تحميق المشركين بأنهم فى الشدائد يدعون الله وحده، وفى الرخاء يشركون معه سواه.
(13) الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزى والد عن ولده.
(14) مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها.
(15) إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها.(21/101)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
سورة السجدة
هى مكية إلا من آية 16 إلى آية عشرين فمدنية وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة (المؤمنين) .
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(1) اشتمال كل منهما على دلائل الألوهية.
(2) إنه ذكر فى السورة السالفة دلائل التوحيد، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد، وهو الأصل الثاني، وهنا ذكر الأصل الثالث، وهو النبوة.
(3) إن هذه السورة شرحت مفاتح الغيب التي ذكرت فى خاتمة ما قبلها، فقوله: «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» شرح لقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ» شرح لقوله: «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» وقوله: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» تفصيل لقوله: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» وقوله: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» إيضاح لقوله: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» وقوله: «أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» إلخ شرح لقوله: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» .
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)(21/102)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
الإيضاح
(الم) تقدم الكلام فى مثل هذا من قبل، فى معناه، وكيفية النطق به.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك أنه من عند الله، وليس بشعر، ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم.
وفى هذا تكذيب لقولهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» .
ثم فنّد تكذيبهم له، وأكد أنه من لدن رب العالمين، فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي بل هو الحق والصدق من عند ربك أنزله إليك، لتنذر قومك بأس الله وسطوته أن تحل بهم على كفرهم به، وإنه لم يأتهم نذير من قبلك، ليبين لهم سبيل الرشاد، وأن محمدا لم يختلقه كما يزعمون.
وفى هذا ردّ لقولهم: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)(21/103)
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة- بيّن ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد لله، وإقامة الأدلة على ذلك.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما فى ستة أطوار فى نظر الناظرين إليها، وليس المراد اليوم المعروف، لأنه قبل خلق السموات لم يكن ليل ولا نهار، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الفرقان.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم بيان هذا فى سورة يونس وهود وطه.
(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم أيها الناس من يلى أموركم، وينصركم منه إن أراد بكم ضرا، ولا يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه.
والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليّا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم، إذا هو أراد وقوعه بكم، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.
ثم أمرهم بالتذكر والتدبر فى الأدلة، فقال:
(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى الله وتقدس أن يكون له نظير أو شريك، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.(21/104)
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) تدبير الأمر: النظر فى دابره وعاقبته ليجىء محمود المغبّة، وتدبير الأمر من السماء إلى الأرض، ثم عروجه إليه، تمثيل لإظهار عظمته، كما يصدر الملك أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يصير الأمر كله إليه، ليحكم فيه فى يوم مقداره ألف سنة مما كنا نعده فى هذه الحياة.
والمراد بالألف الزمن المتطاول، وليس المقصد منه حقيقة العدد، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية، وأقصى غاياتها، وليس هناك مرتبة فوقه إلا ما يتفرع منه من عداد مراتبها.
قال القرطبي: المعنى إن الله تعالى جعله فى صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول، وأيام السرور بالقصر، قال شاعرهم:
ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر اهـ
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي لك المدبر لهذه الأمور، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم، مما تكنّه الصدور وتخفيه نفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، وبما شاهدته الأبصار وعاينته، وهو الشديد انتقامه ممن كفر به، وأشرك معه غيره، وكذب رسله، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، وعمل صالحا، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها.
ولما ذكر خلق السموات والأرض شرع يذكر خلق الإنسان، فقال:
(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم أبى البشر من الطين، وقد يكون(21/105)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
المعنى إن الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي أصله منىّ، والمنىّ من الغذاء والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية. والحيوانية ترجع إلى النباتية، والنبات وجوده بالماء والتراب وهو الطين.
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب فى كل من الرجل والمرأة كما دل على ذلك علم الأجنة، وسيأتى إيضاح هذا عند قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي ثم عدّله بتكميل أعضائه فى الرحم، وتصويره على أحسن صورة، ونفخ فيه من روحه، وجعلها تتعلق ببدنه، فيبدأ يتحرك، وتظهر فيه آثار الحياة، ثم ينطق ويتكلم.
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي وأنعم عليكم، فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها المرئيات، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر، وبين الحق والباطل.
وجاء الترتيب هكذا: لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاث أيام، ثم يبتدئ يبصر، ثم يبتدئ يدرك ويميز كما هو مشاهد.
ثم بين أن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران إلا من رحم الله، فقال:
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم تشكرون ربكم قليلا من الشكر على هذه النعم التي أنعم بها عليكم باستعمالها فى طاعته وعمل ما يرضيه.
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الرسالة بقوله: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» ، والوحدانية بقوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» إلخ. أردف ذلك ذكر البعث، واستبعاد المشركين له، ثم الرد عليهم.(21/106)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
الإيضاح
(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أئذا صارت لحومنا وعظامنا ترابا فى الأرض؟ أنبعث خلقا جديدا؟.
وخلاصة مقالهم: عظيم الاستبعاد للإعادة، بأنها كيف تعقل وقد تمزقت الجسوم، وتفرقت فى أجزاء الأرض؟.
وهم قد قاسوا قدرة الخالق الذي بدأهم أول مرة، وأنشأهم من العدم بقدرة المخلوق العاجز- شتان بينهما- إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
ثم زاد فى النعي عليهم، والإنكار لآرائهم بقوله:
(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل هم تعدّوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم حذر عقابه، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم.
ثم رد عليهم مقالتهم، وشديد استنكارهم بقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أصل التوفى أخذ الشيء وافيا كاملا، أي قل لهؤلاء المشركين: إن ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم يستوفى العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، وفى هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)(21/107)
المعنى الجملي
بعد أن أثبت البعث والرجوع- بين حال المشركين حين معاينة العذاب، ووقوفهم بين يدى الله أذلاء ناكسى رءوسهم من الحياء والخجل طالبى الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة، لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، وأنه قد ثبت فى قضائه، وسبق فى وعيده أن جهنم تمتلئ من الجنة والناس ممن ساءت أعمالهم، وقبحت أفعالهم، فلا يصلحون لدخول الجنة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب النار جزاء ما عملتم فى الدنيا، وقد نسيتم لقاء ربكم، فجازاكم، بفعالكم، وجعلكم كالمنسيين من رحمته.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) أي ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا فى الأرض أإنا لفى خلق جديد- ناكسى رءوسهم عند ربهم حياء وخجلا منه، لما سلف منهم من معاصيهم له فى الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول وصدّقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: «لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» .
ثم ادّعوا اطمئنان قلوبهم حينئذ، وقدرتهم على فهم معانى الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله:(21/108)
(إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنا قد أيقنا الآن ما كنا به فى الدنيا جهالا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيى وتميت، وتبعث من فى القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» الآية.
(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظم كاملة، كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس فى المرتبة التي هى أهل لها بحسب استعدادها، كما توضع فى الإنسان العين فى موضع لا يصلح له الظفر والإصبع، والمعدة فى موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله:
(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس الذين هم أهل لها، بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة كما لا يعيش البعوض والذباب، إلا فى الأماكن القذرة، ليخلّص الجو من العفونات، ولو جعلا فى القصور النظيفة النقية ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاء ولا منفعة لهما:
وهكذا هؤلاء إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة فى الجنة لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا مثل السمك الذي لا يعيش فى البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش فى البحر.
ولما بين لهم أنه لا رجوع إلى الدنيا أنّبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي، وترك الطاعة له، فقال:
(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم، واستبعادكم وقوعه، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه.(21/109)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي، فقال:
(إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي إنا سنعاملكم معاملة الناسي، لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شىء، وهذا أسلوب فى الكلام يسمى أسلوب المشاكلة، ونحوه:
«الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» وقوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» وقوله: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» .
(وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وذوقوا عذابا تخلدون فيه إلى غير نهاية، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم، واجتراحكم للشرور والآثام.
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
تفسير المفردات
ذكروا بها: أي وعظوا، خروا: أي سقطوا، سبحوا بحمد ربهم: أي نزهوه عما لا يليق به، تتجافى: أي ترتفع وتبتعد، قال عبد الله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشقّ معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
والجنوب: واحدها جنب، وهو الشق، والمضاجع: واحدها مضجع، وهو مكان النوم، أخفى لهم: أي خبّئ لهم، من قرة أعين: أي من شىء نفيس تقرّ به أعينهم وتسرّ.(21/110)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه علامة أهل الكفر من طأطأة الرءوس خجلا وحياء مما صنعوا فى الدنيا، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين يوم القيامة- عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان من تذللهم لربهم، وتسبيحهم بحمده، ومحافاة جنوبهم للمضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، ثم أردفه ذكر ما يلاقونه من نعيم مقيم، وقرة أعين جزاء لهم على جميل أعمالهم، ومحاسن أقوالهم.
الإيضاح
(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ما يصدّق بحججنا وآيات كتابنا إلا الذين إذا وعظوا بها خروا لله سجدا، تذللا واستكانة لعظمته، وإقرارا بعبوديته، ونزهوه فى سجودهم عما لا يليق به، مما يصفه به أهل الكفر من الصاحبة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها، فإنهم يولون مستكبرين، كأن لم يسمعوها.
ثم ذكر بقية محاسن أعمالهم بقوله:
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يتنحون عن مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم، فلا ينامون، داعين ربهم خوفا من سخطه وعذابه، وطمعا فى عفوه عنهم، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته، ومما رزقناهم من المال ينفقون فى وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه، قال أنس بن مالك: «نزلت فينا معاشر الأنصار، كنا نصلى المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم» .
وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» قال: هى قيام العبد أول الليل.(21/111)
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى ضلاته رغبة فيما عندى، وشفقة مما عندى ورجل غزا فى سبيل الله تعالى فانهزم، فعلم ما عليه من الفرار، وما له فى الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندى، وشفقة مما عندى، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدى رجع رغبة فيما عندى، ورهبة مما عندى حتى أهريق دمه» .
وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فى سفر، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير فقلت:
يا نبى الله أخبرنى عما يدخلنى الجنة، ويباعدنى عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسّره الله تعالى عليه- تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟
الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل فى جوف الليل، ثم قرأ: تتجافى جنوبهم عن المضاجع- حتى بلغ- جزاء بما كانوا يعملون، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك مملاك ذلك كله؟
فقلت: بلى يا نبى الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال فى الآية: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل، إما فى الصلاة، وإما فى قيام أو قعود، أو على جنوبهم، لا يزالون يذكرون الله تعالى» وقال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعى وغيرهم إن المراد بالتجافي القيام لصلاة النوافل بالليل.(21/112)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
وبعد أن ذكر حال المؤمنين المتواضعين ذكر جزاءهم بقوله:
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد عظيم ما أخفى لهم من النعيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد جزاء وفاقا بما كانوا يعملون من صالح الأعمال، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
روى الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» .
وأخرج الفريابي وابن أبى شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب فى التوراة، لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبى مرسل، وإنه لفى القرآن: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) » .
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)(21/113)
تفسير المفردات
أصل الفسق: الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل فى الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقا، فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما فى قوله: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» والمأوى: المسكن وأصل النزل: ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب والصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا الثواب والجزاء، الأدنى: أي الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسنى جدب وقحط أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة.
المعنى الجملي
لما بيّن حالى المجرمين والمؤمنين- عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوى الفريقان؟ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصّل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة.
الإيضاح
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ) أي أفهذا الكافر المكذّب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله المصدّق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه- كلا- لا يستوون عند الله ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.
وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بيّن يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا- إن الفضل بينهما لا يخفى على ذى عينين.
ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
وقوله:
«أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وقوله: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ» الآية.(21/114)
وبعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل:
(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا صالح الأعمال- فلهم مساكن فيها البساتين والدور، والغرف العالية، جزاء لهم على جليل أعمالهم، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها فى الدنيا.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين كفروا بالله، واجترموا الشرور والآثام، فمساكنهم التي يأوون إليها فى الآخرة، ويستريحون فيها هى النار، وبئس القرار.
وفى هذا ضرب من التهكم بهم، إذ جعلت النار ملجأ ومستراحا لهم يستريحون إليها، فهو كقوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
ثم بين حالهم فيها ونفورهم منها، فقال:
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما شارفوا الخروج منها، وظنوا أنه قد تيسر لهم ذلك، وهم بعد فى غمراتها أعيدوا فيها، ودفعوا إلى قعرها.
روى أن لهب النار يضربهم فيرتفعون إلى أعلاها، حتى إذا قربوا من أبوابها، وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها- وهكذا يفعل بهم أبدا.
قال الفضيل بن عياض: والله إنّ الأيدى لموثقة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ:
(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي ذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون فى الدنيا أن الله قد أعده لأهل الشرك به.
ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات فى الدنيا لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا، فقال:(21/115)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة.
ثم ذكر حال من قابل آيات الله بالإعراض، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد، فقال:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟) أي لا أظلم ممن ذكّره الله بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، ولم يتعظ به، بل تناساه، كأنه لا يعرفه.
ثم بين جزاءه على ذلك، فقال:
(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام والمعاصي.
روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء فى غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، يقول الله: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) » .
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)(21/116)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه فى أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث- عاد فى آخرها إلى ذكرها مرة أخرى، فقال:
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) المرية: الشك، أي إنا آتينا موسى التوراة مثل ما آتيناك القرآن، وأنزلنا عليك الوحى مثل ما أنزلناه عليه، فلا تكن فى شك من لقائك الكتاب، فأنت لست ببدع من الرسل كما قال تعالى:
«قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» .
وذكر موسى من بين سائر الرسل لقرب عهده من النبي صلى الله عليه وسلم ووجود من كان على دينه بينهم إلزاما لهم، ولم يذكر عيسى، لأن اليهود ما كانوا يعترفون بنبوته، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى، فذكر المجمع عليه.
وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أتى بكل آية وذكّرهم بها، وأعرض قومه عنها حزن حزنا شديدا، فقيل له: تذكّر حال موسى ولا تحزن، فإنه قد لقى مثل ما لقيت، وأوذى كما أوذيت، فإنّ من لم يؤمن به آذاه، كفرعون وقومه، ومن آمنوا به من بنى إسرائيل آذوه أيضا بالمخالفة له كقولهم:
«أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» وقولهم: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا» ، وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به.
(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا الكتاب الذي آتيناه مرشدا لبنى إسرائيل إلى طريق الهدى كما جعلناك مرشدا لأمتك.
ونحو الآية قوله: «وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» .(21/117)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي وجعلنا من بنى إسرائيل رؤساء فى الخير، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم، بإذننا لهم وتقويتنا إياهم، لأنهم صبروا على طاعتنا، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها، وكانوا من أهل اليقين بحججنا وبما تبين لهم من الحق.
وفى ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك يقضى بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه فى الدنيا يختلفون من أمور الدين والثواب والعقاب، فيدخل الجنة أهل الحق، ويدخل النار أهل الباطل.
[سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 27]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
المعنى الجملي
بعد أن أعاد ذكر الرسالة فى قوله: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» أعاد هنا ذكر التوحيد مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها.
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟) أي أو لم يبين لهم طريق الحق كثرة من أهلكنا من القرون الماضية الذين يمشون فى أرضهم، ويشاهدون آثار هلاكهم كعاد وثمود وقوم لوط.(21/118)
والخلاصة: أو لم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم، ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من سبل الحق، فلم يبق منهم باقية.
ونحو الآية قوله: «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» وقوله:
«فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» وقوله: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ» .
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن فى خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا- لآيات لهم وعظات يتعظون بها لو كانوا من أولى الحجا.
(أَفَلا يَسْمَعُونَ؟) عظاتنا وتذكيرنا إياهم، وتعريفهم مواضع حججنا سماع تدبر وتفكر ليعتبروا بها.
وبعد أن بين قدرته على الإهلاك- أرشد إلى قدرته على الإحياء ليبين أن النفع والضر بيده تعالى، فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) الأرض الجرز: هى التي جرز نباتها وقطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأكل، يقال: ناقة جروز إذا كانت تأكل كل شىء، ورجل جروز أي أكول:
أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت، والنشر بعد الفساد- أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه ما شيتهم وتتغذى به أجسامهم، فيعيشون به؟.
(أَفَلا يُبْصِرُونَ؟) أي أفلا يرون ذلك بأعينهم، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم، وتعيدهم بهيئاتهم التي كانوا عليها قبل موتهم؟.(21/119)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
تفسير المفردات
الفتح: أي الفصل فى الخصومة بيننا وبينكم، وينظرون: أي يمهلون ويؤخرون.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت الرسالة والتوحيد- عطف على ذلك ذكر الحشر، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقا مع ترتيب أولها، فقد ذكر الرسالة فى أولها بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً) وفى آخرها بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وذكر التوحيد فى أولها بقوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وفى آخرها بقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) وذكر الحشر فى أولها بقوله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وفى آخرها بقوله:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ؟) .
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي ويقول المشركون على طريق الاستهزاء والاستبعاد: متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم، ومتى ينتقم الله منا؟
وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين أذلة- إن كنتم صادقين فى الذي تقولون من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول، وعبادة الآلهة والأوثان، وهم ولا شك لا يستعجلونه إلا لاستبعادهم حصوله وإنكارهم إياه، وتكذيبهم له.
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن استبعادهم موبخا لهم بقوله:(21/120)
(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل لهم: إذا حل بكم بأس الله وسخطه فى الدنيا وفى الآخرة لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه فى هذا اليوم، ولا تؤخّرون للتوبة والمراجعة.
والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأنى بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم حلول العذاب، فلم تنظروا.
ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم، وانتظار الفتح بينه وبينهم، فقال:
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بهم، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر ما الله صانع بهم، فإنه سينجزك ما وعد، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وهم منتظرون يتربصون بكم الدوائر كما قال «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» .
وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة ربك، بنصرك وتأييدك، وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك، وفى أصحابك من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات(21/121)
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن مشركى العرب لم يأتهم رسول من قبله.
(2) إثبات وحدانية الله، وأنه المتصرف فى الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.
(3) إثبات البعث والنشور، وبيان أنه يكون فى يوم كألف سنة مما تعدون.
(4) تفصيل خلق الإنسان فى النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرا سويا.
(5) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.
(6) تفصيل أحوال المؤمنين فى الدنيا، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم، والثواب العظيم فى الآخرة.
(7) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله.(21/122)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
سورة الأحزاب
هى مدنية نزلت بعد آل عمران.
وآيها ثلاث وسبعون.
ووجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه وخاتمة السالفة، فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه من ربه مع التوكل عليه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
تفسير المفردات
قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله، وتوكل على الله: أي فوّض أمورك إليه، الوكيل: الحافظ للأمور.
المعنى الجملي
أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن(21/123)
يرجع عن قوله: على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) أي يا أيها النبي خف الله بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده.
والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، اثبت على تقوى الله، ودم عليها.
ولما وجّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر بتقوى الولىّ الودود- أتبعه بالنهى عن الالتفات نحو العدو الحسود، فقال:
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين، حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالا، فلا تقبل لهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك.
روى أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقا وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعا فحذره الله منهم، ونبهه الى عداوتهم.
ثم علل ما تقدم بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن الله عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوى عليه جوانحهم، حكيم فى تدبير أمرك، وأمر أصحابك، وسائر شئون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.
والخلاصة: إنه تعالى هو العليم بعواقب الأمور، الحكيم فى أقواله وأفعاله، وتدبير شئون خلقه.(21/124)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
ثم أكد وجوب الامتثال بأن الآمر لك هو مرّ بيك فى نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتّبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال:
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي واعمل بما ينزله عليك ربك من وحيه، وآي كتابه.
ثم علل ذلك بما يرغّبه فى اتباع الوحى، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إن الله خبير بما تعمل أنت وأصحابك، لا يخفى عليه شىء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء.
ثم أمر رسوله بتفويض أموره إليه وحده، فقال:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وفوض أمورك إليه وحده، واعتمد عليه فى شئونك.
(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي وكفى به حافظا، يوكل إليه جميع الشئون، فلا تلتفت فى شىء من أمرك إلى غيره.
والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعا لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد ضرا لم يمنعه منك أحد.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)(21/125)
تفسير المفردات
جعل: أي خلق، ويقال: ظاهر الرجل من زوجته إذا قال لها: أنت علىّ كظهر أمي، يريدون أنت محرمة علىّ كما تحرم الأم، وكانوا فى الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، والأدعياء: واحدهم دعىّ، وهو الذي تدّعى بنوته، وقد كانت تجرى عليه أحكام الابن فى الجاهلية وصدر الإسلام، السبيل: أي طريق الحق، أقسط: أي أعدل، ومواليكم: أي أولياؤكم فيه.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه نبيه بتقواه، والخوف منه، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، والخوف منهم- ضرب لنا الأمثال ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصى بالآخر، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد، فمتى اتجه لأحد الشيئين صدّ عن الآخر، فطاعة الله تصدّ عن طاعة سواه، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة، والبنوة الحقيقية والتبني فى إنسان.
روى الشيخان والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد ابن حارثة بن شراحيل.
وكان من خبره أنه سبى من قبيلته كلب وهو صغير، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، ثم طلبه أبوه وعمه فخيّر بين أن يبقى مع رسول الله، وأن يذهب مع أبيه، فاختار البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه وتبناه، وكانوا يقولون زيد بن محمد فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت زوجا لزيد وطلقها قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه،(21/126)
وهو بنهي عن ذلك، فنزلت الآية لنفى أن يكون للمتبنّى حكم الابن حقيقة فى جميع الأحكام التي تعطى للابن.
الإيضاح
(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كان أهل مكة يقولون: إن معمرا الفهرىّ له قلبان لقوة حفظه، وروى أنه كان يقول: إن لى قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، وكانت العرب تزعم أن كل أريب له قلبان، فأكذب الله فى هذه الآية قوله وقولهم:
(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي ولم يجعل الله لكم أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهن: أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا- أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا وألزمكم عقوبة.
وقد كان الرجل فى الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته صارت حراما عليه حرمة مؤيدة، فجاء الإسلام ومنع هذا التأييد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى يؤدى كفّارة (غرامة) لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله.
(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ولم يجعل الله من ادعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره- ابنا له بدعواه فحسب.
وفى هذا إبطال لما كان فى الجاهلية وصدر الإسلام من أنه: إذا تبنى الرجل ابن غيره أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبنىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطّاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة سالما.
ثم أكد ما سبق بقوله:
(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذا الذي تقدم من قول الرجل لامرأته: أنت علىّ كظهر أمي، ودعاء من ليس بابنه أنه ابنه إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، فلا تصير الزوجة أمّا، ولا يثبت بهذا الدعاء دعوى النسب.(21/127)
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي والله هو الصادق، الذي يقول الحق وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمّا إذا حكم بذلك، وهو يبين لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز اسمه.
وخلاصة ما سلف:
(1) إنه لم ير فى حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدى إلى التناقض فى أعمال الإنسان، فيكون مريدا للشىء كارها له، وظانا له موقنا به فى حال واحدة، وهذا لن يكون.
(2) إنه لم ير أن تكون المرأة أما لرجل وزوجا له، لأن الأم مخدومة، مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة فى المصالح الزوجية على وجوه شتى.
(3) لم يشأ فى حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له، لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع فى الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.
ولما ذكر أنه يقول الحق فصل هذا الحق بقوله:
(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم- لآبائهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا زيد بن محمد، فذلك أعدل فى حكم الله وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم.
(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن أنتم أيها الناس لم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم؟ حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم فهم إخوانكم فى الدين إن كانوا قد دخلوا فى دينكم ومواليكم إن كانوا محرّرين أي قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل.(21/128)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهى أو بعده نسيانا أو سبق لسان.
(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين.
وخلاصة ما سلف: إنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأ غير مقصود، كأن سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال فى الآية: «لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه» .
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله ستارا لذنب من ظاهر من زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنا له إذا تابا ورجعا إلى أمر الله وأنتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما رحيما بهما فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف: أن الدعىّ ليس ابنا لمن تبناه، فمحمد صلى الله عليه وسلم ليس أبا لزيد بن حارثة، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن فى الدين، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر: أنت أخى فى الدين- أردف ذلك بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس أبا لواحد من أمته، بل أبوته عامة، وأزواجه أمهاتهم وأبوته أشرف من أبوة النسب لأن بها الحياة الحقيقية، وهذه بها الحياة الفانية، بل(21/129)
هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه، فذلك لارتقائهم الروحي، فإذا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك، وهو أشفق عليهم من الآباء، بل من أنفسهم.
روى البخاري عن أبى هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فليأتنى، فأنا مولاه» .
وفى الصحيح أن عمر رضى الله عنه قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلا من نفسى، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىّ من كل شىء، حتى من نفسى، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر» .
الإيضاح
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي النبي أشد ولاية ونصرة لهم من أنفسهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم فى دنياهم وآخرتهم، أما النفس فإنّها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع.
ومما يلزم هذا أن يكون حكمه نافذا فيهم، مقدّما على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .
وخلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي هن منزلات منزلة الأمهات فى الحرمة والاحترام،(21/130)
والتوقير والإكرام، وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، ولا إرثهن ولا نحو ذلك.
وكان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوى رحمه للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، فقد آخى بين أبى بكر رضى الله عنه، وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر وشخص آخر، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك، فغيّر الله الحكم بقوله:
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، وحق المهاجرين بحق الهجرة فيما كتبه الله وفرضه على عباده.
والخلاصة: إن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكما شرع لضرورة عارضة فى بدء الإسلام، وهو الإرث بالتآخى فى الدين، والتآخى حين الهجرة بين المهاجرين والأنصار حين كان المهاجرىّ يرث الأنصارىّ دون قرابته وذوى رحمه.
ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال:
(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) الأولياء هنا المؤمنون والمهاجرون والمعروف الوصية أي إلا أن توصوا لهؤلاء بوصية، فهم أحق بها من القريب الوارث.
ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل فى الإرث، وهو الحكم الثابت فى كتابه الذي لا يغيّر ولا يبدل، فقال:
(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي إن هذا الحكم، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض- حكم من الله مقدر مكتوب فى الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان قد شرع غيره فى وقت ما لمصلحة عارضة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار فى قدره الأزلى، وقضائه التشريعي.(21/131)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أحكاما شرعها لعباده، وكان فيها أشياء مما كان فى الجاهلية، وأشياء مما كان فى الإسلام، ثم أبطلت ونسخت- أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلّغوا رسالات ربهم، ولا سيما أولو العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون فى الآية، كما ذكر فى آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له، ليكون فى ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار، فقال: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ» .
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واذكر أيها الرسول العهد والميثاق الذي أخذه الله على أولى العزم الخمسة بقية الأنبياء ليقيمنّ دينه، ويبلغنّ رسالته، ويتناصرنّ كما قال فى آية أخرى:
«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال:
«وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» .
وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولا، وأمره بشىء وقبله كان ذلك ميثاقا(21/132)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول ويفعل كان ذلك تغليظا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص فى الرسالة.
ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال:
(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة.
(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعدّ لهم ثوابا عظيما، ويسأل الكاذبين عن كذبهم، وأعدّ لهم عذابا أليما.
غزوة الأحزاب- وقعة الخندق
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)(21/133)
تفسير المفردات
المراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السّلمى، وبنو النّضير من اليهود، ورؤساؤهم حيىّ ابن أخطب، وأبناء أبى الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه كعب بسعى حيىّ، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف أو نحو ذلك، والجنود التي لم تروها: هى الملائكة من فوقكم: أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا بنى غطفان، ومن أسفل منكم: أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وكانوا قريشا ومن شايعهم، وبنى كنانة وأهل تهامة، زاغت الأبصار: أي انحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وبلغت القلوب الحناجر: يراد به فزعت فزعا شديدا، ابتلى المؤمنون: أي اختبروا وامتحنوا، وزلزلوا زلزالا شديدا: أي اضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدوّ، والذين فى قلوبهم مرض: قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم لقرب عهدهم بالإسلام، إلا غرورا: أي إلا وعد غرور لا حقيقة له يثرب: من أسماء المدينة، لا مقام لكم: أي لا ينبغى لكم الإنامة هاهنا، عورة: أي ذات عورة لأنها خالية من الرجال فيخاف عليها سرق السّرّاق، والأقطار: واحدها قطر وهو الناحية والجانب، والفتنة:(21/135)
الردة ومقاتلة المؤمنين، آتوها: أي أعطوها، وما تلبثوا بها: أي وما أقاموا بالمدينة، يعصمكم: أي يمنعكم، المعوّقين: أي المثبطين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلم إلينا: أي أقبلوا إلينا، والبأس: الشدة، والمراد به هنا الحرب والقتال، أشحة: واحدهم شحيح أي بخيل بالنّصرة والمنفعة، تدور أعينهم: أي تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف، سلقوكم: أي آذوكم بالكلام، بألسنة حداد: أي ألسنة دربة سلطة تفعل فعل الحديد، أشحة على الخير: أي بخلاء حريصين على مال الغنائم، أحبط الله أعمالهم: أي أبطلها لإضمارهم الكفر، لو أنهم بادون فى الأعراب: أي خارجون إلى العدو مقيمون بين أهله، أسوة: أي قدوة، والمراد به المقتدى به، قضى نحبه:
أي فرغ من نذره ووفى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد كحمزة، ومصعب بن عمير، والغيظ: أشد الغضب، وكفى الله المؤمنين القتال: أي وقاهم شره، عزيزا: أي غالبا مستوليا على كل شىء، ظاهروهم: أي عاونوهم، من أهل الكتاب: أي من بنى قريظة، من صياصيهم: أي من حصونهم واحدها صيصية وهى كل ما يمتنع به قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرن الصياصيا
وقذف: أي ألقى، والرعب: الخوف الشديد.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه، وعدم الخوف من سواه- ذكر هنا تحقيق ما سلف فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألّبوا عليهم عام الخندق.
وتفصيل هذا على ما قاله أرباب السير:
أن نفرا من اليهود قدموا على قريش فى شوال سنة خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاءوا غطفان وقيسا وعيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل ومعها قادتها وزعماؤها.(21/136)
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأحكموه وكان رسول الله يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا وفى أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء فى بطن الخندق فكسرت حديدهم وشقّت عليهم، فلما علم بها صلى الله عليه وسلم أخذ المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (جانبى المدينة) حتى كأنه مصباح فى جوف بيت مظلم فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وهكذا مرة ثانية وثالثة فكانت تضىء وكان التكبير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضربت ضربتى الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم أضاء لى منها قصور قيصر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت الثالثة فبرق البرق الذي قد رأيتم أضاء لى منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها، فأبشروا فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ، ونزل:
(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية.
ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب الذين حزّبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة رأوا الخندق حائلا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت(21/137)
مصادمات بين القوم كرّا وفرّا، فمن المشركين من كان يقتحم الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من كان يقتحمه بفرسه فيهلك.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه أسلم وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا، لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.
وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، ودبّ بينهم دبيب الفشل. ومما زاد فى فشلهم أن بعث الله عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم، وتطرح آنيتهم.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يصلى على التّل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يقم رجل واحد، من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان وقال: ألم تسمع كلامى منذ الليلة؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله منعنى أن أجيبك الضّر والقرّ، قال: انطلق حتى تدخل فى القوم، فتسمع كلامهم وتأتينى بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى تردّه إلىّ، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتينى، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّى وغمى وكربى، فقد ترى حالى وحال أصحابى فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على(21/138)
ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتنى ورحمت أصحابى، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإنى مرتحل، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله التي أسبغها عليكم حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بنى النضير الذين كانوا أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحا باردة فى ليلة باردة أحصرنهم، وسفت التراب فى وجوههم، وأمر ملائكته، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها فى بعض، وقذف الرعب فى قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدى: إن محمدا قد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال.
قال حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتى بخبر القوم:
خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت فى ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم (أبو سفيان) يقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الرجل فى عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا، فو الله إنى لأسمع صوت الحجارة فى رحالهم وفرشهم، والريح تضربهم ثم رجعت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما صرت فى منتصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمّين قالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاك القوم.(21/139)
والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم وتحزبوا عام الخندق.
(وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان الله عليما بجميع أعمالكم من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرا بها لا يخفى عليه شىء منها، وهو يجازيكم عليها «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .
ثم زاد الأمر تفصيلا وبيانا، فقال:
(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا من غطفان، ومن تابعهم من أهل نجد، ومن بنى قريظة والنضير من اليهود، ومن أسفله من قبل المغرب، وكانوا من قريش، ومن شايعهم من الأحابيش، وبنى كنانة وأهل تهامة.
(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي وحين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وخاف الناس خوفا شديدا، وفزعوا فزعا عظيما، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده فى إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفى قلبه مرض يظن أن محمدا وأصحابه سيستأصلون، ويستولى المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها الأولى، إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها تجول فى قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرا بالإخلاص مكتوبا له السعادة أو متشككا فى اعتقاده ليست له عزيمة صادقة.
ثم ذكر أن هذه الشدائد محّصت المؤمنين، وأظهرت المنافقين.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) أي حين ذاك اختبر الله المؤمنين ومحصنهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ الإيمان من المتزلزل، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدو.(21/140)
(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أي وحين قال المنافقون كمعتّب بن قشير، والذين فى قلوبهم ضعف فى الإيمان لقرب عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من الظفر والنصر على العدو إلا وعدا باطلا بغرّنا به ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.
(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) أي وحين قالت جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبىّ وأصحابه: يا أهل المدينة ليس هذا المقام بمقام لكم فارجعوا إلى منازلكم ليكون ذلك أسلم لكم من القتل.
وقد يكون المعنى: لا مقام لكم فى دين محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك وأسلموا محمدا إلى أعدائه.
(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ويطلب جماعة منهم من النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى بيوتهم وتركهم للقتال، وهم بنو حارثة، معتذرين بمختلف المعاذير كقولهم: إن بيوتنا مما يلى العدو ذليلة الحيطان يخاف عليها من السرّاق، والحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك.
ثمّ بين السبب الحقيقي لهذه المقالة، فقال:
(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي وما يريدون بالاستئذان إلا الفرار من القتال والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مساعدة المؤمنين.
ثم بين وهن الدين وضعفه فى قلوبهم إذا ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق ينقطع بأدنى هزة، فقال:
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليهم أن يرتدوا عن دينهم ويرجعوا إلى شركهم بربهم- لفعلوا ذلك مسرعين من شدة الهلع والجزع.(21/141)
وفى هذا إيماء إلى أن الإيمان لا قرار له فى نفوسهم، ولا أثر له فى قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم وطلبهم الهرب من ميدان القتال.
والخلاصة: إن شدة الخوف والهلع الذي تمكن فى قلوبهم مع خبث طويتّهم، وإضمارهم النفاق- تحملهم على الإشراك بالله والرجوع إلى دينهم عند أدنى صدمة تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهرى لا أثر له فى نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ.
ثم بين أن لهم سابقة عهد بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال:
(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد كان هؤلاء المستأذنون وهم بنو حارثة قد هربوا يوم أحد وفرّوا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا إلى مثلها وألا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بين ما للعهد من حرمة فقال:
(وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أي وعهد الله يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه.
ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال:
(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهؤلاء المستأذنين الفارّين من قتال العدو ومنازلته فى الميدان: لن ينفعكم الهرب ولا يدفع عنكم ما أبرم فى الأزل من موت أحدكم حتف أنفه، أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدّر كائن لا محالة والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علىّ يقول عند اللقاء: دهم الأمر، وتوقّد الجمر.(21/142)
أىّ يومى من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجى الحذر
(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم الموت فمتّعتم لم يكن ذلك التمتع إلا قليلا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل وإن كثر، ولله درّ أحمد شوقى إذ يقول:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوانى
ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم- أمره الله بالجواب عن هذا، فقال:
(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي قل لهم: لا أحد يستطيع أن يمنع عنكم شرا من قتل أو بلاء قدره الله عليكم، أو يؤتيكم خيرا إن لم يكن أراده لكم.
والخلاصة: هل احترزتم فى جميع أعمالكم عن سوء فنفعكم الاحتراز، أو اجتهد غيركم فى منع الخير عنكم فتمّ له ما أراد؟.
وإجمال القول: إن النفع والضر بيده سبحانه، وليس لغيره فى ذلك تصريف ولا تبديل.
ثم أكد هذا بقوله:
(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجد هؤلاء المنافقون وليا ينفعهم غير الله، ولا نصيرا يدفع السوء عنهم.
وبعد أن أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بمقالة المنافقين لأهل المدينة، وأمره بوعظهم- حذّرهم بدوام علمه بمن يخون الله ورسوله بقوله:
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إن ربك أيها الرسول ليعلم حق العلم من يثبّطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصدونهم(21/143)
عنه، وعن شهود الحرب معه نفاقا منهم وتخذيلا عن الإسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه مشهدا، فإنا نخاف عليكم الهلاك.
قال قتادة: كان المنافقون يقولون لإخوانهم من ساكنى المدينة من الأنصار:
ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس (يريدون أنهم قليلو العدد) ولو كانوا لحما لا لتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فدعوه فإنه هالك.
(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولا يأتون الحرب إلا زمنا قليلا، فقد كانوا لا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم تسللوا لواذا وعادوا إلى بيوتهم ثم ذكر بعض معايبهم من البخل والخوف والفخر الكاذب، فقال:
(1) (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودون مساعدتكم لا بنفس ولا بمال.
(2) (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي فإذا بدأ الخوف بكرّ الشجعان وفرّهم فى ميدان القتال- رأيتهم ينظرون إليك وقد دارت أعينهم فى رءوسهم فرقا وخوفا كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب لبّه، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه.
(3) (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي فإذا كان الأمن تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة فى النجدة والشجاعة، وهم فى ذلك كاذبون.
قال قتادة: أمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذ له للحق اهـ.
ثم بين ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال:(21/144)
(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي هم بخلاء حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شىء مما وصل إلى أيديهم.
والخلاصة: إنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء.
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفى الحرب أمثال النساء العواتك
وبعد أن وصفهم بما وصفهم به من دنىء الصفات- بيّن ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله لعدم تمكن الوازع النفسي فى قلوبهم، فقال:
(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ) أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدّقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل، لأنهم أهل نفاق، فأبطل الله أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباء منثورا.
(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإحباط هيّنا على الله لا يبالى به إذ هم قوم فعلوا ما يستوجبه ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله وتدل عليه حكمته.
ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، فقال:
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هم من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب من غطفان وقريش لم يرحلوا، وقد هزمهم الله ورحلوا، وتفرقوا فى كل واد.
وإجمال القول: إنهم لما لم يقاتلوا لجبنهم، وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين لا يلوون على شىء.
(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرة أخرى تمنّوا أن لو كانوا مقيمين فى البادية بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذى ولا مكروه، ويكتفون بأن يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفى هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم.
(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم فى الكرة(21/145)
السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاد وكرّ وفرّ، وطعن وضرب، ومحاربة بالسيوف، ومبارزة فى الصفوف- ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا رياء وخوفا من العار، لا قتالا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر.
وبعد أن فصّل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم- عاتبهم أشد العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله معتبر لو اعتبروا، وأسوة حسنة لو أرادوا التأسى، فقال:
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) أي إن المثل العالية، والقدوة الحسنة ماثلة أمامكم لو شئتم، فتحتذون الرسول فى أعماله، وتسيرون على نهجه لو كنتم تبتغون ثواب الله، وتخافون عقابه إذا أزفت الآزفة، وعدم النصير والمعين، إلا العمل الصالح، وكنتم تذكرون الله ذكرا كثيرا، فإن ذكره يؤدى إلى طاعته، ويحقق الائتساء برسوله.
وخلاصة ذلك: هلا اقتديتم بالرسول، وتأسيتم بشمائله؟.
ولما ذكر سبحانه حال المنافقين- ذكر حال المؤمنين حين لقاء الأحزاب، فقال:
(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) أي ولما أبصر المؤمنون الصادقون المخلصون لله فى القول والعمل- الأحزاب الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة- قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه النصر فى نحو قوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» وقوله: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ»
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم»
وقوله: «إنهم سائرون إليكم تسعا أو عشرا» أي فى آخر تسع ليال أو عشر من حين الإخبار.(21/146)
وصدق الله ورسوله فى النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله فى البلاء والاختبار، ومازادهم ذلك إلا صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما كان الله ورسوله قد وعدهم.
ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء، واحتملوا البأساء والضراء، فقال:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أي ومن المؤمنين بالله، المصدقين برسوله، رجال أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر فى اللأواء وحين البأساء، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض فى غير هذه المواطن، ومنهم من ينتظر قضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، وما غيّروه وما بدلوه.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن أنس قال: «غاب عمى أنس بن النضر عن بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أرانى الله تعالى مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرينّ الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ رضى الله عنه، فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد فى جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلخ.
وروى صاحب الكشاف أن رجالا من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وحمزة ومصعب بن عمير، وجمع غيرهم.
ثم بيّن العلة فى هذا الابتلاء والتمحيص، فقال:
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(21/147)
أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليا واضحا كما قال: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» وقال: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه، ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال غفر لهم ما أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب.
ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هى الغالبة قال:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفى هذا حثّ عليها فى كل حين، وبيان نفعها للتائبين.
ثم رجع يحكى بقية القصص وفصّل ذلك تتميما للنعمة التي أشار إليها إجمالا بقوله:
«فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها» ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي نزلت فيها الأقدام، وما صدر من من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال، لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها فقال:
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي فأرسلنا ريحا وجنودا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمّهم، بفوت ما أمّلوا من الظفر، وخيبتهم فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة والنصر على محمد وصحبه، إذ لم يصيبوا مالا ولا إسارا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فلا شىء بعده.(21/148)
روى الشيخان من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شىء بعده» .
ورويا أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» .
وروى محمد بن إسحاق أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم»
وقد تحقق هذا فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم حتى فتح الله تعالى مكة.
(وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) أي وكان الله عزيزا بحوله وقوته، فردّهم خائبين لم ينالوا خيرا.
ولما قص أمر الأحزاب وذكر ما انتهى إليه أمرهم ذكر حال من عاونوهم من اليهود فقال:
(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي وأنزل الله يهود بنى قريظة الذين عاونوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم بعد أن نقضوا العهد بسفارة حيىّ بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان مما قاله له: جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب:
بل والله جئتنى بذلّ الدهر، ويحك يا حيىّ إنك مشئوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له فى الذورة والغارب (يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيىّ إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شىء أن يدخل معهم فى الحصن فيكون أسوتهم.
ولما أيد الله المؤمنين وكبت أعداءهم وردهم خائبين ورجعوا إلى المدينة ووضع الناس(21/149)
السلاح- أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انهض إلى بنى قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر
وقال صلى الله عليه وسلم «لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة»
فسار الناس فأدركتهم الصلاة، فصلى بعض فى الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا فى بنى قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين.
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) أي
وألقى الرعب فى قلوبهم حين نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت، فقال رضى الله عنه: وحكمى نافذ فيهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» فقال إنى أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله» ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدّت فى الأرض وجيء بهم مكتوفى الأيدى فضربت أعناقهم وكانوا ما بين سبعمائة وثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وسبى أموالهم.
والخلاصة- إنه قذف الرعب فى قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي وأورثكم مزارعهم ونخيلهم، ومنازلهم وأموالهم التي ادّخروها، وما شبتهم من كل ثاغية وراغية، وأرضا لم تطئوها وهى الأرضون التي سيفتحها المسلمون حتى يوم القيامة، قاله عكرمة واختاره أبو حيان.
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وكان الله قديرا على أن يورّثكم ذلك، وعلى أن ينصركم عليهم، إذ لا يتعذر عليه شىء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شىء شاءه.(21/150)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
تفسير المفردات
زينة الدنيا: زخرفها ونعيمها، فتعالين: أي أقبلن باختياركن واخترن أحد الأمرين، أمتعكن: أي أعطكن المتعة، وهى قميص وغطاء للرأس وملحفة- ملاءة- بحسب السعة والإقتار، وأسرحكن: أي أطلقكن، سراحا جميلا: أي طلافا من غير ضرار ولا مخاصمة ولا مشاجرة، بفاحشة: أي فعلة قبيحة كنشوز وسوء خلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله، مبينة: أي ظاهرة القبح من قولهم: بيّن كذا بمعنى ظهر وتبين، ضعفين: أي ضعفى عذاب غيرهن أي مثليه، يسيرا: أي هيّنا لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي، بل هذا سبب له.
المعنى الجملي
بعد أن نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فردّ عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه رضى الله عنهن أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول الله: بنات كسرى وقيصر فى الحلي والحلل، والإماء والخول- الخدم والحشم- ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب ونحو ذلك فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل فى شأنهن:(21/151)
روى أحمد عن جابر رضى الله عنه قال: «أقبل أبو بكر رضى الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضى الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر لأكلمنّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، قال:
يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتنى النفقة آنفا فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال «هنّ حولى يسألننى النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضى الله عنها فقال لها إنى أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك، قالت وما هو؟ فتلا عليها: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ» الآية. قالت عائشة رضى الله عنها: أفيك أستأمر أبوىّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى لم يبعثنى معنّفا ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألنى امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» رواه مسلم والنسائي.
ثم وعظهن بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وخصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن يستمسكن بها لما لهنّ من مركز ممتاز بين نساء المسلمين، لأنهن أمهات المؤمنين، وموضع التجلّة والكرامة، إلى أنهن فى بيت صاحب الدعوة الإسلامية، ومنه انبعث نور الهدى والطهر والعفاف، فأجدر بهن أن يكنّ المثل العليا فى ذلك، ويكنّ قدوة يأتسى بهن نساء المؤمنين جميعا، ويا لها منقبة أوتيت لهن دون سعى ولا إيجاف منهن، بل هى منحة أكرمهن الله بها، فله الحمد فى الآخرة والأولى.(21/152)
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) أي يا أيها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خلتين: أولاهما أن تكنّ ممن يحببن لذّات الدنيا ونعيمها والتمتع بزخرفها فليس لكنّ عندى مقام، إذ ليس عندى شىء منها، فأقبلن علىّ أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبا لخاطرهن وتعويضا لهن عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهى كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر واليسار والإقتار كما قال تعالى: «وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ» ثم أسرحكن وأطلقن على ما أذن الله به وأدّب به عباده بقوله:
«إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة وحفصة وأمّ حبيبة وسودة وأم سلمة رضى الله عنهن وأربع من غير القرشيات: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب النضيرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
وحين نزلت هذه الآية عرض عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبدأ بعائشة وكانت أحبّ أهله إليه فخيّرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تابعها بقية نسائه.
ثم ذكر ثانية الخلتين فقال:
(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله وثواب الدار الآخرة فأطعنهما فإن الله أعد للمحسنات منكن فى أعمالهن القولية والفعلية ثوابا عظيما تستحقر الدنيا وزينتها دونه، كفاء إحسانهن.(21/153)
والخلاصة- أنتنّ بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك.
وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله- أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال:
(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي من يعص منكن الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلب ما يشق عليه ويضق به ذرعا ويغتم لأجله- يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، أي تعذب ضعفى عذاب غيرها، لأن قبح المعصية منهن أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلا يسيرا على الله الذي لا يحابى أحدا لأجل أحد، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغن عنهن شيئا، بل هو سبب لمضاعفة العذاب.
روى أن رجلا قال لزين العابدين رضى الله عنه: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله فى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أن نكون كما قلت، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي بعدها.
وإلى هنا تم ما أردنا من تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكان الفراغ من مسودّته صبيحة يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.(21/154)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 جدال المشركين بالغلظة، وجدال أهل الكتاب بالحسنى 5 فى الحديث «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم 6 الحكمة فى كون الرسول أميا.
6 لا يكذب بالقرآن إلا من يستر الحق بالباطل.
7 فى الحديث «ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر» .
8 طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم 10 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين كفى 12 استعجال المشركين لنزول العذاب.
12 بيان جهلهم فى هذا الاستعجال.
13 الأمر بالهجرة عند خوف الفتنة فى الدين.
15 الموت فى كل حين ينشد الكفنا.
15 جزاء المؤمنين الصالحين الصابرين المتوكلين.
17 المشركون لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض.
17 سعة الرزق وضيقه بحسب السنن التي وضعت فى الكون 19 الدنيا لعب ولهو، والحياة الحقة هى دار الآخرة.
21 كان المشركون إذا اشتدّ بهم الخوف دعوا الله، وإذا أمنوا 21 معرفة الله فى فطرة كل إنسان.
22 الامتنان على قريش بسكنى حرم الله.
23 مثوى الكافرين جهنم وبئس القرار.
23 الذين اهتدوا يزيدهم الله هدى.
24 الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
25 خلاصة ما تضمنته سورة العنكبوت.
26 الصلة بين سورتى العنكبوت والروم.
27 فرح المشركين بغلبة فارس للروم.
27 الخطر الذي قدّمه أبو بكر لمن ناحبه.
28 الحروف المقطعة فى أوائل السور.
28 غلبة الروم لفارس كما وعد الله، وفرح المؤمنين بذلك. 29 الكافرون غافلون عن الآخرة.
30 الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفاق على وحدانية الله.
32 يوم تقوم الساعة يتفرق الناس، ففريق فى الجنة وفريق 34 ما يوصل إلى الجنة ويبعد عن النار.
36 صفات الإله المستحق للثناء والتقديس.
37 الأدلة على البعث والإعادة فى خلق الإنسان.
39 الأدلة فى الأكوان المشاهدة والعوالم المختلفة.
42 فى الحديث «كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك» إلخ 43 ضرب الأمثال على الوحدانية 45 أمره صلى الله عليه وسلم بعدم المبالاة بأمر المشركين 46 العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء قابلة لكل نقش 47 فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه» إلخ.
47 اختلف أهل الأديان فرقا وشيعا.
51 أمره صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على ذوى القربى 54 تهديد المشركين بالنظر إلى أن من كان قبلهم كانت عاقبتهم 58 الأدلة على وجود الخالق ووحدانيته.
60 البرهان على البعث والنشور.
64 من الأدلة على وجود الخالق تنقل الإنسان فى أطوار مختلفة 66 يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.
67 يوم القيامة لا ينفع الظالمين معاذيرهم عما فعلوا 68 الرسول أدى واجبه ومن خالفه فهو معاند.
69 أمره صلى الله عليه وسلم بتلقى المكاره بصدر رحب وسعة 70 خلاصة ما احتوت عليه سورة الروم من الموضوعات 71 المناسبة بين سورتى الروم ولقمان.
72 القرآن هدى ورحمة للمحسنين.
73 ما كان يفعله النضر بن الحارث عند سماع القرآن.
74 آراء العلماء فى سماع الغناء.(21/155)
75 جواز استعمال الطبل والدفّ فى إعلان النكاح.
77 الاستدلال على وحدانية الله.
78 حكمة لقمان.
79 عظة لقمان لابنه.
82 وصيته سبحانه بحسن معاملة الوالدين.
82 تأكيد الوصية بالأم خاصة.
83 حديث سعد بن أبى وقاص مع أمه.
84 وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة.
85 تحذيره لابنه من تصعير الخد مرحا.
86 الأمر بغضّ الصوت.
89 تقليد المشركين للآباء والأجداد.
90 حال المستسلم المفوض أمره إلى الله.
92 المشركون يقرون بأن خالق السموات والأرض هو الله.
94 عظمة الله لا يحيط بها أحد.
97 الدلائل الأرضية على وحدانية الله سبحانه.
98 الأمر بتقوى الله وخشيته خوفا من ذلك اليوم الذي لا ينفع.
99 التحذير من غرور الدنيا والشيطان.
100 خمس لا يعلمهن إلا الله.
101 مجمل سورة لقمان.
102 وجه اتصال السجدة بلقمان.
104 الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم.
105 ماذا يراد باليوم الذي هو كألف سنة؟.
105 أطوار خلق الإنسان.
106 استبعاد المشركين للبعث وأسباب ذلك.
108 حال المشركين حين معاينة العذاب.
110 علامات أهل الإيمان.
115 مآل المؤمن والكافر.
116 انتقام الله من المجرمين. 118 أدلة التوحيد.
120 استبعاد المشركين حصول النصر للنبى صلى الله عليه وسلم 122 مجمل ما اشتملت عليه سورة السجدة.
123 سورة الأحزاب.
124 أمر النبي بتقوى الله ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين.
125 أمر النبي بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه وحده.
126 لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه.
127 لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة.
129 أبوة محمد صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أشرف لهم من أبوّة 130 قال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلخ 131 كان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين 132 أخذ الميثاق على الرسل.
133 غزوة الأحزاب- وقعة الخندق.
137 سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن تدبيره فى هذه الموقعة 140 الشدائد تمحص المؤمن وتظهر نفاق المنافق.
141 تحريض المنافقين للجند بالفرار من الموقعة.
142 لا ينفع حذر من قدر.
143 النفع والضر بيد الله.
144 ذكر معايب المنافقين.
145 وصف المنافقين.
146 حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب.
147 بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء.
148 كفى الله المؤمنين القتال.
149 ذكر ما حل باليهود بعد الموقعة.
150 اليهود أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.
151 تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه.
152 وعظ نساء النبي وتخصيصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن(21/156)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
الجزء الثاني والعشرون
[تتمة سورة الأحزاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (33) : آية 31]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
شرح المفردات
يقنت: أي يخشع ويخضع، وأعتدنا: هيأنا وأعددنا، كريما: أي سالما من الآفات والعيوب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة، أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال- مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم فى الدنيا والآخرة، ففى الدنيا يوفّقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب، ولا يخشين من أجله العقاب، وفى الآخرة يرزقن ما لا يحدّ ولا يوصف من غير نكد ولا كدر.(22/3)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
الإيضاح
(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي ومن تطع منكنّ الله ورسوله وتعمل صالح الأعمال نضاعف لها الأجر والمثوبة، لكرامتها علينا بوجودها فى بيت النبوة ومنزل الوحى ونور الحكمة وعين الهداية.
(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أي وزيادة على هذا أعددنا لها الكرامة فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين، منظورا إليها نظرة المهابة والإجلال، وأما فى الآخرة فلها رفيع الدرجات، وعظيم المنازل عنده تعالى فى جنات النعيم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 32 الى 34]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
تفسير المفردات
أصل أحد وحد بمعنى الواحد وهو فى النفي عام للمذكر والمؤنث، والواحد والكثير:
أي لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء، فإذا استقرئت أمّة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والمسابقة، والاتقاء بمعنى الاستقبال، وهو بهذا المعنى معروف فى اللغة قال النابغة:
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد(22/4)
أي استقبلتنا باليد قاله أبو حيان فى البحر، ومنه قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ» : فلا تخضعن بالقول: أي فلا تجبن بقول خاضع ليّن، أي إذا استقبلتن أحدا فلا تلنّ الكلام ولا ترققنه، مرض: أي ريبة وفجور، قولا معروفا: أي حسنا بعيدا من الريبة غير مطمع لأحد، قرن: من قرّ يقرّ من باب علم وأصله اقررن دخله الحذف، والتبرج: إبداء المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، والجاهلية الأولى:
هى الجاهلية القديمة جاهلية الكفر قبل الإسلام، وهناك جاهلية أخرى هى جاهلية الفسوق فى الإسلام، والرجس: فى الأصل الشيء القذر والمراد به هنا الإثم المدنّس للعرض، واذكرن ما يتلى فى بيوتكن: أي وعظن الناس بما يتلى فى بيوتكنّ، وآيات الله: هى القرآن، والحكمة: هى السنة وحديث الرسول.
المعنى الجملي
بعد أن أذكر ما اختص به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب، أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء، تم نهاهن عن رخامة الصوت ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدا حتى لا يطمع فيهن من فى قلبه نفاق، ثم أمرهن بالقرار فى بيوتهن ونها هن عن إظهار محاسنهن كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى، ثم أمرهنّ بأهمّ أركان الدين، وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمر وينهى، لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت وطهرهم تطهيرا، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن وما يسمعنه من النبي صلى الله عليه وسلم من السنة.
الإيضاح
(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أي يا نساء النبي إذا استقصيت النساء جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والكرامة.
والخلاصة- إنه لا يشبهكن أحد من النساء ولا يلحقكنّ فى الفضيلة والمنزلة.(22/5)
(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) أي إذا استقبلتن أحدا من الرجال فلا ترقّقن الكلام فيطمع فى الخيانة من فى قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق، وقلن قولا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد.
وتفسير الاتقاء بهذا المعنى أبلغ فى مدحهن، إذ لم يعلق فضلهن على التقوى، ولا نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله فى أنفسهن، والتعليق يقتضى بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى قاله فى البحر، وقال فى الكشاف: إن المعنى إن أردتن التقوى، أو إن كنتن متقيات اهـ، يريد إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإجمال هذا- خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج.
ولما أمرهن بالقول المعروف أتبعه بذكر الفعل فقال:
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء،
أخرج الترمذي والبزّار عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهى فى قعر بيتها» .
(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال كما كان النساء يفعلن ذلك فى الجاهلية قبل الإسلام.
وبعد أن نهاهن عن الشر أمرهن بالخير فقال:
(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأدّين الصلاة على الوجه القيّم المعتبر شرعا، وأعطين زكاة أموالكن كما أمركن الله.
وخص هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار فى طهارة النفس وطهارة المال.(22/6)
وأطعن الله ورسوله فيما تأتين وما تذرن، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر وترك النواهي.
ثم ذكر السبب فى هذه الأوامر والنواهي على وجه عام فقال:
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي.
وأهل بيته صلى الله عليه وسلم من كان ملازما له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان المرء منهم أقرب وبالنبي أخصّ وألزم كان بالارادة أحق وأجدر.
وعن ابن عباس قال: «شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتى كل يوم باب على بن أبى طالب عند وقت كل صلاة فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، الصلاة يرحمكم الله، كل يوم خمس مرات» .
ثم بين ما أنعم به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحى بقوله:
(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) أي واذكرن نعمة الله عليكن، بأن جعلكن فى بيوت تتلى فيها آيات الله وما ينزل على الرسول من أحكام الدين ولم ينزل به قرآن، فاحمدن الله على ذلك واشكرنه على جزيل فضله عليكن.
ولا يخفى ما فى هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلّفنه، كما لا يخفى ما فى تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة، إذ فيه الحكمة فى صلاح المجتمع فى معاشه ومعاده، فمن استمسك به رشد، ومن تركه ضلّ عن طريق الهدى، وسلك سبيل الردى.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أي إن الله كان ذا لطف بكنّ إذ جعلكن فى البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه، خبيرا بكنّ إذ اختار كن لرسوله أزواجا.(22/7)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
تفسير المفردات
الإسلام: الانقياد والخضوع لأمر الله، والإيمان: التصديق بما جاء عن الله من أمر ونهى، والقنوت: هو الطاعة فى سكون، والصبر: تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي، والخشوع: السكون والطمأنينة، أعد الله لهم مغفرة:
أي هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم، وأجرا عظيما: أي نعيما عند ربهم يوم القيامة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بأشياء ونهاهن عن أخرى، ذكر هنا ما أعد للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده فى الدار الآخرة. روى أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة قال: «سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول:
قلت للنبى صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت فلم يرعنى منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وأنا أسرّح رأسى فلففت شعرى ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن فجعلت سمعى عند الجريد فإذا هو يقول على المنبر يا أيها الناس إنّ الله يقول فى كتابه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) - إلى قوله:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) » .(22/8)
الإيضاح
ذكر الله سبحانه الأوصاف التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده وهى:
(1) إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين فى القول والعمل.
(2) إسلام الباطن بالتصديق التام والإذعان لما فرض الدين من الأحكام وهذا هو الإيمان.
(3) القنوت وهو دوام العمل فى هدوء وطمأنينة كما قال: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟» وقال: «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» .
فالإسلام والانقياد مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق وينشأ عن مجموعهما القنوت والخشوع.
(4) الصدق فى الأقوال والأعمال، وهو علامة الإيمان كما أن الكذب أمارة النفاق، فمن صدق نجا،
وفى الحديث «عليكم بالصدق فإنه يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار»
(5) الصبر على المكاره وتحمل المشاقّ فى أداء العبادات وترك الشهوات.
(6) الخشوع والتواضع لله تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه وخوفا من عقابه كما
جاء فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
(7) التصدق بالمال والإحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب،
وقد ثبت فى الصحيح «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»
وفى حديث آخر «والصدقة تطفئ الخطية كما يطفىء الماء النار»(22/9)
(8) الصوم فإنه نعم العون على كسر الشهوة كما
روى ابن ماجه من قوله صلى الله عليه وسلم «والصوم زكاة البدن»
أي إنه يزكّيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا،
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» .
(9) حفظ الفروج عن المحارم والآثام كما جاء فى الآية الأخرى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» .
(10) ذكر الله ذكرا كثيرا بالألسنة والقلوب، روى عن مجاهد أنه قال:
لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأخرج النسائي وابن ماجه وأبو داود وغيرهم عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصلّيا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»
: روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبق المفردون، قالوا وما المفردون؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» .
وروى أحمد عن سهل بن معاذا الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا سأله فقال: أىّ المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله تعالى ذكرا، قال فأىّ الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله عز وجل ذكرا، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله ذكرا، فقال أبو بكر لعمر رضى الله عنهما:
ذهب الذاكرون بكل خير، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل» .
هؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم ويؤتيهم الأجر العظيم فى جنات النعيم.(22/10)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قصة زينب بنت جحش
زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلاقها منه، زواجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لإبطال عادة جاهلية، وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن فى حرمة زواج امرأته بعد طلاقها.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
تفسير المفردات
تقول ما كان لفلان أن يفعل كذا: أي لا ينبغى له، والخيرة: الاختيار، مبينا:
أي ظاهر الانحراف عن سنن الصواب، أنعم الله عليه: أي بالإسلام، وأنعمت عليه:(22/11)
أي بالعتق ونيل الحرية، واتق الله: أي فى أمرها ولا تطلقها ضرارا، وتخشى الناس:
أي تخاف من اعتراضهم وقولهم إن محمدا تزوج امرأة ابنه، والوطر: الحاجة والمراد أنه لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها، زوجنا كها: أي جعلناها زوجة لك، والحرج: المشقة، فرض له: أي قدّر من قولهم فرض للجند كذا أي قدر لهم، سنة الله: أي سن الله ذلك سنة، خلوا: أي مضوا، قدرا مقدورا: أي مقضيا وكائنا لا بد منه
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله نبيه أن يخير زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحا جميلا وفهم من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد ضررا لغيره، فمن كان ميله إلى شىء مكّنه منه وترك حظ نفسه لحظ غيره- ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان فى كل شىء كما أعطى ذلك للزوجات، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها وهى ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا.
وقد نزلت هذه الآيات فى زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزل: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلخ فلما نزلت قالا رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
والحكمة فى هذا الزواج الذي لم يبال فيه النبي بإباء زينب ورغبتها عن زيد، أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها كان أمرا تدين به العرب وتعده أصلا ترجع إليه فى الحسب والشرف، وكانوا يعطون، الدعىّ جميع حقوق الأبن وجرون عليه الأحكام التي يعطونها للابن حتى الميراث وحرمة النسب- فأراد الله(22/12)
محو ذلك بالإسلام حتى لا يعرف إلا النسب الصريح ومن ثم قال فى أول السورة «وما جعل أدعياء كم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله» وبهذا حرم على المسلمين أن ينسبوا الدعىّ إلى من تبناه، وأن يكون للمتبنّى إلا حق المولى والأخ فى الدين وحظر عليهم أن يقتطعوا له من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا.
وما رسخ فى النفوس بحكم العادة لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية تسخر بسلطانها، ولا تجعل لها حكما فى الأعمال إذا كانت المصلحة فى خلاف ذلك، ومن ثم ألهم الله رسوله أن يلغى هذا الحكم بالعمل كما ألغى بالقول فى أحد عتقاه. ومن ثمّ أرغم بنت عمته لتتزوج بزيد وهو متبناه ليكون هذا الزواج مقدمة لتشريع إلهى جديد.
ذلك أنه بعد أن تزوجها زيد شمخت بأنفها عليه وجعلت تفخر عليه بنسبها، فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة وهو عليه السلام يغلبه الحياء فى تنفيذ حكم الله ويقول لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله، إلى أن غلب حكم الله وسمح لزيد بطلاقها، ثم تزوجها بعد ذلك ليمزّق حجاب تلك العادة كما قال: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ثم أكد هذا بقوله: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»
الإيضاح
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله ورسوله وقضاءهما ويعصياهما(22/13)
والخلاصة- لا ينبغى لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرا قضى الرسول بغيره ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) أي ومن يعص الله ورسوله فيما امرا ونهيا فقد جار عن قصد السبيل وسلك غير طريق الهدى والرشاد، وقد علمت فيما سلف سبب نزول هذه الآية.
ونحو الآية قوله: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
ثمّ ذكّر الله نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق، وليدفع عنه ما حاك فى صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب فقال:
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفّقه للاسلام، وأنعمت عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله فى أمرها، ولا تطلقها ضرارا، وتعللا بتكبرها وشموخا بأنفها، فإن الطلاق يشينها، وربما لا يجد بعدها خيرا منها.
وفى التعبير بأنعمت عليه إيماء إلى وجه العتب بذكر الحال التي تنافى ما صدر منه عليه السلام من إظهار خلاف ما فى نفسه، إذ هذا إنما يكون حين الاستحياء والاحتشام، وكلاهما مما لا ينبغى أن يكون مع زيد مولاه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) أي وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتى بعدك، وإنما غلبك فى فى ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلّقة متبناه، فأنت تخفى فى نفسك ما الله به من الحكم الذي ألهمك (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي وتخاف من اعتراض الناس والله(22/14)
الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن تمضى فى الأمر قدما، تعجيلا لتنفيذ كلمته وتقرير شرعه.
ثم زاد الأمر بيانا بقوله:
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي فلما قضى زيد منها حاجته وملّها ثم طلقها جعلناها زوجا لك، لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا فى أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل أزواجا لأدعيائهم.
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي وكان ما قضى الله من قضاء كائنا لا محالة أي إن قضاء الله فى زينب أن يتزوجها رسول الله كائن ماض لا بد منه.
روى البخاري والترمذي «أن زينب رضى الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهلوكنّ وزوّجنى الله تعالى من فوق سبع سموات» وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: «كانت تقول للنبى صلى الله عليه وسلم إنى لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدى وجدك واحد، وإنى أنكحك الله إياى من السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام» .
ثم أكد ما سلف بقوله:
(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) أي ليس على النبي حرج فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها.
ثم بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعا فى الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري فقال:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن.
وفى هذا ردّ على اليهود الذين عابوه صلى الله عليه وسلم (وحاشاه) بكثرة الأزواج.(22/15)
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال:
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعا سنتهم وسالكا سبيلهم هم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم، ويخافون الله فى تركهم تبليغ ذلك، ولا يخافون سواه.
والخلاصة- كن من أولئك الرسل الكرام، ولا تخش أحدا غير ربك، فإنه يحميك ممن يريدك بسوء أو يمسك بأذى.
(وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي وكفى الله ناصرا ومعينا وحافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها.
ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله:
(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ما كان لك أن تخشى أحدا من الناس بزواج امرأة متبناك لا ابنك، فإنك لست أبا لأحد من الناس، ولكنك رسول الله فى تبليغ رسالته إلى الخلق، فأنت أب لكل فرد فى الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم كما هو دأب كل رسول مع أمته.
وخلاصة ذلك- ليس محمد بأب لأحد منكم أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، ولكنه أب للمؤمنين جميعا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه كما أن عليه أن يشفق عليهم ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم فى المعاش والمعاد وما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة.(22/16)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
أولاد النبي صلى الله عليه وسلم
ولد للنبى صلى الله عليه وسلم من خديجة ثلاثة ذكور: القاسم والطيب والطاهر، وماتوا صغارا لم يبلغ أحد منهم الحلم، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ومات رضيعا، وولد له من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، والثلاث الأول متن فى حياته صلى الله عليه وسلم. وماتت فاطمة بعد أن قبض صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بستة شهور.
(وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم، وبعلم المصالح فى ذلك.
ونحو الآية قوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه من تقواه وإخلاصه له فى السر والعلن، وما ينبغى أن يكون عليه مع أهله وأقار به من راحتهم وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون كما يومئ إلى ذلك قوله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلخ، أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى وإجلاله بذكره والتسبيح له بكرة وأصيلا، فهو الذي يرحمهم، وملائكته يستغفرون لهم، كى يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكان بعباده المؤمنين رحيما.(22/17)
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله، اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا فى جميع أحوالكم جهد الطاقة، لأنه المنعم عليكم بأنواع النعم، وصنوف المنن.
(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ونزهوه عما لا يليق به طرفى النهار، لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم وهو يعدّ كأنه حياة جديدة بعد موت، ووقت الأصيل وقت الانتهاء من العمل اليومي، فيكون الذكر شكرا له على توفيقه لأداء الأعمال، والقيام بالسعي على الأرزاق فلم يبق إلا السعى إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة.
ثم ذكر السبب فى هذا الذكر والتسبيح فقال:
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أي إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير وتسبحونه بكرة وأصيلا- هو الذي يرحمكم ويثنى عليكم فى الملإ من عباده، وتستغفر لكم ملائكته.
وفى هذا من التحريض على ذكره والتسبيح له مالا يخفى.
(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم- أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
(وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فانه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر، وأما فى الآخرة فإنه آمنهم من الفزع الأكبر وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بذلك إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» .(22/18)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي وهيأ لهم ثوابا حسنا فى الآخرة يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن فى فسيح الجنات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه تأديبه لنبيه فى ابتداء السورة، وذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع أهله- ذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع الخلق كافة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي يا أيها الرسول إنا بعثناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم، وترى أعمالهم، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال، وتؤدّى ذلك يوم القيامة، وأرسلناك مبشرا لهم بالجنة إن صدّقوك، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك، ومنذرا لهم بالنار يدخلونها فيعذبون فيها إن هم كذبوك وخالفوا ما أمرتهم به ونهيتهم عنه.
(وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) أي وداعيا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، سائر ما يجب له من صفات الكمال، وإلى عبادته، ومراقبته فى السر والعلن-(22/19)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
وسراجا منيرا يستضىء بك الضالون فى ظلمات الجهل والغواية، ويقتبس من نورك المهتدون، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) أي وراقب أحوال أمتك، وبشر المؤمنين بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، فإنهم سيغيّرون نظم المجتمع من ظلم وجور إلى عدل وصلاح، ويدخلون الأمم المتعثّرة فى أثواب الضلال، فى زمرة الأمم التي عليها صلاح البشر فى مستأنف الزمان.
أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال: لما نزل قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟
فأنزل الله: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» .
ولما أمره الله بما يسرّ نهاه عما يضر، فقال:
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي ولا تطع قول كافر ولا منافق فى أمر الدعوة، وألن الجانب فى التبليغ، وارفق فى الإنذار، واصفح عن أذاهم، واصبر على ما ينالك منهم، وفوّض أمورك إلى الله، وثق به فإنه كافيك جميع من دونك، حتى يأتيك أمره وقضاؤه، وهو حسبك فى جميع أمورك، وكالئك وراعيك.
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
تفسير المفردات
النكاح هنا: العقد، والمس معروف والمراد به قربان المرأة، ومن أدب القرآن الكريم التعبير عنه بالملامسة والمماسة، والقربان والتغشى والإتيان، والعدة: الشيء(22/20)
المعدود، وعدّة المرأة: الأيام التي بانقضائها يحل بها التزوج، فمتعوهن: أي أعطوهن المتعة، وهى قميص وخمار (ما تغطى به المرأة رأسها) وملحفة (ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها- ملاية) سرحوهن: أي أخرجوهن من منازلكم، سراحا جميلا: أي إخراجا مشتملا على ليّن الكلام خاليا من الأذى.
المعنى الجملي
أدب الله نبيه بمكارم الأخلاق بقوله: يا أيها النبي اتق الله، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله: يا أيها النبي قل لأزواجك، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله:
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، وكان كلما ذكر للنبى مكرمة، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وفيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلخ، وقوله:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
الإيضاح
أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل المسيس، فلا عدّة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها، ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر، ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة، وأخرجوهن إخراجا جميلا، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن ويسرّ به أهلوهن، ليكون فى ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كنّ ينتظرن دوامها، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هى المقام إلى أن يلاقين ربهن أو تموت عنهن بعولتهن.
روى البخاري عن سهل بن سعد وأبى أسيد رضى الله عنهما قالا: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه بسط يده إليها،(22/21)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزّها ويكسوها ثوبين رازقيين
(ضرب من الثياب مشهور فى ذلك الحين) .
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
تفسير المفردات
الأجور هنا: المهور، وما ملكت يمينك: أي ما أخذته من المغانم، خالصة لك:
أي هى خاصة بك، حرج: أي ضيق ومشقة
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وقد كان مهره عليه الصلاة والسلام لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا أي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله أربعمائة دينار.
(وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) أي وأحللنا لك الإماء اللواتى سبيتهن فملكتهن بالسباء، وصرن لك من الفيء بفتح الله عليك، وقد ملك صفية بنت حيى ابن أخطب فى سبى خيبر، ثم أعتقها، وجعل صداقها عتقها، وجويرية بنت الحارث(22/22)
من بنى المصطلق أعتقها، ثم تزوجها، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية أم إبراهيم، وكانتا من السراري.
(وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) أي وأحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك المهاجرات معك دون من لم يهاجرن.
روى السّدّى عن أبى صالح عن أم هانئ قالت: «خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذرنى ثم أنزل الله تعالى: (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى قوله- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت: فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء» .
(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأحللنا لك التمتع بالمرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك بلا مهر إن أردت ذلك.
وهذه الإباحة خاصة لك من دون المؤمنين، فلو وهبت امرأة نفسها لرجل وجب عليه لها مهر مثلها، كما حكم بذلك رسول الله فى بروع بنت واشق لما فوضت نفسها ومات عنها زوجها فحكم لها بصداق مثلها.
والموت والدخول سواء فى تقرير مهر المثل، وثبوت مهر المثل فى المفوّضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، فأما هو فلا يجب عليه للمفوّضة شىء لو دخل بها، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولىّ ولا شهود، كما فى قصة زينب بنت جحش رضى الله عنها.
(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي قد علم الله ما ينبغى فرضه على المؤمنين فى أزواجهم من شروط العقد، وأنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة، وبدون شهود، وفى الإماء بشراء أو غيره أن تكون ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف الوثنية والمجوسية- وهذه الجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى:(22/23)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
ثم ذكر العلة فى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما تقدم من الأحكام بقوله:
(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي أحللنا لك ذلك حتى لا يكون عليك حرج وضيق فى نكاح من نكحت من الأصناف السالفة (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان ربك غفورا لك، ولأهل الإيمان بك، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب صدر منهم بعد توبتهم.
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
تفسير المفردات
ترجى: أي تؤخر من الإرجاء وهو التأخير، وقرىء، ترجىء وتؤرى: أي تضم وتضاجع، ابتغيت: أي طلبت، عزلت: أي تجنبت، أدنى: أي أقرب، تقرّ.
أي تسرّ.
الإيضاح
(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك، وتضاجع من تشاء، ولا يجب عليك قسم بينهن، بل الأمر فى ذلك إليك، على أنه كان يقسم بينهن.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي ومن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق، فلا ضيق عليك فى ذلك.
والخلاصة: إنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلقها من قبل.(22/24)
روى ابن جرير عن أبى رزين قال: «لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله اجعل لنا من مالك، ومن نفسك ما شئت، ودعنا كما نحن فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن، وآوى إليه بعضهن وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسم بينهن سواء، وأرجأ منهن خمسا: أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية، وجويرية، فكان لا يقسم بينهن ما شاء» .
ثم بين السبب فى الإيواء والإرجاء، وأنه كان ذلك فى مصلحتهن، فقال:
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي إنهن إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج فى القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم لا جناح عليك فى أىّ ذلك فعلت، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارا منك لا وجوبا عليك- فرحن بذلك، واستبشرن به، واعترفن بمنتك عليهن فى قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك بينهن.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه، ومن الرضا بما دبر له فى حقهن من تفويض الأمر إليه صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا فعلى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك»
يعنى القلب، وزيادة الحب لبعض دون بعض.
وفى هذا حث على تحسين ما فى القلوب، ووعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله له من ذلك، وفوضه إلى مشيئته، وبعث على تواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) أي وكان الله عليما بالسرائر، حليما فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب، وينيب من ذنوبه من ينيب.(22/25)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه، وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله- أردف ذلك ذكر ما جازاهم به من تحريم غيرهن عليه ومنعه من طلاقهن بقوله:
(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) .
الإيضاح
تتضمن الآية الكريمة حكمين: ألا يتزوج عليه السلام غيرهن، ولا أن يستبدل بهن غيرهن، وإلى ذلك أشار بقوله:
(1) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي فى عصمتك اليوم كفاء اختيارهن الله ورسوله وحسن صنيعهن فى ذلك.
أخرج أبو داود فى ناسخه وابن مردويه والبيهقي فى سننه عن أنس قال: «لما خيّرهن فاخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قصره سبحانه عليهن» .
وروى عن ابن عباس أنه قال فى الآية: (حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهنّ عليه) .
(2) (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجا غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى مهما كانت بارعة فى الحسب والجمال إلا ما ملكت يمينك منهن، وقد ملك بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس فتسرّاها وأولدها إبراهيم ومات رضيعا وفى الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها،
وقد روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل»
وعن المغيرة بن شعبة قال: «خطبت امرأة فقال لى النبي(22/26)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
صلّى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» .
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي وكان الله حافظا ومطلعا على كل شىء، عليما بالسر والنجوى، فاحذروا تجاوز حدوده، وتخطى حلاله إلى حرامه.
آية الحجاب، وما فيها من أحكام وآداب
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
تفسير المفردات
إناه: أي نضجه: يقال أنى الطعام يأنى أنى أي أدرك وحان نضجه، وفيه لغات:
إنى بكسر الهمزة وأنى بفتحها مقصورا وممدودا قال الحطيئة:
وأخّرت العشاء إلى سهيل ... أو الشّعرى فطال بي الأناء
فانتشروا: أي فتفرقوا ولا تلبثوا، مستأنسين لحديث، أي مستمعين له، متاعا:(22/27)
أي شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره، أطهر لقلوبكم: أي أكثر تطهرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال فى أمر النساء وللنساء فى شأن الرجال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته بقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» أردف ذلك بيان حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلم إرشادا لما يجب عليهم نحوه من الاحترام والتعظيم فى خلوته وفى الملإ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان فى الخلوة بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ» إلخ.
وأنه يجب إجلاله إذا كان فى الملإ بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .
روى أن هذه الآية نزلت يوم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش
فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: «لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بينى وبينه فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) الآية.
الإيضاح
أدب الله عباده بآداب ينبغى أن يتخلقوا بها، لما فيها من الحكم الاجتماعية والمزايا العمرانية فقال:
(1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ(22/28)
ناظِرِينَ إِناهُ)
أي أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيه إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه.
وخلاصة ذلك- إنكم إذا دعيتم إلى وليمة فى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أن الطعام قد تم نضجه، وانتهى إعداده، إذ قبل ذلك يكون أهل البيت فى شغل عنكم، وقد يلبسن ثياب البذلة والعمل فلا يحسن أن تروهنّ وهنّ على هذه الحال، إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه.
(2) (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولكن إذا دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله فتفرقوا واخرجوا ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة.
أخرج عبد بن حميد عن الربيع عن أنس قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
وأخرج ابن أبى حاتم عن سليمان بن أرقم قال: نزلت هذه فى الثقلاء ومن ثم قيل هى آية الثقلاء ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي إن ذلك اللّبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حاجه، إلى ما فيه من تضييق المنزل على أهله، لكنه كان يستحيى من إخراجكم ومنعكم مما يؤذيه، والله لم يترك الحق وأمركم بالخروج.
وفى هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان فى ذلك أذى لرب البيت، ولو كان البيت غير بيت النبي صلى الله عليه وسلم فالتثقيل مذموم فى كل مكان، محتقر لدى كل إنسان.(22/29)
وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهما «حسبك فى الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم» .
وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة أفردت بالتأليف ولا سيما فى العصر الحديث.
وجعلوا التحلل منها وترك اتباعها مما لا تسامح فيه.
(3) (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتى لسن لكم بأزواج، شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره فاطلبوا منهن ذلك من وراء ستر بينكم وبينهن.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضى الله عنه قال: قال عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب فى صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش فى ذى القعدة سنة خمس من الهجرة، وهى مما وافق تنزيلها قول عمر كما فى الصحيحين عنه قال: وافقت ربى عز وجل فى ثلاث، قلت:
يا رسول الله لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه فى الغيرة «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» فنزلت كذلك.
ثم بين سبب ما تقدم بقوله:
(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي ذلك الدخول بالإذن وعدم الاستئناس للأحاديث أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان والريب، لأن العين رسول القلب، فإذا لم تر العين لم يشته القلب، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة(22/30)
حينئذ أظهر، وجاء في الأثر «النظر سهم مسموم من سهام إبليس» وقال الشاعر:
والمرء مادام ذاعين يقلّبها ... فى أعين العين موقوف على الخطر
يسرّ مقلته ما ساء مهجته ... لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
ولما ذكر ما ينبغى من الآداب حين دخول بيت الرسول أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله:
(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) أي وما كان ينبغى لكم أن تفعلوا فى حياته صلّى الله عليه وسلم فعلا يتأذى به ويكرهه كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم، فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله.
ولما كان صلّى الله عليه وسلم قد قصر عليهن قصرهن الله عليه بقوله:
(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أي ولا تنكحوا أزواجه أبدا من بعد مفارقتهن بموت أو طلاق، زيادة في شرفه، وإظهارا لعظمته وجلاله، ولأنهن أمهات المؤمنين، والمرء لا يتزوج أمه.
ثم بين السبب فيما تقدم بقوله:
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) أي إن ذلك الإيذاء وزواج نسائه من بعده أمر عظيم، وخطب جلل، لا يقدر قدره غير الله تعالى.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد على هذا العمل- إلى ما فيه من تعظيم شأن الرسول وإيجاب حرمته حيا وميتا.
ثم بالغ في الوعيد وزاد في التهديد بقوله:
(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي إن ما تكنّه ضمائركم، وتنطوى عليه سرائركم، فالله يعلمه، إذ لا تخفى عليه خافية «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية.
والكلام وإن كان عاما بظاهره فالمقصود ما يتعلق بزوجاته عليه الصلاة والسلام.(22/31)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
وسبب نزول الآية أنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أنهى أن نكلّم بنات أعمامنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لنتزوجنّ نساءه.
وأخرج جويبر عن ابن عباس «أن رجلا أنى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا، فقال يا رسول الله إنها ابنة عمى، والله ما قلت منكرا ولا قالت لى، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك: إنه ليس أحد أغير من الله تعالى، وإنه ليس أحد أغير منى، فمضى ثم قال:
ما يمنعنى من كلام ابنة عمى؟ لأتزوجنّها من بعده، فأنزل الله الآية، فأعتق الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا لأجل كلمته» .
وروى أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبى سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت.
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن نساء النبي لا يكلّمن إلا من وراء حجاب- أردف ذلك استثناء بعض الأقارب ونساء المؤمنين والأرقاء، لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة، للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرا.
روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: أو نحن يا رسول الله نكلمهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت.(22/32)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
الإيضاح
لا إثم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في ترك الحجاب حين دخول آبائهن، سواء أكان الأب أبا من النسب أم من الرضاع، أو أبنائهن نسبا أو رضاعا، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو النساء المسلمات القربى منهن والبعدى، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد، لما في الاحتجاب عنهن من المشقة، لأنهم يقومون بالخدمة عليهن.
واخشين الله في السر والعلن فإنه شهيد على كل شىء، لا تخفى عليه خافية، وهو يجازى على العمل خيرا أو شرا.
والخلاصة- إن الله شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون.
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وجوب احترام النبي حال خلوته بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» أردف ذلك بيان ماله من احترام في الملإ الأعلى بقوله: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» وفي الملإ الأدنى بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، فالمعنى كما قال ابن عباس: إن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة.(22/33)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
وقد أخبر الله سبحانه عباده بمنزلة عبده ونبيه في الملإ الأعلى، بأنه يثنى عليه لدى ملائكته المقربين، وأن ملائكته يصلون عليه طالبين له المغفرة من ربه.
وقد أمرنا بأن نصلى عليه بقوله:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي يا أيها الذين آمنوا ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم، من حسن متابعته، والانقياد لأمره، فى كل ما يأمر به، والصلاة والسلام عليه بألسنتكم.
روى البخاري بسنده عن كعب بن عجرة قال: «قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفنا، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
روى عبد الله بن أبى طلحة عن أبيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه، فقلنا إنا لنرى البشرى في وجهك، فقال: جاءنى جبريل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: أما يرضيك أن لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صلّيت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا»
[سورة الأحزاب (33) : آية 57]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه باحترام نبيّه في بيته وفي الملإ- نهى عن إيذاء الله، بمخالفة أوامره، وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به.(22/34)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر أنواع المعاصي، ومنهم اليهود الذين قالوا «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» والنصارى الذين قالوا «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» والمشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(وَرَسُولَهُ) كالذين قالوا هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون إلى نحو ذلك من مقالاتهم، فمن آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله.
(لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي طردهم من رحمته، وأبعدهم من فضله في الدنيا، فجعلهم يتمادون في غيهم، ويدسّون أنفسهم، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار، وبئس القرار، وفي الآخرة حيث يصلون نارا تشوى الوجوه.
(وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأ لهم عذابا يؤلمهم، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار، والخزي والهوان.
ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه، بين ذلك بقوله:
[سورة الأحزاب (33) : آية 58]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
تفسير المفردات
بغير ما اكتسبوا: أي بغير جناية يستحقون بها الأذى، والبهتان: الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته، وإثما مبينا: أي ذنبا واضحا بينا.
الإيضاح
أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه، وما هم منه براء- قد اجترحوا كذبا فظيعا، وأتوا أمرا إدّا، وذنبا ظاهرا ليس له ما يسوّغه أو يقوم مقام العذر له.(22/35)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
روى الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت في عبد الله بن أبىّ وناس معه قذفوا عائشة رضى الله عنها فخطب النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع في بيته من يؤذينى؟» .
وروى أبو هريرة «أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ذكرك أخاك بما يكره، قيل أرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» .
وروى عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «أىّ الربا أربى عند الله؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) » .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
تفسير المفردات
الجلابيب: واحدها جلباب وهى الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، يدنين: أي يرخين ويسدلن يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدنى ثوبك على وجهك، أدنى: أي أقرب، أن يعرفن: أي يميزن عن الإساءة، مرض: أي ضعف إيمان(22/36)
بانتها كهم حرمات الدين، والمرجفون: هم اليهود الذين كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها عن سرايا المسلمين وجندهم، وهو من الإرجاف وهو الزلزلة وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها مزلزلة غير ثابتة، لنغرينك بهم: أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنّك بهم، ملعونين: أي مبعدين من رحمة الله، ثقفوا: أي وجدوا، خلوا:
أي مضوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من يؤذى مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا، زجرا لهم عن الإيذاء- أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة من التستر والتميز بالزي واللباس حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع.
روى أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر، فإذا كلّموا في ذلك قالوا حسبناهن إماء- فطلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر، ليتما يزن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) طلب سبحانه من نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، وبخاصة أزواجه وبناته، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذا خرجن من بيوتهن ليتميزن عن الإماء.
روى على بن طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رءوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.(22/37)
وإجمال ذلك- إن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها بحيث تغطى الجسم والرأس ولا تبدى شيئا من مواضع الفتنة كالرأس والصدر والذراعين ونحوها.
ثم علل ذلك بقوله:
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك التستر أقرب لمعرفتهن بالعفة فلا يتعرّض لهن، ولا يلقين مكروها من أهل الريبة، احتراما لهن منهم، فإن المتبرجة مطموع فيها، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة، وكثر الفسق والفجور.
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وربك غفار لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن، فيثيبه عظيم الثواب، ويجزيه الجزاء الأوفى.
ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم حذّرهم بقوله:
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن لم يكفّ أهل النفاق الذين يستسرّون الكفر ويظهرون الإيمان، وأهل الرّيب الذين غلبتهم شهواتهم، وركنوا إلى الخلاعة والفجور وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفّقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المؤمنين وإبراز ما استكنّ من خفاياهم كضعف جنودهم وقلة سلاحهم وكراعهم ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو وخضد لشوكة المسلمين- لنسلطنك عليهم، وندعونّك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج.
والخلاصة- إن الله سبحانه قد توعد أصنافا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل أو النفي من البلاد وهم:(22/38)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
(1) المنافقون الذين يؤذون الله سرّا.
(2) من في قلوبهم مرض فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم.
(3) المرجفون الذين يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلم بنحو قولهم: غلب محمد، وسيخرج محمد من المدينة، وسيؤخذ أسيرا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين، وسخط الناس منهم.
ثم بين مآل أمرهم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة فقال:
(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتّلوا تقتيلا.
ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة الله في أشباههم من قبل، فهو ليس ببدع فيهم كما قال:
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي إن سنته تعالى فى المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيذلوهم ويقهروهم، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل، لابتنائها على الحكمة والمصلحة، ولا يقدر غيره على تغييرها.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)(22/39)
تفسير المفردات
الساعة: يوم القيامة، وما يدريك: أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها، سعيرا:
أي نارا مستعرة متقدة، سادتنا: أي ملوكنا، وكبراءنا: أي علماءنا، ضعفين من العذاب: أي مثلى عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال هذه المئات الثلاث في الدنيا وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون، عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة، فذكّرهم بيوم القيامة، وبيّن ما يكون لهم فى هذا اليوم.
الإيضاح
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي يكثر الناس هذا السؤال، متى تقوم الساعة؟
فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالا لها على طريق التهكم والاستهزاء والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول، واليهود يسألون سؤال امتحان واختبار، ليعلموا أيجيب بمثل ما في التوراة من ردّ أمرها إلى الله أم يجيب بشىء آخر؟
فلقنه الله الجواب عن هذا بجعل ردّ ذلك إليه فقال:
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) الذي أحاط علمه بكل شىء، ولم يطلع عليها ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.
ثم أكد نفى علمها عن أحد غيره بقوله:
(وَما يُدْرِيكَ) أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها؟ أي لا يعلمك به أحد أبدا.
ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله:
(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب.(22/40)
ونحو الآية قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» وقوله: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» وقوله: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» .
وفي هذا تهديد للمستعجلين المستهزئين، وتبكيت للمتعنتين والممتحنين.
ثم بين حال السائلين عنها، المنكرين لها، بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن الله أبعد الكافرين به من كل خير، وأقصاهم من كل رحمة، وأعد لهم في الآخرة نارا تتقد وتتسعر ليصليهموها، ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية.
ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولىّ والنصير بقوله:
(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير، وينجيهم من عذاب الله، بشفاعة أو نصرة كما هى الحال في الدنيا لدى الظلمة، إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلّص فيها من الورطات، ويدفع المصايب والنكبات.
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي لا يجدون وليا ولا نصيرا حين تصرّف وجوههم فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر، فيدور به الغليان من جهة إلى أخرى، ويقولون إذ ذاك على طريق التمني: ليتنا أطعنا الله في الدنيا، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهى، فما كنا نبتلى بهذا العذاب، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة- فيالها من حسرة وندامة، ما أعظمها وأجلها.
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ونحو الآية قوله: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» وقوله: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» .
ثم ذكر بعض معاذيرهم بإلقائهم التبعة على من أضلّوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله:(22/41)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي وقال الكافرون يومئذ وهم في جهنم: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فأضلونا السبيل، وأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك والإخلاص لطاعتك في الدنيا.
وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم كما هى عادة المذنب يفعل ذلك وهو يعلم أنه لا يجديه نفعا.
ثم ذكر أنهم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم، أن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا سبب ضلالهم، ووقوعهم في بلواهم، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلّصهم مما هم فيه، فقالوا:
(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي ربنا عذّبهم مثلى عذابنا الذي تعذبنا به: مثلا على ضلالهم، ومثلا على إضلالهم إيانا، واخزهم خزيا عظيما واطردهم من رحمتك.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به في صلاتى، قال: «قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرّحيم» .
[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
تفسير المفردات
الوجيه: هو ذو الجاه والمنزلة، ومن يكون له من خصال الخير ما به يعرف ولا ينكر.(22/42)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن من يؤذى الله ورسوله يلعنه الله في الدنيا والآخرة، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدى إلى الكفر، وقد حصره الله في النفاق ومرض القلب والإرجاف على المسلمين- أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر كعدم الرضا بقسمة النبي صلّى الله عليه وسلم للفىء، ونهى الناس عنه أيضا، وذكر أن بنى إسرائيل قد آذوا موسى ونسبوا إليه ما ليس فيه، فبرأه الله منه، لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه، فلا يلصق به ما هو نقص فيه
الإيضاح
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا بفعل لا يحبه، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبى الله فرموه بالعيب كذبا وباطلا، فبرأه الله مما قالوه من الكذب والزور، بما أظهر من الأدلة على كذبهم، وقد كان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه، لا يسأله شيئا إلا أعطاه إياه.
ولم يعين لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى، ومن الخير ألا نعيّنه حتى لا يكون ذلك رجما بالغيب دون أن يقوم عليه دليل، وقد اختلفوا فيه أهو عيب في بدنه كبرص ونحوه، أم هو عيب في خلقه؟ فقد رووا أن قارون حرّض بغيّا على قذفه بنفسها، فعصمه الله من كذبها، وقيل إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور ومات هناك، ثم استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه.
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: «قسم رسول الله ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فاحمرّ وجهه ثم قال: رحمة الله على موسى فقد أوذى بأكثر من هذا فصبر» .
وروى أحمد عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه «لا يبلّغنّى أحد عن أحد من أصحابى شيئا، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» .(22/43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
وعنه أيضا أنه قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مال فقسمه، قال فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة.
قال فثبت حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت:
يا رسول الله إنك قلت لنا: لا يبلغنى أحد عن أصحابى شيئا وإنى مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا، فاحمرّ وجه رسول الله وشق عليه ثم قال: دعنا منك لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر» .
ومن هذا يتبين أن إيذاء موسى كان بالقدح في أعماله وتصرفاته، لا بالعيب فى بدنه كما روى.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
تفسير المفردات
القول السديد: القول الصدق الذي يراد به الوصول إلى الحق، من قولهم: سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمىّ ولم يعدل به عن سمته.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقول أو فعل، أرشدهم إلى ما ينبغى أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببا في الفوز النجاة في الدار الآخرة، والقرب من الله سبحانه والحظوة إليه.(22/44)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
الإيضاح
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه فتستحقوا بذلك عقوبته، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولا قاصدا غير جائر، حقا غير باطل، يوفقكم لصالح الأعمال، ويغفر لكم ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها.
ومن يطع الله ورسوله فيعمل بما أمره به وينته عما نهاه عنه ويقل السديد من القول فقد ظفر بالمثوبة العظمى والكرامة يوم العرض الأكبر.
والخلاصة- إنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال، والخير فى الأفعال، وبذلك يكونون قد اتقوا الله وخافوا عقابه، ثم وعدهم على ذلك بأمرين:
(1) إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدا فيها أبدا.
(2) مغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
تفسير المفردات
العرض هنا: النظر إلى استعداد السموات والأرض، والأمانة كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهى في شئون الدين والدنيا، والمراد بها هنا التكاليف الدينية، وسميت أمانة من قبل أنها حقوق أوجبها الله على المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بالطاعة والانقياد وأمرهم بالمحافظة عليها وأدائها دون الإخلال بشىء منها،(22/45)
فأبيّن: أي كنّ غير مستعدات لها، وحملها الإنسان: أي كان مستعدا لها، إنه كان ظلوما: أي كثير الظلم لما غلب عليه من القوة الغضبية، جهولا: أي كثير الجهل لعواقب الأمور، لما غلب عليه من القوة الشهوية.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه عظم شأن طاعة الله ورسوله، وأن من يراعيها فله الفوز العظيم، وأن من يتركها يستحق العذاب- أردف ذلك عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية وأن حصولها عزيز شاقّ على النفوس، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام.
الإيضاح
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها وقوة أسرها مستعدة لحمل التكاليف بتلقى الأوامر والنواهي والتبصر فى شئون الدين والدنيا، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منّته وصغر جرمه مستعدا لتلقيها والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب فكان ظلوما لغيره، وركّب فيه حب الشهوات والميل إلى عدم التدبر فى عواقب الأمور، ومن ثم كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى وتخفف من سلطانها عليه وتكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى.
ثم بين عاقبة تلك التكاليف فقال:
(لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة(22/46)
والانقياد لها من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل وعدم التبصر فى العواقب وتداركهم ذلك بالتوبة.
ثم علل قبوله لتوبتهم بقوله:
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله ستارا لذنوب عباده كثير الرحمة بهم، ومن ثم قبل توبة من أناب إليه، ورجع إلى حظيرة قدسه، وأخلص له العمل، وتلافى ما فرط منه من الزلات، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم.
نسألك اللهم أن تتوب علينا، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
تنبيه
ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من الشئون الزوجية وكيف تعامل الزوجات، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان الأخرى ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم وسمعوا كلام المبشرين، ظنا منهم أنهم وجدوا مغمزا في الإسلام وأصابوا هدفا يصمى الدين، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين وأنى لهم ذلك، وليتهم فكروا وتأملوا، قبل أن يتكلموا.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
(1) تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم وكثرتهن بينما لم يبح مثل ذلك لأمته.
(2) إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين.
ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما.
أسباب تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم
قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أن النبي صلّى الله عليه وسلم عاش مع خديجة خمسا وعشرين سنة لم يتزوج سواها، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين،(22/47)
وكان قد تزوجها في شرخ شبابه، إذ كانت سنه وقتئذ خمسا وعشرين سنة وكانت سنها أربعين وعاشا معا عيشا هنيا شعاره الإخلاص والوفاء، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه وألحقوا به ضروبا شتى من الأذى، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه، بل ظل وفيّا لها حتى توفّيت، فحزن عليها حزنا شديدا وسمى عام وفاتها عام الحزن، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته.
والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي صلّى الله عليه وسلم إلى التعدد، وهى قسمان: أسباب عامة وأسباب خاصة:
الأسباب العامة
(1) إن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم عامة للرجال والنساء، ومن التشريع ما هو مشترك بين الرجل والمرأة وما هو خاص بأحدهما، وكلّ يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل لتفرق المرسل إليهم وكثرهم وقصر زمن حياة الرسول، وكثرة الأحكام، وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم.
ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحيى المرأة أن تعرفه من الرجل، ويستحيى الرجل من تبليغه للمرأة، ألا ترى إلى ما
روى عن عائشة رضى الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت للنبى صلّى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: خذى فرصة ممسّكة (قطعة قطن) فتوضئ- قالها ثلاثا وهو في كل ذلك يقول: سبحان الله عند إعادتها السؤال، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء، فأخذتها عائشة وأخبرتها بما يريد النبي صلّى الله عليه وسلم.
ومن ثم وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول صلّى الله عليه وسلم عدد كثير منهن، وهن يبلغن ذلك إلى النساء، ولا يصلح للتلقى عنه إلا أزواجه، لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي دون تأفف ولا استحياء،(22/48)
يرشد إلى ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»
يريد عائشة رضى الله عنها، والعرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء.
(2) إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر كما هو مشاهد معروف، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة إلى الإكثار من ذلك، لا جتذاب القبائل إليه ومؤازرتهم له، لذود عوادى الضالين، وكف أذاهم عنه، ومن ثم كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب.
(3) إن المؤمنين كانوا يرون أن أعظم شرف وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه وقربهم منه، فمن ظفر بالمصاهرة فقد أدرك ما يرجو. ألا ترى أن عمر رضى الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنته وقال: لا يعبأ بعدها بعمر، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت، وأن عليا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق النسب وشرف اقترانه بالزهراء رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبى طالب ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصّر فى القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها.
الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين
(1) تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران ابن عمرو الذي أسلم واضطرّ إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربا من اضطهاد المشركين ومات هناك وأصبحت امرأته بلا معين، وهى أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظا بعقيدته، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها، لأنها هاجرت مع زوجها على غير رغبتهم.
(2) تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وعمرها زهاء خمسين عاما، وكان زواجه منها سببا في دخول خالد بن الوليد في دين الله، وهو المجاهد الكبير والبطل العظيم،(22/49)
وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد، وله في الإسلام أيام غرّ محجلة- إلى أن زواجها بالنبي صلّى الله عليه وسلم يسّر لذوى قرباها وسيلة للعيش فطعموا من جوع وأمنوا من مخوف وأثروا بعد فاقة.
(3) تزوج جويرية وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق بن خزاعة جمع قبل إسلامه جموعا كثيرة لمحاربة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلم الإسلام فأبوه فحاربهم حتى هزموا ووقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على سبع أواق من الذهب فلم تر معينا لها غير النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت إليه وأدلت بنسبها وطلبت حريتها فتذكر النبي صلّى الله عليه وسلم ما كان لأهلها من العز والسؤدد وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم، ثم تزوجها فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بنى المصطلق: إن أصهار رسول الله لا يسترقّون، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر.
(4) تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبى بكر الصديق، إذ كان شديد التمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلم مولعا بالتقرب منه، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها وفخرا لذوى قرباها، وكان عبد الله بن الزبير (ابن أختها) يفاخر بنى هاشم بذلك.
(5) تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفى مجروحا في موقعة بدر وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول وزوج عثمان قد توفيت، فعرض عمر ابنته على عثمان فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول ليستديم له بذلك الشرف، فعزّ هذا على عمر وأنفت نفسه فشكاه إلى أبى بكر فقال له لعلها تتزوج من هو خير منه ويتزوج من هى خير منها له (يريد زواج عثمان بأم كلثوم وزواج حفصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم) .
(6) تزوج صفية بنت حيىّ بن أخطب سيد بنى النّضير، وكانت قد وقعت(22/50)
فى السبي مع عشيرتها، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجها رأفة بها إذ ذلت بعد عزة، واسترقّت وهى السيدة الشريفة عند أهلها، وتأليفا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام، وينضووا تحت لوائه.
(7) تزوج زينب بنت جحش الأسدية، لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب وهى التبني بتنزيل الدّعى منزلة الابن الحقيقي، وإذا أراد الله إبطال هذه العادة جعل رسوله صلّى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد فأنفت هى وأخوها عبد الله، وأبت أن تكون زوجا لدعىّ غير كفء، فأنزل الله «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» فرضيا بقضاء الله ورسوله غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن، مترفعة عن زيد، ضائقة به ذرعا، فآثر فراقها، فسأل الرسول الإذن في ذلك،
فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله،
وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد، وخشى أن يقول الناس: تزوج محمد من زيد ابنه.
ولما لم يبق لزيد فيها شىء من الرغبة طلقها، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم، إبطالا لتلك العادة، وهى إعطاء المتبنّى حكم لابن، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء تفسير السورة بشىء من البسط والإيضاح.
ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي صلّى الله عليه وسلم خوّل لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه- لا وجه له من الصحة فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراض اجتماعية اقتضتها الدعوة، ودعا إليها حب النصرة، ولا سيما إذا علم أنه لم يتزوج بكرا قط إلا عائشة، وأن من أمهات المؤمنين من كن في سن الكهولة أو جاوزنها.(22/51)
أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام
يجدر بذوي الحصافة في الرأى أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإسلام تعدد الزوجات دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد لا مجيز له فحسب.
وهاك أهم الأسباب:
(1) قد تصاب المرأة أحيانا بمرض مزمن أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بالواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج بأخرى.
(2) دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى وتضوى الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد لا يجد بعض النساء أزواجا يحصنونهن ويقومون بشئونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار وتعضهن الحياة بأنيابها.
(3) حضت الشريعة الإسلامية على كثرة النسل، لتقوى شوكة الإسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات، لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح، فرارا من الحقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثم لجأ كثير من الدول الغربية إلى ارتباط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.(22/52)
(4) دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أن حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين مما حدا بعض المفكرين إلى النظر في توريثهم.
(5) كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال حتى عجز الطب عن مكافحتها وتغلغل الداء وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صكّ رسمى بخلو الزوجين من الأمراض المعدية والأمراض التي تجعل النسل ضعيفا ضاويا لا يستطيع الكفاح في الحياة.
ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد
(1) الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.
(2) وجوب اتباع ما ينزل به الوحى مع ضرب المثل لذلك.
(3) إبطال العادة الجاهلية وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء.
(4) إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.
(5) ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب.
(6) تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة.
(7) التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش، ونهيهن عن الخضوع فى القول وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج.
(8) قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله صلّى الله عليه وسلم.(22/53)
(9) ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.
(10) النهى عن إيذاء المؤمنين للنبى صلّى الله عليه وسلم إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه (11) الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شىء إلا الآباء والأبناء والأرقاء.
(12) أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.
(13) تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.
(14) سؤال المشركين عن الساعة متى هى؟
(15) النهى عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبنى إسرائيل الذين آذوا موسى.(22/54)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
سورة سبأ
هى مكية إلا الآية السادسة مثها فمدنية، وآيها أربع وخمسون نزلت بعد لقمان.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إن الصفات التي أجريت على الله في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة.
(2) إنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاء، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحا، وطعنهم على من يقول بالبعث، وقال هنا ما لم يقله هناك.
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
تفسير المفردات
الحمد: هو الثناء على الله بما هو أهله، والحكيم: الذي أحكم أمر الدارين ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة، والخيبر: هو الذي يعلم بواطن الأمور وخوافيها، يلج فى الأرض: أي يدخل فيها، ويعرج: أي يصعد.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الحمد الكامل للمعبود المالك لجميع ما في السموات وما في الأرض دون كل ما يعبدونه ودون كل شىء سواه، إذ لا مالك لشىء من ذلك غيره.(22/55)
والخلاصة- إن له عز وجل جميع ما في السموات وما في الأرض، خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة.
ولما بين اختصاصه بالحمد في الدنيا أعقبه ببيان أن له وحده الحمد في الآخرة فقال:
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي وله الحمد في الآخرة خالصا دون سواه على ما أنعم به فيها كما حكى عن أهلها من قولهم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» وقولهم: «الحمد لله الّذى أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور. الّذى أحلّنا دار المقامة من فضله» .
(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي وهو المدبّر لشئون خلقه على ما تقتضيه الحكمة، الخبير ببواطن الأمور ومكنوناتها.
ثم فصل بعض ما يحيط به علمه من الأمور التي نيطت بها مصالح عباده الدنيوية والأخروية فقال:
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات، وما يخرج منها كالحيوان والنبات والغازات وماء العيون والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين، ومخلّفات الأمم ومصنوعاتهم كمخلفات المصريين القدماء ونقوش آشور وبابل وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم، مما استخرجه علماء العاديات من الأوربيين في القرن الماضي والعصر الحاضر، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدا يدل على أن الشرق كان ذا مدنية وحضارة لا يدانيها أعظم ما يوجد في الغرب الآن في أرقى ممالكه.
(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والأرزاق والمطر والصواعق.
(وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والدخان والطائرات والمطاود الجوية.
(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله، رحيم بعباده فلا يعاجل بعقوبة، غفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.(22/56)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
تفسير المفردات
لا يعزب عنه: أي لا يفوته علمه، مثقال ذرة: أي مقدار أصغر نملة، والكتاب المبين: اللوح المحفوظ، رزق كريم: أي حسن لا تعب فيه ولا منّ عليه، معاجزين:
أي مسابقين يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، رجز: أي عذاب شديد، العزيز:
أي الذي يغلب ولا يغلب، الحميد: أي المحمود في جميع شئونه، وصراطه: هو التوحيد والتقوى.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم، أردف ذلك بيان أن كثيرا منهم ينكرها أشد الإنكار، ويستهزئ بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنا منهم أن هذه خيالات بل أضغاث أحلام، وقد ذكر أن مجيئها ضربة لازب، لتجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ثم أعقب هذا ببيان أن الناس فريقان: مؤمن بآيات ربه يرى أنها الحق(22/57)
وأنها تهدى إلى الصراط المستقيم، ومعاند جاحد بها يسعى في إبطالها، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسّى به نفسه من قبيح الخلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا ولا بعث ولا حساب، إن هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما نحن بمبعوثين.
وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم مؤكدا لهم بطلان ما يدّعون.
(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي قل لهم إنها وربى لآتية لا ريب فيها.
وهذه الآية إحدى آيات ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكره من أهل الشرك والعناد، فإحداهن في سورة يونس «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» وثانيتها فى سورة التغابن «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» وثالثتها ما هنا.
ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم وعظيم الإحاطة بالموجودات مما يؤكد إمكان البعث فقال:
(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شىء في السموات ولا في الأرض من ذرة فما دونها ولا ما فوقها، أين كانت وأين ذهبت، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين، فالعظام وإن تلاشت، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، فيعيدها كما بدأها أول مرة وهو بكل شىء عليم.
ثم بين الحكمة في إعادة الأجسام وقيام الساعة بقوله:(22/58)
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي ببعثهم من قبورهم يوم القيامة، ليثيب الذين آمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه، وعيش هنىء في الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه، والخلاصة- إن الحكمة تقتضى وجودها، وليس هناك مانع منها، فالعلم المحيط بالغيب موجود، فقد وجد المقتضى لوجودها، وارتفع المانع من إتيانها.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي وليجزى الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادا منهم وكفرا، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم وبئس المهاد، لما اجترحوا من السيئات ودسّوا به أنفسهم من قبيح الأعمال.
وإجمال ذلك- إن الساعة آتية لا محالة، لينعم السعداء المؤمنون، ويعذّب الأشقياء الكافرون.
ونحو الآية قوله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وقوله: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» .
ثم استشهد باعتراف أولى العلم ممن آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما بصحة ما أنزل إليك، ليردّ به على أولئك الجهلة الساعين في الآيات الذين أنكروا الساعة فقال:
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب- إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا وقال العالمون من أهل الكتاب ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن يأتى من بعدهم من أمته: إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتا لقيام الساعة ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر- هو الحق الذي لا شك فيه، وأنه هو الذي(22/59)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
يرشد من اتبعه وعمل به إلى سبيل الله الذي لا يغالب ولا يمانع، وهو القاهر لكل شىء والغالب له، وهو المحمود على جميع أقواله وأفعاله وما أنزله من شرع ودين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
تفسير المفردات
تمزيق الشيء: تقطيع أوصاله وجعله قطعا قطعا، يقال ثوب مزيق وممزوق ومتمزّق وممزّق، ومنه قوله:
إذا كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركنى ولما أمزّق
والافتراء: اختلاق الكذب، والجنة: الجنون وزوال العقل، كسفا:
قطعا واحدها كسفة، منيب: أي راجع إلى ربه مطيع له.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم ما قالوا وأكده كل التأكيد، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسّى(22/60)
به نفسه من اجتراح المعاصي وفاسد المعتقدات- أردف ذلك ذكر مقال للكافرين ذكروه تهكما واستهزاء، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد، لعلهم يرجعون عن عنادهم، ويثوبون إلى رشادهم.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال قريش بعضهم لبعض، تعجبا واستهزاء، وتهكما وإنكارا: هل سمعتم برجل يقول: إنا إذا تقطعت أوصالنا، وتفرقت أبداننا، وبليت عظامنا، نرجع كرة أخرى أحياء كما كنا، ونحاسب على أعمالنا، ثم نثاب على الإحسان إحسانا، ويجزى على اجتراح الآثام آلاما، بنار تلظى تشوى الوجوه والأجسام.
وخلاصة ذلك- إنه يقول: إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما، وقطعتكم السباع والطير، ستحيون وتبعثون، ثم تحاسبون على ما فرط منكم من صالح العمل وسيئه ثم قال إن مقالا كهذا لا يصدر إلا من أحد رجلين.
(أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟) أي إن قوله هذا دائر بين أمرين: إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله أنه أوحى إليه ذلك، أو أنه لبّس عليه كما يلبّس على المعتوه والمجنون.
وإجمال ذلك- إنه إما أن يكون مفتريا على الله وإما أن يكون مجنونا.
فرد الله عليهم مقالهم وأثبت لهم ما هو أشد وأنكى فقال:
(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل إن محمدا هو البرّ الرشيد الذي جاء بالحق، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل وأوغلوا في الضلال، وبعدوا(22/61)
عن الإدراك والفهم، وليس هذا إلا الجنون بعينه، وسيؤدى ذلك بهم إلى العذاب، إذ هم قد أنكروا حكمة الله في خلق العالم وكذبوه في وعده ووعيده، وتعرضوا لسخطه.
ثم ذكّرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات فقال:
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد، الجاحدون للبعث بعد الممات فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضى وسمائى محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فيرتدعوا عن جهلهم، ويزدجروا عن تكذيبهم، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفا، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم فعلنا، لكنا نؤخره لحلمنا وعفونا.
وإجمال ذلك- إنه تعالى ذكّرهم بأظهر شىء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا، ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام لا تعجزه إعادة الأجسام، فهى إذا قيست بها كانت كأنها لا شىء كما قال: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» .
وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد.
ثم ذكر ما هو كالعلة في الحث على الاستدلال بذلك، ليزيح إنكارهم بالبعث فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض، لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السموات على ارتفاعها واتساعها، وعلى هذه الأرض على انخفاضها وطولها وعرضها- قادر على إعادة الأجسام، ونشر الرميم(22/62)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
من العظام، كما قال «لخلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون» .
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
تفسير المفردات
فضلا: أي نعمة وإحسانا، أوّبى معه: أي رجّعى معه التسبيح وردّديه، وألنا له الحديد: أي جعلناه في يده كالشمع والعجين يصرّفه كما يشاء من غير نار ولا طرق، وسابغات من السبوغ وهو التمام والكمال: أي دروعا كاملات، قدّر: أي اقتصد، والسرد: النسج: أي اجعل النسج على قدر الحاجة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى الله ورجع إليه- أردف ذلك ذكر بعض من أنابوا إلى ربهم فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين، ومن جملتهم داود عليه السلام فقد جمع الله له النبوة والملك والجنود ذوى العدد والعدد ومنحه الصوت الرخيم، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات، وتقف له الطيور السارحات، وعلمه سرد الدروع لتكون عدّة للمقاتلين وردءا للمجاهدين.(22/63)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي ولقد أعطينا داود منا نعما ومننا فقلنا للجبال وللطير رجّعى معه التسبيح وردّ ديه إذا سبّح، وذلك بأن تحمله عليه إذا تأمل عجائبها فهى له مذكّرات كما يذكّر المسبّح مسبحا آخر (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي وجعلنا الحديد في يده لينا يسهل تصويره وتصريفه كما يشاء، فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم وأحكم الأوضاع، فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة فلا هى بالضيقة فتضعف ولا تؤدى وظيفتها لدى الكر والفر والشد والجذب، ولا هى بالواسعة التي ربما ينال صاحبها من خلالها الأذى، وهذا تعليم من الله له في إجادة نسج الدروع.
قال قتادة: إن داود أول من عملها حلقا وكانت قبل ذلك صفائح فكانت ثقالا (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله فأجازيكم كفاء ما عملتم.
ثم علل هذا الأمر بقوله:
(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنى مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى على شىء منها.
وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل والإخلاص فيه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)(22/64)
تفسير المفردات
غدوّها شهر: أي جريانها بالغداة مسيرة شهر، ورواحها شهر: أي وجريانها بالعشي مسيرة شهر، وأسلنا: أي أذبنا، والقطر: النحاس المذاب، ومن يزغ منهم عن أمرنا:
ى ومن يعدل عن طاعة سليمان، عذاب السعير: أي العذاب الشديد في الدنيا، والمحاريب واحدها محراب: وهو كل موضع مرتفع قال الشاعر:
وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال
والتماثيل: الصور، والجفان واحدها جفنة: وهى القصعة، والجوابى واحدها جابية وهى الحوض الكبير، وقدور: واحدها قدر، وراسيات: أي ثابتات على أثافيها لا تتحرك ولا تنزل عن أماكنها لعظمها، الشكور: الباذل وسعه في الشكر قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه به اعترافا واعتقادا وعملا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما منّ به على داود من النبوة والملك- أردف ذلك ذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح، فتجرى من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد وتسخير الجن عملة بين يديه يعملون له شتى المصنوعات من قصور شامخات وصور من نحاس وجفان كبيرة كالأحواض وقدور لا تتحرك لعظمها.
إذ كل منهما أناب إلى ربه، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون.(22/65)
الإيضاح
عدّد سبحانه ما أنعم به على سليمان عليه السلام وهو أمور:
(1) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي وسخرنا لسليمان الريح تجرى بالغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، وتجرى بالرواح من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر قال قتادة تفسيرا للآية: كانت الريح تقطع به عليه السلام من الغدو إلى الزوال مسيرة شهر ومن الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كذلك.
(2) (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له النحاس كما ألنا الحديد لداود، فكان يعمل منه أعماله وهو بارد دون حاجة إلى نار، وقد سال من معدنه فنبع نبوع الماء من الينبوع فلذلك سماه عينا.
(3) (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي وسخرنا له من الجن من يبنى له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه عذابا أليما في الدنيا.
وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المبانى الشاهقة، والقصور العظيمة، والتماثيل البديعة التي فصلها سبحانه بقوله:
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة، والصور المختلفة، من النحاس والزجاج والرخام ونحوها، والجفان الكبيرة التي تكفى لعشرات الناس، قال الأعشى يمدح آل جفنة من الغساسنة بالشام.(22/66)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنة ... كجابية الشيخ العراقىّ تفهق
والقدور الثوابت في أماكنها التي لا تتحرك ولا تتحول لكبرها وعظمها.
(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي وقلنا لهم: اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه التي أنعمها عليكم في الدين والدنيا
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال «ثلاث من أوتيهن فقد أوتى مثل ما أوتى آل داود، فقلنا ما هن؟ فقال العدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله فى السرّ والعلانية» أخرجه الترمذي.
والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول ويكون بالنية كما قال:
أفادتكم النعماء منى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجبا
ثم ذكر السبب في طلب الشكر منهم فقال:
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي وقليل من عبادى من يطيعنى شكرا لنعمتى، فيصرف ما أنعمت به عليه فيما يرضينى، وقد قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
ونحو الآية قوله: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» .
وعن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم في صحيحه.
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)(22/67)
تفسير المفردات
قضينا عليه: أي حكمنا عليه، دابة الأرض: هى الأرضة (بفتحات) التي تأكل الخشب ونحوها، والمنسأة: العصا من نسأت البعير إذا طردته، قال الشاعر:
ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا
لأنها يطرد بها، وخر: سقط، وما لبثوا: أي ما أقاموا، فى العذاب المهين: أي الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه عظمة سليمان وتسخيره الريح والجن- أردف ذلك بيان أنه لم ينج أحد من الموت بل قضى عليه به، تنبيها للخلق إلى أن الموت لا بد منه ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة.
الإيضاح
المعنى- إنا لما قضينا على سليمان بالموت لم يدل الجن على موته إلا الأرضة التي وقعت في عصاه من داخلها إذ بينما هو متكىء عليها وقد وافاه القضاء المحتوم انكسرت فسقط على الأرض واستبان للجن أنهم لا يعلمون الغيب كما كانوا يزعمون، ولو علموه ما قاموا في الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها ظانين أنه حى.
والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغى الركون إليه، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما(22/68)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
هو متوكىء عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجرّ على الأرض فعلمت الجن كذبها، إذ كانت تدعى أنها تعلم الغيب، إذ لو علمته ما لبثت هق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلّفت بها.
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
تفسير المفردات
سبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: والمراد به هنا القبيلة، والمسكن موضع السكنى وهو مأرب (كمنزل) من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، آية: أي علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب، جنتان: أي بستانان، فأعرضوا: أي انصرفوا عن شكر هذه النعم، والعرم: واحدها عرمة وهى الحجارة المركومة كخزان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبى النيل، وكانت له ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، والمطر يجتمع أمام ذلك السد، فيسقون من الباب الأعلى ثم الذي يليه ثم من الأسفل، والأكل:
الثمر، والخمط: كل شجرة مرة ذات شوك، والأثل. الطرفاء، وهو المعروف في مصر (بالأثل) والسدر: شجر النبق.(22/69)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جل وعلا حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه- أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بنعمه، المعرضين عن ذكره وشكره من عظيم العقاب، موعظة لقريش وتحذ المن يكفر بالنعم، ويعرض عن المنعم.
الإيضاح
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن فى نعمة عظيمة وسعة في الرزق، وكانت لهم حدائق غناء، وبساتين فيحاء، عن يمين الوادي وشماله، وقد أرسل الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه بتوحيده وعبادته كفاء ما أنعم عليهم بهذه المنن، وأحسن إليهم بتلك النعم، فكانوا كذلك إلى حين، ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل عليهم فتفرقوا في البلاد شذر مذر، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أي فأعرضوا عن طاعة ربهم، وصدوا عن اتباع مادعتهم إليه الرسل، فأرسل الله عليهم سيلا كثيرا ملأ الوادي وكسر السد وخرّبه وذهب بالجنان والبساتين، وأهلك الحرث والنسل، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وبدّلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها كالخمط والأثل وقليل من النبق.
ثم بين سبب ذلك العقاب بقوله:
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي وجازيناهم ذلك الجزاء الفظيع من جراء كفرهم بربهم وجحودهم بنعمه، وتكذيبهم بالحق، وعدو لهم(22/70)
عنه إلى الباطل، وما نجازى مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا عظيم الكفران للنعم، الجحود للفصل والمنن.
سد مأرب- سد العرم
وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة. وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه (وصف جزيرة العرب) قال: فى الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هى شعاب من جبل السراة الشهير، تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقي وهو أعظم أودية الشرق، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول وانحدرت حتى تنتهى أخيرا إلى وادي آذنة، وهو يعلو سطح البحر بنحو 1100 متر، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهى إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات، هو مضيق بين جبلين يقال لكل منهما بلن، أحدهما بلن الأيمن وثانيهما بلن الأيسر والمسافة بينهما ستمائة ذراع يجرى السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي في وادي أذنة.
وقد اختار السبئيون المضيق بين جبلى بلن وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف بسد مأرب أو بسد العرم، لأنه لا أنهار عندهم، وإنما يستقى أهلها من السيول التي تتجمع من المطر، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر ظمئوا وجفّت أغراسهم، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى فنالهم منه أذى كثير.
وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو 3000 ميل مربع كانت صحراء جرداء قاحلة فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضا وبساتين على سفحى الجبلين وهى المعبر عنها بالجنتين الجنة اليمنى والجنة اليسرى اهـ بتصرف.
وقد ظل الباحثون والمنقبون في العصر الحديث في شك من أمر هذا السد حتى(22/71)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
تمكن المستعرب الفرنسى أرنو من الوصول إلى مأرب سنة 1843 وشاهد آثاره ورسم له مصورا نشر في المجلة الفرنسية سنة 1874 وزار مأرب بعده هاليفى وغلا زر ووافقاه فيما قال وصادقاه فيما وصف وهو يطابق من وجوه كثيرة ما قاله الهمداني فى كتابه ثم عثروا فيما بعد على نقوش كتابية في خرائب السد وغيرها تحققوا بها صدق خبره.
قال الأصفهانى: إن السد تهدم قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، وقال ياقوت:
إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد، وقال ابن خلدون: إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
تفسير المفردات
القرى التي بارك فيها: هى قرى الشام، قرى ظاهرة: أي مرتفعة على الآكام وهى أصح القرى، وقدرنا فيها السير: أي كانت القرى على مقادير للراحل، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى حين الظهيرة، ومن سار من بعد الظهر وصل إلى أخرى حين الغروب، فلا يحتاج إلى حمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ولا سبع، آمنين: أي من كل ما تكرهون، وظلموا أنفسهم لأنهم بطروا النعمة، والأحاديث: واحدها أحدوثة وهى ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، ومزقناهم كل ممزق: أي وفرقناهم كل تفريق، الصبّار: كثير الصبر(22/72)
عن الشهوات ودواعى الهوى وعلى مشاق الطاعات. والشكور: أي كثير الشكران على النعم.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه ما أوتوا من النعم في مساكنهم، ثم كفرانهم بها، وما جوزوا به من الخراب والدمار- قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، ثم جحودهم بها، ثم ماحاق بهم بسبب ذلك.
الإيضاح
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالتوسعة على أهلها قرى متواصلة يظهر بعضها لبعض، لأنها مبنية على آكام عالية.
(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا بين بعضها وبعض مقادير متناسبة بحيث يقيل الغادي في قرية، ويبيت الرائح في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وهو لا يحمل معه زادا ولا ماء.
(سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا في هذه القرى التي بين قراكم وقرى الشام التي باركنا فيها ليالى وأياما وأنتم آمنون لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يبطش بكم، بل تغدون فتقيلون، وتروحون فتبيتون في قرية ذات جنان ونهر.
وخلاصة هذا- إنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنّى رغد في بلاد مرضية وأماكن آمنة وقرى متواصلة، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، فهو يقيل في قرية ويبيت فى أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم.(22/73)
ثم ذكر أنهم بطروا وملّوا تلك النعم وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنوا إسرائيل فطلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار، ليظهر القادرون منهم الأزواد والرواحل تكبرا وفخرا على العاجزين كما حكى سبحانه عنهم بقوله:
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز، لنركب فيها الرواحل، ونتزود معنا فيها الأزواد، فأجاب الله طلبهم وعاقبهم على بطرهم بالنعمة كما قال:
(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ قد عرّضوها للسخط والعذاب، بغمط النعمة وعدم الوفاء بشكرها.
ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال:
(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها ويعتبرون بأمرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنىّ وصاروا مضرب الأمثال فقيل للقوم يتفرقون تفرقوا أيدى سبأ، فنزل آل جفنة ابن عمرو الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت أزد السّراة السّراة، ونزلت أزد عمان عمانا ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، بعد النعمة والعافية، عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام- لعبرة لكل عبد صبار على المصايب، شكور على النعم.
روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شىء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته»
وكان مطرّف بن الشّخّير يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر.(22/74)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
تفسير المفردات
صدق عليهم إبليس ظنه: أي وجد ظنه فيهم صادقا، لانهما كهم في الشهوات واستفراغ الجهد في اللذات، سلطان: أي تسلط واستغواء بالوسوسة، حفيظ: أي وكيل قائم على شئون خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته قصص سبأ، وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان- أردف ذلك الإخبار بأنهم صدّقوا ظنّ إبليس فيهم وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال، إذ تسلط عليهم وانقادوا إلى وسوسته، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم كما قال سبحانه «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .
الإيضاح
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط عقوبة منالهم- ظنا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم تحقق صدق ظنه فيهم، إلا فريقا من المؤمنين ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة فقال:(22/75)
(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم ليظهر حال من يؤمن بالآخرة ويصدق بالثواب والعقاب ممن هو منها فى شك، فلا يوقن بمعاد، ولا يصدق بثواب ولا عقاب.
قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شىء، وما كان إلا غرورا وأمانىّ دعاهم إليها فأجابوه.
وخلاصة ذلك: لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولكنى أسلطه عليهم كما أسلط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة، فإذا حل الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض وبقي من هو قادر على المقاومة ولديه قوة المناعة، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها، ومن انقاد لها فلا يلومنّ إلا نفسه وهو المذنب وحده، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصايب وآلام يثبت لها ذوو العزيمة الصادقة، ولا يضطرب حين حلولها إلا الضعيف الذي ليس له جلد ولا صبر.
(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم، لا يعزب عن علمه شىء، وهو يجازيهم جميعا يوم القيامة بما كسبوا فى الدنيا من خير أو شر، فمن أخبت لله وأناب إليه لاقى من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن دسّى نفسه الأمارة بالسوء وانهمك فى شهواته لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.(22/76)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
تفسير المفردات
ادعوا: أي نادوا، زعمتم: أي زعمتموهم آلهة، من شرك: أي شركة، والظهير:
المعين، والتفزيع: إزالة الفزع، وهو انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزت قدرته ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل- أعقب ذلك بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين من قومه تهكما بهم وتعجبا من حالهم: ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء لله، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام، فإن لم يستطيعوا ذلك فاعلموا أنهم مبطلون.
ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعا للعابد يخشى بطشه وسطوته، وهؤلاء ليس لهم شىء من ذلك، إذ لا تصرف لهم في شىء في السموات والأرض لا استقلالا ولا شركة، ولا هم معينون للخالق فيهما، ولا تنفع شفاعتهم لديه، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم.
الإيضاح
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخا لهم ومبينا لهم سوء ما يصنعون: ادعوا هؤلاء الأصنام في مهامّ أموركم ليدفعوا الضر عنكم أو يجلبوا النفع لكم، لعلهم يستجيبون لكم إن كان ذلك فى مكنتهم، وبيدهم مقاليد أموركم.(22/77)
ثم أبان لهم عظيم خطئهم وكبير جرمهم فقال:
(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي هؤلاء الآلهة لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع أو يخشى منهم ضر.
ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» .
(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي لا هم يملكون مثقال ذرة فيهما على سبيل الشركة والمراد أنهم لا يملكون شيئا لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الشركة للخالق لهما.
(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي وما لله من الآلهة التي يدعون من دونه معين على خلق شىء من ذلك، ولا على حفظه.
(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى إذ لا شفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع، وهو لا يأذن أحدا أن يشفع لهؤلاء الكافرين كما قال تعالى: «لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» . والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدا.
ثم ذكر ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة فقال:
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا؟ قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة وجلين حتى إذا أذن للشافعين وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة؟ قالوا قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
والآيات تدل على أن المشفوع لهم هم المؤمنون، والكافرون بمعزل عن موقف الاستشفاع.
والخلاصة- إن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين(22/78)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة.
ثم ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون وقصور كل ما سواه فقال:
(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وهو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه فى ذلك أحد من خلقه، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه.
وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم بالشفاعة، وفيه أيضا ثناء على الله كما لا يخفى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
تفسير المفردات
أجرمنا: أي وقعنا في الجرم، وهو الذنب، ويفتح: أي يحكم، والفتاح: الحاكم أرونى الذين ألحقتم به شركاء: أي أعلمونى بالدليل وجه الشركة، كلا: كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب.
المعنى الجملي
بعد أن سلب سبحانه عن شركائهم ملك شىء من الأكوان، وأثبت أن ذلك له وحده- أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية، وأن يخبر بأن أحد الفريقين الموحدين للرازق والمشركين به الجماد- مبطل والآخر(22/79)
محق، وقد قام الدليل على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك، وأن يقول لهم: لا تؤاخذون بما نعمل ولا نؤاخذ بما تعملون، وأن يقول لهم: إن ربنا هو الذي يحكم بيننا يوم القيامة وهو الحكيم العليم بجلائل الأمور ودقائقها، وأن يقول لهم:
أعلمونى عما ألحقتم به من الشركاء، هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلا بل الله هو الخالق الرازق الغالب على أمره، الحكيم في كل ما يفعل.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم، حياة لحروثكم وصلاحا لمعايشكم، وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم- ومن الأرض بإخراج أقواتكم وأقوات أنعامكم؟
فإن هم قالوا لا ندرى فأجبهم:
(قُلِ اللَّهُ) هو الذي يرزقكم، إذ لا جواب عندهم سواه في قرارة أنفسهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادا مع علمهم بصحته، ولأنهم لو تفوّهوا به لقيل لهم:
فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ كما قال سبحانه تبكيتا لهم: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟» .
ثم أمر رسوله أن يقول لهم بعد الإلزام الذي ليس بأقل من الاعتراف بأنفسهم.
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإن أحد الفريقين منا معشر الذين يوحدون الرزاق لمن في السموات والأرض، ويفردونه بالعبادة، والذين يشركون به الجماد العاجز عن دفع الضر وجلب النفع- لعلى الهدى أو في الضلال البين الذي لا شك فيه.(22/80)
وهذا أسلوب من الكلام المنصف تستعمله العرب في محاورتها لإرخاء العنان للمخاطب حتى إذا سمعه الموافق أو المخالف قال لمن خوطب به لقد أنصفك صاحبك.
ألا ترى الرجل يقول لصاحبه: قد علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب، وعليه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلّم:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
وفي ذكر هذا بعد ما تقدمه من الحجج الظاهرة على التوحيد، دلاله واضحة على تمييز المهتدى من الضالّ، والإيماء أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينى.
ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة، فأسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل للمخاطبين فقال:
(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي قل لهؤلاء المشركين:
أنتم لا تسألون عما اكتسبنا من الآثام وارتكبنا من الذنوب، ونحن لا نسأل عما تعملون من عمل- خيرا كان أو شرا.
ونحو الآية قوله: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .
ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم إذ أمر رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي قل لهم: إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب ثم يقضى بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وهنالك يجزى كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية كما قال: «ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون.(22/81)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهم في روضة يحبرون. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» .
ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتا لهم فقال:
(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل لهم: ما الذي عراكم ودخل فى أذهانكم من الشبه حتى جعلتم هؤلاء أندادا لله وشركاء، وبأى صفة ألحقتموهم به فى استحقاق العبادة؟
ثم نبه إلى فاحش غلطهم، وعظيم خطئهم بقوله:
(كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليس الأمر كما وصفتم، فلا نظير له تعالى ولا ندّ، بل هو الله الواحد الأحد ذو العزة التي بها قهر كل شىء، وهو الحكيم فى أفعاله وأقواله، وفيما شرع لهم من الدين الحق الذي يسعد من اعتنقه في حياتيه الأولى والآخرة.
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وضرب لذلك الأمثال، حتى لم يبق بعدها زيادة لمستزيد- شرع يذكر الرسالة ويبين أنها عامة للناس جميعا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيحملهم ذلك على مخالفتك، ثم ذكر سؤال منكرى البعث عن الساعة استهزاء بها، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال.(22/82)
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة بل أرسلناك إلى الخلق جميعا عربهم وعجمهم، أسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاعنى بالثواب العظيم، ومنذرا من عصانى بالعذاب الأليم.
ونحو الآية قوله: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وقوله:
«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم فيه من الغى والضلال.
ونحو الآية قوله: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» وقوله: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء لفرط تعنتهم وجهلهم: متى هذا الذي توعدوننا به مبشرين ومنذرين إن كنتم أيها الرسول والمؤمنين صادقين فيما تقولون.
ونحو الآية قوله: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» .
ثم أمر رسوله أن يجيبهم عن سؤالهم فقال:
(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء فتنظروا للتوبة والإنابة، ولا تستقدمون قبله للعذاب، لأن الله جعل لكم أجلا لا تعدونه.
والخلاصة- دعوا السؤال عن وقت مجىء الساعة، فإنه كائن لا محالة، وسلوا عن أحوال أنفسكم حين تكونون مبهوتين متحيرين من هول ما تشاهدون فهذا أليق بكم.(22/83)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
المعنى الجملي
لما ذكر الأصول الثلاثة وهى التوحيد والرسالة والحشر وكانوا كافرين بها جميعا- ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار وما يسرّونه من الحسرة والندامة حين يرون العذاب، ثم أعقبه بذكر ما سيحيق بهم من الإهانة بوضع الأغلال في الأعناق، وأن هذا جزاء لهم على ما عملوا من سيىء الأعمال، وما دسوا به أنفسهم من قبيح الخلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وقال قوم من مشركى العرب: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته، ولا بما اشتملت(22/84)
عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء.
روى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم فأغضبهم ذلك وقالوا ما قالوا:
ثم ذكر ما يكون من حوار بين ضاليهم ومضليهم حين الوقوف بين يدى الملك الديان للحساب والجزاء فقال:
(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين وما هم فيه من مهانة وذلّة، يحاور بعضهم بعضا، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء الأعمال، والسبب فيمن أوقعهم في هذا النكال والوبال- لرأيت العجب العاجب، والمنظر المخزى الذي يستكين منه المرء خجلا ثم فصل ذلك الحوار فقال:
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي يقول الأتباع للذين استكبروا في الدنيا واستتبعوهم في الغى والضلال، لولا أنتم أيها السادة صدد نمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول.
ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله:
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي قال الذين استكبروا في الدنيا وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا فكانوا أتباعا لأهل الضلال منهم: أنحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند الله؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان.
والخلاصة- إننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه، بل كنتم مجرمين، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى.
ثم حكى رد المستضعفين على قول المستكبرين بقوله:(22/85)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي وقال الأتباع للرؤساء في الضلال: صدنا مكركم بنا وخداعكم فى الليل والنهار حين كنتم تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أمثالا وأشباها في العبادة وإجمال ذلك- ما صدنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار حتى أزلتمونا عن عبادة الله، فأنتم كنتم تغروننا وتمنوننا وتخبروننا أننا على الهدى وأنّا على شىء، وكل ذلك باطل وكذب.
ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم فقال:
(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين- الندم على ما فرط منهم في الدنيا حين رأوا العذاب، إذ هم بهتوا مما عاينوا، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة.
والخلاصة- إنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة الله في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعده لهم.
(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجعلنا أغلال الحديد في أعناق هؤلاء في النار.
ثم ذكر أنه لا جزاء لأمثالهم إلا هذا فقال:
(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي وما يفعل ذلك بهم إلا جزاء لما اجترحوا من الكفر والآثام «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» وقد قالوا في أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب:
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)(22/86)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قول المشركين لرسوله لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير كما قال: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» - سلاه على ما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه له وعداوتهم إياه بالتأسى بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعا من بينهم، فما من نبى بعث في قرية إلا كذّبه مترفوها واتبعه ضعفاؤها كما قال: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها» ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به، فما هم فيه من مال وولد برهان ماطع على محبة الله إياهم، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقنيره كما يكون للبر يكون للفاجر، لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة، فمن أحسن استعمالها استفاد منها، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان وهم في أمن ودعة، وأن الذين يصدون عن سبيل الله في نار جهنم يصلونها أبدا، ثم وعد المنفقين فى سبيل الله بالإخلاف، وأوعد الممسكين بالإتلاف.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا إلا قال(22/87)
كبراؤها وأولو النعمة والثروة فيها: إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد.
وليس في ذلك من عجب، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة، فالضدان لا يجتمعان: انغماس في الشهوة وعلم وحكمة، ثروة مادية وثروة روحية.
ثم ذكر تفاخرهم بما هم فيه من بسطة العيش، وكثرة الولد وأن ذلك سيكون سبب نجاتهم من العذاب في الآخرة بقوله:
(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي وقال المستكبرون فى كل قرية أرسلنا فيها نذيرا: إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة في الأموال، فنحن لا نعذب، لأن ذلك دليل على محبة الله لنا، وعنايته بنا، وأنه ما كان ليعطينا ما أعطانا ثم يعذبنا في الآخرة.
هيهات هيهات، إنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا، وأخطأوا القياس «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» .
وخلاصة آرائهم- نحن في نعمة لا تشوبها نقمة، وذلك دليل على كرامتنا عند الله ورضاه عنا، إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لما يرضيه- لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش وكثرة الأولاد.
فرد الله عليهم مقالتهم آمرا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل لهم أيها الرسول: إن ربى يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه ويضيّق على من يشاء، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك، ولا لخير فيه ولا زلفى استحق بها ذلك، ولا لبغض منه لمن قدر عليه ولا لمقت منه له، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها(22/88)
لكسب المال في هذه الحياة، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغى. ومن أخطأها وضل لم ينل شيئا من حظوظها، ولا رابطة بين الثراء ومحبة الله، ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس الأمر، وقد يوسع على المطيع والعاصي تارة ويضيق عليهما أخرى- يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها وربما خفى علينا أمرها، ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا لا ختصّ به المطيع، ولو كان التضييق دليل الإهانة لا ختص به العاصي، ومن ثم جاء
قوله صلّى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما أعطى الكافر منها شيئا» .
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله يفعل ذلك بحسب السنن التي وضعها فى الكون، بل يظنون أن ذلك لمحبة منه لمن بسط له، ومقت منه لمن قدر عليه، حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس والتضييق منه على آخرين، ومن ثمّ قال ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصيّر العالم التحرير زنديقا
ثم بين سبحانه لعباده أن الزلفى عنده ليست بكثرة المال والولد، بل بالتقوى وصالح العمل، فقال:
(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانهم وعملهم يقربانهم منى، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها أو أكثر إلى سبعمائة ضعف، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.
روى عن على كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:(22/89)
«إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابى لمن هى؟ قال لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام» .
ثم بين حال المسيء الذي يبعده ماله وولده من الله فقال:
(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي والذين يصدّون عن آيات كتابنا بالطعن فيها يبتغون إبطالها، ويريدون إطفاء أنوارها ظانين أنهم يفوتوننا وأننا لن نقدر عليهم، فأولئك في عذاب جهنم يوم القيامة تحضرهم الزبانية إليها ولا يجدون عنها محيصا، ولا يجديهم نفعا ما عوّلوا عليه من شفاعة الأصنام والأوثان.
ثم زهّد عباده في الدنيا وحضهم على التقرب إليه بالإنفاق فقال:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي قل لهم أيها الرسول:
إن ربى يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينا، ويضيّقه عليه حينا آخر، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيله وتقرّبوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته.
(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي وما أنفقتم من شىء فيما أمركم به ربكم وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم ويعوضكم بدلا منه في الدنيا مالا وفي الآخرة ثوابا، كلّ خلف دونه،
وفي الحديث: «أنفق بلالا، ولا تخش من ذى العرش إقلالا»
وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة إذ قال: إذا كان لأحدكم شىء فليقتصد، ولا يتأول هذه الآية: «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له منه قليل، وهو ينفق نفقة الموسّع عليه.
(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فترزقون من حيث لا تحتسبون ولا رازق غيره
روى الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» .(22/90)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن حال النبي صلّى الله عليه وسلم مع قومه ليس بدعا بين الرسل، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم، فكلّهم كذّبوا وكلهم أوذوا في سبيل الله ثم أعقب ذلك بأن رد عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة الله، ولا سخطه- أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم: هل هؤلاء كانوا يعبدونكم؟ فيجيبون بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم، ثم بين أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام، ويقال لهم على طريق التوبيخ والتهكم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك: يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم ثم تسأل الملائكة أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟
وهذا سؤال وجه إلى الملائكة ظاهرا، والمراد منه تقريع المشركين وتيئيسهم مما علّقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم فهو وارد على نهج قولهم: إياك أعنى واسمعي يا جاره،(22/91)
وعلى نهج قوله تعالى لعيسى «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ؟» وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى برآء مما وجّه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، ولكن جاء ليقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون توبيخهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم.
(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي قالت الملائكة: تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله، نحن عبيدك نبرأ إليك من هؤلاء وأنت الذي نواليه دونهم، فلا موالاة بيننا وبينهم.
والخلاصة- إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم.
ثم بين أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله:
(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي بل هم كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون، إذ كانوا يعبدون غير الله بوسوستهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجتهم كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة.
ونحو الآية قوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً: لَعَنَهُ اللَّهُ» .
ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم زادهم أسى وحسرة فقال:
(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم، لأن الأمر في ذلك اليوم لله الواحد القهار، لا يملك أحد فيه منفعة لأحد ولا مضرة له.
(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي ونقول المشركين زجرا لهم وتأنيبا: ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم،(22/92)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
فهأنتم أولاء قد وردتموها وسمعتم شهيقها وزفيرها، وليس الخبر كالخبر، ولا السماع كالمعاينة، فعضّوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم، فجنيتم صابه وعلقمه فى أخراكم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة وأنه يقال لهم يومئذ: ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون- أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب(22/93)
وهو صدهم عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم بقولهم في القرآن: إنه إفك مفترى، وإنه سحر واضح لا شك فيه، وقد كان فيما حلّ بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم فأخذوا أخذ عزيز مقتدر، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه وأوصاهم بأن يشمّروا عن ساعد الجدّ طلبا للحق متفرقين اثنين وواحدا واحدا ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون، بل هو نذير لهم يخوّفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم فى دعوته، فهو لا يطلب منهم أجرا ولا يريد منهم جزاء، وإنما مثوبته عند ربه المطّلع على كل شىء ثم أبان لهم أن الحق قد وضح، وجاءت أعلام الشريعة كفلق الصبح نورا وضياء، ولا بقاء للباطل ولا قرار له إذا ظهر نور الحق «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» .
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك، قالوا إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدّعى، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل.
ثم زادوا إنكارهم توكيدا وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم.
(وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقالوا إن القرآن الذي يدّعى محمد أنه وحي من عند ربه- كذب مختلق من عنده، وقد نسبه إلى ربه ترويجا للدعوة، واجتلابا لقلوب الكافة.
ثم شددوا في الإنكار فجعلوه سحرا بيّنا لا شك فيه عندهم كما حكى عنهم بقوله:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال المشركون(22/94)
لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم من عند ربه مشتملا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم وغيّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد- ما هذا إلا سحر بيّن لا خفاء فيه عندنا، وقد أعمى أبصارنا وأضل أحلامنا فلم نستطع أن ندفعه بكل سبيل، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها ويداخل النفوس ويستحوذ عليها، ونحن في حيرة من أمره لا نجد طريقا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها وهى بين أيدينا.
والخلاصة- إنهم نفوا أن يكون وحيا من عند ربه وجعلوه إما كلاما مفترى جاء به لترويج دعوته، وإما سحرا فعله ليخلب به العقول ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه عن الآباء والأجداد.
فرد الله سبحانه عليهم منكرا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق بقوله:
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي إن الدين الصحيح إنما يأتى بوحي من عند الله وبكتاب ينزل على الرسول ليبلغه للناس ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، وهم أمة أميّة لم يأتهم كتاب قبل القرآن، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله، وينفى توحيد الخالق حتى يكون لهم معذرة فيما يدّعون، وحجة على صحة ما يعتقدون؟.
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم والتجهيل لهم:
ونحو الآية قوله: «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» وقوله: «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» .
وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم لو كانوا يعقلون، سلك بهم سبيل التهديد والوعيد وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم ولم تجدها الآيات والنذر، فحل بها بأس الله وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب فقال:(22/95)
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كان لهم فيمن قبلهم من الأمم البائدة والقرون الخالية كقوم نوخ وعاد وثمود، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره، فكذبوا رسلى حين أرسلوا إليهم فخل بهم النكال والوبال ودمّروا تدميرا، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم، فى غدوّهم ورواحهم كما قال في آية أخرى: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ»
فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.
والخلاصة- إن فيما حل بمن قبلهم من المثلاث نكالا لهم على تكذيبهم رسلهم- لعبرة لهم لو كانوا يعقلون.
ثم أطال لهم الحبل ومدّ لهم الباع وأنصفهم في الخصومة فقال:
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي قل لهم: إنى أرشدكم أيها القوم وأنصح لكم ألا تبادروا بالتكذيب عنادا واستكبارا، بل اتئدوا وتفكروا مليا فيما دعوتكم إليه وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصا، إما واحدا فواحدا، وإما اثنين اثنين لعلكم تصلون إلى الحق وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذا.
وإنما طلب إليهم التفكر وهم متفرقون اثنين اثنين أو واحدا فواحدا، لأن فى الازدحام تهويش الخاطر والمنع من إطالة التفكير وتخليط الكلام وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة ما يؤيد صدق هذا.
ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدى بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح(22/96)
(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إذا ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم لا يتصدى لادّعائه إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالى بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبى مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.
وإنكم قد علمتم أن محمدا أرجح الناس عقلا، وأصدق الناس قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي فوجب عليكم أن تصدقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك.
وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم وعلموا ماله من صفات الفضل والنّبل وكرم الخلال مما لم يتهيأ لأحد من أترابه ولداته.
وإذ قد استبان بالدليل أنه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدعى، اتضح أنه صادق كما قال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ما هذا الرسول بالكاذب، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه، لكفركم به وعصيانكم أمره.
وإنما جعل إنذاره بين يدى العذاب، لأن محمدا مبعوث قرب الساعة كما جاء
فى الحديث «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقنى» .
وروى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «صعد النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال:
أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدقونى؟ قالوا بلى، قال صلّى الله عليه وسلم: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب:
تبّا لك. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .
ولما نفى عن رسوله الجنون وأثبت له النبوة- ذكر وجها آخر يؤكد ذلك فقال:(22/97)
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل لهم: إنى لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة ربى إليكم، ونصحى لكم وأمرى بعبادته، إنما أطلب ثواب ذلك من الله، وهو العليم بجميع الأشياء، فيعلم صدقى وخلوص نيّتى.
وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرا دنيويا، ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له وقد صدع به «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» وبهذا ثبت أنه نبىّ.
ولما استبان أنه ليس بالمجنون ولا هو بطالب الدنيا- علم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء وقذف به الوحى إليه، وأمره أن يبلغه إليهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) القذف الرمي بدفع شديد: أي قل لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إن ربى يلقى الوحى وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العليم بمن يصطفيهم كما قال سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» وقال: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» .
وقد يكون المعنى كما روى عن ابن عباس: إن ربى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله ويزيل آثاره ويشيع الحق في الآفاق.
ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإسلام ونشره بين الناس وتبلج نوره فى الكون، ونحوه «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» .
ثم أكد ما سلف بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يخبر قومه بأن الإسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول فقال:
(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل جاء الإسلام، ورفعت رايته، وعلا ذكره، وذهب الباطل، فلم تبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده.(22/98)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وأصله في هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء، ولا إعادة أي فعله ثانيا، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدى ولا يعيد
روى البخاري ومسلم «أنه لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً- قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» .
ولما سد عليهم مسالك القول، لم يبق إلا أن يقولوا عنادا: إنه قد عرض له ما أضله عن محجة الصواب، فأمر رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي قل أيها الرسول لقومك: إن ضللت عن الهدى وسلكت غير طريق الحق فإنما ضرّ ذلك على نفسى، وإن استقمت على الحق فبوحى الله إلىّ وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى، إنه سميع لما أقول وتقولون، ويجازى كلا بما يستحق، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
روى الشيخان عن أبى موسى الأشعري قال: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا» .
والخلاصة- إن الخير كله من الله وفيما أنزله علىّ من الوحى والحق المبين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)(22/99)
تفسير المفردات
الفزع: انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف، التناوش: التناول السهل لشىء قريب يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته، ناشه ينوشه نوشا، وأنشدوا لغيلان بن حريث في وصف الإبل:
فهى تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
يريد أنها عالية الأجسام طويلة الأعناق، يقذفون بالغيب: أي يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه: هو يقذف بالغيب.
بأشياعهم: أي أشباههم ونظرائهم في الكفر جمع شيع، وشيع جمع شيعة وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأى بعض فهم شيع، مريب: أي موقع في الريبة والظّنة، يقال أراب الرجل: أي صار ذا ريبة فهو مريب.
المعنى الجملي
بعد أن أبطل سبحانه شبههم وردّ عليهم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد- هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون آمنا بالرسول، وأنّى لهم ذلك وقد فات الأوان؟ وقد كان ذلك فى مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى، وتلك سنة الله في أشباههم من قبل.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أي ولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد- لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه، فهم لا يمكّنون من الهرب، ولا يفوتهم ذلك العذاب ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه.(22/100)
(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي وأخذوا حين الفزع من الموقف إلى النار ولم يمكّنوا أن يمعنوا في الهرب.
(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وقالوا حينئذ: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنّى لهم ذلك وقد صاروا بعيدين عن قبول الإيمان؟ إذ هذه الدار ليست أهلا لقبول التكاليف من الإيمان بالله والعمل الصالح.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» .
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي وكيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل؟.
(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وهم قد كانوا يرجمون بظنون لا مستند لهم فيها، فيتكلمون في الرسول بمطاعن ليس لها ما يؤيدها، فتارة يقولون إنه شاعر، وأخرى إنه كاهن، وثالثة إنه ساحر، إلى نحو ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث والنشور والحساب والجزاء.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي وحيل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعلموا صالحا كما قال: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» .
ثم بين أن هذه سنة الله في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم فقال:
(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذبت رسلها فتمنّوا حين رأوا بأس الله أن لو آمنوا ولكن لم يقبل منهم.
ثم علل عدم قبول إيمانهم ووصولهم إلى بغيتهم حينئذ بقوله:
(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء، وقد تغلغل الشك في قلوبهم حتى صاروا لا يطمئنون إلى شىء مما جاءوا به.(22/101)
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) حمد الله والثناء عليه بما هو أهله.
(2) مقال المشركين في إنكار البعث والرد عليهم بأنه آت لا شك فيه.
(3) الاستهزاء بالرسول وحكمهم عليه بأنه إما مفتر وإما مجنون.
(4) النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام.
(5) ما كان لسبأ من النعم ثم زوالها لكفرانهم بها واتباعهم وسوسة الشيطان.
(6) النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئا (7) الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر.
(8) بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل، لا عتزازهم بأموالهم وأولادهم، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم ثم رده سبحانه عليهم.
(9) سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم؟ ليكون فى ردهم ما يكفى في تبكيتهم.
(10) مقال المشركين عند سماع القرآن وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند الله بل الداعي مفتر ليصدّ الناس عن دين الآباء والأجداد.
(11) عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم.
(12) أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم.
(13) إثبات أن الرسول نذير مبين، لا مفتر ولا مجنون.
(14) الرسول لا يطلب أجرا على دعوته، بل أجره على الله.
(15) طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه وأن لا سبيل إلى تحقيقه.(22/102)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة فاطر- سورة الملائكة
هى مكية نزلت بعد سورة الفرقان وآيها خمس وأربعون.
ومناسبتها لما قبلها:
إنه لما ذكر سبحانه في آخر سابقتها هلاك المشركين وإنزالهم منازل العذاب- لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره كما جاء في قوله: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تفسير المفردات
فطر الشيء: أوجده على غير مثال سابق، رسلا: أي وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون عنه رسالاته، مثنى وثلاث ورباع: أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له سبحانه الشكر، فقد أبدع خلق السموات والأرض وما بينهما على غير مثال سابق وأحكم تدبيرهما على أتم نظام، كما قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون إليهم رسالاته- ذوى أجنحة إما اثنين اثنين، وإما ثلاثة ثلاثة، وإما أربعة أربعة.(22/103)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
والأجنحة في العالم المادي تساعد على الطيران، وكثرتها تومئ إلى السرعة، وهى فى عالم الأرواح ترشد إلى القدرة على السرعة في تنفيذ أوامر الله وتبليغ رسالات ربهم إلى أنبيائه.
وفي هذا إيماء إلى أن الملائكة تتفاوت أقدارهم وقواهم عند الله تعالى بحسب استعدادهم الروحي.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح»
وفي هذا رمز إلى قوة استعداده الروحي وقربه من الملأ الأعلى وسرعة تنفيذه ما يؤمر به.
(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانا، وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية كما قيل:
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا
ثم ذكر ما هو كالدليل لما سبق بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيزيد كل ما هو أهل للزيادة وما هو مستعد لها، حسية كانت أو معنوية، فلا يمتنع عليه فعل شىء أراده، لما له من القدرة والسلطان على كل شىء.
[سورة فاطر (35) : آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
تفسير المفردات
يفتح: يعطى، ورحمة: أي نعمة حسية كانت أو معنوية، كرزق وصحة وأمن وعلم وحكمة، إلى نحو ذلك مما لا يحاط به.(22/104)
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة- أيد ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من الضيق حينا والسعة حينا آخر، مع العجز عن دفع البؤس إن وجد، وجلب النعمة لو أراد.
الإيضاح
مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه، فما يعط من خير فلا يستطيع أحد منه ولا إمساكه، وأي خير يمسكه فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح، لأن الأمور كلها بيده، ومنه البذل والعطاء، والمنع والإمساك.
وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك، وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم والتوجه إليه في قضاء حاجهم، والتوكل عليه في جميع مآربهم، والإعراض عما سواه من جميع خلقه.
ونحو الآية قوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» .
روى أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .
وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض، وملء ما شئت من شىء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد،(22/105)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .
وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالى ما أصبح عليه وأمسى: (1) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده. (2) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله. (3) سيجعل الله بعد عسر يسرا. (4) وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها.
[سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
تفسير المفردات
أنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن توحيد الخالق، مع الاعتراف بأنه وحده هو الرازق. وتشركون المنحوت: بمن له الملك والملكوت.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه- أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر عليها.
الإيضاح
أيها الناس راعوا نعم الله، واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم، فإلى أىّ وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق، ووضح السبيل.(22/106)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
والخلاصة- احفظوا نعم الله وأدوا حقها، ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان، بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان.
[سورة فاطر (35) : الآيات 4 الى 6]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأصل الأول وهو التوحيد- ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل فقد كذّب كثير منهم قبله، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم، ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه، وأنه لا ينبغى أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان، فإنه عدو لبنى آدم ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار، وبئس القرار.
الإيضاح
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإن استمر قومك على تكذيبك فيما بلّغته إليهم من الحق المبين، بعد أن أقمت لهم الحجج وضربت الأمثال، فتأسّ بمن سبقك من الرسل فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلماتنا.
وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب.
ثم ذكر أن البعث آت لا ريب فيه فقال:(22/107)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شك فيه، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلنّكم التمتع بمتاعها، ولا يلهينّكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعا لوساوس الشيطان.
والخلاصة- إنكم لا تغتروا بالحياة الدنيا، وتتركوا فعل ما أمرتم به، وتفعلوا ما نهيتم عنه.
ثم ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال:
(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي إن الشيطان معلن عداوته لكم بوسوسته، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به.
ثم ذكر أعماله ودعوته أتباعه إلى الغواية والضلالة فقال:
(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي ما غرضه من دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى لذات الدنيا إلا إضلالهم وإلقاؤهم في العذاب الدائم من حيث لا يشعرون.
[سورة فاطر (35) : الآيات 7 الى 8]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
تفسير المفردات
الحسرات: واحدها حسرة، وهى الغم على مافات والندم عليه.(22/108)
المعنى الجملي
بعد أن أبان أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار- ذكر هنا أن حزب الشيطان له العذاب الشديد، وأن حزب الله له المغفرة والأجر الكبير، ثم بين أن الضلال والهداية بيد الله بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية، أو تدسيتها وارتكابها الإجرام والمعاصي، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك وإتباعهم لوساوس الشيطان، والله عليم بحالهم وسيجازيهم بما يستحقون.
أخرج جويبر عن الضحاك أن الآية نزلت في عمر رضى الله عنه وأبى جهل حيث هدى الله عمر وأضل أبا جهل.
الإيضاح
(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي الذين كفروا بالله ورسوله لهم عذاب شديد في النار، من جراء كفرهم وإجابتهم دعوة الشيطان واتباعهم خطواته.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي والذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه- لهم مغفرة من الله لذنوبهم وأجر كبير كفاء ما ملئوا به قلوبهم من عامر الإيمان، وأخبتوا لربهم بصالح الأعمال.
ثم بيّن البعد ما بين الفريقين، واختلاف حال الفئتين فقال:
(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي أفمن حسّن له الشيطان سيىء الأعمال من معاصى الله والكفر به وعبادة مادونه من الآلهة والأوثان، فحسب سيىء ذلك حسنا، وظن قبيحه جميلا، ألك فيه حيلة؟
ثم ذكر السبب في اتجاه كل من الفريقين إلى ما اتجه إليه فقال:
(فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فإن ذلك الإضلال بمشيئة الله تعالى التابعة لعلمه باستعداد النفوس للخير وللشر، وقد تقدم ذلك غير مرة، فلا حاجة إلى الإطناب فيه.(22/109)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
ثم أتى بما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك، فإن الله حكيم في قدره، فهو يضل من يضل من عباده ويهدى من يشاء لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام باستعداد النفوس، إما بإخباتها لربها، وإنابتها إليه، وميلها إلى صالح العمل، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات.
ونحو الآية قوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
ثم هدد الكافرين على قبيح أعمالهم فقال:
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي إن الله عليم بما يصنعون من القبائح، فيجازيهم عليه بما يستحقون، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال وتدك منه الأرض دكا.
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 11]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
تفسير المفردات
أرسل: أي أطلق وأوجد من العدم، تثير أي تحرك، ميت وميّت بمعنى قاله محمد بن يزيد وأنشد:(22/110)
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء
ويرى بعضهم أن الميت بالتخفيف هو الذي مات، والميت بالتشديد، والمائت هو الذي لم يمت بعد وأنشد:
ومن يك ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
والمراد أنه لا نبات فيه، والنشور: إحياء الأموات يقال نشر الله الميت وأنشره، أي أحياه، العزة: أي الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز: أي صلبة، والكلم الطيب: هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن، وصعوده إلى الله: قبوله، والعمل الصالح: هو ما كان بإخلاص، يرفعه: أي يقبله، يمكرون: أي يعملون على وجه المكر والخديعة، والسيئات: المكرات السيئات كأن يراءوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة الله، يبور: أي يفسد من البوار وهو الهلاك، أزواجا:
أي أصنافا ذكرانا وإناثا، يعمر من معمر: أي يمدّ في عمر أحد، فى كتاب:
أي في صحيفة المرء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم- أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا ريب فيه، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة، ثم ذكر أن من يريد العزة فليطع الله ورسوله، ولا يتعزز بعبادة الأصنام والأوثان كما أخبر الله عنهم «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» وأن العمل الطيب يرفع إلى الله ويحفظ لديه ويجازى. عليه، ثم أعقب ذلك بأن من يمكر بالمؤمنين ويريد خداعهم فالله يفسد عليه تدبيره ويجازيه بما عمل شر الجزاء، وبعد أن ذكر دليل البعث بما يشاهد فى الآفاق من دلائل القدرة، ذكر دليلا عليه بما يرى في الأنفس من اختلاف(22/111)
أطوارها، فقد كانت ترابا ثم نطفة ثم وضعت في الأرحام إلى أن صارت بشرا سويا، ومنها ما يمد في عمرها، ومنها ما يخترم قبل ذلك، كما تدل عليه المشاهدة، وكل ذلك يسير على الله.
الإيضاح
(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) أي أفلا تتدبرون وتعقلون فتعلموا أن من أوجد الرياح بعد أن لم تكن، ثم جعلها تسيّر السحاب الثقال، فتنزل منها الغيث إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها، فتحيا بعد أن كانت ميتة وتهتز وتربو وتنبت كل زوج بهيج- أفليس ذلك القادر الحكيم الذي أحيا ميت الأرض بقادر على أن يحيى الموتى بعد بلاها، وبعد أن كانت عظاما نخرة؟ إنه على كل شىء قدير.
وعن أبى رزين قال: «قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك فى خلقه؟ قال صلّى الله عليه وسلم يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟ قلت بلى، قال صلّى الله عليه وسلم فكذلك يحيى الله الموتى» .
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يود أن يكون عزيزا فى الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى، فإن بها تنال العزة إذ لله العزة فيهما جميعا.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي إنه سبحانه يقبل طيب الكلام كالتوحيد والذكر وقراءة القرآن، ومن الذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) صلاح العمل بالإخلاص فيه، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه بل عليه العقاب، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءاة للناس لا يتقبلها الله كما قال سبحانه «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» .
وروى عن ابن عباس أنه قال: الكلام الطيب ذكر الله، والعمل الصالح: أداء(22/112)
فرائضه. وعن الحسن وقتادة: لا يقبل الله قولا إلا بعمل، من قال وأحسن قبل الله منه.
والخلاصة- إن القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل، وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يزيّن ما يقول فعال
وإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفّع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر.
وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى الله، ذكر أن المرائين لا يتقبل منهم عمل، ولهم عذاب شديد عند ربهم قال:
(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يمكرون المكر السيّء بالمسلمين، بأن يعملوا كل ما يكون سببا في ضعف الإسلام والحطّ من قدره حتى يمّحى أثره من الوجود، كما فعلت قريش في دار الندوة، إذ تدارست الرأى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم يحبسه أو قتله أو إجلائه من مكة- لهم العذاب الشديد يوم القيامة.
(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولى البصائر، فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالمرائى لا يروج أمره ولا يتفق إلا على غبىّ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف عن قريب، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان.
ثم ذكر دليلا على صحة البعث بما يرى في الأنفس فقال:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي والله خلق الناس من النطفة، والنطفة من الغذاء، والغذاء ينتهى آخرا إلى الماء والتراب، فهم من تراب صار نطفة، ثم جعلهم أصنافا ذكرانا وإناثا بقدر معلوم بحيث يكاد الفريقان يستويان عددا، ولو لم يكن كذلك لفنى الإنسان والحيوان، إذ حفظ النوع لا يتم(22/113)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إلا بتلك المساواة على وجه التقريب، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه، ولو لم يكن كذلك وكانت المصادفة العمياء هى صاحبة السلطان فى هذا العالم، لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين فيفنى الإنسان والحيوان.
ونحو الآية قوله: «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» .
(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي لا أحد يقضى له بطول العمر إلا وهو بالغ ما قدّر له، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، ولا أحد مقدّر له قصر العمر بزائد على ما قدّر له في الكتاب الذي كتب له، وذلك لحفظ الموازين فى الأرض حتى ينتظم العمران، ولو لم يكن على هذا النحو لاختلط الحابل بالنابل، وساء حال الكون، إذ يكثر الناس وتزدحم الأرض ويشتد الكرب، ومن ثم تفاوتت الأعمار في جميع الأمصار وكانت بمقدار، واعتدل النظام بالمرض والموت، والوباء والحرب.
(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن ذلك النظام البديع للعالم- هيّن على الله لعلمه الشامل، وعدم خفاء شىء عليه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 12 الى 14]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)(22/114)
تفسير المفردات
عذب: أي حلو لذيذ طعمه، فرات: أي كاسر للعطش مزيل له، سائغ: أي سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس، أجاج: أي شديد الملوحة والحرارة، حلية: أي لؤلؤا ومرجانا، مواخر: أي شاقات للماء حين جريانها، يولج: أي يدخل، والقطمير: لفافة النبواة، وهى القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، يكفرون بشرككم:
أي يجحدون بإشراككم إياهم وعبادتكم لهم، ولا ينبئك مثل خبير: أي ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل الخبير به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على إثبات البعث وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها- أردف هذا ذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع، فهذا ماء عذب ذلال يجرى فى الأقاليم والأمصار، والبراري والقفار، يسقى منه الإنسان والحيوان وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما، وهذا ماء ملح أجاج تسير فيه السفن الكبار ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، ومن كل منهما نأكل لحما طريّا فيه لذة للآكلين، وهذان ليل ونهار، ضياء وظلام، يدخل أحدهما في الآخر فيأخذ هذا من طول ذاك، ويزيد هذا في قصر ذاك فيعتدلان، ثم يتقارضان صيفا وشتاء، وسخر الشمس والقمر والنجوم(22/115)
الثوابت والسيارات، كل يجرى بمقدار معين وعلى نهج ثابت لا يتغير، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم.
أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان فلا يملكون شروى نقير، ولا يسمعون لكم دعاء، ولا يستجيبون لدعوة، ويوم القيامة يتبرءون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير وهو ربك العليم بما كان وما سيكون.
الإيضاح
(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي وما يعتدل البحران فيستويان: أحدهما عذب سائغ شرابه يجرى في الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار. وثانيهما ملح ساكن تسير فيه السفن الكبار (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي ومن كل البحار تأكلون السمك الغض الطرىّ فضلا من الله ومنة.
(وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وتستخرجون الدر والمرجان من الملح الأجاج ومن العذب الفرات، وتجرى السفن في كل منهما تشقه شقا بحيازيمها حين جريها، مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم من بلد إلى آخر، فتدفع عنكم المخمصة وتسدّ العوز.
لعلكم تشكرونه سبحانه على تسخيرها لكم، تتصرفون فيها كيف شئتم، وتذهبون فيها إن أردتم.
ولما كان بين الفلك في البحر والشمس والقمر في مدارهما مناسبة، فإن كلا منهما سارح في تلك العوالم الشاسعة- أردفه ذكر الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر فقال:
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل الليل في النهار فيكون(22/116)
النهار أطول من الليل ساعة فأكثر، ويدخل النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار كذلك.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وأجرى لكم الشمس والقمر، نعمة منه عليكم ورحمة بكم، لتعلموا عدد السنين والحساب، ولتسكنوا في الليل، وتبتغوا فضلا منه في النهار، ولا يزالان يجريان هكذا لأجل معلوم، لا يقصران دونه، ولا يتعديانه، وهو يوم القيامة.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي ذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو ربكم الذي له الملك التام والسلطان المطلق والقهر والجبروت، وكل من في السموات والأرض فهو عبد له وتحت قبضته وبطشه.
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان لا يملكون شيئا ولو كان حقيرا، بل هم ملك لخالق القوى والقدر.
ثم أكد ما سلف مبينا حقارة شأنهم وعظيم ضعفهم بقوله:
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي وإن تدعوا هذه الآلهة من دون الله لا تسمع لكم دعاء، لأنهم جماد لا أرواح لهم، ولو سمعوا ما قدروا أن ينفعوكم ويستجيبوا لشىء مما تطلبون.
والخلاصة- كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر، وتدعون من بيده النفع والضر، وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون.
وبعد أن نفى المقتضى للعبادة، وهو مجىء النفع والضر من قبلهم، ذكر المانع من عبادتهم وهو كفرهم بهم يوم القيامة فقال:
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي وهم يوم القيامة يتبرءون منكم ويقولون:
ما كنتم إيانا تعبدون، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وما زينته لكم شياطينكم ونحو الآية قوله: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا»
.(22/117)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله:
(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم، وهو الله الذي لا يخفى عليه شىء كان، أو سيكون في مستأنف الأزمان.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 18]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
تفسير المفردات
ولا تزر: أي ولا تحمل، وازرة: أي نفس آثمة، وزر أخرى: أي إثم نفس أخرى، والمثقلة: النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار، ذا قربى: أي ذا قرابة من الداعي، بالغيب: أي غائبا عنهم، وتزكى: أي تطهر من دنس الأوزار والذنوب، والمصير: المرجع والعاقبة
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن ملك السموات والأرض له، وأن ما يدعون من دونه من الأصنام والأوثان لا يملك شيئا ولا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا- أعقب هذا بما هو فذلكة لما تقدم وكالنتيجة له، بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه، فهو الذي تجب عبادته وحده، لأن النفع والضر بيده لا شريك له ثم بين أنه يوم القيامة(22/118)
لا تجزى نفس عن نفس شيئا، ولا تستطيع دفع ضر عنها ولو كانت ذات قرابة منها، ثم أرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى الله ويخاف عقابه، وأن من يتزكى فنفع ذلك عائد إليه، وإلى الله عاقبة الأمور كلها ومردّها إليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي أنتم أيها العباد أولو الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم، فإياه فاعبدوا، وإلى رضاه فسارعوا، وهو الغنى عن عبادتكم وعن غيرها، وهو المحمود على نعمه، فكل نعمة بكم وبسواكم فهى منه، فله الحمد والشكر على كل حال.
والخلاصة- أنتم في حاجة إليه وهو ذو الغنى وحده لا شريك له، والمحمود فى جميع ما يقول ويفعل ويشرع لكم ولغيركم من الأحكام.
ثم أرشد إلى غناه وإلى قدرته الكاملة بقوله:
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم، لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم، ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما نهاهم عنه، وما ذلك بصعب على الله الخالق لجميع عباده، بل هو يسير هيّن عليه.
وليس بخاف ما في هذا من تهديد ووعيد، وزجر وتأنيب.
ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله:
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى، بل تحمل كل نفس وزرها فحسّب، ولا تنافى بين هذا وما جاء في سورة العنكبوت من قوله سبحانه: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» فإن هذا في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم، وكل ذلك آثامهم لا آثام غيرهم.(22/119)
(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وإن تسأل نفس ذات ثقل من الذنوب، من يحمل عنها ذنوبها؟ لم تجد من يجيبها إلى ما تطلب ولو كان المدعو ذا قرابة لها كأب أو ابن، إذ كلّ مشغول بنفسه، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ونحو الآية قوله: «لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» وقوله: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» قال عكرمة: إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بنىّ: أىّ والد كنت لك؟ فيثنى خيرا فيقول له يا بني إنى قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكنى أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته فيقول يا فلانة: أىّ زوج كنت لك؟ فنثنى خيرا فيقول لها إنى أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لى لعلى أنجو بها مما ترين، فتقول ما أيسر ما طلبت. ولكنى لا أطيق أن أعطيك شيئا، إنى أتخوف مثل الذي تتخوف ثم سلى رسوله صلّى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم فقال:
(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إنما يجدى النصح والإنذار لدى من يخشون الله ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، بل لإيمانهم بما أتيت به وتصديقهم لك فيما أنبأت به عن ربك، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك، لا من طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون- إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم ويقيمونها على ما رسمه الدين،(22/120)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
فهى التي تطهر قلوبهم وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له كما
جاء في الحديث «اعبد الله كأنك تزاه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
والخلاصة- إنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس الله وشديد عقابه، دون من عداهم من أهل التمرد والعناد.
ثم حث على الأعمال الصالحة وأبان أن فائدتها عائدة إليهم فقال:
(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي فنفع ذلك عائد إليه كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام فضرّ ذلك راجع إليه، وإلى الله مصير كل عامل وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأثّل لنفسه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 26]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
تفسير المفردات
الحرور: السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار، خلا:
أي سلف ومضى، ونذير: أي منذر مخوف وهو النبي، والبينات: أي المعجزات(22/121)
الدالة على صدقهم فيما يدعون، والزبر: واحدها زبور وهو الكتاب، النكير: الإنكار بالعقوبة..
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه طريق الهدى وطريق الضلالة وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير، والجاحد المعاند قسا قلبه ولم يستفد من هديه- ضرب مثلا به تنجلى حاليهما، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء، وأن هؤلاء المشركين كالموتى لا يسمعون نصيحة ولا يهتدون بعظة، وأن الله لم يترك أمة سدى، بل أرسل الرسل فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا، ومنهم من استكبر وعصى، وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا والنار في العقبى.
الإيضاح
(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي وما يستوى الأعمى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه صلّى الله عليه وسلم، والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدا صلّى الله عليه وسلم وصدّقه وقبل عن الله ما ابتعثه به، وما تستوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ولا الثواب والعقاب.
ثم ضرب مثلا آخر لهما فقال:
(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي وما يستوى أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة كتابه وتنزيله، وأموات القلوب بغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ولا تفرق بين الهدى والضلال، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر.
ونحو الآية قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» وقوله: «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟» .(22/122)
والخلاصة- إن المؤمن بصير سميع نيّر القلب يمشى على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم يمشى في ظلمات لا خروج له منها، فهو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضى به ذلك إلى حرور وسموم، وحميم وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم.
ثم بين أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إن الله يهدى من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية.
ثم ضرب مثلا لهؤلاء المشركين وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال:
(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب الله، فتهديهم به إلى سبيل الرشاد، لا تقدر أن تنفع بمواعظ الله وحججه من كان ميت القلب لا يستطيع فهم كتابه ومعرفة مغازى الدين وأسراره.
والخلاصة- كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها- كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم.
ثم بين عمل الرسول فقال:
(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا منذر عقاب الله لهؤلاء المشركين الذين طبع على قلوبهم، ولم تكلّف هدايتهم وقبولهم ما جئتهم به، فإن ذلك بيده تعالى لا بيدك ولا بيد غيرك، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.
ثم بين سبحانه أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه، بل بإذن ربه وإرادته وأنه ما جاء إلا بالحق فقال:
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي، وبالشرائع التي فرضتها على عبادى، مبشرا بالجنة من صدقك وقبل منك ما جئت به من عندى، ومنذرا بعقاب من كذبك وردّ عليك ما أوحى به إليك.(22/123)
ثم بين فضله سبحانه على عباده ورحمته بهم وأنه لم يتركهم دون أن يبين لهم طريق الهدى والضلال فقال:
(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي وما من أمة خلت من بنى آدم إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وقال:
«وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» .
ثم سلّى رسوله على ما يلاقيه من قومه من الإصرار على العناد والتكذيب وأبان له أنه ليس ببدع من بين الرسل فقال:
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي وإن يكذبك أيها الرسول مشركو قومك فلا تبتئس بما يفعلون، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات الباهرة، والأدلة القاطعة، وبالكتب الواضحة كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داود، وبعد أن سلاه هدد من خالفوه وعصوه بمثل ما فعل بمن قبلهم من الماضين فقال.
(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي وبعد أن أتاهم الرسل بما أتوهم كذبوهم فيما جاءوهم به فأخذتهم بالعقاب والنكال، فانظر كيف كان شديد عقابى بهم وإنكارى عليهم، فإن تمادى قومك وأصروا على إنكارهم واستمروا فى عمايتهم حل بهم مثل ما حل بأولئك: فتلك سنة الله لا تبديل لها ولا تغيير.
«سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» .
ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.(22/124)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
تفسير المفردات
ألوانها: أي من أحمر إلى أصفر إلى أخضر إلى نحو ذلك، الجدد: واحدها جدة (بالضم) وهى الطريق المختلفة الألوان في الجبل ونحوه، والغرابيب: واحدها غربيب وهو شديد السواد يقال أسود غربيب، وأبيض يقق، وأصفر فاقع، وأحمر قان،
وفي الحديث «إن الله يبغض الشيخ الغربيب»
يعنى الذي يخضب بالسواد، وقال امرؤ القيس في وصف فرسه:
العين طامحة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دلائل وحدانيته وعظيم قدرته التي أعرض عنها المشركون عنادا واستكبارا- أردف ذلك ذكر ما يرونه من المشاهدات الكونية المختلفة الأشكال والألوان، لعل ذلك يعيد إليهم أحلامهم وينبه عقولهم إلى الاعتبار بما يرون ويشاهدون.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) يقول سبحانه منبها إلى كمال قدرته: ألم تشاهد أيها الرائي أنا خلقنا الأشياء المختلفة من الشيء(22/125)
الواحد، فأنزلنا الماء من السماء وأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وطعومها وروائحها كما هو مشاهد من ألوان الثمار من أصفر إلى أحمر إلى أخضر إلى نحو ذلك ونحو الآية قوله: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .
(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي وخلقنا الجبال كذلك مختلفة الألوان من بيض إلى حمر إلى سود غرابيب كما هو مشاهد، وفي بعضها طرائق مختلفة الألوان أيضا.
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي وكذلك الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان في الجنس الواحد، بل الحيوان الواحد قد يكون فيه ألوان مختلفة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ونحو الآية قوله: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ» .
ولما عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعه بين أنه لا يعرف ذلك حق المعرفة إلا العلماء بأسرار الكون، العالمون بدقائق صنعه تعالى، فهم الذين يفهمون ذلك حق الفهم، ويعلمون شديد بطشه وعظيم قهره فقال:
(إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي إنما يخاف الله فيتقى عقابه بطاعته- العالمون بعظيم قدرته على ما يشاء من الأشياء وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية أن يعاقبه.
وقد أثر عن ابن عباس أنه قال: العالم بالرحمن من عباده، من لم يشرك به شيئا، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسبه بعمله.(22/126)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
وقال الحسن البصري: العالم من خشى الرّحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه ثم تلا الآية.
وعن عائشة قالت: «صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا فرخّص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» ، أخرجه البخاري ومسلم
ثم بين سبب خشيتهم منه فقال:
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه، فهو قادر على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، ومن حق المعاقب والمثيب أن يخشى.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
تفسير المفردات
يتلون: أي يتّبعون من قولهم تلاه إذا تبعه، لأن التلاوة بلا عمل لا نفع فيها،
وقد ورد: «ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه»
والمراد من التجارة المعاملة مع الله لنيل الثواب، وتبور: أي تكسد.
المعنى الجملي
لما بين سبحانه أن العلماء هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه- أردف ذلك ذكر حال العالمين بكتاب الله العالمين بما فرض فيه من أحكام كإقامة الصلاة(22/127)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
وإيتاء الزكاة في السر والعلن، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابا من ربهم كفاء أعمالهم، بل أضعاف ذلك فضلا من ربهم ورحمة، ويطمعون في غفران زلاتهم لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل.
الإيضاح
إن الذين يتبعون كتاب الله ويعملون بما فرض فيه من فرائض فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرا وعلانية بلا بسط ولا إسراف- هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربخ تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه، ويبتغون فضلا منه ورحمة فوق ذلك، وغفرانا لما فرط من زلاتهم، وما اجترحوا من سيئاتهم، فالله هو الغفور لما فرّط من المطيعين من الزلات، الشكور لطاعاتهم، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى.
ونحو الآية قوله: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» .
[سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 35]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)(22/128)
تفسير المفردات
الكتاب: هو القرآن، مصدقا لما بين يديه: أي لما تقدمه من الكتب السماوية، خبير بصير: أي محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، مقتصد: أي عامل به تارة، ومخالف له أخرى، سابق: أي متقدم إلى ثواب الله راج دخول جنته، بالخيرات:
أي بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة، بإذن الله: أي بتوفيقه وتيسيره، والحزن: هو الخوف من محذور يقع في المستقبل، دار المقامة: أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهى الجنة، نصب: أي تعب، ولغوب: أي كلال وفتور.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم أجرهم- أكد هذا وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، وهو مصدق لما بين يديه من الكتب، فتاليه مستحق لهذا الأجر والثواب، ثم قسم هؤلاء الذين أورثوا الكتاب أقساما ثلاثة: ظالم لنفسه ومقتصد، وسابق بالخيرات، ثم ذكر جزاء هؤلاء السابقين، وأنهم يدخلون جنات تجرى من تحتها الأنهار وأنهم يحلّون فيها أساور الذهب واللؤلؤ، ويلبسون الحرير، ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور، ويقولون:
إنه أحلنا دارا لا نصب فيها ولا تعب.
الإيضاح
(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك هو الحق من ربك، وعليك وعلى أمتك أن تعمل به وتتبع ما فيه، دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله فصار إماما لها (إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إن الله خبير بأحوال عباده، بصير بما يصلح(22/129)
لهم، فيشرع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» .
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة التي هى خير الأمم بشهادة الكتاب «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وجعلناهم أقساما ثلاثة:
(1) ظالم لنفسه، مفرّط فعل بعض الواجبات، مرتكب لبعض المحرمات.
(2) مقتصد مؤدّ للواجبات، تارك للمحرمات، تقع منه تارة بعض الهفوات، وحينا يترك بعض المستحسنات.
(3) سابق بالخيرات بإذن الله، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
والخلاصة- إن الأمة في العمل أقسام ثلاثة: مقصّر في العمل بالكتاب مسرف على نفسه. ومتردد بين العمل به ومخالفته. ومتقدم إلى ثواب الله بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير الله وتوفيقه.
وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته.
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من الله لا يقدر قدره.
وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين بيّن جزاءهم ومآلهم بقوله:
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلئ ويكون لباسهم حريرا(22/130)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الخوف من كل ما نحذر، وأراحنا مما كنا نتخوف من هموم الدنيا والآخرة.
ثم ذكر السبب في ذهاب الحزن عنهم فقال:
(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي إن ربنا لغفور لذنوب المذنبين، شكور للمطيعين،
روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأنى بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور» .
والخلاصة- إنه أذهب عنهم الحزن من خوف العاقبة ومن أجل المعاش والوساوس الشيطانية.
ولما ذكر سرورهم وكرامتهم بتحليتهم بالحلى وإدخالهم الجنات- ذكر سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها فقال:
(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي إن ربنا لغفور شكور، لأنه أنزلنا الجنة التي لا تحول عنها ولا نقلة، ولا يصيبنا فيها تعب ولا وجع ولا إعياء ولا فتور.
والخلاصة- إنهم أتعبوا أنفسهم في العبادة في دار الدنيا فاستراحوا راحة دائمة في الآخرة كما قال: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» .
وقيل للربيع بن خيثمة وقد كان يقوم ليله ويصوم نهاره (أتعب نفسك) فقال:
راحتها أطلب.
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)(22/131)
تفسير المفردات
لا يقضى عليهم: أي لا يحكم عليهم بموت ثان، يصطرخون: أي يصيحون أشد الصياح للاستغاثة، نعمركم: أي نمهلكم، للظالمين: أي للكافرين، نصير:
أي معين يدفع عنهم العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن بين ما لعباده الذين أورثوا الكتاب من النعمة في دار السرور التي قال فى مثلها القائل:
علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سرّاء
أردف ذلك ذكر ما لأضدادهم من النقمة، زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بما أوتوا من نعيم زائل وحبور لا يدوم.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي والذين ستروا ما تدل عليه العقول من شموس الآيات وأنوار الدلالات، لهم نار جهنم لا يحكم عليهم فيها بموت ثان فيستريحوا من الآلام، ولا يخفف عنهم العذاب فيها، بل كلما خبت زيد سعيرها.
ونحو الآية قوله: «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» وقوله: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» وقوله: «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» وقوله: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» .
ثم بين أن هذا جزاء كل كافر بنعمة ربه، جاحد بوحدانيته فقال:(22/132)
(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي وهكذا نكافى كل جاحد لآلاء الله منكر لرسله، فندخله نار جهنم بما قدم من سيئات في الدنيا.
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي وهم يستغيثون ويضجّون في النار يقولون ربنا أخرجنا منها، وأعدنا إلى دار الدنيا، نطعك ونعمل غير الذي كنا نعمل من معصيتك، وقد علم منهم أنه لو ردهم إلى هذه الدار لعادوا إلى ما نهوا عنه.
وحينئذ يقال لهم تقريعا وتوبيخا.
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ؟) أي ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفعون بالحق لا نتفعتم به مدة عمركم؟
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم «هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟» .
والخلاصة- إنه تعالى لا يجيبكم إلى ما طلبتم، لأنكم كنتم عصاة، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه.
روى أحمد عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه» .
(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي وجاءكم الرسول ومعه كتاب الله، ينذركم بالعقاب إن خالفتم أمره، وتركتم طاعته.
والخلاصة- إنه احتج عليهم بأمرين: طول الأمل، وإرسال الرسل ونحو الآية قوله: «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وقوله: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» .(22/133)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
وقد استبان مما تقدم أنهم لا يخرجون منها، ومن ثم قال:
(فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي فذوقوا عذاب النار جزاء مخالفتكم للأنبياء فى حياتكم الدنيا، ولن تجدوا لكم ناصرا ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والسلاسل والأغلال.
[سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
تفسير المفردات
ذات الصدور: هى المعتقدات والظنون التي في النفوس، والخلائف: واحدهم خليفة، وهو الذي يقوم بما كان قائما به سلفه، مقتا: أي بغضا واحتقارا، خسارا:
أي خسارة، فالعمر كرأس مال إذا اشترى به صاحبه رضا الله ربح، وإذا اشترى به سخطه خسر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أنه ليس للظالمين من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم- أردف ذلك بيان أنه محيط بالأشياء علما، فلو كان لهم نصير في وقت ما لعلمه.
إلى أنه تعالى لما نفى النصير على سبيل الاستمرار، وكان ذلك مظنة أن يقال كيف يخلّدون في العذاب وقد ظلموا في أيام معدودات- أعقب ذلك بذكر أنه عليم بما انطوت عليه ضمائرهم، وأنهم صمّموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد، فمهما طالت أعمارهم فلن تتغير حالهم.(22/134)
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
أي إن الله عالم ما تخفون أيها المشركون فى أنفسكم وما تضمرون، وما ستنوون أن تفعلوه، وما هو غائب عن أبصاركم في السموات والأرض، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم تضمرون الكيد لرسوله، وتريدون إطفاء دينه، وتنصرون آلهتكم التي لا تنفعكم شيئا يوم القيامة.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)
أي لأنه عليم بما تكنه السرائر، وما تنطوى عليه الضمائر، وسيجازى كل عامل بما عمل.
وفي هذا إيماء إلى أنه لو مد أعمارهم لم يرجعوا عن الكفر أبدا، فلا مطمع فى صلاحهم.
ثم ذكر ما هو سبب آخر لعلمه بالغيب فقال:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي هو الذي ألقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما في الأرض لتشكروه بالتوحيد والطاعة.
(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فمن غمط مثل هذه النعمة العظيمة فإنما يعود وبال ذلك إلى نفسه دون غيره، لأنه هو المعاقب لا سواه.
ثم فصل ذلك وبيّنه بقوله:
(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي وكلما استمروا في كفرهم أبغضهم ربهم وغضب عليهم.
(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي وكلما اطمأنوا إلى كفرهم خسروا أنفسهم يوم القيامة وحق عليهم سوء العذاب.
والتكرير للتنبيه إلى اقتضاء الكفر لكل من الأمرين القبيحين البغض والخسران على سبيل الاستقلال.(22/135)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
[سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
تفسير المفردات
أرأيتم: أي أخبرونى، شرك: أي شركة، يمسك: أي يحفظ، وتزول: أي تضطرب وتنتقل من أماكنها
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه هو الذي استخلفهم في الأرض- أكد هذا بأمره صلّى الله عليه وسلم أن يقول لهم ما يضطرهم إلى الاعتراف بوحدانيته وعدم إشراك غيره منه.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أخبرونى أيها المشركون عن شركائكم الذين تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان- أرونى أىّ جزء من الأرض أو من الأناسى والحيوان خلقوا حتى يستحقوا الإلهية والشركة.
والخلاصة- أعلمتم هذه الآلهة ما هى؟ وعلى أي حال هى؟ فإن كنتم تعلمون أنها عاجزة، فكيف تعبدونها، وإن كنتم توهمتم فيها القدرة فأرونى أثرها؟.
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أم لهم شركة مع الله في خلق السموات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم.(22/136)
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟) أي أم هناك كتاب أوتوه ينطق بأنا اتخذناهم شركاء، فهم على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا.
وخلاصة ما تقدم- أخبرونى عمن تعبدونهم من دون الله، هل استبدوا بخلق شىء من الأرض حتى يعبدوا كعبادة الله، أولهم شركة معه في خلق السموات، وآتيناهم برهانا بهذه الشركة؟
والخلاصة: إن عبادة هؤلاء إما بدليل من العقل، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئا، وإما بدليل من النقل، وإنا لم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء.
وبعد أن نفى ما نفى من الحجج أضرب عن ذلك وبين أن الذي حملهم على الشرك هو تقرير السلف للخلف، وإضلال الرؤساء للأتباع، وقولهم لهم: إن هؤلاء شفعاء يشفعون لكم عند الله إذا أنتم عبدتموهم، وإلى هذا أشار بقوله:
(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي بل إنما اتبعوا في ذلك آراء أسلافهم وضلّالهم، وما هى إلا غرور وأباطيل.
ولما أبان حقارة الأصنام أرشد إلى عظمته تعالى فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن الله يمنع السموات أن تضطرب من أماكنها، فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض من مثل ذلك، ويحفظهما برباط خاص، وهو ما يسميه العلماء نظام الجاذبية، فجميع العوالم من الأرض والقمر والشمس والسيارات الأخرى تجرى في مدارات خاصة بهذا النظام الذي وضع لها، ولولا ذلك لتحطمت هذه الكرات المشاهدة، وزالت عن أماكنها، لكنها به ثبتت فى مواضعها، واستقرت في مداراتها.
(وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي وإن أشرفتا على الزوال ما استطاع أحد أن يمسكهما من بعد الله.
والخلاصة- إنه لا يقدر على دوامهما وبقائهما على هذا الوضع إلا اللطيف الخبير(22/137)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
ونحو الآية قوله: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وقوله:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ» .
(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ومن ثم حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم على عظيم جرمهم المقتضى تعجيل العقوبة لهم.
والخلاصة- إنه يحلم وينظر، ويؤجل ولا يعجّل، ويستر ويغفر.
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
تفسير المفردات
وأقسموا: أي حلف المشركون، جهد أيمانهم: أي غاية اجتهادهم فيها، نذير:
أي رسول منذر أهدى من إحدى الأمم: المراد بها اليهود أو النصارى، نفورا: أي تباعدا عن الحق، مكر السيّء: أي المكر السيّء الذي فيه خداع وكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحيق: أي ولا يصيب ولا ينزل، سنة الأولين: أي سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم، تبديلا: بوضع الرحمة موضع العذاب، تحويلا: بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تكذيبهم للتوحيد بإشراكهم الأوثان والأصنام، وبكّتهم على هذا أشد التبكيت، وضرب لهم الأمثال، ليبين لهم سخف عقولهم، وقبح معتقداتهم،(22/138)
أردف ذلك ذكر إنكارهم للرسالة بعد أن كانوا مترقبين لها، ناعين على أهل الكتاب تكذيب بعضهم بعضا، فقالت اليهود: ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى:
ليست اليهود على شىء، ثم هددهم بأن عاقبتهم ستكون الهلاك الذي لا محيص عنه، وتلك سنة الله في الأولين من قبلهم، وسنته لا تبديل فيها ولا تحويل.
الإيضاح
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي وأقسم المشركون بالله أغلظ الأيمان، وبالغوا فيها أشد المبالغة: لئن جاءهم من الله رسول ينذرهم بأسه، ليكونن أسلك لطريق الحق وأشد قبولا له من أىّ أمة من الأمم التي خلت من قبلهم.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ولكن حين جاءهم الرسول انعكست الآية، فما زادهم مجيئه إلا بعدا من الإيمان بالله، وانصرافا عن الحق، واستكبارا عن اتباع آياته، ومكروا بالناس مكرا سيئا فصدوهم عن سبيله.
والخلاصة- إنه تبين أن لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أو في الناس، ولا صدق لهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، وصار مثلهم مثل الإبل التي نفرت من ربها، فضلت عن الطريق، فدعاها فازدادت بدعائه نفرة، وصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها.
ثم بين أن عاقبة مكرهم عادت عليهم بالوبال بقوله:
(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.
روى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ما كرا فإن الله يقول: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا(22/139)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
فإن الله سبحانه يقول «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثا فإن الله يقول: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» .
وقد وقع مثل هذا في كلام العرب فقد قالوا: من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا والعبرة في الأمور بالعواقب، والله يمهل ولا يهمل، ووراء الدنيا الآخرة، فإن لم يجاز الماكر في هذه الدار فسيلقى الجزاء في الآخرة «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .
ثم هددهم بأن يحل بهم مثل ما أحل بمن قبلهم من العذاب فقال.
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك إلا أن أحل بهم من نقمتى على شركهم بي وتكذيبهم رسولى- مثل ما أحللت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم.
ثم علل انتظارهم للعذاب وتهديدهم به بقوله:
(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أي وهذه سنة الله في كل مكذب، فلا تغير ولا تبدل، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» .
[سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)(22/140)
المعنى الجملي
بعد أن هدد المشركين بجريان سنته فيهم، بإهلاكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم- نبههم إلى ذلك بما يشاهدونه من آثارهم في رحلاتهم للتجارة في الشام والعراق واليمن، فقد خلت منهم منازلهم وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد، وكثرة المال والولد، وما أغنى ذلك عنهم شيئا ولا دفع عنهم من عذابه لما جاء أمره، لأنه لا يعجزه شىء إذا أراده.
ثم ذكر حلمه بعباده وأنه لو آخذهم بما اجترحوا من السيئات ما ترك على ظهر الأرض إنسانا يدبّ على وجهها، لكنه أخّر عقابهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم ويوفى كل عامل جزاء عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو البصير بحال عباده
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أولم يسر هؤلاء المشركون بالله في الأرض التي أهلكنا فيها أهلها، بكفرهم بنا وتكذيبهم، رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام فى تجاراتهم، فينظروا كيف كانت عاقبتهم- ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم ونجعلهم مثلا لمن بعدهم، فيتعظوا بهم ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام؟
ثم بين أنهم إذا ساروا على تمردهم وعنادهم فهم لا يفلتون من عقابه فقال:
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي ولن يعجز الله هؤلاء المشركون به المكذبون لرسوله، فيسبقوه هربا وينجوا من الهلاك إذا هو أراد ذلك بهم، لأنه لا يعجزه شىء يريده في السموات ولا في الأرض.(22/141)
وغير خاف ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد لهم.
ثم علل عدم عجزه عن شىء فيهما بقوله:
(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي إنه تعالى عليم بمن يستحق أن تعجّل له العقوبة ومن قد تاب وأناب إلى ربه ورجع عن ضلالته، قدير على الانتقام ممن شاء منهم، وعلى توفيق من أراد الإيمان.
ولما كان المشركون يستعجلون بالوعيد استهزاء فيقولون «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» بيّن أنه لا يعاجلهم بالعقوبة على ما كسبوا، لعلهم ينيبون أو ينيب بعضهم إلى ربه، ويثوب إلى رشده فقال:
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهر الأرض نسمد تدب لشؤم المعاصي التي يفتنّون فيها (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل حدده عنده لا يقصرون دونه ولا يتجاوزونه إذا بلغوه.
(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي فإذا حل ذلك الأجل فإن الله يجازى المكلفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه شىء من أمرهم، دقّ أو جلّ، ظهر أو بطن.
اللهم أحسن أعمالنا ظواهرها وبواطنها، وتقبل منا ما نعمل مما يرضيك إنك أنت الخبير البصير.(22/142)
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) الأدلة على قدرة الله بإبداعه للكون وأنه المنعم المتفضل.
(2) تذكير الناس بالنعم ليشكروها.
(3) تثبيت فؤاد رسوله بذكر قصص المكذبين للأنبياء والمرسلين.
(4) نداء الناس عامة بأن يتحلّوا بالفضائل، ويتخلّوا عن الرذائل، ولا يتبعوا خطوات الشيطان، وينظروا فيما أبدع الرّحمن، من الآيات في الأرض والسموات.
(5) ضرب الأمثال لما سلف من القسمين، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة.
(6) تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين، وصالحين متقين، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقساما ثلاثة.
(7) وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين وما يلقاه كل منهما يوم القيامة.(22/143)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
سورة يس
هى مكية إلا قوله: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» فمدنية.
وآيها ثلاث وثمانون، نزلت بعد سورة الجن.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إنه لما جاء في السورة السالفة قوله: «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» وقوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» وقد أعرضوا عنه وكذبوه- افتتح هذه السورة بالقسم بصحة رسالته وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم.
(2) إنه قال فيما قبلها «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» وقال في هذه: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» وقال: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» .
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)(22/144)
تفسير المفردات
(يس) : تقدم الكلام في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن الرأى الرجيح فيها أنها حروف تنبيه نحو ألا ويا، وينطق بأسمائها فيقال (ياسين) .
روى عن ابن عباس أنه قال يس: أي يا إنسان بلغة طيىء. والحكيم: أي ذى الحكمة، على صراط مستقيم: أي طريق قويم، من عقائد صحيحة، وشرائع حقة، حق: أي ثبت ووجب، الأغلال: واحدها غلّ، وهو ما تشدّ به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، والقمح: الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره.
قال أبو عبيدة: يقال قمح البعير: إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. من بين أيديهم: أي من أمامهم، فأغشيناهم: أي فغطّينا أبصارهم، والذكر: القرآن، وخشى الرّحمن: أي خشى عقابه، بالغيب: أي قبل حلوله ومعاينة أهواله، ما قدّموا:
أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة، وآثارهم: أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات كعلم علّموه، أو كتاب ألّفوه، أو بناء في سبيل الله بنوه، أو من السيئات كغرس بذور الضلالات بين الناس، فى إمام مبين: أي في أصل يؤتم به.
الإيضاح
(يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أقسم بالقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنك أيها الرسول لمن المرسلين لذين هم على دين قويم، وشرع مستقيم.(22/145)
(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا الصراط المستقيم، والدين القويم، تنزيل من ذى العزة والرحمة بعباده.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» .
(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) أي إنا أرسلناك لتنذر العرب الذين لم يأتهم نذير من قبلك، فهم في غفلة عن معرفة الشرائع التي فيها سعادة البشر، وإصلاح المجتمع.
وذكرهم وحدهم هنا لأن الخطاب كان معهم، وهذا لا يمنع أنه مرسل إلى الناس كافة كما قال: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» .
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لقد وجب العقاب على أكثرهم، لأنه سبحانه سجل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون به، ولا يصدّقون برسوله، لما علم من خبث نفوسهم وسوء استعدادهم، فلا تعمر قلوبهم بالإيمان، ولا تخبت لله في أي زمان.
ثم ضرب لهم مثلا فقال:
(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فهى واصلة إلى الأذقان ملصقة بها، فهم من جراء ذلك مقمحون أي مرفوعو الرءوس، إذ أن طوق الغلّ الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن، فلا يمكّنه من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا.
والمراد منعناهم بموانع عن الإيمان تشبه ما ذكر، فهم غاضو أبصارهم، لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له.
ثم أكد ما سبق وزاده بيانا وتفصيلا فقال:(22/146)
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي إنه زيّن لهم سوء أعمالهم، وأعجبوا بأنفسهم، واستكبروا عن اتباع الرسول، وشمخوا بأنوفهم، ولم يخضعوا لما جاءهم به، وصدّوا أبواب النظر عما ينفعهم، ولم يقبلوا شيئا سوى ما هم عليه فما مثلهم إلا مثل من أحاط به سدّان من الأمام والخلف فحجباه عن النظر فهو لا يبصر شيئا.
والخلاصة- إنهم محبوسون في سجن الجهالة، ممنوعون عن النظر في دلائل الأنفس ودلائل الكون، محرومون عن التأمل فيما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية، والتفكر في العواقب المستقبلة.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال:
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وسواء على هؤلاء الذين حق عليهم القول، إنذارك إياهم وتركه، فإنه قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون، إذ قد خبثت نفوسهم، وساء استعدادهم، وغشّيت أبصارهم فلا تقدر على النظر في الدلائل المشاهدة، ولا تستطيع التأمل في جمال الكون.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
ثم أعقب ذلك بيان من يتأثر بالإنذار فقال:
(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي إنما ينفع إنذارك من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من الأحكام، وخشى عقاب الله قبل حلوله ومعاينة أهواله، فإنه سبحانه عظيم الرحمة، أليم العذاب كما قال: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» .
فبشّر هذا الذي اتبع أحكام الدين، وخاف العقاب بمغفرة ما فرط منه من الزلات، وأجر كريم، ونعيم مقيم، لا يستطاع وصفه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(22/147)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» .
ثم ذكر ما يؤكد الخشية من الله وخوف عقابه بقوله:
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي إنا نحيى الموتى جميعا من قبورهم يوم القيامة، ونكتب ما أسلفوا من عمل، وتركوا من أثر حسن بعدهم، كعلم علّموه، أو حبيس في سبيل الله وقفوه، أو مستشفى لنفع الأمة أنشئوه، أو أثر سيىء كغرس الأحقاد والأضغان، وترتيب مبادئ الشر والعدوان بين الأنام.
روى ابن أبى حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا، ثم تلا: ونكتب ما قدّموا وآثارهم»
والمراد من كتابة ذلك مجازاتهم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم ذكر أن الضبط والإحصاء لا يخص أعمال بنى آدم، بل يتناول جميع الأشياء فقال:
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي وبيّنا كل شىء وحفظناه، فى أصل عظيم يؤتم به، ويتبع ولا يخالف، وهو علمنا الأزلى القديم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ونحو الآية قوله: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» وقوله: «وكلّ شىء فعلوه في الزّبر. وكلّ صغير وكبير مستطر» .
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)(22/148)
تفسير المفردات
ضرب المثل: يستعمل تارة في تشبيه حال غريبة بأخرى مثلها كما في قوله:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ» الآية، ويستعمل أخرى في ذكر حال غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تشبيهها بحال أخرى نحو قوله: «وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» أي وبيّنا لكم أحوالا غاية في الغرابة كالأمثال، والقرية: هى أنطاكية كما روى عن قتادة وعكرمة، والمرسلون: هم رسل عيسى من الحواريين، فعززنا: أي فقوّينا وشددنا، البلاغ المبين: أي التبليغ الواضح الظاهر للرسالة،(22/149)
تطيّرنا: أي تشاء منا، لنرجمنكم: أي لنرمينكم بالحجارة، طائركم: أي سبب شؤمكم، مسرفون: أي مجاوزون الحد في العصيان، أقصى المدينة: أي أبعد مواضعها، يسعى:
أي يعدو ويسرع، لا تغن: أي لا تنفع، ولا ينقذون: أي لا يخلصونى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين قد ختم الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون- أردف ذلك ذكر مثل لقوم حالهم كحالهم في الغلوّ في الكفر والإصرار على التكذيب، والاستكبار على الرسل، وصم الآذان عن سماع الوعظ والإرشاد، وهم أهل قرية أنطاكية ببلاد الشام، فقد كان قصصهم مع رسل الله كقصص قومك معك، فى العناد والاستكبار والعتوّ والطغيان.
الإيضاح
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي واجعل أصحاب قرية أنطاكية مثلا لهؤلاء القوم، إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم كما أصر قومك على تكذيبك عنادا واستكبارا.
والمشهور لدى المفسرين ومنهم قتادة وغيره أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين بعثهم إلى أهل أنطاكية، وكان منهم ما قصه الله علينا في كتابه.
ويرى ابن عباس واختاره كثير من جلّة العلماء أن الرسل هم رسل الله أرسلهم ردءا لعيسى عليه السلام مقررين لشريعته كهرون لموسى عليه السلام، ويؤيد ذلك.
(1) قولهمَ بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) .
(2) إنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) .
(3) إن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهن بطارقة، وهن القدس(22/150)
وأنطاكية والإسكندرية ورومية، لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرين من رومية إليها.
ثم فصل ما تقدم وزاده بيانا فقال:
(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي حين أرسلنا إليهم رسولين من عندنا فأسرعوا في تكذيبهما فقويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث فقالوا لأهل القرية: إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم، بأن تخلصوا له العبادة، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.
والمشهور أن الرسولين الأولين كانا يوحنا وبولس والرسول الثالث شمعون.
ثم ذكر شبهة، كثيرا ما تمسك بها المكذبون للرسل من الأمم الماضية.
(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أرسلوا إليهم: ما أنتم إلا بشر مثلنا من غير مزية دعية لاختصاصكم بما تدّعون، وما أنزل الرّحمن إليكم رسالة ولا كتابا ولا أمركم فينا بشىء، ما أنتم إلا كاذبون في قيلكم إنا مرسلون إليكم.
وفي قولهم «ما أنزل الرّحمن» إيماء إلى أنهم يعترفون بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام. وحينئذ رد عليهم الرسل مؤكدين رسالتهم.
(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أي فأجابهم الرسل قائلين: الله يعلم إنا رسله إليكم ولو كنا كذبة عليه لا نتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عقبى الدار؟
ونحو الآية قوله: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
ثم ذكر الرسل ما أمروا به فقالوا:(22/151)
(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإن أطعتم ربحتم وكانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم حين يحيق بكم الوبال والنكال.
والتبليغ المبين إنما يكون إذا صحبته الآيات الباهرة، والمعجزات الدالة على أنهم رسل من عند الله.
والخلاصة- ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ المعزّز بالآيات البينات وقد فعلنا فأىّ شىء تطلبون منا حتى تصدقوا دعوانا؟.
ولما ضاقت بهؤلاء المكذبين الحيل، وأعيتهم الحجج لجئوا إلى التهديد والوعيد.
(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قالوا إنا تشاء منا من تبليغكم ودعوتكم، فقد افتتن بعض القوم بكم، وتفرقت كلمتنا وانفرط عقد وحدتنا، ولئن لم تنتهوا عن بثّ هذه الدعوة بيننا لنرجمنكم بالحجارة رجما، ولنمثلن بكم شر التمثيل أو لنعذبنكم عذابا شديدا وأنتم أحياء.
والخلاصة- إنا إما أن نقتلكم أو نلقيكم في غيابات السجون وننكل بكم تنكيلا عظيما.
حينئذ أجابهم الرسل:
(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي قالوا لهم سبب شؤمكم من أفعالكم لا من قبلنا كما تزعمون، فأنتم أشركتم بالله سواه، وأو لعتم بالمعاصي واجترحتم السيئات، أما نحن فلا شؤم من قبلنا، فإنا لا ندعو إلا إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له والإنابة إليه، وفي ذلك منتهى اليمن والبركة.
(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي أمن جرّاء أنا ذكرناكم وأمرناكم بعبادة الله مخلصين له الدين تقابلوننا بمثل هذا الوعيد؟ بل أنتم قوم ديدنكم الإسراف ومجاوزة الحد في الطغيان، ومن ثم جاءكم الشؤم ولا دخل لرسل الله في ذلك.(22/152)
والخلاصة- أنتم قوم مسرفون في ضلالكم، متمادون في غيكم، تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم من هداة الدين، فقد جعلتم أسباب السعادة أسبابا للشقاء ولا يخفى ما في ذلك من شديد التوبيخ وعظيم التهديد والتنبيه إلى سوء صنيعهم بحرمانهم من الخيرات.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» .
ثم أبان أنّ الحق لا يعدم نصيرا، وأن الله يقيّض له من يدافع عنه فقال:
(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وجاء من أطراف المدينة رجل يعدو مسرعا، لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل، فتقدم للذبّ عنهم ابتغاء وجه الله ونيل ثوابه، قال يا قوم اتبعوا رسل الله الذين لا يطلبون منكم أجرا على تبليغهم ولا يطلبون علوا في الأرض ولا فسادا، وهم سالكون طريق الهداية التي توصل إلى سعادة الدارين.
روى أن هذا الرجل يسمى حبيبا، وكان نجارا، قال ابن أبى ليلى: سباقو الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين: على بن أبى طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون.
ورواه الزمخشري حديثا، وقال ابن كثير إنه حديث منكر.
ثم أبان لهم أنه ما اختار لهم إلا ما اختاره لنفسه فقال:
(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟) أي وما يمنعنى من إخلاص العبادة للذى خلقنى، وإليه المرجع للجزاء يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفي هذا تقريع لهم بتركهم عبادة الخالق وعبادة غيره، وتهديد بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب.(22/153)
ثم أعاد التوبيخ مرة أخرى مبينا عظيم حمقهم فقال:
(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟) أي أأعبد من دون الله آلهة لا تملك من الأمر شيئا، وهو لو أرادنى بسوء فلا كاشف له إلا هو، ولا تملك الآلهة دفعه عنى ولا منعه.
(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنى إذا فعلت ذلك واتخذت من دونه آلهة لفى ضلال بيّن لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل، فإن إشراك من لا يخلق وليس من شأنه النفع والضر، بمن يخلق وهو القادر على كل شىء- خطأ ظاهر، وغلط واضح لدى أرباب الأحلام وذوى الحجا.
ثم التفت إلى الرسل وخاطبهم منيبا إلى ربه فقال:
(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي إنى آمنت بربكم الذي أرسلكم فاشهدوا لى بذلك عنده.
روى أنه لما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يجد من يدافع عنه.
قال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به كذلك حتى فارق الحياة.
ثم ذكر مآل أمره وما قاله حين وجد النعيم والكرامة، فقال:
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي قال الله له: ادخل الجنة كفاء ما قدمت من عمل وأسلفت من إحسان، فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره قال: ليت قومى يعلمون بما أنا فيه من نعيم، وخير عميم، لإيمانى بربي وتصديقى برسله وصبرى على أذى قومى، وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليحملهم ذلك على اكتساب المثوبة مثله بالتوبة عن الكفر والدخول فى حظيرة الإيمان والطاعة اتباعا لسنن أولياء الله الذين يكظمون الغيظ ويترحمون على الأعداء.(22/154)
قال ابن عباس: نصح قومه حيا بقوله: (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته بقوله: (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) .
وإلى هنا وقف القلم في تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم. وكان الفراغ منه بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية في اليوم الثامن عشر من شعبان سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية.
والحمد لله على إحسانه وإنعامه، وصلّ ربنا على محمد وآله الطيبين الأخيار وصحبه الأبرار.(22/155)
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث 3 مضاعفة ثواب أمهات المؤمنين رضى الله عنهن.
5 مكانتهن بين النساء وأمرهن بالقرار في البيوت.
7 من هم أهل البيت؟
8 ما أعده الله للمسلمين والمسلمات من لأجر والكرامة في الدار الآخرة 9 الأوصاف التي يستحق بها عباده الثواب العظيم.
10 أىّ المجاهدين أعظم لله أجرا؟. 11 قصة زينب بنت جحش 12 الحكمة في زواجه صلّى الله عليه وسلم بها.
15 ما كانت تفخر به زينب على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم.
16 أبوّة محمد صلّى الله عليه وسلم للمؤمنين أبوة تعظيم وإجلال.
17 أولاد النبي عليه الصلاة والسلام.
19 أمره عليه الصلاة والسلام باحتمال أذى المشركين وبالتوكل عليه.
20 لا عدّة للمطلقة قبل الدخول.
23 بعض خصائص النبي صلّى الله عليه وسلم في الزواج.
25 تخييره صلّى الله عليه وسلم في مضاجعة من شاء من نسائه.
26 نهيه صلّى الله عليه وسلم عن زواج غير الموجودات معه، وعن استبدال غيرهن بهنّ 27 آية الحجاب وما فيها من أحكام وآداب.
28 النهى عن إزعاج النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان في الخلوة.
29 يحرم اللبث على المدعوّ إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت.(22/156)
30 قال عمر: وافقت ربى في ثلاث.
31 منع المؤمن عن نكاح أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم.
33 احترام النبي صلّى الله عليه وسلم في الملا الأعلى والملإ الأدنى.
35 من نسب إلى مؤمن أو مؤمنة ما لم يعملا فقد اجترح إثما عظيما.
37 أمر النساء بالتستر وإرخاء الجلابيب صيانة لهن عن الأذى.
38 توعد الله أصنافا ثلاثة: بالقتال، والقتل، أو النفي من الديار.
41 ندم المشركين يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا أطاعوا الله.
44 الأقوال والأفعال التي تكون سبب الفوز العظيم.
46 فعل التكاليف الشرعية وسيلة الظفر والفلاح.
47 أسباب تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم. 48 الأسباب العامة لذلك.
49 الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين.
52 أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام.
53 ما حوته سورة الأحزاب من أغراض ومقاصد.
55 وجه اتصال سورة سبأ بما قبلها.
56 شمول علمه تعالى لكل ما في السموات والأرض.
57 إثبات البعث والجزاء. 58 الحكمة في البعث والجزاء.
59 أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم يعتقدون قيامها ومجيئها.
60 ما قاله المشركون على سبيل التهكم ممن قال بالبعث.
61 ادعاؤهم أن هذه المقالة لا يقولها إلا مفتر أو مجنون.
62 تنبيههم إلى ما يرون من آثار قدرته تعالى.
63 ما آتى الله داود من فضل ونعمة. 64 تسخير الريح لسليمان.
66 تسخير الجن. 67 الأرضة دلت على موت سليمان عليه السلام.(22/157)
70 عقاب المعرضين عن شكر النعم. 71 سدّ مأرب- سدّ العرم 72 الكشف الحديث دل على صدق ما جاء في القرآن.
73 النعم التي أوتيها السبئيون.
74 عقاب أهل سبأ باتباعهم لوساوس الشيطان.
75 طغيانهم في الأرض وإفسادهم إلا قليلا منهم.
76 تأنيب قريش على عبادتها الأوثان والأصنام.
78 الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن الله له بها.
79 أمر الرسول بأن يقول للمشركين: علىّ إجرامى وعليكم إجرامكم، والحاكم بيننا هو الله.
82 رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم عامة للأسود والأحمر.
83 استعجال المشركين للعذاب تهكما وازدراء.
84 إنكار المشركين للقرآن والكتب التي قبله.
85 الحوار الذي بين المشركين ومعبوديهم يوم القيامة.
86 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم على إنكار مترفى قومه له، وبيان أنهم ليسوا ببدع في ذلك.
88 سعة الرزق لا تدل على رضا الله عن المرء ولا غضبه عليه.
89 العمل الصالح مع الإيمان هو الزلفى عند الله.
90 في الحديث: «اللهم أعط منفقا خلفا، وممسكا تلفا» .
91 أكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون.
94 قال المشركون: القرآن إفك مفترى وإنه سحر بين.
95 ما ردّ به سبحانه على هذه المقالة.
96 طالب الله الكفار بالتريث في هذا الحكم ليعلموا الحق.
97 سبب نزول الآية (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) .(22/158)
98 العدة بنشر الإسلام وتبلج نوره.
99 «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا» الحديث.
101 أن لهم الإيمان يوم القيامة وقد كفروا من قبل؟
104 الأجنحة- فى العالم المادي تساعد على الطيران، وفي عالم الأرواح ترشد إلى القدرة.
105 ما كان يقوله صلّى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة وبعد الرفع من الركوع 106 الأمر بذكر النعم والشكر عليها.
107 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنه ليس ببدع بين الرسل.
109 لحزب الشيطان العذاب الشديد ولحزب الله المغفرة.
110 ضرب المثل على تحقق البعث والنشور.
113 لمن سعى في ضعف الإسلام عذاب شديد والله يحبط عمله.
114 الآجال والأعمار أحصاها الله في كتاب.
115 البراهين الدالة على الوحدانية والقدرة.
117 النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان.
118 من أصول الدين أن لا تزر وازرة وزر- أخرى.
119 البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى الله.
120 تسلية الرسول عن عدم قبول المشركين دعوته.
121 لم يترك الله أمة سدى بلا نذير. 123 الهداية والتوفيق بيد الله سبحانه.
124 قومك ليسوا ببدع في الأمم. 125 الاعتبار بالآيات الكونية.
126 لا يعلم بديع صنع الله إلا العالم بأسرار الكون.
128 الذين يتبعون أحكام الدين لهم تجارة لن تبور.
129 القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية.(22/159)
130 المؤمنون أقسام ثلاثة.
131 المؤمنون حين يدخلون الجنة يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.
132 الكافرون يوم القيامة يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا.
133 ما أجيبوا به عن هذا الطلب. 134 علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء.
136 تبكيت المشركين على عبادة الأوثان.
137 نظام الجاذبية.
139 إنكارهم لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مترقبين لها.
140 تهديد المشركين بحلول العقاب كما حل بمن قبلهم.
141 تنبيهم إلى آثار الغابرين الذين خلوا من قبلهم.
142 لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
143 مجمل ما حوته سورة فاطر من حكم وأحكام.
144 وجه اتصال سورة يس بما قبلها.
145 المراد بياسين.
146 جعل الأغلال في عنق أهل النار.
147 لا فائدة في إنذار هؤلاء المشركين.
148 من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده.
149 ضرب المثل بأهل أنطاكية.
150 من رسل الله الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية؟
151 مقالة أهل القرية للرسل.
152 ما ردّ به الرسل عليهم.
153 الحق لا يعدم نصيرا.
154 مآل أمر ذلك الواعظ.(22/160)
الجزء الثالث والعشرون
[تتمة سورة يس]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثالث والعشرون(23/1)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
الجزء الثالث والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
تفسير المفردات
الجند: العسكر، والمراد بهم الجند من الملائكة، والخمود: انطفاء النار والمقصود به الموت، والحسرة على ما قال الراغب: الغم على مافات، والندم عليه كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء، وإن: بمعنى ما، ولما: بمعنى إلا، محضرون: أي للحساب والجزاء.(23/3)
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة: إن تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين لوحظ فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي، إذ كثيرا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصّة الواحدة كما هنا، فإنه بعد أن بين حال الناصح الشهيد ودخوله الجنة- أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له، ثم ذكر سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي ثم هم يردّون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة.
الإيضاح
(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتلوه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم- من بعد مهلكه جندا من الملائكة، بل كان الأمر أيسر من ذلك.
وإجمال المعنى: إنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه، وما كاثرهم سبحانه بالجنود وإنزال الملائكة، بل كان أمرهم أهون من ذلك، إذ ليس من سنته أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير من السماء.
ثم بين ما كان من هلاكهم بقوله:
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة فإذا هم أموات لاحراك بهم، قد ذهبت منهم حرارة الحياة كما تذهب حرارة النار حين الخمود.
وفي هذا إيماء إلى أن الحىّ كشعلة النار، والميت كالرماد، وإلى هذا يشير لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع(23/4)
ويقول أبو العلاء:
وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، كيف كانت الصيحة، ولا كيف نزل بهم العذاب، وتفصيل ذلك لا يعنينا، فالعبرة تحصل بدون بيانه، إذ المراد انتقام الله وعذابه لمن كذب أولياءه، على أي نحو كان ذلك العذاب.
وفي هذا ما لا يخفى من تهوين أمرهم، وتحقير شأنهم، وتفخيم شأن رسل الله.
(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) المراد بالعباد هنا مكذّبو الرسل، أي يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل الله ومخالفة أوامره.
ثم بين سبب الحسرة والندامة فقال:
(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما جاءهم رسول إلا استهزءوا به وكذبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق.
والخلاصة: إن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية، وعرّضوها لعذاب مقيم، وكأنه قيل: يا حسرة احضرى، فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها.
ولما بين حال الأولين نبه الحاضرين فقال:
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟) أي ألم يعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا كما يعتقد الدّهريّة، جهلا منهم بأنهم يعودون إليها كما كانوا.
وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبين طريق ذلك، أعقب هذا بأن لهم حسابا وعقابا فقال:
(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم ماضيها وحاضرها(23/5)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدى الله فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له، وما أحسن قوله:
ولو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حىّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شىّ
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ» .
والخلاصة- إن الناس يجمعون للحساب والجزاء ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر.
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل- أردف ذلك ما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا وتنبت من كل زوج بهيج، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضرا.(23/6)
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها بإنزالنا الماء عليها، فتهتز وتربو وتنبت نباتا مختلفا ألوانه وأشكاله، وتخرج حبا هو قوت لكم ولأنعامكم، وبه قوام حياتكم.
(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها بساتين من نخيل وأعناب، وجعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة تنتشر فيها، ليأكلوا من ثمر الجنات ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا.
ثم لما عدد النعم طلب منهم الشكر فقال:
(أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) أي أفلا يشكرون خالق هذه النعم على ما تفضل به عليهم من نعم لا تعدّ ولا تحصى.
ولما أمرهم سبحانه، بالشكر وشكره تعالى بعبادته وقد تركوها وعبدوا غيره وأشركوا به سواه قال:
(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي تنزيها لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات، وخلق من أولادهم ذكورا وإناثا، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء التي لم يطلعهم عليها، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفتها تفصيلا، بل علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله:
«وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق وسعة ملكه وجلالة قدره.
والخلاصة- تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم من نبات وحيوان وإنسان، وخالق ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته وفيه الدليل على عظيم قدرته وواسع ملكه- عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته.(23/7)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
تفسير المفردات
أصل السلخ: كشط الجلد عن الشاة ونحوها واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل وموضع الفاء ظله، مظلمون: أي داخلون في الظلام، لمستقر لها: أي حول مستقر لها وهو مركز مدارها، وقدرناه: أي صيرنا مسيره في منازل، والمنازل واحدها منزل:
وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة، عاد: أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس كالعرجون في رأى العين، والعرجون: هو العود الذي عليه الشماريخ، فإذا أتى عليه الحول تقوس ودقّ واصفرّ.
قال أعشى بنى قيس:
شرق المسك والعبير بها ... فهى صفراء كعرجون القمر
ينبغى لها: أي لا يتيسر لها، أن تدرك القمر: أي تجتمع معه في وقت واحد فتداخله وتطمس نوره، لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه سيأتى ذكرها بعد، والفلك:
مجرى الكواكب، سمى بذلك لاستدارته، والسباحة: الجري في الماء للسمك ونحوه، ثم استعمل في سير الكوكب في الفضاء في مداره الخاص.(23/8)
المعنى الجملي
بعد أن استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال الأرض وما يطرأ عليها من تغير مما هو دليل القدرة الشاملة- أردف ذلك ذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار وجريان الشمس والقمر والأجرام السماوية، وهى مخلوقات عظيمة واقعة تحت قبضته، يتصرف فيها بعظيم سلطانه.
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي ومن آيات قدرته الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء: الليل ينزع عنه النهار، فتأتى الظلمة، ويذهب النهار، فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجىء الليل الذي كان الضياء ساترا له.
وفي الضياء سرور ولذة وراحة للنفس، وسعى على الرزق، وفي زواله وحشة وانقباض تشعر بألمه النفوس كما أن فيه تركا للعمل الذي به قوام الحياة، ومن ثم جعل الآية ظهور الليل ولم يجعلها مجىء النهار، والآية تحصل بكل منهما.
والخلاصة- إن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه، وفيه عبرة لمن يعى ويفهم، وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي والشمس تجرى حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمى، فقد ثبت أن لها حركة رحويّة حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية، وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده، القابض على زمام مخلوقاته، العليم بأحوالها الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.(23/9)
(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي وجعلنا لسير القمر منازل، وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل واحد منها كل ليلة ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، فإذا كان فى آخر منازله دقّ وتقوس، وهذا ما يشير إليه قوله:
(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي يسير في منازله إلى آخرها حتى يدقّ ويتقوس ويصفرّ ويكون كالعود الذي عليه الشماريخ إذا أتى عليه الحول.
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن الشمس تجرى مقدار درجة في اليوم، والقمر يسير مقدار 13 درجة في اليوم، ولأن لكل منهما مدارا خاصا لا يجتمع مع الآخر فيه.
(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا تسبق آية الليل وهى القمر، آية النهار وهى الشمس فيحل سلطانه محلها، إذ أنهما يجريان بحساب منتظم لا يتغير ولا يتبدل.
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي وكل من: الأرض والشمس والقمر يسبح فى فلكه كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تجرى في مدارها، والأرض تجرى حول الشمس في سنة وحول نفسها في يوم وليلة، والقمر يجرى حول الأرض كل شهر.
وعلماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه، بل لا بد له من حامل يحمله وهو الذي يدور به، وكيف يسبح ما لا حرية له ولا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره؟
هكذا كان الرأى عندهم، ولكن رأى علماء الفلك المحدثين: أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير، فهى إذا كأنها سمك في بحر لجىّ.
فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت مادل على صحته الكشف(23/10)
الحديث، ودحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان والهند والصين.
وقد طلبت إلى الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكي المصري بحلوان أن يدلى إلىّ بما أثبته علماء الفلك حديثا في النظريات التي تضمنتها الآيات، فكتب إلىّ مايلى:
الآية الأولى
من آيات الله وبديع صنعه تعاقب الليل والنهار دائبين. وقد جاء ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم، لما لهذه الظاهرة الفلكية من الأهمية العظمى في حياة الجنس البشرى وكافة الأحياء التي على ظهر البسيطة، فهى من الأمور الجديرة بالتفكير للاستدلال بها على عظمة الخالق جل شأنه فالليل يسلخ من النهار والنهار يسلخ من الليل، نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، فتشرق الشمس على بعض الآفاق، وتغيب عن البعض الآخر بانتظام تام بديع.
الآية الثانية
وزيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم الناشئ عن دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة- ثبت لدى العلماء أخيرا أن للشمس حركتين أخريين حقيقيتين:
إحداهما: حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا وتدل عليها أرصاد كلف الشمس وهى نقط سوداء تظهر على سطحها بين حين وآخر، وتتغير مواقعها بالنسبة إلى السطح، وتقطع المسافة بين حافتى القرص في زمن قدره 13 يوما.
ثانيتهما: دوران الشمس (ومن حولها توابعها الكواكب السيارة وأقمارها) حول مركز النظام النجومى بسرعة تقدر بنحو مائتى ميل في الثانية، فالشمس(23/11)
واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومى، والذي ثبت أنه يدور حول مركزه، ونظرا لأن الشمس لا تقع عند مركزه فإن لها حركة دورانية.
والذي يفهمه الفلكي أو الرياضي من المستقر لجسم متحرك حركة دورانية، أنه المحور الثابت الذي تكون الحركة حوله، أو مركز المدار الدائرى لهذه الحركة، ففى الحالة الأولى يكون المستقر هو الخط الواصل بين قطبى الشمس، وفي الحالة الثانية:
يكون هو مركز النظام النجومى بأسره الذي تدور حوله الشمس وكافة النجوم الأخرى.
وإذا علمنا أن هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثا أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم.
الآية الثالثة
قسم الفلكيون القدماء النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر، وقد جاء ذكرها هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» .
ولما كانت الشمس تنتقل باستمرار وسط النجوم، فتحجب عن الرؤية كل النجوم ومجموعات النجوم التي تكون موجودة فوق الأفق نهارا، نجد أن ما يكون موجودا من منازل القمر فوق الأفق ليلا يتغير تدريجا من ليلة إلى أخرى، ومن شهر إلى آخر، وهكذا نجد في معرفة مواقع القمر بالنسبة لهذه المنازل وسيلة لحساب الأوقات.
وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة والشمس، وأسماؤها هى: الشّرطان، البطين، الثريا، الدّبران، الهقعة،(23/12)
الهنعة، الذراع المبسوطة، النّثرة، الطرف، جبهة الأسد، الزّبرة، الصّرفة العوّا، السّماك الأعزل، الغفر، الزّبانا، الإكليل، قلب العقرب، الشّولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرع المقدم، الفرع المؤخر، الرّشاء أو بطن الحوت.
وبعد أن يتم القمر دورته في مداره متنقلا بين منازله هذه يعود كما بدأ هلالا صغيرا مقوسا في بادئ الشهر، ويرى في ضوء الشفق بعد مغيب الشمس، ويكون لونه مصفرا كعرجون النخل، لأن مركبات ضوئه الأخرى تشتت في الطبقة الهوائية قبل وصولها إلى عين الراصد، كما نرى لون الشمس مصفرا حين الشروق، أو حين الغروب.
الآية الرابعة
المقصود هنا أن الله سبحانه بديع السموات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
فالشمس كما ذكرنا تدور حول الأرض في حركة ظاهرية تنشأ عن دوران الأرض حولها، وهى تشبه ما يبدو للمسافر في القطار من حركة الأشجار وأعمدة التلغراف والقرى دون أن يحس بحركته المكتسبة من وجوده في القطار. وهكذا تتحرك الشمس وسط النجوم في مدار واسع نسبيا، نصف قطره 93 مليون ميل وتتم دورة كاملة في زمن مقداره سنة، ويدل على هذه الحركة تنقلها وسط البروج بمعدّل برج في كل شهر أو درجة واحدة تقريبا في كل يوم.
أما القمر فمداره حول الأرض أصغر نسبيا، ويقدر طول نصف قطر مداره بحوالى 24 ألف ميل يقطعه في شهر، أي بمعدل منزل في كل يوم أو 13 درجة(23/13)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
فى اليوم، وحركته حول الأرض حركة حقيقية، ويمكن ملاحظتها بسهولة من مراقبة موقعه بين النجوم ليلة بعد أخرى.
وفضلا عن ذلك فالمداران السالفا الذكر ليسا في مستوى واحد، بل يميل أحدهما على الآخر، ولولا ذلك لتكرر كل من الكسوف والخسوف مرة في كل شهر، وهكذا يتبين كيف إن لكل من: الشمس والقمر فلكا أو مدارا مستقلا يسبح فيه اهـ.
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
تفسير المفردات
الذرية: أصلها صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، ويقع على الواحد والجمع وهى من ذرأ الله الخلق فتركت همزته نحو بريّة، الفلك: السفينة، المشحون: المملوء، ما يركبون: هى الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل، فلا صريخ:
أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه على سبيل المنة على عباده أنه أحيا الأرض وهى مكان الحيوان- أردف ذلك ذكر نعمة أخرى على الإنسان، وهى أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر ويسير فيه كما يسير في البر جلبا لأرزاقه وتحصيلا لأقواته من أقاصى البلاد فى أنحاء المعمورة.(23/14)
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي ومن آيات قدرته الدالة على رحمته بعباده أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر ليستفيدوا مما تحمله من الأقوات وسائر حاجهم المعيشية، ولولا ذلك لما بقي للآدمى نسل ولا عقب من بعده.
ونحو الآية قوله: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .
(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية سفنا برية، وهى الإبل التي تسير في الصحارى كما قال شاعرهم:
سفائن برّ والسراب بحارها
ونحوها قطر السكك الحديدية والسفن الهوائية من مطاود وطائرات تسير في الجوّ حاملة للناس السلع المختلفة والذخائر الحربية، ومن جرّاء هذا لم يعين الكتاب الكريم ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود مما هو مخبّأ في صحيفة الغيب، وهذا من إعجاز الكتاب الكريم.
ونحو الآية: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» .
ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن فقال:
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق وينجيهم من الموت، ولكن رحمة منّا بهم وتمتيعا لهم إلى حين بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم وحفظناهم من الغرق، وإلى هذا أشار بقوله:
(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) .(23/15)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق- أردف هذا ذكر إعراضهم عن الآيات المنزلة من عند ربهم مما فيه تحذيرهم بأن يحلّ بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق الله، إذ قيل لهم أنفقوا فلم يفعلوا.
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزّل الله من الآيات: احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله ومثلاته التي حلّت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله- وما خلفكم أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات- أعرضوا نأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين.
ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم فقال:
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تجىء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا(23/16)
بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدى إلى الإيمان به، ومعرفة صدق رسوله.
والخلاصة- إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.
وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين قالوا لمن طلب منهم ذلك: لو شاء الله لأغناهم وأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم.
وفي قوله: مما رزقكم الله، ترغيب في الإنفاق على نهج قوله: «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله.
وإجمال ذلك- إنهم لم يعظّموا الخالق ولم يشفقوا على المخلوق.
ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الآمر على الإنفاق ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه فقال:
(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم أيها القوم في قيلكم لنا أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم- إلا في جور بيّن وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر.
وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر، إذ تراهم دائما يقولون: لا نعطى من حرمه الله، وتلك فرية منهم، لأن الله أغنى بعض الخلق، وأفقر بعضا، ابتلاء منه لعباده، ولأسباب نحن لا نعلمها لا بخلا منه وشحا، وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء ليس لحاجة منه إلى ما لهم، بل ليبلوهم ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين؟.(23/17)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
ولا ينبغى لأحد أن يعترض على مشيئة ربه، لأنه يجهل أسباب ما يشاهد ويرى في الكون.
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
تفسير المفردات
متى هذا الوعد: أي متى يتحقق ويجىء ما وعدنا به؟ ينظرون: أي ينتظرون، صيحة واحدة: هى النفخة الأولى في الصور بها يموت أهل الأرض جميعا، ونفخ فى الصور: أي النفخة الثانية، والأجداث: واحدها جدث (بفتحتين) القبر، ينسلون: أي يسرعون، والويل: الهلاك، من مرقدنا: أي موتنا، محضرون: أي للحساب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن أمرهم بتقوى الله وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات- أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث، واستعجالهم له، استهزاء به وسخرية منه،(23/18)
ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي ثم ينادون بالويل والثبور، وعظائم الأمور، حين يرون العذاب ويقولون: من أخرجنا من قبورنا؟ فيجابون بأن ربكم هو الذي قدّر هذا ووعدكم به على ألسنة رسله وسيوفى كل عامل جزاء عمله.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء وإنكارا، متى يحصل هذا البعث الذي تهددوننا به تارة تصريحا وأخرى تلويحا؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون.
والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه، الآمرة بالإيمان به.
فأجابهم ربهم:
(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور، بها يموت أهل الأرض جميعا تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم لا يخطر ببالهم مجيئها.
ونحو الآية قوله: «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
روى ابن جرير عن ابن عمر قال: «لينفخنّ في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به وهى التي قال الله (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) » .
وأخرج الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ(23/19)
الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» .
ثم بين سرعة حدوثها وأنها كلمح البصر أو هى أقرب فقال:
(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي فلا يستطيعون أن يوصوا فى أموالهم أحدا، إذ لا يمهلون بذلك، ولا يستطيع من كان منهم خارجا من أهله أن يرجع إليهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى ربهم.
ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور فقال:
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور، والخروج من القبور، فإذا هم جميعا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» .
ثم ذكر أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث، كما حكى عنهم بقوله:
(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟) أي قالوا يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه، من بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ حينئذ يجيبهم المؤمنون فيقولون لهم:
(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا الذي ترون ما وعد به الرّحمن وصدق في الإخبار به المرسلون الذين أتونا بوعد الله ووعيده.
وهم قد سألوا عن الفاعل للبعث وأجيبوا بالفعل تذكيرا لهم بكفرهم وتقريعا عليه مع تضمن ذلك الإشارة إلى الفاعل.
ثم بين سرعة بعثهم من القبور فقال:
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت(23/20)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة فإذا هم مجتمعون لدينا قد أحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد.
ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله:
«وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» .
ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس فقال:
(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ففى هذا اليوم يوم القيامة لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، ولا يحمل عليها وزر غيرها، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح، جزاء وفاقا لما عملت في الدنيا.
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 58]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
تفسير المفردات
الشغل: الشأن الذي يصدّ المرء ويشغله عما سواه من شئونه وأحواله لأهميته لديه، إما لأنه يحصّل مسرة كاملة أو مساءة عظيمة، الفاكه: الطيب النفس الضحوك قاله أبو زيد، والظلال: واحدها ظل وهو ضد الضّح (ما تصيبه الشمس) والأرائك:
واحدها أريكة وهى سرير منجّد مزيّن في قبة أو في بيت، يدّعون: أي يطلبون.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن ذلك اليوم كائن لا محالة، وأنه سيأتى بغتة من حيث يشعر به أحد، فما هو إلا صيحة واحدة فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون-(23/21)
أردف ذلك بيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم من ثواب وعقاب، ليكون فى ذلك ترغيب في صالح الأعمال، وترهيب من فعل الفجور واجتراح السيئات.
الإيضاح
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذلك في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأنى له أن يفكر فيما سواه؟ وهو بذلك فرح مستبشر ضحوك السن هادىء النفس، لا يرى شيئا يغمه أو ينغّص عليه حبوره وسروره.
ثم ذكر ما يكمل به تفكههم ويزيد في سرورهم فقال:
(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس، لأنه لا شمس فيها (وألذ شىء لدى العربي أن يرى مكانا فيه ظل ظليل، وأنهار جارية، وأشجار مورقة) وهم فيها متكئون على السرر عليها الحجال (الناموسيات) وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة لدى من نزل عليهم التنزيل.
وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس- ذكر ما يتمتعون به من مآكل ومشارب، ولذات جسمانية وروحية فقال:
(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي لهم فيها من الفواكه مالذ وطاب، مما تقرّ به أعينهم، وتسرّ به نفوسهم، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا، ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون وتشتاق إليه نفوسهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: ادّع علىّ ما شئت أي تمن علىّ وتقول فلان في خير ما ادّعى أي في خير ما تمنى.
ثم فسر الذي يدّعون بقوله:
(سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم(23/22)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
تعظيما لهم، وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة كما قال سبحانه: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» .
والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب، وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها، فكأن هذا إجمال.
لما تقدم من اللذات التي فصلت فيما سلف.
[سورة يس (36) : الآيات 59 الى 68]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
تفسير المفردات
امتازوا: أي انفردوا وابتعدوا عن المؤمنين، والعهد: الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة، وعبادة الشيطان: يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى(23/23)
الشيطان لأنه الآمر بها والمزيّن لها، والجبلّ: الجماعة العظيمة، اصلوها: أي قاسوا حرها، والختم على الأفواه: يراد به المنع من الكلام، والطمس: إزالة الأثر بالمحو، فاستبقوا الصراط: أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم، فأنى يبصرون: أي فكيف يبصرون الحق، ويهتدون إليه؟ والمسخ تحويل الصورة إلى صورة أخرى قبيحة، على مكانتهم:
أي في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، ونعمره: أي نطل عمره، ننكسه في الخلق:
أي نقلبه فيه فلا يزال ضعفه يتزايد، وانتقاص بنيته يكثر، بعكس ما كان عليه في بدء أمره حتى يردّ إلى أرذل العمر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما للمحسنين من نعيم واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات- أعقبه بذكر حال المجرمين وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق وابتعاد بعضهم من بعض، فيكون لهم عذابان: عذاب النار وعذاب الوحدة، ولا عذاب فوق هذا، ثم أردف هذا أنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا بما أرسل إليهم من الرسل الذين بلغوهم أوامر ربهم ونواهيه، ومنها نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان وعن اتباعه فيما يوسوس به، ثم ذكر أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا، وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى، ثم ذكر مآل أمرهم وأنهم سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بما اكتسبت أيديهم، وهم في هذا اليوم لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت، ثم ذكر أنه رحمة منه بعباده لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا بشديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا، ثم دفع معذرة أخرى ربما(23/24)
احتجوا بها وهى أن ما عمّروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمّروا في السن ضعفوا عن العمل وقد عمّروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك كما قال: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» ولكن ذلك ما كفاهم، فهم مهما طالت أغمارهم لا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا.
الإيضاح
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار، فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدا، ونحو الآية قوله: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» وقوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» وقوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» .
ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال سبحانه موبخالهم:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي ألم أوصكم بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب بيانا للطريق الموصل إلى النجاة- أن تتركوا طاعة الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتى ومخالفة أمرى.
ثم علل النهى عن عبادته بقوله:
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم من جراء عداوته لأبيكم آدم من قبل، ولأنه يوبقكم في مهاوى الردى، ويوقعكم في مزالق الهلاك.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادته سبحانه فقال:(23/25)
(وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدي، وأطيعونى فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه.
ثم بين أن ما أمر به ونهى عنه طريق معبّد واضح لا لبس فيه ولا خفاء فقال:
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي نهيتكم عنه من عبادة الشيطان، وأمرتكم به من عبادة الرّحمن، هو الصراط المستقيم، لكنكم سلكتم غيره فوقعتم في مزالق الضلال وتردّيتم في مهاوى الردى.
وبعد أن نبههم إلى أنهم نقصوا العهد وبخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم ما يرون من سوء المنقلب في الدنيا والآخرة فقال:
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي ولقد صد الشيطان منكم خلقا كثيرا عن طاعتى وإفرادى بالألوهية فاتخذوا من دونى آلهة يعبدونها.
ثم زاد في توبيخهم والإنكار عليهم فقال:
(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟) أي فلم يكن لكم عقل فترتدعوا عن مثل ما كانوا عليه كى لا يحيق بكم من العذاب مثل ما حاق بهم.
وبعد أن أنّبوا ووبّخوا بما سلف خوطبوا بما يزيدهم حسرة وألما فقيل لهم:
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه هى جهنم التي كنتم توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلّغين عنهم إذا أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرّحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان.
ثم أمرهم أمر إهانة وتحقير لهم بقوله:
(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي احترقوا بها اليوم، وقاسوا حرها الشديد بسبب جحودكم بها في الدنيا، وتكذيبكم إياها، بعد أن نبهتم فلم تنتبهوا، وأوقظتم فلم تستيقظوا.
وخلاصة ذلك- إنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة:(23/26)
(1) إنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة نحو قوله لفرعون: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» .
(2) إنه ذكر لفظ (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر وأن لذاتهم قد مضت وبقي العذاب اليوم.
(3) إن قوله بما كنتم تكفرون يومئ إلى أن هناك نعمة قد كانت فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألما وأعظم مضاضة كما قيل:
أليس بكاف لذى همة ... حياء المسيء من المحسن
ثم بين أنهم في هذا اليوم لا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم فقال:
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ففى هذا اليوم ينكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا كما حكى الله عنهم من قولهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» فيختم على أفواههم فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم بما اجترمت من الفسوق والعصيان الذي لم يتوبوا عنه.
ونسب الكلام إلى الأيدى والشهادة إلى الأرجل، من قبل أن الأولى لها مزيد اختصاص بمباشرة الأعمال، ومن ثم كثر نسبة العمل إليها في نحو قوله: َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ»
وقوله: «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» وقوله: «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» ولا كذلك الثانية فكانت الشهادة بها أنسب، إذ هى كالأجنبية منها.
وجاء في الخبر: «يقول العبد يوم القيامة إنى لا أجد علىّ شاهدا إلا من نفسى، فيختم الله على فيه ويقول لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله. ثم يخلّى بينها وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» .(23/27)
وإذا كان المرء في دار الدنيا المملوءة أكاذيب ونفاقا يخجل فيحمرّ وجهه، ويوجل فيصفرّ وجهه ويتخذ القضاة من ذلك أدلة على إدانة المتهم. كما نقصّ آثار أقدام اللصوص والجناة ونتبعهم في السهل والجبل حتى إذا عثرنا عليهم قدمناهم للقضاء بشهادة هذه الآثار التي لا اشتباه فيها، كذلك نختم بأصابغ المجرمين على الورق (البصمة) فلا تشاكل يد يدا، مما يجعل لذلك أجلّ قيمة في خدمة العدالة.
وإذا كان هذا في عالمنا الجسماني فما بالك بعالم الأرواح التي يكون فيها لكل ذنب أو عمل حسن أثر في النفوس يولد فيها الخير أو الشر، حتى إذا انفصلت الأرواح من الأجساد ظهر ما انطبع فيها من خير أو شر؟ وإلى هذا يشير قوله تعالى ذاكرا حال الحساب يوم القيامة: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فالنفس إذا هى الكتاب الذي لا غش فيه ولا كذب، فإذا صمت اللسان نطقت الجوارح كما ننطق آثارها اليوم، أي تدل على المراد أفصح دلالة، وترشد إلى المقصود أيما إرشاد، وهذا هو الذي ينبغى أن يفهم في الآية الكريمة.
ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما هو قادر على إذهاب البصائر فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم، فطمسنا على أعينهم، فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون إلى شىء.
وإجمال المراد: لو شئنا لأذهبنا أحداقهم، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لم يستطيعوا ذلك.
ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولو أردنا لحوّلناهم عن تلك الحال إلى ما هو أقبح منها، فجعلناهم قردة وخنازير وهم(23/28)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
فى مساكنهم التي يجترحون فيها السيئات، فلا يقدرون على ذهاب ولا مجىء ولا غدوّ ولا رواح.
ثم شرع يقطع معذرة لهم ربما احتجوا بها وهى قولهم: إنهم لو عمّروا لأحسنوا العمل فقال:
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي إنه كلما طال عمر المرء رد إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط.
(أَفَلا يَعْقِلُونَ؟) أنهم كلما تقدمت بهم السن ضعفوا وعجزوا عن العمل، فلو عمّروا أكثر مما عمروا ما ازدادوا إلا ضعفا، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم، وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث والتفكير، والتروّى في عواقب الأمور ومصايرها، فلم يفعلوا، وجاءتهم النذر فلم يهتدوا، فمهما طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك، ولن يصلح من حالهم قليلا ولا كثيرا.
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
تفسير المفردات
وما ينبغى له: أي لا يليق به ولا يصلح له، ذكر: أي عظة من الله وإرشاد للثقلين، حيّا: أي حىّ القلب مستنير البصيرة، يحق القول: أي يجب العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أمر الوحدانية في قوله: وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، وذكر أمر البعث في قوله: اصلوها اليوم- ذكرها الأصل الثالث. وهو الرسالة في هاتين الآيتين،(23/29)
الإيضاح
(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) الشعر: ضرب من ضروب الكلام ذو وزن خاص ينتهى كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية، وهو يسير مع العواطف والأهواء، ولا يتبع ما يمليه العقل والمنطق الصحيح ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجى والمدائح والتفاخر والتنافر، فإذا غضب الشاعر أقذع في القول، وبالغ في الذم، وضرب بالحقيقة عرض الحائط، ولا يرى في ذلك ضيرا، وإذا هو استرضى بعد قليل رفع من هجاه إلى السمّاكين، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا مما تراه في شعر الهجائين المداحين حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا:
(أعذب الشعر أكذبه) .
والقرآن الكريم آداب وأخلاق، وحكم وأحكام، وتشريع فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم، فرادى وجماعات، فحاشى أن يكون شعرا! أو أن يمت إليه بنسب.
فالمراد من نفى تعليمه الشعر نفى أن يكون القرآن شعرا، لأن الله علمه القرآن وإذا لم يكن المعلّم شاعرا لم يكن القرآن شعرا البتة.
وهذا رد لقولهم: إن القرآن شعر، وإن محمدا شاعر، ومقصدهم بهذا أنه افتراء وتخيلات وأباطيل، وليس وحيا من عند الله.
(وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ولا يليق به الشعر ولا يصلح له، لأنه مبنى كما علمت على الركون إلى الأهواء تبعا لفائدة ترجى، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور، أو كبتا لسورة حقد أو حسد بحق أو باطل، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا.
وما اتفق له عليه الصلاة والسلام دون قصد من نحو قوله يوم حنين وهو راكب بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب(23/30)
فلا يسمى شعرا، لأن مثل هذا يقع في الكلام المنثور ولا يسمى قائله شاعرا.
وقد صح
«أن النبي صلّى الله عليه وسلم أنشد:
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك ما لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضى الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام إنى والله ما أنا بشاعر ولا ينبغى لى» .
وأخرج ابن سعد وابن أبى حاتم عن الحسن «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا:
كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء. والرواية: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر: أشهد إنك رسول الله، ما علمك الشعر وما ينبغى لك» .
والخلاصة- إن الله تعالى كما جعل رسوله أمّيّا لتكون الحجة أتم، والبرهان على المشركين أقوم، كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها، والأباطيل التي ينمّقها، وليس بوحي من عند ربه.
وبعد أن نفى عنه أنه شعر وتخيلات أثبت أنه مواعظ ونصائح فقال:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا، يرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم، نزل من الملإ الأعلى، وليس من كلام البشر، فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، فلجئوا إلى السيف والسنان، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان.
ثم ذكر من ينتفع به فقال:
(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينتفع بنذارته من كان حىّ القلب، مستنير البصيرة، يعرف مواقع الهدى والرشاد، فيسترشد بهديه، وليس له من صوارف الهوى ما يصدّه عن اتباع الحق، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض ما يكون حائلا بينه وبين(23/31)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
الهدى، فهو يتواثب على الإقرار بالحق إذا لاح له بريق من نوره، فتمتلىء جوانبه إشراقا وضياء، ويخرّ له مذعنا مستسلما، وكأنّ طائفا من السماء نزل عليه فأثلج صدره وألان قلبه، فاطمأنّ له وركن إليه، وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية وكتب له الفوز والسعادة.
وبعدئذ بين عاقبة من أعرض عنه فقال:
(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين به الذين هم كأنهم أموات لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة التي من دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى.
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والحشر والرسالة- أعاد الكلام في الوحدانية وذكر بعض دلائلها.
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي أو لم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان: أنا خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير- أنعاما من الإبل والبقر والغنم يصرّفونها كما شاءوا بالقهر والغلبة(23/32)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
فهى ذليلة منقادة لهم، فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير، وإن شاءت ساقته وصرّفته كما تريد، قال العباس بن مرداس:
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير
ثم ذكر منافعها فقال:
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وسخرنا لهم هذه الأنعام، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ومنها ما ينحرون، فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها.
(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية) ولهم منها مشارب من ألبانها ونتاجها.
ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها فقال:
(أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعمتى عليهم، وإحسانى إليهم، بطاعتي وإفرادى بالألوهية والعبادة، وترك وساوس الشيطان، بعبادة الأصنام والأوثان؟
[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم كفروا بأنعم الله عليهم وأنكروها- أردف ذلك بيان أنهم زادوا في ضلالهم، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه(23/33)
النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال تعالى حاكيا عنهم «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» والحقيقة أنها لا هى ناصرة ولا منصورة.
الإيضاح
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونهم، طمعا في نصرتهم، ودفع العذاب عنهم، وتقريبهم إلى الله زلفى ثم بيّن بطلان آرائهم، وخيبة رجائهم، وانعكاس تدبيرهم فقال:
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها، فهى أضعف من ذلك وأحقر، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهم لا يسوقون إليهم خيرا ولا يدفعون عنهم ضرا.
والخلاصة- إن العابدين وهم المشركون كالجند، لحمايتهم والذبّ عنهم في الدنيا، والمعبودون يوم القيامة لا يستطيعون أن يقدّموا لهم معونة، ولا يدفعون عنهم مضرّة.
ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى بنحو قولهم: هو شاعر، وهو ساحر، وهو كاهن إلى نحو ذلك من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته فقال:
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي فلا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين من قومك: إنك شاعر وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك.
ثم ذكر أنه سيجازيهم على ما يضمرون في نفوسهم ويتفوهون به بألسنتهم فقال:
(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك(23/34)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
إنما هو الحسد، وأنهم يعتقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب.
والخلاصة- إنا نعلم ما يسرون من معرفتهم حقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم بما يستحقون يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرا لديهم.
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
تفسير المفردات
أولم ير: أي أولم يعلم، والخصيم: المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية، وضرب لنا مثلا: أي وأورد في شأننا قصة عجيبة هى في غرابتها كالمثل إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة، والرميم: كالرّمّة والرفات، وبلى: كلمة جواب كنعم تأتى بعد كلام منفىّ، أمره: أي شأنه في الإيجاد، والملكوت: الملك التام كالرحموت والرهبوت والجبروت، والعرب تقول: جبروتى خير من رحموتى.(23/35)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته، ووجوب عبادته، وبطلان إشراكهم به، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث- أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم دالة على قدرته تعالى ومبطلة لإنكارهم له، ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا، وقالوا: كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة؟، فأجابهم عن شبهتهم بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم هو الذي يحييها، وهو العليم بتفاصيل أجزائها مهما وزعت وتفرّقت، ثم ذكر لهم دليلا آخر يرفع هذا الاستبعاد، وهو أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء، قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضّا طريا ثم يبس وبلى، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان وفيه الدليل على قدرته، وهو خلق السموات والأرض، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف، وفيه بطلان لإنكارهم، فأبان أن كل شىء هيّن عليه، فما هو إلا بقول (كُنْ فَيَكُونُ) تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون، فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء.
قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة: «جاء أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفتّه بيده ويذروه في الهواء ويقول: أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ قال صلّى الله عليه وسلم «نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار، ونزلت هذه الآيات من سورة يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخرهن» .
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدإ على سهولة الإعادة، فإن من بدأ خلق الإنسان من(23/36)
سلالة من ماء مهين، ثم جعله بشرا سويا يخاصم ربه فيما قال: إنى فاعل، فيقول: من يحيى العظام وهى رميم؟ إنكارا منه لقدرته على إحيائها- قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله.
ونحو الآية قوله: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» وقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ» أي من نطفة من أخلاط متفرقة.
والخلاصة- إنه تعالى خلق للانسان ما خلق من النعم ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم، وخلقه من نطفة قذرة مذرة ليكون متذللا، فطغى وبغى وتجبر، وخاصم ربه واستبعد البعث والإعادة.
(وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) أي وذكر أمرا عجيبا ينفى به قدرتنا على إحياء الخلق، فقال: من يحيى العظام؟ ونسى خلقنا له، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقا سويا ناطقا؟ ولا شك أن من فعل ذلك لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرميم بشرا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء.
وإجمال ذلك- إن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله ذى القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجساد والعظام الرميم، ونسوا أنفسهم وأنه تعالى خلقهم من العدم، فكيف هم بعد هذا يستعبدون أو يجحدون؟.
ونحو الآية حكاية عن المشركين: «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» وقوله أيضا على طريق الحكاية «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا، الْأَوَّلُونَ» .
وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكّتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم وخلقهم من العدم فقال:(23/37)
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك: من يحيى العظام وهى رميم؟ يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئا وهو العليم بالعظام، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض؟ وأين ذهبت؟
لا يخفى عليه شىء من أمر خلقه، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة.
وكان الفيلسوف الإسلامى الملقّب بالفارابي يقول. وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلىّ في قوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) الآية، إذ تفصيله: الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا- ونتيجة هذا- الله قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيا اهـ.
ولا شك أن الفارابي إنما يريد القياس الذي يفهمه اليوناني باصطلاحه المنطقي، وإلا ففى الآية قياس فهمه العربي على أسلوبه في التخاطب الذي يجرى عليه ويقتنع به، ولكل أمة أساليب في الإقناع والحجاج تسير عليها وتسلك سبيلها، وقد اقتنع الكثير من العرب بما جاء به في هذا، ومن جحد فإنما فعل ذلك عنادا واستكبارا.
ثم ذكر دليلا ثانيا يرفع استبعادهم ويبطل إنكارهم فقال:
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار أخضر ناضرا ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، ومن فعل ذلك فهو قادر على ما يريد لا يمنعه شىء، إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا فيبس وبلى.
ثم زكى ذلك بدليل ثالث على قدرته أعجب من سابقيه فقال:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى منها هذا الكافر الذي قال: من يحيى العظام وهى رميم؟(23/38)
إلى خطأ قوله، وعظيم جهله، بأنّ خلق مثلكم من العظام الرميم- ليس بأعظم من خلق السموات والأرض، وإذا لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم منكم، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبليت؟.
والخلاصة- إنه تعالى نبّه إلى عظيم قدرته على خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال وقفار وما بين ذلك، وإلى أن الذي قدر على إيجاد هذه العوالم العظيمة- قادر على إعادة الأجساد بعد البلى.
ونحو الآية قوله: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» وقوله:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف من تقرير واسع قدرته، وإثبات عظيم سلطانه فقال:
(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن ويحدث فورا بلا تأخير.
وهذا ولا شك تمثيل لتأثير قدرته فيما يريد، بأمر المطاع لمن يطيعه في حصول الأمور به بلا توقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل ولا استعمال آلة.
وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة، نزّه نفسه عما وصفوه به، وعجّب السامعين مما قالوه فقال:
(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزه ربنا الحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض- عن كل سوء.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع العباد يوم المعاد، فيجازى كل عامل بما عمل، وهو العادل المنعم المتفضل.(23/39)
ونحو الآية قوله: «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وقوله: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» .
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل، نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تنير قلوبنا بالتبصر في فهم كتابك، كما أنزت به قلوب عبادك الأبرار، وأصفيائك الأطهار.
أهم مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من عند الله حقا، وأنه نذير للأميين وغيرهم.
(2) المنذرون من النبي صلّى الله عليه وسلم صنفان: صنف ميئوس من صلاحه، وآخر قد سعى لفلاحه.
(3) أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، وتكتب آثارهم.
(4) ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه فدخلوا النار ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.
(5) الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.
(6) تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.
(7) جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم وسرعة أخذهم وندمهم حين معاينة العذاب.
(8) الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.
(9) توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
(10) قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمس أعينهم.
(11) الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.
(12) إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.(23/40)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
سورة الصافات
هى مكية بلا خلاف في ذلك. نزلت بعد سورة الأنعام. وآيها ثنتان وثمانون ومائتان، ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة فى قوله: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» .
(2) إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها.
(3) المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشىء كان، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا إذا كان المريد واحدا كما يشير إلى ذلك قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» .
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
تفسير المفردات
الصافات: هم جماعة الملائكة يقفون صفوفا لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة، والزاجرات زجرا: أصل الزجر الدفع عن الشيء بتسلط وصياح ثم استعمل(23/41)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
فى السّوق والحث على الشيء، وفي المنع والنهى والمراد بها هنا الملائكة، لأن لهم تأثيرا في قلوب بنى آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير، والتاليات ذكرا:
هم الملائكة يجيئون بالكتب من عند الله إلى أنبيائه، والمشارق: هى مشارق الشمس بعدد أيام السنة، فهى في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب، والمغارب كذلك متعددة تعدد المشارق، ولم يذكرها اكتفاء بتعدد المشارق.
الإيضاح
أقسم سبحانه بالملائكة يتمون صفوفهم في مقام العبودية، ويردعون الناس عن الشر بالإلهام، ويتلون آياته على أنبيائه- إن معبودكم الذي يجب إخلاص العبادة له، لواحد لا ثانى له ولا شريك، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من الخلق، ومالك ذلك كله وقائم عليه.
وإجمال ذلك- إنه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم وتجردوا لعبادته، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون، ويحضون الناس على فعل الخير، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان، ويتلون آياته على أنبيائه حين نزولهم بالوحى- إن ربكم لواحد وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)(23/42)
تفسير المفردات
الدنيا: مؤنثة الأدنى أي أقرب السموات من أهل الأرض والمارد والمريد، المتعرى عن الخير من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى من الورق، يسمعون: أي يستمعون، والملأ: الجماعة يجتمعون على رأى، والمراد بهم هنا الملائكة، يقذفون:
يرجمون، والدحور: الطرد والإبعاد، واصب: أي دائم، والخطفة: الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة، والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والثاقب: المضيء.
الإيضاح
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي إنا جعلنا الكواكب زينة فى السماء القريبة منكم بما لها من البهجة والجمال، وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها، المفكرين في حسابها، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات، بحيث يكون كل سيار بعيدا من الشمس ضعف بعد الكوكب الذي قبله.
(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء أن يتطاول لدرك جمالها، وفهم محاسن نظامها، الجهّال والشياطين المتمردون من الجن والإنس، لأنهم غافلون عن آياتنا، معرضون عن التفكر في عظمتها فالعيون مفتحة، ولكن لا تبصر الجمال ولا تفكر فيه، حتى تعتبر بما فيه.
(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي إن كثيرا من أولئك الجهال والشياطين محبوسون فى هذه الأرض، غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا، والتأمل في إدراك أسرارها، والبحث في سر عظمتها.
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) أي وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب، فهم تائهون في سكراتهم، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات والإحن،(23/43)
فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرق للحكماء، ويبهر أنظار العلماء، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته، وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر حتى ذاقوا حلاوته، فخروا ركعا سجدا مذهولين من ذلك الجمال والجلال.
(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث فى سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه، وبديع قدرته.
ثم بين من وفقهم الله وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال:
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب، فحنّ إلى مثلها، وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثا عن سر عظمته، ومعرفة كنه جماله، وهم من اصطفاهم الله من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده، وهم أنبياؤه وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والخلاصة- إن الدنيا بيت فرشه الأرض، وسقفه السماء، وسراجه الكواكب، والبيوت الرفيعة العماد، العظيمة البناء كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافّون، والأنبياء والعلماء المخلصون، أما الجهال والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون، فلقد يعيش المرء منهم ويموت وهولاه عن درك هذا الجمال، إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه، وقد تبدو لهم أحيانا بارقة من محاسن هذا الجمال، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضىء قلوبهم، وينير ألبابهم، فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة، وقيض لهم التوفيق والهداية، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه، والفوز بنعيمه «1» .
__________
(1) وقد نحونا بهذا نحوا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير إذ أنهم قالوا إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شىء منها، وعصم الله وحيه وكتابه.(23/44)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 19]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
تفسير المفردات
فاستفهم: أي فاستخبر مشركى مكة من قولهم: استفتى فلانا إذا استخبره وسأله عن أمر يريد علمه، أشد خلقا: أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، لازب: أي ملتصق بعضه ببعض، وأنشدوا لعلى بن أبى طالب:
تعلّم فإن الله زادك بسطة ... وأخلاق خير كلّها لك لازب
يسخرون: أي يستهزئون، وإذا ذكروا لا يذكرون: أي وإذا وعظوا لا يتعظون، آية: أي معجزة، يستسخرون: أي يبالغون في السخرية والاستهزاء.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته، وعلمه وقدرته، بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب- وهنا أثبت الحشر والنشر وقيام الساعة ببيان أن من خلق هذه العوالم التي هى أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى كما جاء في السورة السابقة «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» وجاء في قوله: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ»(23/45)
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي سل هؤلاء المنكرين للبعث: أىّ أصعب إيجادا، أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟
والسؤال للتوبيخ والتبكيت، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقا، أي وإذا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟.
ثم زاد الأمر بيانا وأوضح هذا التفاوت فقال:
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض، وفي هذا شهادة عليهم بالضعف والرخاوة دون الصلابة والقوة، فأين هم من كواكب السماء، وعالم الملائكة، وتلك العوالم المشرقة؟ وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه.
ثم خاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله:
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء، ولا يتعجبون من تلك الدلائل، بل مثلك من يعجب منها، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات.
والخلاصة- إن قلوبهم غلف فلا تنظر فيما حولها من البراهين والآيات الدالة على البعث، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به، فحالهم عجب، ويحق لك أن تكثر التعجب منها، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك، ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله.
(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة،(23/46)
لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فماذا تفيد العبر أو تجدى الذكرى مع قوم هذه حالهم؟.
ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال:
(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم ويذكّرهم بأيام الله، نادى بعضهم بعضا متضاحكين مستهزئين:
هلمّوا وانظروا إلى ما يفعله ذلك الساحر الذي يخلب ألبابنا، ويسلب عقولنا، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا، وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم:
(وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة مما يدّعى أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه- إلا ألاعيب ساحر، وخدعة أريب ماهر، يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا، وما هى من دلائل الحق في شىء، فإياكم أن تخدعوا بها، وترجعوا عن الدين الحق الذي عليه آباؤكم، وقد مرت عليه القرون، ونحن له متبعون.
ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث فقالوا:
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) أي إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول وإن كان فيه ما يدهش العقول- لا نتقبل منه تلك المقالة، وهى إحياء العظام النخرة، والأجسام التي صارت ترابا، إن هذه إلا إحدى الكبر، فلا ينبغى أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل، ولا يصل إلى مثلها الفكر.
ثم زادوا في استبعادهم وعظيم تعجبهم قالوا:
(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي أيبعث آباؤنا الأولون أيضا، وهذا أغرب لأن آباءهم أقدم منهم، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادا.
وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة أجاب عنها بقوله:
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، وأنتم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة.(23/47)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
ونحو الآية قوله: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» .
ثم بين سهولة ذلك أمام قدرة الله فقال:
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي لا تستصعبوا البعث فإنما يكون بصيحة واحدة بالنفخ في الصور، فإذا الناس قيام من مراقدهم أحياء ينظرون إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 26]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
تفسير المفردات
قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، والدين: الجزاء كما جاء فى قولهم
«كما تدين تدان»
، والفصل: الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل منهما عن الآخر، احشروا: أي اجمعوا، وأزواجهم: أي أمثالهم وأشباههم، فيحشر أصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنا كذلك، واهدوهم: أي دلوهم عليها، والصراط:
الطريق، والجحيم: النار، وقفوهم: أي احبسوهم في الموقف، مسئولون: أي عن عقائدهم وأعمالهم، لا تناصرون: أي لا ينصر بعضكم بعضا، مستسلمون: أي منقادون وأصل الاستسلام: طلب السلامة ويلزمه الانقياد عرفا.(23/48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه أردف هذا بيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب: لنا الويل والهلاك فقد حلّ ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على ألسنة الرسل، فكذبناهم وسخرنا منهم، وأنكرنا صدق ما قالوا.
ثم أقبل بعضهم على بعض يتناجون ويقولون:
(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو اليوم الذي يمتاز فيه المحسن بما قدم من عمل عن المسيء الذي دسّى نفسه بما ران على قلبه من الفسوق والعصيان، ومحالفة أوامر الملك الديان، وينال كل منهما جزاء ما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيدخل الأول جنات النعيم على فرش بطائنها من إستبرق، ويدخل الثاني في سقر «وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ» .
ثم ذكر خطاب الملائكة بعضهم لبعض فقال:
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي تقول الملائكة للزبانية: احشروا الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب مع أشباههم وأمثالهم، فاجعلوا ذوى المعاصي المتشابهة، بعضهم مع بعض، فاجعلوا الزناة معا، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك، واجعلوا عابدى الأصنام(23/49)
ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معا، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك وكبير المعصية.
ثم زادوا في تأنيبهم وتوبيخهم فقالوا:
(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي فأرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها، وفي هذا زيادة في النكاية بهم والازدراء بشأنهم، إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم.
(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي واحبسوهم في الموقف، حتى يسألوا عما كسبت أيديهم، واجترحوا من الآثام والمعاصي، وعن تلك العقائد الزائفة التي زينها لهم الشيطان فأضلتهم عن سواء السبيل.
وفي الأثر «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس: عن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم كسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟» .
ثم زادوهم تقريعا وتعنيفا فسألوهم:
(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟) أي لأىّ شىء لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تزعمون أنكم تتناصرون، فقد روى أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر.
وأخّر سؤالهم إلى ذلك الحين إذ كان الوقت وقت تنجيز العذاب، وشدة الحاجة إلى النصير والمعين، وقد انقطع الرجاء منه، فالتقريع حينئذ أشد وقعا، وأعظم أثرا.
والخلاصة- إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم وقطع أعذارهم بعد حسابهم.
ثم ذكر أنهم لا ينازعون في الوقوف ولا في غيره، بل ينقادون فقال:
(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي بل هم منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة.(23/50)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 37]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
تفسير المفردات
عن اليمين: أي من جهة الخير وناحيته فتنهوننا عنه، من سلطان: أي من قهر وتسلط عليكم، طاغين: أي مجاوزين الحد في العصيان، فحق علينا: أي وجب علينا، فأغويناكم: أي دعوناكم إلى الغىّ والضلال.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف أن الكافرين يندمون يوم القيامة على ما فرط منهم من العناد والتكذيب للبعث حيث لا يجدى الندم- أردف هذا ذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فيلقى الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، وما ألزمناكم بشىء مما كنتم تعبدون أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم، ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد أعرضوا عنها استكبارا(23/51)
وقالوا: أنترك دين آبائنا اتباعا لقول شاعر مجنون ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون ولا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق الذي لا محيص عن تصديقه وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة.
الإيضاح
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي وأقبل التابعون من الكفار، ورؤساؤهم المضلون لهم، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف على طريق الجدل والخصومة، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار، فألقى الأتباع مسئولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال، وردّ الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء فى الآية بعد.
ثم فصل طريق التساؤل وكيف يحدث فقال:
(قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر:
إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير وتصدوننا عن سلوك طريقه، وترغّبوننا فيما تدينون به وتعتقدونه، ومن ثم أضللتمونا وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة.
فردّ الرؤساء عليهم وأجابوهم بجوابين:
(1) (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم قالوا: إننا ما أضللناكم، بل أنتم كنتم بطبيعة أنفسكم مستعدين للكفر بما دسيتم به أنفسكم من أفعال الشرك والمعاصي، إذ كنتم تشركون بالله سواه من الأوثان والأصنام، وترتكبون أنواع الفجور والآثام ما كان سببا في الطبع على الأفئدة والقلوب حتى لم تعرفوا للحق سبيلا، ولا للخير طريقا.
(2) (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم، لم نجبركم عليه ولم نسلبكم اختياركم، فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون، مسرورة مما تأتون وما تذرون، مائلة إلى الكفر والعصيان، تواقّة للسير على سننه(23/52)
واتباع طريقته، فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا، وزينه الشيطان لنا، ووسوس به إلينا، فلبّيتم دعوتنا سراعا، وسرتم فيما نحن فيه سائرون، إذ كنتم لذلك مستعدين، ولمثله محبين، فما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة باختياركم، لا جبرا لكم.
ثم ذكروا نتيجة لما تقدم فقالوا:
(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي ولأجل أنا بطبعنا كنا قوما طاغين، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين، وعن الإيمان بربنا معرضين- ثبت علينا وعيده بأنا ذائقو العذاب لا محالة، إذ كان من عدله أن يجازى كل نفس بما كسبت، ويثيبها بما عملت، وهو الخبير بها وبما اجترحت، وهذا جزاء لا محيص عنه، وهو نتيجة حتمية لما فعلنا باختيارنا، واقتضاه استعدادنا، فلا يلومنّ كل منا إلا نفسه، ولا يلم بعضنا بعضا، ولا داعى إلى الجدل والخصام وشد النكير، فلا يجنى من الشوك العنب، ولا يعقب الضلال إلا النار، عدلا من ربنا كما وعد بذلك على ألسنة رسله، وكنا بذلك عالمين، ولكنا كنا عن الخير معرضين، وعن اتباعه مستكبرين.
(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبّنا أن تكونوا مثلنا وهو غير ملزم لكم، وإنما أضركم سوء اختياركم، وقبح استعدادكم، وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب التي وعدتم به على ألسنة الرسل.
وبعد أن ذكر حالهم أعقبه. بذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعا رؤساء ومرءوسين فقال:
(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والغواية، وإن كان المغوون أشد عذابا، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارا مثل أوزار من أضلوهم كما ثبت في الحديث وقد تقدم ذكره مرارا.
ثم ذكر سبحانه أن هذا عدل منه على مقتضى سننه فقال:(23/53)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين، وفاقا لما تقتضيه الحكمة ويوجبه العدل بين العباد، فيعطى كل عامل جزاء ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم فصل بعض ما استحقوا لأجله العذاب فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي إنهم كانوا إذا لقّنوا كلمة التوحيد نفروا منها وأعرضوا عن قبولها، وصعّروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها.
وذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته:
(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟) أي أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلّط ويهذى؟ فمثله لا يستمع لكلامه ولا يصغى إلى قوله.
وقد جمعوا في كلامهم بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة، فإنكار الأولى فى استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون.
ثم كذبهم سبحانه فيما قالوا فقال:
(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنه صلّى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي لا شك فيه وهو التوحيد الذي يثبته العقل ويؤيده البرهان، وبمثله جاء الأنبياء السابقون، فهو لم يكن بدعا بين الرسل، بل سار على شاكلتهم واتبع نهجهم، فكيف يكون من هذه حاله شاعرا أو مجنونا؟
[سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 49]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)(23/54)
تفسير المفردات
بكأس: أي بخمر، من معين: أي من نهر ظاهر للعيون جار على وجه الأرض، لذة: أي ذات لذة، غول: أي صداع، ينزفون: أي لا تذهب عقولهم بالسكر كما ينزف الرجل ماء البئر وينزعه، قاصرات الطرف: أي قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم، عين واحدتهن عيناء: أي واسعة العيون في جمال، المكنون: المستور الذي لا تمسه الأيدى ولا يصاب بالغبار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال وإلقاء كل منهما تبعة ما وقعوا فيه من الهلاك على الآخرين- بين هنا أن لا فائدة من مثل هذا الخصام والجدل، فإن العذاب واقع بكم لا محالة جزاء ما قدمتم من عمل، ثم أردفه ما يلقاه عباده المخلصون من النعيم المقيم، واللذات التي قصها علينا في تلك الآية مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي إنكم أيها الكفار المجرمون لتذوقون العذاب الأليم الذي لا تنفك أو جاعه عنكم، وما هو أبدا بمزايلكم.
ثم بين العلة في لحوقه بهم فقال:(23/55)
(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وما ينالكم من العذاب إنما هو نتيجة ما قدمتم من عمل، وأسلفتم من معصية «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .
وبعد أن أبان حال المجرمين، ذكر حال عباد الله المؤمنين العالمين، وما يلاقونه من الجزاء والنعيم فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصوا له العمل وأنابوا إليه، أولئك لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذّ وطاب، فيمتعون بلذيذ الفواكه ذات الطعم الجميل والرائحة الشذيّة، وتأتيهم وهم مكرمون كما تقدّم للملوك المترفين وذوى اليسار في الدنيا.
وفي ذلك إيماء إلى أن ما يأكلونه في الجنة إنما هو للتفكه والتلذذ لا للقوت، لأنهم فى غنى عنه، لعدم تحلل شىء من أجسامهم بالحرارة الغريزية حتى يحتاجوا إلى بدل منه.
وما جاء في قوله: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» فهو بيان لأنواع ما يأكلون.
ثم بين المكان الذي يأتيهم فيه الرزق وذكر حالهم إذ ذاك فقال:
(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي إنهم يأتيهم ذلك الرزق وهم في جنات النعيم جالسين على سرر متقابلين، ليأنس بعضهم ببعض، ويتمتعوا بطيب الحديث وفي ذلك لذة روحية لا يدركها إلا ذوو النّهى وأرباب الحجا.
وبعد أن ذكر صفة المأكل والمسكن ذكر وصف الشراب فقال:
(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي وكما يتمتعون بطيب المأكل يتمتعون بجيد الشراب تتميما للنعمة كما هو حال العظماء في الدنيا، فيؤتى لهم بصنوف الخمور على سبيل السعة والكثرة، كأنها تؤخذ من نهر جار فلا تقتير ولا بخل، بل كلما طلبوا وجدوا، وفي ذلك إشارة إلى أنها رقيقة لطيفة، وأنها ليست كخمر الدنيا تداس بالأقدام كما قال شاعرهم:(23/56)
وشمولة من عهد عاد قد غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار
لانت لهم حتى انتشوا فتمكّنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار
(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لونها مشرق حسن بهيّ لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع، واللون الأسود أو الأصفر، أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم، وهى لذيذة الطعم كما هى طيبة اللون وطيبة الريح، وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة كما قال أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسته سرّاء
وجاء وصفها بالحمرة قبل المزج، والصفرة بعده كما قال:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت في ثيابى نرجس وشقائق
حكت وجنة المحبوب صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
ثم زاد في مدحها وامتيازها عن خمر الدنيا فقال:
(لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي هى لا تؤثر في الأجسام كما تؤثر خمور الدنيا، فلا تصدّع الرأس، ولا تفسد العقل بالسكر كما يكون في خمر الدنيا كما قال:
فما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
والخلاصة- إنه ليس فيها شىء من أنواع المفاسد التي تكون حين شرب الخمر فى الدنيا، فهى لا تحدث صداعا ولا خمارا ولا سكرا ولا عربدة ولا نحو ذلك مما هو لازم لخمور الدنيا.
ثم ذكر محاسن زوجاتهم ليكون في ذلك تتميم لبيان ما آتاهم ربهم من النعم فقال:
(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) أي ولديهم نساء عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن، واسعات العيون في جمال.
ثم زاد بيانا في وصف جمالهن بما شبههن به فقال:(23/57)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي إنهن في بياض يشوبه قليل من الصفرة كالبيض المستور في الأعشاش الذي لم تمسسه الأيدى ولم يعله الغبار، وهذا اللون مما تهيم به العرب، فقد شبهت النساء ببيضات الخدور كما قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
تفسير المفردات
قرين: أي خليل وصاحب، لمدينون: أي لمجزيون، مطلعون: أي مشرفون فناظرون إلى أهل النار، سواء الجحيم: أي وسط النار، لتردين: أي لتهلكنى، من المحضرين: أي المسوقين للعذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من النعيم المقيم، ثم ذكر سرورهم وحبورهم في المآكل والمشارب وجميل المساكن والأزواج الحسان- بين هنا أنهم(23/58)
لخلوّ بالهم من المشاغل، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشئون، مع اختلاف الأهواء، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك لولا لطف ربه به، وقد كان مآله أن صار فى سواء الجحيم، ثم ذكر نعمة ربه عليه بسبب ما كان يدين به في الدنيا.
الإيضاح
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتى قمر منير ... يجول بوجهه ماء الشباب
والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال، وفراغ البال، واطمئنان النفس، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.
ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال:
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة: إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبا:
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.(23/59)
وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال:
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم الله من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين؟ وكيف خذله الله وأوقعه في الهلكة؟
وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار- فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث فى شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها.
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرّها وشديد لهبها.
(قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله: إنك لقد كدت تهلكنى بدعائك إياى إلى إنكار البعث والقيامة.
(وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولولا فضل ربى بإرشاده لى إلى الحق، وعصمتى من الباطل، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب.
ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه، واغتباطا لحاله، بمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له، فيزيد به تعذيبه.
(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال، وقد قيل لحكيم: ما شرّ من الموت؟ قال الذي يتمنّى معه الموت.
والخلاصة- إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة فى دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب.(23/60)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون، جاء من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك وفي نفى العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم، وعدم خوف زواله، فإن خوف الزوال نوع من العذاب كما قال:
إذا شئت أن تحيا حياة هنية ... فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
وإلى نفى الهرم واختلال القوى، لأنه ضرب من العذاب أيضا.
ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته فقال:
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما نحن فيه من نعيم مقيم، مع تمتع بسائر اللذات، من مآكل ومشارب فوز أيّما فوز، ولا سيما الفوز بذلك النعيم الروحي وهو رضا الله عنه كما قال: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .
ثم أومأ إلى اغتباطه بما هو فيه، وبين أن ذلك كان عاقبة كسبه وعمله فقال:
(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا النعيم والفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة، ولا يعملوا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام، المشوبة بصنوف الآلام.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)(23/61)
تفسير المفردات
النزل: ما يعدّ للضيف وغيره من الطعام والشراب، والزقوم: شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة، سميت بها الشجرة الموصوفة في الآية، فتنة: أي محنة وعذابا في الآخرة، وابتلاء في الدنيا، أصل الجحيم: أي قعر جهنم، طلعها: أي ثمرها، رءوس الشياطين:
أي في قبح المنظر ونهاية البشاعة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان فيقولون:
وجه كأنه وجه شيطان، كما يشبهون حسن الصورة بالملك، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، والشّوب: الخلط، والحميم: الماء الشديد الحرارة، مرجعهم:
أي مصيرهم، ألفوا: أي وجدوا، يهرعون: أي يسرعون إسراعا شديدا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب أهل الجنة، وذكر ما يتمتعون به من مآكل، ووصف الجنة ورغب فيها بقوله: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) .
أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار وما يلاقون فيها من العذاب اللازب الذي لا يجدون عنه محيصا، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم، جزاء ما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان، من الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ؟) أي أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة كرامة منى لهم خير، أم ما أوعدت به أهل النار من الزّقوم المرّ البشع؟.
وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم، (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء واختبارا للكافرين،(23/62)
فهم حين سمعوا في أنها في النار قالوا: كيف يكون ذلك والنار تحرق الشجر؟ مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها، فهو أقدر على خلق الشجر فيها وحفظه من الاحتراق.
ثم وصف هذه الشجرة فقال:
(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار، وأغصانها ترتفع إلى أركانها.
(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها في قبح منظره، وكراهة رؤيته، كأنه رءوس الشياطين والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة لا تعدلها صورة أخرى، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي: كأن وجهه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس شيطان، ألا ترى إلى امرئ القيس وقد سلك هذا السبيل، ونهج هذا النهج فقال:
أيقتلني والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وعلى العكس من هذا تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف «ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» .
ثم بين أن مآكل أهل النار من هذه الشجرة فقال:
(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي فإنهم ليأكلون من ثمرها فيملئون بطونهم منه، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه ونهاية نتنه وبشاعة رائحته، ولكن ماذا يعملون وقد غلب عليهم الجوع؟ والمضطر يركب الصعب والذلول، ويستروح من الضرّ بما يقار به فيه.
وبعد أن وصف طعامهم وبين شناعته، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع فقال:
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش(23/63)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
يستغيثون منه فيغاثون بماء كالمهل قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم شوى لحوم وجوههم، وإذا شربوه قطّع أمعاءهم.
ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك لا مأوى لهم إلا نار جهنم وبئس المصير فقال:
(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب، لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فهم تارة في هذه وتارة في تلك كما قال:
«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» .
والخلاصة- إنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم وهى الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم ثم يسقون الحميم ثم يرجعون إلى تلك الدركات.
ثم علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به فقال:
(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي ثم إنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم بلا برهان، وأسرعوا إلى تقليدهم بلا تدبر ولا روية، وكأنهم استحثّوا على ذلك، وأزعجوا إزعاجا.
وفي هذا دليل على أن التقليد شؤم على المقلّد وعلى من يتبعه، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن في القرآن آية غير هذه فى ذم التقليد لكفى.
[سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)(23/64)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين دون نظر ولا تدبر- أردفه ما يوجب التسلية لرسوله على كفرهم وتكذيبهم، بأن كثيرا من الأمم قبلهم قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم، فليكن لك فيهم أسوة، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ.
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم السابقة، فعبدوا مع الله آلهة أخرى كما فعل قوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح.
ثم ذكر رحمته بعباده وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار فقال:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فأرسلنا فيهم أنبياء ينذرونهم بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم ولم يستجيبوا دعوتهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر كيف كان عاقبة الكافرين المكذبين، فقد دمرهم الله ونجّى المؤمنين ونصرهم.
وهذا خطاب موجه إلى كل من شاهد آثارهم، وسمع أخبارهم، فقد سمعت قريش بأنباء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وكيف كان عاقبة أمرهم.
وقد استثنى من هؤلاء المهلكين عباد الله المخلصين فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه،. أنجاهم من عذابه ففازوا بالنعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض.(23/65)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
قصص نوح عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر على سبيل الإجمال ضلال كثير من الأمم السالفة- شرع يفصل ذلك فذكر نوحا عليه السلام وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول مدة لبثه فيهم، فلما اشتدوا واشتطوا في العناد دعا ربه أنى مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه، وأغرق قومه المكذبين، ونجاه وأهله أجمعين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي ولقد نادانا نوح واستنصر بنا على كفار قومه لمّا بالغوا في إيذائه وهمّوا بقتله حين دعاهم إلى الدين الحق، فلنعم المجيبون نحن، إذ لبّينا نداءه وأهلكنا من كذب به من قومه.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية: (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال صدقت ربنا، أنت أقرب من دعى، وأقرب من بغى، فنعم المدعوّ، ونعم المعطى، ونعم المسئول، ونعم المولى أنت ربنا، ونعم النصير» .(23/66)
ثم بين سبحانه أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
(1) (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الكرب: الغم الشديد، أي فنجيناه من الغرق ومن أذى قومه ومن كل ما يكربه ويسوءه.
(2) (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وأهلكنا من كفر بنا استجابة لدعوته:
«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ولم يعقب أحد ممن كان فى السفينة عقبا باقيا سوى أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك، وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شىء من هذا، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبة، ولا أن الغرق عمّ الأرض جميعا، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقين إنما هو بالنسبة لذرية من معه فى السفينة، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة من لم تبلغهم الدعوة، فلم يستوجبوا الغرق كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية (3) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه أنه سلّم عليه ليقتدى به، فلا يذكره أحد بسوء فقال:
(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ونحو الآية قوله: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ» .
ثم علل ما فعله به بأنه جزاء على إحسانه فقال:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان في زمرة المحسنين فجازيناه بالإحسان إليه و «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .(23/67)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
وإحسانه أنه جاهد أعداء الله بالدعوة إلى دينه، وصبر طويلا على أذاهم، إلى نحو من هذا.
ثم بين سبب إحسانه بقوله:
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن إحسانه كان بإخلاص عبوديته وكمال إيمانه.
وفي هذا إيماء إلى أن أعظم الدرجات، وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أغرقنا الآخرين من كفار قومه، ولم نبق لهم عينا ولا أثرا.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 94]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
تفسير المفردات
من شيعته: أي ممن سار على دينه ومنهاجه، سليم: أي سالم من جميع العلل والآفات النفسية كالحسد والغل وغيرهما من النيات السيئة، والإفك: الكذب، سقيم:(23/68)
أي مريض، فراغ: أي فذهب خفية إلى أصنامهم، وأصل الروغ والروغان: الميل قال شاعرهم:
ويريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
باليمين: أي بقوة وشدة، يزفون: أي يسرعون من زفّ النعام، أي أسرع.
الإيضاح
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن ممن سار على نهج نوح، وسلك طريقه، فى اعتقاد التوحيد والبعث، والتصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين- إبراهيم صلوات الله عليه.
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أخلص قلبه لربه وجعله خاليا من كل شئون الحياة الدنيا، فلا غش لديه ولا حقد، ولا شىء مما يشينه من العقائد الزائفة، والصفات القبيحة.
ثم فصل ما سلف فقال:
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ؟) أي جاء بقلب سليم حين قال منكرا على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان: أىّ شىء تعبدون؟
وهذا منه استنكار وتوبيخ لهم على ما يعبدون، إذ لا ينبغى لعاقل أن يركن إلى مثل هذه المعبودات التي لا تضر ولا تنفع.
ثم بين الإنكار وفسره بقوله:
(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟) أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل من نصّ، ولا تأييد من نقل، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأى.
(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أىّ شىء ظنكم برب العالمين الحقيق بالعبادة؟ أي أعلمتم أىّ شىء هو، حتى جعلتم الأصنام شركاء له؟(23/69)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة: نظر في النجوم أي فأطال الفكر فيما هو فيه.
(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي إنى أحس بخروج مزاجى عن حال الاعتدال، ولا أرى فى نفسى خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه ألا يخرج معهم في يوم عيدهم، لينفّذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم وإعلان الحرب عليهم، فى عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقا فيما يقول إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذى بال يخاف منه الخطر على نفسه أن يكون مهموما مغموما مفكّرا في عاقبة ما يعمل.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي فأعرضوا عنه وذهبوا إلى معبدهم وتركوه في مكانه.
(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي فذهب مستخفيا إلى أصنامهم التي يعبدونها وقال لها استهزاء: ألا تأكلون من الطعام الذي يقدّم إليكم؟ وكانوا يضعون فى أيام أعيادهم طعاما لدى هذه الأصنام لتبارك فيه.
(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي أىّ شىء منعكم الإجابة عن سؤلى، ومراده بذلك التهكم بهم، واحتقار شأنهم.
(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة حتى تركهم جذاذا إلا كبيرهم كما تقدم في سورة الأنبياء.
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل قومه إليه بعد رجوعهم من عيدهم مسرعين يسألون عمن كسرها، وقد قيل لهم: إنه إبراهيم، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها ولما أخذوا يعتبون عليه طفق يؤنبهم ويعيبهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 95 الى 101]
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)(23/70)
الإيضاح
(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟) أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم؟ فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم تجعلونه معبودا لكم، أفلا عاقل منكم ينهاكم عن مثل هذا؟
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم، وإثم كبير.
ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية التي لم يستطيعوا دفعها- عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة.
(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) تقدم هذا بمزيد إيضاح في سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فأرادوا إحراقه في النار فأنجيناه منها، وجعلناها بردا وسلاما عليه، وجعلنا كيدهم في نحورهم، وكتبنا له الغلبة والنصر عليهم.
وبعد أن يئس من إيمانهم أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي وقال إنى مفارق لتلك الديار، ومهاجر إلى مكان أتفرغ فيه لعبادة ربى، وإنه سيهدينى إلى ما فيه صلاح دينى، وهذا المكان هو الأرض المقدسة.
وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان إذا لم يتمكن من إقامة دينه على الوجه المرضى فى أرض وجبت عليه الهجرة منها إلى أرض أخرى.(23/71)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
ولما هاجر من وطنه طلب الولد فقال:
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لى أولادا مطيعين يعينوننى على الدعوة، ويؤنسوننى في الغربة، ويكونون عوضا من قومى وعشيرتى الذين فارقتهم.
فاستجاب ربه دعاءه فقال:
(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بمولود ذكر يبلغ الحلم ويكون حليما. وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم، لأنه لازم لتلك السن، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر، وحسن الصبر، والإغضاء عن كل أمر، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة، وولد له إسحاق وعمره تسع وتسعون سنة.
وأي حلم مثل حلمه، عرض عليه أبوه وهو مراهق أن يذبحه فقال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما ظنك به بعد بلوغه، وما نعت الله نبيا بالحلم غير إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام.
[سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)(23/72)
تفسير المفردات
فلما بلغ معه السعى أي فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله وحاجات المعيشة، أسلما: أي استسلما وانقادا لأمر الله، تله: أي كبه على وجهه صدقت الرؤيا: أي حققت ما طلب منك، البلاء المبين. أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، بذبح: أي حيوان يذبح، باركنا عليه: أي أفضنا عليه البركات.
المعنى الجملي
اعلم أنه بعد أن قال سبحانه: فبشرناه بغلام حليم- أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن المراهقة بقوله: فلما بلغ معه السعى، إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه وإطاعته في تنفيذ ما أمر به وصبره عليه، ولما حان موعد التنفيذ كبه على وجهه للذبح فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين، وبارك عليه وعلى إسحاق وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات.
الإيضاح
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟) أي فلما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه- قال له يا بنى إنى رأيت في المنام أنى أذبحك فما رأيك؟ وقد قص عليه ذلك ليعلم ما عنده فيما(23/73)
نزل من بلاء الله، فيثبت قدمه إن جزع، وليوطن نفسه على الذبح، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله.
ثم بين أنه كان سميعا مطيعا منقادا لما طلب منه.
(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال يا أبت سميعا دعوت، ومن مجيب طلبت، وإلى راض ببلاء الله وقضائه توجهت، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به، وما على إلا الانقياد وامتثال الأمر، وعلى الله المثوبة، وهو حسبى ونعم الوكيل.
ولما خاطبه بقوله يا بنى عنى سبيل الترحم، أجابه بقوله يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم وفوض الأمر إليه حيث استشاره، وأن الواجب عليه إمضاء مارآه.
ثم أكد امتثاله للأمر بقوله:
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر على القضاء، وأحتمل هذه اللأواء، غير ضجر ولا برم بما قضى وقدر، وقد صدق فيما وعد، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه، ومن ثم قال سبحانه في شأنه مادحا له «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» .
ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا فقال:
(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه:
وروى عن مجاهد أنه قال لأبيه: لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى، عسى أن ترحمنى فلا تجهز على، اربط يدى إلى رقبتى، ثم ضع وجهى للأرض، ففعل.
(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح. فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء: وحينئذ استبشرا وشكرا لله على ما أنعم به عليهما من(23/74)
دفع البلاء بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله، مع إظهار فضلهما، وإحراز المثوبة من ربهما.
ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إناكما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله، حين أعد العدّة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا- نجزى كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير.
ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة فقال:
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيّما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد، لا رادّ لقضائه ولا مانع لقدره، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها.
(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير قاله الحسن البصري، ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه.
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى فقال:
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا بين الناس في الدنيا فصار محبّبا بين الناس جميعا من كل ملة ومذهب، فاليهود يجلّونه، والنصارى يعظمونه، والمسلمون يبّجلونه، والمشركون يحترمونه، ويقولون إنا على ملة إبراهيم أبينا، وذلك استجابة لدعوته حين قال: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .(23/75)
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة فقال:
(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة وهى نعمة الولد فقال:
(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وآتيناه إسحاق ومننّا عليه بنعمة النبوة له وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا وصبره على بلوانا.
(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وأفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة، فكثّرنا نسلهما وجعلنا منه أنبياء ورسلا، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة فيقولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله فآمن بربه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، ومن ظلم نفسه ودساها بالكفر والفسوق والمعاصي.
وفي ذلك تنبيه إلى أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة، ولا عيب عليهم في شىء منه كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» .
من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟
ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب وعن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن ثم حدث الخلاف فيها.
1- فمن قائل إنه إسحاق، ويؤيده:
(ا) ما روى عن يوسف عليه السلام أنه قال لفرعون مصر في وجهه: أترغب(23/76)
عن أن تأكل معى وأنا والله يوسف بن يعقوب نبى الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
(ب) ما روى عن أبى الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذلك يوسف بن يعقوب ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
(ح) ما حكاه البغوي عن عمر وعلىّ وابن مسعود والعباس أنه إسحاق.
ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون عنه، وكان يحدّث بها عن الكتب القديمة وهى جامعة بين الغثّ والسمين ثقة بأن عمر رضى الله عنه قد استمع منه، ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها، وعزل جيدها من بهرجها وصحيحها من سقيمها.
2- ومن قائل إنه إسماعيل وهو الذي يساوقه صحيح النظر ونصوص القرآن ويؤيده.
ا- رواية ذلك عن ابن عباس، فقد روى عطاء بن أبى رباح عنه أنه قال: المفدى هو إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.
(ب) روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال: الذبيح إسماعيل.
(ح) أن ابن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن الذي أمر الله ذبحه من ابنيه هو إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال:
«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل- قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا.
وعلى الجملة فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها يؤيد أنه إسماعيل، ولكن اليهود حسدوا العرب على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان ومن(23/77)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
الفضل الذي ذكره الله له لصبره لما أمر به، فجحدوا ذلك وزعموا أنه إسحاق لأنه أبوهم والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا مطيعا لربه.
قصص موسى وهارون عليهما السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
الإيضاح
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي ولقد أنعمنا عليهما بالخير الكثير، فآتيناهما النبوة ونصرناهما على أعدائهما من قبط مصر وملكناهما أرضهم وأغرقنا من كان مستذلهما إلى نحو ذلك.
ثم فصل هذه النعم فقال:
(1) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى من المهانة والمذلة التي لولا إلفهم لها لكانت كافية في انقراضهم، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال وحيازته، والتمتع بلذات الحياة الدنيا.(23/78)
(2) (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي ونصرناهم على أعدائهم فغلبوهم وملكوا أرضهم وأموالهم وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم فكانوا أصحاب الصّولة والسلطان والدولة والرفعة.
(3) (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأعطيناهما الكتاب الجلىّ الواضح الجامع لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا، وهو التوراة كما قال: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» وقال: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» .
(4) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ودللناهما على طريق الحق بالعقل والنقل وأمددناهما بالتوفيق والعصمة.
(5) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا لهما الذكر الحسن والثناء الجميل فيمن بعدهم، وهذا ما تصبو إليه النفوس قال شاعرهم:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر: الذكر للإنسان عمر ثان.
(6) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي وجعلنا الملائكة والإنس والجن يسلمون عليهما أبد الدهر، ولا شىء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال كما
ورد فى الحديث «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» .
ثم ذكر سبب هذه النعم فقال:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام في هذا نظير ما سلف من قبل.(23/79)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
قصص إلياس عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
الإيضاح
(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن جرير: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هرون أخى موسى عليهما السلام، فهو إسرائيلى من سبط هرون.
(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي أنذر قومه وحذرهم بأس الله فقال: ألا تخافون الله، فتمتثلوا أوامره، وتتركوا نواهيه؟
ثم ذكر سبب الخوف فقال:
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بعل اسم صنم أي أتعبدون هذا الصنم. وتتركون عبادة من خلقكم وخلق آباءكم السابقين وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه؟
ثم بين أن قومه كذبوه واستمروا في غوايتهم فقال:
(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي فكذبوه فيما تضمنه كلامه من وجوب توحيد الخالق، وتحريم الإشراك به، وعقابه تعالى عليه، فهم لأجل ذلك يحضرون يوم القيامة للعذاب، ويجازون على سوء أفعالهم وأقوالهم.(23/80)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
ثم أخرج من بينهم جماعة لم يكذّبوا فلم يلحقهم هذا العذاب والهوان فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلا قوما منهم أخلصوا العمل لله وأنابوا إليه فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح، وقدّموا من ذخر طيب.
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم فيما قبله سوى أن إلياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء غير العربية.
قصص لوط عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
الإيضاح
(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإنا أرسلنا لوطا إلى قومه أهل سذوم، وكانوا قد أتوا من المنكرات والفواحش ما لم يأته أحد من العالمين، فنصحهم فلم ينتصحوا، فأهلكهم الله ونجاه هو وقومه كما قال:
(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه هو وأهله من بين أظهرهم إلا امرأته، فإنها هلكت مع من هلك من قومها، وجعلنا محلتهم من الأرض بحيرة ذات ماء ردىء الطعم، منتن الريح.
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ)
أي ثم أهلكنا عدا من ذكرنا.
ثم أرشد مشركى مكة إلى النظر والاعتبار بما حل بهم وبأمثالهم من المكذبين فقال:(23/81)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ)
أي وإنكم لتمرون عليهم وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح، أو أول الليل فترون آثار ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا، لا أنيس فيها ولا جليس، ولا ديّار ولا نافخ نار.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟)
أي أتشاهدون هذا فلا تعتبروا ولا تخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ فإن ما حل بهم من البلاء إنما كان لمخالفة رسولهم كما تفعلون.
قصص يونس عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
تفسير المفردات
أصل الإباق: هرب العبد من سيده، والمراد هنا أنه هاجر بغير إذن ربه، المشحون:
المملوء، فساهم: أي فقارع من في الفلك أي عمل قرعة، المدحضين: أي المغلوبين بالقرعة، فالتقمه: أي فابتلعه، مليم: أي آت ما يستحق عليه اللوم، بالعراء: أي بالمكان الخالي، يقطين: أي دبّاء (القرع العسلي المعروف الآن) وقيل: الموز وهو أظهر لأن أوراقه أعرض(23/82)
الإيضاح
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)
أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة وقد رووا في إباقه الرواية الآتية:
إنه لما أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى بالهجرة، فركب سفينة فوقفت فقالوا هاهنا عبد آبق من سيده، وكان الملاحون يزعمون أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجرى، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق وألقى نفسه في الماء.
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فالتقمه الحوت وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه، وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
ثم ذكر سبحانه أنه أنجاه لما كان له من عمل صالح فقال:
(فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي فلولا أنه كان من الذاكرين الله كثيرا والمسبحين بحمده طوال عمره، للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها.
(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) أي فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر، وهو عليل الجسم سقيم النفس، لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه، إذ أعرضوا عن دعوته ولم يصدقوه فيما جاء به، وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة فى دنياهم وآخرتهم ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له.
ثم بين لطفه به ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس ولا لزمهرير البرد فقال:
(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فأنبتنا حواليه شجرة موز يتغطى بورقها،(23/83)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
ويستظل بأغصانها، فتقيه لفح الشمس ووهجها، وبرد الصحراء وشديد صرّها، وكذلك يأكل من ثمارها، فتغنيه عن طلب الغذاء من أي جهة أخرى.
ثم ذكر أنه لما شفى من سقمه ونجا من الهلاك ورضى ربه عنه عاد إلى قومه، ليتمّ دعوته، ويبلغ رسالته كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم وقد كانوا مائة ألف بل يزيدون، فاستقامت حالهم وآمنوا به، لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطئوا وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم، فلما عاد إليهم ودعاهم إلى ربه لبّوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم وهلكوا فيمن هلك.
تذنيب
هاهنا مسألتان:
(1) إن القرآن الكريم لم يبين لنا ممّ أبق، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها.
(2) إنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح ولم يؤثر ذلك، وأيّا كان فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة أو كثيرة معجزة لذلك النبي الكريم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 160]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)(23/84)
المعنى الجملي
أمر الله رسوله في صدر هذه السورة بتبكيت قريش وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة وتظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين وبين ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل:
وهنا أمره بالتنديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها وهى جعل البنات لله وجعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات الله، ثم بالتقريع ثالثا على استهانتهم بالملائكة بجعلهم إناثا، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها والإذعان لها.
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟) أي سل قريشا مؤنبا لها ومقرّعا على ضعف أحلامها وسفاهة عقولها، ألربى البنات ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، وإلام تستندون؟ وإنكم لتكرهون البنات وتبغضونها أشد البغض كما جاء في قوله:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» .(23/85)
ونحو الآية قوله في سورة النجم: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» أي قسمة جائرة.
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟) أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وقد شهدوا هذا الخلق؟
وهذا ترقّ في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل، حتى يقوم الدليل والبرهان على صحته، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدّعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، وهذه لم تحصل، ونحو الآية قوله: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» .
ثم بين فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ) أي وما جرأهم على هذا القول الهراء والرأى الخطل إلا اعتقادهم الباطل أن لله ولدا، وهو افتراء قبيح وإفك صريح، لا مستند له، ولا شبهة ترشد إلى صدقه.
ثم أكد هذا النفي بقوله:
(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون، ولا أثرة لهم من علم يصدق ما يعتقدون، فمن أين جاءهم هذا؟
ثم نقض الدعوى من أساسها مبينا أن العقل لا يتقبلها فقال:
(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟) أي أىّ شىء يحمله على أن يختار البنات ويترك البنين؟ والعرف والعادة والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا.
ونحو الآية قوله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» .(23/86)
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون، وتتفكرون فى صحة ما تعتقدون؟ فالعقل يقضى ببطلان مثل هذا.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) فتعرفوا خطأ ما تعتقدون، وترجعوا على أنفسكم باللائمة فيما تقولون.
ثم زاد في تأنيبهم وتقريهم وطالبهم ببرهان من النقل يؤيد صحة ما يدعون فقال:
(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل ألكم حجة واضحة على هذا نزل بها وحي؟ إن كان الأمر هكذا فأرونى كتابكم الذي يؤيد ما تقولون إن كنتم صادقين.
ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم، والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، مع الاستهزاء بهم، والتعجيب من جهلهم.
ثم ذكر أن هذه العقيدة ستؤدى بهم إلى ما لا ينبغى أن قال فقال:
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد بالجنة الملائكة، وسموا جنّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، أي وجعلوا بينه وبين الملائكة مشاكلة ومناسبة، فقالوا الملائكة بنات الله.
ثم ذكر أنهم سيندمون على مقالتهم هذه فقال:
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينه تعالى وبينهم نسبا- إن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم هذا.
قال مجاهد ومقاتل: القائل ذلك هم كنانة وخزاعة، قالوا إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه، وقال الكلبي وقتادة: قالت اليهود- لعنهم الله-: إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم.(23/87)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
والخلاصة- إن هؤلاء سيعذبون في النار على تقوّلهم على الله بغير علم بإثبات البنات له دون أن يكون هناك نص على ذلك.
ثم نزه سبحانه نفسه عن كل ما لا يليق به من هذه النقائص فقال:
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس ربنا عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون علوّا كبيرا.
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولكن المخلصين المتبعين للحق المنزّل على الرسل ناجون فلا يحضرون إلى النار ولا يعذبون.
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 170]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
تفسير المفردات
بفاتنين: أي بمضلين من قولهم فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه، صال الجحيم: أي داخل في النار ومعذب فيها، الصافون: أي صافو أنفسهم للعبادة، ذكرا: أي كتابا
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فساد آراء المشركين ومذاهبهم- أتبع ذلك بما نبه به إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان مستعدا له، وقد سبق(23/88)
فى حكم الله أنه من أهل النار وأنه لا محالة واقع فيها، ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى أنهم أولاد الله.
الإيضاح
(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي فإنكم أيها المشركون مع معبوديكم من الأوثان والأصنام لا يتسهل لكم أن تفتنوا إلا من هو ضالّ مثلكم، ومن كتب له أنه من أصحاب النار فهو لا محالة يكبكب فيها، قال لبيد ابن ربيعة فأحسن:
أحمد الله فلا ندّ له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضلّ
ثم حكى سبحانه اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم فقال:
(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي وإن لكل منا مرتبة لا يتجاوزها في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى خضوعا لعظمته، وخشوعا لهيبته، وتواضعا لجلاله كما
روى فى الخبر «فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه» .
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي وإنا لنقف صفوفا في أداء الطاعات، ومنازل الكرامات، لكل منا منزلة لا يعدوها، ومرتبة لا يتخطاها.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟
قال: يتمّون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف»
وكان عمر يقول إذا قام للصلاة:
أقيموا صفوفكم واستووا، إنما يريد الله بكم هدى الملائكة عند ربها ويقرأ:
«وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا لننزه الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد له، فقراء إليه، خاضعون لأوامره.(23/89)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
ثم حكى عن المشركين مقالتهم قبل بعث النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولقد كانوا يتمنون قبل أن يأتيهم الرسول أن لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر الله ونهيه ويأتيهم بكتاب من عنده، ليخلصوا له العبادة، ويكونوا أهدى سبيلا ممن سبقهم من أهل الكتب السالفة من اليهود والنصارى.
ثم بين أنهم كانوا كاذبين وأن حالهم بعد مجيئه كانت على غير ما قالوا فقال:
(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ثم بعد أن جاءهم الذكر والكتاب المهيمن على كل الكتب أعرضوا عنه وكفروا به، وأنهم سوف يعلمون عاقبة عنادهم وما سيحل يهم من نقمتنا وعذابنا.
ونحو الآية قوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» .
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، على كفرهم بربهم، وتكذيبهم برسوله صلّى الله عليه وسلم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)(23/90)
تفسير المفردات
كلمتنا: وعدنا، المنصورون: أي الغالبون في الحرب وغيرها، جندنا: أي أتباع رسلنا، والساحة: المكان الواسع.
المعنى الجملي
لما هدد سبحانه المشركين بقوله: فسوف يعلمون- أردفه ما يقوى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم بوعده بالنصر والتأييد، كما جاء في آية أخرى «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» .
الإيضاح
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ولقد سبق وعدنا أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فننصرهم على أعدائهم بقهرهم والنيل منهم، بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن الأوطان أو أسرهم أو نحو ذلك.
ونحو الآية قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» .
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي وأعرض عنهم، واصبر على أذاهم، وانتظر مدة قليلة، وسنجعل لك العاقبة والنّصرة والتأييد.
(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال.
بمخالفتك وتكذيبك، وسوف يبصرون انتشار دينك وإقبال الناس عليه أفواجا، زرافات ووحدانا مصداقا لوعده بقوله: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً»(23/91)
ثم وبخهم على استعجالهم العذاب حين قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا فنزل.
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قبل حلوله؟ وهم إنما فعلوا ذلك لتكذيبهم به، وكفرهم بك والله منزله عليهم لا محالة.
(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلّتهم فبئس اليوم يومهم لهلاكهم ودمارهم،
وفي الصحيحين عن أنس قال: «صبّح رسول الله خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس- الجيش-، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الله أكبر، خربت خيبر، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» رواه البخاري.
قال صاحب الكشاف: مثّل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبّروا أمرهم تدبيرا يبجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم اهـ ثم أكد ما سبق من وقوع الميعاد غبّ توكيد مع ما فيه من تسلية لرسوله إثر تسلية فقال:
(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين وخلّهم وفريتهم على ربهم إلى أن يأذن بهلاكهم، وانظر إليهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة.
ثم ختم سبحانه السورة بخاتمة شريفة جامعة لتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به مع وصف نفسه بصفات الكمال ومدحه للرسل الكرام فقال:
(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول رب القوة والغلبة عما يصفه به هؤلاء المفترون من مشركى قريش من نحو قولهم: ولد الله. وقولهم: الملائكة بنات الله. وأمنة(23/92)
من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم- من العذاب الأكبر ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى، والحمد لله رب الثقلين الجن والإنس خالصا له دون سواه، لأن كل نعمة لعباده فهى منه.
وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه.
روى البغوي عن على كرم الله وجهه أنه قال: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين» .
وعن أبى سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
مجمل ماحوته السورة من موضوعات
(1) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.
(2) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.
(4) وصف الجنة ونعيمها.
(5) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.
(6) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا: الملائكة بنات الله.
(7) تنزيه الله عن ذلك.
(8) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوى الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال (9) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
(10) مدح المرسلين وسلام الله عليهم.
(11) حمد الله وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.(23/93)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
سورة ص
هى مكية، نزلت بعد سورة القمر، وعدة آيها ثمان وثمانون ومناسبتها لما قبلها أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين:
(1) إنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان.
(2) إنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا: لو أن عندنا ذكرا من الأولين. لكنا عباد الله المخلصين. وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم- بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذى الذكر وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم.
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)(23/94)
تفسير المفردات
الذكر: الشرف كما قال «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» الذين كفروا هم رؤساء قريش، فى عزة: أي في استكبار عن اتباع الحق ومتابعة غيرهم فيه والعزة أيضا الغلبة والقهر كما قالوا في أمثالهم: من «عزّ بزّ» أي: من غلب سلب، شقاق: أي مخالفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من قولهم: فلان في شقّ غير شق صاحبه، فنادوا: أي استغاثوا، لات: أي ليس الحين، مناص: أي فرار وهرب، عجاب: أي بالغ في العجب نحو قولهم طويل وطوال أي إنه من نوائب الدهر فلا حيلة لنا إلا الصبر عليه، الملة:
الآخرة: هى ملة النصارى، اختلاق: أي كذب وافتراء، فليرتقوا: أي فليصعدوا، فى الأسباب: أي في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش، قاله مجاهد وقتادة. ومنه قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلّم
جند ما: أي جند كثير عظيم كقولهم «لأمر ما جدع قصير أنفه» ، مهزوم: أي مغلوب، الأحزاب: أي المجتمعين لإيذاء محمد وكسر شوكته وإبطال دينه.
الإيضاح
(ص) تقدم الكلام في مثل هذا مرارا وقلنا إن هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للاصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا، ويا، وينطق بأسمائها فيقال (صاد) بالسكون.
(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي أقسم بالقرآن ذى الشرف والرفعة إنه لمعجز، وإن محمدا لصادق فيما يدّعيه من النبوة، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر، وإن كتابه لمنزل من عنده:
ثم بين السبب الحقيقي في كفرهم فقال:
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي إنهم ما كفروا به لأنهم لم يجدوا فيه(23/95)
ما يصلح حالهم في دينهم ولا دنياهم، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق ومشاقتهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم وحرصهم على مخالفته.
ثم حذرهم وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم فقال:
(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم فاستغاثوا حين حل بهم العذاب، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فقد فات الأوان وحل البأس، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب.
ونحو الآية قوله: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» وقوله «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ» وقوله «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .
(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي وما كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعى النبوة ويدعو إلى الله وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم ما يجعله يمتاز عنهم ويختص بهذا المنصب وتلك المنزلة الرفيعة، ومن ثم قالوا ما هو إلا خدّاع كذاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي، ثم ذكر شبهتهم فى إثبات كذبه من وجوه ثلاثة:
(1) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو؟ وقد أنكروا ذلك وتعجبوا من ترك الشرك بالله، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا منه وقالوا إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ويكون محمد وحده محقّا صادقا- ولا شك أن هذا استبعاد فحسب، ولا مستند له من عقل ولا نقل.
ونحو الآية قوله «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ(23/96)
النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .
روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث أبو طالب إليه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل واحد، قال فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبى طالب أن يكون أرقّ عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخى ما لقومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله فقال يا عم: إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم ما هى وأبيك، لنعطينّكها وعشرا، قال صلّى الله عليه وسلم (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) فقاموا فزعين ينفضون أثوابهم ويقولون: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» فنزل من هذا الموضع إلى قوله: «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» .
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبى طالب بعد ما بكّتهم رسول الله وشاهدوا تصلبه في الدين، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه، يتحاورون بما جرى ويقلّبون وجوه الرأى فيما يفعلون، ويقولون: اثبتوا على عبادتها محتملين القدح فيها والغضّ من شأنها والاستهزاء بأمرها.
ثم عللوا الأمر بالصبر بما شاهدوه من تصلبه عليه السلام فقالوا:
(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي إن هذا لأمر عظيم يريد محمد إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان،(23/97)
أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم.
ثم ذكروا أيضا ما ظنوا أن فيه إبطالا لدعواه فقالوا:
(2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهى ملة النصارى، فإنهم يقولون بالتثليث ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وإنما خصوا النصرانية لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم.
(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من دين سماوى ولا من عقل فيما يزعمون.
ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد صلّى الله عليه وسلم بالوحى وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون فقالوا:
(3) (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) أي إنه من البعيد أن يختص محمد من بيننا بإنزال القرآن عليه وفينا ذو الجاه والشرف، والرياسة والكياسة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ثم نعى عليهم تعرّضهم لهذا التفضيل وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال: «أهم يقسمون رحمة ربّك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات» فهذا منهم دليل على الجهل وقلة العظة.
ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن وميلهم إلى التقليد فقال:
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي بل هم في شك من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها لزال هذا الشك عنهم، إذ هى دالة بأنفسها على صحة نبوته، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال لم يصلوا إلى الحق في أمره.(23/98)
ثم ذكر أن سبب هذا الشك هو الحسد لمجىء النبوة إليه من بينهم وسيزول حين مجىء العذاب فقال:
(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنهم لما يذوقوا عذابى بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك.
والخلاصة- إنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكرى.
ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش فقال:
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أيملكون خزائن رحمة الله القهار لخلقه، الكثير المواهب لهم، المصيب بها مواقعها- فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون، ويمنحوها من يشاءون، ويصرفوها عمن لا يحبون، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم؟
والخلاصة- إن أمر النبوة ليس بأيديهم بل بيد العليم بكل شىء «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» .
ونحو الآية قوله: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» .
ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب فقال:
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشئون الغيبية ويفكروا فى التدابير الإلهية التي يستأنر بها رب العزة والكبرياء؟ فإن كان الأمر كما يزعمون فليصعدوا في المعارج ويتوصلوا إلى السموات، وليدبروا شئونها حتى يظن صدق دعواهم، إذ لا سبيل إلى التصرف فيها إلا بذلك.
والخلاصة- إنه ليس لهم شىء من ذلك، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله(23/99)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
بحسب ما يريدون، وإعطاء النبوة لمن يشاءون، فذلك من شئونه تعالى فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء.
ثم وعد سبحانه نبيه بالنصر والغلبة عليهم فقال:
(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة، ويوزعون رحمة ربك بحسب أهوائهم- جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين- مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم، وستنتصر عليهم كما حدث في بدر وغيرها، فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية، والتصرف في الخزائن الربانية؟.
وهذا خبر من الله لنبيه وهو بمكة ولم يكن له يومئذ جند- أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع- وهذا من أعظم المعجزات وأدل الدلائل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق كتابه وأنه من عند الله لا من عند البشر.
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أنهم إنما توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال لأنهم لم ينزل بهم العذاب- بين في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
وفي هذا تخويف لأولئك الكافرين الذين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم.(23/100)
الإيضاح
ذكر سبحانه في هذه الآيات ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه، فيرعووا عن غيّهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال:
(1) (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قوم نوح رسولهم وقالوا إنه مجنون وهزءوا به، وكلما ألحف في الدعوة زادوا عتوا وعنادا، فدعا ربه وقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ولما أصروا على تكذيبهم وعنادهم أخذهم الطوفان وهم ظالمون، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه كما قال: «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ» .
(2) (وَعادٌ) وهم قوم هود وقد كذبوه فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية كما قال فى سورة الحاقة: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» .
(3) (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) وقد بعث الله إليه موسى وأيده بآياته التسع فأصرّ على الجحود والعناد وبغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ونجّى موسى وقومه بنى إسرائيل كما قال في سورة يونس: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.(23/101)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» .
وقوله ذو الأوتاد: أي ذو الملك الثابت، وأصله للبيت المطنب بأوتاد وهو لا يثبت بدونها، ثم استعمل في إثبات العز والملك كما قال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... فى ظل ملك ثابت الأوتاد
(4) (وَثَمُودُ) وقد جاء ذكرهم في عدة سور أرسل الله إليهم صالحا وكانت الناقة له آية فكذبوه فعقروها فأرسل عليهم صاعقة فأهلكتهم وجعلتهم كهشيم المحتظر كما جاء في سورة القمر: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ- إلى أن قال- إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ» .
(5) (وَقَوْمُ لُوطٍ) وقد سبق ذكر قصصهم في عدة سور من الكتاب الكريم وذكر ما حل بهم من العذاب، فمنها قوله في سورة القمر: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ» .
(6) (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة: الشجر الملتف بعضه على بعض وأصحابها هم قوم شعيب، وقد ذكر الله قصصهم في كثير من السور، فمنها ما جاء في سورة الحجر:
«وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» .
(أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل، وهم كالأحزاب الذين تحزبوا عليك.
ثم بين سبب انهزامهم وعقابهم فقال:
(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) أي إن كل هذه الأمم الخالية والقرون الغابرة، وقد كانوا أشد منهم قوة كذبوا أنبياءهم فحل بهم العذاب، فكيف بهؤلاء الضعفاء إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابى؟.(23/102)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
ثم بين عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم فقال:
(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ينظر أي ينتظر كقوله تعالى: «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» وهؤلاء أي كفار مكة، والفواق: الزمن الذي بين الحلبتين، والصيحة: النفخة الثانية التي بها تقوم الساعة أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تلك النفخة- بلا توقف مقدار فواق.
والخلاصة- إذا حل هذا الميقات لا يتأخرون عنه أبدا.
[سورة ص (38) : الآيات 16 الى 18]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18)
تفسير المفردات
القط: النصيب والحظ والكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى يمدح النعمان بن المنذر:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطى القطوط ويأفق
ويأفق: أي يصلح.
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا إن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد والنبوات والمعاد، فأشاروا إلى الأولى بقولهم: أجعل الآلهة إلها واحدا، وإلى الثانية بقولهم: أأنزل عليه الذّكر من بيننا، وهنا أشار إلى الثالثة بقوله: وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا سخرية وتهكما حين سمعوا بالمعاد، وأن هناك دارا أخرى يحاسبون فيها ويجازون على ما يعلمون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى كل ما يقولون في شأنه من أنه شاعر وأنه مفتر كذاب.(23/103)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
الإيضاح
(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة- ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به ولا تؤخره لى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة.
وقائل ذلك على ما روى عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال فيه الله تعالى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» أو أبو جهل على ما روى عن قتادة، ورضى بهذه المقالة الباقون، ومن ثم أسندها إليهم جميعا.
ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغاية، إذ قالوا إنه ساحر كذاب، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا- أمره سبحانه بالصبر على سفاهتهم فقال:
(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر على ما يقوله مشركو قومك لك مما تكره، فإنا ممتحنوك بالمكاره كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك، ثم جاعلو الظفر لك على من كذبك وشاقّك، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك.
قصص داود عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 18 الى 20]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
تفسير المفردات
الأيد والآد: القوة في العبادة وكان يصوم يوما ويفطر يوما، أوّاب: أي رجاع إلى الله وإلى طاعته من قولهم آب. إذا رجع، قال عبيد بن الأبرص:(23/104)
وكلّ ذى غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
والإشراق: أي وقت الإشراق، يقال أشرقت الشمس: أضاءت، وشرقت: طلعت، محشورة: أي محبوسة في الهواء، أواب: أي منقاد يسبح تبعا له، شددنا ملكه: أي قويناه بالهيبة والنصر، والحكمة: هى إصابة الصواب في القول والعمل، الفصل: الحاجز بين الشيئين، وفصل الخطاب: الكلام الذي يفصل بين الحق والباطل.
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين- أردف ذلك ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاقّ والأذى مثل ما حدث له فصبروا حتى فرّج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم- ترغيبا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد كما كان ذلك عاقبة من قبله.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي واذكر لقومك قصة عبدنا داود ذى القوة في الطاعة والفقه في الدين، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر
وورد في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا»
أي رجاعا إلى الله تعالى في جميع شئونه، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر الله،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» .
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبى الدرداء قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدّث عنه قال: كان أعبد البشر» .(23/105)
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود» .
ثم عدد سبحانه نعمه عليه فقال:
(1) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس وآخر النهار، وتسبيحها معه تقديسها لله بحال تليق بها، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات.
(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا له الطير حال كونها محبوسة في الهواء تسبح بتسبيحه، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء وسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف ويسبح معه.
وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل والصوت المتقبّل الذي يعجب به الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان؟
ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال:
(كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير مطيع مرجاع إلى أمره يسبح تبعا له (2) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملكه بكثرة الجند وبسطة الثراء والهيبة ونفوذ الكلمة والنصر على الأعداء (3) (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي وأعطيناه العلم الكامل، والإتقان للعمل، فهو لا يقدم على عمل إلا إذا عرف موارده ومصادره، مباديه وغاياته على نحو ما قال الشاعر:
قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرّة زلجا
(4) (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف ولا ميل مع الهوى، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم، ومزيد فى الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكي لذى لا يتوافر لكثير من الناس.(23/106)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قضية من قضاياه التي حكم فيها
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
تفسير المفردات
هل: هنا كلمة يراد منها التعجيب والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها، والخصم:
جماعة المخاصمين ويستعمل للمفرد والجمع مذكرا ومؤنثا قال الشاعر:
وخصم عضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البرازين العراب المخاليا
وتسوروا: أي أتوه من أعلى السور ودخلوا إلى المنزل، والمحراب: الغرفة التي كان يتعبد فيها ويشتغل بطاعة ربه، والفزع: انقباض ونفار يعترى الإنسان من شىء مخيف، بغى: أي جار وظلم، ولا تشطط: أي لا تبعد عن الحق ولا تجر في الحكومة، سواء الصراط: أي وسط الطريق، والنعجة أنثى الضأن ويكنى بها عن المرأة كما قال عنترة:(23/107)
يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت علىّ وليتها لم تحرم
فبعث جاريتى فقلت لها اذهبي ... فتحسّسى أخبارها لى واعلم
قالت رأيت من الأعادى غرّة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتمى
أكفلنيها: أي ملكنيها، وأصل ذلك اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى، وعزّنى: أي غلبنى، وفي المثل: من عزّ بزّ أي من غلب سلب، وقال الشاعر:
قطاة عزّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
فى الخطاب: أي في مخاطبته إياى ومحاجته، إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده، والخلطاء:
هم المعارف أو الأعوان ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج: واحدهم خليط، فتنّاه: أي ابتليناه، خر: أي سقط، راكعا: أي ساجدا وقد يعبر بالركوع عن السجود، قال الشاعر:
فخرّ على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب
وأناب: أي رجع إلى ربه، والزلفى: القرب من الله، والمآب: المرجع.
المعنى الجملي
بعد أن مدح سبحانه داود وأثنى عليه بما سلف- أردف ذلك ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوّقا إليه السامع، ومعجّبا له.
الإيضاح
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي هل علمت ذلك النبأ العجيب، نبأ الجماعة الذين تسلّقوا سور غرفة داود ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه في غير وقت جلوسه للحكم، وحين رآهم(23/108)
فزع منهم ظنا منه أنهم جاءوا لا غتيا له، إذ كان منفردا في محرابه للعبادة، فقالوا له:
لا تخف منا، نحن اثنان جار بعضنا على بعض فاحكم بيننا حكما عادلا ولا تجر واهدنا إلى الطريق السوىّ، ولا تشطط في الحكومة.
ثم فصّلوا موضع الخصومة فقالوا:
(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي إن أخى هذا يملك تسعا وتسعين شاة وأملك شاة واحدة، فقال ملكنيها وغلبنى في المحاجة، فجاء بحجج لم أطق لها ردّا ولا دفعا.
ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة فقال:
(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي قال داود بعد أن أقرّ المدعى عليه بما قال المدّعى: لقد ظلمك بطلبه منك إضافة نعجتك إلى نعاجه.
ثم استطرد إلى بيان أن الظلم من شيمة الإنسان فقال:
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وإن كثيرا ممن يتعاملون معا يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
إلا من يخافون ربهم ويؤمنون به ويعملون صالح الأعمال، فإن نفوسهم تعزف عن الظلم، وترعوى خشية من خالقها، وما أقل هؤلاء عددا، وأندرهم وجودا كما قال:
«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» .
ثم ذكر أن داود كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال ثم تبين له غير ما كان قد ظن فقال:
(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وظن داود أن دخولهما عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى لأجل أن يغتالوه،(23/109)
فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخرّ ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه.
ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال:
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن، وإنه لمن المقر بين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة.
هذا خلاصة مارآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص، وهو حسن.
بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال- ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه- إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة- ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي فى غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة- فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما، ذلك الغرض هو إرادة الاغتيال، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئها للاستفتاء فيما خفى عليهما، ولأجله تسوّرا المحراب، ومما يرشد إلى هذه النية المبيّتة نية الاغتيال أنّ تهجّم الناس على البيوت للتقاضى ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود، فهى فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوّغ لهما دخول القصر في ذلك الحين، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بنى إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»(23/110)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
وحين علم داود غرضهما وتظاهرت عليه الأدلة همّ أن ينتقم منهما ويجازى السيئة بمثلها «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ولكنه رأى أن مقام النبوة أمثل به الصفح والعفو كما قال:
«فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن ثم استغفر ربه لما كان قد عزم عليه من الانتقام تأديبا لهما ولأمثالهما.
وما جاء في بعض كتب التفسير من أن المراد بالنعاج النساء كما جاء كناية عن ذلك
فى كلام العرب كما قال ... كنعاج الفلا تعسّفن رملا
فذلك يتوقف على أن كلمة
(نعجة) فى اللغة العبرية تستعمل كناية عن المرأة كما هى في العربية، وتأباه كلمة (الْخُلَطاءِ) وكذلك ما يقال من أن الخصمين كانا ملكين فإن (تَسَوَّرُوا) تأباه لأن الملائكة أجسام نورانية لا أجسام كثيفة فلا حاجة إلى التسوّر، إلى أنّ ما جاء من القصص عن ذكر السبب في مجىء الملكين مما يخلّ بمنصب النبوة، وفيه نسبة الكبائر إلى الأنبياء، فيجب علينا أن نطرحه إذ يبطل الوثوق بالشرائع- إلى ما فيه من مطعن لأرباب الأديان الأخرى على المسلمين، إذ نسبوا إلى الأنبياء ما يجلّ مقامهم عنه، ويأباه عامة الناس فضلا عن الأنبياء الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن ثم أثر عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين.
[سورة ص (38) : آية 26]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه علينا قصص داود والخصمين- أردف ذلك بيان أنه فوض إلى داود خلافة الأرض وأوصاه بالحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى حتى لا يضل(23/111)
عن سبيل الله، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب وسوء المنقلب، إذ قد نسى يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح
(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية، لك الملك والسلطان، وعليهم السمع والطاعة، لا يخالفون لك أمرا، ولا يقيمون في وجهك عصا.
ثم ذكر ما يستتبع ذلك فقال:
(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) المنزل من عندى، والذي شرعته لعبادى لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة.
ثم أكد ما سلف بالنهى عن ضده فقال:
(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فى الحكومة وغيرها من أمور الدين والدنيا.
وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم.
ثم بين سوء عاقبة ذلك فقال:
(فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فيكون اتباعك للهوى سببا في الضلال عن الدلائل التي نصبت، والأعلام التي وضعت، للارشاد إلى سبل السلام، بإصلاح حال المجتمع فى دينه ودنياه، وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ثم بين غائلة الضلال ووخامة عاقبته فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي إن الذين يتركون الحق ويضلون عن سبيل معالمه- لهم من الله العذاب الشديد(23/112)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
يوم الحساب لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت، فمن دسّى نفسه وسلك بها سبيل المعاصي فقد حق عليه العذاب الذي كتبه على العاصين جزاء وفاقا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم.
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
تفسير المفردات
باطلا: أي عبثا ولعبا، ويل: أي هلاك، مبارك: أي كثير المنافع الدينية والدنيوية، ليدبروا: أي ليتفكروا، ليتذكر: أي ليتعظ، الألباب: واحدها لبّ، وهو العقل، وقد يجمع على ألبّ ويفك إدغامه في ضرورة الشعر، قال الكميت:
إليكم ذوى آل النبىّ تطلّعت ... نوازع من قلبى ظماء وألبب
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم العذاب الشديد يوم الحساب لظنهم أنه ليس بكائن- أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقهم لعبادته وتوحيده، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين، ويعذب الكافرين، ثم أردف ذلك ببيان فضل القرآن الذي أنزله على رسوله هاديا للناس، ومنقذا لهم من الضلالة إلى الهدى، فإذا هم تدبروا آياته، واتعظوا بعظاتها، سعدوا في الدارين، وبلغوا السماكين، وكانوا سادة العالم أجمع.(23/113)
الإيضاح
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا) أي وما أوجدنا السماء وما فيها من زينة ومنافع للناس، والأرض وما فيها من فوائد في ظاهرها وباطنها لهم، وما بينهما مما يعلمون ومما لا يعلمون- لهوا ولعبا، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة، وأسرار بالغة، ومصالح جمة، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، فإنا لن نترك الناس سدى، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير والقطمير والقليل والكثير، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .
ثم بين أن هذا الظن الفاسد قد ظنه الذين كفروا بالله وجحدوا آياته فقال:
(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن الذين كفروا بالله وآياته التي نصبها في الأنفس والآفاق، ولم يتدبروا حق التدبر في خلق هذا الكون البديع الدالّ على قدرة خالقه وعظيم تصرفه- أنكروا الحكمة في خلقه، وأنه إنما وجد ليكون دليلا على وجود خالقه، وبرهانا على وحدانيته كما
ورد في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيّا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى» .
ونحو الآية قوله: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» ثم بين أن لهم سوء المنقلب، على بطلان ما اعتقدوا، وقبيح ما فعلوا فقال:
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي فياويل الكافرين من النار التي أعدت لهم مستقرا ومقاما، جزاء لهم على ما اجترحوا من الشرك بربهم وخالقهم، وكفرانهم بنعمه التي أنعم بها عليهم، وإنكارهم لليوم الذي تجازى فيه كل نفس بما قدمت من صالح العمل وسيئه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(23/114)
ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوى بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسّوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب فقال:
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم فأدّوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسّوا أنفسهم بفعل شىء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» . «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون: ما هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غىّ، أو يكفّوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات، بما وسوس إليهم به الشيطان، أن لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وخزعبلات الموسوسين المتزمّتين.
وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي على ما دنّس به نفسه من شرك بربه، واجتراح للاثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان.
والعقول السليمة، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده، وتدل عليه وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا، ويتمتع بصنوف اللذات، من الدور(23/115)
والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهّمة والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينا نرى المطيع لربه، المظلوم من بنى جنسه قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسدّ به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يترك الناس سدى يفعلون ما شاءوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظلوم من الظالم ويرجع الحق إلى صاحبه؟ وربما لا يحصل هذا في الدنيا، فلا بد من دار أخرى يكون فيها العدل والإنصاف، والكيل بالقسط والميزان، وتلك هى الدار التي وعد بها الرّحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده الحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال: الذين آمنوا علىّ وحمزة وعبيدة ابن الحارث رضى الله عنهم، والمفسدون في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر.
ولما كان القرآن هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة قال:
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أنزلنا إليك هذا الكتاب النافع للناس، المرشد لهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، فى دينهم ودنياهم، الجامع لوجوه المصالح، ليتدبرها أولو الحجا الذين قد أنار الله بصائرهم، فاهتدوا بهديه، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه، وتذكروا مواعظه وزواجره، واعتبروا بمن قبلهم فارعووا عن مخالفته، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين، ويستأصلهم كما استأصل السابقين، ممن بغوا في الأرض فسادا.
وما تدبّره بحسن تلاوته وجودة ترتيله، بل بالعمل بما فيه، واتباع أوامره ونواهيه، ومن ثمّ قال الحسن البصري: قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا(23/116)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
حروفه، وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء.
قصص سليمان عليه السلام حين عرض الصافنات الجياد
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
تفسير المفردات
الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال:
ألف الصّفون فما يزال كأنّه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال النابغة:
لنا قبّة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن
والجياد: واحدها جواد، وهو السريع العدو، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد، والخير هنا: الخيل: توارت: أي غيبت عن البصر، طفق: شرع، المسح إمرار اليد على الجسم.(23/117)
الإيضاح
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي وآتينا داود ابنا يسمى سليمان.
ونحو الآية قوله: «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» .
ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال:
(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي ما أحقه بالمدح والثناء! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات، اعتقادا منه بأن كل شىء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.
ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال:
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي امدحه حين عرضت عليه الجياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار، لينظر إليها ويتعرف أحوالها، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهامّ التي توكل إليها حين الغزو وغيره.
وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلّص.
(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه، كالمريض الذي يشتهى ما يزيد مرضه، والوالد الذي يحب ولده السيّء السيرة والخلق، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه، ومن الخير أن يزداد شغفه به، وتلك هى غاية المحبة، فسليمان عليه السلام يقول: إنى أحب حبى لهذه الخيل، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربى وأمره لا عن الشهوة والهوى.
(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي حتى غابت عنى بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي:
أثارت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا(23/118)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة «إنّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى» وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة، ولبعد المسافة من جهة أخرى.
وبعد أن اطمأن إلى حالها، وحمد جميل أمرها قال:
(رُدُّوها عَلَيَّ) فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمّات، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات، من غزو وغيره.
ولما ارتاح إليها وسرّ بما بذلته من جهد، وما ينتظر منها إذا جدّ الجدّ- أظهر استحسانه لها ولفرسانها.
(فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه، إذ هى أعظم الأعوان، فى دفع العدوان، ولا سيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء.
والخلاصة- إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكوّن منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال إنى ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما أحببتها لأمر الله وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضى.
[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)(23/119)
تفسير المفردات
فتنّا سليمان: أي ابتليناه بمرض، جسدا: أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، أناب: أي رجع إلى صحته، لا ينبغى لأحد من بعدي: أي لا ينتقل منى إلى غيرى، رخاء: أي لينة، أصاب: أي قصد وأراد، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول:
أصاب الصواب فأخطأ الجواب، قال الشاعر:
أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطأ الجواب لدى المفصل
مقرّنين: أي مربوطين، والأصفاد: واحدها صفد (بالتحريك) وهو الغلّ الذي يجمع اليدين إلى العنق، قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
والزلفى: الكرامة، والمآب: المرجع.
الإيضاح
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه، لشدة وطأته عليه (والعرب تقول فى الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح) ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) طلب المغفرة من ربه، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج إلى طلب المغفرة من ربه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن(23/120)
هذا في مقام التذلل والخضوع كما
قال عليه السلام «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة»
وما روى من قصص الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود دسّوها على المسلمين، وأبى قبولها العلماء الراسخون.
ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى الله عنهم كسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب اهـ.
(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي هب لى ملكا لا يكون لأحد غيرى لعظمه.
قال صاحب الكشاف: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة، فذلك معنى قوله: لا ينبغى لأحد من بعدي اهـ.
وقيل إنه أراد بقوله: لا ينبغى لأحد من بعدي- الدلالة على عظمه وسعته كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.
ثم علل المغفرة والهبة معا فقال:
(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبى، وحقق رجائى.
ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدّد نعمه عليه فقال:
(1) (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجرى لينة طيّعة له لا تمتنع عليه إلى أىّ جهة قصد.(23/121)
ولا تنافى بين وصف الريح هنا بالرخاء، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً» لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليها، فهى تشتد حين الحلّ، وتلين حين السير.
(2) (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغوّاصين في البحار منهم، يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بناء العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبّوا طلبه سراعا.
(3) (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلاسل والأغلال ليتقى شرهم.
وخلاصة ما سلف- إن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال، كفّا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره.
وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخّر معهم الجن فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبّته، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيّد فيه.
ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال:
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي وقلنا له: إن هذا الذي أعطيناكه(23/122)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى- عطاؤنا الخاص بك، فأعط من شئت، وامنع من شئت غير محاسب على شىء من ذلك، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء.
وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها، أبان ماله فى الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال:
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوّئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة، ويفوز برضا ربه، وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة فى الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم.
قصص أيوب عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
تفسير المفردات
أيوب: هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، فهو من بنى إسرائيل قاله ابن جرير. والنّصب: (بضم فسكون) والنّصب (بفتحتين) كالرشد والرشد: المشقة والتعب، عذاب: أي ألم مضر كما جاء في قوله: «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ» اركض برجلك: أي اضرب بها على الأرض، مغتسل: أي ماء تغتسل به(23/123)
وتشرب منه، والضغث: الحزمة الصغيرة من الكلأ والريحان، ويقال حنث في يمينه:
إذا لم يفعل ما حلف عليه.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال: رب إنى أصبت بالمرض، وتفرق الأهل وضياع الولد.
ومن حديث مس الشيطان له ما
روى- إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ما له وولده ووافر صحته، فابتلاه الله بالأمراض والأسقام،
وأضاع ماله وتفرق ولده فى أنحاء البلاد، وهلك منهم من هلك فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممضّ، وحسرة تقطّع نياط القلب.
ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه، لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء:
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.
وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالإكزيما والحكّة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد- كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض، وهى كما تفيد بالاستعمال الظاهري، تفيد بالشرب أيضا(23/124)
كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر وغيرها، واستعملت مشاتى ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشى وسويسرا وحلوان.
وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب- ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل.
وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن نبى الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمانى عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثمانى عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدرى ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أنى كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق» .
ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعى لا شك فيه.
وكما دفع عنه سبحانه الضر أجاب لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال:
(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وجمعنا له أهله بعد التفرّق والتشتّت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه، رحمة منا(23/125)
وتذكرة لأولى العقول السليمة، لنعتبر ونعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة:
عسى فرج يأتى به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ماله، فنمسك عن الكلام كما أمسك.
ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال:
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب لم يبين لنا علام حلف؟ وعلى من حلف؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت، فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه.
وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى الله وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه:
(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه فى النفس والأهل والمال من أذى، فجازيناه بما فرّج كربته، وأذهب لوعته، وليس فى الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، وليس فيه شىء من الجزع، فهو كتمنى العافية وطلب الشفاء.
وقد روى أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى، ولم يتبع قلبى بصرى، ولم يلهنى ما ملكت يمينى، ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان.(23/126)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
قصص إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وإسماعيل، واليسع وذى الكفل
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 49]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
تفسير المفردات
الأيدى: أي القوى في طاعة الله، والأبصار: واحدها بصر ويراد به هنا البصيرة والفقه في الدين ومعرفة أسراره، أخلصناهم: أي جعلناهم خالصين لنا، بخالصة:
أي بخصلة خالصة لا شوب فيها، هى تذكّر الدار الآخرة والعمل لها، المصطفين: أي المختارين من أبناء جنسهم، والأخيار: واحدهم خيّر وهو المطبوع على فعل الخير، هذا ذكر: أي هذا المذكور من الآيات فصل من الذكر وهو القرآن.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي واذكر صبر عبادنا الذين شرفناهم بطاعتنا، وقويناهم على العمل لما يرضينا، وآتيناهم البصيرة فى الدين، والفقه في أسراره والعمل النافع فيه.
ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات وجليل المدح بقوله:
(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لا تصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال، وهى(23/127)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
تذكرهم الدار الآخرة، فهى مطمح أنظارهم ومطّرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم.
(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي وإنهم لمن المختارين الذين جبلت نفوسهم على الخير، قلا تطمح إلى الأذى، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد، ولا ترتكب الشرور والآثام.
(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي واذكر لقومك من هؤلاء الأنبياء الذين تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا شرح هذه الأسماء، وأوصاف هؤلاء الأنبياء في سورتى الأنعام والأنبياء.
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي وكل منهم ممن اختاره الله للنبوة، واصطفاه من خلقه.
(هذا ذكر) أي هذه الآيات الناطقة بمحاسهم شرف لهم يذكر بين الناس، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر، كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع فى آخر: هذا وكان كيت وكيت- وعلى هذا جاء قوله: «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ» كما سيأتى بعد.
[سورة ص (38) : الآيات 50 الى 54]
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
تفسير المفردات
الطاغي: المتجاوز للحد في ترك الأوامر وفعل النواهي، جنات عدن: أي جنات استقرار وثبات، من قولهم: عدن بالمكان أي أقام به، متكئين فيها: أي متكئين فيها(23/128)
على الأرائك كما جاء في الآية الأخرى، أتراب: أي لدات متساوون في السن حتى لا تحصل الغيرة بينهن، نفاد: أي انقطاع.
المعنى الجملي
لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم فوصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا استهزاء: ربنا عجل لنا قطّنا- أمره بالصبر على أذاهم لوجهين:
(1) إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره فعليه أن يقتدى بهم ويجعلهم أسوة له.
(2) ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها من أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة وعلى ما يلاقيه من المكاره.
الإيضاح
(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن الله أعطى المتقين الذكر الحسن في الدنيا، ولهم في الآخرة حسن المرجع.
ثم بين هذا المآب الحسن بقوله:
(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي هو جنات استقرار وإقامة، أبوابها فتّحت إكراما لهم، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة وقرة العيون فيها ومشاهدة أحوالها التي تسرّ الناظرين، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها وتنعمهم بنعيمها فقال:(23/129)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك، وإنما خص الشراب والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها، لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة، فالنفس إليها أشوق، وفي ذكرها أرغب، كما أن في ذلك إيماء إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها.
وبعد أن وصف المسكن والمأكول والمشروب وصف الأزواج فقال:
(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي وعندهم نساء ذوات خفر قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن، وهن متساويات في السن والجمال يجب بعضهن بعضا، وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج، إذ في تباغض الضرائر النّصب والتعب والهمّ الكثير للزوج ولهنّ.
(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هو ما وعد الله به عباده المتقين، يصيرون إليه بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم.
ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم لا يزول ولا ينقطع فقال:
(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي إن هذا النعيم وتلك الكرامة- لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع.
ونحو الآية قوله: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» وقوله: «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» أي مقطوع، وقوله: «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي منقطع. وقوله:
«أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» .
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)(23/130)
تفسير المفردات
الطاغين: هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله وكذبوا رسله، يصلونها: أي يدخلونها ويقاسون حرها، والمهاد: كالفراش لفظا ومعنى، والحميم: الماء الشديد الحرارة، والغساق: شديد البرودة يغسق من صديد أهل النار، يقال غسقت العين: أي سال دمعها، من شكله: أي من مثل المذوق في الشدة والفظاعة، أزواج: أي أجناس، فوج:
أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها، لا مرحبا بهم. قال أبو عبيدة: العرب تقول لا مرحبا بك: أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت، من الأشرار: أي الأراذل الذين لا خير فيهم، يريدون بذلك المؤمنين، زاغت عنهم: أي مالت عنهم، والتخاصم: مخاصمة بعضهم بعضا ومدافعة كل منهم الآخر.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب المتقين- أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متمما له، فيأتى الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين(23/131)
رجاء في الثواب وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها.
الإيضاح
(هذا) أي هذا الذي تقدم ما يكون جزاء للمؤمنين كفاء ما قدّموا من أعمال صالحة.
(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة، ثم فسر ذلك بقوله:
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هم يدخلون جهنم ويقاسون شديد حرها، فبئس فراشا هى ونحو الآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» .
ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب فقال:
(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) أي العذاب هذا، فليذوقوه.
ثم فصل أنواعه وبين ألوانه فقال:
(حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي لهم فيها ماء حارّ يشوى الوجوه، وماء بارد لا يستطاع شر به لبرودته. قال الحسن رضى الله عنه: الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.
ثم زاد في التهديد وبالغ في الوعيد فقال:
(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه وأمثال من مثله فظاعة وشدة كالزقوم والصعود والسموم.
وبعد أن وصف مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض.
(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي هم يتلاعنون ويتكاذبون، فتقول(23/132)
الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم.
قال ابن عباس في تفسير الآية: إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم، قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبّة في غد
ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله:
(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي إنهم ذائقو حر النار مثلكم.
وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر، وحينئذ يردّ عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم:
(بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء: بل أنتم أحق منا بما قلتم (لا مرحبا بكم) فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير، وبئس النار المنزل والمستقر.
وهذا كلام يراد به التشفي منهم، لأنه مشترك بينهم.
ونحو الآية قوله: «كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها» .
ثم ذكر مقالة أخرى للأتباع ذمّا لهم أيضا فقال:
(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال. ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب- عذابا مضاعفا في النار، عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما
ورد في الحديث «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» .
ونحو الآية قوله: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» وقوله:
«رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» .(23/133)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا حكى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال:
(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟) أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار: ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم؟.
قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، يقول أبو جهل: أين بلال: أين صهيب، أين عمار، أولئك في الفردوس. وا عجبا لأبى جهل! مسكين، أسلم ابنه عكرمة وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو. قال:
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلى منه أسود مظلم
ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم فقالوا:
(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟) أي ألأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا؟.
وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.
والخلاصة- إن الكفار حين دخلوا النار ونظروا في جوانبها لم يروا المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا فتناجوا وقالوا: ما بالنا لا نرى الذين كنا نتخذهم فى الدنيا سخريا؟ ألم يدخلوا النار معنا، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟
ثم بين أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال:
(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضا- حق لا مرية فيه.
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)(23/134)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أول السورة أن محمدا صلّى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد وأثبت أنه نبىّ، ودعا إلى الحشر والنشر فقابلوه بالسفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب، ثم صبّره على ذلك وقص عليه من قصص الأنبياء قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك ذكر ثواب أهل الجنة وعذاب أهل النار- عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب التي ذكرها أول السورة وهى تقرير التوحيد والنبوة والبعث.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي قل أيها الرسول لمشركى مكة: إنما أنا نذير مرسل من ربى لأحذركم مخالفة أوامره حتى لا يحل بكم من العقاب مثل ما حل بالأمم قبلكم كعاد وثمود، ولست بالساحر ولا الكذاب، ولا بالمسيطر الجبار على نحو ما جاء في قوله:
«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» .
وبعد أن ذكر وظيفة الرسول ذكر ما يبلغه للناس فقال:
(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي قهر كل شىء وغلبه بعزته وجبروته، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما، وهو الذي يغلب ولا يغلب، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده إذا تاب، جلت أو حقرت.
ثم توعدهم على مخالفته وترك العمل به وأمر رسوله أن يجلى لهم حقيقة وظيفته، ليرعووا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال:(23/135)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي قل لهم: إنّ ما أنبأتكم به من كونى رسولا منذرا، ومن أن الله واحد لا شريك له- خبر عظيم الفائدة لكم، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال، لكنكم معرضون عنه، لا تفكرون فيه، لتماديكم في الغفلة.
وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ، علّهم يرجعون عن غيهم.
ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته فقال:
(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ولولا الوحى ما كنت أدرى باختلاف الملإ الأعلى، يعنى في شأن آدم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه، وهو ما ذكره بعد.
ثم أكد نبوته بقوله:
(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلىّ إلا للانذار، لا لأن أكون جبارا ولا مسيطرا.
قصص آدم عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)(23/136)
تفسير المفردات
فقعوا له: أي اسجدوا له، ما منعك: أي ما صرفك وصدك، واليد: القدرة قال:
تحمّلت من عفراء ما ليس لى به ... ولا للجبال الراسيات يدان
من العالين: أي المستحقين للترفع عن طاعة الله المتعالين عن ذلك، رجيم: أي مرجوم ومطرود من كل خير، لعنتى: أي طردى، أنظرنى: أي أمهلنى، من المنظرين: أي الممهلين، لأغوينهم: أي لأضلنهم، المخلصين: أي الذين أخلصتهم للعبادة.
المعنى الجملي
قد سلف ذكر هذه القصة في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، كما ذكرت هنا والعبرة منها النهى عن الحسد والكبر، لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، والكفار إنما نازعوا محمدا صلّى الله عليه وسلم بسببهما، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما والمواعظ والنصائح باب من أبواب التكرير للمبالغة فى النصح والإرشاد.
الإيضاح
خلاصة هذه القصة- إن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، وأمرهم بالسجود له متى فرغ من(23/137)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
خلقه وتسويته، إجلالا وإعظاما له، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسا بل كان من الجن فخانه طبعه، فاستنكف عن السجود له وخاصم ربه وادعى أنه خير من آدم، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد خالف بذلك أمر ربه، فكفر به فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة فدسه مذموما مدحورا، فسأل النّظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرّد وطغى وقال «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» فقال تعالى: «فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» .
[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
تفسير المفردات
من المتكلفين: أي المدّعين معرفة ما ليس عندهم، نبأه: أي ما أنبأ به من وعد ووعيد، بعد حين: أي بعد الموت.
الإيضاح
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي قل يا أيها الرسول لمشركى قومك: ما أسألكم على تبليغ ما يوحى إلىّ أجرا لا قليلا ولا كثيرا، وما عرفتمونى أتكلف ما ليس عندى حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن.
أخرج ابن عدى عن أبى برزة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال هم الرحماء بينهم، قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا بلى، قال هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» .(23/138)
وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: «أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله تعالى أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) .
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن إلا عظة للثقلين كافة، وكل ذى عقل سليم، وطبع مستقيم، يشهد بصحته وبعده عن البطلان والفساد.
ثم ختم السورة بتهديدهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال:
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي إنكم إن أصررتم على ما أنتم عليه من الجهل وأبيتم إلا تقليد الآباء والأجداد فستعلمون حين الموت إن كنتم مصيبين في إعراضكم أو مخطئين.
وكان الحس البصري يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا يعرضون عن اتباع الذكر وما فيه من صلاح للناس في الدنيا والآخرة.
ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ
(1) صلف المشركين وإعراضهم عن الحق، مع ضرب المثل لهم بالأمم الماضية التي حادت عن الحق فهلكت.
(2) إنكارهم للوحدانية.
(3) إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
(4) إنكارهم للبعث والحساب.
(5) قصص داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين عليهم السلام.(23/139)
(6) وصف نعيم أهل الجنة.
(7) وصف عذاب أهل النار، وتلاعن بعضهم بعضا، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار؟
(8) قصص آدم عليه السلام.
(9) قسم إبليس- ليغوينّ بنى آدم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
(10) أمر الله نبيه أن يقول للمشركين: ما أطلب منكم أجرا على تبليغ رسالتى ولا أنا بالذي يدّعى علم شىء هو لا يعرفه.
(11) إن القرآن أنزل للثقلين كافة.
(12) إن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.(23/140)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
سورة الزمر
هى مكية إلا الآيات 52، 53، 54 فمدنيات، وآياتها خمس وسبعون نزلت بعد سبأ.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» ووصفه هنا بقوله: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .
(2) إنه ذكر في ص أحوال الخلق من المبدإ إلى المعاد، وذكر هنا مثله- إلى نحو ذلك من وجوه للربط تظهر بالتأمل.
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
الإيضاح
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا الكتاب العظيم منزل من عنده تعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه كما جاء في آية: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ(23/141)
الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»
وجاء في قوله: «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» .
وبعد أن بيّن شأن المنزل وأنه من عند الله- ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزّل من الحق والعدل فقال:
(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول آمرا بالحق والعدل الواجب اتباعهما والعمل بهما.
ثم أمر رسوله بعبادته والإخلاص له فقال:
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي فاعبده تعالى ممحّضا له العبادة من شوائب الشرك والرياء بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه، على لسان أنبيائه من تخصيصه وحده بالعبادة وأنه لا ندّ له ولا شريك.
ثم أكّد هذا الأمر بقوله:
(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شركة لأحد معه فيها، لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه،
وفي حديث الحسن عن أبى هريرة «أن رجلا قال: يا رسول الله إنى أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لا يقبل الله شيئا شورك فيه، ثم تلا: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) » .
وبعد أن أبان أن رأس العبادة الإخلاص لله- أعقب ذلك بذم طريق المشركين فقال:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا.(23/142)
ومن حديث عبادتهم للأصنام أنهم جعلوا تماثيل للكواكب، والملائكة، والأنبياء، والصالحين الذين مضوا، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها، وقالوا إن الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة، فنحن نعبد هذه الآلهة وهى تعبد الإله الأعظم.
وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل مفندة لها ماحية لها من الأذهان العالقة بها، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة كما قال: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقال:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» .
قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم فلم تعبدونهم؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده، فرد الله عليهم بقوله: «فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ» .
ثم هددهم وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله يحكم بينهم وبين خصومهم وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك يوم القيامة، ويجازى كلا بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار.
ثم بين نتيجة الحكم قال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن الله لا يرشد إلى الحق ولا يوفق له من هو كاذب مفتر عليه، بزعمه أن له ولدا وأن له ندّا وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك من الترّهات والأباطيل التي لا يقبلها العقل، ولا تجد لها مستندا من نقل.
ثم فصّل ما كذبوا فيه فقال:
(لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو أراد الله أن يتخذ ولدا- ولا ينبغى له ذلك- لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، فكيف نسبتم إليه البنات؟(23/143)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون له ولد فقال:
(سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تقدس الله أن يكون له ولد، فإنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغنى عما سواه، قهر الأشياء فدانت له، وتسلط على المخلوقات بقدرته فذلت له، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
تفسير المفردات
التكوير: فى الأصل اللف واللى من كار العمامة على رأسه وكوّرها والمراد يذهب الليل ويغشى مكانه النهار، والعكس بالعكس، وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين له، والأجل المسمى: يوم القيامة، والظلمات الثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرّحم وظلمة المشيمة، تصرفون: أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه منزه عن الولد بكونه إلها قهارا، وأن كل المخلوقات فى قبضته وسلطانه- أردف ذلك ما يدل على كمال قدرته بآياته التي أوجدها(23/144)
فى الأكوان، وفي خلق الإنسان، فبسط سلطانه على الشمس والقمر وذللهما، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت الذي لا يعلم مداه إلا هو، كما خلق الإنسان الأول وجعل له زوجا من جنسه، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان ذكر وأنثى فكانت نواة التناسل فى هذه الأنواع، فهل بعد هذا يجد العاقل معدلا عن الاعتراف بربوبيته، وعظيم قدرته.
الإيضاح
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي خلق هذا العالم العلوي على ما فيه من بديع الصنع من شموس وأقمار، تكوّن الليل والنهار، والعالم السفلى المشتمل على المواليد الثلاثة من حيوان ونبات وجماد، وسخر كل ما فيه ظاهرا وباطنا لانتفاع الإنسان في سبل معايشه إذا استعمل عقله، واستخدم فكره في استنباط مرافقه- خلقهما على أكمل وجه، وأبدع نظام، قائمين على الحق والصواب، والحكم والمصالح.
وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما فقال:
(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى كلا منهما الآخر كأنه يلفه عليه لفّ اللباس على اللابس، أو يجعلهما في تتابعهما أشبه بتتابع أكوار العمامة بعضها على بعض، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها وهى مكورة فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس يسير من الشرق إلى الغرب ويلف حولها طاويا الليل، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويا النهار، فالأرض كالرأس والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة، ويلتفان متتابعين حولها.
وفي هذا إيماء إلى كروية الأرض أولا، وإلى دورانها حول نفسها ثانيا، فتكوير الأرض ظاهر الآية، ودورانها أتى تابعا بالزمر والإشارة.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وجعل الشمس والقمر وهما وسيلتا الليل والنهار منقادين له (وأكثر مصالح العالم مرتبطة بهما) يجريان لمنتهى(23/145)
دورتهما، ومنقطع حركتهما، وهو يوم القيامة، «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» .
ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية ترغيبا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له، والتحذير من الكفر والمعاصي، فقال:
(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم على خلقه بهذه النعم- هو القادر على الانتقام ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين.
ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على كمال قدرته، وكمال رحمته فهو القهار ذو القوة المتين، الغفار لذنوب التائبين.
وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي- أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلى، وبدأها بخلق الإنسان، لأنه أعجب ما فيه، لما فيه من العقل وقبوله الأمانة الإلهية، ولله در من قال:
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم- من نفس واحدة وهى آدم، ثم جعل من جنسها زوجها وهى حواء، ثم ثنّى بخلق الحيوان فقال:
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهى التي ذكرها في سورة الأنعام «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ» أي ذكر وأنثى لكل منها.
ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر من الأناسى والأنعام فقال:
(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي يبتدىء خلقكم أيها الناس فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، فيكون أحدكم أوّلا نطفة، ثم يكون علقة،(23/146)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
ثم يكون مضغة، ثم يكون لحما وعظما وعصبا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي في ظلمات أغشية ثلاثة جعلها المولى سبحانه وقاية للولد وحفظا له من التعفن، قال الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه [الإسلام والطب الحديث] : يعلمنا القرآن أن الجنين له ثلاثة أغشية سماها ظلمات: هى الغشاء المنبارى، والخربون، والغشاء اللفانفى، وهى لا تظهر إلا بالتشريح الدقيق، وتظهر كأنها غشاء واحد بالعين المجردة اهـ.
وبعد أن ذكر هذه الأفعال العجيبة ذكر موجدها ومنشئها فقال:
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله- هو الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها، المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق في الدنيا والآخرة.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تنبغى العبادة إلا له وحده لا شريك له.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء ما يصرف عنها- إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة ما يصرف عنها.
والخلاصة- كيف تعبدون معه سواه؟ أين ذهبت عقولكم؟ وكيف ضاعت أحلامكم؟.
[سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 8]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)(23/147)
تفسير المفردات
منيبا: أي راجعا إليه مطيعا له، خوّله: ملّكه وأنشد أبو عمرو بن العلاء لزهير ابن أبى سلمى:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى وذكر أن المشركين عبدة الأصنام لا دليل لهم على عبادتها، وكأنّ عقولهم قد ذهبت حين عبدوها- أعقب ذلك ببيان أنه هو الغنى عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة، ولا دفع مضرة، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده، بل يرضى لهم الشكر، وأن كل نفس مطالبة بما عملت، وبعدئذ تردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون، فإذا أصابهم الضر رجعوا في طلب دفعه إلى الله، وإذا ذهب عنهم عادوا إلى عبادة الأوثان، وقد كان العقل يقضى بأنهم وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه- أن يعبدوه في جميع الحالات، ثم أمر رسوله أن يقول لهم متهكما موبخا تمتعوا بكفركم قليلا ثم مصيركم إلى النار وبئس القرار.
الإيضاح
(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إن تكفروا به سبحانه مع مشاهدة ما يوجب الإيمان والشكر فإن ذلك لا يضيره شيئا، فهو الغنى عن سائر المخلوقات كما قال تعالى حكاية عن موسى: «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ(23/148)
لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»
وجاء في صحيح مسلم «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا» .
ثم ذكر ما يحبه سبحانه وما يكرهه فقال:
(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به، لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب والنّصب وممن يأكل الطعام ويمشى في الأسواق.
(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه على مقتضى السّنن القويم، والصراط العادل المستقيم كما قال: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» .
ثم ذكر أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل، ولا يضيره عمل سواه فقال:
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل أىّ نفس أوزار نفس أخرى، بل كلّ مطالب بعمل نفسه خيرا كان أو شرا.
ثم بين أن جزاء المرء في الآخرة وفق ما عمل في الدنيا فقال:
(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاحذروا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه فتهلكوا.
ثم بين أن هذه المجازاة ليست بالعسيرة عليه سبحانه فقال:
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى محص جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم مما لا تدركه أعينكم فكيف بما رأته العيون، وأدركته الأبصار؟.
ثم بين سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه فقال:
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ(23/149)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ)
أي وإذا أصاب الكافر بلاء فى جسده، أو شدة في معيشته، أو خوف على حياته- استغاث بربه الذي خلقه ورغب إليه في كشف ما نزل به، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضرّ، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء- ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ، فجعل لله شركاء وأضل الناس ومنعهم من توحيده والإقرار به والدخول في الإسلام له.
ثم أوعده وهدده على ما فعل فقال:
(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل أيها الرسول لمن فعل ذلك:
تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها، منصرفا عن النظر إلى أدلة التوحيد التي أوجدها الله في الأكوان، وجعلها في نفس الإنسان، زمنا قليلا إلى أن تستوفى أجلك، وتأتيك منيّتك، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدا.
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
تفسير المفردات
القانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة، آناء الليل: ساعاته واحدها آن، يحذر الآخرة: أي يخشى عذابها.
المعنى الجملي
بعد أن أبان صفات المشركين الضالين، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة ويعودون إلى الأوثان حين الرخاء- أردفه ذكر(23/150)
أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون إلا على ربهم، ولا ينيبون إلا إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه.
الإيضاح
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي أأنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات، ودائب على وظائف العبادات، فى ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد من الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وهو في حال عبادته خائف راج؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان.
والخلاصة- أمن هو مطيع كمن هو عاص؟ إنهما لا يستويان.
ثم أكد نفى التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال:
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لقومك:
هل يستوى الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون من سيئها شرا.
وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.
ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذى لبّ، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة، لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال:
(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بحجج الله ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا، لا أهل الجهل والغفلة.
والخلاصة- إنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك من له لب وعقل يتدبر به.(23/151)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
المعنى الجملي
بعد أن نفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم- أردفه أمر رسوله أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح:
(1) تقوى الله وطاعته لما في ذلك من جزيل الفوائد، فإذا تعذرت طاعته فى بلد تحولوا عنه إلى بلد يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة كما فعل كثير من الأنبياء، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب، فلا يقدر بمكيال ولا ميزان.
(2) إنه أمر بعبادة الله وحده مخلصا له الدين، وقد قال كفار قريش للنبى صلّى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم وجدّك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله الآية وأمره أن يكون أول المسلمين، وفي ذلك تنبيه إلى كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة.
(3) إنه أمر أن يقول لهم: إنى أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.(23/152)
(4) إنه أمر أن يذكر لهم أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه ويخسر أهله، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
(5) وصف النار وأنها تحيط بهم من كل جانب، وهذا من أفظع أنواع العذاب التي يخوّف بها عباده.
الإيضاح
(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر سبحانه رسوله أن يعظ المؤمنين ويحملهم على الطاعة والتقوى باجتناب معاصيه واتباع أوامره.
ثم علل وجوب الامتثال بقوله:
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن في هذه الدار، وعمل صالح الأعمال، وزكّى نفسه فيها- حسنة من صحة وعافية ونجاح في الأعمال التي يزاولها كفاء ما يتحلى به من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله، وحسنة في الآخرة فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .
ثم رغّبهم في الهجرة من مكة إلى المدينة وصبّرهم على مفارقة الأوطان فقال:
(وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ) أي إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين فقد فعل كثير منهم ذلك.
ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة وعظيم الأجر على ذلك فقال:
(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي ولهم على صبرهم أجر عظيم عند ربهم لا يقدر قدره، كما وفّى من قبلهم أجورهم على هذه الشاكلة،
وعن الحسين بن على رضى الله عنهما قال: سمعت جدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بنى إن في الجنة(23/153)
شجرة يقال لهال شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا ثم تلا: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»
قال النحاس: من صبر على المعاصي يقال صابر، ومن صبر على المصيبة يقال صابر على كذا.
ثم ذكر ما أمر به نبيه من الإخلاص في الطاعة فقال:
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك: إن الله أمرنى أن أعبده مفردا له الطاعة دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد.
وفي هذا نعى لهم على تماديهم في عبادة الأوثان، والكلام عليه من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) .
(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت أن أكون أول المسلمين وسابقهم فى إخلاص التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والبراءة من كل ما دونه من الآلهة.
(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم: إنى أخاف إن عصيت ربى بترك الإخلاص له أو إفراده بالربوبية- عذاب يوم القيامة الكثير الأهوال والآلام.
وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى.
ثم كرر الأمر مرة أخرى بالإخلاص في الطاعة للتهديد والوعيد فقال:
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي قل لهم: الله أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصا له عبادتى مبتعدا من الشرك والرياء، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم.
ثم أمر رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال:
(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل لهم(23/154)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
أيها الرسول: إن الخسران الذي لا خسران بعده- هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة.
(أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هو له، وفظاعة شأنه.
ثم فصل ذلك الخسران وبينه بعد إبهامه تهويلا وتعظيما لأمره فقال:
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي لهم أطباق متراكمة من النار بعضها فوق بعض كأنها ظلل، ومن تحتهم مثلها، والمراد من ذلك أن النار محيطة بهم من كل جانب.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» وقوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» .
(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون لا محالة ليزدجر عباده عن المحارم والآثام.
بعد هذا أمرهم بتقواه وحذرهم من عصيانه فقال:
(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي يا عبادى بالغوا في الخوف والحذر والتقوى، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى، وهذه منة منه تعالى منطوية على نهاية اللطف والرحمة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)(23/155)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وعيده لعبدة الأصنام- أردف ذلك وعد من اجتنبوا عبادتها وبعدوا عن الشرك، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد ويحصل بذلك كمال الترهيب والترغيب.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الطاغوت:
الشيطان، ويطلق على الواحد والجمع، وسميت عبادة الأوثان عبادة للشيطان، إذ كان الآمر بها، والمزيّن لها.
أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه- لهم البشرى بالثواب العظيم من الله على ألسنة رسله حين الموت وحين يحشرون من قبورهم للحساب.
ثم مدحهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل فقال:
(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي فبشر هؤلاء الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، وأنابوا إلى ربهم وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول- بالنعيم المقيم فى جنات النعيم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ) أي هؤلاء هم الذين وفقهم الله للرشاد، وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع.
(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر(23/156)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
المستقيمة، التي لا تطيع الهوى ولا يغلبها الوهم، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها.
روى أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر: زيد بن عمرو وأبى ذر الغفاري وسلمان الفارسي، كانوا في الجاهلية يقولون «لا إله إلا الله» .
ثم بين أضداد المذكورين أولا وسجل عليهم الحرمان من الهداية فقال:
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ؟ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) أي أأنت مالك شئون الناس ومصرّف أمورهم، فمن حقت عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي- فأنت تنقذ من النار؟ - كلا، ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم يجازيهم بحكمته وعدله.
ثم أعاد جزاء المتقين عناية بأمرهم بعد ذكر أضدادهم فقال:
(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف طباق فوق طباق، مبنيات محكمات تجرى الأنهار خلال أشجارها.
ثم أكد حصول ذلك لهم فقال:
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ) أي وعد الله هؤلاء المتقين بذلك، ووعده الحق، فهو لا يخلف ما وعدهم، بل يفى بوعده.
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
تفسير المفردات
فسلكه: أي فأدخله، ينابيع: أي عيونا ومجارى، ألوانه: أي أنواعه وأصنافه، يهيج: أي يجف، حطاما: أي فتاتا متكسرا.(23/157)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
المعنى الجملي
بعد أن وصف جلّت قدرته الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها ومزيد الشوق إليها- أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا توجب النفرة منها كسرعة زوالها وتقضّيها وشيكا، تحذيرا من الاغترار بزهرتها، والركون إلى لذتها، فمثّل حالها بحال نبات يسقى بماء المطر فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتا متكسرا، فما أسرع زواله، وأيسر تقضيه!.
الإيضاح
إنك أيها الرسول لتشاهد الماء وقد نزل من السماء فجرى عيونا في الأرض، فسقيت به أنواع مختلفة من النبات من برّ إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك، ثم نضجت وجفّت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة، ثم صارت فتاتا متكسرة، فما أشبه حال الدنيا بحالها فهى سريعة التقضّى وشيكة الزوال، فليعنبر بذلك أولو الحجا، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض، ولا يغتروا ببهجتها ولا يفتنوا بزخرفها.
ونحو الآية قوله: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 28]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)(23/158)
تفسير المفردات
شرح مصدر للإسلام: الفرج به والطمأنينة إليه، والنور: البصيرة والهدى، والقسوة: جمود وصلابة في القلب يقال قلب قاس: أي لا يرق ولا يلين، أحسن الحديث: هو القرآن، متشابها: أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والأحكام، مثانى:
واحدها مثنى من التثنية: أي التكرير، تقشعر: أي تضطرب وتتحرك وتشمئز، تلين:
أي تسكن وتطمئن، الخزي: الذل والهوان، يتذكرون: أي يتعظون، غير ذى عوج:
أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، قال:
وقد أتاك يقين غير ذى عوج ... من الإله وقول غير مكذوب
المعنى الجملي
بعد أن بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه والإعراض عن الدنيا- أردف ذلك بيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح الله صدره ونوّر قلبه وأشعر نفسه حب العمل به، ثم أعقبه بذكر أن من أضله الله فلا هادى له، وأن من يتقى بيديه المخاوف صيانة لوجهه عن النار ليس حاله كحال من هو آمن لا يفكر في مآل(23/159)
أمره، وعاقبة عمله، وبعدئذ ذكر أن هؤلاء المشركين ليسوا بدعا في الأمم، فلقد كذّب كثير قبلهم، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فأصيبوا في الدنيا بالذل والصغار والقتل والخسف، ولعذاب الآخرة أشد نكالا ووبالا، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس بلسان عربى مبين لعلهم يرعوون ويزدجرون.
الإيضاح
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟) أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد- كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته؟ وقد روى أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل حلول الموت.
والخلاصة- هل يستوى من أنار الله بصيرته ومن هو قاسى القلب بعيد من الحق؟
ونحو الآية قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» .
قال ابن عباس: من شرح الله صدره للاسلام أبو بكر الصديق رضى الله عنه،
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: «تلا النبي صلّى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا نبى الله: كيف انشراح صدره؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» . وأخرج الترمذي عن ابن عمر «أن رجلا قال يا رسول الله: أىّ المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا: ما آية ذلك(23/160)
يا نبى الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» .
ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السالفة فقال:
(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر الله الذي من حقه أن تلين منه القلوب، فهم إذا ذكر الله عندهم، وذكرت دلائل قدرته، وبدائع صنعه، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة.
قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» .
وعن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى:
اطلبوا الحوائج من السمحاء، فإنى جعلت فيهم رحمتى، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإنى جعلت فيهم سخطى» .
ثم بين حالهم فقال:
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى الله أبصارهم فى غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها.
وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال:
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرّت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات(23/161)
الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس قال الزجاج:
إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله.
(ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب يهدى به الله من يشاء ويوفقه للإيمان.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به، فما له من مخرج من الضلالة، ولا موفّق لسلوك طريق الحق.
ثم ذكر علة ما تقدم من تباين حال المهتدى والضالّ فقال:
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أكل الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة (لأن يده التي كان يتقى بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه) ، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف.
ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال:
(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي- ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا، ودسّيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية، النار الحامية.
ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروى فقال:
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا، فأصيبت تارة بالمسخ، وأخرى بالخسف، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.(23/162)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال:
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربى لا لبس فيه ولا اختلاف، ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذّرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة، ويتبرءوا من الآلهة والأنداد.
[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
تفسير المفردات
ضرب المثل: تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها، متشاكسون: أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم، سلما لرجل: أي خالصا لسيد واحد، والميت (بالتشديد) من لم يمت وسيموت، والميت (بالتخفيف) من قد مات وفارقته الروح، قال الخليل أنشد أبو عمرو:
وتسألنى تفسير ميت وميّت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
تختصمون: أي تحتكمون للقضاء.(23/163)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس، وهى أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرعووا عن غيهم وضلالهم- أردفه ذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين وقبح طريقتهم ووضوح بطلانها، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعا سيموتون ثم يعرضون على ربهم، وهناك يستبين المحق والمبطل، والضال والمهتدى.
فلا داعى إلى الجدل والخلاف بينك وبينهم.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟) أي ضرب الله مثلا لقومك وقال لهم: ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو خائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين، وإذا احتاج إليهم في مهمّ رده كل منهم إلى الآخرين، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو يعينه على مهماته، ويقضى له سائر حاجاته، فأىّ العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا؟
- الجواب لا يحتاج إلى بيان- هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالّا حائرا لا يدرى أىّ تلك الآلهة يعبد؟ ولا على أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفده؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلّفه، عارف ما يرضيه وما يسخطه- لا شك أن البون بين حاليهما شاسع.
وقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) أي هل تستوى صفتاهما وحالاهما؟
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو- ثبت أن الحمد لله لا لغيره.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.(23/164)
ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكم العدل، وهناك يتميز المحق من المبطل قال:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي إنك ستموت وهم سيموتون، ثم تختصمون عند ربكم، فتحتجّ أنت عليهم بأنك قد بلّغت فكذّبوا، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا، ويقول التابعون للرؤساء: أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة: أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون.
عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» رواه البخاري.
وعن أبى هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
إن المفلس من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتى قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم.
وعن أبى سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفّقنا لما فيه رضاك.
تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذى القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.(23/165)
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 جمع الناس للحساب والجزاء 6 البعث ممكن وليس بمستحيل 10 القرآن يدل على أن جميع الكواكب سائرة 13 لكل من الشمس والقمر مدار يسبح فيه 15 السفن البرية والسفن الهوائية 19 تأتى الساعة بغتة والناس لا يشعرون 20 خروج الخلق من الأجداث 22 ما يتمتع به أهل الجنة من مآكل ومشارب 23 شهادة الأيدى والأرجل على المجرمين يوم القيامة 30 ما ينبغى للرسول أن يكون شاعرا 32 عاقبة من أعرض عن النظر في آيات ربه 34 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه 36 دليل القدرة في الأنفس والآفاق 39 تنزيهه سبحانه عما لا يليق به 42 قسمه تعالى بملائكته بأن الإله واحد 44 الدنيا بيت فرشه الأرض وسقفه السماء 45 الدليل على الحشر والنشر وقيام الساعة(23/166)
الصفحة المبحث 47 مقالتهم في القرآن 49 يحشر الظالمون مع من على شاكلتهم في المعاصي 51 يوم القيامة يتخاصم الأتباع والرؤساء من أهل الضلال 56 وصف خمور الجنة 59 سمر أهل الجنة في الجنة 60 اغتباط المؤمنين بما آتاهم ربهم من النعيم 63 وصف شجرة الزقوم 64 تقليد الأبناء للآباء 65 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن قومهم ليسوا ببدع في الأمم 68 تقريع إبراهيم لقومه على عبادة الأصنام 71 عدول قومه عن الحجاج إلى استعمال القوة 73 طاعة إسماعيل لأبيه في ذبحه تنفيذا للرؤيا 76 الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟
78 نعم الله على موسى وهارون 81 قصص لوط عليه السلام 82 قصص يونس عليه السلام 84 توبيخ المشركين على نسبة البنات إليه سبحانه 93 مجمل ما حوته هذه السورة 94 سورة ص 96 عجب المشركين من قول الرسول: إن الإله واحد 98 الأسباب التي تمنع في زعمهم أن يكون محمد نبيا 104 قصص داود عليه السلام(23/167)
107 قضية من قضايا داود التي حكم فيها 110 الرد على المفسرين فيما قالوه في قصص داود 114 الحكمة في خلق هذا الكون 115 ليس من العدل مساواة البرّ بالفاجر في الجزاء 117 عرض سليمان للصافنات الجياد والحكمة في ذلك 119 تسخير الريح لسليمان عليه السلام 123 داء أيوب عليه السلام ودواؤه ورفض ما قيل في ذلك نقلا عن اليهود 130 وصف نعيم المتقين في مآكلهم ومشاربهم 133 محاورة بين رؤساء الضلال وأتباعهم 135 الرسول منذر لا مسيطر 136 الأدلة التي ترشد إلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم 141 اعتذار المشركين على عبادة الأصنام 150 تهديد المشركين على أفعالهم القبيحة 152 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم أن ينصح المؤمنين بنصائح 153 للصابرين أجرهم بغير حساب 156 بشرى من يسمعون القول فيتبعون أحسنه 158 صفات الدنيا الموجبة للنفرة منها 159 وجوب الإقبال على طاعة الله 160 ضرب القرآن الأمثال للناس 164 أصيب الأمم الماضية بضروب من العذاب في الدنيا قبل الآخرة(23/168)
الجزء الرابع والعشرون
[تتمة سورة الزمر]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع والعشرون(24/1)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
الجزء الرابع والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
تفسير المفردات
مثوى: مقاما من ثوى بالمكان يثوى ثويّا وثواء: إذا أقام به، والذي جاء بالصدق: هو الرسول صلّى الله عليه وسلم، وصدق به هم أتباعه، أسوأ الذي عملوا: أي ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام، ويجزيهم أجرهم: أي يثيبهم على الطاعات التي فعلوها في الدنيا.(24/3)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم- أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذّبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقة، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.
الإيضاح
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) أي لا أحد يبلغ ظلمه ظلم من افترى على الله الكذب، فجعل معه آلهة أخرى، أو ادعى أن الملائكة بنات الله، وهو أيضا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور.
وفي قوله (إِذْ جاءَهُ) بيان لأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال رويّة بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النّصفة فيما يسمعون.
وبعد أن ذكر حالهم أردفه وعيدهم فقال:
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفروا بالله وأبوا تصديق رسوله وامتنعوا عن اتباعه فيما يدعو إليه من التوحيد والشرائع التي أنزلها عليه.
وخلاصة هذا- ألا يكفيهم ذلك جزاء على أعمالهم.
وبعد أن ذكر حال المكذبين ووعيدهم أردفه ذكر الصادقين المصدقين، ومدحهم على ما فعلوا فقال:
(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي والذي جاء بالصدق(24/4)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
وهو الرسول صلّى الله عليه وسلم، وصدّق به وهم أتباعه الذين نهجوا نهجه وساروا على طريقه- هم الذين اتقوا الله فوحدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام وأدّوا فرائضه واجتنبوا نواهيه، رجاء ثوابه وخوف عقابه.
ثم ذكر ما وعدهم به من ثواب عظيم ونعيم مقيم فقال:
(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم وتقرّبه أعينهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء من أحسن عملا، فأخلص لربه في السر والنجوى، وراقبه فى أقواله وأفعاله، وعلم أنه محاسب على النّقير والقطمير، والجليل والحقير.
ثم بين سبحانه ما هو الغاية لهم عند ربهم فقال:
(لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضر عنهم والنفس إذا علمت زوال المكروه عنها كان لها في ذلك سرور ولذة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها.
(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساويها، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب، لأن دفع المضار أهم من جلب المسارّ.
وفي ذكر تكفير الأسوإ إشارة إلى استعظامهم للمعصية مطلقا لشدة خوفهم من الله، وإلى أن الحسن الذي يعلمونه هو الأحسن عند الله لحسن إخلاصهم فيه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 40]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)(24/5)
تفسير المفردات
بكاف عبده: أي يكفيه وعيد المشركين وكيدهم، الذين من دونه: هم الأصنام:
ذى انتقام: أي مما عاداه وعادى رسوله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتى المؤمنين ما يشاءون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم- أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى فمن يضلله فلا هادى له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون الله؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز: هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد؟ إذا فالله حسبى وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم: اعملوا كما تشاءون، وعلى نحو ما تحبون، إنى عامل على طريقتى، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.(24/6)
الإيضاح
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟) أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات:
ويزيل عنهم المصايب والويلات، ويعطيهم جميع المشتهيات، والمراد أنه يكفى من عبده وتوكل عليه.
وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكارى للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها.
ثم رتب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك المشركون بغير الله من الأوثان والأصنام عبثا وباطلا، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى. وقد روى أنهم خوّفوا النبي صلّى الله عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأس، فقال له سادتها: أحذّركها يا خالد، فإن لها شدة لا يقوم لها شىء، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس اه.
وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفى نبيه صلّى الله عليه وسلم دينه ودنياه، ويكفى أتباعه أيضا، ويكفيهم شر الكافرين.
ونحو الآية قوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم:
«وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟» .
ثم أبان شديد جهلهم لتوعدهم بما لا يضر ولا ينفع فقال:
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه وحبه للاثم والفسوق ومعصية الرسول، فما له من هاد يهديه إلى الرشاد ويخلّصه من الضلال.
(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي ومن يوفقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية(24/7)
نفسه وتحبيبها إلى صالح العمل، فلا مضل له يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه إذ لا رادّ لفعله، ولا معارض لإرادته، وإلى ذلك أشار بقوله:
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي الله عزيز لا يغالب، ومنيع لا ينازع ولا يمانع، وذو انتقام من أعدائه لأوليائه، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه، أو لجأ إلى بابه.
ثم أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان مع تفرده تعالى بالخالقية لكل شىء وعدم خلقها شيئا فقال:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي إن هؤلاء المشركين يقرون بوجود الإله العالم الحكيم لوجود الدليل، ووضوح السبيل الذي لا يمكن إنكاره، فإذا هم سئلوا اعترفوا به، وإذا كان كذلك فكيف ساغ لهم عبادة غير الخالق أو تشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الفطنة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظن بهم، هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل.
ثم أمر سبحانه رسوله أن يبكتهم ويوبخهم بعد هذا الاعتراف فقال:
(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟) أي أخبرونى عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر أو منع ما أراده لى من الخير؟ وإذا لم تكن لها قدرة على شىء فلا ينبغى التعويل عليها ولا الكدّ في عبادتها، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية جلب السراء ودفع الضراء.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلّى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع فنزل قوله:
(قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) فى جميع أمورى من جلب نفع أو دفع ضر، فلا أخاف شيئا من أصنامكم التي تخوفوننى بها.(24/8)
(عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي عليه لا على غيره يعتمد العاملون.
وفي الحديث «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل» .
وروى عن ابن عباس أنه قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» .
ونحو الآية قول هود عليه السلام: «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» حين قال له قومه: «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» .
ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد:
(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإنى عامل أيضا في تقرير دينى والسعى في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصيبنى أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أيّنا المبطل أنا أو أنتم، ويحل علىّ العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.(24/9)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
[سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 45]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
المعنى الجملي
بعد أن حاجّهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى- سلاه على إصرار هم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال:
«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال:
«لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.(24/10)
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح
(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن بالحق لتبلّغه للانس والجن مبشرا برحمة الله، ومنذرا بعقابه، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم والهادي لهم إلى الصراط المستقيم.
(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فمن عمل بما فيه واتبعه فإنما بغى الخير لنفسه، إذ أكسبها رضا خالقها، وفاز بالجنة ونجا من النار.
(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك، فضّل عن الحجة، فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك، لأنه يكسبها سخط الله وأليم عقابه في دركات الجحيم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .
(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنت أيها الرسول برقيب على من أرسلت إليهم ترقب أعمالهم وتحفظ عليهم أفعالهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
ونحو الآية قوله: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقوله: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» .
ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة، وصفته العجيبة فقال:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي الله هو الذي يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت، ويقطع تعلقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه.(24/11)
(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها، فيقبضها عن التصرف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها.
(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يردها إلى الأجساد.
(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت.
روى عن ابن عباس أنه قال: إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح هى التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره (طرفه الذي يلى الجسد ويلى الجانب الأيمن) فإنه لا يدرى ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربى وضعت جنبى، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسى فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» .
وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن أبى شيبة عن أبى قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي: ان الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء، وردّها عليكم حين شاء» .
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فى سفر فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت أنا، فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس إن هذه الأرواح عارية فى أجساد العباد، فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء» .
وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال:(24/12)
العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا! فقال علىّ كرم الله وجهه، أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى»
فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهى عنده سبحانه في السماء فهى الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهى الكاذبة، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله رضى الله عنهما اه.
ومن هذا تعلم أن النفس علويّة هبطت من المحل الأرفع، وشغلت بتدبير منزلها فى ليلها ونهارها، ولا تزال تنتظر العود إلى ذيّاك الحمى، فحين النوم تنتهز الفرصة، فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور، وتستعد لقبول بعض آثاره، والاستضاءة بشىء من أنواره فمتى رأت وهى في تلك الحال فاضت عليها أنواره فكانت الرؤيا صادقة، ومتى رأت وهى راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام، وتزدحم فيه أىّ ازدحام، كانت رؤياه كاذبة، وهى في كلتا الحالين متفاوتة بحسب الاستعداد والله ولى التوفيق، ومنه الهداية لأقوم طريق.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته لمن يتفكر في طريق تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها بانقطاع تصرفها حين الموت مع بقائها في عالم آخر إلى أن يعيد الله الخلق، وفي قطع تصرفها فى الظاهر فقط في حال النوم، ثم إرسالها حال اليقظة إلى انقضاء آجالها.
ثم أنكر على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء، فقال:
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون آلهتهم التي يعبدونها لتشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم؟.(24/13)
وإجمال المعنى- إنه لا ينبغى لهم ذلك، إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا، ومن ثم أمر رسوله أن يتهكم بهم ويحمّقهم على ما يفعلون فقال:
(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: أتتخذونهم شفعاء كما تزعمون، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم.
ثم أمر رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال:
(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) فليس لأحد منها شىء إلا بإذنه لمن ارتضى كما قال:
«مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟» وقال: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» والخلاصة- إنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له، وكلاهما ليس بموفور لهؤلاء.
ثم بين العلة في أن الشفاعة جميعا له فقال:
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان في السموات والأرض، وكل من فيها ملك له، ومنها ما تعبدون من دونه، فاعبدوا مالك الملك كله الذي لا يتصرف أحد فى شىء منه إلا بإذنه ورضاه.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي ثم إليه مصيركم بعد البعث وهو معاقبكم على إشراككم به سواه إن أنتم متم على هذه الحال.
وخلاصة ذلك اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا وعلى صركم فيها، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدمتم من عمل، خيرا كان أو شرا.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الذي تقشعرّ منه الجلود خشية.
ثم ذكر هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم، وتدل على غفلة عظيمة وتناقض بين الاعتراف بالألوهية والإنكار لها فقال:
(وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ(24/14)
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)
الاشمئزاز أن يمتلىء القلب غيظا وغما ينقبض عنهما أديم الوجه كما يرى في وجه العابس المحزون، والاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا فتنبسط له بشرة الوجه.
أي إنه إذا قيل لا إله في الكون إلا الله وحده نفرت قلوب أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى إن استبشروا وفرحوا لفرط افتنانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى.
قال ابن عباس في الآية: اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبىّ بن خلف اه ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» .
قال السيد الآلوسى في تفسيره ناعيا حال المسلمين اليوم: وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهواءهم ومعتقداتهم فيهم، ويعظمون من يحكم لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادى يا فلان أغثنى، فقلت له: قل يا الله فقد قال سبحانه: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال:
الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان اهـ(24/15)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
[سورة الزمر (39) : الآيات 46 الى 48]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد- أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له، وبيانا لأن سعيه مشكور، وجدّه معلوم لديه، وتعليما لعباده أن يلجئوا إليه حين الشدة، ويدعوه بأسمائه الحسنى، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.
الإيضاح
(قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي قل: يا الله يا مبدع السموات والأرض. ويا عالم ما غاب عنا وما تشهده العيون والأبصار، أنت تحكم بين عبادك فتفصل بينهم بالحق، يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا من القول فيك وفي عظمتك وسلطانك، فتقضى بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر من دونه استبشروا وفرحوا.
أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم ربّ جبريل(24/16)
وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلمنا أن نقول: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شىء وإله كل شىء، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسى إثما أو أجرّه إلى مسلم» .
قال أبو عبد الرّحمن رضى الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلم عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام.
وقال أبوبكر الصديق: «أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضطجعى من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شىء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسى سوءا أو أجره إلى مسلم» رواه الترمذي.
وبعد أن ذكر معتقداتهم الفاسدة ذكر في وعيدهم أمورا:
(1) (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه، وقبل ذلك منهم يوم القيامة لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد الذي سيعذبون به، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران.
(2) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من عذاب الله الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يحدّثوا أنفسهم به.
وفي هذا وعيد عظيم لهم وتهديد بالغ غاية لاغاية وراءها.
قال مجاهد: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هى سيئات، وقال عكرمة بن(24/17)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فأنا أخشى أن يبدو لى ما لم أكن أحتسب.
(3) (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر لهم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم ما كانوا اجترحوه من السيئات وارتكبوه من الآثام وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة- حكى عنهم هناة أخرى هى أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجئون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أوتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.(24/18)
وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسطه تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه فى ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح
(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى الله واستعان به لكشف ذلك الضر عنه- وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال:
إنما أوتيت هذا لعلمى بوجوه المكاسب وجدى واجتهادي أو لذهابى إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.
وهذا منه تناقض عجيب، ففى الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصى؟
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله وامتحان لهم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدّعون من الدعاوى ما لا يفقهون.
ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال:
(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.(24/19)
ثم بين ما سلف فقال:
(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة.
ثم أوعد سبحانه مشركى قومه على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال:
(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي والذين كفروا بالله من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير.
(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي وما هم بفائتين الله هر با يوم القيامة، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ماشاء من العقوبة.
ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته وبديع حكمته فقال:
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة، ويضيق على من يريد أخرى، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق، والجاهل أو المريض ذا سعة وبسطة في المال.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا لدلالات لقوم يؤمنون بالله ويقرون بوحدانيته، وهم الدين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه.
وإنما خص المؤمنين بذلك، لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكرون فيها.(24/20)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
تفسير المفردات
الإسراف: تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثرة استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا الإفراط في المعاصي، لا تقنطوا: أي لا تيأسوا، والإنابة: الرجوع. والإسلام لله:
لإخلاص له، أحسن ما أنزل إليكم من ربكم: هو القرآن، بغتة: أي فجأة، يا حسرتا:
أي يا حسرتى وندمى، فرّطت: أي قصرت، فى جنب الله: أي في عبادته وطاعته، لمن الساخرين: أي المستهزئين، كرة: أي رجعة.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف- أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.(24/21)
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية.
الإيضاح
(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره: لا تيأسوا من مغفرة الله، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت وكانت كز بد البحر.
روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» ونزل:
«قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .
والمراد من الآية الأولى قوله: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» الآية:
وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» إلى آخر الآية، فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال:
«ألا ومن أشرك- ثلاث مرات» .(24/22)
وروى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضى الله عنه قال: «جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال: يا رسول الله إن لى غدرات وفجرات، فهل يغفر لى؟ قال صلّى الله عليه وسلم: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى وأشهد أنك رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم: قد غفر لك غدراتك وفجراتك» .
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة والإخلاص فى العمل، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع كما قال: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» وقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» .
وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وإن أكثر آية فى القرآن فرجا في سورة الغرف «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» فقال له مسروق: صدقت.
وبعد أن نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، فيحل الرجاء مكانه.
وجاء بما لا يبقى بعده شك ولا يخالج القلب عند سماعه ظن فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي إن الله يغفر كل ذنب، كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآنى، وهو الشرك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» .
فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين ثياب القنوط، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل(24/23)
بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين إليه في مغفرة ذنوبهم.
ثم ذكر علة ذلك فقال:
(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد التوبة منها.
فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته- أولى بهم مما بشرهم الله به- فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، وهو المسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من
قوله: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» .
وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين:
(1) الإنابة إليه بقوله: (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم.
(2) اتباع الأحسن بقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد.
ولما خوّفهم بالعذاب ذكر علة ذلك فقال:
(1) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي بادروا إلى العمل واحذروا أن تقول بعض الأنفس: يا حسرتا على تقصيرى فى طاعة الله، وسخريتى واستهزائى بدين الله وكتابه، وبرسوله وبالمؤمنين.(24/24)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
(2) (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أو تقول: لو أن الله أرشدنى إلى دينه وطاعته، لكنت ممن اتقى الله فترك الشرك والمعاصي:
(3) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أو تقول حين رؤية العذاب: ليت لى رجعة إلى الدنيا فأكون من المهتدين المحسنين لعقيدتهم وأعمالهم.
وخلاصة ذلك- إن هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة، وفقد الهداية ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات.
فأجابه سبحانه بقوله:
(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي إنه لا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولى الذي أرسلته إليك وفي كتابى الذي يتلوه عليك، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد، وتبشير وإنذار فكذبت بها واستكبرت عن قبولها، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ويستنّ بسنتهم، ويتّبع مناهجهم.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» .
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
تفسير المفردات
وجوههم مسودة: أي ما يظهر عليها من آثار الذل والحشرة، والمثوى: المقام، والمفازة: الظفر بالبغية على أتمّ وجه.(24/25)
المعنى الجملي
بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة، ووعد.
المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم- أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان، يوم العرض والحساب.
الإيضاح
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله، فزعموا أن له ولدا وأن له شريكا وعبدوا آلهة من دونه- مجلّلة بالسواد، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها، والغم الذي لحقها.
ثم علل هذا وأكده بقوله:
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي أليست النار كافية لهم سجنا وموئلا، ولهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.
وقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال: «هو سفه الحق وغمص (احتقار) الناس»
وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم «يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذرّ، يلحقهم الصّغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم» .
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) أي وينجّى الله من عذاب جهنم الذين اتقوا الشرك والمعاصي وينيلهم ما يبتغون، ويعطيهم فوق ما كانوا يؤملون.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبى هريرة قال: «يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب(24/26)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له: لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت المعنىّ به، فإذا كثر ذلك عليه، قال فما أحسنك؟ فمن أنت؟ فيقول أما تعرفنى؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلى، فو الله لأحملنّك ولأدفعن عنك، فهى التي قال الله: «وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .
ثم بين هذه المفازة فقال:
(لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يمسهم أذى جهنم ولا يحزنون على ما فاتهم من مآرب الدنيا، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه، نعيم مقيم، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر.
وخلاصة ذلك- إنهم آمنوا من كل فزع، وبعدوا من كل شر، وفازوا بكل خير.
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)(24/27)
تفسير المفردات
وكيل: أي قيّم بالحفظ والحراسة فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة، مقاليد:
أي مفاتيح لفظ فارسى معرّب، واحده إقليد معرب، إكليد جمع جمعا شاذا، ليحبطن عملك: أي ليذهبن هباء ولا يكون له أثر، وما قدروا الله حق قدره: أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به، والقبضة: المرة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض، بيمينه: أي بقدرته.
المعنى الجملي
بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
الإيضاح
(اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي هو سبحانه الخالق للأشياء جميعا من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما، وكلها تحت جبروته وقهره.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو القائم على كل الأشياء يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة، فهى محتاجة إليه في بقائها كما هى محتاجة إليه فى وجودها.
ثم فصل ذلك بعض التفصيل فقال:(24/28)
(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو حافظ الخزائن ومدبرها ومالك مفاتيحها فله التصرف في كل شىء مخزون فيها.
والخلاصة- هو القادر عليهما والحافظ لهما.
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فقال لى يا عثمان:
لقد سألتنى عن مسألة لم يسألنى عنها أحد قبلك.
«مقاليد السموات والأرض: لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير»
وعلى هذا فالمراد أن هذه الكلمات يوحّد بها ويمجّد وهى مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها أصابه خيرهما.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان وجاءت في القرآن، دالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته- أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السموات والأرض، لأنهم حرموا من ذلك في الآخرة بخلودهم في النار.
ثم أمر رسوله أن يوبخ المشركين على أمره صلّى الله عليه وسلم بعبادة الأصنام والأوثان فقال:
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي قل لمشركى قومك الداعين لك إلى عبادة الأصنام والقائلين لك: هودين آبائك: أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتى الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية- أن أعبد غيره، والعبادة لا تصلح لشىء سواه.
روى عن ابن عباس «أن قريشا دعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعطوه ما لا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئون عقبه (أي يغطون دعوته ويزيلونها) وقالوا هذا لك يا محمد وتكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها(24/29)
بسوء، قال حتى أنظر ما يأتينى من ربى فنزل: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» إلى آخر السورة، ونزل (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي- إلى قوله- مِنَ الْخاسِرِينَ) » .
وعنه أيضا: إن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهه.
ثم بين أنه حذر وأنذر عباده من الشرك بلسان جميع الأنبياء فقال:
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولقد نزل عليك الوحى من ربك بأنه إذا حصل منك إشراك به بعبادة صنم أو وثن ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير كصلة رحم وبرّ ببائس فقير ولا تنالنّ به ثوابا ولا جزاء ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة، وأوحى إلى الرسل من قبلك بمثل هذا.
فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير، لتهييج المخاطب المعصوم، وللايذان بشناعة الإشراك وقبحه، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله فكيف بغيره؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة مقيّد بما إذا مات وهو كذلك بدليل قوله في الآية الأخرى: «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» .
ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام وأمره بعبادته وحده فقال:
(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) أي لا تعبد ما أمرك به قومك، بل الله فاعبده دون سواه من الأنداد والأوثان.
(وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه، وما اختصك به من الرسالة.
ثم أكد ما سلف بقوله:(24/30)
(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق التعظيم، إذ عبدوا غيره معه، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شىء، المالك لكل شىء، وكل شىء تحت قهره وقدرته.
روى البخاري عن ابن مسعود قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» الآية.
وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ»
وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجّد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا:
ليخرّنّ به» .
(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي إن الأرض جميعا تحت ملكه يوم القيامة يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسموات مطويات طى السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصى معها شىء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه.
روى البخاري عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله الأرض، ويطوى السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟»(24/31)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه، وأن الخلف يؤولونه، والأول أسلم، والثاني أحكم.
قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه اهـ.
وقال صاحب الكشاف: والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز اهـ.
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
تفسير المفردات
الصور: القرن ينفخ فيه، صعق: أي غشى عليه، ينظرون: أي ينتظرون ماذا يفعل بهم؟ وأشرقت الشمس: أضاءت، وشرقت: طلعت، بنور ربها: أي عدله، ووضع الكتاب: أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين، بالحق: أي بالعدل، ما عملت: أي جزاء ما عملت.(24/32)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شىء، وهو الوكيل على كل شىء، وبيده مقاليد السموات والأرض- أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.
الإيضاح
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) بيّن سبحانه ما يكون بعد قبض الأرض وطىّ السماء والنفخ في الصور النفخة الأولى، إذ هما نفختان يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون فى الثانية بعد أن كانوا عظاما ورفاتا.
أخرج ابن ماجه والبزار وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري مرفوعا «إن صاحبى الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران» ؟.
وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري قال: «ذكر رسول الله صاحب الصور وقال: عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل» .
وليس في القرآن ولا في صححيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة لا ندرى من هم؟.
ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله:
«يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» .(24/33)
وقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» .
(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي وأضاءت أرض المحشر بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات.
(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين كما قال: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» .
وقال في آية أخرى «مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» .
(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليكونوا شهداء على أممهم كما قال: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» .
(وَالشُّهَداءِ) أي الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها كما يدل على ذلك قوله: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» . فالسائق يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها.
وبعد أن بيّن أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات- بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه كاملا غير منقوص، ودل على ذلك بأربع عبارات:
(1) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بينهم بالعدل والصدق.
(2) (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب ولا زيادة في عقاب، ونحو الآية قوله:
«وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» . وقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» .
(3) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي، وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا.(24/34)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
(4) (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فى الدنيا دون حاجة إلى كاتب ولا حاسب، فلا يفوته شىء من أعمالهم، ومن ثمّ يكون حكمه بينهم بالقسطاس المستقيم.
والخلاصة- أنه إنما وضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة، لا لحاجة إليها في علمه تعالى بما يعملون وما يقولون، ثم جزائهم على ما قدموا من خير أو شر.
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
تفسير المفردات
السوق: الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الاهانة والاحتقار، والزمر:
الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض، والخزنة: واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، وينذرونكم: أي يخوّفونكم، حقت: أي وجبت.
المعنى الجملي
بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله: «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» - فصّل ذلك فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمى وهو أشد وقعا على الأبىّ العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.(24/35)
الإيضاح
(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي وسيق الكافرون بربهم، المشركون به الأصنام والأوثان، إلى جهنم سوقا عنيفا، أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشر- بزجر وتهديد ووعيد، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعات مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» أي يدفعون إليها دفعا.
(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ليدخلوها، كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتى أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها، فتفتح ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم.
ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ، والاهانة فقال:
(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه، وينذرونكم أهوال هذا اليوم؟.
فأجابوهم معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لوضوح السبل أمامهم، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود.
(قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قالوا بلى قد أتانا رسل من ربنا فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين، ولكنا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشّقوة والضلالة، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل، وفعلنا الشر دون الخير، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع، وتركنا عبادة الواحد القهار.
ونحو الآية قوله: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» .(24/36)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف.
(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم:
ادخلوا جهنم ماكثين فيها أبدا لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها.
(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير، وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم فى الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل.
[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال- أردفها ذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون.
ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضى بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون: الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.
الإيضاح
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودا إلى الجنة، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين(24/37)
يلونهم، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم.
والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرّم من الوافدين على بعض الملوك وبالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب والهوان كما يفعل بالأسير إذا سبق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين.
(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها وقد فتحت لهم أبوابها، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه وتقف منتظرة حضوره فرحا بمقدمه- فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم، وبما شاهدوا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسّبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» أخرجه مسلم وغيره.
وروى عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درىّ فى السماء إضاءة» .
واخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فى الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريان لا يدخله إلا الصائمون»
ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال:
(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وقال لهم الخزنة: سلام عليكم من جميع المكاره والآلام، فلا يعتريكم مكروه بعد ذلك.
(طِبْتُمْ) نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، وقد يكون المعنى: طبتم في الدنيا فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي، وطاب سعيكم، وطاب جزاؤكم.(24/38)
(فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي فادخلوها ما كثين فيها أبدا، لا زوال ولا فناء، ولا تحوّل عنها.
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم، والعطاء العظيم في الجنة: الحمد لله الذي صدقنا ما وعدنا به على السنة رسله الكرام، كما دعوا بذلك في الدنيا وقالوا: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقالوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» .
(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث، فنتخذ منها مباءة ومسكنا حيث شئنا.
(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي فنعم الأجر أجرنا على عملنا، وثوابنا الذي أعطيتنا.
(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي وترى أيها الرائي الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يطلب منهم، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس، ويصلّون حول العرش، شكرا لربهم وتنزيها له عن كل نقص.
(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار، أعاذنا الله منها.
(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي بدأ خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا يعلم عدّها إلا هو.
وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد وختمها بالحمد، للتنبيه إلى تحميده في بداية كل أمر ونهايته.(24/39)
وقال قتادة: «افتتح الخلق بالحمد في قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين صلاة دائمة إلى يوم الدين.
مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الأمر بعبادة الله وحده والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية الله.
(4) طبيعة المشرك في السراء والضراء.
(5) ضرب الأمثال في القرآن وفائدة ذلك.
(6) تمنى المشركين الفداء حين يرون العذاب.
(7) الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا.
(8) ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن.
(9) ذكر أحوال يوم القيامة.
(10) وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر وما يشاهد وبه من الأهوال- (11) وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم.
(12) بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .(24/40)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
سورة غافر
هى مكية إلا آيتي 56، 57 فمدنيتان، وآيها خمس وثمانون، نزلت بعد سورة الزمر.
ومناسبتها اقبلها:
(1) إنه ذكر في سابقتها ما يئول إليه حال الكافر وحال المؤمن، وذكر هنا أنه غافر الذنب، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر.
(2) إنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة، وأحوال الكفار فيه وهم في المحشر وهم في النار.
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وعنه أيضا: إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهن. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: إن لكل شىء لبابا، ولباب القرآن آل حم.
وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل شىء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم» .
وعنه أيضا «مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب» .
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغنى عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك أنها كلمات يراد بها التنبيه(24/41)
فى أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها فيقال (حاميم) بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجواليقي والحريري وابن الجوزي وقالوا لا يقال ذلك بل يقال آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب الصحاح نقل عن الفرّاء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:
وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقىّ ومعزب
يريد بذلك قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه، وبما يقولون وما يفعلون.
وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقوّل ولا مما يجوز أن يكذّب به.
(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي وهو الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يطيقون القيام بشكرها ولا شكر واحدة منها كما قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) .
وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لترغيب عباده العاصين، وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحثّ على فعل المراد من تنزيل الكتاب وهو التوحيد والإيمان بالبعث والإخلاص لله في العمل والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه كقوله: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.(24/42)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نظير له، فيجب اتباع أوامره وترك نواهيه.
(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المرجع والمآب، فيجازى كل نفس بما كسبت.
أخرج أبو عبيد وابن سعد وابن مردويه والبيهقي في الشّعب عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (من قرأ حم المؤمن إلى- إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى، ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح) .
[سورة غافر (40) : الآيات 4 الى 6]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
تفسير المفردات
الجدل: شدة اللدد في الخصومة، تقلبهم: أي تصرفهم فيها للتجارة وطلب المعاش، والأحزاب: الجماعات الذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل، وهمّت: أي عزمت، ليأخذوه: أي ليقتلوه ويعذبوه، ليدحضوا: أي ليزيلوا، حقت: أي وجبت، كلمة ربك: أي حكمه بالإهلاك.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم إذا هم عملوا بهديه- ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله وإخفاء(24/43)
نوره، ثم أرشد رسوله ألا يغتر بأحوال أولئك المجادلين وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارة، لسعة الرزق والتمتع بزخرف الدنيا، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية ممن كذبوا رسلهم فحلّ بهم البوار فى الدنيا، وسينزل بهم النكال في الآخرة في جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه كقولهم مرة إنه شعر، وأخرى إنه سحر وثالثة إنه أساطير الأولين إلى أشباه ذلك من سخيف المقال- إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره.
وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الاشارة
بقوله صلّى الله عليه وسلم «لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر»
أما الجدل لتقرير الحق وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح لنوح «يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا» .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلهم باختلافهم في الكتاب» رواه مسلم.
وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علىّ: «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» الآية، وقوله: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يغتر بشىء من حظوظهم الدنيوية فقال:
(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة(24/44)
فى البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمين ورحلة الصيف فى الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك.
وفي هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلم ووعيد لهم.
ثم قال مسليا رسوله على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوة في سلفه الأنبياء، فإن أقوامهم كذبوهم وما آمن منهم إلا قليل فقال:
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلّت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم كما هى سنتنا فى أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك.
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه. وقال قتادة والسدى ليقتلوه، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: «أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» .
(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي وخاصموا رسولهم بالباطل بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها كقولهم: «ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله، وليطفئوا النور الذي أوتيه، قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا الإيمان.
(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم فلم أبق منهم ديّارا ولا نافخ نار وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين كما قال: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ»
وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها أن يحل بها عقابى- وجبت(24/45)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، لأن الأسباب واحدة وهى كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء لإصلاح نظم العالم وسعادته فى دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية والسموّ بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله.
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
تفسير المفردات
العرش: مركز تدبير العالم كما تقدم إيضاح ذلك في سورة يونس، وندع أمر وصفه إلى عالم الغيب فهو العليم بعرشه ووصفه، وقهم: أي احفظهم من وقيته كذا أي حفظته، السيئات: أي الجزاء المرتب عليها.
المعنى الجملي
بعد أن أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة، ومجادلتهم للرسل بالباطل لاطفاء نور دعوتهم- أردف ذلك بيان أن أشرف المخلوقات وهم الملائكة الذين يحملون العرش والحافّون حول العرش- يحبون المؤمنين ويطلبون لهم ولآبائهم(24/46)
وأزواجهم وذرياتهم المغفرة من ربهم، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين ولا تقم لهم وزنا، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله.
الإيضاح
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به من توحيد الله والبراءة من كل معبود سواه.
ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذى العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه، وتوسطهم في نفاذ أمره.
ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم:
(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شىء من خلقك، والمراد أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحبط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم.
(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصفح عن المسيئين إذا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك(24/47)
المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدّل القول لديك.
قال مطرّف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية.
وقال خلف بن هشام البزّار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بكى، ثم قال يا خلف: ما أكرم المؤمن على الله، يكون نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.
(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية، لتقرّبهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور يكون أكمل للبهجة وأتم للأنس.
قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدي وأمي؟
وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتى؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لى ولهم، فيقال أدخلوهم الجنة، ثم تلا: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ» إلى قوله: «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» ويقرب من هذه الآية قوله: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» .
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي أنت الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور.
ثم عمموا في الدعاء لهم بأن يمنع عنهم العقوبات الدنيوية والأخروية فقالوا:
(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا قد أتوها قبل توبتهم، ولا تؤاخذهم بذلك فتعذبهم بها.(24/48)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات يوم القيامة فقد رحمته ونجيته من عذابك.
(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الفوز الذي لا فوز أجمل منه، ولا مطمع وراءه لطامع، إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكا لا نصل العقول إلى كنه جلاله.
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)(24/49)
تفسير المفردات
المقت: أشد البغض، والروح: الوحى، يوم التلاقي: هو يوم القيامة وسمى بذلك لالتقاء الخالق بالمخلوق، بارزون: أي ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا نحوهما.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله- أردف ذلك بيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم.
وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته بإظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات، لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحى على من يشاء من عباده، لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين تناديهم الملائكة يوم القيامة وهم يتلظّون النار ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيئ الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار- إن مقت الله لكم في الدنيا حين كان يعرض عليكم الإيمان فتكفرون- أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وأنتم على هذه الحال.
والخلاصة- إن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا(24/50)
فتركوه وأبوا أن يقبلوه- أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة، قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.
ثم ذكر ما يقولونا حين ينادون بهذا النداء فقال:
(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قالوا ربنا خلقتنا أمواتا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أو لا ينفخ الأرواح فينا ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود، وجعلوا ذلك نظير آية البقرة: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» .
(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي فاعترفنا أننا أنكرنا البعث فكفرنا وفعلنا من الذنوب ما لا يحصى عدّا، لأن من لم يخش عاقبة يتماد في غيه، ولكن حين رأينا الإماتة والإحياء قد تكررا علينا علمنا أن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها.
ثم طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما فاتهم فقالوا:
(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإنك قادر على ذلك.
وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيّرا أو تعللا عسى أن يتاح لهم الفرج.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» وقوله: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» .
فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض الباتّ مع ذكر السبب فقال:(24/51)
(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا سبيل إلى رجعتكم إلى الدار الدنيا، لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه، فإنكم كنتم فيها إن دعى الله وحده كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا كما قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم فقال:
(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي فالحكم حينئذ لله الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة، وهو ذو الكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شىء، ومن ثم اشتدت سطوته بمن أشركوا به، واقتضت حكمته خلودهم في النار، فلا سبيل إلى خروجكم منها أبدا إذ أشركتم به سواه.
ثم ذكر ما يدل على كبريائه وعظمته فقال:
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه، بما يشاهدونه في العالم العلوي والسفلى من الآيات العظام الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرده بالألوهية كما قال:
وفي كل شىء له آية ... تدلّ على أنه واحد
ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه وهو المطر فقال:
(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشّته بأبدع الحلي والمناظر.
(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي وما يعتبر بتلك الآيات، ويستدل بها على عظمة خالقها، إلا من ينيب إلى ربه، ويتفكر في بديع ما خلق، وعظيم ما أوجد، ويترك التقليد واتباع الهوى.(24/52)
والخلاصة- إن دلائل التوحيد مركوزة في العقول لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه زال الغطاء، وظفر بالفوز، وظهرت له سبل النجاة.
ولمّا ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال:
(فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إذا علمتم أن التذكر خاص بمن ينيب، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها، وخالفوا المشركين فى مسلكهم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.
وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه» .
وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق- ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته فقال:
(1) (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي إنه أرفع الموجودات وأعظمها شأنا، لأن كل شىء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وإنه أزلى أبدىّ ليس لوجوده أول ولا آخر، وإنه العالم بكل شىء «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» .
(2) (ذُو الْعَرْشِ) أي إنه مالك العرش ومدبره، فهو مستول على عالم الأجسام وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح وهى مسخرة له، وإلى ذلك أشار قوله:(24/53)
(3) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقى الوحى بفضائه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه.
ونحو الآية قوله: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» وقوله: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .
(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي لينذر بالعذاب يوم يلتقى العابدون والمعبودون، يوم هم ظاهرون لا يكنّهم شىء، ولا يسترهم شىء.
(لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» .
ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال:
(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟
فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه فيقول: لله الواحد القهار أي هو الواحد الذي لا مثل له، القهار لكل شىء سواه بقدرته، الغالب بعزته. وقيل: المجيب هم أهل المحشر، فقد روى أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عز وجل عليها، فيؤمر مناد ينادى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا وخضوعا.
وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم- أردفها بيان صفات عدله وفضله فقال:
(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي اليوم يثاب كل عامل بعمله، فيلاقى أجره، ففاعل الخير يجزى الخير وفاعل الشر يجزى بما يستحق، لا يبخس أحد(24/54)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا فينقص منه إن كان محسنا، ولا يحمل على مسىء إثم ذنب لم يعمله.
روى مسلم عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا- إلى أن قال- يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» .
ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاء فقال:
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا نفسا واحدة، لإحاطة علمه بكل شىء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: «يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادى مناد لمن الملك اليوم- إلى قوله الحساب» .
ونحو الآية قوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» وقال:
«وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» .
[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 20]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)(24/55)
تفسير المفردات
يوم الآزفة: يوم القيامة وسميت بذلك لقربها يقال أزف السفر: أي قرب، قال:
أزف الترحّل غير أنّ ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
والحناجر: واحدها حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى، وهى لحمة بين الرأس والعنق، كاظمين: أي ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج، والحميم: القريب، خائنة الأعين: يراد بها النظر إلى ما لا يحل، ما تخفى الصدور: أي ما تكتمه الضمائر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاقي- أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.
الإيضاح
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي وأنذر أيها الرسول مشركى قومك يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم، وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب، ذلك اليوم الذي يعظم فيه الخوف حتى ليخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هى ترجع ولا هى تخرج من أبدانهم فيموتوا.
ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال:
(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطعت بهم الأسباب من كل خير.(24/56)
ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شىء وإن كان في غاية الخفاء فقال:
(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده وما نظرت به إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الرّيب، قال ابن عباس في الآية: هى الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها، وإذا غضوا نظر إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها.
وقد اطّلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها، أخرجه ابن أبى شيبة وابن المنذر.
(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي لا يخفى عليه شىء من أمورهم حتى ما يحدّثون به أنفسهم وتضمره قلوبهم.
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته الصدور من النوايا، فيجزى الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزى الذين رددوا النظر، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك- لا يقضون بشىء لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شىء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شىء، ولا يخفى عليه شىء.
وغير خاف ما في هذا من التهكم بآلهتهم.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل ذلك ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعا يوم الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله.(24/57)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
المعنى الجملي
بعد أن بالغ سبحانه في تخويف الكفار بعذاب الآخرة- أردفه تخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاءوهم بالبينات.
الإيضاح
حذر الله هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارا كعاد وثمود، (والسعيد من وعظ بغيره) فقال واعظا ومذكرا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشد منهم بطشا، وأبقى في الأرض آثارا، فلم تنفعهم شدة قواهم، ولا عظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعا وصارت مساكنهم خاوية بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم؟
قصص موسى عليه السلام مع فرعون
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)(24/58)
تفسير المفردات
السلطان: الحجة والبرهان، فرعون: ملك القبط بالديار المصرية، وهامان وزيره، وقارون كان أكثر الناس في زمانه تجارة ومالا، عذت: التجأت وتحصنت، متكبر:
أي مستكبر عن اتباع الحق.
المعنى الجملي
لما سلى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا بالأنبياء قبله بمشاهدة آثارهم- سلاه أيضا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتى من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه وأمروا بقتل أبناء بنى إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفا أن يبدل دينهم أو يعيث في الأرض فسادا، فتعوّذ موسى بربه ورب بنى إسرائيل من كل جبار متكبر لا يؤمن بالجزاء والحساب.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يقول سبحانه مسليا نبيه على تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرا له بأن العاقبة والنصر له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فإن الله(24/59)
أرسله بالآيات البينات إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا حين عجزوا عن معارضته.
وخص فرعون وهامان وقارون بالذكر، لأنهم الرؤساء المكذبون والناس تبع لهم.
ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجئوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله:
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي فلما جاءتهم الآيات البينات الدالة على توحيد الله ووجوب العمل بطاعته، قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه من أبناء بنى إسرائيل وأبقوا نساءهم لخدمتنا.
قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بنى إسرائيل عقوبة لهم فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم ويشتد عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمّل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر.
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:
(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم وهو تقليل عدد بنى إسرائيل لئلا ينصروا عليهم- إلا ذاهب سدى وباطلا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم ما فعل، وإن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بدّ واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» .
والخلاصة- إن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة ويذهب هباء أمام تلك القوة القاهرة وسيكون النصر للمتقين.(24/60)
ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بنى إسرائيل بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي وقال فرعون لملئه: دعونى أقتل موسى وليدع ربه الذي أرسله إلينا ليمنعه منا، وكان إذا همّ بقتله كفوه وقالوا له:
ليس هذا بالذي يخاف منه وهو أضعف من ذلك شأنا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته أدخلت الشبهة في نفوس القوم واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويداورونه حتى يكف عن قتله.
وربما يكون قد قال ذلك تمويها على قومه وإيهاما أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» فإن ظاهره الاستهانة به بدعائه ربه سبحانه كما يقال:
ادع ناصرك فإنى منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به مظهرا أنه لا يبالى بدعائه ربه، كما يقول القائل ذرونى أفعل كذا وما كان فليكن.
ثم ذكر السبب في قتله فقال:
(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إنى أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشّرّد ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر وتعدم المكاسب.
والخلاصة- إنه يقول: إنى أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مرّ.(24/61)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وقد جعل ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.
ولما هدد فرعون موسى بالقتل استعاذ بالله من كل متعظم عن الإيمان به لا يؤمن بالبعث والنشور، فصانه من كل بليّة، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي إنى استجرت بالله ربى وربكم، واستعنت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء، لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتى من الأفعال خائفا.
وفي قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حثّ لهم على موافقته في العياذ به سبحانه، والتوجه إليه جل شأنه بالأرواح، فالأرواح الطاهرة إذا تظاهرت كان ذلك أدنى إلى الإجابة، وأقرب إلى تحقق الغرض، ومن ثم شرعت صلاة الجماعة، وإنما قال (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ولم يقل «منه» سلوكا لطريق التعريض، وتحاشيا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه فهو واف بالغرض ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر.
[سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 29]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)(24/62)
تفسير المفردات
الرجل المؤمن: هو ابن عم فرعون وولىّ عهده وصاحب شرطته وهو الذي نجامع موسى وهو المراد بقوله: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى» ، والبينات: هى الشواهد الدالة على صدقه، والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب:
المفترى، ظاهرين: أي غالبين عالين على بنى إسرائيل، ما أريكم إلا ما أرى: أي ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب.
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن موسى أنه مازاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله، على أن استعاذ بالله من شره- أردف ذلك بيان أن الله قيّض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم ويذبّ عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد فى إزالة ذلك الشر.
الإيضاح
(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟) أي وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه: أينبغى لكم أن تقتلوا رجلا ما زاد على أن قال: ربى الله وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه؟ ومثل هذه المقالة لا تستدعى قتلا ولا تستحق عقوبة فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله وتوقف عن قتله، قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي قال: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» .(24/63)
وخلاصة ذلك- أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء، وهى قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهى قوله: ربى الله.
أخرج البخاري وغيره من طريق عروة بن الزبير قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص: أخبرنا بأشد شىء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟» .
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علىّ بن أبى طالب أنه قال: «أيها الناس أخبرونى من أشجع الناس؟ قالوا أنت، قال أما إنى ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبرونى عن أشجع الناس؟ قالوا لا نعلم، فمن؟ قال أبو بكر:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون:
أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجأ هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم: أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبى بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه» .
ثم ذكر من الحجج ما يؤيد به رأيه فقال:
(1) (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان كاذبا في قيله إن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته وترك دينكم الذي أنتم عليه،(24/64)
فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقا في قيله ذلك أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطا على الكفر، وسخطا على قتل رسوله.
وفي قوله: بعض الذي يعدكم- مبالغة في التحذير، فإنه إذا حذرهم من بعض العذاب أفاد أنه مهلك مخوف فما بال كله؟ إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب.
(2) (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله، ولما عاضده بتلك المعجزات، إلى أنه لو كان كذلك لخذله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.
وفي هذا تعريض بفرعون بانه مسرف في القتل والفساد، كذاب في ادعاء الربوبية، لا يهديه الله إلى سبيل الرشاد، ولا يلهمه طريق الخير والفلاح.
(3) (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟) أي يا قوم قد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه بقتله، فإنه لا قبل لكم به، وإن جاءنا لم يمنعه عنا أحد.
وفي قوله: ينصرنا وجاءنا، تطييب لقلوبهم، وإيذان بأنه ناصح لهم، ساع فى تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم، سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه.
ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم كما حكى سبحانه عنه بقوله:
(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأى سوى ما ذكرته من وجوب قتله حسما للفتنة، وإنى لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أعدّ غير هذا صوابا.(24/65)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
تفسير المفردات
الأحزاب: أي الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوهم، والدأب: العادة، يوم التناد: يوم القيامة، سمى بذلك لأن الناس ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة.
قال أمية بن أبى الصّلت:
وبثّ الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التّناد
عاصم: أي مانع، مرتاب: أي شاك في دينه، ويوسف: هو يوسف بن يعقوب عليه السلام، وروى عن ابن عباس أنه يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، أقام فيهم نبيا عشرين سنة، والسلطان: الحجة، والمقت: أشد الغضب.(24/66)
المعنى الجملي
بعد أن سمع ذلك المؤمن رأى فرعون في موسى وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك- أعاد النصح مرة أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم، فذكّرهم بأس الله وسنته في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكّرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلا في الآخرين، وكأنّ لسان حاله يقول: هأنذا قد أسمعت، ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي وقال ناصحا قومه: يا قوم إنى أخاف عليكم إن كذبتم موسى وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيا ولا عاصما، وهذه سنة الله في المكذبين جميعا، فحذار حذار أيها القوم، إنى لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإلى هذا أشار بقوله:
(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي وما أهلك الله هذه الأمم ظلما لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم، وتكذيبهم رسله، بعد أن جاءوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره، وأحل بهم وعيده.(24/67)
وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي خوفهم العذاب الأخروى فقال:
(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم القيامة حين ينادى بعضكم بعضا، ليستغيث به من شدة الهول، أو حين ينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، وينادى «أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ» وينادى «أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» .
يوم تولون مدبرين هربا من زفير النار وشهيقها، فلا يجديكم ذلك شيئا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب، فتردّون إليه وينالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.
ثم نبه إلى شدة ضلالتهم وعظيم جهالتهم فقال:
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده فما له هاد يهديه إلى طريق النجاة ويوفقه إلى الخلاص.
وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.
ثم وبخهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين فقال:
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) أي ولقد جاء آباءكم يوسف من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولا من بعده يدعو إليه ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم، لما تقدم من أن الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها، إذا تواطئوا واتفقوا عليه كما جاء في قصص(24/68)
ثمود حين كذّب قدار فعقر الناقة فنسب التكذيب إلى ثمود جميعها كما قال: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها» .
والخلاصة- إنهم كفروا بيوسف في حياته، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أن ذلك لا يجدد عليهم الحجة.
وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارا منهم برسالته، بل هو ضم إلى الشك فى رسالته التكذيب برسالة من بعده.
ثم بين أنه لا عجب في تكذيبهم فقد طمس الله بصائرهم، وران على قلوبهم، حين دسّوا أنفسهم بقبيح الخصال وعظيم الآثام.
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال الواضح، يضل الله ويصد عن سبيل الحق، وقصد السبيل من هو مسرف في معاصيه مستكثر منها، شاك في وحدانيته ووعده ووعيده، لغلبة الوهم عليه، وانهما كه في التقليد.
ثم بين هؤلاء المسرفين المرتابين فقال:
(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي إن المسرفين المرتابين هم الدين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسكون بتقليد الآباء والأجداد، ويتمسكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأى.
ثم أكد ما سلف وقرره وتعجب من حالهم فقال:
(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي كبر ذلك الجدل بغضا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.(24/69)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
ثم بين أن هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال:
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبوا أن يوحدوا الله ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والجدل بغير الحق.
ونسب التكبر إلى القلب، لأنه هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» .
قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
تفسير المفردات
هامان: وزير فرعون، الصرح: القصر الشامخ المنيف، الأسباب: واحدها سبب، وهو ما يتوصل به إلى شىء من حبل وسلم وطريق، والمراد هنا الأبواب.
قال زهير بن أبى سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم(24/70)
والتباب: الخسران والهلاك، ومنه قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» وقوله سبحانه: «وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ» .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته- أبان هنا أنه بلغ من عتوّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى أن أمر وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا من الآجرّ ليصعد به إلى السماء، ليطلع إلى إله موسى، ومقصده من ذلك الاستهزاء به ونفى رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.
الإيضاح
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان ابن لى قصرا منيفا عالى الذّرا رفيع العماد، علّنى أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكم، وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.
والخلاصة- إن هذا نفى لرسالته من عند ربه.
ثم أكد هذا النفي الضمنى بالتصريح به بقوله:
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يقول ويدّعى من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا، وقد قال هذا تمويها وتلبيسا على قومه، توصلا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أن الإله ليس في جهة العلو فحسب، وكأنه يقول: لو كان إله(24/71)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
موسى موجودا لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض، فإذا هو في السماء، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه.
ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال:
(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء، فانهمك في غيّه، واستمر في طغيانه، ولم يرعو بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها، ويثوب بها إلى رشدها.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن الله ناصر أولياءه، ومهلك أعداءه و «مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وإلى هذا أشار بقوله:
(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شىء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 46]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)(24/72)
تفسير المفردات
الرشاد: ضد الغى والضلال، متاع: أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول، دار القرار: أي دار البقاء والدوام، إلى النجاة: أي إلى الإيمان بالله الذي ثمرته وعاقبته النجاة، إلى النار: أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار، ما ليس لى به علم:
أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان، لا جرم: أي حقّا، دعوة: أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه، مردّنا: أي مرجعنا، وأن المسرفين، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم، فستذكرون: أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب، وقاه: حفظه، يعرضون عليها: أي تعرض أرواحهم عليها.
المعنى الجملي
اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بين(24/73)
لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هى الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة، فلا فائدة في عبادتها، ومردّ الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم منى ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى.
ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدوا عن التصديق برسول الله فقال:
(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هى دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم.
ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال:
(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ(24/74)
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)
أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره، وانتهى عما نهى عنه، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد.
ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال:
(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) أي أخبرونى كيف أنتم وما حالكم، أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك؟.
ثم فسر الدعوتين بقوله:
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة.
ونحو الآية: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» وقوله:(24/75)
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» .
(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى الله، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين بالله المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي:
هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي.
ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال:
(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم، وإنى قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.
ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال:
(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمرى وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل:
هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه.
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال:
(إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة.(24/76)
ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال:
(فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه الله مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا، إذ نجاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار.
وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا.
ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم:
أدخلوا آل فرعون النار.
قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة، ثم قرأ: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» .
وروى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب وقرأ: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» .
وقد أثبت علماء الأرواح حديثا، نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد(24/77)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
فى نومه، بينما نرى الثاني مستبشرا فرحا بما لاقى من المسرة والنعيم، فيروى أنه كان فى حديقة غناء وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء، وجمال ورواء.
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 50]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
تفسير المفردات
المحاجة: المجادلة والخصام بين اثنين فأكثر، الضعفاء: الأتباع والمرءوسون، والمستكبرون: السادة أولو الرأى فيهم، والتبع: واحدهم تابع كخدم وخادم، مغنون:
أي دافعون، نصيبا: أي قسطا وجزءا، حكم: قضى، الخزنة: واحدهم خازن وهم القوّام يتعذيب أهل النار، ضلال: أي في ضياع وخسار.
الإيضاح
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا.(24/78)
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولولا أنتم لكنا مؤمنين.
ومقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف.
فيرد عليهم أولئك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله:
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي قال رؤساؤهم الذين أبوا الانقياد للأنبياء:
إنا جميعا واقعون في العذاب، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا لدفعناه عنكم.
وخلاصة مقالهم: إنا وأنتم في العذاب سواء.
(إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بفصل قضائه، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، وكل منا كافر، وكل منا يستحق العقاب، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.
ولما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى الله عنهم بقوله:
(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوّامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب.
فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب.
(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) أي أو ما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به وتبرءوا مما دونه من الآلهة؟.(24/79)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
فأجابوهم:
(قالُوا بَلى) أي قالوا أتونا فكذبناهم، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة، والبراهين الساطعة، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم.
(قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالوا لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم.
روى الترمذي وغيره عن أبى الدرداء قال: «يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فيأكلون لا يغنى عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصّة فيغصّون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: «ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ» فيجيبونهم: «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ»
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 56]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)(24/80)
تفسير المفردات
يوم يقوم الأشهاد: هو يوم القيامة، والأشهاد: واحدهم شهيد بمعنى شاهد، والهدى: ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع، والإبكار: أول النهار إلى نصفه، والعشى: من النصف إلى آخر النهار، والسلطان: الحجة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون، ثم رد على أولئك المبطلين المجادلين تسلية لرسوله وتصبيرا له على تحمل أذى قومه- أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة، وتلك سنة الله، فهو ينصر الأنبياء والرسل ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم ويملأ قلوبهم بنور اليقين، ويلهمهم أن النصرة لهم آخرا مهما تقلبت بهم الأمور.
الإيضاح
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان، فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكما فعلنا بمحمد صلّى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل كما فعلنا بنوح وقومه من إغراقهم وإنجائه، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكناهم غرقا ونجينا موسى(24/81)
ومن آمن معه من بنى إسرائيل- وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا كما نصرنا شعيبا بعد مهلكه بتسليطنا على من قتله من سلّطنا حتى انتصرنا بهم ممن قتله.
وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها- بالشهادة بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وأن الأمم قد كذبتهم.
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل كما حكى سبحانه عنهم من قولهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» .
(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم في هذا اليوم الطرد من رحمة الله، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم، والقرار في سواء الجحيم.
ولما بين أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من تلك النصرة فى الدنيا فقال:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدى به الناس في الدنيا والآخرة، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه، فتوارثوها خلفا عن سلف وصارت هداية لهم وتذكرة لأولى العقول السليمة التي بعدت من شوائب التقليد والوهم.
وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين وضرب لذلك مثلا بحال موسى خاطب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم بقوله:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك، وبلّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بأن الله منجز وعده، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك، على من كذبك(24/82)
وأنكر ما جئت به من عند ربك، وسل ربك غفران ذنبك وعفوه عنك، وصلّ شكرا له طرفى النهار كما جاء في الآية الأخرى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» .
وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله وألا يفتر اللسان عنه، ولا يغفل القلب حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» .
ولما ابتدأ عزّ اسمه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على النسق المتقدم، نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة- ما يحملهم على هذا الجدل إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك وعن قبول الحق الذي جئتهم به، إذ لو سلموا بنبوتك لزمهم أن يكونوا تحت لوائك وطوع أمرك ونهيك، لأن النبوة ملك ورياسة، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا فى خدمتك، وما هم ببالغي موجب الكبر وهو دفع الرياسة والنبوة عنك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وليس ذلك بالذي يدرك بالأمانى.
والخلاصة- إنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك، وما هم ببالغي إرادتهم فيه، فإن الله قد أذلهم.
ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين، فيقيه من أذاهم وشرهم ويكلؤه ويحفظه منهم فقال:
(فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي فالتجىء إلى الله تعالى في دفع كيد من يشنؤك ويبغى عليك، فهو السميع لأفوالهم، البصير بأفعالهم، لا يخفى عليه شىء منها.(24/83)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث، ويعتقدون استحالته، ويعملون أقيسة وهمية، وقضايا جدلية، كقولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» وقولهم: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ذكر هنا برهانا يؤيد إمكان حدوثه ويبعد عن أذهانهم استحالته، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداء على عظم أجرامهما، ومن قدر على ذلك فهو قادر على إعادتكم كما جاء في الآية الأخرى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» .
الإيضاح
(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي لخلق السموات والأرض ابتداء من غير سبق مادة- أعظم في النفوس وأجل في الصدور، من خلق الناس لكبر أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب بلا سبب، وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الشيء الصغير، فمن قدر على ذلك قدر على ما دونه كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .(24/84)
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ولا يعلمون أن الله لا يعجزه شىء.
وبعد أن ذكر سبحانه الجدل بالباطل ذكر مثلا للمجادل بالباطل والمحق بين به أنهما لا يستويان فقال:
(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي وما يستوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما يشاء ويؤمن بذلك ويصدق به- والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكر فيها ويتعظ بها ويعلم ما تدل عليه من توحيده وعظيم سلطانه وقدرته على خلق الأشياء جميعها صغيرها وكبيرها، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للايضاح تبين للناس المعقولات وهى لابسة ثوب المحسوسات، فيتضح ما أنبهم منها وخفى من أمرها كما قال: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» .
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي وكذلك لا يستوى المؤمنون المطيعون لربهم والعاصون المخالفون لأمره، ونحو الآية قوله: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ» .
(قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما تتذكرون حجج الله فتعتبرون بها وتتعظون، ولو تذكرتم واعتبرتم لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فنى من خلقه وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة.
ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر- أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة فقال:
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي إن يوم القيامة الذي يحيي فيه الله الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه، فأيقنوا بمجيئه، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم،(24/85)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم واشكروا له جزيل إنعامه، ليدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وفيها ترون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بمجيئه، ومن ثم ركبوا رءوسهم وعاثوا في الأرض فسادا، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب.
[سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 65]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
تفسير المفردات
ادعوني: أي اعبدوني، أستجب لكم: أي أثبكم على عبادتكم إياى، داخرين:
أي صاغرين أذلاء، لتسكنوا فيه: أي لتستريحوا فيه، مبصرا: أي يبصر فيه،(24/86)
تؤفكون: أي تصرفون، قرارا: أي مستقرا، بناء: أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب للسكنى فيها، فتبارك: أي تقدس وتنزه، الدين: الطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن يوم القيامة حق، وكان المرء لا ينتفع فيه إلا بطاعة الله والتضرع له، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء أي العبادة، لا جرم أمر الله تعالى بها في هذه الآية.
ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود، ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار وخلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة ورزقه من الطيبات.
الإيضاح
(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم، هكذا روى عن ابن عباس والضحاك ومجاهد في جماعة آخرين، ويؤيده أن القرآن كثيرا ما استعمل الدعاء بمعنى العبادة كقوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً» وما
رواه النعمان بن بشير قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي إلى قوله: داخِرِينَ» . أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية.
ويجوز أن يراد بالدعاء والاستجابة معناهما الظاهر، ويرجحه ما
روى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء الاستغفار»
وعن أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من لم يدع الله يغضب عليه» . أخرجه أحمد والحاكم.
وعن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء» أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني،(24/87)
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء مخ العبادة» أخرجه الترمذي،
وعن ابن عباس قال: «أفضل العبادة الدعاء» وقرأ هذه الآية،
وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه» .
ثم صرح سبحانه بأن المراد من الدعاء العبادة فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي إن الذين يتعظمون عن إفرادى بالعبادة وإفرادى بالألوهة سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.
وفي هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم كبير، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم إليه، وعوّلوا فى كل مطالبكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التوكل عليه، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم، وحصول رغباتكم، فهو الكريم الجواد الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا.
ولما أمر بالدعاء، والاشتغال به لا بد أن يسبق بمعرفة المدعوّ- ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه فقال:
(1) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي إن الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له، ولا تنبغى العبادة لغيره- هو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة والتردد في طلب المعاش والحصول على ما يفى بحاجات الحياة.
(2) (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل النهار مضيئا بشمسه ذات البهجة والرواء، لتتصرفوا فيه بالأسفار، وجوب الأقطار، والتمكن من مزاولة الصناعات، ومختلف التجارات.(24/88)
ثم ذكر نتيجة لما تقدم فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى.
ثم بين أن كثيرا من عباده جحدوا هذه النعم، واستكبروا عن عبادة المنعم فقال:
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، وإما لإهمالهم النظر وغفلتهم عما يجب من شكر المنعم كما هو حال الجاهلين.
ونحو الآية قوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» وقوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» .
ثم بين كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده فقال:
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي ذلكم الذي فعل كل هذا، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه، فكيف تنقلبون عن عبادته، والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهى مخلوقة منحوتة بأيديكم.
ثم ذكر أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير فقال:
(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعباده غير الله ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل للجهل والهوى.
وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار ذكر منها خلق الأرض والسماء فقال:
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وجعل لكم السماء سقفا محفوظا مزينا بنجوم ينشأ عنها الليل والنهار والظلام والضياء.(24/89)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان- ذكر دلائل الأنفس فقال:
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم فأحسن خلقكم، إذ خلق كلا منكم منتصب القامة، بادى البشرة، متناسب الأعضاء، مهيأ لمزاولة الصناعات، واكتساب الكمالات، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، هو الذي لا تنبغى الألوهة إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، لا من لا ينفع ولا يضر، فتقدس سبحانه وتنزه وهو رب العالمين.
ثم نبه إلى وحدانيته وأمر بإخلاص العبادة فقال:
(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي هو الحي الذي لا يموت، وما سواه فمنقطع الحياة غير دائمها، لا معبود بحق غيره ولا تصلح الألوهة إلا له، فادعوه مخلصين له الطاعة، ولا تشركوا في عبادته شيئا سواه من وثن أو صنم، ولا تجعلوا له ندّا ولا عدلا.
ثم أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه وجليل إحسانه فقال:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوه سبحانه فهو مالك جميع أصناف الخلق من ملك وإنس وجن، لا الآلهة التي تعبدونها، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن نفع غيرها وضره، وعن ابن عباس أنه قال: «من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها:
الحمد لله رب العالمين» وذلك قوله: «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)(24/90)
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه لنفسه صفات الجلال والكمال- أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره، وأورد ذلك بألين قول وألطفه، ليصرفهم عن عبادة الأوثان، ثم بين أن سبب النهى هو البينات التي جاءته، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة، لا الأحجار المنصوبة، والخشب المصوّرة، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى الشيخوخة ثم الموت.
الإيضاح
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك من قريش وغيرهم: إنى نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم، حين جاءتنى الأدلة من عند ربى وهى آيات الكتاب الذي أنزله علىّ وهى مؤيدة لأدلة العقل ومنهة لها.
وجملة ذلك- إن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.(24/91)
ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله- أردف ذلك أنه أمر بعبادته تعالى فقال:
(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرت أن أنقاد له تعالى وأخلص له دينى.
ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة فقال:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي خلقكم من التراب، إذ كل إنسان مخلوق من المنى، والمنى مخلوق من الدم، والدم يتولد من الأغذية، والأغذية تنتهى إلى النبات، والنبات يتكون من التراب والماء- ثم ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة إلى مراتب كثيرة حتى ينفصل الجنين من بطن الأم.
وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب:
(1) الطفولة. (2) بلوغ الأشد. (3) الشيخوخة، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة. وهو يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر- استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة فقال:
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي قل لهم أيها الرسول: هو الذي يحيى من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها، فإنما يقول له كن فيكون بلا معاناة ولا كلفة.
وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات حين تعلق إرادته بوجودها، وتصوير سرعة ترتب المكوّنات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور(24/92)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
تفسير المفردات
الكتاب: القرآن، يسحبون: أي يجرّون، الحميم: الماء الحار، يسجرون:
أي يحرقون، يقال سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه: «وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» أي:
المملوء، ضلوا عنا: أي غابوا، تفرحون: أي تبطرون، تمرحون: تختالون أشرارا وبطرا.
المعنى الجملي
عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة وآرائهم الفاسدة، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدل فيها،(24/93)
كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها، وقيام الأدلة على صحتها، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.
ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله:
(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا، من إخلاص العبادة له سبحانه، والبراءة مما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد، والاعتراف بالبعث بعد الممات.
ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال:
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها فى الحميم، فينسلخ كل شىء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار.
ونحو الآية قوله: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» وقوله: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ» .
ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقال:
(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي ثم يسألون ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون: غابوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا وتركونا في البلاء- لا، بل الحق أننا ما كنا ندعوا فى الدنيا شيئا يعتدّ به، وهذا كما نقول حسبت أن فلانا شىء فإذا هو ليس بشىء، إذا خبرته فلم تر عنده خيرا.
والخلاصة- إنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة.(24/94)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) أي كما أضل الله تعالى هؤلاء وأبطل أعمالهم، كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر فلا ينتفعون بشىء منها.
ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب فقال:
(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب، بسبب فرحكم لذى كنتم تفرحونه في الدنيا، بارتكاب الشرك والمعاصي، ومرحكم وبطركم فيها بتمتعكم باللذات.
(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم كما قال تعالى: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» خالدين فيها أبدا، فبئس منزل المتكبرين على الله في الدنيا أن يوحّدوه ويؤمنوا برسله- جهنم.
[سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله، وهنا أمر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، إن الله سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.(24/95)
الإيضاح
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون فى آيات الله التي أنزلها عليك وعلى تكذيبهم إياك، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر بهم، والعلوّ عليهم، وإحلال العقاب بهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة كما قال:
(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فإما نرينّك فى حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة كالقتل والأسر يوم بدر فذاك ما يستحقونه أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم وننتقم منهم أشد الانتقام، ونأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ونحو الآية قوله: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» .
ثم قال مسلّيا رسوله:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء من قبلك إلى أممهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن وبما لا قوه من قومهم وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم.
وعن أبى ذر قال: «قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» رواه الإمام أحمد.
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذبوه، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك فصبر على ما أوذى، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل(24/96)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
التعنت والعناد لا للحاجة إليها، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا، ولم يكن ذلك بقادح في نبوتهم، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحا، ولا جرم إذ لم يجابوا إلى ما طلبوا، لأن المصلحة في عدم إجابتهم إليه.
(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قضى بالعدل، فنجّى رسله والذين آمنوا معهم، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته وزعموا أن له شركاء.
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
المعنى الجملي
بعد أن أوعد المبطلين وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد- عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المراد من الأنعام هنا:
الإبل خاصة، لأنها ذات المنافع التي ذكرت في الآية، وقد عدد سبحانه لها الفوائد التالية:(24/97)
(1) أكلها واستعمالها طعاما لهم ولضيفانهم، وقد كانوا يتفاخرون بنحرها عند قدوم الطارق.
(2) لها منافع أخرى كالأوبار والأصواف التي تتخذ منها بيوت الشّعر والملابس الصوفية وقد كانوا يستعملونها كثيرا، ولألبان التي تستعمل شربا ويستخرج منها الجبن ليكون إداما لهم في طعامهم وسائر حاجتهم المعيشية والجلود التي تدبغ لتكون نعالا وفرشا على ضروب شتى.
(3) استعمالها للنجعة وطلب مساقط الغيث لحاجتهم إلى الكلأ والقوت لهم ولما شيتهم والسفر من صقع إلى صقع ومن قطر إلى آخر، وهى لما لها من خفّ مفرطح أنسب حيوان للسير في رمال الصحراء ومن ثم قالوا «الجمل سفينة الصحراء» وقال شاعرهم يصف ذلك:
ما فرّق الألّاف بعد الله إلا الإبل ... وما غراب البين إلّا ناقة أو جمل
وقد كانت من أهم سبل المواصلات في الأزمنة الغابرة في البر كما كانت السفن كذلك في البحر.
ونحو الآية قوله في سورة النحل «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» .
ثم ذكر أن هناك آيات من آياته الباهرة التي لا مجال لإنكارها فقال:
َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)
أي إنه تعالى له آيات يراها خلقه عيانا ويشاهدونها متجددة كل يوم وفي كل آن.
وفي كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد(24/98)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
فأيّا منها تنكرون وبأيها تعترفون، وهى ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها.
وقصارى ذلك- إنكم لا تقدرون على إنكار شىء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
المعنى الجملي
ختم سبحانه هذه السورة بتهديد الذين يجادلون في آياته، طلبا للرياسة والجاه، والحصول على المال، وكسب حظوظ الدنيا، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة، فما فيها من مال وجاه ظل زائل، لا يغنى عنهم من الله شيئا، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر عددا وأشد قوة وآثارا في الأرض فلم ينفعهم شىء من ذلك حين حل بهم بأس الله، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا البأس تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده، وأنّى لهم ذلك؟، وهيهات هيهات.
فذلك لا يحديهم فتيلا ولا قطميرا، سنة الله في عباده ألا ينفع الإيمان حين حلول العذاب.
صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟(24/99)
الإيضاح
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركى قريش- فى البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد- إلى ما حل بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددا، وأشد بطشا، وأقوى جندا، وأبقى في الأرض أثرا، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهراما ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلت بهم نقمتنا لم يغن ذلك عنهم شيئا، ولا رد عنهم العذاب الذي حل بهم.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاء هذه الأمم المكذبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الظاهرة، فرحوا بما عندهم من شبهات ظنوها علما نافعا كقولهم:
«وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» وقولهم:
(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاء وسخرية.
وقد سمى ما عندهم من العقائد الزائفة، وشبههم الدّاحضة علما، تهكما واستهزاء بهم.
ثم ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال:
(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا عذابنا النازل بهم قالوا آمنا بالله، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي لا تجدى فتيلا ولا قطميرا.(24/100)
ثم بين أن ذلك لا يفيدهم شيئا فقد فات الأوان، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئا
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فقال سبحانه:
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يفدهم إيمانهم عند ما عاينوا عقابنا، وحين نزل بهم عذابنا، ومضى فيهم حكمنا، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئا كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ» - «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟» .
وبعدئذ ذكر سبحانه أن هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذبين فقال:
(سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا إذا عاينوا عذابه ألا ينفعهم إيمانهم حينئذ، بعد أن جحدوا به وأنكروا وحدانيته، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان.
وقصارى ذلك- إن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب ألا تقبل منه توبة،
وقد جاء في الحديث «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر»
أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم فلا توبة، ولهذا قال: «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» .
اللهم اقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وآمن روعتنا: واجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
مجمل ما حوته السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الجدل بالباطل في آيات الله.
(3) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.(24/101)
(4) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب.
(5) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.
(6) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.
(7) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.
(8) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
(9) تعداد نعم الله على عباده في البر والبحر.
سورة فصلت
هى مكية وآيها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر.
أخرج ابن أبى سيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: «اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر بم يردّ عليه؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة فقالوا ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى(24/102)
بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» - حتى بلغ- «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال والذي نصبها بنية (يريد الكعبة) ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدرى ما قال؟
قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة» .
وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: «لما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال يا قوم: أطيعونى في هذا اليوم واعصوني بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذنى قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه» .
وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلّى الله عليه وسلم أول هذه السورة عليه.
ومناسبتها ما قبلها:
(1) إنهما اشتركتا في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» إلخ وهددهم هنا بقوله: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» .
(2) إن كلتيهما بدئت بوصف الكتاب الكريم.(24/103)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
تفسير المفردات
لا يسمعون: أي لا يقبلون ولا يطيعون، من قولهم: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولى: أي لم يقبله ولم يعمل به فكأنه لم يسمعه، والأكنة واحدها كنان كأغطية وغطاء: وهى خريطة السهام والمراد أنها في أغطية متكاثفة، والوقر: الثقل في السمع.
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في هذا في السورة قبلها.
(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن منزل من الله الرّحمن الرّحيم على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، وخص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان رحمة لهم ولطفا بهم كما قال: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» .
(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب بينت آياته، وميزت لفظا بفواصل ومقاطع،(24/104)
ومبادئ للسور وخواتم لها، وميزت معنى بكونها وعدا ووعيدا، ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس، وقصص الأولين، وتواريخ الماضين.
ونحو الآية قوله: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .
(قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه بلغة العرب، ليسهل عليهم فهمه كما قال: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» .
وفي هذا امتنان من الله عليهم، ليسهل عليهم قراءته وفهمه.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه، لكونه جاء بلسانهم، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة، وغيرهم لا يفهمه إلا بوساطتهم.
(بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا لأوليائه بالجنة والنعيم المقيم إن داوموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه، ونذيرا لأعدائه بالعذاب الأليم إن هم أصروا على التكذيب به والجدل فيه بالباطل وترك أوامره وفعل نواهيه.
ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال:
(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه، إعراضا عن الحق.
ثم صرحوا بنفرتهم منه، وتباعدهم عنه، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب، تعللا واحتقارا لدعوته:
(1) (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا، فهى لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك.
(2) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي وفي آذاننا صمم يمنعها من استماع قولك.
(3) (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ومن بيننا وبينك ستر يمنعنا عن إجابتك.
روى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.(24/105)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
وقصارى ما يقولون: إن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبّله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شىء منه، كأن بها صمما، ولتباعد الدينين وتباعد الطريقين كان بينهم وبين رسول الله حجاب كثيف، وحاجز منيع.
ثم بارزوه بالخلاف وشن الغارات الجدلية بما لم يبق بعده مجال للوفاق فقالوا:
(فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي فاعمل في إبطال أمرنا جهد طاقتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك وتشتيت شمل من آمن بك حتى تبطل دعوتك.
[سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 8]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
تفسير المفردات
فاستقيموا إليه: أي فأخلصوا له العبادة، ويل: أي هلاك، لا يؤتون الزكاة:
أي لا يتصدقون بجزء من مالهم للسائل والمحروم، ممنون: أي مقطوع من قولهم مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذى الإصبع:
إنى لعمرك ما بابى بذي غلق ... على الصديق ولا خيرى بممنون
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المشركون الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته- أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان وحملهم عليه قسرا،(24/106)
فإنه بشر مثلهم ولا ميزة له عليهم إلا بأن الله أوحى إليه ولم يوح إليهم، ثم ذكر أن خلاصة الوحى علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك التهديد لمن يشرك بالله ولا يزكى نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم عند ربهم أجرا دائما غير مقطوع ولا ممنوع.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول لقومك: ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة، ولست بملك ولا جنّى لا يمكنكم التلقي منى، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية، وأيده النقل عن الأنبياء جميعا، من آدم فمن بعده، فأخلصوا له العبادة، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم، بالتوبة من شرككم- يتب عليكم ويغفر لكم.
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وخسارة وهلاك لمن أشرك بربه ولم يواس البائس الفقير بشىء من ماله، يدفع به عوزه، ويزيل خصاصته، وأنكر البعث والحساب والجزاء، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، لأن أحب شىء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته وصدق نيته، وصفاء طويته وما خدع المؤلّفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، بها لانت شكيمتهم، وزالت عصبيتهم وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله إلا بمنعهم للزكاة،(24/107)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
فعرّضوا أنفسهم للحرب، والطعن والضرب، إبقاء على أموالهم ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم.
وقصارى ذلك- دمار وهلاك لمن أشرك بربه، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل التي من أهمها البخل بالمال ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير، وأنكر البعث والجزاء.
ونحو الآية قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» وقوله:
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» .
وبعد أن ذكر وعيد المشركين أردفه وعد المؤمنين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه- لهم عند ربهم جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قال السّدّى: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.
ونحو الآية قوله: «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» وقوله: «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)(24/108)
تفسير المفردات
فى يومين: أي في نوبتين، والرواسي: الجبال الثوابت، أقواتها: أي أقوات أهلها، سواء: أي كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة، للسائلين: أي لطالبى الأقوات المحتاجين إليها، استوى: أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، دخان: أي مادة غازية أشبه بالدخان، فقضاهن: أي فرغ من تسويتهن، أمرها: أي شأنها وما هى مستعدة له واقتضت الحكمة أن يكون فيها، بمصابيح: أي بكواكب ونجوم، وحفظا: أي وحفظناها حفظا من الآفات.
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحى أن إلهكم إله واحد، فأخلصوا له العبادة- أردف هذا ما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض على أطوار مختلفة متعاقبة وأكمل لكل منها ما هى مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العليم بكل ما فيهما لا يخفى عليه شىء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شىء في خلقهما وتقديرهما، تعالى الله عن ذلك.
الإيضاح
(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ؟) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك توبيخا وتقريعا. كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلّكم(24/109)
فى نويتين؟ فتقولوا إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم، وتنسبوا إليه الأولاد وتقولوا إنه لم يبعث أنبياء- أي كيف تقولون هذا، مع أنه خلق الأرض في يومين.
(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي وتجعلون له أندادا وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام والأوثان.
ثم شدد عليهم في الإنكار وبين أن مثل هذا لا ينبغى أن يكون فقال:
(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية، ومرة جعلها ستا وعشرين طبقة في ستة أطوار كما بين ذلك علماء طبقات الأرض (الجلوجيا) - هو رب العالمين لا ربها وحدها، فهو مربّى المخلوقات جميعا، فإن رباها في نوبتين فقد ربى غيرها في نوبات يعلم سبحانه عددها، فكيف يكون شىء منها ندّا له وضريبا؟.
ثم بين إحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره فقال:
(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي وجعل فيها جبالا ثوابت مرتفعة عليها، أسسها في الأرض وهى الطبقة الصوانية، وهذه الطبقة هى التي برزت منها الجبال، فالجبال أساسها بعيدة الغور ضاربة في جميع الطبقات واصلة إلى أول طبقة، وهى الطبقة الصوانية التي لولاها لم تكن الأرض أرضا ولم نستقر عليها فأرضنا كرة من النار غطيت بطبقة صوّانية فوقها طبقات ألطف منها تكوّن فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلو مترات، وصارت محازن للمياه والمعادن وهداية للطرق وحافظة للهواء والسحاب.
(وَبارَكَ فِيها) أي وجعلها مباركة كثيرة الخيرات بما خلق فيها من المنافع، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار، ومخزنا للمعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس.
(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم من مطاعم وملابس ونبات، ليكون بعض الناس محتاجا إلى بعض، فتروج المتاجر بينهم(24/110)
وتنتقل المحصولات من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر، وفي هذا عمار للأرض وانتظام أمور العالم.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال:
(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي إن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في نوبتين، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في نوبتين فيكون ذلك في أربع نوبات كما يقول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما: أي في تتمة خمسة عشر يوما.
وقصارى ذلك- إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام.
(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي في أربعة أيام كاملة وفق مراد طالب القوت ومن له حاجة إليه وهو كل حيوان على وجه الأرض كما قال: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فالناس والحيوان جميعا كلهم سائلون ربهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس ورداء- سؤالا طبيعيا مغروسا في جبلّتهم.
ولما كان الإنسان يهتمّ بحال ما حوله من الأرض قدّم ذكرها وبين أنها هى وما عليها قد كوّنها في أربع نوبات، فنوبة لتجمد المادة الأرضية بعد أن كانت غازا، ونوبة لتكميل بقية طبقاتها ويدخل في ذلك معادنها، ومرة للنبات وأخرى للحيوان.
ولما انتهى من الكلام في الأرض أخذ يذكر السماء، فالترتيب في الذكر فحسب فقال:
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثم دعا داعى الحكمة إلى خلق السماء وهى مادة غازية أشبه بالدخان أو بالسحاب أو بالسديم وتسمى في العلم الحديث (عالم السديم) وقد شاهدوا من تلك العوالم اليوم عوالم كثيرة في عالم السديم آخذة فى البروز كما برزت شمسنا وسياراتها، وأرضها وكانت في الأصل دخانا.(24/111)