تفسير المفردات
فتولى فرعون: أي انصرف عن المجلس، كيده: أي ما يكيد به من السحرة وأدواتهم، أتى: أي أتى الموعد ومعه ما جمعه من الأعوان والسحرة، ويلكم: أي هلاك لكم، والافتراء: الاختلاق والكذب، فيسحتكم بعذاب: أي يستأصلكم ويهلككم بعذاب شديد، فتنازعوا: أي فتفاوضوا وتشاوروا، وأسروا النجوى: أي بالغوا فى إخفاء كلامهم، بطريقتكم المثلى: أي بمذهبكم الذي أنتم عليه وهو أفضل المذاهب وأمثلها، فأجمعوا كيدكم: أي اجعلوا كيدكم مجمعا عليه، صفا: أي مصطفين، لأنه أهيب للصدور، أفلح: أي فاز بالمطلوب، استعلى: أي غلب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن موسى وفرعون اتفقا على موعد يجتمعان فيه وهو يوم عيد لهم- أردف ذلك ذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس من أمر السحرة وآلات السحر، وأتى بجميع ذلك، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدموا على ما هم عازمون عليه، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون، وبالغوا فى إخفاء ما يريدون، وقالوا ما موسى وهرون إلا ساحران يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم ويرجوان أن تتركوا دينكم وهو أمثل الأديان وأفضلها، لتعتنقوا دينهما، فحذار أن تفعلوا ذلك ولا يتخلفنّ منكم أحد وائتوا صفا واحدا وقد فاز بالمطلوب من غلب.(16/123)
الإيضاح
(فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) أي فانصرف عن مجلس الحجاج والمناظرة، وشرع يعدّ ما يكيد به من السحرة وآلاتهم وأنصاره وأعوانه، وكثير ما هم، ثم أقبل فى الموعد الذي عيّن ومعه جمعه، وجلس على سرير ملكه وحوله أكابر دولته، واصطفت الرعية يمنة ويسرة، وأقبل موسى يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة صفوفا بين يدى فرعون يحرّضهم ويستحثهم ويرغّبهم فى جودة العمل، ويتمنّون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، وقد جاء فى سورة الشعراء: «قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين» .
ثم ذكر سبحانه ما كان من موسى حينئذ فقال:
(قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) أي قال موسى للسحرة:
لا تختلقوا الكذب على الله ولا تتقولوه عليه، بأن تدّعوا أن الآيات التي ستظهر على يدىّ سحر كما فعل فرعون، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ولا يبقى منكم ولا يذر.
(وقد خاب من افترى) على الله الكذب، ولم يفلح فى سعيه، ولم يصل إلى غرضه، فابتعدوا عن اختلاق الأكاذيب، ولا تضلّوا سواء السبيل، حتى لا يصيبكم ما أصاب المفترين الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولما سمع السحرة كلام موسى وهارون هاجهم ذلك.
(فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) أي فتشاوروا وتفاوضوا ماذا يفعلون، وبالغوا فى كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يدور من القول، فيعدّا للأمر عدته، ويهيئا وسائل الدفاع، ومن الطّبعى فى مثل هذه الأحوال أن يخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبّره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر.
ثم بين سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله:(16/124)
(قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) أي إن السحرة قالوا فيما بينهم: إن هذا الرجل وأخاه ساحران خبيران بصناعة السحر، وهما يريدان أن يغلباكم وقومكم ويخرجاكم من دياركم وتخلص لهم الرياسة دونكم.
وخلاصة ما قالوه التنفير منهما لوجوه ثلاثة:
(1) الطعن فى نبوتهما ونسبتهما إلى السحر، وكل ذى طبع سليم ينفر من السحر، ويبغض السحرة، ويعلم أن السحر لا بقاء له، ولا ينبغى اتباع من جاء به، ولا اعتناق مذهبه وطريقته.
(2) إنّ بغيتهما إخراجكم من أرضكم، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة على النفوس ومن ثم قال فرعون: «أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى» .
(3) إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات، ولا يبقيا شيئا من شئون الدولة والتصرف فى أمورها العامة.
وإجمال هذا- إنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم، وتمحّضت لهما الرياسة دونكم.
ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم، والبلاء المقبل فقالوا:
(فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، كما جاء فى آية أخرى «فجمع كيده» ثم ائتوا مصطفين مجتمعين، وألقوا ما فى أيديكم دفعة واحدة لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم لدى النظارة فى هذا المشهد الحافل.
(وقد أفلح اليوم من استعلى) أي وقد فاز بالمطلوب من غلب منا، أما نحن فقد وعدنا بالعطاء الجزيل والقرب من الملك: «قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين» وأما هو فسينال الرياسة، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم، وحفز الهمم، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز والفلج بالمطلوب.(16/125)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 76]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
تفسير المفردات
إيجاس الخوف: الإحساس بشىء منه، ما فى يمينك: هى العصا وأبهمها تفخيما لشأنها، وتلقف: تبتلع بقوة وسرعة، صنعوا: أي زوّروا وافتعلوا، كيد ساحر:
أي كيد سحرىّ لا حقيقة له ولا ثبات، حيث أتى: أي أينما كان، كبيركم: أي(16/126)
زعيمكم ومعلمكم. قال الكسائي: الصبى بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال جئت من عند كبيرى، من خلاف: أي من حال مختلفة، فتقطع الأيدى اليمنى والأرجل اليسرى، أشد عذابا: أي أدوم، نؤثرك: أي نفضّلك ونختارك، فطرنا: أي ابتدعنا وأوجدنا من العدم، فاقض: أي فاحكم، جنات عدن: أي جنات أعدت للإقامة، من تحتها: أي من تحت غرفها، تزكى: أي تطهّر من أدناس الكفر وأرجاس المعاصي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الموعد وهو يوم الزينة، وذكر أنهم قالوا ائتوا صفا- ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه، وأن يبدءوهم، فاختار الثانية، وحين بدءوا فألقو حبالهم وعصيهم خاف موسى عاقبة أمره، فأوحى إليه ربه «لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما فى يمينك» فسيكون لك الفلج والظفر عليهم، وقد تحقق ما وعد الله به، وكتب له النصر وآمن به السحرة، فلجأ فرعون إلى العناد والاستكبار، وتوعد السحرة بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسيصلبهم فى جذوع النخل، فقابلوا تهديده بالازدراء والسخرية، وقالوا إنما أنت مسلّط علينا فى هذه الحياة الدنيا، وعذابك لا يعدوها، وما عند الله من العذاب لا يضارعه عذاب، وما عنده من الثواب لا يقدر قدره، ففى جناته التي تجرى من تحتها الأنهار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى) أي فأجمع السحرة كيدهم ثم أتوا صفا فقالوا لموسى: اختر لك أحد الأمرين، إما أن تلقى ما معك، وإما أن نلقى ما معنا.
وهذا التخيير منهم حسن أدب معه وتواضع منهم، وتنبيه إلى إعطائه النّصفة(16/127)
من أنفسهم، وكأن الله ألهمهم ذلك، وعلم موسى أن من الخير له اختيار إلقائهم أولا، لأنهم إذا أبرزوا ما معهم من مكايد السحر واستنفذوا أقصى مجهودهم، أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلّط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين، ومن ثم حكى عنه.
(قال بل ألقوا) أي بل ألقوا أنتم أوّلا لنرى ما تصنعون من السحر، ويظهر للناس حقيقة أمركم، وحين ألقوا: «قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» .
(فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصىّ فخيّل إلى موسى أنها تمشى، وجاء فى آية أخرى «سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤ بسحر عظيم» .
قيل إنهم حشوها بالزئبق الذي من طبعه أن يتأثر سريعا بحرارة الشمس، فما أسرع ما تحركت تلك الحبال والعصى حين سقطت عليها أشعة الشمس، فامتلأ الوادي بحيات يركب بعضها بعضا.
وخلاصة ذلك- إنهم حشوها بزئبق أو بمادة أخرى إذا وقعت عليها الشمس اضطربت وتحركت واتصل بعضها ببعض، فمن رآها ظن أنها تمشى وتسعى.
(فأوجس فى نفسه خيفة موسى) أي فأوجس موسى بشىء من الخوف حين فوجىء بذلك على مقتضى الطبيعة البشرية حين ترى الأمر المهول المخيف.
ثم أبان سبحانه أنه ربط على قلبه فقال:
(قلنا لا تخف) أي قلنا: له هدّىء روعك، واطمئن بالا.
ثم علل ذلك بقوله:
(إنك أنت الأعلى) أي إنك ستنتصر عليهم وستكون لك الغلبة، فالعاقبة للمتقين.
(وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا) أي وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروا بها أعين الناس حتى خيل إليك أنها تسعى.(16/128)
وإنما أوتر إبهام العصا تهويلا لأمرها، وتفخيما لشأنها، وإيذانا بأنها ليست من جنس العصىّ المعهودة، لما سينشأ عنها من عجيب الأثر وغريب الصنع.
(إنما صنعوا كيد ساحر) أي إن الذي فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، كيد سحرى لا حقيقة له ولا بقاء.
وخلاصة ذلك- إن الذي، معك يا موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويه وتلفيق ظاهر عليه الزور والبهتان، فكيف يتعارضان؟.
(ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا حيثما كان.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على أنه امتثل أمر ربه وألقى العصا وكان ما وعد به من تلقفها لما صنعوا فقال:
(فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) أي فألقى ما فى يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر للسحرة جليّة الأمر وأن ما عمله ليس بالسحر، فهو ليس من فنون السحر التي حذقوها، ولا من أنواع الحيل التي عرفوها، وإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا يقدر على مثله إلا من يقول للشىء كن فيكون، حينئذ وقعوا سجدا لله وقالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهرون.
روى أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على وجود الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى على كونه رسولا صادقا من عند الله، لا جرم تابوا وآمنوا وأتوا وهم خاضعون ساجدون.
قال صاحب الكشاف- سبحان الله، ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبا لهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود اه.
روى عن ابن عباس أنه قال: كانوا أول النهار سحرة، وفى آخره شهداء بررة وروى عنه عكرمة أنه قال: كان السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.(16/129)
وإنما قالوا برب هرون وموسى ولم يقصروا على قولهم (رب العالمين) لأن فرعون كان قد ادّعى الربوبية فقال: «أنا ربكم الأعلى» والألوهية إذ قال: «ما علمت لكم من إله غيرى» فلو قالوا ذلك فحسب لقال فرعون: آمنوا بي، وإنما لم يقتصروا على ذكر موسى بل ذكروا هرون وقدموه عليه خوفا من هذه الشبهة أيضا، إذ أن فرعون كان يدعى ربوبيته لموسى، لأنه رباه فى صغره كما قال: «ألم نربك فينا وليدا» .
ولما خاف فرعون أن يصير ذلك سببا لاقتداء الناس بهما فى الإيمان بالله ورسوله ألقى شبهة فى النبي ونبوته.
(قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر) أي إنكم قد فعلتم جريرتين وارتكبتم جرمين:
(1) إنكم آمنتم له قبل البحث والتفكير، فإيمانكم لم يكن عن بصيرة وأناة فلا يعتدّ به.
(2) إنكم تلاميذه فى السحر، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لدعوته وتفخيما لأمره.
وبعد أن أورد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم من الإيمان، وتحذيرا لغيرهم عن الاقتداء بهما فقال:
(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي أقسم بالله لأقطّعنها مختلفات، بأن تقطع الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق، لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة.
(ولأصلبنكم فى جذوع النخل) زيادة فى إيلامكم وتشهيرا بكم.
وخلاصة ذلك- لأجعلنكم مثلة، ولأزيلن مالكم من منافع، ولأشهرنّ بكم، قال ابن عباس: فكان أول من عذب بهذا العذاب.
(ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) أي ولتعلمن أنا أو موسى أشد عذابا وأبقى.(16/130)
وفى ذلك إيماء إلى اقتداره وقهره وبيان ما ألفه وضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، كما فيه تحقير لشأن موسى واستضعاف له مع السخرية منه.
ثم لما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم فى الله.
(قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نختارك بالإيمان والانقياد على ما جاءنا من الله على يد موسى من المعجزات التي اشتملت عليها العصا.
وفى هذا إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى، وإلا فعل بهم ما أوعدهم به.
(والذى فطرنا) أي لن نختارك على ما جاءنا من الهدى، وعلى فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، إذ هو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت.
ولما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان، فعل فرعون ما أوعدهم به قالوا:
(فاقض ما أنت قاض) أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك فوعيدك لا يزحزحنا عن إيماننا واطمئناننا بما صرنا إليه.
ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا:
(إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) أي إنما لك تسلط علينا فى هذه الدار دار الزوال ونحن نرغب فى دار البقاء.
وقصارى ردهم- إنك إنما تصنع ما تهوى فى هذه الدنيا فحسب، وإنا لا نأبه بنعيمها، ولا نرهب عذابها.
(إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) أي إنا آمنا بربنا المحسن إلينا طوال أعمارنا، ليستر ما اجترحنا من الذنوب والآثام، ولا سيما ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آيات الله ومعجزاته.
روى الحسن أن السحرة الذين حشدوا من المدائن ليعارضوا موسى، أحضروا مكرهين، وأكرهوا على إظهار السحر، وروى أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان منهم من القبط، والباقون من بنى إسرائيل أكرههم فرعون على تعلّم السحر.(16/131)
(والله خير وأبقى) أي والله خير منك جزاء وأدوم ثوابا مما كنت دعوتنا إليه ومنيتنا به.
ولم يرد دليل على أنه نفّذ ما صمم عليه فى عقابهم، ولكن الراجح أنه نفّذ ذلك كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.
ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب، عظة لفرعون وتحذيرا له من نقمة الله وعذابه السرمدي وترغيبا له فى ثوابه الأبدى.
(إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) أي إن من يلق الله وهو مجرم بكفره ومعاصيه فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهى عذابه، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم، قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت فى المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم والعرب تقول: فلان لا حى ولا ميت. إذا كان غير منتفع بحياته.
كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض: لا هو حىّ فيرجى، ولا ميت فينعى.
ونحو الآية قوله «لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور» وقوله «ويتجنبها الأشقى. الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى» وقوله «ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون» .
(ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) أي ومن لقى ربه مؤمنا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه، ثم عمل صالح الأعمال، فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم وجليل أعمالهم المنازل الرفيعة والدرجات العالية.(16/132)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
وفى الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب العابر فى أفق السماء لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء، قال بلى، والذي نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين»
. وفى السنن: إن أبا بكر وعمر لمنهم ونعمّا.
ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله:
(جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي تلك الدرجات العلى هى جنات إقامة تجرى من تحت غرفها الأنهار ماكثين فيها أبدا.
ثم بين سبب فوزهم بهذا النعيم فقال:
(وذلك جزاء من تزكى) أي وذلك الفوز الذي أوتوه جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده لا شريك له واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاءوا به من عند ربهم.
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
تفسير المفردات
السرى والإسراء: السير ليلا، اضرب لهم: أي اجعل لهم، يبسا: أي طريقا يابسا لا ماء فيه، والدرك (بالفتح والسكون) : الإدراك واللحوق، تخشى: أي تخاف(16/133)
غرقا، وأتبع وتبع: بمعنى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم: أي فغمرهم وعلاهم من البحر ما علاهم من الأمر الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله، وأضل فرعون قومه: أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخسران فى دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا، وما هدى:
أي وما أرشدهم إلى طريق يصل بهم إلى طريق السعادة، الأيمن: أي الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام، المنّ: نوع من الحلوى يسمى الترنجبين، والسلوى:
طائر شبيه بالسّمانى، ولا تطغوا فيه: أي فلا تأخذوه من غير حاجة إليه، فيحل عليكم غضبى: أي ينزل بكم، هوى: سقط وهلك، غفار: كثير المغفرة والستر للذنوب، اهتدى: أي لزم الهداية واستقام.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا به، وأن فرعون أبى أن يذعن للحق، وتمادى هو وقومه فى العناد والإعراض عن سبيل الرشاد- أردف ذلك ذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الغرق فى البحر حين تبعوا موسى للحاق به لما خرج من مصر ذاهبا إلى الطور، وطوى فى البين ذكر ماجرى على فرعون وقومه بعد أن غلبت السحرة- من الآيات المفصّلة التي حدثت على يد موسى فى مدى عشرين سنة بحسب ما فصل فى سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب وعد أن يرسل بنى إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب، فإذا هو انكشف نكص على عقبيه ونكث فى عهده، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلا من مصر، ثم عدد بعدئذ نعمه الدينية والدنيوية على بنى إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم وقد كان ينزل بهم ضروبا من الظلم: من قتل وإذلال وتعب فى الأعمال، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم وتفصيل شريعتهم، وأنه أنزل(16/134)
لهم المن والسلوى، وأنه أمرهم بأكل الطيبات من الرزق وزجرهم عن العصيان، وأن من عصى ثم تاب كانت توبته مقبولة عند ربه.
الإيضاح
(ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) أي ولقد أوحينا إلى نبينا موسى حين تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه وتمادى في طغيانه: أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية، واخرج بهم من مصر، فاتخذ لهم طريقا يابسا فى البحر، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك، ولا تخش أن يغرقك البحر.
وفى التعبير عن بنى إسرائيل (بعبادى) إظهار للعناية بأمرهم والرحمة لهم، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق.
(فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي ولما سرى بهم موسى أتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشيهم من اليم ما لا سبيل إلى إدراك كنهه، فغرقوا جميعا.
(وأضل فرعون قومه وما هدى) أي وقد سلك بقومه سبيل الضلال فى دينهم ودنياهم، وما هداهم إلى سبيل الرشاد، وفى هذا تهكم به إذ قال «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» .
ثم شرع سبحانه يعدّد نعمه على بنى إسرائيل فقال:
(1) (يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) فرعون وقومه حين كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وأقر عينكم منهم، إذ أغرقهم وأنتم تنظرون كما قال: «وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون» .(16/135)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
(2) (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) فكلمناك تكليما وأعطيناك التوراة وفيها تفصيل شريعتك.
(3) (ونزلنا عليكم المن والسلوى) فكان ينزل عليكم المن وأنتم فى التيه مثل الثلج بياضا مع حلاوة شديدة من الفجر إلى طلوع الشمس، وتبعث إليكم ريح الجنوب بطير السمانى فيأخذ كل منكم ما يكفيه.
(كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لكم، كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم.
(ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى) أي ولا تطغوا فى رزقى بالإخلال بشكره وتعدى حدودى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على المعاصي ومنع الحقوق الواجبة فيه فينزل عليكم غضبى، وتجب عليكم عقوبتى.
(ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) أي ومن ينزل به غضبى فقد شقى وهلك.
(وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) أي وإنى لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب من شركه، ويقلع عن ذنبه، ويخلص لى فى العمل، ويؤدى فرائضى، ويجتنب المعاصي، ويستقيم حتى الموت.
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)(16/136)
تفسير المفردات
يقال جاء على أثره (بفتحتين وبكسر فسكون) : إذا جاء لاحقا به بلا تأخير، فتنا قومك: أي اختبرناهم، وأضلهم: أي أوقعهم فى الضلال والخسران، والسامري:
من شعب إسرائيل من بطن يقال له السامرة واسمه موسى، والأسف: الحزين، والوعد الحسن: إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، والعهد: زمان الإنجاز، موعدى: أي وعدكم إياى بالثبات على الإيمان، وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف، بملكنا: أي بقدرتنا واختيارنا، والأوزار: الأثقال والأحمال والمراد بالقوم هنا القبط، فقذفناها:
أي طرحناها فى النار، جسدا: أي جثة لا روح فيها، والخوار: صوت العجل، فنسى:
أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور، أن لا يرجع إليهم قولا: أي لا يردّ عليهم جوابا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا: أي لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أوحى إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلا ويخترق بهم البحر ولا يخشى غرقا ولا دركا من فرعون وجنده، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعا حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل، ثم عدد نعمه عليهم من إنجائهم من عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق ونهاهم عن الطغيان، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا- أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذكرت آنفا،(16/137)
وبما حدث من فتنة السامري لبنى إسرائيل ورجوع موسى إليهم غضبان أسفا، ثم معاقبته لهم على ما صنعوا، ثم ذكر الحيلة التي فعلها السامري حين أخرج لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى، فرد الله عليهم ووبخهم بأن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فى دينهم ولا دنياهم.
الإيضاح
(وما أعجلك عن قومك يا موسى؟) المراد بالقوم النقباء السبعون، وإعجاله عنهم تقدمه عليهم، أي أىّ شىء عجّل بك عن قومك، وجعلك تتقدمهم؟.
والمراد الإنكار عليه فى تقدمه عليهم، لأن ذلك يقتضى إغفال أمرهم وعدم العناية بهم، مع أنه مأمور باستصحابهم وإحضارهم معه، وإنكار للعجلة فى ذاتها أيضا، ولا سيما من أولى العزم الذين يجدر بهم مزيد الجزم.
(قال هم أولاء على أثرى) أي قال موسى مجيبا ربه: هم أولاء بالقرب منى آتون على أثرى، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة لا يعتدّ بها، وليس بينى وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض.
(وعجلت إليك رب لترضى) أي وعجلت إليك رب لتزداد عنى رضا، بالمسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك.
وخلاصة معذرته- إنى اجتهدت أن أتقدم قومى بخطإ يسيرة، ظنا منى أن مثل ذلك لا ينكر، فأخطأت فى اجتهادي، وقد حملنى على ذلك طلب الزيادة فى مرضاتك، وكأنه عليه السلام يقول: إنما أغفلت هذا الأمر مبادرة إلى رضاك ومسارعة إلى الميعاد، والموعود بما يسرّ يود لو ركب أجنحة الطير ليحظى بما يبتغى ويريد.
(قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) أي قال: إنا قد اختبرنا قومك الذين خلفتهم مع هرون من بعد فراقك. قال ابن الأنبارى: صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل(16/138)
من بعد انطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هرون اه. وهذه الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى بعشرين يوما.
(وأضلهم السامرى) أي دعاهم إلى الضلال باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل فى دين بنى إسرائيل فى الظاهر وفى قلبه حنين لعبادة البقر، فأطاعه بعض وامتنع آخرون.
(فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي فانصرف موسى إلى قومه بنى إسرائيل بعد انقضاء الليالى الأربعين- مغتاظا من قومه، حزينا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله. روى أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة.
قال القرطبي: سئل الإمام أبو بكر الطرشوشى عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شىء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟ فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبّاد العجل وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله، وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه، كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغى للسطان أن يمنعهم من الحضور فى المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين اه.
(قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) لا سبيل لكم إلى إنكاره، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام، ووعدكم الثواب العظيم فى الآخرة(16/139)
بقوله: «وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى» ووعدكم أنكم ستملكون أرض الجبارين وديارهم.
(أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى؟) أي أفطال عليكم الزمان، فنسيتم وعدكم إياى بالثبات على دينى إلى أن أرجع من الميقات؟ أم تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم بعبادتكم للعجل وكفركم به؟.
وخلاصة ذلك- أفطال عليكم العهد فنسيتم أم تعمدتم المعصية فأخلفتم؟.
(قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) أي قالوا ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك إلا لأنا لم نملك أمرنا، فلو خلّينا وأنفسنا ولم يسوّل لنا السامري ما سوّله، لما أخلفنا.
وفى هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة.
وقصارى كلامهم: إن السامري سول لنا ماسول، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك.
(ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها) أي ولكن غلبنا موسى السامري إذ حمّلنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر بعلة أن لنا عيدا غدا، وقال: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها ثم أمرنا أن نحفر حفرة ونملأها نارا وأن نقذف الحلي فيها فقذفناه.
وسميت أوزارا: أي آثاما، لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم فى شريعتهم.
(فكذلك ألقى السامرى) أي فكما قذفنا نحن تلك الأثقال، ألقى السامري ما كان معه منها.
(فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) أي فأخرج لهم من تلك الأثقال التي(16/140)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قذفوها جسد عجل من ذهب لا روح فيه، وله خوار كخواره، إذ هو قد صنعه بدقة وجعل فيه أنابيب يظهر فيها الصوت بمرور الريح بعد أن جعله فى اتجاهه.
(فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى) أي فقال السامري ومن افتتن به أول ما رآه:
هذا هو إلهكم وإله موسى فاعبدوه، وقد غفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور.
فرد عليهم سبحانه، مقبّحا أفعالهم، مسفها أحلامهم فقال:
(أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون فى أن هذا العجل لا يرجع إليهم كلاما، ولا يرد عليهم جوابا وأنه لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا، ولا يجلب لهم نفعا؟
وقصارى ما يقول- إنه عاجز عن الخطاب، وعن النفع والضر، فكيف يتخذونه إلها؟
[سورة طه (20) : الآيات 90 الى 98]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)(16/141)
تفسير المفردات
فتنتم به: أي وقعتم فى الفتنة والضلال، فاتبعونى: أي فى الثبات على الحق، لن نبرح: أي لا نزال، عاكفين: أي مقيمين، بلحيتي ولا برأسى: أي بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى، خشيت: أي خفت، ولم ترقب قولى: أي ولم تراع، فما خطبك:
أي ما شأنك، وما الأمر العظيم الذي صدر منك، بصرت بما لم يبصروا به (بضم الصاد فيهما) : أي علمت ما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا له يقال بصر بالشيء إذا علمه، وأبصره إذا نظر إليه، والرسول موسى عليه السلام، وأثره: سنته، فنبذتها: أي طرحتها وسوّلت لى نفسى: أي زينت وحسنت، لا مساس: أي لا مخالطة فلا يخالطه أحد ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، لن تخلفه: أي سيأتيك به الله حتما، ظلت (أصله ظللت دخله حذف) : أي أقمت، لنحرقنه: أي لنبردنّه بالمبرد، لننسفنه: أي لنذرينه، فى اليمّ: أي فى البحر، وسع كل شىء علما: أي وسع علمه كل شىء وأحاط به.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل، لأنه لا يستجيب لهم دعاء ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا- أكد هذا وزاد عليهم فى التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما فعلوا، ثم حكى معاتبة موسى لهرون على سكوته على بنى إسرائيل وهو يراهم يعبدون العجل، ثم ذكر أنه اعتذر له، ولكنه لم يقبل معذرته، ثم قص علينا ما قاله السامري وما أنّبه به موسى وما عاقبه الله به فى الدنيا والآخرة، وما صنعه موسى بالعجل من نسفه وإلقائه فى البحر، ثم بين لهم أن الإله(16/142)
الحق هو الذي يحيط علمه بما فى السموات والأرض، لا ذاك الجماد الذي لا يضر ولا ينفع، ولا يرد جوابا، ولا يسمع خطابا.
الإيضاح
(ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي ولقد قال هرون لعبدة العجل من بنى إسرائيل ناصحا لهم من قبل رجوع موسى إليهم يا قوم إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض الشاك فى دينه.
(وإن ربكم الرحمن) أي وإن خالقكم وخالق كل شىء هو الذي عمت رحمته جميع مخلوقاته، فآتاهم ما فيه كمالهم الجسمى والروحي، وما به سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
وفى ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا قبلت توبتهم.
(فاتبعونى وأطيعوا أمرى) أي فاتبعونى فيما آمركم به من عبادتى وترك عبادة العجل، وأطيعونى فى اتباع ما يبلغكم رسولى.
ثم بين أنهم لم يسمعوا نصحه، ولم يطيعوا أمره.
(قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) أي قال عبدة العجل من قوم موسى لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع موسى إلينا، لنرى ماذا يقول، وماذا يرى فى ذلك؟.
وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف وعدم إجابة طلب هرون.
ثم ذكر مقال موسى لهرون بعد أن فرغ من خطاب قومه وبيان خطأ فعلهم.
(قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) أي قال موسى لهرون: أىّ شىء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقنى إلى جبل الطور بمن آمن معك من بنى إسرائيل؟.(16/143)
وقد كان موسى يرى أن مفارقة هرون لهم، وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها، لما فى ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار عليهم، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمر مبغوض لديهم مما تشق على النفوس، وتقتضى ترك ذلك الأمر الذي يكرهه.
(أفعصيت أمرى) فيما قدمت إليك من قولى: «اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين» .
فلما أقام بينهم ولم يبالغ فى الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة امره.
فترفّق هرون فى خطاب موسى استعطافا له وترقيقا لقلبه إذ أضافه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه.
ال يا بن أم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى)
أي فامتلأ موسى غضبا مما رأى، وألقى ما فى يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه فقال: يا بن أمي لا تأخذ بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى.
وقد روى أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله،
وكان عليه السلام حديدا غضو با لله تعالى، وقد شاهد ما شاهد، وغلب على ظنه تقصير هرون عليه السلام ففعل ما فعل.
قال صاحب الكشاف: كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب فى كل شىء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحميّة، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضا على شعر رأسه (وكان أفرع) وعلى شعر وجهه يجره إليه اه.
ثم بين علة هذا النهى بأنى لست عاصيا أمرك ولا مقصرا فى المصلحة، بل:
نى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى)
أي إنى خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا، فتريثت حتى تكون أنت المتدارك ذلك بنفسك،(16/144)
المتلافيه برأيك، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتنى به، ولم يكن بد من مراقبة ذلك والعمل على موجبه.
وخلاصة ذلك- إنى رأيت من صواب الرأى أن أحفظ العامة وأداريهم على وجه لا يختل به نظامهم، ولا يكون سببا للومك حتى ترجع فتتدارك الأمر بحسب ما ترى ولا سيما أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى.
وبعد أن انتهى من سماع اعتذار قومه وإسنادهم الفساد إلى السامرىّ ومن سماع اعتذار هارون- وجه الكلام إلى السامري.
(قال فما خطبك يا سامرى) أي قال موسى للسامرى: ما شأنك وما الذي دهاك حتى فعلت ذلك الأمر الجلل؟ وقد خاطبه بهذا ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه، ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.
(قال بصرت بما لم يبصروا به) أي قال السامري: إنى عرفت ما لم يعرفه القوم ولم تعرفه أنت، وعرفت أن ما أنتم عليه ليس بالحق.
(فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) أي وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فطرحته، كما يقال فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، ويتبع طريقته، وأجرى الكلام على طريق الغيبة وهو يخاطبه على نهج قول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير فى كذا وبماذا يأمر الأمير؟ قاله أبو مسلم الأصفهانى، وأيده الرازي وقال إنه أقرب إلى التحقيق.
وخلاصة هذا- إن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم- رد عليه بأنه كان استن بسنته، واقتفى أثره وتبع دينه، ثم استبان له أن ذلك هو الضلال بعينه، وأنه ليس من الحق فى شىء فطرحه وراءه ظهريا وسار على النهج الذي رأى وفى التعبير بكلمة (الرسول) على هذا نوع من التهكم والسخرية، لأنه جاحد(16/145)
مكذب له، فهو على نحو ما حكى الله عن بعض الجاحدين بقوله: «وقالوا يا ايها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون» وهم لا يؤمنون بالإنزال عليه.
(وكذلك سولت لى نفسى) أي كما زينت لى نفسى أولا اتباع سنتك واقتفاء أثرك، زينت لى أيضا ترك ذلك بمحض الهوى لا لشىء آخر من برهان عقلى أو نقلى أو إلهام إلهى.
والخلاصة- لم يدعنى إلى ما فعلت إلا هوى النفس فحسب:
ولما سمع موسى من السامري ما سمع بيّن له ما سينزل به من الجزاء فى الدنيا والآخرة وذكر له حال إلهه، أما عزاؤه هو فى الدنيا فما حكاه سبحانه عنه.
(قال فاذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس) أي قال له: اذهب فأنت طريد من بين الناس، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدا، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس: أي لا يماسّنى أحد، ولا أماسّ أحدا، قال مقاتل: إن موسى عليه السلام أمره هو وأهله بالخروج من محلة بنى إسرائيل، فخرج طريدا فى البراري.
وروى أنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم فى البريّة مع السباع والوحش، ولا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.
وقصارى ذلك- إنه خاف وهرب، وجعل يهيم فى الصحارى والقفار حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك.
وأما جزاؤه فى الآخرة فقد ذكره بقوله:
(وإن لك موعدا لن تخلفه) أي وإن لك موعدا فى الآخرة لن يخلفكه الله، بل سينجزه لك البتة، بعد أن يعاقبك فى الدنيا، وهو آت لا محيص منه.
وأما حال إلهه فقد بينه بقوله:
(وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا)(16/146)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
أي وانظر إلى هذا المعبود بزعمك الذي عكفت على عبادته، لنبردنّه بالمبرد ثم لنذرينه فى البحر إذا صار سحالة كذرات الهباء.
ولقد برّ موسى فى قسمه وفعل ما أوعده به كما يدل على ذلك قوله (وانظر إلى إلهك) ولم يصرح بهذا تنبيها إلى وضوحه واستحالة الخلف فى وعيده المؤكد باليمين.
وفى فعله ذلك به عقوبة للسامرى، وإظهار لغباوة المفتونين به لمن له أدنى نظر.
وبعد أن فرغ من إبطال الباطل شرع فى تحقيق الدين الحق فقال:
(إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو) أي ليس هذا بإلهكم، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغى العبادة إلا له، فكل شىء فقير إليه، وهو الخالق لكل شىء.
(وسع كل شىء علما) أي هو العالم بكل شىء وقد أحاط بكل شىء عدّا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين.
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
تفسير المفردات
ذكرا: أي قرآنا كما قال: «يا أيها الذى نزل عليه الذكر» وسمى بذلك، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، والوزر: الحمل الثقيل(16/147)
والمراد به العقوبة التي تثقل على حاملها، والصور: قرن ونحوه ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى المحشر كما ينفخ فيه فى الدنيا حين الأسفار وفى المعسكرات، زرقا:
أي زرق الأبدان سود الوجوه، لما هم فيه من الشدائد والأهوال، يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم ويخفونها، لشدة ما يرون من الهول، إلا عشرا: أي عشرة أيام، أمثلهم طريقة: أي أعدلهم رأيا، وأرجحهم عقلا.
المعنى الجملي
بعد أن شرح قصص موسى عليه السلام مع فرعون أولا ثم مع السامري ثانيا على نمط بديع وأسلوب قويم- بين لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية والقرون الغابرة كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، نلقيه إليك تسلية لقلبك، وإذهابا لحزنك إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك من شدائد الأهوال، وتذكيرا للمستبصرين فى دينهم، وتأكيدا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم.
الإيضاح
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) يخاطب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على هذا الأسلوب الرائع والمسلك البديع- يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت على الأمم الخالية، ليكون له فى ذلك سلوة، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لا قوه من أممهم من شديد العناد والجحود والتكذيب ومكابدة الشدائد والأهوال.
(وقد آتيناك من لدنا ذكرا) أي وقد أعطيناك من لدنا كتابا جديرا بالتذكر به، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعط نبىّ قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاو للأحكام التي فيها صلاح حال البشر فى دينهم ودنياهم، مشتمل على مكارم الأخلاق، وسامى الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم وينبه ذكرها(16/148)
(من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي من كذب به وأعرض عن اتباعه وابتغى الهدى من غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، وسيحمل يوم القيامة من الأوزار والآثام ما لا يقدر على حمله، بل ينقض ظهره، وبمعنى الآية قوله: «ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده» .
وكل من بلغه القرآن من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم فهو نذير له، فمن اتبعه هدى ومن أعرض عنه ضل وشقى فى الدنيا، والنار موعده يوم القيامة كما قال «لانذركم به ومن بلغ» .
(خالدين فيه) أي مقيمين فى ذلك الوزر أي فى عقوبته لا يجدون عنها محيصا ولا انفكاكا.
(وساء لهم يوم القيامة حملا) أي وبئس الحمل الذي حملوه من الأوزار والآثام جزاء إعراضهم وسائر ذنوبهم.
(يوم ينفخ فى الصور) أي هذا اليوم هو يوم ينفخ فى الصور النفخة الثانية إيذانا بالقيام للحشر والحساب.
(ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) أي وفى هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبى الألوان زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التي تحلّ بهم.
(يتخافتون بينهم) أي يخفضون أصواتهم ويهمس بعضهم فى أذن بعض، لما امتلأت به قلوبهم من الرعب والذعر.
وبمعنى الآية قوله تعالى: «فلا تسمع إلا همسا» .
(إن لبثتم إلا عشرا) أي يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم فى الدنيا إلا عشرة أيام، ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم فى الدنيا، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل.
والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء، وأكثرها خطورا بباله.(16/149)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
(نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) أي نحن أعلم بالذي يقولونه فى مدة لبثهم، لا هم، حين يقول أعدلهم رأيا وأكملهم عقلا: ما لبثتم إلا يوما واحدا.
ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها، وتعاقبت لياليها وأيامها- قصيرة المدى إذا قيست بالنظر إلى يوم القيامة وكأن غرضهم بذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر الأجل على نحو ما جاء فى قوله: «ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» وقوله «قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين» .
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 112]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
تفسير المفردات
ينسفها: أي يجعلها ذرات صغيرة ثم يصيرها هباء منثورا، يذرها: أي يتركها، القاع: الأرض التي لا بناء فيها ولا نبات قاله ابن الأعرابى، والصفصف:(16/150)
الأرض الملساء، والعوج: الانخفاض، والأمت: النتوء اليسير يقال مد حبله حتى ما فيه أمت، والداعي: هو داعى الله إلى المحشر لا عوج له: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس، بل ليسمع الجميع، خشعت: ذلت، والهمس: الصوت الخفىّ، وعنت: خضعت وانقادت، ومن ذلك العاني: وهو الأسير، والقيوم: القائم بتدبير أمور عباده ومجازاة كل نفس بما كسبت، خاب: أي خسر، والظلم الأول: الشرك.
والظلم الثاني: منع الثواب عن المستحق، والهضم: النقص.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه حال يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال التي تجعل المجرمين يتخافتون فى حديثهم وينسون مقدار لبثهم فى الدنيا، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان إلى نحو أولئك مما سلف- قفى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر- عن الجبال وأحوالها فى ذلك اليوم ثم الإجابة عنه، وضم إلى الجواب أمورا أخر تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله، فبين أن الأرض فى ذلك اليوم تكون مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي، ولا يسمع لهم كلام إلا همس، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إلا إذا أذن لهم الرحمن ورضى للمشفوع له قولا، ثم ذكر أن الله هو العليم بما أصابوا من خير أو شر، وهم لا يحيطون به علما، وفى ذلك اليوم تذل الوجوه وتخضع للواحد الديان، وقد خسر حينئذ من ظلم نفسه، فأشرك مع الله غيره، وعبد معه سواه، وعصى أوامره ونواهيه.
أما المتقون فإنهم لا يظلمون، فلا يزاد فى سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت الآية (ويسئلونك عن الجبال) إلخ.
ولا شك أن سؤالهم هذا سؤال تهكم واستهزاء وطعن فى الحشر والنشر، لا سؤال معرفة للحق وتثبيت له.(16/151)
الإيضاح
(ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن الجبال كيف تكون يوم القيامة؟ فقل مجيبا لهم يدكّها ربى دكا، ويصيّرها هباء تذروه الرياح.
(فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أي فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية، لا نبات فيها ولا بناء، ولا ارتفاع ولا انخفاض.
وخلاصة هذا- لا ترى فى الأرض يومئذ واديا ولا رابية، ولا مكانا مرتفعا ولا منخفضا.
(يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له) أي يوم يرى الناس هذه الأهوال يتبعون صوت داعى الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف، ولكنهم سراعا إليه يقبلون، إذا أمروا بشىء قالوا لبّيك، ونحن بين يديك، والأمر منك وإليك كما قال: «مهطعين إلى الداع» وقال: «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا» .
(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) أي وعلمت الخلائق أن لا مالك لهم سواه، ولا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس الذي لا يكاد يفهم إلا بتحريك الشفتين لضعفه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه، ويضعف صوته، ويختلط قوله، ويطول غمه، قاله أبو مسلم.
(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا) أي يومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضى له قولا صدر منه.
والفاسق قد قال قولا يرضاه الرحمن فقد قال لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس.
والخلاصة- إن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين:
(1) إذن الله للشافع بالشفاعة.(16/152)
(2) رضا الله عن قول صدر من المشفوع له، ليأذن بشفاعة الشافع له.
وقصارى ذلك- إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن فى أن يشفع له، وكان له قول يرضى.
وبمعنى الآية قوله تعالى: «من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه» وقوله «وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى» وقوله: «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون» وقوله: «يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا» .
ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك بقوله:
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) أي يعلم ما بين أيدى عباده من شؤون الدنيا، وما خلفهم من أمور الآخرة، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله.
ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها فقال:
(وعنت الوجوه للحى القيوم) أي واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القائم على خلقه بتدبير شؤونهم، وتصريف أمورهم.
وخص الوجوه بالذكر، لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، ولأن آثار الذل والغبطة والسرور تظهر عليها.
(وقد خاب من حمل ظلما) أي وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، أو تارك لأوامره، منغمس فى معاصيه.
وبعد أن ذكر أهوال يوم القيامة بين حال المؤمنين حينئذ فقال:
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) أي ومن يعمل صالح الأعمال على قدر طاقته، وهو مؤمن بربه ورسله، وما أنزله عليهم من كتبه فلا يخاف من الله ظلما بأن يحمل عليه سيئات غيره وأوزاره، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها، ونحو الآية قوله: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» .(16/153)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
وخلاصة ذلك- إنه لا يؤاخذ العبد بذنب لم يعمله، ولا تبطل له حسنة قد عملها.
[سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
تفسير المفردات
صرّفنا: كررنا وفصلنا، ذكرا: أي عظة وعبرة، فتعالى الله: أي تنزه وتقدس الحق: أي الثابت فى ذاته وصفاته، يقضى إليك وحيه: أي يتم جبريل تبليغه لك.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أنه كما أنزل الآيات المشتملة على الوعيد المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها- أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد قرآنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم البديع، والأسلوب العجيب الخارج عن طوق البشر، ثم بين عز اسمه نفع هذا القرآن لعباده، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان فى أمر الوحى.
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل إياه مخافة النسيان، فنهى عن ذلك وقيل له: لا تعجل به إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون، وادع ربك أن يزيدك فهما وعلما.(16/154)
الإيضاح
(وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) أي وكما أنزلنا ما ذكر من الوعد والوعيد وأحوال يوم القيامة وأهوالها- أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربى مبين، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم، ويتفقهوا بدراسته، ويسعدوا بالعمل بما حواه مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم.
(وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) أي وخوفناهم فيه بضروب من الوعيد، كى يجتنبوا الشرك والوقوع فى المعاصي والآثام، أو يحدث لهم عظة تدعوهم إلى فعل الطاعات.
وخلاصة ذلك- إنهم بدراستهم إما أن يصلوا إلى مرتبة هى ترك المعاصي والوقوع فى الآثام، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هى فوق ذلك، وهى أن يفعلوا الطاعات ويؤدوا الفرائض والواجبات.
وبعد أن عظم الله كتابه أردفه بتعظيم نفسه فقال:
(فتعالى الله الملك الحق) أي تقدس الله المتصرف بالأمر والنهى، الحقيق بأن يرجى وعده، ويخشى وعيده، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يتغير- من ألا يكون إنزال القرآن على من أنزل عليهم مؤديا إلى الغاية التي أنزل لأجلها وهى تركهم للمعاصى وفعلهم للطاعات.
ولا يخفى ما فى هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن وبيان أن قوارعه وزواجره سياسات إلهية، فيها صلاح الدارين، لا يحيد عنها إلا من خذله الله، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله، لا يحوم الباطل حول حماه، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره.
(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي ولا تعجل بقراءته فى نفسك من قبل أن يتم جبريل تبليغه لك، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى(16/155)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
عليه جبريل القرآن يتبعه حين يتلفظ بكل حرف وكل كلمة خوفا أن يصدر عليه الصلاة والسلام ولم يحفظه، فنهى عن ذلك، إذ ربما يشغله التلفظ بالكلمة عن سماع ما بعدها:
وفى هذا أنزل قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه» .
وخلاصة ذلك- أنصت حين نزول الوحى بالقرآن عليك، حتى إذا فرغ الملك من قراءته، اقرأه بعده.
(وقل رب زدنى علما) أي سل الله زيادة فى العلم دون استعجال بتلاوة الوحى، فإن ما أوحى إليك يبقى لا محالة،
روى الترمذي عن أبى هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعنى، وزدنى علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار»
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدنى إيمانا وفقها، ويقينا وعلما.
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)(16/156)
تفسير المفردات
العهد: الوصية يقال عهد إليه الملك بكذا وتقدم إليه بكذا: إذا أمره وأوصاه به، من قبل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين، فنسى: أي فترك، ولم نجدله: أي ولم نعلم، والعزم على الشيء: تصميم الرأى والثبات عليه، أبى أي امتنع، فتشقى:
أي تتعب بمتاعب الدنيا وهى لا تكاد تحصى، تظمأ: تعطش، تضحى، أي تصيبك الشمس يقال ضحا كسعى وضحى كرضى: إذا أصابته الشمس بحرها اللافح، شجرة الخلد: أي الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان خلد ولم يمت، لا يبلى: أي لا يفنى، طفقا يخصفان أي شرعا يلزقان ورق التين على سوءاتهما لسترها، غوى: أي ضل عن الرشد حيث اغترّ بقول عدوه، اصطفاه وقربه إليه، وهدى: أي إلى الثبات على التوبة، عن ذكرى: أي عن الهداية بكتبي السماوية، والضنك: الضيق الشديد، أعمى:
أي عن النظر فى الحجج والبراهين الإلهية، عن آياتنا: أي عن أدلتنا، فنسيتها: أي فتركتها، وتنسى: أي تترك، أسرف: أي انهمك فى الشهوات واسترسل فيها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه صرّف الوعيد فى القرآن وكرره لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا- قفىّ على هذا ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم(16/157)
إلى الوعيد ونسى العهد، فمخالفتهم قديمة، وعرقهم فيها راسخ ثم فصل عهده لآدم وبين كيف نسيه وفقد العزم، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم وتحذيره من الخروج من الجنة إذا هو اتبع نصائحه، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه وقبل إرشاده، فأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته، ثم بين أن من جاءه الهدى من ربه واتبعه عاش فى الدنيا قرير العين هادىء البال، ويؤتى فى الآخرة ما شاء الله أن يؤتى من ألوان النعيم والسعادة، ومن أعرض عن ذلك عاش فى الدنيا عيشة ضنكا، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها، ومن ثمّ يغلب عليه الشح والبخل، ويفعل كل منكر فى سبيل جمع المال من أي وجه كان، ولا يبالى أمن حلال كان أم من حرام؟ ولذلك تراهم يقولون (الغاية تبرر الواسطة) . أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا فإنه فى سرور وراحة قلّ ماله أو كثر.
وهو فى الآخرة يكون أعمى عن الحجة التي تنقذه من ذلك الخزي الدائم، والعذاب المقيم.
ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك وهو إعراضه فى الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير فى جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازى الله المسرفين المكذبين بآياته فى الدنيا والآخرة جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام كما قال سبحانه: «لهم عذاب فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق» .
الإيضاح
(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) أي ولقد وصينا آدم وقلنا له:
إن إبليس عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه،(16/158)
وخالف أمرى، وترك العهد الذي أمرته، به ولم يهتم بالعمل به، ولم نجد له ثباتا فى الرأى ولا تصميما فى العزيمه.
وخلاصة ذلك- إنه ترك ما وصّى به من الاحتراس من الأكل من الشجرة.
ثم بين سبحانه ما عهد إليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) أي واذكر أيها الرسول الكريم ما وقع فى ذلك الحين منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلبّوا الأمر إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين.
وقد تقدم هذا القصص فى سورة البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف، وسيأتى ذكره فى سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتشريفه، وتفضيله على كثير ممن خلق.
(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) أي فقلنا له عقب ذلك رعاية لإرشاده ونصحه: إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت- عدوّ لك ولزوجك، ومن ثم لم يسجد لك وخالف أمرى وعصانى، فلا تطيعاه فيما يأمر كما به.
(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعبا بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى.
وخلاصة ذلك- إياك أن تسعى فى إخراجك منها فتتعب وتشقى فى طلب رزقك، وأنت هاهنا فى عيش رغد هنىء بلا كلفة ولا مشقة.
ثم علل ما يوجبه النهى عن ذلك فقال:
(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) أي لا يكون لك فى الجنة جوع ولا عرى، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس.
وقرن بين الجوع والعرى أوّلا، لأن فى الجوع ذل الباطن وفى العرى ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش وحر الظاهر وهو الضّحى ثانيا.(16/159)
وخلاصة ذلك- إن الجنة اجتمعت فيها الأسباب التي توجب راحة الإنسان، وذلك مما يوجب الاهتمام بتحصيل الوسائل التي توجب البقاء فيها، والابتعاد عما يدعو إلى الخروج منها.
وقصارى ذلك- إن لك فيها تمتعا بأنواع المعاش، وتنعما بأصناف النعم، من المآكل الشهية، والملابس البهية.
وبعد أن بين أنه عظم آدم وعرفه شدة عداوة إبليس له بين أنه قبل نصحه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها فقال:
(فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟) أي فألقى الشيطان النصيحة إلى آدم وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا ينقضى ولا يفنى.
(فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورة عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما.
(وعصى آدم ربه فغوى) أي وخالف أمر ربه، وتعدى ما لم يكن له أن يتعدى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
(ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجه: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» .
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) أي قال الرب الذي انتهكت حرمة داره وخولف أمره. انزلا من الجنة إلى الأرض، أنتما عدو لإبليس وذريته، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما.
(فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) أي فإن يأتكم(16/160)
يا آدم وحواء وذريتهما بيان لسبيلى وما أختاره لخلقى من دين بإرسال الرسل والكتب فمن اتبع ذلك وعمل به ولم يزغ عنه فإنى أهديه فى الدنيا وأرشده إلى محجة الصواب ولا يشقى فى الآخرة.
أخرج ابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: «أجار الله تابع القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة، ثم قرأ الآية»
وروى عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة فى الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» .
(ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) أي ومن أعرض عن ذكرى الذي أذكّره به وتولى عنه، ولم يتعظ به فينزجر عما هو مقيم عليه من مخالفة أمر ربه، فإن له معيشة ضيقة شديدة لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا والتهالك على ازديادها والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبا عليه، والبخل راسخا فى أعراقه:
(ونحشره يوم القيامة أعمى) عن الجنة، لأن الجهالة التي كانت له فى الدنيا تبقى كذلك فى الآخرة، وهذا يصير سببا لأعظم الآلام الروحية له:
وقصارى ذلك- إن الله عز اسمه جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه العيش الهنيء الذي لا همّ فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو فى الآخرة أشد تعبا، وأعظم ضيقا، وأكثر ألما:
(قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا؟) أي قال رب لم حشرتنى أعمى عن حجتى وعن رؤية الأشياء على حقيتها، وقد كنت فى الدنيا ذا بصر بذلك كله؟، ونحو الآية: «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» :
(قال) ربه مجيبا هذا السائل:
(كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) أي فكما تركت آياتنا ترك للنسى الذي لا يذكر أصلا وأعرضت عنها- اليوم ننساك فنتركك فى النار.(16/161)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
(وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) أي وهكذا نعاقب من أسرف، فعصى ربه ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكا.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادى قلّ أو كثر لا يتقينى فيه فلا خير فيه وهو الضنك فى المعيشة.
وعن عكرمة ومالك بن دينار نحوه، وقيل إن تلك المعيشة له فى القبر بأن يعذّب فيه، وقد روى ذلك عن جماعة منهم ابن مسعود وأبو سعيد الخدرىّ ومجاهد، وروى ذلك مرفوعا أيضا
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن حبّان وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «المؤمن فى قبره فى روضة خضراء، ويرحب له قبره سبعين ذراعا، ويضىء حتى يكون كالقمر ليلة البدر، وهل تدرون فيم أنزلت (فإن له معيشة ضنكا) ؟ قالوا: الله ورسوله اعلم، قال عذاب الكافر فى قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رءوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون فى جسمه إلى يوم يبعثون» .
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك فى النار شوك وزقّوم وغسلين وضريع، وليس فى القبر ولا فى الدنيا معيشة، وما المعيشة والحياة إلا فى الآخرة.
(ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) أي ولعذاب الآخرة فى النار أشد مما نعذبهم به فى الدنيا وأكثر بقاء، لأنه لا أمد له ولا نهاية.
[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 132]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)(16/162)
تفسير المفردات
أفلم يهد لهم: أي أفلم يبيّن لهم العبر، لأولى النهى: أي لذوى العقول الراجحة لزاما: أي لازما لهم لا يتأخر عنهم، فسبح بحمد ربك: أي اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه آناء الليل: ساعاته واحدها إنى وإنو (بكسر الهمزة وسكون النون) ولا تمدن عينيك:
أي لا تطيلن النظر رغبة واستحسانا، متعنا: أي جعلناهم يتلذذون بما يدركون من المناظر الحسنة، ويسمعون من الأصوات المطربة، ويشمّون من الروائح الطيبة، أزواجا: أي أشكالا وأشباها، زهرة الحياة الدنيا: أي زينتها وبهجتها، لنفتنهم: أي لنبتليهم ونختبرهم، ورزق ربك: أي ما ادّخره لك، واصطبر عليها: أي دم عليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال من أعرض عن ذكر الله فى الآخرة بقوله: ونحشره يوم القيامة أعمى- أتبعه بما يكون عبرة للمشركين لو تفكروا فيه، وهو ما نزل بالمكذبين بالرسل ممن قبلهم من الأمم الذين يمرون بديارهم بكرة وعشيا كقوم عاد وثمود، وكيف أصبحت ديارهم خرابا بلقعا ليس فيها ديّار ولا نافخ نار، ثم بين أنه لولا سبق الكلمة بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى لحاق بهم مثل ما حاق بمن قبلهم، ثم أمر رسوله بالصبر على ما يسمونه به من نحو قولهم: إنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مجنون وعدم المبالاة بمقالتهم، وعليه أن يكثر من التسبيح وعبادة ربه آناء الليل وأطراف النهار ولا يلتفت إلى شىء مما متّع به الكفار من زهرة الدنيا التي أوتيت(16/163)
لهم لتكون ابتلاء واختبارا، وما عند الله خير منها وأبقى، ثم طلب إليه أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وهو لا يكلفه رزقا لنفسه ولا لغيره، فالله يرزقه من واسع فضله، وعظيم عطائه، والعاقبة لمن اتقى: «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض» .
الإيضاح
(أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم؟) أي أفلم يرشدهم إلى وجه العبر، إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية، والقرون الغابرة، التي يمرون عليها مصبحين وبالليل كعاد وثمود الذين يشاهدون آثارهم العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعيم ثم ما حلّ بهم من صنوف البلاء، فيتعظوا ويعتبروا ويؤمنوا بالله ورسوله خوف أن يصيبهم بكفرهم مثل ما أصاب هؤلاء السابقين.
وللمشاهدة من العبرة ما ليس لغيرها فقد قالوا «ليس الخبر كالخبر» وقالوا:
«ما راء كمن سمع» .
وخلاصة ذلك- إن فى مشاهدة ما حصل للأمم الماضية، ورؤية آثارها البائدة التي يمرون عليها فى رحلاتهم فى الصيف لعبرة وزاجرا لهم لو كانوا يعقلون.
ثم علل هذا الزجر والإنكار بقوله:
(إن فى ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذبة لرسلنا وحلول المثلات بهم لكفرهم بربهم- لعبرا وعظات لأرباب الحجا الدين ينهاهم دينهم، ويؤنّهم عقلهم، من مواقعة ما يضرهم.
ولما هدد المشركين بالهلاك كهلاك المكذبين من الماضين، ذكر سبب تأخير ذلك عنهم فقال:
(ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) أي ولولا الكلمة النافذة التي سبقت منا فى الأزل، وهى أن أمة محمد- وإن كذبوا- سيؤخر عذابهم(16/164)
ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من عذاب الاستئصال، كما قال: «بل الساعة موعدهم» لعجّل لهم العذاب كفاء ما قاموا به من تكذيب الرسول وإيذائه.
وقد جعل العلماء من الحكمة فى تأخير العذاب أنه ربما تاب بعضهم أو خرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، فيكون فى ذلك إكرام لنبيّه، ورحمة لأمته، وتكثير لسواد أتباعه، وإلى ذلك
أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» .
وبعد أن أخبر سبحانه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله- أمره بالصبر على ما يقولون فقال:
(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار) أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من نحو قولهم: إنك لساحر، وإنك لمجنون، وإنك لشاعر، واشتغل بتنزيه الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفى ساعات الليل المختلفة وفى أطراف النهار، والمراد من مثل ذلك عموم الأوقات،
وفى صحيح مسلم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» .
وفى الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وقرأ هذه الآية» .
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى يا بن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» .
وعن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» .(16/165)
(لعلك ترضى) أي سبحه رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب ونحو الآية قوله تعالى: «ولسوف يعطيك ربك فترضى»
وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول هل رضيتم؟ فيقولون ربنا ومالنا لا ترضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول إنى أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأىّ شىء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
ولما صبّر رسوله على ما يقولون وأمره بالتسبيح- أتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متّعوا به من زينة الدنيا فقال:
(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) أي ولا تطل النظر استحسانا ورغبة فيما متّع به هؤلاء المترفون من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، نختبرهم بها، ونعلم هل يؤدون شكرها أو تكون وبالا عليهم ونكالا لهم، وقد آتاك ربك خيرا مما آتاهم، فرضاه خير وأبقى كما قال: «ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم» .
وخلاصة هذا- التنفير من الانهماك فى التمتع بزهرة الدنيا لسوء عاقبتها.
وبعد أن أمر الله نبيه بتزكية النفس أمره أن يأمر أهله بالصلاة فقال:
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) أي وأمر أهلك أيها الرسول بالصلاة، وحافظ أنت عليها فعلا، فإن الوعظ بالفعل أشد أثرا منه بالقول كما قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلّا لنفسك كان ذا التعليم(16/166)
وإنا إنما نريد منك ومنهم العبادة والتقوى، ولا نطلب منك رزقا كما تطلب السادة من عبيدهم الخراج- والعاقبة الجميلة لمن اتقى الله وأطاعه، فإن ما عندهم ينقطع، وما عند الله دائم لا يفنى كما قال: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق» .
والخلاصة- داوم على الصلاة، لا نكلفك مالا، بل نكلفك عملا نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا، ونحن نعطيك المال ونكسبكه ولا نسألكه، والعاقبة الصالحة لأهل الخشية والتقوى، لا لمن لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا كما قال: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» وقال: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» .
عن أبى رافع قال: «نزل ضيف برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن عنده ما يصلحه فأرسلنى إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب، فقال لا إلا برهن، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال أما والله إنى لأمين فى السماء أمين فى الأرض، ولئن أسلفنى أو باعني لأدّيت إليه، اذهب بدرعي الحديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية كأنه يعزيه عن الدنيا» أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبى شيبة فى جماعة آخرين.
وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو نعيم فى الحلية عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا: وأمر أهلك بالصلاة.
وأخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية.(16/167)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
تفسير المفردات
لولا: أي هلا وهى كلمة تفيد الحث على حدوث ما بعدها، آية: أي معجزة تدل على صدقه، البينة: القرآن، والصحف الأولى: التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، نذل: أي نهان، ونخزى: أي نفتضح، متربص: أي منتظر، الصراط:
الطريق، والسوىّ: أي المستقيم.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه رسوله بالصبر على أقاويلهم التي أرادوا بها تكذيبه وكيده له وشديد أذاه- حكى بعض تلك الأقاويل الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم أبان لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بينة، فلو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا، ومن ثم لم نهلكهم قبله حتى تنقطع معذرتهم كما حكى الله عنهم من قوله:
«قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء» .
ثم ختم السورة بضرب من الوعيد وكأنه قال: قل لهم كل منا ومنكم منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم، وحينئذ يتميز المحق من المبطل بما يظهر على الأول من أنواع(16/168)
الكرامة والتعظيم، وعلى الثاني من ضروب الخزي والإهانة، ويظهر من منّا سار على الطريق السوي ومن المهتدى؟.
الإيضاح
(وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) أي وقال المشركون: هلا يأتينا بمعجزة تدل على صدقه فى دعوى النبوة كما أتى صالح قومه بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه، وهم بذلك قد بلغوا فى العناد والمكابرة شأوا بعيدا، أفلا يعدّون ما شاهدوه من المعجزات التي تخر لها صمّ الجبال من قبيل الآيات حتى يجترئوا على التفوه بهذه الكلمة الشنعاء؟
ونحو الآية قوله فى سورة العنكبوت: «وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، إن فى ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون» وقوله:
«فلياتنا بآية كما أرسل الأولون» .
(أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الأولى؟) أي ألم يأتهم القرآن وهو أم الآيات وأنفع المعجزات، فالعلم هو أجلّ الأمور وأعلاها، وهو مبدأ الأمور ومنتهاها، فبه تنال السعادة الأبدية، فأى معجزة تطلب بعده، وهو الذي جمع ما فيه مصلحة البشر، وصلاح المجتمع، فى معاشه ومعاده، وهو الشاهد على حقية ما فى الكتب قبله وما جاء فيها من العقائد وأصول الأحكام التي اتفقت عليها الرسل كافة.
وخلاصة ذلك- أليس قد جاءهم القرآن وهو البينة والشاهد على صحة ما فى الكتب الأولى، وكفى بذلك آية، ولا حاجة للرسول بعدها إلى آية.(16/169)
ثم بين أن المشركين يوم القيامة يعترفون بأن القرآن آية بينة، فقال:
(ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) أي ولو أنا أهلكناهم فى الدنيا بعذاب الاستئصال من قبل إتيان البينة وهى القرآن لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا فى الدنيا رسولا معه الآيات الدالة على صدقه، فنتبع حججك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك من قبل أن نذل بتعذيبك ونفتضح به.
والخلاصة- إنا لو أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم الكتاب العظيم- لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، لكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم.
(قل كل متربص فتربصوا، فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين بالله: كلنا منتظر لمن يكون الفلاح؟
وإلام يئول أمرى وأمركم؟ فتربصوا وارتقبوا فستعلمون من أهل الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه إذا جاء أمر الله وقامت القيامة؟ أنحن أم أنتم؟ وستعلمون من المهتدى الذي هو على سنن الطريق القاصد؟.
ونحو الآية قوله: «وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا؟» .
وقوله: «سيعلمون غدا من الكذاب الأشر» .
وغير خاف ما فى بدء السورة وخاتمتها من المناسبة، فإنها بدئت ببيان أن القرآن قد أنزل لتحمل تعب الإبلاغ، وحيث قد بلغت فلا عليك، وختمت بطلب الإقبال على طاعة الله قدر الطاقة وأمر أهله بالصلاة وترك الذين لا ينجع فيهم الإنذار، فإنه تذكرة لمن يخشى، وسيندم المخالف حيث لا ينفع الندم.(16/170)
خلاصة لما تضمنتة السورة الكريمة
(1) إن القرآن أنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم تذكرة لمن يخشى، أنزله من خلق الأرض والسموات العلى.
(2) قصص موسى عليه السلام وتكليمه ربه فى الطور، وحديث العصا واليد البيضاء من غير سوء، وطلبه من ربه أن يجعل له أخاه هرون وزيرا وإجابة سؤاله فى ذلك، وامتنانه عليه بما حدث له حين وضع فى التابوت وألقى فى اليمّ وقصّ أخته ورجوعه إلى أمه، ثم طلب ربه منه أن يبلغ فرعون دعوته وينصح له فى قبول دينه وإقامة شعائره، وإجابة فرعون له بأنه ساحر كذاب، وأنه سيجمع له السحرة ثم إيمان السحرة به فتوعدهم فرعون بالعذاب فلم يأبهوا له، واستمر فرعون فى غيه حتى أوحى الله إلى موسى أن يخرج من مصر فأتبعه هو وجنوده فأغرقوا.
(3) حديث السامري وإضلاله بنى إسرائيل باتخاذه عجلا جسدا له خوار حين كان موسى بالطور، وحين رجع ورأى ذلك هاله الأمر وغضب من أخيه هرون وأخذ يجره من رأسه، ثم إغلاظه القول للسامرى ودعوته عليه بأنه يعيش طريدا فى الحياة وسيعذبه الله فى الآخرة أشد العذاب، ثم نسف إلهه وإلقاؤه فى اليمّ.
(4) بيان أن من أعرض عن القرآن فإنه سيلقى الجزاء والوبال يوم القيامة.
(5) ذكر أوصاف المجرمين حينئذ، وأنهم يختلفون فى مدة لبثهم فى الدنيا.
(6) سؤال المشركين عن حال الجبال يوم القيامة، وأن الأصوات حينئذ تخشع للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وأن الوجوه تخضع لربها القائم بأمرها.
(7) وصف القرآن الكريم بأنه عربى مبين أنزل تذكرة للناس، وأن الله سيعصم رسوله من نسيانه، فلا ينبغى أن يعجل بتلاوته قبل أن يتم تبليغ جبريل له.
(8) قصص آدم عليه السلام مع إبليس، وترك آدم للعهد الذي وصاه به ربه وقبول نصيحة إبليس مما كان سببا فى إخراجه من الجنة.(16/171)
(9) بيان أن من أعرض عن ذكر ربه عاش فى الدنيا عيشة ضنكا وعمى فى الآخرة عن الحجة التي تنقذه من العذاب، لأنه قد كان فى الدنيا أعمى عنها تاركا لها فتركه ربه من إنعامه.
(10) بيان أن فى المثلات التي سلفت للأمم قبلهم ممن يمرون على ديارهم مصبحين وبالليل كعاد وثمود- ما كان ينبغى أن يكون رادعا لهم وزاجرا لو تدبروا وعقلوا.
(11) إن كلمة الله قد سبقت بأنه سيؤخر عذاب المشركين إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة.
(12) طلبه من رسوله تنزيهه والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار رجاء أن يعطيه ما يرضيه.
(13) أمر رسوله أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر هو عليها وهى لا تكون شاغلا لهم عن الرزق.
(14) طلب المشركين من الرسول أن يأتيهم بآية من نوع ما أوتى الرسل الأولون (15) إن إنزال القرآن على رسوله ليزيح العلة ويمنع المعذرة يوم القيامة، فلا يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولا وأتيتنا بكتاب نتبعه.
(16) وعيد المشركين بأنهم يتربصون، وسيعلمون يوم القيامة لمن يكون حسن العاقبة؟.
ربنا إنك رءوف بعبادك رحيم بهم، ربنا اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل ربنا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمت مسودّة هذا الجزء فى صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.(16/172)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 فى الحديث «رحمة الله علينا وعلى موسى» 7 إذا تعارض ضرران وجب تحمل الأدنى 8 «لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» 9 لذكر قصص الخضر فى القرآن فوائد 13 يأجوج ومأجوج 15 سد ذى القرنين 19 سبب خروج جنكيزخان 22 فى الحديث «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه» 26 ما أثبته العلم الحديث فى عمر الأرض 28 الشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة 34 دعاء زكريا ربه 35 إجابة الله دعاءه 37 علامة إجابة الدعاء 39 ما وصف الله به يحيى 42 الاستعاذة لا تؤثر إلا فى التقى 45 السعى فى الرزق لا ينافى التوكل 47 من هارون الذي نسبت إليه مريم؟
48 ما وصف به عيسى نفسه(16/173)
الصفحة المبحث 49 اليهود والنصارى ينكرون تكلم عيسى فى المهد 52 قوة سمع الكفار وحدة أبصارهم يوم القيامة 55 الحوار الذي دار بين إبراهيم وأبيه آزر 59 قد اجتمعت لإبراهيم خلال لم نجتمع لغيره 61 قصص إسماعيل 63 قصص إدريس- ما وصفه الله به 65 ما جازى به سبحانه أولئك الأنبياء 68 «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» 68 أوصاف الجنة 70 احتبس جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أياما 71 لا تتنزل الملائكة بالوحى إلا بأمر الله 73 جميع الخلائق ترد على النار 74 تهديد منكرى البعث 75 ينجّى الله المتقين، ويترك الكافرين جاثين على الركب 78 سنة الله أن يستدرج أهل الضلال ليزدادوا إثما 79 الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا 80 قال الكافر لأعطينّ مالا وولدا يوم القيامة 82 اتخذ المشركون آلهة يعبدونهم ويجعلونهم شفعاء عند ربهم 83 الشياطين يغرون الكافرين بالمعاصي 84 يحشر المتقون ركبانا والكافرون مشاة 86 قال الكافرون اتخذ الرحمن ولدا 87 يأتى المرء يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والإخوان 88 فى الحديث «اللهم اجعل لى عهدا، واجعل لى فى صدور المؤمنين ودا» .(16/174)
الصفحة المبحث 94 أصح الآراء فى الحروف المقطعة التي فى أوائل السور 95 القرآن تذكرة لمن يخشى الله 98 ما حدث لموسى وهو عائد إلى مصر 100 أمر موسى بإقامة الصلاة 102 صفات العصا 104 اليد البيضاء 105 أمر موسى بدعوة فرعون إلى التوحيد 106 ما طلبه موسى من ربه 107 اختص هارون بأمور 109 منن الله على موسى وهارون 113 تبليغ موسى وهارون الرسالة إلى فرعون 119 الدلائل التي أتى بها موسى لفرعون 120 العناد الذي أظهره فرعون بعد أن أظهر له موسى الأدلة 122 ما أعده فرعون ليوم الزينة 125 خلاصة ما استقر رأى السحرة عليه بعد التشاور 125 ما ذكره السحرة لدفع هذا الخطر 127 تخيير موسى بين أن يلقى أو يلقى السحرة 128 ما عشا به السحرة عصيهم 129 لا يفلح الساحر حيث أتى 130 ما قاله فرعون للسحرة مهددا لهم 132 أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة 133 «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر»(16/175)
الصفحة المبحث 135 نعمة الله على بنى إسرائيل 139 أضل السامري قومه بنى إسرائيل 142 عتاب موسى لهارون على سكوته على بنى إسرائيل 144 كان موسى رجلا حديدا مجبولا على التصلب فى كل شىء 145 مقالة موسى للسامرى ورده عليه 146 خاف السامري وهرب إلى البرية 148 فى قصص الأنبياء الماضين عبرة وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم 149 يحشر المجرمون زرق الوجوه شاحبى الألوان 151 قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم ما يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟
152 الشفاعة لا تنفع إلا بشروط 153 تستسلم الخلائق للحى الذي لا يموت 154 نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العجلة بالقرآن قبل أن يستتم الوحى 156 كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم انفعني بما علمتنى إلخ 159 نصح آدم وإرشاده 160 وسوسة إبليس لآدم 161 من اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقى 164 فى إهلاك من قبلهم من الأمم عبرة لهم 165 رؤية الله سبحانه يوم القيامة 169 طلب المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم آية كآيات موسى وعيسى 170 لا يعذب الله أمة إلا إذا أرسل إليها رسولا(16/176)
الجزء السابع عشر
سورة الأنبياء
هى مكية وآيها اثنتا عشرة ومائة.
أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: «بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى» .
وعن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم مثواه، وكلّم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه الرجل فقال: إنى استقطعت رسول الله واديا ما فى ديار العرب واد أفضل، وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لى فى قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا، يريد هذه السورة.
ومناسبتها لما قبلها.
أن السورة السالفة ختمت بأن الناس قد شغلتهم زهرة الدنيا التي جعلها الله لهم فتنة، وأن الله نهى رسوله أن يتطلع إليها، وأمره بالصلاة والصبر عليها، وأن العاقبة للمتقين- وبدئت هذه السورة بمثل ما ختمت به السالفة، فذكر فيها أن الناس غافلون عن الساعة والحساب، وأنهم إذا سمعوا القرآن استمعوه وهم لاعبون، وقلوبهم لاهية عنه.(17/3)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
تفسير المفردات
اقترب وقرب بمعنى، والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه: وهو مجىء الساعة، والناس: هم المكلفون، معرضون: أي عن التأهب لهذا اليوم، من ذكر:
أي قرآن، محدث: أي جديد إنزاله، يلعبون: أي يسخرون ويستهزئون، لاهية قلوبهم:
أي غافلة قلوبهم عن ذكر الله، النجوى: التناجي، والمراد أنهم أخفوا تناجيهم ولم يتناجوا بمرأى من غيرهم، أضغاث أحلام: أي تخاليط أحلام رآها فى النوم، افتراه:
اختلقه من تلقاء نفسه، بل: كلمة تذكر للانتقال من غرض إلى آخر، ولا تذكر فى القرآن إلا على هذا الوجه كما قال ابن مالك وسبقه إليه صاحب الوسيط ووافقه ابن الحاجب وهو الحق.(17/4)
الإيضاح
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) أي دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها فى دنياهم، وعلى النعم التي أنعمها عليهم ربهم فى أجسامهم وعقولهم ومطاعمهم ومشاربهم، ماذا عملوا فيها؟ هل أطاعوه فيها فانتهوا إلى أمره ونهيه؟
أو عصوه فخالفوا أمره فيها، وهم فى هذه الحياة فى غفلة عما يفعل الله بهم يوم القيامة، ومن ثم تركوا الفكر والاستعداد لهذا اليوم والتأهب له، جهلا منهم بما هم لاقوه حينئذ من عظيم البلاء وشديد الأهوال وآثر بيان اقتراب هذا اليوم مع أن الكلام مع المشركين المنكرين للبعث، للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه، وأن الذي يرجى بيانه ذكر ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب على وجه أكيد ونهج سديد.
وخلاصة ذلك- أنه قد دنا وقت الساعة وهم غافلون عن حسابهم، ساهون لا يتفكرون فى عاقبتهم، مع أن قضية العقل تقضى بجزاء المحسن والمسيء، وإذا هم نبّهوا من غفلتهم بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا، وسدوا أسماعهم عن سماعه.
ثم ذكر ما يدل على غفلتهم وإعراضهم بقوله:
(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي ما ينزل الله من قرآن ويذكّرهم به إلا استمعوه وهم لاهون لاعبون مستهزئون.
والخلاصة- إنه ما جدد لهم الذكر وقتا فوقتا، وكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، إلا زادهم ذلك سخرية واستهزاء.
وفى هذا ذم لأولئك الكفار وزجر لغيرهم عن مثله، فالانتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإلا حصل مجرد الاستماع الذي تشارك البهيمة فيه الإنسان(17/5)
وبعد أن ذكر ما يظهرونه حين الاستماع من اللهو واللعب، ذكر ما يخفونه بقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وأسرّ هؤلاء الذين اقتربت الساعة منهم وهم فى غفلتهم معرضون- التناجي بينهم وأخفوه عن سواهم.
ثم بين ما تناجوا به فقال:
(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟) أي قالوا فى تناجيهم متعجّبين من دعواه النبوة، هل هذا الذي آتاكم بهذا الذكر إلا بشر مثلكم فى خلقه وأخلاقه، يأكل كما تأكلون ويشرب كما تشربون، ويموت كما تموتون، فكيف يختص دونكم بالرسالة؟
(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي ما هذا الذي أتى به مما لا تقدرون عليه إلا سحر لا حقيقة له، فكيف تعلمون ذلك ثم تذعنون له وتتبعونه وتجيبون دعوته؟.
وخلاصة ذلك- إنهم طعنوا فى نبوته بأمرين:
(1) إن الرسول لا يكون إلا ملكا.
(2) إن الذي يظهر على يديه من قبيل السحر.
وإنما أسروا ذلك، لأنه كالتشاور بينهم والتحاور لطلب الطريق الموصل إلى هدم دينه، وقد جرت عادة المتشاورين فى خطب عظيم ألا يشركوا أعداءهم فى مشورتهم، بل يجتهدون فى طىّ سرهم عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا كما جاء فى حكمهم:
«استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» .
فأجابهم عليه السلام عما قالوا:
(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فىّ، فإن ربكم عليم بذلك وإنه معاقبكم عليه، وهو السميع لجميع المسموعات، العليم بجميع المعلومات.
وفى هذا من الوعيد والتهديد ما لا يخفى.
وإنما آثر كلمة (القول) التي تعم السر والجهر دون كلمة (السر) التي تقدمت(17/6)
فى الكلام- للإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة، لا تفاوت فيه بالجلاء والخفاء كما فى علوم العباد.
وخلاصة ذلك- إنه يعلم هذا الضرب من الكلام وأعلى منه وأدنى منه، وفى هذا مبالغة فى علمه تعالى بكل ما يمكن أن يسمع أو يعلم.
ثم بين سبحانه أنهم اقتسموا القول فى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيما يقوله فقال:
(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي إنهم لم يقتصروا على قولهم السابق (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وعلى قولهم فيما ظهر على يديه أنه سحر- بل قال بعضهم: أخلاط أحلام قد رآها فى النوم، وقال آخرون: بل اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله، وقال قوم: بل هو شاعر وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معانى لا حقيقة لها.
وخلاصة ذلك- إنهم ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن، ولا أقروا أنه من عند الله، ولا أنه وحي أوحاه الله إليه، بل قالوا هذه المقالات.
وهذا الاضطراب والتردد فى القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يتردد إلا بين باطل وأبطل منه، ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.
وقد ذكرت هذه المقالات على هذا الوضع، إشارة إلى ترقيها فى الفساد، فإن كونها سحرا أقرب من كونها أضغاث أحلام، فقد يقال: «إن من البيان لسحرا» ، بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط، ولا شبه لها بهذا النظم البديع، وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد، لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق- إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور، وبين ما يساق له الشعر، وما سيق له هذا الكلام، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يتسهل له الشعر وإن أراده.
ولما قد حوا فى القرآن طلبوا آية أخرى غيره فقالوا:
(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي إن كان صادقا فى أن الله بعثه رسولا إلينا، وأن الذي يتلوه وحي أوحاه الله إليه- فليأتنا بحجة تدل على ما يقول ويدّعى كما جاء(17/7)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
به الرسل الأولون من قبله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وناقة صالح وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتى بها إلا الأنبياء والرسل.
وفى التعبير بقولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) بيان كونها آيات مسلمات تثبت الرسالة بمثلها، ويترتب عليها المقصود، وليس لأحد أن ينازع فيها.
ثم كذبهم سبحانه فيما تضمنته خاتمة مقالهم من الوعد بالإيمان حين إتيان الآية المقترحة، وبين أن فى ترك إجابتهم عما طلبوا- إبقاء عليهم فإنهم لو أوتوها ولم يؤمنوا بها لاستؤصلوا بالعذاب كما هى سنة الله فى الأمم السالفة إذا كذبت رسلها بعد إتيانهم بما اقترحوا، ولكن قد سبقت كلمة الله أن مشركى هذه الأمة لا يعذّبون بعذاب الاستئصال فقال:
(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟) أي إن هؤلاء أشد عتوّا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات ووعدوا أنهم يؤمنون حين مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد وخالفوا، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو أعطوا ما اقترحوا لكانوا أشد نكثا، فينزل بهم عذاب الاستئصال، وقد سبقت كلمة ربك أنه سيؤخر عذابهم إلى اليوم المعلوم.
قال قتادة: قال أهل مكة للنبى صلّى الله عليه وسلّم إذا كان ما تقوله حقا ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال بل أستأنى بقومي فأنزل الله «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ» الآية.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)(17/8)
تفسير المفردات
أهل الذكر: هم أهل الكتاب، الجسد: كالجسم إلا أنه لا يقال لغير الإنسان كما قال الخليل بن أحمد، خالدين: أي باقين، الوعد: هو نصرهم وإهلاك أعدائهم، المسرفين: أي الكافرين، ذكركم: أي عظتكم، تعقلون: أي تتدبرون ما فى تضاعيفه من العبر والمواعظ.
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه فيما سلف إنكارهم لأن يكون الرسول بشرا بقولهم «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أجاب عن هذه الشبهة بأن هذه سنة الله فى الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ليس ببدع بينهم، وإن كنتم فى ريب من ذلك فاسألوا أهل الكتاب من قبلكم ثم ذكر أن الرسل كسائر البشر فى سنن الطبيعة البشرية يأكلون الطعام ولا يخلدون فى الأرض، بل يموتون كما يموت سائر الناس، وقد صدقهم الله وعده، فينجّيهم ومن آمن بهم ويهلك المكذبين لهم، وأعقب ذلك بأن فى القرآن عظة لهم لو كانوا يعقلون ما فى تضاعيفه من مواعظ وزواجر، ووعد ووعيد.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي وما أرسلنا قبلك أيها الرسول رسولا إلى أمة من الأمم التي خلت من قبلك إلا رجلا مثلهم نوحى إليه ما نريد من أمرنا ونهينا، لا ملكا نوحى إليه بوساطة الناموس ما نوحى من الشرائع والأحكام والقصص والأخبار، فما بالهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل؟.
وجاء بمعنى الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ من أهل القرى» وقوله: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم: «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» ؟.(17/9)
ثم أمرهم سبحانه أن يسألوا فى ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى تبكيتا لهم وإزالة لما علق بأذهانهم من الاستبعاد بعد أن بين لهم وجه الحق فقال:
(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فاسألوا أهل الكتاب ممن يؤمن بالتوراة والإنجيل- يخبروكم عن ذلك إن كنتم لا تعلمون الحق، ولا يستبين لكم الصواب.
وبعد أن بين أنه صلّى الله عليه وسلم على سنة من مضى من الرسل فى كونه رجلا- بين أنه على سنتهم فى سائر الأوصاف التي حكم بها على البشر فى معيشتهم وموتهم فقال:
(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) أي وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك إلى الأمم الماضية قبل أمتك- جسدا لا يأكلون الطعام: أي لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، بل جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام وتعرض لهم أطوار البشر جميعا من صحة ومرض وسرور وحزن ونوم ويقظة، وما كانوا مخلّدين لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم غبروا حينا من الدهر وهم أحياء ثم طواهم الثرى وضمتهم القبور.
وخلاصة ذلك- إنا جعلنا الرسل أجساما تتغذّى حين الحياة، ثم يصير أمرها إلى الفناء بعد استيفاء آجالها، ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون، وما كانوا مخلدين بأجسادهم، بل يموتون كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن غيرهم من سائر الناس بما يأتيهم عن الله من الوحى والزلفى عنده.
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي إنا أرسلنا رسلا من البشر وصدقناهم وعدنا فنصرناهم على المكذبين وأنجيناهم هم ومن آمن معهم وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بتكذيبهم رسل ربهم.(17/10)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
ونحو الآية قوله: «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» .
وبعد أن حقق رسالته صلّى الله عليه وسلّم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام- شرع يحقق فضل القرآن الكريم ويبين نفعه للناس بعد أن ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واضطرابهم فى شأنه فقال:
(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي ولقد آتيناكم كتابا فيه عظتكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب، وسديد الشرائع والأحكام، مما فيه سعادة البشر فى حياتهم الدنيوية والأخروية.
ثم حثهم على التدبر فى أمر هذا الكتاب فقال:
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون فيما فى تضاعيفه من فنون المواعظ، وقوارع الزواجر، فتحذروا الوقوع فيما يخالف أمره ونهيه، ولا يخفى ما فى هذا من الحث على التدبر، لأن الخوف من لوازم العقل، فمن لم يتدبر فكأنه لا عقل له.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
تفسير المفردات
كم: لفظ يفيد تكثير وقوع ما بعدها، القصم: هو الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها، والإحساس: الإدراك بالحساسة: أي أدركوا بحاسة البصر عذابنا(17/11)
الشديد، والبأس: الشدة، والركض: الفرار والهرب يقال ركض الرجل الفرس برجليه إذا كدّه بساقيه ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» والإتراف: إبطار النعمة يقال أترف فلان أي وسّع عليه فى معاشه وقلّ فيه همه، يا ويلنا: أي يا هلاكنا، دعواهم: أي دعوتهم التي يردّدونها، حصيدا: أي كالزرع المحصود بالمناجل، خامدين: أي كالنار التي خمدت وانطفأت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه سبحانه أهلك المسرفين فى كفرهم بالله، والعاصين لأوامره ونواهيه- بيّن هنا طريق إهلاكهم، وكثرة ما حدث من ذلك فى كثير من الأمم، ثم بين أنه أنشأ بعد الهالكين قوما آخرين، وأنهم حينما أحسّوا بأس الله فروا هاربين، فقيل لهم على ضرب من التهكم والسخرية فلترجعوا إلى ما كنتم فيه من الترف والنعيم وإلى تلك المساكن المشيدة والفرش المنجّدة، فلعلكم تسألون عما جرى عليكم، ونزل بأموالكم ومنازلكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، ثم بعد أن يئسوا من الخلاص وأيقنوا بالعذاب قالوا هلاكا لنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا، مستوجبين العذاب بما قدمنا، وما زالوا يكررون هذه الكلمة ويرددونها، وجعلوها هجّيراهم حتى صاروا كالنبات المحصود والنار الخامدة.
الإيضاح
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي وكثير من أهل القرى أهلكناهم بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله، ثم أنشأنا بعد إهلاكهم أمما أخرى سواهم.
ونحو الآية قوله: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» وقوله: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» .(17/12)
ثم بين حالهم حين حلول البأس بهم فقال:
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي فلما أيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما أوعدهم أنبياؤهم- إذا هم يهربون سراعا عجلين يعدون منهزمين.
والخلاصة- إنهم لما علموا شدة بأسنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا فى ديارهم هاربين من قواهم بعد أن كانوا قد تجبروا على رسلهم وقالوا لهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .
ثم ذكر أنهم فى ذلك الحين ينهون عن الهرب ويقال لهم:
(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي يقال لهم على طريق الاستهزاء والتهكم: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور، والمساكن الطيبة، والفرش المنجّدة الوثيرة، لعلكم تقصدون للسؤال عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائلين عما تشاهدون وتعلمون.
ثم حكى عنهم ما أجابوا به القائلين لهم لا تركضوا وارجعوا فقال:
(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي قالوا حين يئسوا من الخلاص إذ نزل بهم بأس الله بظلمهم أنفسهم: هلاكا لنا، لكفرنا بربنا- وهذا منهم اعتراف بالكفر المستتبع للعذاب، وندم عليه حين لا ينفع الندم:
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي فما زالوا يرددون هذه المقالة، ويجعلونها هجّيراهم حتى حصدوا حصدا، وخمدت حركاتهم، وهدأت أصواتهم، ولم ينبسوا ببنت شفة.
وخلاصة هذا- إنهم صاروا يكررون الاعتراف بظلمهم أنفسهم، ولكن لم ينفعهم ذلك كما قال: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» حتى لم يبق لهم حس ولا حركة، وأبيدوا كما يباد الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.(17/13)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 20]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
تفسير المفردات
اللعب: الفعل لا يقصد به مقصد صحيح، واللهو: الفعل يعمل ترويحا عن النفس، ومن ثم تسمى المرأة والولد لهوا لأنه يستروح بكل منهما، ويقال لا مرأة الرجل وولده ريحانتاه، من لدنا: أي من عندنا، القذف: الرمي البعيد، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرّخو ويراد به هنا القهر والإهلاك، زاهق: أي زائل ذاهب، الويل:
الهلاك، من عنده: هم الملائكة، لا يستكبرون أي لا يتعظمون، يستحسرون: أي يكلون ويتعبون، يقال حسر البعير إذا أعيا وكلّ، ومثل استحسر وتحسر، لا يفترون: أي لا يضعفون ولا يتراخون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مطاعنهم فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بتلك المقالات التي سلف ذكرها- قفّى على ذلك بذكر فساد تلك المطاعن وبيان أن من أنكر نبوته فقد جعل تلك المعجزات التي ظهرت على يديه من باب العبث واللعب. تنزه ربنا عن ذلك، فإنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا لعبادته ومعرفته ومجازاة من قام بهما بالثواب والنعيم، ومن لم يقم بذلك بالعقاب الأليم، ولن يتم علم هذا إلا بإنزال الكتب، وإرسال الرسل صلوات الله عليهم، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لهوا ولعبا، تعالى خالقهما علوّا كبيرا.(17/14)
ثم أردف هذا بالرد على من ادعى أن المسيح ابن الله وعزير ابن الله، بأنه لو اتخذ ولدا لا تخذه من الملائكة، وعقّب على هذا بأن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من فى السموات والأرض كلهم عبيده لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون.
الإيضاح
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من أصناف المخلوقات البديعة- للهو واللعب، بل خلقناهما لفوائد دينية، وحكم ربانية، كأن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ووسيلة للعظة والاعتبار- إلى ما فيها من منافع أخرى لا حصر لها.
وخلاصة ذلك- إن إيجاد العالم كله، ولا سيما النوع الإنسانى واستخلافه فى الأرض- مبنى على بديع الحكم، مستتبع لغايات جليلة لا تخفى على ذوى الألباب، وقد علم بعضها من أنعموا النظر فى الكون وعجائبه، وأوتوا حظا من صادق المعرفة، فعرفوا بعض أسراره، وانتفعوا ببعض ما أودع فى باطن الأرض وما على ظاهر سطحها، مما كان سببا فى رقىّ الإنسان، ولا يزال العلم يولّد لنا كل يوم عجيبا، ويظهر لنا من كنوزها غريبا «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .
ونحو الآية قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» .
ثم أكد نفى اللعب بقوله:
(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كما يتخذ العباد لاتخذناه من عندنا من العوالم المجردة من المادة كالملائكة، لكنا لا نتنزل لملابسة ما هو من شأنكم المادي كالزوج والولد، إذ لا يجمل بنا، لأنه(17/15)
خارج عن سنن حكمتنا، وقوانين نظامنا، ورفعة قدرنا، فنحن لا نلهو بالصور الجسمية، ولا بالنفوس الروحية.
وخلاصة هذا- إنا خلقناكم لحكمة، وصورناكم لغاية، وجعلنا لكم السمع والأبصار لمنافع قدرناها لكم، لا للهونا ولعبنا، ومن ثم لا نترككم سدى، بل نحاسبكم ونؤاخذكم، والجدّ مطلبنا، واللهو واللعب من شأن العبيد المخلوقين، لا من شأن رب العالمين.
ونحو الآية قوله: «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي إن من شأننا أن رمى الحق الذي من جملته الجدّ، على الباطل الذي منه اللعب فيكسر دماغه بحيث يشق غشاءه فيؤدى ذلك إلى زهوق روحه فيهلك- وقد شبه الباطل بإنسان كسر دماغه فهلك-.
وإذا كان هذا شأننا فكيف نترككم بلا إنذار كأننا خلقناكم لنلهو بكم.
(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي ولكم العذاب الشديد من وصفكم ربكم بغير صفته، وقيلكم إنه اتخذ ولدا وزوجة وافترائكم ذلك عليه.
ولما حكى كلام الطاعنين فى النبوات وأجاب عنها، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن إنما هو التمرد والعناد- بين فى هذه الآية أنه غنى عن طاعتهم، لأنه هو المالك لجميع المخلوقات، والملائكة على جلالة قدرهم مطيعون له خائفون منه، فأجدر بالبشر على ضعفهم أن يطيعوه، وما أخلقهم أن يعبدوه، فقال:
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله تعالى جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة دون أن يكون لأحد فى ذلك سلطان لا استقلالا ولا استتباعا.(17/16)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
(وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي والملائكة الذين شرفت منزلتهم عند ربهم لا يستعظمون عن عبادته ولا يكلّون ولا يتعبون:
وتخصيص الملائكة بالذكر للدلالة على رفعة شأنهم، كما خصص جبريل من بين الملائكة فى قوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» .
ثم بين سبحانه كيف يعبدون ربهم فقال:
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) فهم دائبون فى العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه كما قال فى الآية الأخرى: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» .
وخلاصة ذلك- المبالغة فى تنزيه الله وتسبيحه، وهذا لا يمنع من تخلل فترات لا يفعلون فيها ذلك، كما يقال: فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 29]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)(17/17)
تفسير المفردات
ينشرون: من أنشره. أي أحياه، لفسدتا: أي لخرجتا عن نظامهما وخربتا، فسبحان الله: أي تنزيها له عما وصفوه به، هذا ذكر من معى: أي هذا الوحى المتضمن للتوحيد عظة أمتى، وذكر من قبلى: أي وموعظتهم وإرشادهم، لا يسبقونه بالقول: أي لا يتكلمون حتى يأمرهم، مكرمون: أي مقربون عنده، من خشيته:
أي بسبب خوف عذابه، مشفقون: أي حذرون.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى سابق الآيات أن كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها قد أبيدت وأنشئ بعدها أقوام آخرون، وأنهم حين أحسوا بالبأس ارعووا وندموا حيث لا ينفع الندم ثم أردف ذلك ذكر أن من فى السموات والأرض عبيده، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، ولا يكلّون ولا يملون منها- ذكر هنا أنه كان يجب عليهم أن يبادروا إلى التوحيد، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل فعلوا ضده فكانوا جديرين بالتوبيخ والتعنيف، ثم أقام البرهان على وحدانيته وأنه لو كان فى السموات والأرض إلهان لهلك من فيهما، تنزه ربنا عما يقول هؤلاء المشركون، وقد كذب من اتخذ آلهة لا دليل عليها، وأن جميع الأديان جاءت بإخلاص التوحيد، كما كذب من جعل لله ولدا فقال: الملائكة بنات الله، والملائكة خلق مطيعون لربهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خوفه حذرون، ومن يقل منهم إنه إله فلا جزاء له إلا جهنم، وهى جزاء كل ظالم.
الإيضاح
(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى.(17/18)
وإنهم ولا شك بمعزل عن ذلك- والمشركين وإن لم يقولوا ذلك صريحا، فما ادّعوه لها من الألوهية يستدعى ثبوت إحياء الموتى لها، لأنه من خصائصها.
ووصف الآلهة بكونها من الأرض- للإشارة إلى أنها من الأصنام التي تعبد فيها، وللإيماء إلى ضعة شأنها، وحقارة أمرها.
ثم أقام الدليل العقلي على التوحيد ونفى أن يكون هناك إله غير الله فقال:
(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) أي لو كان فى السموات والأرض إله غير الله لخريتا وهلك من فيهما- ذاك أنه لو كان فيهما إلهان فإما أن يختلفا أو يتفقا فى التصرف فى الكون، والأول ظاهر البطلان، لأنه إما أن ينفذ مرادهما معا فيريد أحدهما الإيجاد والثاني لا يريده فيثبت الوجود والعدم لشىء اختلفا فيه، وأما أن ينفذ مراد أحدهما دون الثاني، فيكون هذا مغلول اليد عاجزا، والإله لا يكون كذلك، والثاني باطل أيضا، لأنهما إذا أوجداه معا وجب توارد الخلق من خالقين على مخلوق واحد.
ولما أثبت بالدليل أن المدبر للسموات والأرض لا يكون إلا واحدا، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال:
(فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي فتنزيها لله رب العرش المحيط بهذا الكون ومركز تدبير العالم عما يقول هؤلاء المشركون من أن له ولدا أو شريكا.
ثم أكد هذا التنزيه بقوله:
(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي هو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وهو سائل خلقه عما يعملون كما قال: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» وقال: «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» .(17/19)
ثم أعاد الإنكار مرة أخرى استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم، وإظهارا لجهلهم فقال:
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي أبعد هذه الأدلة التي ظهرت تقولون: إن لله شركاء؟.
ثم أمرهم بإقامة الدليل على صحة ما يدّعون فقال:
(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي بعد أن ثبت أنه لا إله غيره، فهاتوا برهانكم على صحة اتخاذ الآلهة من الأصنام والأوثان، ولا سبيل إلى ذلك، لا بالدليل العقلي، لأنه مر بطلانه، ولا بالدليل النقلى، لأن الكتب السماوية جميعا متفقة على هذا، وإلى ذلك أشار بقوله:
(هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي هذا هو الكتاب المنزل على من معى، وهذه هى الكتب المنزلة على من تقدمنى من الأنبياء كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، انظروا فيها هل تجدون إلا الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك.
قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل فى ذكر من معى وذكر من قبلى إلا توحيد الله؟.
وفى هذا تبكيت لهم متضمن إثبات نقيض مدّعاهم، وإذا فليس لهم إلا العجز مركبا.
ولما كانوا لا يجدون لهم شبهة فضلا عن حجة، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق فقال:
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) أي بل أكثر هؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل، فلا تؤثّر فيهم الحجة والبرهان ولا يقتنعون به.
ثم ذكر أن هذا كان سببا فى إعراضهم وتجافيهم عن سماع الحق فقال:
(فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فهم لأجل هذا الجهل المستولى على أكثرهم أعرضوا عن(17/20)
قبول الحق وعن النظر الموصل إليه، فلا يتأملون حجة، ولا يتدبرون برهانا، ولا يتفكرون فى دليل.
ثم أكد ما تقدم من أدلة التوحيد فقال:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم إلا أوحينا إليه أن لا معبود فى السموات والأرض إلا أنا، فأخلصوا لى العبادة وأفردوا لى الألوهة.
وخلاصة ذلك- إن الرسل جميعا أرسلوا بالإخلاص والتوحيد لا يقبل منهم سواه ونحو الآية قوله: «واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا، اجعلنا من دون الرّحمن آلهة يعبدون؟» وقوله: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» .
وبعد أن بيّن سبحانه بالدلائل الباهرة أنه منزه عن الشريك والندّ- أردف ذلك ببراءته من اتخاذ الولد فقال:
(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي وقال فريق من هؤلاء المشركين وهم بطون من خزاعة وجهينة وبنى سلمة- الملائكة بنات الله، فرد الله تعالى عليهم بقوله: (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن ذلك، لأن الولد لا بد أن يكون شبيها بالوالد، فلو كان له ولد لأشبهه ولا مجانسة بين النعمة والمنعم، والخالق والمخلوق.
ثم أكد إبطال ما سلف بقوله:
(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي ليس الملائكة كما قالوا، بل هم عباد مخلوقون له تعالى، فهم ملكه لكنهم مقربون عنده فى منازل عالية، ومقامات سامية.
ثم بين سبحانه كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره وتادبهم معه تعالى فقال:
(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله.(17/21)
وخلاصة ذلك- إنهم فى نهاية المراقبة لربهم، يجمعون بين الطاعة فى القول والفعل.
ثم علل هذه الطاعة، بعلمهم بأن ربهم محيط بهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم فقال:
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما يعلم ما عملوا وما هم عاملون، لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، فلا يزالون يراقبونه فى جميع شئونهم.
(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي وهم لا يشفعون إلا لمن رضى عنه، فلا تطمعوا فى شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى.
قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله، وقد ثبت فى الصحيح أن الملائكة يشفعون فى الدار الآخرة، قال قتادة أي لأهل التوحيد.
(وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من خوف الله والإشفاق من عقابه حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.
(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) أي ومن يدعى منهم أنه إله مع الله فجزاؤه جهنم على ما ادعى كسائر المجرمين، ولا يغنى عنه ما سبق من أوصافه ومرضىّ أفعاله.
قال قتادة والضحاك وغيرهما: عنى بهذه الآية إبليس حيث ادعى الشركة ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة (إِنِّي إِلهٌ) غيره.
(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي وهكذا نجزى كل من ظلم نفسه، فكفر بالله وعبد غيره.
وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى وصف الملائكة بخمس صفات تدل على العبودية وتنافى الولادة.
(1) المبالغة فى الطاعة، فإنهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بإذنه.
(2) إنه سبحانه يعلم أسرارهم وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة لا هم كما قال عيسى عليه السلام: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» .(17/22)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(3) (إنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الشفاعة له، ومن يكون إلها أو ولدا للإله لا يكون كذلك.
(4) إنهم فى نهاية الإشفاق والوجل من الله.
(5) إن حالهم كحال سائر المكلفين فى الوعد والوعيد، فكيف يكونون آلهة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
تفسير المفردات
الرتق: الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة، والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين، الرواسي: الثوابت واحدها راسية، وتميد: تتحرك وتضطرب، والفجاج واحدها فج، وهو شقة يكتنفها جبلان، والسبل واحدها سبيل: وهو الطريق الواسع والفلك: كل شىء دائر، وجمعه أفلاك.
المعنى الجملي
بعد أن حكى مقالات أولئك المشركين الذين كانوا يعبدون آلهة من دون الله، ومقالات أولئك الذين قالوا اتخذ الله ولدا من الملائكة وطالبهم بالدليل على صدق ما يدّعون، وبين لهم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك لا من طريق العقل كما هو واضح ولا من طريق النقل، إذ كل الرسل السابقين كان أسّ دعوتهم أن لا إله إلا أنا فاعبدون(17/23)
قفى على ذلك بتوبيخهم على عدم تدبرهم الآيات المنصوبة فى الكون الدالة على التوحيد: ولفت أنظارهم إلى أنه لا ينبغى عبادة الأصنام والأوثان، فإن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات لا يعبد سواه من حجر أو شجر لا يضر ولا ينفع.
الإيضاح
اعلم أنه سبحانه ذكر أدلة ستة تثبت وجود الخالق الواحد القادر، لو تدبرها المنصفون، وعقلها الجاحدون، لم يجدوا مجالا للإنكار، ولا سبيلا إلى الجحد:
(1) (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي ألم يعلم الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا مرتوقتين: أي ملتحمتين متصلتين، ففصلناهما وأزلنا اتحادهما.
وهكذا يقول علماء الفلك حديثا، إذ يثبتون أن الشمس كانت كرة نارية دائرة حول نفسها ملايين السنين، وفى أثناء سيرها السريع انفصلت منها أرضنا والأرضون الأخرى وهى السيارات من خط الاستواء الشمسى، فتباعدت عنها، وما زالت أرضنا دائرة حول نفسها وحول الشمس على نظام خاص بحكم الجاذبية.
قال الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الملكي المصري: إن النظرية الحديثة فى كيفية مولد الأرض وأخواتها الكواكب السيارة من الشمس، هى افتراض اقتراب نجم كبير من الشمس فيما مضى من الزمن اقترابا كافيا، فجذب من سطحها كتلة لم تلبث أن انفصلت من الشمس على شكل منهم مدبب الطرفين سميك فى الوسط، ثم تكثفت هذه الكتلة فى الفضاء البارد إلى كتل منفصلة، وبقيت هذه الكتل التي تمثل الأرض وأخواتها الكواكب السيارة تدور بفعل الجاذبية للشمس فى مدارتها حولها بلا انقطاع، وانطفأ نورها لأن كتلها كانت أصغر من أن تحتفظ بصفتها الأصلية قبل الانفصال وهو إشعاع الضوء فالكواكب السيارة ومنها الأرض لا نراها بضوء يتشعع منها، بل بضوء(17/24)
الشمس منعكسا على سطوحها كما نرى القمر وكما نرى وجوهنا بضوء الشمس أو المصباح منعكسا عليها.
والكواكب السيارة تسعة، وهى بترتيب قربها من الشمس عطارد. الزّهرة.
الأرض. المرّيخ. المشترى. زحل. أورانوس. نبتون. بلوتوه.
ويدخل ضمن هذه الأسرة المجموعة كبيرة العدد من أجسام صغيرة تقع بين مدارى المريخ والمشترى وتدور حول الشمس كسرب من الطير، ومن بينها المذنّبات أيضا، والشهب التي نرى الكثير منها كل ليلة يهوى نحو الأرض ويحترق باحتكاكه بالغلاف الجوى الذي حولها.
أما بقية الأجرام السماوية التي نراها ليلا تزين سطح القبة السماوية فهى النجوم.
والنجوم شموس موادها المركبة منها هى المواد المركبة منها شمسنا، فسبحان الخلاق العظيم اه.
وبعد أزمنة طويلة لا يعلم مداها بردت القشرة الأرضية وصارت صالحة لإنبات بعض أنواع النبات، ثم لسكنى الحيوان ثم لسكنى الإنسان.
ولا شك أن هذه النظرية التي لم يكن يعرفها العرب ولا الأمم المعاشرة لهم، ولم تعرف إلا منذ القرن السابع عشر الميلادى ومحّصت بعض التمحيص فى عصرنا الحاضر- تدل أكبر دلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن القرآن وحي أرسله إليه ربه هداية للبشر ورحمة للعالمين.
وخلاصة ذلك- إن العقل البشرى مستعد لدرس عجائب هذا الكون، ومعرفة سير هذه الكواكب ودورانها بنظام الجاذبية حول الشمس على سنن لا يتغير ولا يتبدل، وقد دل البحث على أنها كلها كانت مجموعة واحدة انفصل بعضها من بعض بأسباب خاصة قدّرها العليم الخبير.
وقد أرشد إلى بيان هذا خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله، ولم يكن قومه ولا الأمم المعاصرون لهم يفكرون فيه، مما يدل على أن ذلك وحي أوحى إليه من لدن عليم خبير،(17/25)
وقد كان هذا وحده كافيا فى الإسراع إلى تصديقه والإيمان برسالته لولا الجحد والإنكار وعمى القلوب «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» .
(2) (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أي وخلقنا من الماء كل حيوان كما قال فى آية أخرى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وكذا يحيا به كل نبات وينمو. وقال قتادة: خلقنا كل نام من الماء، فيدخل الحيوان والنبات.
ويرى بعض علماء العصر الحاضر أن كل حيوان خلق أولا فى البحر، فأصل جميع الطيور والزواحف وحيوان البر- من البحر.
ثم تطبعت بطباع حيوان البر على مدى الأيام وتنوعت أصنافها، ولهم على ذلك كثير من الأدلة.
(أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بأن يتدبروا هذه الأدلة، فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره، ويتركوا طريق الشرك.
(3) (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت، لئلا تميد وتضطرب بهم.
وقد أثبت العلم حديثا أن الأرض كانت نارا ملتهبة، ثم بردت قشرتها، وصارت صوّانية صلبة، وقدّروا زمن ذلك بنحو ثلاثمائة مليون سنة.
ومما يدل على صدق هذه النظرية ما نراه من حمم النيران التي تخرجها البراكين فى جهات كثيرة من الأرض كما حدث فى سنة 1909 لبركان ويزوف بإيطاليا، وقد طغى على مدينة مسيّنا، وابتلعها فى باطنه ولم يبق منها شيئا.
فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفس بها الأرض، لتخرج من باطنها نيرانا ومواد ذائبة، مما يرشد إلى أنها كلها فى أحقاب طويلة كانت كذلك.
ولولا هذه القشرة الصّلبة لتفجرت ينابيع النيران من سائر جهاتها كما كانت بعد ما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران.(17/26)
وهذه القشرة الصوانية البعيدة الفور المغلّفة للكرة النارية هى الحافظة لكرة النار التي تحتها، وهى التي نبتت منها الجبال التي نراها فوق أرضنا، وقد جعلت لحفظ الأرض من أن تميد، وما هى إلا كأسنان لها، طالت وامتدت فوق طبقات الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحا، وإذ ذاك ربما تثور البراكين فى جهات كثيرة من الأرض وتضطرب اضطرابا شديدا وتزلزل زلزالا كثيرا.
وخلاصة ذلك- إنه لو لم تكن هذه لجبال التي هى قطعة من قشرة الأرض مرتفعة لما وجد ما يحفظ النيران المشتعلة فى باطن الأرض من الظهور على سطحها بالبراكين والزلازل، وإذ ذاك ربما تضطرب الأرض اضطرابا شديدا وتخرج نيرانها الملتهبة من باطنها وتطغى على سطحها وتهلك الحرث والنسل.
وقد قدر العلماء حديثا نسبة الجبال إلى الأرض فقالوا: لو كان قطر الكرة الأرضية مترا لم تزد الجبال على ملليمتر ونصف فحسب.
وهذه هى المعجزة الثالثة فى الآية التي ترشد الى أن القرآن وحي يوحى، فما محمد ولا قومه ولا الأمم المعاصرون لهم يعلمون شيئا من هذه الآيات الكونية التي أيد صحتها تقدم العلوم، ففهم ظاهر الأرض وباطنها.
وفى هذا مصداق لما أثر
عن على كرم الله وجهه «القرآن جديد لا تبلى جدّته» .
(4) (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي وجعلنا فى الأرض طرقا بين جبالها يسلكها الناس من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى آخر، ليهتدوا بذلك إلى مصالحهم ومهامّ أمورهم المعيشية.
(5) (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي إنه تعالى نظّم السماء وجعلها كالسقف المحفوظ من الاختلال وعدم النظام، فقد حفظت الشموس والكواكب فى مداراتها بحيث لا يختلط بعضها ببعض، ولا يختبط بعضها فى بعض، بل جعلت فى أماكنها الخاصة بها بقوة الجاذبية.(17/27)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
فالشمس والقمر والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها، وإلا اختل نظام هذا العالم، وبهذا الحفظ ونظام الدوران كان الليل والنهار الحادثين من جرى الأرض حول الشمس.
ونحو الآية قوله: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» .
(وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أي والمشركون معرضون عن التفكر فى تلك الآيات الدالة على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا.
(6) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي والله خلق لكم الليل والنهار نعمة منه عليكم، وحجة على عظيم سلطانه، فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الأرض والشمس والقمر تجرى فى أفلاكها كما يجرى السمك فى الماء.
وهذا هو الرأى الحديث، وأن هذه كلها تجرى فى عالم الأثير المالئ لهذا الفضاء، فالشمس تجرى، والأرض تجرى، والقمر يجرى، وبينها هذه المخلوقات الحية، فما مثل هذه العوالم إلا كآلة الطباعة والمخلوقات كلماتها وسطورها، أو كدار صناعة تخرج كل يوم مصنوعات جديدة بعد فناء القديمة وزوالها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 36]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)
تفسير المفردات
الخلد: الخلود والبقاء، الذوق: هنا الإدراك والمراد من الموت مقدماته من الآلام العظيمة، والمدرك لذلك هى النفس المفارقة التي تدرك مفارقتها للبدن، ونبلوكم:(17/28)
أي نختبركم والمراد نعاملكم معاملة من يختبركم، بالخير والشر: أي المحبوب والمكروه، فتنة: أي ابتلاء، إن يتخذونك إلا هزوا: أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به مسخورا منه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بما يرون من الآيات الكونية- أردف ذلك ببيان أن هذه الدنيا ما خلقت للخلود والدوام، ولا خلق من فيها للبقاء، بل خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلة إلى الآخرة التي هى دار الخلود، فلا تشمتوا إذا مات محمد صلّى الله عليه وسلّم فما هذا بسبيله وحده، بل هذا سنة الله فى الخلق أجمعين.
تمنى رجال أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذى يبغى خلاف الذي مضى ... تزوّد لأخرى مثلها فكأن قد
ثم ذكر أنهم نعوا على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، ورد عليهم بأنهم قد كفروا بالرحمن المنعم على عباده، الخالق لهم، المحيي المميت، ولا شىء أقبح من هذا وأخلق بالذم منه.
أخرج ابن أبى حاتم عن السدى «أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ على أبى سفيان وأبى جهل وهما يتحادثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال: هذا نبىّ بنى عبد مناف، فغضب أبو سفيان وقال: أتنكر أن يكون لعبد مناف نبى؟ فسمعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى أبى جهل فوقع به وخوّفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبى سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة، فنزلت الآية» .(17/29)
الإيضاح
(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي وما كتب لأحد من قبلك البقاء فى الدنيا حتى نبقيك فيها، بل قدّر لك أن تموت كما مات رسلنا من قبلك.
(أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) أي أفهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون بعدك؟
لا- ما ذلك كذلك، بل هم ميتون، عشت أو متّ.
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد: الآية.
ثم أكد ما سلف وبين أن أحدا لا يبقى فى هذه الدنيا فقال:
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس منفوسة من خلقه ذائقة مرارة الموت، ومتجرعة كأسه، وشدة مفارقة الروح للبدن وقد جاء فى الحديث «إن للموت لسكرات» فلا يفرحنّ أحد لموت أحد ولا يظهرنّ التشفي منه، كما لا ينبغى أن تبدو عليه علامات الجزع والحسرة لموت أحد.
(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي ونختبركم أيها الناس بالمضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد، وبنعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من حصول ما تريدون، لنرى أتصبرون فى المحن، وتشكرون فى المنح؟ فيزداد ثوابكم عند ربكم إذا قمتم بأداء ذلك، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فالمنحة أعظم البلاءين ومن ثم قال عمر رضى الله عنه: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر،
وقال على كرم الله وجهه: من وسّع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله.
وخلاصة ذلك- إنا نعاملكم معاملة من يختبركم ونفتنكم كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، لنرى أتصبرون فى الشدائد وتشكرون حين الرخاء؟.(17/30)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
(وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم وفق ما يظهر من أعمالكم.
ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والوعيد بالثواب والعقاب.
(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي وإذا رآك المشركون لم يكن لهم عمل إلا أن يجعلوك موضع السخرية والهزؤ، وقد كان من حقهم أن يفكّروا مليّا فيما يشاهدون من أخلاقك وآدابك، وفيما ينزل عليك من الوحى الذي فيه عظة وذكرى لقوم يعقلون، لعل بصائرهم تستنير، وطباعهم ترقّ، وقلوبهم ترعوى عن غيها، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .
(أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) أي ويقولون استنكارا وتعجبا: أهذا الذي يسبّ آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟ وكيف يعجبون من ذلك وهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم، وبيده نفعهم وضرهم وإليه مرجعهم؟
قال الزجاج يقال فلان يذكر الناس أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله أي يصفه بالتعظيم ويثنى عليه.
وخلاصة ذلك- كيف يعجبون من نبز آلهتهم بالسوء، وهم قد كفروا بربهم الذي برأهم وصورهم فأحسن صورهم، وإليه مرجعهم فيحاسبهم على النّقير والقطمير.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 41]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)(17/31)
تفسير المفردات
العجل والعجلة: طلب الشيء قبل أوانه، والمراد بالإنسان: هذا النوع، وقد جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من العجل مبالغة كما يقال للرجل الذكي هو نار تشتعل، ويقال لمن يكثر منه الكرم: فلان خلق من الكرم، قال المبرد: خلق الإنسان من عجل: أي إن من شأنه العجلة كقوله: «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» أي خلقكم ضعفاء، والآيات هى آيات النقم التي هددهم بوقوعها، وإراءتهم إياها:
إصابتهم بها.
والمراد بالوعد قيام الساعة، لا يكفون: أي لا يمنعون، بغتة: أي فجأة، تبهتهم:
أي تدهشهم وتحيّرهم، ينظرون: أي يمهلون ويؤخّرون، حاق: حل ونزل.
المعنى الجملي
بعد أن بين جلت قدرته أنه كلما آتى المشركين آية كفروا بها، وكلما توعدهم بالعذاب كذبوا به وقالوا تهكما وإنكارا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ - قفى على ذلك بنهيهم عن العجلة وبيان أن ما أوعدوا به آت لا محالة، ثم أرشد إلى أن العجلة من طبيعة الإنسان التي جبل عليها، ثم ذكّرهم بجهلهم بما يستعجلون، فإنهم لو عرفوا كنه ما طلبوا ما دار بخلدهم ذلك المطلب.
وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم كما سلّاه بأن الاستهزاء به وبما أتى به ليس بدعا من المشركين، فكثير من الرسل قبله أوذوا واستهزىء بهم، وكان النصر آخرا حليفهم وحاق الهلاك بالمكذبين، فانتظر لهؤلاء يوما يحل بهم فيه مثل ما حل بمن قبلهم، وقل لهم: انتظروا إنا منتظرون.
روى أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث، وهو القائل: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .(17/32)
الإيضاح
(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي إنه تعالى فطر هذا النوع على العجلة، وجعلها من سجيته وجبلّته، فليس بعجيب من المشركين أن يستعجلوا عذاب الله ونزول نقمته بهم، وقد كان من الحق عليهم أن يتلبّثوا قليلا، فإن الله سينزل بهم من سخطه مثل ما أنزل بالمكذبين قبلهم، ويحلّ بهم من العذاب ما لا قبل لهم بدفعه، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي إن نقمى ستصيبكم لا محالة، فلا تتعجلوا عذابى، واصبروا حتى يأتى وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد.
وقد نهى الإنسان عن العجلة مع أنها ركّبت فى طبيعته، من قبل أنه أوتى المقدرة التي يستطيع بها تركها وكف النفس عنها.
ثم حكى عنهم ما يستعجلون فقال:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون للنبى صلّى الله عليه وسلّم ولمن معه من المؤمنين الذين يتلون الآيات المنبئة بقرب الساعة ونزول العذاب بمن كفر بها استهزاء: متى يجيئنا هذا العذاب الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين فى وعدكم.
وهذا منهم استبطاء للموعود به يراد به إنكار وقوعه وأنه لن يكون البتة.
ثم بين شديد جهلهم بما يستعجلون وعظيم حماقتهم لهذا الطلب فقال:
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون ماذا أعدّ لهم ربهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، فلا يستطيعون ردها عن تلك الوجوه، ولا يدفعونها بأنفسهم عن الظهور، ولا يجدون ناصرا ينصرهم وينقذهم من ذلك(17/33)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
العذاب- لما أقاموا على كفرهم بربهم ولسارعوا إلى التوبة منه، ولما استعجلوا لأنفسهم هذا النكال والوبال.
وإنما خص الوجوه والظهور، لأن مس العذاب لهما أعظم موقعا.
ولما بين شدة العذاب فى ذلك اليوم بين أن وقته لا يكون معلوما لهم فقال:
(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي بل تأتيهم الساعة وهم لأمرها غير مستعدين، فتدعهم حائرين لا يستطيعون حيلة فى ردها، ولا منصرفا عما يأتيهم منها، ولا هم يمهلون لتوبة، ولا لتقديم معذرة، فقد فات مافات، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون.
وإنما لم يعلم الله عباده وقتها، لما فى ذلك من فائدة، فإن المرء يكون مع جهله بها أشد حذرا، وأقرب إلى التلافي وانتهاز الفرصة.
ثم سلى رسوله على استهزائهم به فقال:
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ولقد استهزىء برسل من رسلنا الذين أرسلناهم قبلك إلى أممهم، فنزل بالذين استهزءوا بهم العذاب والبلاء الذي كانت الرسل تخوّفهم نزوله، ولن يعدو أن يكون أمر هؤلاء الكفار كأمر أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم مثل ما نزل بمن قبلهم فانظر لهم عاقبة وخيمة كعاقبة أولئك، وسيكون لك النصر عليهم.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 47]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)(17/34)
تفسير المفردات
يكلؤكم: يحرسكم ويحفظكم قاله ابن عباس، من الرحمن: أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه، من دوننا: أي من غيرنا، يصحبون: أي يجارون من عذابنا تقول العرب أنا لك جار وصاحب من فلان: أي ومجير منه واختاره الطبري، نفحة:
أي قسط ونصيب ضئيل، حبة الخردل: مثل فى الصغر، حاسبين: أي عادّين محصين.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن الكافرين فى الآخرة لا يستطيعون أن يمنعوا عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم، وأنه سيكون لهم من الأهوال ما لم يكن يخطر لهم ببال أعقبه ببيان أنه لولا أن الله قدر لهم السلامة فى الدنيا وحرسهم إلى حين لما بقوا سالمين، وأنه مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحفظ والحراسة- هم معرضون عن الدلائل الدالة على أنه لا حافظ لهم سواه، وأنه قد كان ينبغى لهم أن يتركوا عبادة الأصنام التي لا حظ لها فى شىء من ذلك، فهى لا تستطيع أن تحفظ أنفسها من الآفات،(17/35)
فضلا عن منع بأس الله إن حل بهم، ثم أردف ذلك ببيان أن الذي حملهم على الإعراض عن ذلك هو طول الأمد حتى نسوا العهد وجهلوا مواقع النعمة، وقد كان لهم فى نقص الأرض من أطرافها وفتح المسلمين لها عبرة أيّما عبرة، فهاهم يرون محمدا صلى الله عليه وسلّم وأتباعه يفتحون البلاد والقرى حول مكة ويدخلونها تحت راية الإسلام ويقتلون الرؤساء والعشائر من المشركين، فمن حقهم أن يفكروا فى هذا مليّا ويرعووا عن غيهم ويعلموا آثار قدرتنا وأن جندناهم الغالبون، ثم قفى على ذلك ببيان أن وظيفة الرسل هى الإنذار والتبليغ، وليس عليهم الإلزام والقبول، فإذا كانت القلوب متحجرة، والآذان صماء، فماذا تجدى العظة، وماذا ينفع النصح، ولئن أصابهم القليل من عذاب الله لتنادوا بالويل والثبور، واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين- ثم قفى على ذلك ببيان أن الدار الآخرة لا ظلم فيها ولا محاباة، فالمرء يحاسب فيها على الجليل والحقير، فهناك تنصب موازين العدل ويجازى كل امرئ بما قدم من خير أو شر: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي سل أيها الرسول أولئك المستهزئين سؤال إنكار وتوبيخ، من يستطيع أن يحفظكم من الرحمن إذا أراد أن ينزل بكم بأسه وعذابه الذي تستحقونه؟.
والخلاصة- من يحفظكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إذا تصرفتم فى أمور معايشكم من عذاب الرحمن إن نزل بكم، ومن بأسه إذا حل بساحتكم؟
وفى ذكر (الرحمن) إيماء وتنبيه إلى أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وإلى أن بأسه أليم شديد، وإلى أنه قد عذبهم من غلبت رحمته قسوته، جزاء وفاقا بما دسّوا به أنفسهم من فاسد الطوايا، وسيىء الأعمال.(17/36)
ثم ذكر أنهم قد غفلوا عن الكالئ الحافظ فقال:
(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي إن هؤلاء القوم قد ألهتهم النعم عن المنعم، فلا يذكرون الله حتى يخافوا بأسه، أو يعدّوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة كلاءة وحفظا لهم حتى يسألوا عن الكالئ الحافظ.
وخلاصة ذلك- إنهم على وجود الدلائل العقلية والنقلية الدالة على أنه تعالى هو الكالئ الحافظ- معرضون عنها، لا يتأملون فيها.
وفى ذكر (الرب) إيماء إلى أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم فى ملكوته وتدبيره، وجميل رعايته وتربيته، وهم على ذلك معرضون، فهم فى الغاية القصوى من الضلال وفى النهاية من الجهل والغباء.
ثم انتقل من وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهة لا تضر ولا تنفع فقال:
(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟) أي بل ألهؤلاء المستعجلى عذابنا آلهة تمنعهم منا إن نحن أنزلناه بهم، وتدفع عنهم بأسنا إن حل بساحتهم؟.
ومجمل ذلك- إن آلهتهم لا تمنعهم بأسنا إن أردنا؟.
ثم وصف تلك الآلهة التي اتخذوها بالضعف فقال:
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي وكيف تستطيع آلهتهم أن تمنعهم منا وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا دفع ما ينزل بهم من البلاء، ولا هم يصحبون منا بنصر، فكيف يتوهّم أن ينصروا غيرهم.
والخلاصة- إنهم فى غاية العجز، فكيف يتوهّم فيهم ما يتوهمون من القدرة والسلطان، ويدينون لهم بالخضوع والعبادة.
ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع سوء ما أتوا به من الأعمال فقال:
(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي إن الذي غرهم وحملهم على(17/37)
ما هم فيه من الضلال أنهم متّعوا فى الحياة الدنيا ونعموا بها وطال عليهم العمر حتى اعتقدوا أنهم على شىء.
وقصارى ذلك- إنهم طالت أعمارهم وهم فى الغفلة فنسوا عهدنا، وجهلوا مواقع نعمتنا، فاغتروا بذلك ولم يعرفوا مواضع الشكر.
ثم بين لهم سوء مغبتهم فقال:
(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟) أي أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون للعذاب آثار قدرتنا فى إتيان الأرض من جوانبها، ففتحناها للمؤمنين وزدناها فى ملكهم واقتطعناها من أيدى المشركين؟ فقد تم لهم فتح البلاد التي حوالى مكة وقتل رؤسائها وإزالة دولة الشرك وأهله منها، ألا يفكرون فى هذا فيكون لهم فيه مزدجر لو كانوا يعقلون؟.
والخلاصة- ألا يعتبرون ويحذروا أن ينزل بهم بأسنا كما أنزلناه بسواهم؟.
ثم وبخهم وأنّبهم على غفلتهم عن الحق بعد وضوحه فقال:
(أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي أفهم الغالبون أم نحن؟ أي أفبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم إياه يتوهمون غلبتهم؟.
وبعد أن بين هول ما يستعجلون، وحالهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار، أمر رسوله أن يقول لهم: إن ما أخبركم به جاء به الوحى الصادق فقال:
(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي إنى إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة وشديد أهوالها- بالوحى الصادق الناطق بحصوله وفظاعة أهواله، وقد أمرنى ربى بذلك، وهأنذا قد قمت بما أمرنى به، فإن لم تجيبوا داعى الله وتقبلوا ما دعوتكم إليه فعليكم النكال والوبال لا علىّ.
ثم أردف هذا أن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدى فتيلا، فما حالهم إلا حال الصم الذين لا يسمعون دعوة الداعي فقال:(17/38)
(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي فما مثلهم إذ لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار على كثرته وتتابعه إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا، إذ ليس الغرض من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من المحرم ومعرفة الحق، فإذا لم يحصل شىء من هذا فلا جدوى فى السمع وكأن لم يكن.
والخلاصة- إن الكافر بالله لا يوجه همه إلى العظة بما فى كتابه من المواعظ حتى يقلّع عما هو عليه مقيم من الضلال، بل يعرض عن التفكر فيها فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له حتى يعمل به.
ثم بين سرعة تأثرهم من العذاب حين مجيئه إثر بيان عدم تأثرهم به حين مجىء خبره فقال:
(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي ولئن أصاب هؤلاء المستعجلين للعذاب أدنى قسط من عقاب ربك بكفرهم به وتكذيبهم رسوله- ليقولنّ إنا كنا ظالمين لأنفسنا بعبادتنا الآلهة والأنداد وتركنا عبادة الذي برأنا وأنعم علينا، وجحدنا لما يجب علينا من الشكر له بالإخلاص فى عبادته.
والخلاصة- إنهم يوم القيامة حين يمسهم العذاب يدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقولون هلاكا لنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بمن خلقنا، وخصوعنا لمن لا يضر ولا ينفع، ويندمون على ما فرط منهم، ولات ساعة مندم.
ثم بين الأحداث التي ستقع حين يأتى ما أنذروا به فقال:
(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ونحضر يوم القيامة الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال، وهذا قول أئمة السلف، وقال مجاهد وقتادة والضحاك المراد من الوزن العدل بينهم، فلا يظلم عباده مثقال ذرة، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه: أي ذهبت حسناته بسيئاته، ومن أحاطت سيئاته بحسناته خفت موازينه: أي ذهبت سيئاته بحسناته.(17/39)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي فلا تظلم أىّ نفس شيئا من الظلم، فلا ينقص ثوابها الذي تستحقه، ولا يزاد عذابها الذي كان لها على قدر ما دسّت به نفسها من سيىء الأعمال.
(وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) أي وإن كان العمل الذي فعلته النفس صغيرا مقدار حبة الخردل جازينا عليه جزاء وفاقا، سيئا كان أو حسنا.
(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي وحسب من شهدوا ذلك الموقف بنا حاسبين لأعمالهم محصنين لها، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف منهم فى الدنيا من صالح أو سيىء منا.
ولا يخفى ما فى الآية من التحذير وشديد الوعيد للكافرين على ما فرطوا فى جنب الله، فإن المحاسب إذا كان عليما بكل شىء ولا يعجز عن شىء كان جديرا بالعاقل أن يكون فى حذر وخوف منه.
نزول التوراة على موسى عليه السلام
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
تفسير المفردات
الفرقان: هى التوراة، وهى الضياء والموعظة، وكانت فرقانا، لأنها تفرق بين الحق والباطل، وكانت ضياء لأنها تنير طريق الهدى للمتقين، وكانت موعظة لما فيها من عبرة للسالكين سبل النجاة، يخشون ربهم: أي يخشون عذابه، مشفقون. أي خائفون، مبارك: أي كثير الخير غزير النفع.(17/40)
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إنما أنذركم بالوحى- أردفه ببيان أن هذه سنة الله فى أنبيائه، فكلهم قد آتاهم الوحى، وبلغهم من الشرائع والأحكام ما فيه هداية للبشر وسعادة لهم فى دنياهم وآخرتهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي قسما لقد آتيناهم كتابا جامعا لأوصاف كلها مدح وفخار، فهو كتاب فارق بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به فى ظلمات الجهل والغواية، وعظة يتعظ بها من يتعظ، ويتذكر بها ما يجب لله من اعتقاد وعمل، وما ينبغى سلوكه من أدب وفضيلة.
ثم ذكر أوصاف المتقين فقال:
(1) (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي إن المتقين يخافون عذاب ربهم وهو غائب عنهم غير مرئىّ لهم.
ونحو الآية قوله تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» وقوله: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» .
(2) (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من عذاب يوم القيامة وسائر أحوالها خائفون وجلون.
وبعد أن ذكر فرقان موسى وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به- حثهم على التمسك بالكتاب الذي نزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) أي وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر لمن تذكر به، وموعظة لمن اتعظ بها، وهو كثير النفع والخير لمن اتبع أوامره، وانتهى بنواهيه(17/41)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
وبعد أن أبان صفة هذا الكتاب وبخهم على إنكارهم له فقال:
(أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟) أي أفبعد أن استبان لكم جليل خطره، وعظيم أمره، تنكرون وتقولون: هو أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون.
وقد يكون المعنى- كيف تنكرون كونه منزلا من عند الله؟ وأنتم من أهل اللسان تدركون مزايا الكلام ولطائفه، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم، وفيه شرفكم وصيتكم.
وخلاصة ذلك- أفبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، تنكرون أنه منزل من عند الله؟ فهذا ما لا يستسيغه عقل راجح، ولا فكر رصين، فمثل هذا فى غاية الوضوح والجلاء.
حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)(17/42)
تفسير المفردات
الرشد: هو الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا، والاسترشاد بالنواميس الإلهية، التماثيل: واحدها تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله كطير أو شجر أو إنسان والمراد بها هنا الأصنام، سماها بذلك تحقيرا لشأنها، والعكوف على الشيء: ملازمته والإقبال عليه، بالحق: أي بالشيء الثابت فى الواقع، اللاعبين: أي الهازلين، فطرهن: أي أنشأهن، من الشاهدين: أي المتحققين صحته، المثبتة بالبرهان، والكيد: الاحتيال فى إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه، والمراد المبالغة فى إلحاق الأذى بها، جذاذا: أي قطعا، من الجذ، وهو القطع.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي ولقد آتينا إبراهيم ما فيه صلاحه وهداه من قبل موسى وهرون، ووفقناه للحق، وأضأنا له سبيل الرشاد، وأنقذناه من بين قومه من عبادة الأصنام، وكنا عالمين بأنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له، لا يشرك به شيئا، فهو جامع لأحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق وجميل الصفات، وقال الفراء: أعطيناه هداه من قبل النبوة والبلوغ اهـ. أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا جرى كثير من المفسرين.
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) أي آتيناه الرشد حين قال لأبيه آزر ولقومه وهم مجتمعون: ما هذه الأصنام التي تقيمون على عبادتها وتعظيمها؟.
وقد أراد عليه السلام بهذا السؤال تنبيه أذهانهم إلى التأمل فى شأنها، وتحقير أمرها، متجاهلا حقيقتها، وكأنه يومىء بذلك إلى أنهم لو تأملوا قليلا لأدركوا أن مثل هذه الأحجار والخشب لا تغنى عنهم قلّا ولا كثرا.(17/43)
ولما لم يجدوا ما يعوّل عليه فى تعرف حقيقتها لجئوا إلى التشبث بالتقليد دون إقامة الحجة والبرهان.
(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أي قال آزر وقومه له: إنا وجدنا آباءنا يعبدون هذه الأوثان فسرنا على نهجهم واقتفينا أثرهم ولا حجة لنا غير ذلك.
وخلاصة مقالهم: ليس لنا برهان على صحة ما نفعل، وإنما نحن مقلدون للآباء والأجداد، وكفى بهذا سبّة لهم، فإن الشيطان قد استدرجهم وكاد لهم حتى عفّروا لها جباههم وجدّوا فى نصرتها، وجادلوا أهل الحق فيها- وما كان أجدرهم أن يتواروا خجلا وحياء ولا يقولوا مثل هذا.
والتقليد هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهكذا يجيب المقلّدة من أهل الملة الإسلامية إذا أنكر عليهم العالم بالكتاب والسنة العمل بالرأى الذي يدفعه الدليل- بهذا قال إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين، وبرأيه آخذين وكأنه يقول:
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
وقد أجابهم إبراهيم ببيان قبح ما يصنعون، وبكّتهم على سوء ما يفعلون.
(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال لهم: لقد كنتم أيها القوم أنتم وآباؤكم بعبادتكم إياها فى ضلال بيّن، وجور واضح عن سبيل الحق لمن تأمله بلبه، وفكّر فيه بعقله.
وخلاصة هذا- إن المقلدين ومن قلّدوا فى ضلال ظاهر لا يخفى على من لديه أدنى مسكة من عقل، فالفريقان لا يستندان إلا إلى هوى متبع، وشيطان مطاع وقد أحسن من قال:
يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
وفى ذلك إيماء إلى أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المستمسكين به.
وقد أجابوه إجابة مستفهم متعجب مما يسمع ويرى.(17/44)
(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) أي قالوا له حين سمعوا مقالته، مستبعدين أنهم فى ضلال، ومتعجبين من تضليله إياهم: أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ فإنا لم نسمع بمثله من قبل.
وخلاصة هذا- إنهم لما سمعوا منه ما يدل على تحقير آلهتهم، وتضليله إياهم، وشاهدوا منه الجد فى القول والغلظة فيه، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول إن كان جادا، ثم ارتقوا من هذا إلى بيان أنه هازل لاعب، كما هو دأبه وعادته من قبل، ولا يقصد بذلك إظهار حق البتة.
فردّ عليهم منتقلا من تضليلهم فى عبادة الأوثان، إلى بيان الحق، وذكر المستحق للعبادة.
(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي قال لهم: بل جئتكم بالحق لا اللعب- إن الذي يستحق العبادة من أنشأ السموات والأرض على غير مثال يحتذى، وأنتم مغمورون بجميل عطفه، وعظيم جوده وبرّه.
وصفوة هذا- إن الجدير بالعبادة هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه، وأوجدكم وأوجد السموات والأرض من العدم، لا من كان بمعزل عن كل ذلك.
وفى هذا إرشاد إلى أنه ينبغى لهم أن يرعووا عن غيهم، ويعلموا من يستحق العبادة، فيعبدونه ويخضعون له، وبذلك يهتدون إلى الطريق السوىّ.
ثم ختم مقاله بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال:
(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أدلى على ما أقول بالحجة كما تصحح الدعوى بالشهادة، وأبرهن عليه كما تبين القضايا بالبينات، فلست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته، فإنكم لم تقدروا على الاحتجاج على مذهبكم، ولم تزيدوا على أن تقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
وقصارى ما أقول: لست من اللاعبين الهازلين، بل من العالمين بذلك(17/45)
بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة، كالشاهد الذي يكون قوله الفصل فى إثبات الدعوى، وإحقاق الحق.
وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق أتبعه بالتهديد لهدم الباطل ومحو آثاره، وأنه سينتقل من المحاجة القولية إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله، ومخاماة عن دينه، جمعا بين القول والفعل (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي وتالله القوى العظيم لأجتهدنّ فى كسر أصنامكم وإلحاق الأذى بها بعد أن تذهبوا إلى عيدكم، وقد فعل ذلك عليه السلام، ليرشدهم إلى ما هم فيه من الضلال، ويبين لهم خطأهم على ألطف أسلوب، وأتم وجه.
وفى التعبير بالكيد إيذان بصعوبة انتهاز الفرصة، وتوقفها على استعمال الحيلة فى كل زمان، ولا سيما زمن نمرود، على عتوه واستكباره، وقوة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه.
قال مجاهد وقتادة: قال إبراهيم هذه المقالة سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد، فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
وقال السّدّى: كان لهم فى كل سنة مجمع عيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال آزر:
يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم، ولما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه وقال إنى سقيم أشتكى برجلي، فلما مضوا نادى فى آخرهم وقد بقي فيهم ضعفاء الناس: تالله لأكيدنّ أصنامكم، فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهى فى بهو عظيم، وكان مستقبل هذا البهو صنم عظيم إلى جنبيه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدى الآلهة وقالوا إذا رجعنا وباركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم مستهزئا:(17/46)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
ألا تأكلون، فلما لم يجيبوه قال لهم: مالكم لا تنطقون؟ وراغ عليهم ضربا باليمين، وجعل يكسرهن بفأس فى يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس فى عنقه ثم خرج فذلك قوله:
(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي فتولّوا فأتى إبراهيم الأصنام فجعلهم قطعا قطعا إلا كبيرا لهم لم يكسره.
(لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي لعل هؤلاء الضلال يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم فى حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس فى عنقك أو فى يدك؟ وحينئذ يستبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر لهم أنهم فى عبادتهم على جهل عظيم.
وقد كان هذا بناء على ظنه فى أمرهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم فى آلهتهم وتعظيمهم لها.
فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 65]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
تفسير المفردات
يذكرهم: أي يعيبهم ويسبهم، على أعين الناس: أي على رءوس الأشهاد فى الملأ، يشهدون: أي بفعله أو قوله، فرجعوا إلى أنفسهم: أي ففكروا وتدبروا،(17/47)
الظالمون: أي الظالمون لأنفسكم بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها، ويقال نكسته:
أي قلبته فجعلت أعلاه أسفله، والمراد أنهم بعد أن أفروا أنهم ظالمون انقلبوا من تلك الحال إلى المكابرة والجدل بالباطل.
الإيضاح
(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟) أي قال قوم إبراهيم على سبيل التوبيخ والتأنيب حين رأوا آلهتهم قد صارت جذاذا إلا الذي علق فيه إبراهيم الفأس: من كسر هذه الآلهة وجعلها هكذا؟.
وفى تعبيرهم بالآلهة دون الأصنام تشنيع ومبالغة فى اللوم والتعنيف.
(إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنه لمن زمرة الذين ظلموا أنفسهم وجرءوا على إهانة هذه الآلهة، وهى الحفيّة بالإعظام والتكريم.
(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي قال بعض منهم ممن سمع قوله تالله لأكيدن أصنامكم: سمعنا فتى يعيهم ويستهزىء بهم ولم نسمع أحدا يقول ذلك غيره، وإنا لنظن أنه صنع ذلك بهم.
(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي قال أولئك القائلون من فعل هذا بآلهتنا:
إذا كان الأمر كما ذكرتم فأتوا به بمرأى من الناس ومسمع.
(لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أنه الذي فعل ذلك، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا.
(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) أي فلما أتوا به قالوا له أأنت الذي كسر هذه الأصنام وجعلهم جذاذا؟ وقد طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه وهم مقتنعون بصحة هذه الجريمة فى زعمهم، فما كان منه إلا أن بادرهم بما أدهشهم حتى تمنّوا الخلاص منه فقال:
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي قال: بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر الذي لم يكون(17/48)
وإيضاح هذا- أن إبراهيم عليه السلام لما رأى تعظيمهم لهذا الصنم أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام غضب أشد الغضب وأسند إليه الفعل الصادر منه هو من قبلى أنه هو الذي حمله على ذلك، وهو يومىء بذلك إلى مقصده وهو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه، مع حملهم على التأمل فى شأن آلهتهم.
ومجمل كلامه- إن شديد غضبى من تعظيمكم له حملنى على أن أفعل هذا، والفعل كما ينسب إلى المباشر له ينسب إلى الباعث عليه فهذا الصنم الأكبر قد كان السبب فى استهانتى بهم وتحطيمى إياهم.
(فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي فاسألوهم عن كسرها ليخبروكم به إن كانوا ممن ينطق على زعمكم أنهم آلهة تنفع وتضر.
وقد كانت مقالة إبراهيم عليه السلام قوية الحجة شديدة الوقع فى نفوسهم، وكأنما ألقمهم حجرا، وذلك ما أشار إليه بقوله:
(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي فرجعوا على أنفسهم بالملامة، إذ علموا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على إلحاق الضر بمن ألحق به الأذى- يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له، وإذا فكيف يستحق أن يكون معبودا؟
ثم بين ملامتهم لأنفسهم بقوله:
(فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي فقال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون بعبادة ما لا ينطق، وما هذا منكم إلا غرور وجهل بما ينبغى أن تكون عليه حال المعبود.
ثم أبان أنهم اركسوا بعدئذ ورجعوا عن فكرة سليمة لا غبار عليها بوصفهم أنفسهم بالظلم إلى فكرة خاطئة وهى الحكم بصحة عبادتها مع اعترافهم بأن حالهم دون حال الحيوان، فلا ينبغى لعاقل أن يعبدها فقال:
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا إنما اتخذناهم آلهة مع علمنا بأنهم لا ينطقون ولا يتكلمون، فكيف تأمرنا بسؤالهم، وإنما قال ينطقون ولم يقل يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على(17/49)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
السمع والعقل أيضا، من قبل أن نتيجة السؤال الجواب، وأن عدم نطقهم أبلغ فى تبكيتهم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 70]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
تفسير المفردات
أف: كلمة تدل على أن قائلها متضجر متألم من أمر، والكيد: المكر والخديعة.
المعنى الجملي
بعد أن أقروا على أنفسهم بأن لا فائدة فى آلهتهم، قامت لإبراهيم الحجة عليهم فوبخهم على عبادة ما لا يضر ولا ينفع، إذ هذا ما لا ينبغى لعاقل أن يقدم عليه، وبعد أن دحضت حجتهم وبان عجزهم انقلبوا إلى العناد واستعمال القوة الحسية، إذ أعيتهم الحجة، فقالوا حرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم التي جعلها جذادا، ولكن الله سلمه من كيدهم وجعل النار بردا وسلاما عليه.
الإيضاح
(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟) أي قال إبراهيم مبكتا لهم: أفتعبدون غير الله معبودات لا تنفعكم شيئا فتعلقوا رجاءكم بها، ولا تضركم شيئا فتخافوها.(17/50)
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي تبّا لكم وقبحا لمعبوداتكم التي اتخذتموها من دون الله.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر، وأنتم الشيوخ الذين بلوا الزمان حلوه ومرّه، وحنّكتهم تجارب الأيام، فمن حقكم أن تعاودوا الرأى وتقلّبوه ظهرا لبطن، لعلكم ترشدون بعد الضلال، وتهتدون بعد الغىّ والعمى.
ولما بان عجزهم وحصحص الحق لجئوا إلى الغلظة واستعمال القسوة، وذلك ما أشار إليه بقوله:
(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال بعضهم لبعض: حرّقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها، ولا تريدون خذلانها وترك عبادتها.
ثم أبان سبحانه أنه أبطل كيدهم ودفع عنه هلاكا محققا بمعونته وتأييده فقال:
(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي فأوقدوا له نارا ليحرّقوه ثم ألقوه فيها فقلنا للنار: يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم أي ابردى بردا غير ضارّ به.
روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما ألقى إبراهيم فى النار قال:
اللهم إنك فى السماء واحد، وأنا فى الأرض واحد أعبدك» .
(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي وأرادوا بإبراهيم مكرا لإيصال الأذى به، فجعلناهم من ذوى الخسران والوبال، إذ صار سعيهم فى إطفاء نور الحق قولا وفعلا- برهانا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل، وأنهم استحقوا أشد العذاب.
وفى هذا القصص من العبرة- أن الجهاد لنصرة الحق والفضيلة فيه الخير كل الخير، وأنه مهما صادف المرء فيه من آلام وأهوال فهى هيّنة لينة، فلنجاهد إذا مثل ما جاهد إبراهيم، فإن متنا أو قتلنا فإن ما يصيبنا فى سبيل الحق يكون لنا عزا وشرفا.(17/51)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 75]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
تفسير المفردات
لوط: هو ابن أخى إبراهيم: قاله ابن عباس، والأرض: هى أرض الشام.
نافلة: أي عطية ومنحة، حكما: أي نبوة، القرية: هى سدوم التي بعث إليها لوط، والخبائث: الأعمال الخبيثة التي يستقذرها أرباب الفطر السليمة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به إبراهيم من نجاته من النار- قفى على ذلك ببيان أنه أخرجه من بين قومه مهاجرا إلى بلاد الشام وهى الأرض المباركة، ثم وهب له من الذرية إسحق وابنه يعقوب عليهما السلام وكانا أهل صلاح وتقوى يقتدى بهما ويأتمر بأمرهما، ثم أردف ذلك بذكر ما آتاه لوطا من العلم والنبوة، وجعله يعزف عن مفاسد تلك القرية التي كان يقيم فيها بين ظهرانى أهلها وقد أهلكهم جميعا، وأنجاه هو وأهله وأدخله في جنات النعيم، وقرّبه إلى حظيرة قدسه، وساحة رحمته.
الإيضاح
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي إنه تعالى أتم عليه النعمة فأنجاه وأنجى لوطا معه إلى الأرض التي باركها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء الذين(17/52)
انتشرت شرائعهم فى أقاصى المعمور وكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها، فهى أس الخيرات الدينية والدنيوية معا.
وقد خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق ومعه لوط وسارّة يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه، حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها وجاء إلى مصر، ثم رجع إلى الشام ونزل بفلسطين، وترك لوطا بالمؤتفكة وهى منها مسيرة يوم وليلة.
ثم ذكر سبحانه ما أفاضه من النعم على إبراهيم فقال:
(1) (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي ووهبنا لإبراهيم إسحق ولدا ويعقوب ولد ولد، عطية منا وفضلا، لا جزاء مستحقا.
(2) (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي وجعلنا كلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب مطيعا لربه، مجتنبا محارمه.
(3) (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي وجعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى، وإلى الخيرات بأمرنا وإذننا.
(4) (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي وأوحينا إليهم فيما أوحينا، أن افعلوا الطاعات، واتركوا المحرمات.
(5، 6) (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي وأوحينا إليهم، أن أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقد خصهما بالذكر من بين سائر العبادات، لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية، والمال شقيق الروح، ومجموع العبادتين تعظيم الخالق والشفقة على المخلوق.
وبعد أن بين صنوف نعمه عليهم ذكر اشتغالهم بعبادته فقال:
(وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي وكانوا خاشعين لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا، ولا يخطر لهم ببال سواها.(17/53)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى حين وفى لهم بعهد الربوبية من الإحسان والإنعام وفوا له بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.
وبعد أن ذكر ما أنعم به على إبراهيم أتبعه بذكر ما أنعم به على لوط فقال:
(1) (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) أي وآتينا لوطا الحكم وهو حسن الفصل بين الخصوم فى القضاء.
(2) (وعلما) بأمر دينه وما يجب عليه لله من واجب الطاعة والإخبات له.
(3) (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل تلك القرية التي كانت تعمل خبائث الأعمال، التي من أشنعها إتيان البيوت من غير أبوابها.
ثم بين السبب الذي دعاهم إلى ذلك فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي إن الذي حملهم على ذلك وجرأهم على ارتكابه أنهم كانوا خارجين عن طاعة الله، منتهكين حرماته، قد دسّوا أنفسهم بقبيح الأفعال والأقوال، فلا عجب إذا هم لجوا فى طغيانهم يعمهون.
(4) (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي وجعلناه فى جملة من يستحقون رحمتنا ولطفنا، بإدخاله جنتنا، كما
جاء فى الحديث الصحيح: «قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتى، أرحم بك من أشاء من عبادى» .
ثم ذكر علة هذا بقوله:
(إِنَّهُ مِنَ عبادنا الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى، إذ كان ممن يعملون بطاعتنا، فيأتمرون بأمرنا، وينتهون عن نهينا.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)(17/54)
تفسير المفردات
الكرب: الغم الشديد والمراد به هنا العذاب النازل بقومه وهو الغرق بعد أن لقى منهم الأذى، قوم سوء: أي منهمكين فى شرورهم وآثامهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصة إبراهيم وهو أبو العرب- أردفها بقصة نوح وهو الأب الثاني للبشر على المشهور من أن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام.
الإيضاح
(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي واذكر أيها الرسول نبأ نوح إذ نادى ربه من قبلك ومن قبل إبراهيم، فسألنا أن نهلك قومه الذين كذبوا الله فيما توعدهم به من وعيده، وكذبوه فيما آتاهم به من الحق من عند ربه فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» وقال:
«أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهل الإيمان من ولده وأزواجهم، مما حل بالمكذبين من الغرق.
روى أنه بعث وهو ابن الأربعين ومكث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، فذلك ألف وخمسون سنة
كذا فى التحبير.
(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ونصرناه على القوم الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا.
(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لأنهم كانوا يسيئون الأعمال، فيعصون الله ويخالفون أوامره، ويتصدّون لأذى نبيهم، ويتواصون جيلا بعد جيل بمخالفة أمره، ورفع راية العصيان فى وجهه.(17/55)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
تفسير المفردات
الحرث هنا: الزرع، والنفش: رعى الماشية فى الليل بلا راع، وشاهدين: أي حاضرين، واللبوس: الدروع، والبأس: الحرب، والريح العاصف: الشديدة الهبوب، إلى الأرض التي باركنا فيها: هى أرض الشام، والغوص: النزول إلى قاع البحار لإخراج شىء منها، ودون ذلك: أي غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصناعات الغريبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أنعم الله به على نوح عليه السلام من النعم الجليلة- قفّى على ذلك بذكر الإحسان العظيم الذي آتاه داود وسليمان عليهما السلام وهو قسمان:
(1) نعم مشتركة بينهما وبين غيرهما من النبيين وهى العلم والفهم وإلى ذلك أشار بقوله: وكلا آتينا حكما وعلما.
(2) نعم خاصة بواحد دون الآخر.(17/56)
(ا) فأنعم على داود بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وتعليم صنعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.
(ب) وأنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجرى بأمره، وبتسخير الشياطين تغوص فى البحار، لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.
الإيضاح
(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي واذكر أيها الرسول الكريم نبأ داود وسليمان عليهما السلام حين حكما فى الزرع الذي رعته غنم لقوم آخرين غير صاحب الحرث ليلا فأفسدته، وكان ربك شاهدا عليما بما حكم به داود وسليمان بين القوم الذين أفسدت غنمهم الحرث وصاحب الحرث، لا يخفى عليه شىء منه ولا يغيب عنه علمه، ففهّم الفتيا فى ذلك لسليمان دون داود، وقد كان كل منهما فيصلا فى الحكم فى الخصومات، ذا علم بالدين والتشريع.
وقد روى الرواة فى تفصيل هذه القصة- أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا الرجل أرسل غنمه فى حرثى فلم تبق منه شيئا، فقال داود: اذهب فإن الغنم كلها لك، ومرّ صاحب الغنم بسليمان فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال يا نبى الله:
إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال كيف؟ قال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من درّها وأولادها وأشعارها، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان، ثم يترادان فيأخذ صاحب الحرث حرثه وصاحب الغنم غنمه، فقال داود:
القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك.(17/57)
وجه الرأى لدى كل منهما- إن داود قدر الضرر فى الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم فسلم الغنم للمجنى عليه، وإن سليمان قدر منافع الغنم بمنافع الحرث فحكم بها، وكان حكمهما بالاجتهاد دون الوحى، إذ لو كان به ما أمكن تغييره.
نعم الله على داود عليه السلام
(1) (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي وسخرنا الجبال والطير لداود تقدّس الله معه بحيث تتمثل له مسبّحة، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره، فيستغرق فى التسبيح، وكنا فاعلين لأمثاله، فليس ذلك ببدع منا وإن كنتم أنتم تعجبون منه، فإن المستغرقين فى التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله فى نظرهم مسبحا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه.
ونحو الآية قوله: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .
(2) (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي وعلمناه صنعة الدروع وقد كانت صفائح فجعلها حلقا، فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم- أذى الحرب من قتل وجرح ونحوهما.
(فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟) أي فاشكروا الله على ما يسّره لكم من هذه الصنعة التي تمنع عنكم غوائل الحروب وتقيكم ضرها وعظيم أذاها.
نعم الله على سليمان عليه السلام
ورّث الله سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده أمرين أشار إليهما بقوله:
(1) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة شديدة الهبوب تارة، ورخاء لينة تارة أخرى.(17/58)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
وفى كل حال منهما تجرى بأمره إلى أي بقعة من الأرض المقدسة، فيخرج هو وأصحابه حين الغداة إلى حيث شاءوا ثم يرجعون فى يومهم إلى منزله بالشام.
وقد رووا أنه كان له بساط من الخشب يضع عليه كل ما يحتاج إليه من أدوات الحرب كالخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحركه ثم ترفعه وتسير به، وتظله الطير لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، ثم ينزل وتؤخذ الآلات إلى حيث شاء كما قال: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» وقال: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» .
(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي فما آتيناه الملك والنبوة وما سخرنا له الريح تجرى بأمره إلا لعلمنا بما فى ذلك من الحكمة والمصلحة، وأن قومه سيعرفون نعمتنا فيشكروننا عليها.
(2) (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخرنا له من الشياطين من يغوصون له فى البحار ويستخرجون منها اللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك.
(وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ) أي ويعلمون له غير ذلك كبناء المحاريب والتماثيل والقصور والجفان ونحو ذلك.
(وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي وكنا حافظين لأعمالهم فلا يناله أحد منهم بسوء، فكل فى قبضته وتحت قهره لا يجسر على الدنوّ منه وهو المتحكم فيهم إن شاء حبس وإن شاء أطلق كما قال: «وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)(17/59)
تفسير المفردات
أيوب: هو أيوب بن أموص اصطفاه الله وبسط الدنيا وكثر أهله وماله، ثم ابتلاه بموت أولاده بسقوط البيت وبذهاب أمواله وبالمرض فى بدنه ثمانى عشرة سنة، وسنه إذ ذاك سبعون سنة، ثم آتاه الله من الأولاد ضعف ما كان وأزال عنه ما به من مرض، وسيأتى تفصيل قصصه فى سورة ص، والضرر: شائع فى كل ضرر، والضر (بالضم) : خاص بما فى النفس من مرض وهزال ونحوهما، والذكرى: التذكرة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص داود وسليمان وما كان منهما من شكر على النعماء- أردف ذلك قصص أيوب لما فيه من صبر على البلاء، فداود وسليمان شكرا على النعم المترادفة، وأيوب صبر على النقم النازلة، فأزيلت عنه.
وإن فى قصصه الذي ذكر هنا وفى مواضع من الكتاب الكريم لعبرا له ولغيره ممن سمع به، ولفتا لأنظارهم إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها ويجتهد فى القيام بحق الله ويصبر فى حالى السراء والضراء.
الإيضاح
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي واذكر نبأ أيوب حين دعا ربه وقد مسه الضر والبلاء فقال: رب إنى قد مسنى الضر وأنت أعظم رحمة من كل رحيم.
وقد وصف أيوب نفسه بما يستحق به الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بمطلوبه إيماء منه بأن ربه به عليم، فكأنه يقول: أنا أهل لأن أرحم، وأنت(17/60)
الكريم الجواد الذي يرحم، فأفض علىّ من جودك ورحمتك ما يسعفنى ويدفع الضر عنى فأنت أرحم الراحمين.
وهذا أسلوب من الطلب دقيق المسلك حكيم المنحى.
روى أن امرأته قالت له يوما لو دعوت الله، فقال: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت ثمانين سنة، فقال أستحيى من الله أن أدعوه، ما بلغت مدة بلائي مدة رخائى.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ضره، وقد كان الذي نزل به امتحانا من الله واختبارا له.
(وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي وأعطيناه فى الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر، فولد له من الأولاد ضعف ما كان.
(رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي آتيناه ما ذكر رحمة منا لأيوب، وتذكرة للعابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب فى الدنيا والآخرة.
وخلاصة ما سلف- إن أيوب ابتلى فى نفسه وولده وماله، فابتلى بالمرض وهلاك الأولاد وضياع الأموال امتحانا منه تعالى واختبارا له، ثم كشف عنه ما به من ضر فشفى من أمراضه التي أصيب بها، وأنجب من الأولاد ضعف ما كان، وحسن حاله فى ماله فزال ما به من عدم وإقتار.
ولم يصرح القرآن الكريم بما صار إليه من سعة فى المال كما صرح بما صار إليه أمره من كثرة الولد.
وما روى من مقدار ما لحقه من الضر فى نفسه حتى وصل إلى حد النفرة منه، وأن الناس جميعا تحاموه وطردوه من مقامه إلى ظاهر المدينة فى موضع الكناسة ولم يكن يتصل به إلا امرأته التي تذهب إليه بالزاد والقوت- فكل ذلك من الإسرائيليات التي يجب الاعتقاد بكذبها، لأنه ليس لها من سند صحيح يؤيدها، ولأن من شروط النبوة ألا يكون فى النبي من الأمراض والأسقام ما ينفر الناس منه، ولأنه متى كان كذلك لا يستطيع الاتصال بهم وتبليغ الشرائع والأحكام إليهم، وسيأتى لهذا مزيد إيضاح فى سورة ص.(17/61)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صبر أيوب عليه السلام ودعاءه ربه وانقطاعه إليه حتى كشف عنه الضر- قفّى على ذلك بذكر هؤلاء الأنبياء الذين صبروا على ما أصابهم من لمحن والشدائد.
الإيضاح
(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي واذكر نبأ هؤلاء الرسل الكرام الذين صبروا على ما ابتلاهم الله به وأخبتوا له، فنالوا رضاه وأدخلهم جنته.
(1) أما إسماعيل فإنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع، وصبر على بناء البيت وتكلف المشاق فى ذلك وقد أكرمه الله فأخرج من صلبه خاتم النبيين.
(2) وأما إدريس- أخنوخ- فهو موضع التجلة والاحترام لدى قدماء المصريين وهو المسمى عندهم (أوزيس) ويزعم كثير من الناس أنه أول من خاط الثياب، ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة، وقد تقدم قصصه بإسهاب فى سورة مريم.
(3) وأما ذو الكفل- والكفل: الحظ والنصيب- فقد اختلف العلماء فى شأنه، فمن قائل إنه نبى وهم الأكثرون، وقالوا إنه ابن أيوب عليه السلام، بعثه الله نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيد الله، وأقام عمره بالشام. وقال(17/62)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
أبو موسى الأشعري ومجاهد لم يكن نبيا بل كان عبدا صالحا استخلفه اليسع عنه على أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل.
(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأدخلنا كل هؤلاء جنات النعيم جزاء لهم على ما فعلوا من صالح الأعمال.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
تفسير المفردات
النون: الحوت وجمعه نينان، وذو النون: أي صاحب الحوت وهو يونس بن متى، مغاضبا: أي غضبان من قومه، لتماديهم فى العناد والطغيان، نقدر عليه: أي نضيق عليه فى أمره بحبس ونحوه، والظلمات: هى ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل
الإيضاح
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي واذكر نبأ يونس عليه السلام حين بعثه الله إلى أهل نينوى (قرية بالموصل) فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته، فأبوا عليه وتمادوا فى كفرهم، فخرج من بين ظهرانيهم مغاضبا لهم، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث.
فلما تحققوا أنه كائن لا محالة، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله وجأروا إليه ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وعجاجيلها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله(17/63)
عنهم العذاب كما قال: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم فى سفينة، فلما وصلوا اللجة تكفّأت بهم وأشرفوا على الغرق، فاقترعوا على رجل منهم يلقونه فى البحر يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا كما يرشد إلى ذلك قوله: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
ثم قام يونس وتجرد من ثيابه وألقى بنفسه فى البحر، فأرسل الله إليه حوتا يشق البحر فالتقمه.
ومعنى مغاضبته قومه أنه أغضبهم بفراقه وهجرته من ديارهم، لأنهم حين تمادوا فى تكديبه توعدهم بالعذاب، لكنه لم يأتهم لأنهم تابوا، فكره أن يكون بين ظهرانى قوم جرّبوا عليه الخلف فيما أوعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم توبتهم التي كانت سبب رفع العذاب عنهم.
وخلاصة ذلك- إن غضبه كان أنفة من ظهور خلف وعده لا كراهية لحكم الله، وقد بحث عنه قومه فلم يجدوه، لأنه نزل إلى سفينة فى البحر هاربا، فأخرجه الله من الأنبياء أولى العزم كما قال لنبيه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» أي لا تلق أمرى كما ألقاه.
(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي فظن أن لن نضيّق، عليه الأمر بالحبس أو بغيره.
(فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) أي فدعا ربه فى الظلمات الثلاث التي سبق ذكرها- سبحانك لا إله غيرك، ولا يعجزك شىء.
(إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسى بالمبادرة بالهجرة دون أمر منك.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه الذي دعا به، وأظهر به التوبة على ألطف وجه وأحسنه(17/64)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
روى ابن جرير والبيهقي فى جماعة عن سعد بن أبى وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوة ذى النون فى بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه فى شىء قط إلا استجاب له» .
وروى عن أنس مرفوعا أنه عليه الصلاة والسلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحفّ بالعرش، فقالت الملائكة هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال الله تعالى:
أما تعرفون ذلك؟ قالوا يا رب من هو؟ قال ذاك عبدى يونس، قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل ودعوة مجابة، يا رب أفلا ترحم من كان يصنع فى الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال بلى، فأمر الحوت فطرحه
، فذلك قوله:
(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ) الذي ناله حين التقمه الحوت، فجعلناه يقدفه إلى الساحل بعد ساعات، قال الشعبي: التقمه ضحى، ولفظه عشيّة.
(وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من كربهم إذا استغاثوا بنا طالبين رحمتنا.
قال الرازي: شرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والاعتراف بالذنب، وسيأتى ذكر هذا القصص فى الصافات ون.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
المعنى الجملي
بين سبحانه فى هذا القصص انقطاع زكريا إلى ربه لمّا مسه الضر بتفرده، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقوّيه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته،(17/65)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
فدعا ربه دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك، وأنه قد انتهت الحال به وبزوجه من كبر وغيره إلى اليأس من الولد على مجرى العادة.
الإيضاح
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي واذكر خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا، فقال خفية عن قومه: رب لا تدعنى وحيدا لا ولد لى ولا وارث يقوم بعدي فى النادي، فإن لم ترزقنى من يرثنى فلا أبالى فإنك خير وارث، وقد تقدم هذا القصص، مبسوطا فى سورتى آل عمران ومريم.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي فأجبنا سؤله، ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه بأن أزلنا عنها الموانع التي كانت تمنعها من الولادة، فولدت له بعد أن كانت عقيما.
ثم ذكر السبب فى إجابة مطلبهم فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي لأن زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون فى طاعتنا، والعمل بما يقرّبهم إلينا.
(وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي ويعبدوننا، رغبة منهم فيما يرجون من رحمتنا وفضلنا، وخوفا من عذابنا وعقابنا.
(وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي وكانوا لنا متواضعين متذللين، لا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا.
وخلاصة ما سلف- إنهم نالوا من الله ما نالوا، لا تصافهم بتلك الخلال الحميدة.
[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)(17/66)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
تفسير المفردات
الإحصان: المنع مطلقا، والفرج فى الأصل: الشق بين الشيئين كالفرجة، ثم أطلق على السّوءة، وكثر حتى صار كالصريح فى ذلك، والروح هو المعنى المعروف، ونفخ الروح: هو الإحياء، آية: أي برهانا ودليلا على قدرة الله.
الإيضاح
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي ومريم التي منعت نفسها من قربان الرجال سواء أكان من حلال أم من حرام كما قالت: «وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» وجاء فى سورة التحريم: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» .
(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي فنفخنا الروح فى عيسى فى بطنها وجعلناه يجرى فى جوفها.
(وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي وجعلنا أمرهما آية للناس يستدلون به على قدرة الله وحكمته، ويتدبرون فيما خصّا به من الآيات.
أما آيات مريم فمنها:
(1) ظهور الحمل من غير ذكر.
(2) إن الملائكة كانت تأتيها برزقها كما حكى القرآن قول زكريا لها وردها عليه:
«يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .
وأما آيات عيسى فقد سبق تفصيلها فى سورتى آل عمران ومريم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)(17/67)
تفسير المفردات
الأمة: القوم المجتمعون على أمر ثم شاع استعمالها فى الدين، وتقطعوا أمرهم بينهم:
أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، وحرام: أي ممتنع، وقرية: أي أهلها، أهلكناها:
أي قدرنا هلاكها، يأجوج ومأجوج تقدم الكلام فيهما وفى بيان أصلهما، وحدب:
أي مرتفع من الأرض، ينسلون: أي يسرعون، واقترب: أي قرب، الوعد الحق:
هو يوم القيامة، شاخصة: أي مرتفعة أجفانها لا تكاد تطرف من شدة الهول، والويل: الهلاك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص جمع من الأنبياء كنوح وإبراهيم وإدريس وموسى وعيسى وبيّن ما أوتوا من الشرائع والأحكام على وجه الإجمال- قفى على ذلك ببيان أن لبّ الدين عند الله واحد، وأن جميع الأنبياء قد اتفقوا عليه، ولم يختلفوا فيه فى عصر من الأعصار، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وأنه هو القاهر فوق عباده المالك لجميع السموات والأرض، لا يئوده حفظهما وهو العلى العظيم، وإن اختلفوا فى الرسوم والأشكال بحسب اختلاف الأزمان والأمكنة، فعليكم أيها المسلمون أن تحافظوا على وحدة دينكم، وألا تجعلوه عضين، وكأنه يقول لهم: عليكم ألا تركنوا(17/68)
إلى خوارق العادات كما رأيتم فى قصص موسى، ولا تدعوا نظم الدولة بل سوسوها كما كان يفعل داود وسليمان، ولا تذروا الصبر فى جميع الأعمال كما رأيتم فى قصص أيوب ومن بعده.
ثم نعى على المسلمين ما سيحدث منهم فى مستأنف الزمان حين يتفرقون شيعا، يذوق بعضهم بأس بعض، ويجعلون الدين قطعا فيما بينهم كما تتوزع الجماعة الشيء يقتسمونه، فيصير لهذا نصيب ولذاك آخر.
وهذا إخبار بالغيب، لما سيحصل فى هذه الأمة الإسلامية، وقد حدث فعلا وافترقت الأمة سياسيا واجتماعيا بوساطة بعض رؤساء الدين، فأعرض الله عن هؤلاء المختلفين وقطّعهم بين الأمم، كما قطعوا أمرهم بينهم واقتسموه.
ثم بين سبحانه أنه يثيب عباده على صالح الأعمال إذا كانت القلوب عامرة بالإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن كل عمل جلّ أو قل فهو مكتوب محفوظ لديه، لا يغيب عنه مثقال ذرة، وأن جميع الخلق راجعون إليه، فيثيب كل إنسان بما عمل من خير أو شر، وأن الساعة قد اقترب ميقاتها، ثم أخبر أن المشركين يدعون إذ ذاك على أنفسهم بالويل والثبور، ويقولون يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله، وكنا ظالمين لأنفسنا، ولا ينفع الندم إذ ذاك.
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
الإيضاح
(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي إن الدين عند الله هو الانقياد له وحده لا يقبل غيره، وعليه اتفق جميع الأنبياء والشرائع، وما اختلفوا إلا فى الرسوم والصور بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، فعليكم أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا من صنم أو وثن، شجر أو حجر أو بشر أو ملك.
ثم نعى على المسلمين ما فعلوا من تفريق شأنهم فرقا وشيعا فقال:(17/69)
(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي وإنهم قد فرقوا أمرهم بينهم فرقا شتى كل فرقة تنمى على من سواها، وتشيد بمفاخرها، وقد كان لهم فى عبر الماضين ما يمنعهم أن يقترفوا مثل هذا الجرم وكبير ذلك الإثم.
قال الحسن البصري فى هذه الآية- يبين لهم ما يتّقون وما يأتون- يريد أن هذا إخبار بالغيب بما سيكون منهم.
والخلاصة- إنهم قد غفلوا عما أمر به دينهم من وجوب الاعتصام بوحدة الأمة ونبذ الفرقة، ففعلوا ضد هذا، وذاق بعضهم بأس بعض، وكان فى هذا وبال للجميع، وتمكن عدوهم من أن يهيض جناحهم، ويبطش بهم ويستعبدهم فى عقر دارهم، ويسيمهم الخسف والصغار، بعد أن كانوا سادة أحرارا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ثم توعدهم على ما فعلوا فقال:
(كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي إنهم سيرجعون إلينا ونجازيهم على تفرقهم واختلافهم شيعا.
وفى هذا إخبار بالغيب بما سيحدث فى هذه الأمة التي ذاقت وبال أمرها، وعاقبة اختلافها، وكانت لقمة سائغة للآكلين، ونهبا مقسّما بين الطامعين، جزاء ما اجترحت من التفرق شذر مذر «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .
وبعد أن أبان أن افتراق الأمة واقع لا محالة أردفه فتح باب الرجاء فى لمّ شعثها واتفاقها بعد تفرقها، عسى أن تقوم من كبوتها، وترجع إلى وحدتها، وتصير لها الدّولة والصّولة كما كانت فى سالف عهدها فقال:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي ومن يعمل صالح الأعمال وقلبه ملىء بالإيمان بربه، والتصديق لأنبيائه ورسله، واليقين بيوم الآخر يوم تجزى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فإنا لا نضيع سعيه ولا نبخسه حقه، بل نوفيه على عمله الجزاء الأوفى، وإنا مثبتون له ذلك فى صحيفة أعماله، لا نترك منه شيئا جلّ أو قل، عظم أو حقر.(17/70)
ونحو الآية قوله: «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» وقوله: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» .
(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ممتنع أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا.
(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي ويستمر هذا الامتناع إلى قيام الساعة: ومن أماراتها فتح سد يأجوج ومأجوج، وإتيان الناس سراعا من كل مرتفع من الأرض، والمقصود الرد على المشركين فى إنكارهم للبعث والجزاء.
والخلاصة- إنه لا تزال حياة من مات وهلك ممتنعة ولا يمكن رجوعهم إليها حتى تقوم الساعة، ويسرع الناس من كل حدب من الأرض.
(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقرب مجىء يوم القيامة، وإذ ذاك تشخص أبصار الذين كفروا وترتفع أجفانهم، فلا تكاد تطرف من هول ما هم فيه حين يقومون من قبورهم ويعلمون أن هذا يوم الحساب الذي لم يعدّوا له العدّة، بل كانوا ينكرون مجيئه وحينئذ يقولون:
(يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أي يا هلاكنا احضر فهذا أوانك، فقد كنا فى الدنيا فى غفلة من هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء- لا بل الحق أننا لم نكن فى غفلة إذ نبهتنا الآيات والنذر، وإنما كنا ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.
وصفوة القول- إن الناس لا يرجعون إلى الحياة حتى تزلزل الأرض زلزالها، ويختل نظام هذا العالم، فتموج الأمم بعضها فى بعض بتفريق أجزائها، لا فرق بين يأجوج ومأجوج وغيرهما- فذكرهما رمز لاختلال الأرض وخرابها، فكأنه قيل إنهم لا يرجعون إلى الحياة إلا إذا اختل نظام العالم ورجّت الأرض رجا، وماجت الأمم بعضها فى بعض، وخرج الكفار من قبورهم شاخصة أبصارهم من الهول الذي هم فيه،(17/71)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
وقد ذكرنا فى سورة الكهف من يأجوج ومأجوج؟ وأين مساكنهم على وجه البسط؟
فلا حاجة إلى إعادته هنا.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 104]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)
تفسير المفردات
الحصب: ما يرمى به فى النار لاشتعالها، والزفير: صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، والحسنى: أي الكلمة الحسنى التي تتضمن البشارة بثوابهم حين الجزاء على أعمالهم، والحسيس: الصوت الذي يحس من حركتها، والسجل:
هو الصحيفة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه هول الموقف، ودعاء المشركين على أنفسهم بالهلاك فى هذا الحين، وشخوص أبصارهم من الحيرة والدّهش مما يشاهدون ويرون- أردف هذا ذكر ما يئول إليه أمرهم بعد الحساب، وأنهم يكونون هم ومعبوداتهم من الأصنام والأوثان(17/72)
حطبا للنار حين يردونها، وأنهم من شدة العذاب فيها يكون لهم أنين وزفير، حتى لا يسمع بعضهم أصوات بعض، لفظاعة ما هم فيه من العذاب.
أما من كتبت له السعادة والنجاة من النار فأولئك يكونون مبعدين عنها لا يسمعون صوت لهيبها، ولا يخافون من أهوالها وآلامها، بل يكونون فى نعيم دائم وتستقبلهم الملائكة مهنئين لهم قائلين: هذا يومكم الذي كنتم توعدون فى الدنيا.
ثم أعقب ذلك بذكر حال السماء حينئذ، وأنها تطوى طيا وكأنها لم تكن كما يطوى الكاتب الطومار الذي يكتب فيه، ويحوّل ذلك العالم المشاهد إلى عالم آخر فيخلق الله أرضا جديدة وكواكب جديدة ويعيد الناس للحساب، وهو القادر على ذلك، فكما قدر على خلقه أول مرة يعيده فى حال أخرى كما قال: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» .
الإيضاح
(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي إنكم أيها المشركون بالله العابدون من دونه الأوثان والأصنام، وما تعبدون من دونه من الآلهة- وقود جهنم، وإنكم واردوها وداخلون فيها.
ونحو الآية قوله: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» .
والحكمة فى أن الآلهة تقرن بهم وتدخل معهم فى النار:
(1) إنهم كلما رأوهم ازدادوا غما وحسرة، لأنهم ما وقعوا فى العذاب إلا بسببهم وقد قالوا: النظر إلى وجه العدوّ باب من أبواب العذاب (2) إنهم قد كانوا فى الدنيا يظنون أنهم يشفعون لهم فى الآخرة ويدفعون عنهم العذاب، فإذا استبان لهم أن الأمر على عكس ما كانوا يظنون لم يكن شىء أبغض إليهم منهم.
(3) إن إلقاءهم فى النار استهزاء بهم وبعبادتهم.(17/73)
ثم بين لهم بالدليل خطأ ما يعتقدون فقال:
(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي لو كان هؤلاء الأصنام آلهة كما تزعمون أيها العابدون- ما وردوا النار ولا دخلوها، لكنه قد اتضح لكم على أتمّ وجه أنهم وردوها، إذ صاروا حطبها، فامتنع كونهم آلهة.
وقصارى ذلك- إن الأصنام إذا كانت لا تنفع نفسها، ولا تدفع الضر عنها، فهى أبعد من أن تدفع الضر عن غيرها، ومن جرّاء ذلك فهى جديرة بالتحقير والإهانة، لا بالتعظيم والعبادة.
(وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي وكل من الآلهة ومن عبدوها ما كثون فى النار أبدا، لا خلاص لهم منها.
ثم بين أحوالهم فيها فقال:
(1) (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي لهم فى النار أنين ونفس متقطع، من شدة ما ينالهم من العذاب.
(2) (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي وهم فى النار لا يسمع بعضهم زفير بعض، لعظم الهول وفظاعة العذاب.
وبعد أن ذكر حال أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف عليه بيان أحوال السعداء من المؤمنين بالله ورسوله وقد أسلفوا صالح الأعمال فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي إن الذين سبق لهم التوفيق للطاعة، وأخبتوا لله وأخلصوا له العمل- لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة.
ثم ذكر أوصافهم حينئذ فقال:
(1) (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي لا يسمعون صوت النار الذي يحسّ من حركتها، ولا يرون اضطرابها من شدة توهّجها.
(2) (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي إنهم فى حبور دائم، ونعيم لا ينقطع.
(3) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي لا يخيفهم هول النفخة الأخيرة فى الصور(17/74)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
حين قيامهم من قبورهم للحساب كما قال: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» .
(4) (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي وتستقبلهم الملائكة بالبشرى من النجاة من العذاب قائلين لهم: هذا هو اليوم الذي كنتم توعدون فى الدنيا بمجيئه، وتبشرون بما لكم فيه من الثواب، كفاء إيمانكم بالله وطاعتكم له، وتزكية أنفسكم بصالح الأعمال، باتباعكم أوامر ربكم واجتنابكم نواهيه.
وقصارى ذلك- إنهم خلصوا من كل ما يكرهون، وفازوا بكل ما يحبون (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي هم لا يفزعون حين تطوى السماء وتزال، وتأتى سماء أخرى جديدة، وكواكب أخرى، كما يطوى الطومار على ما يكتب فيه، لحفظه من الضياع والمحو.
والخلاصة- إنه لا يلحقهم الفزع حين تمحى رسوم السماء وتذهب آثارها، وتخلق أرض جديدة وكواكب جديدة.
(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي وهكذا نخلقكم خلقا جديدا للحشر كى تحاسبوا، فالناس ترجع للحياة على طراز غير طراز الدنيا، وكذلك العوالم جميعها.
(وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي تلك الإعادة عدة منا كائنة لا محالة، ولا بد من تحققها، لأنا قادرون عليها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 الى 107]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
تفسير المفردات
الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء، والذكر: اللوح المحفوظ، والبلاغ الكفاية، والعابد: من عمل بما يعلم من أحكام الشريعة وآدابها.(17/75)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال كل من الكافرين والمؤمنين فى الآخرة- ذكر أن الدنيا ليست كالآخرة، فلا يرثها إلا من كان قادرا على إصلاحها، والانتفاع بخيراتها، والاستفادة مما على ظاهرها وباطنها، فمن كان أحصف رأيا، وأحكم فكرا، ملكها وتسلط عليها، وجنى ثمارها واهتدى إلى ما أودع فيها من الخير.
ثم بين أن ما أوحى إلى الرسول من الشرائع وضروب الهداية كاف جدّ الكفاية لمن يعتبر بسنن الله فى الكون، فيستفيد منها ما ينفعه فى دينه ودنياه، فجميع ما جاء به الوحى من المواعظ وأحكام الشرائع هداية وذكرى لو تدبرها المتدبرون، وتأملها المنصفون.
الإيضاح
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) أي ولقد كتب الله عنده، وأثبت فى قديم علمه الأزلى الذي لا ينسى، ثم أثبت فى الكتب السماوية من بعد ذلك أن الأرض لا يعمرها من عباده إلا من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأىّ مذهب انتجل.
وصلاح الأمة يقوم على أربعة عمد:
(1) أن يكون قادتها علماء مفكرين، وساستها حكماء عادلين، بعيدين عن الجور والظلم والمحاباة، يأخذون بيد المظلوم وينصفونه من الظالم، ويعملون لخير الأمة وسعادتها، ويواصلون ليلهم بنهارهم فى كل ما يرفع من شأنها، ويسمو بها على الأمم.
(2) أن يكون لها جيش منظم يحمى حريمها، ويدافع عنها إذا جدّ الجدّ، وادلّهم الخطب، ولن يكون كذلك إلا إذا كان فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون، ولديه من السلاح وعدد الحرب ما يكشف عنه العلم من وسائل الدفاع، من(17/76)
طائرات وغواصات وسفن خربية وآلات للهدم والتدمير، وجند حذقوا فنون الحرب، ويلوا أساليبها المختلفة.
(3) أن يقوم أبناء الحرف المختلفة، من تجار وصناع وزراع بأداء أعمالهم على الوجه المرضى، وكل طائفة منها تظاهر الطوائف الأخرى وتعاونها لخير الجميع، وتقوم بما يجب نحوها من المساعدة فيما يكفل نجاح الأعمال.
(4) أن تنظّم هذه الطوائف أعمالها بحيث تتوزع هذه المهن بين الأفراد بحسب حاجة الأمة إليها حتى لا تمد يدها إلى غيرها لمعونتها، ويكون فى كل طائفة جماعة مبرّزون، يفكرون فيما يرقى شئون الطائفة، بحيث تنافس أمثالها فى الأمم الأخرى أو تفوقها، بما أوتيت من حسن التدبير والتصرف.
وهذا حكم أيدته التجارب فى سائر العصور لدى جميع الدول، فما من أمة تهاونت فى هذه الأمور أو فى شىء منها إلا حكم عليها بالفناء والزوال، وتواريخ الفرس والروم والأمم الإسلامية والدولة التركية تدل على صدق ما نقول.
ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» .
(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي إن فيما ذكر فى هذه السورة من أنظمة الدول والتسلط على ألطف الأشياء كالهواء، وعلى أصلبها كالحديد، ومن الجمع بين حرب الأعداء، والاستغراق فى ذكر الله، وتسخير العمال فى المبانى العظيمة، واستخراج ما فى البحار من أصناف اللآلئ، وما فى باطن الأرض من مختلف المعادن- لكفاية لقوم يجمعون بين العلم والعمل، إذ يعلمون أن العلم شجرة، ثمرتها العمل.
فعلى المسلمين قاطبة أن يصدعوا بما أمروا به فى هذا الكتاب، وأن يعرضوا عن الجاهلين بأمور دينهم، فالله محاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبهم على قدرهم الجسمية،(17/77)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
وليعلموا أنه متى ذاعت هذه الآراء فى الأمة، قامت كلها قومة رجل واحد، فى تنظيم شئونها، وتربية أبنائها تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العالم الإنسانى.
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي وما أرسلناك بهذا وأمثاله من الشرائع والأحكام التي بها مناط السعادة فى الدارين- إلا لرحمة الناس وهدايتهم، فى شئون معاشهم ومعادهم.
بيان هذا أنه عليه الصلاة السلام أرسل بما فيه المصلحة فى الدارين، إلا أن الكافر فوّت على نفسه الانتفاع بذلك، وأعرض عما هنالك، لفساد استعداده وقبح طويّته، ولم يقبل هذه الرحمة، ولم يشكر هذه النعمة، فلم يسعد لا فى دين ولا دنيا، كما قال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» وقال فى صفة القرآن «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ»
وقال صلّى الله عليه وسلم «إن الله بعثني رحمة مهداة» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
تفسير المفردات
مسلمون: أي منقادون خاضعون، تولوا: أي أعرضوا، آذنتكم: أي أعلمتكم وكثر استعماله فى الإنذار كما فى قوله: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ما توعدون: من(17/78)
غلبة المسلمين عليكم، فتنة: أي اختبار، واحكم: أي اقض، وبالحق: أي العدل والمراد بذلك تعجيل العذاب لهم، ما تصفون: أي ما تقولون وتفترون من الكذب كقولكم «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وقولكم إن للرحمن ولدا.
المعنى الجملي
بعد أن أورد سبحانه الحجج والبراهين، لإقناع الكافرين بأن رسالة الرسول حق، حتى لم يبق فى القوس منزع، وبلغ الغاية التي ليس بعدها غاية، وبين أن هذا الرسول رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين، وأن من اتبعه سلك سبيل الرشاد، ومن نأى عنه ضل وسار فى طريق الغواية والعناد- أردف ذلك ما يكون إعذارا وإنذارا، فى مجاهدتهم والإقدام على مناوأتهم، بعد أن أعيته الحيل، وضاقت به السبل، ولم تغنهم الآيات والنذر، فتمادوا فى غوايتهم، ولجّوا فى عنادهم، وأصبح من العسير إقناعهم وهدايتهم.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي قل لمشركى قومك ولمن بلغته الدعوة من غيرهم: ما أوحى إلىّ ربى إلا أنه لا إله إلا هو، فلا تصلح العبادة لسواه، فانقادوا لأمره، وأذعنوا لطاعته، وابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام، وتبرءوا منها حتى تسلكوا سبيل النجاة، وتفوزوا بالسعادة.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي فإن أعرضوا عن اتباع ما أوحى إليك فقل لهم: هأنذا أعلمكم بأنى حرب لكم، كما أنكم حرب لى، فأنا برىء منكم كما أنكم برآء منى، وأنتم سواء فى هذا الإعلام، لا أخص أحدا منكم دون أحد.
ونحو الآية قوله «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .(17/79)
(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي وإن ما توعدون من غلب المسلمين عليكم واقع لا محالة، ولكن لا علم لى بقربه ولا ببعده، لأن الله لم يطلعنى على ذلك.
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي إن الله يعلم ما تجهرون به من الطعن فى الإسلام وتكذيب الآيات، ويعلم ما تكتمون من الأضغان والعداوات للمسلمين، فيجازيكم على قليل ذلك وجليله.
(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وما أدرى سبب تأخير جزائكم، ولعل ذلك زيادة فى افتتانكم وامتحانكم، لينظر كيف تعملون، وإنه ليؤخركم إلى حين، كى تتمتعوا بلذات الدنيا مع إعراضكم عن الإيمان، فيكون فى ذلك زيادة عذابكم، لأن المعرض عن الإيمان مع توالى الآيات وتتابع البينات والنذر يكون عقابه أشد.
(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي قال الرسول: رب افصل بينى وبين من كذبنى من مشركى قومى، وكفر بك وعبد غيرك، بإحلال عذابك ونقمتك به بالعدل الذي يقتضى تعجيل العذاب به، وتشديده عليه.
وخلاصة ذلك- رب عجّل بعذابهم وقد أجاب الله دعوته وأنزل بهم العذاب الأليم يوم بدر.
قال قتادة: كان الأنبياء يقولون «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» فأمر رسول الله أن يقول ذلك.
(وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي والله المستعان على ما تصفون، من الشرك والكفر، والكذب والأباطيل، كقولكم إن الله اتخذ ولدا، وقولكم فى الرسول «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» .
وخلاصة ذلك- إنه طلب من ربه أن يحكم بما يظهر الحق للجميع، وأمره ربه أن يتوعد الكفار بقوله: وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.(17/80)
وقد كثر استعمال الوصف فى الكتاب الكريم بمعنى الكذب كقوله «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» وقوله «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» وصلّى الله على محمد وآله.
خلاصة ما تتضمنه هذه السورة
(1) الإنذار بقرب الساعة مع غفلتهم عنها.
(2) إنكار المشركين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه بشر مثلهم، وأن ما جاء به أضغاث أحلام، وأنه قد افتراه، ولو كان نبيا حقا لأتى بآية كآيات موسى وعيسى.
(3) الرد على هذه الشبهة بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا، وأهل العلم من اليهود والنصارى يعلمون ذلك حق العلم.
(4) الإخبار بأن الله أهلك كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها وأنشأ بعدهم أقواما آخرين.
(5) بيان أن السموات والأرض لم تخلقا عبثا، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يملّون.
(6) إقامة الدليل على وحدانية الله تعالى والنعي على من يتخذ آلهة من دونه بلا دليل على صدق ما يقولون مع أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم أنه لا إله إلا هو.
(7) النعي على من ادعى أن الملائكة بنات الله.
(8) وصف النشأة الأولى ببيان أن السموات والأرض كانتا رتقا فانفصلتا، وأن الجبال جعلت فى الأرض أوتادا حتى لا تميد بأهلها، وأن كلا من الشمس والقمر يسبح فى فلكه.
(9) استعجال الكافرين للعذاب، مع أنهم لو علموا كنهه ما طلبوه.
(10) بيان أن الساعة تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
(11) قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذى الكفل ويونس وزكريا وقصص مريم.(17/81)
(12) بيان أن الدين الحق عند الله هو الإسلام وبه جاءت جميع الشرائع والاختلاف بينها إنما هو فى الرسوم بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.
(13) حادث يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة واقتراب يوم القيامة.
(14) بيان أن الأصنام وعابديها يكونون يوم القيامة حطب جهنم، وأنهم لو كانوا آلهة حقا ما دخلوها.
(15) وصف ما يلاقيه الكفار من الأهوال فى النار يوم القيامة.
(16) وصف النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة إذ ذاك.
(17) بيان أن الأرض ستبدل غير الأرض، وأن السماء تطوى طى السحل للكتاب.
(18) إن سنة الله فى الكون أن يرث الأرض من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأيّ مذهب اعتنق.
(19) الوحى إنما جاء بالتوحيد وأن لا إله إلا إله واحد، وأن الواجب الاستسلاء له والانقياد لأمره.
(20) ما ختمت به السورة من طلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم الله بينه وبين أعدائه المشركين، وأنّ الله هو المستعان على ما يصفونه به من أنه مفتر وأنه محنور وأنه شاعر يتربصون به ريب المنون.(17/82)
سورة الحج
هى مدينة إلا الآيات 52، 53، 54، 55 فبين مكة والمدينة، والأصح أنها مختلطة منها المكي ومنها المدني، قال العزيزي وهى من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، محكما ومتشابها.
وآيها ثمان وسبعون.
وهى بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة:
(1) البعث والدليل عليه وما يتبع ذلك.
(2) الحج والمسجد الحرام.
(3) أمور عامة كالقتال وهلاك الظالمين والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق وضرب المثل بعجز الأصنام وعدم استطاعتها خلق الذباب.
ومناسبتها للسورة قبلها من وجوه:
(1) إن آخر السورة قبلها كان فى أمر القيامة كقوله: يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب، وقوله: واقترب الوعد الحق- وأول هذه السورة الاستدلال على البعث بالبراهين العقلية.
(2) إنه قد أقيمت فى السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية- وفى هذه جعل العلم الطبيعي من براهين البعث.
(3) فى السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم، وفى هذه السورة خطاب من الله للأمم الحاضرة، وهو خطاب يسترعى السمع ويوجب علينا ولو إجمالا أن نعرف صنع الله فى أرضه وسمائه وتدبيره خلق الأجنّة والنبات والحيوان(17/83)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
تفسير المفردات
التقوى: التباعد عن كل ما يكسب الإثم من فعل أو ترك، والزلزلة: الحركة الشديدة بحيث تزيل الأشياء من أماكنها، والذهول: الدهش الناشئ عن الهمّ والغم الكثير، والمرضعة: الأنثى حال الإرضاع، والمرضع ما من شأنها أن ترضع ولو لم ترضع حال وصفها به.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم، فأطيعوه ولا تعصوه، بفعل ما أمركم به من الواجبات، وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، وهذا خطاب ينتظم فيه المكلفون حين النزول ومن سيوجدون بعده إلى يوم القيامة.
ثم علل هذا الأمر بقوله:
(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي إن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم كما قال: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» وقال: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» الآية، وقال: «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» الآية- أمر هائل وخطر عظيم، لا يقدر قدره إلا موجده، وإذا كانت الزلزلة(17/84)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
وحدها لا تحتمل، فما بالك بما يحدث فى ذلك اليوم من الحشر والجزاء والحساب على الأعمال لدى من لا يغيب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
ثم بين شيئا من أهوال هذا اليوم فقال:
(1) (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)
أي فى هذا اليوم يبلغ الأمر من الدهشة والاضطراب والحيرة والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الذي ترضعه، وهو أعز شىء لديها، فكيف بذهولها عن سواه؟.
(2) (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها)
أي وتسقط كل ذات حمل الجنين الذي فى بطنها قبل التمام رعبا وفزعا قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما فى بطنها بغير تمام.
(3) (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
أي وترى الناس حينئذ، كأنهم سكارى وما هم بسكارى على التحقيق، ولكن شدة العذاب هى التي أذهلت عقولهم، وأذهبت تمييزهم.
وقد يكون المراد من ذهول الحامل ووضع المرضع ضرب المثل لشدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات كما يؤوّل به أيضا قوله تعالى: «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» .
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
المعنى الجملي
بعد أن أخبر فيما سلف بأهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله- بين أنه مع هذا التحذير الشديد فإن كثيرا من الناس ينكرون هذا البعث، ويجادلون فى أمور الغيب بغير علم.(17/85)
أخرج ابن أبى حاتم أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحارث وكان جدلا يقول:
الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على إحياء من بلى وصار ترابا.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ومن الناس من يتعاطى الجدل فيما يجوز على الله من الصفات والأفعال، وما لا يجوز عليه، غير متبع فى ذلك حجة ولا برهانا بل يجهل بحقيقة ما يقول، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا، وأن لله ولدا، وأن القرآن ما هو إلا أسطورة من أساطير الأولين إلى نحو ذلك من الترّهات والأباطيل.
وقد ذم المجادلة بغير علم فأومأ إلى أن الجدل إذا كان مع العلم والحجة والبرهان فلا يدم ولا يقبح، وعليه جاء قوله تعالى: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» .
(وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) المريد المتجرد للفساد، العاري عن الخير، من قولهم شجرة مرداء إذا كان لا ورق لها، ورملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، أي ومن الناس من يتّبع فى كل ما يأتى وما يذر من شئونه وأهوائه، شياطين من شياطين الإنس والجن الذين يزينون له طرق الغواية، ويسلكون به الطرق التي تزلق به فى المهاوى، ويقودونه إلى الأعمال التي تصل به إلى النار، من شرك بالله وعبادة للأوثان والأصنام، وشرب للخمر، ولعب للميسر، إلى نحو أولئك مما يحسّنون له عمله، ويكونون له فيه القادة الذين لا يردّ لهم قول، ولا يقبح منهم فعل.
ثم وصف سبحانه ذلك الشيطان بقوله:
(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي قدر سبحانه أن من اتبع ذلك الشيطان، وسلك سبيله، أضله فى الدنيا، بما يوسوس له، ويدسّى(17/86)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
به نفسه، ويزين لها من اتباع الغواية، الفجور، وسلوك سبيل المعاصي والآثام التي توبقه فى جهنم وبئس القرار.
وخلاصة ذلك- إنه يضله فى الدنيا، ويقوده فى الآخرة إلى عذاب السعير، بما يجترح من السيئات، ويرتكب من الآثام.
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
تفسير المفردات
الريب: الشك، وأصل النطفة: الماء العذب ويراد بها هنا ماء الرجل، والعلقة:
القطعة الجامدة من الدم، والمضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ، والأجل المسمى:
هو حين الوضع، والطفل: يكون للواحد والجمع، والأشد: القوة، وأرذل العمر:
أدنؤه وأردؤه، هامدة: أي ميتة يابسة من قولهم همدت الأرض إذا يبست ودرست، وهمد الثوب: بلى، واهتزت: أي اهتز نباتها وتحرك، وربت: ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات، زوج: أي صنف، بهيج: أي حسن سارّ للناظرين، والحق: هو الثابت الذي يحق ثبوته.(17/87)
المعنى الجملي
لما حكى سبحانه عن المشركين الجدل بغير علم فى البعث والحشر وذمهم على ذلك- قفى على هذا بإثباته من وجهين:
(1) الاستدلال بخلق الحيوان وهو ما أشار إليه فى الآية الأخرى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» وقوله «فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» .
(2) الاستدلال بحال خلق النبات فى قوله «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» إلخ.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي إن كنتم فى شك من مجىء البعث فانظروا إلى مبدإ خلقكم ليزول ريبكم وتعلموا أن القادر على خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم ثانيا.
وعبر سبحانه بالريب مع أنهم موقنون بعدم حصوله، إيذانا بأن أقصى ما يمكن صدوره منهم وإن بلغوا غاية المكابرة والعناد- هو الارتياب فى شأنه، أما الجزم بعدم إمكانه فلا يدور بخلد عاقل على حال.
ثم ذكر سبحانه من مراتب الخلق أمورا سبعة:
(1) (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) إذ خلق الإنسان من المنى المتولد من الأغذية، والأغذية تنتهى إلى النبات، وهو يتولد من الأرض والماء.
(2) (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم من منى مكون من الدم المتولد من الغذاء المنتهى إلى التراب:
(3) (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي ثم من دم جامد غليظ، ولا يخفى ما بين الماء والدم من المباينة والمخالفة.(17/88)
(4) (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ثم من قطعة من اللحم مسوّاة، لا نقص فيها ولا عيب فى ابتداء خلقها، ومضغة غير مسواة، فيها عيب، وبهذا التفاوت فى الخلق يتفاضل الناس فى صورهم وأشكالهم وطولهم وقصرهم.
(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبين لكم جميل نظامنا، وعظيم حكمتنا، التي من جملتها أمر البعث.
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ونبقى ما نشاء من الأجنّة إلى الوقت الذي قدّر أن تلد فيه المرأة.
(5) (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) أي ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدّرته لخروجكم منها أطفالا صغارا فى المهد.
(6) (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي ثم يعمّركم ويسّهل تربيتكم حتى تبلغوا كمال عقولكم، ونهاية قواكم.
(7) (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ومنكم من يتوفى على كمال قوته وكمال عقله، ومنكم من يبقى حتى يبلغ الهرم والخرف فيصير كما كان فى أول طفولته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم.
وخلاصة ذلك- إنه إما أن يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل.
ثم ذكر الاستدلال على إمكان البعث بحال خلق النبات أيضا فقال:
(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي وترى الأرض يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع، فإذا نحن أنزلنا عليها الماء تحركت بالنبات وازدادت وانتفخت، لما يتداخلها من الماء والنبات، ثم أنبتت أنواعا يسر الناظرين ببديع منظرها، وجميل شكلها، واختلاف طعومها وروائحها، ومقاديرها ومنافعها.(17/89)
وبعد أن قرر سبحانه هذين البرهانين رتب عليهما النتيجة الحتمية لذلك، وذكر أمورا خمسة:
(1) (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي هذا الذي ذكرت لكم من بدئنا خلقكم فى بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده، طفلا وكهلا وشيوخا فى حال الهرم، وتنبيهنا إياكم إلى فعلنا بالأرض الهامدة بما ينزل عليها من الغيث- لتصدّقوا بأن الذي فعل ذلك هو الله الحق الذي لا شك فيه، وأن ما تعبدون من الأوثان والأصنام فهو باطل، لأنها لا تقدر على فعل شىء من ذلك.
(2) (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي ولتعلموا أن الذي قدر على هذه الأشياء البديعة لا يتعذر عليه أن يحيي الموتى بعد فنائها ودروسها فى التراب.
(3) (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وأن فاعل ذلك قادر على كل شىء.
ولا يمتنع عليه شىء أراده، فهو قادر على إيجاد جميع الممكنات، ومن ذلك إعادة الأجسام بعد موتها.
(4) (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي ولتعلموا أن الساعة التي وعدكم أن يبعث فيها الموتى من قبورها آتية لا محالة، ولا شك فى حدوثها، وليس لأحد أن يرتاب فيها (5) (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي ولتوقنوا بأن الله حينئذ يبعث من فى القبور أحياء إلى مواقف الحساب.
وخلاصة ذلك- أنكم إذا تأملتم فى خلق الحيوان والنبات أمكنكم أن تستدلوا بذلك على وجود الخالق وقدرته على إحياء الموتى وعلى غيرها من الممكنات، وأن الساعة آتية لا شك فيها، وأنه يبعث من فى القبور للحساب والجزاء، ولولا ذلك ما أوجد هذا العالم، لأن أفعاله تعالى مبنية على الحكم الباهرة، والغايات السامية.(17/90)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
تفسير المفردات
الهدى: الاستدلال والنظر الصحيح الموصل إلى المعرفة، والكتاب المنير: الوحى المظهر للحق، ثانى عطفه: أي لاويا جانبه متكبرا مختالا، ونحوه تصعير الخد ولىّ الجيد.
والخزي: الهوان والذل، عذاب الحريق: أي عذاب النار التي تحرق داخليها..
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآية قبلها حال الضلال المقلدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي- أردف ذلك بذكر حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفرة والمبتدعين.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي ومن الناس من يخاصم فى توحيد الله والإقرار بالألوهية، بغير علم منه بما يخاصم به، ولا برهان معه على ما يقول، ولا وحي من الله أتاه ينير حجته، بل يقول ما يقول من الجهل ظنا منه وتخرّصا.
وخلاصة ذلك- إنه يجادل بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل يجادل اتباعا للرأى والهوى.
(ثانى عطفه) تقول العرب: جاءنى فلان ثانى عطفه إذا جاء متبخترا متكبرا،(17/91)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
فالمراد- ومن الناس من يجادل وهو لاو عنقه معرض عما يدعى إليه من الحق مستكبر عن قبوله.
ونحو الآية قول لقمان لابنه: «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» .
(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي ليصد المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم الله إليه ويستنزلهم عنه.
وبعد أن ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه فى الدنيا والآخرة فقال:
(لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي له فى الدنيا إهانة وذل كفاء استكباره عن آيات الله كما حدث من القتل والأسر بأيدى المؤمنين يوم بدر، وسيصلى فى الآخرة عذاب النار ويحرق بلهبها.
ثم بين سبحانه سبب هذا الخزي المعجّل والعذاب المؤجل فقال:
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي ويقال له حينئذ: إن هذه النار التي تصطلى بلهبها اليوم- جزاء ما اجترحت يداك فى الدنيا من الآثام، واكتسبته من الذنوب والمعاصي (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وقد فعلنا ذلك، لأن الله لا يظلم عباده، فيعاقب بعض عبيده على جرم، ويعفو عن مثله عن آخر غيره.
وقصارى ذلك- إنهم استحقوا هذا العذاب لما اجترحوه من الآثام والذنوب، والله لا يظلم أحدا بغير جرم قد فعله.
ومآل ذلك توبيخهم وتبكيتهم بأنهم هم سبب هذا العذاب.
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)(17/92)
تفسير المفردات
على حرف: أي على طرف، خير: أي سعة فى المال وكثرة فى الولد، فتنة: أي بلاء ومحنة فى نفسه أو أهله أو ماله، على وجهه: أي جهته ويراد بذلك أنه ارتد ورجع إلى الكفر، خسر الدنيا والآخرة: أي ضيّعهما، إذ فاته فيهما ما يسره، يدعو الأولى يراد بها يعبدو يدعو الثانية يراد بها يقول- والمولى: الناصر، والعشير: الصاحب والمعاشر
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال الضالين المقلدين الذين يجادلون فى توحيد الله بلا بينة ولا دليل، وحال المضلين الذين يجادلون بلا سلطان من عقل، ولا برهان صحيح من نقل، ثم سوء مآلهما فى الدنيا والآخرة وأن لهما فى الدنيا خزيا وفى الآخرة عذابا فى النار تحترق منه أجسامهما- أعقب ذلك بذكر قوم مضطربى الإيمان، مذبذبين فى دينهم، لا ثبات لهم فى عقيدتهم، ولا استقرار لهم فى آرائهم، إن أصابوا خيرا فرحوا به وركنوا إليه، وإن نالهم بلاء وشدة فى أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم ارتدوا كفارا، فلحقهم الخسار والدمار فى دينهم ودنياهم، وذلك هو الخسران الذي لا خسران بعده وهم فى ذلك الحين يعبدون الأصنام والأوثان، لتكشف عنهم ضرهم وتدفع عنهم ما نزل بهم من البلاء، وقد ضلوا فى ذلك ضلالا بعيدا، وأنهم يوم القيامة ليجأرون ويصرخون ويقولون:
(لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) .
روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صح جسمه ونتجت(17/93)
فرسه مهرا حسنا أو ولدت امرأته غلاما أو كثر ماله وما شيته- رضى به واطمأن إليه وإن أصابه وجع أو ولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه (خيله) أو ذهب ماله.
أو تأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عنه.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه، فهو فى قلق واضطراب فيه لا فى سكون وطمأنينة، فمثله مثل الذي يكون على طرف من العسكر إن أحسّ بغنيمة قرّ وسكن، وإن كانت هزيمة فرّ وهام على وجهه، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي فإن أصابه ورخاء وسعة فى العيش سكن واستبشر بهذا الخير والدين فعبد الله، وإن أصابه شر وبلاء فى جسمه أو ضيق فى معيشته ارتد ورجع إلى الكفر.
والثبات فى الدين إنما يكون إذا كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الرب والخوف من عقابه، أما إذا كان المقصد منه الخير المعجّل فإنه يظهر فى السراء ويختفى لدى الضراء، وهذا هو النفاق بعينه كما يرشد إلى ذلك قوله فى المنافقين: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» وقوله: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» .
وخلاصة ذلك- أن من الناس من ليس له ثبات فى أمر دينه، بل هو مرجحنّ مضطرب مذبذب، يعبد الله على وجه التجربة انتظارا للنعمة، فإن أصابه خير بقي مؤمنا، وإن أصابه شر من سقم أو ضياع مال أو فقد ولد ترك دينه وارتد كافرا.
ثم بين سوء عاقبة عمله فقال:(17/94)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي ضيّع نفعهما، وزالت عنه فائدتهما، فإنه خسر فى الدنيا العزّ والكرامة وإصابة الغنيمة، وخسر فى الآخرة الثواب الدائم، بل حل به العقاب اللازب.
(ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي ذلك هو الخسران الذي لا خسران مثله لمن تدبر فيه وتفكر.
ثم أكد عظم ذلك الخسران بقوله:
(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي يعبد من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها فى الدنيا، ولا منفعة له فى الآخرة إن عبدها.
(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك الارتداد وعبادة تلك الآلهة دون الله هو السير على غير استقامة والذهاب على غير هدى، فما مثله إلا مثل من أبعد فى التيه ضالا، وبعدت مسافة ضلاله، فلم يهتد إلى الصراط السوي، ولم ينل ما يبتغى وبلغت به الحيرة كل مبلغ.
ثم زاد ما سلف توكيدا وبين مآل دعائه وعبادته غير الله فقال:
(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي يقول الكافر برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بذلك المعبود ودخوله النار بسببه، ولا يرى أثرا مما كان يتوقع من نفعه لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير.
وخلاصة ذلك- أىّ عشير هذا، وأي ناصر ذاك الذي لا ينفع ولا ينصر من يعاشره؟ والله لبئس العشير ولبئس النصير.
[سورة الحج (22) : آية 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)(17/95)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
المعنى الجملي
لما ذكر فى الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال معبوديهم- عطف على ذلك بذكر حال المؤمنين الذين آمنوا بقلوبهم، وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم، وعملوا الصالحات وتركوا المنكرات.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله سبحانه يتفضل على المؤمنين الذين عملوا صالح الأعمال، ويكافئهم لقاء إحسانهم، بدخول الجنات التي تجرى من تحت أشجارها الأنهار جزاء وفاقا على ما قاموا به من جليل الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من جميل الخصال:
ولما بين سبحانه حال الفريقين ذكر أنه قادر على أن يفعل بهما ما يشاء فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إكرام من يطيعه وإهانة من يعصيه، لا رادّ لحكمه، ولا مانع لقضائه، فهو يعطى المتقين ضروبا من الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» ويدخل الكافرين نارا وقودها الناس والحجارة، لما دسّوا به أنفسهم من أنواع الرجس والفسوق.
[سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
تفسير المفردات
بسبب: أي بحبل، إلى السماء: أي إلى سقف بيته، ليقطع: أي ليختنق، فلينظر: أي فليقدر فى نفسه النظر، كيده: أي فعله، ما يغيظ: أي غيظه.(17/96)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال المجادل بالباطل وخذلانه فى الدنيا، لأنه لا يدلى بحجة من العقل ولا ببرهان من الوحى، ثمّ بيّن ما يئول إليه أمره من النكال فى الدنيا والخزي فى الآخرة، ثم ذكر مشايعيه وعمم خسارهم فى الدارين، وأردف ذلك ذكر حال المؤمنين وما يلقونه من السعادة والنعيم فى الدار الآخرة- قفى على ذلك بذكر المجادل عنهم وعن دين الله بالتي هى أحسن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغ فى إثبات نصره بما لا مزيد عليه، ثم ذكر شأن كتابه وأنه آيات واضحات ترشد إلى سواء السبيل.
الإيضاح
(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي من كان يحسب أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم فى الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق به، ثم ليصور فى نفسه النظر، هل يذهبنّ ذلك الكيد الذي كاده، والفعل الذي فعله ما يغيظه من النصرة- كلّا.
وخلاصة المعنى- من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا ولا كتابه ولا دينه فليذهب وليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» وسيعلى فى الدنيا كلمته ويظهر دينه، ويرفع فى الآخرة درجته ويدخل من صدقه جنات تجرى من تحتها الأنهار وينتقم ممن كذّبه، ويذيقه عذاب الحريق، فمن كان من أعاديه يغيظه ذلك فليبالغ فى كيده إلى أقصى مجهوده، فقصارى أمره خيبة مسعاه ودوام غيظه دون أن يصل إلى غاية، أو يبلغ أمنيّة.
وتلخيص هذا- أيها الكاره لمحمد الذي أرسل لإنقاذك، إن نعم الله على(17/97)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
عباده كثيرة ولا سيما بعثة الأنبياء، فإذا كرهت ما أنعم الله به عليك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنك تختنق، لأنك تكره النعم لنفسك فتستبيح خنقها من حيث لا تشعر.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكما بينت لكم حججى على من جحد قدرتى على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه وأوضحتها غاية الإيضاح- أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها.
وخلاصة ذلك- إن القرآن كله كامل البيان فى جميع أبوابه وفصوله لا فى أمر البعث وحده.
(وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي وكذلك أنزله ليوفق به لسبيل الحق من أراد هدايته وإرشاده إلى سبل السلام.
[سورة الحج (22) : آية 17]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
تفسير المفردات
الذين هادوا: هم اليهود، والصابئين: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور، وفى كتاب الملل والنحل للشّهرستانى: إن الصابئة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال لمقابليهم الحنفاء، وعمدة مذهبهم تعظيم النجوم ثوابتها وسياراتها، والمجوس- على ما قاله قتادة- قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، والذين أشركوا: هم عبّاد الأوثان، فالأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن، يفصل:
أي يقضى بإظهار المحقّ من المبطل، شهيد: أي عالم بكل الأشياء ومراقب لها.(17/98)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآية السالفة أنه سبحانه يهدى من يريد- أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي إن الله يقضى بين هذه الفرق، ويجازى كلّا بما يفعل، ويضعه فى الموضع اللائق به، إذ ليس شىء من أحوالهم بغائب عنه، بل هو عليم بأقوالهم مراقب لأفعالهم.
وخلاصة ذلك- إنه تعالى يحكم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ويلقى من كفر به فى جهنم، وبئس القرار، وهو الشهيد على أعمالهم، الحفيظ لأفعالهم، العليم بسرائرهم، وما تكنّه ضمائرهم.
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
تفسير المفردات
ألم تر: أي ألم تعلم، والسجود: لغة التطامن والتذلل، ثم أطلق على التذلل لله وعبادته، وهو ضربان: سجود بالاختيار، وهو خاص بالإنسان وبه يستحق الثواب.
وسجود بالتسخير والانقياد لإرادته سبحانه، وهو دالّ على الذلة والافتقار إلى عظمته، جلّت قدرته، من فى السموات: هم الملائكة، ومن فى الأرض: هم الإنس والجن، وحق، أي ثبت وتقرر.(17/99)
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف أنه تعالى يقضى بين أرباب الفرق السالفة يوم القيامة وهو شهيد على أقوالهم وأفعالهم- أردف هذا ببيان أنه ما كان ينبغى لهم أن يختلفوا.
ألا يرون أن جميع العوالم العلوية والسفلية كبيرها وصغيرها، شمسها وقمرها ونجومها، وجبالها وحيوانها ونباتها- خاضعة لجبروته مسخرة لقدرته، وقد كان فى هذا مقنع لهم لو أرادوا- ولكن من يهنه الله ويكتب عليه الشقاء فلا يستطيع أحد أن يسعده.
فالله وحده هو القدير على الإشقاء والإسعاد.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي ألم تعلم أيها المخاطب بهذا أن هذه الخلائق مسخرة لقدرة بارئها، وجبروت منشئها، منقادة لإرادته طوعا أو كرها فهى مفتقرة فى وجودها وبقائها إليه، فهو الذي أنشأها ورتّبها، وأكمل وجودها على النحو الذي أراده، والحكمة التي قدرها لها فى البقاء.
وأفرد الشمس وما بعدها بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فعبدت الشمس حمير، والقمر كنانة، والشّعرى لخم، والثريّا طي، والمصريون عبدوا العجل (أبيس) وعبدت العزّى- شجرة- غطفان.
(وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي وكثير منهم لا يسجدون فاستحقوا بذلك العذاب (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي ومن يهنه الله من خلقه فيكتب له الشقاء لسوء استعداده فما له من مكرم يسعده، لأن الأمور كلها بيده يوفق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء لتدسيته نفسه، واجتراحه للسيئات، وارتكابه للآثام والمعاصي.(17/100)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي إن الله يفعل فى خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد إكرامه، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
تفسير المفردات
خصمان: واحدهما خصم، وهو من له رأى غير رأيك فى موضوع ما، وكل منهما يحاجّ صاحبه فيه، قطعت لهم: أي قدّرت، والحميم: الماء الذي بلغت حرارته أقصى الغاية، يصهر به: أي يذاب، ومقامع: واحدها مقمعة، وهى السوط، والغم: الحزن الشديد، والطيّب من القول: ما يقع فى محاورة أهل الجنة بعضهم بعضا، وصراط الحميد:
أي الطريق المحمود فى آداب المعاشرة والاجتماع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أرباب الفرق الست فيما سلف، وذكر أن الله يفصل بينهم يوم القيامة وهو العليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم- قفىّ على ذلك بذكر طرفى الخصومة،(17/101)
وتعيين موضع الخصومة، وبيان مآل كل من الفريقين من الإهانة والكرامة، والعذاب والنعيم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: تخاصم المؤمنون واليهود فقالت اليهود: نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون:
نحن أحق بالله تعالى. آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل الله تعالى من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت الآية ويرى جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول أن المراد بالخصمين هنا هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين حمزة وعلى وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وكان أبو ذر يقسم إن هذه الآيات نزلت فى هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه فى الصحيحين وغيرهما.
وروى البخاري وغيره عن علىّ أنه قال: فينا نزلت هذه الآية وأنا أول من يجثو فى الخصومة على ركبتيه بين يدى الله يوم القيامة.
الإيضاح
(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي إن أهل الأديان الستة التي سبق ذكرها فريقان: فريق المؤمنين. وفريق الكافرين أرباب الديانات الخمس المتقدمة- جادلوا فى دين الله، فكل فريق يعتقد أن ما هو عليه هو الحق وأن ما عليه خصمه هو الباطل، وبنى على ذلك كل أقواله وأفعاله، وهذا كاف فى تحقيق الخصومة وإن لم يحصل بينهما تحاور بالفعل.
ثم ذكر مآل كل فريق وما يلقاه من الجزاء بعد أن يفصل الله بينهما، وذكر من جزاء فريق الكافرين أمورا ثلاثة:
(1) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فالكافرون أعدّت لهم نيران تحيط بهم كأنها ثياب قدّرت على قدر أجسامهم.(17/102)
ولا يخفى ما فى هذا الأسلوب من التهكم بهم واحتقار شأنهم.
والتعبير بثياب، للإشارة إلى تراكم طبقات النار المحيط بهم وكون بعضها فوق بعض.
وشبيه بالآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» .
(2) (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يصب من فوق رءوسهم الماء الحار الذي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يحرق جلودهم، فله أثر فى الباطن والظاهر.
أخرج عبد بن حميد والترمذي فى جماعة عن أبى هريرة أنه تلا هذه الآية فقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ من الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما فى جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» .
(3) (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أي ولتعذيبهم سياط من حديد، تضرب بها رءوسهم ووجوههم، يقمعون بها ويردّون ردا عنيفا إذا أرادوا الهرب من النار.
وإلى هذا أشار بقوله:
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي إنهم كلما حاولوا الهرب من جهنم والخروج منها حين يلحقهم عظيم عذابها أعيدوا فيها وضربوا بسياط من حديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب هذه النار التي تحرق الأمعاء والأحشاء.
وبعد أن بين سوء حال الكافرين أردف ذلك ببيان ما يناله المؤمنون من الكرامة فى المسكن والحلية والملبس وحسن القول والعمل فقال:
(1) (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله يدخل من آمن به وبرسله وعمل صالح الأعمال التي تزكى نفوسهم وتقربهم(17/103)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
إلى ربهم- جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الوارفة الظلال: الأنهار الواسعة يتمتعون بها كما شاءوا.
(2) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي يلبسون فى أيديهم حلية من ذهب، وفى رءوسهم تيجانا من لؤلؤ.
(3) (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي ويلبسون الحرير الذي حرم عليهم لبسه فى الدنيا، وكان فيها عنوان العزة والكرامة فأوتوه فى الآخرة إجلالا وتعظيما لهم.
(4) (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي وأرشدوا إلى القول الطيب وهو قولهم حين دخول الجنة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» .
(5) (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي وأرشدوا إلى الطريق الحميد الذي يجعل أقوالهم وأفعالهم مرضيّة عند ربهم، محمودة لدى معاشريهم وإخوانهم لما فيها مما يجمل فى المعاشرة والاجتماع.
[سورة الحج (22) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
تفسير المفردات
المراد بالمسجد الحرام: مكة، وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها، العاكف: المقيم، والبادي: الطارئ القادم عليها، والإلحاد: العدول عن الاستقامة، بظلم: أي بغير حق.(17/104)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مآل كل فريق من الكفار والمؤمنين- أردف ذلك بيان عظيم حرمة البيت، وأنكر على الكفار صدهم المؤمنين عن شهوده وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه.
روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود فى العام المقبل.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم، ويمنعون الناس أن يدخلوا فى دين الله، ويصدون عن الدخول فى المسجد الحرام الذي جعله للذين آمنوا به كافة، سواء منهم المقيم فيه والطارئ عليه النازع إليه من غربته- نذيقهم عذابا مؤلما موجعا لهم، ويدل على هذا قوله:
(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي ومن يرد أن يميل إلى الظلم فى المسجد الحرام فيعصى الله ويخالف أو امره- نذقه يوم القيامة العذاب الموجع له.
وخلاصة ذلك- إنه سبحانه توعد الكفار الذين يصدون عن الدين، ويمنعون الناس عن اعتناقه، ويحولون بين الناس ودخول مكة- بالعذاب المؤلم لهم يوم القيامة، كما توعد بذلك من يرتكب الذنوب والآثام فى المسجد الحرام.(17/105)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
[سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
تفسير المفردات
يقال بوأه منزلا: أي أنزله فيه وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم أطلق على كل مأوى متخذ من حجر أو مدر أو صوف أو وبر، والمراد به هنا الكعبة، وقد بنيت عدة مرات فى أوقات مختلفة، وأذن: أي ناد بالحج: أي بالدعوة إليه، رجالا:
أي مشاة، والضامر: البعير الهزيل الذي أتعبته كثرة الأسفار، ويطلق على الذكر والأنثى، والفج: الطريق، والعميق: البعيد، ويذكروا اسم الله: أي يحمدوه ويشكروه، والأيام المعلومات: هى أيام النحر وهى ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده، والمراد ببهيمة الأنعام: الإبل والبقر والضأن، والبائس: الذي أصابه البؤس والشدة، وليقضوا: أي ليزيلوا، والتفث: الوسخ، ويراد به هنا قص الشعور وتقليم الأظفار، والنذور: ما ينذر من أعمال البر في الحج، والعتيق: القديم لأنه أول بيت وضع للناس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن كثيرا من مشركى قريش صدوا عن دين الله وعن دخول المسجد الحرام- أردف ذلك بتأنيبهم وتوبيخهم على ما يفعلون، فبيّن أنه ما كان(17/106)
ينبغى لهم ذلك، فإن أباهم إبراهيم الذي يفخرون به وينتسبون إليه هو الذي ابتناه وجعله مباءة للناس وأمر بتطهيره من الشرك للطائفين والمصلين، وأن ينادى فى النّاس ليأتوه من كل فج عميق، لما لهم فى ذلك من منافع دينية ودنيوية، ويذكروا اسم الله فى أيام النحر على ما آتاهم من بهيمة الأنعام، فاذكروه على ذلك، وكلوا منها، وأطعموا الفقراء والبائسين، فإذا قضيتم مناسككم فأزيلوا ما عليكم من الوسخ والقذر، فقلّموا أظفاركم وأزيلوا شعوركم، ثم وفّوا ما عليكم من نذور كنتم قد نذرتموها من أعمال البر والخير، ثم طوفوا طواف الزيارة بالبيت العتيق، وبذلك تكونون قد أتممتم مناسك الحج.
الإيضاح
(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله وعن دخول المسجد الحرام- الوقت الذي جعلنا فيه هذا البيت مباءة للناس يرجعون إليه للعبادة، والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حوادث جسام، ليتذكروا فيقلعوا عن غيّهم ويرعووا إلى رشدهم، ويستبين لهم عظيم ما ارتكبوا من خطاء، وكبير ما اجترحوا من جرم، بصدهم الناس عن بيت بناه أبوهم، وجعله الله قبلة للناس فى الصلاة ومكانا للطواف حين أداء شعيرة الحج.
(أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي وقلنا له: لا تشرك بي شيئا من خلقى فى العبادة وطهّر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلى عنده.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي وقلنا له: ناد الناس داعيا لهم إلى الحج وزيارة هذا البيت الذي أمرت بينائه- يأتوك مشاة على أرجلهم وركبانا على ضوامر من الإبل من كل طريق بعيد.
ثم بين السبب فى هذه الزيارة فقال:(17/107)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي يأتونك ليحضروا منافع لهم فى الدنيا من تجارة رائجة وسلع نافقة، ومنافع فى الآخرة بما يعملون من عمل يرضى ربهم، وبما يحمدونه على النعم التي تترى عليهم، وما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها أيام النحر الثلاثة يوم العيد ويومين بعده.
(فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم، وكلوا من لحومها، وأطعموا ذوى الحاجة الفقراء الذين مسّهم الضر والبؤس.
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم ليزيلوا ما علق بهم من الأوساخ، فيحلقوا الشعر ويقلمّوا الأظفار ويأخذوا من الشوارب والعارضين، وليوفوا ما نذروه من أعمال البر وليطوّفوا طواف الوداع بالبيت العتيق، إذ هو أقدم بيت للعبادة فى حياة البشر.
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
تفسير المفردات
ذلك: أي الأمر هكذا، ويقع للفصل بين كلامين أو بين وجهى كلام واحد كقوله تعالى «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ» ، والحرمات: التكاليف الدينية من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها: العلم بوجوبها والعمل على موجب ذلك،(17/108)
والزور: الكذب، وحنفاء واحدهم حنيف: وهو المائل عن كل دين زائغ إلى الدين الحق، وخر: سقط، والخطف: الاختلاس بسرعة، تهوى: أي تسقط، سحيق:
أي بعيد، والشعائر واحدها شعيرة: وهى العلامة والمراد بها البدن الهدايا، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان، والأجل المسمى: هو أن تنحر وتذبح، ومحلّها مكان نحرها، والمراد بالبيت العتيق: ما يليه ويقرب منه وهو الحرم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أمر إبراهيم ببناء البيت وتطهيره من عبادة الأوثان والأصنام، وأن ينادى الناس ليحجوا هذا البيت الحرام مشاة وركبانا من كل فج عميق، لما لهم فى ذلك من منافع دنيوية ودينية، وأن ينحروا البدن الهدايا ذاكرين اسم الله عليها فى أيام معلومات، وأن يأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير، وأن يقصوا شعورهم ويقلّموا أظفارهم ثم ليطوّفوا بهذا البيت العتيق- قفىّ على ذلك ببيان أن اجتناب المحرمات حال الإحرام خير عند الله مثوبة وأعظم أجرا، وأن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرّم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، وأن تعظيم شعائر الله علامة على أن القلوب مثيئة بالتقوى والخوف من الله، وأن فى هذه الهدايا منافع من الدرّ والصوف والنسل إلى أجل مسمّى وهو أن تنحر ثم تؤكل ويتصدق بلحومها.
الإيضاح
(ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت هو الفرض الواجب عليكم أيها الناس فى حجكم- ومن يجتنب ما أمر باجتنابه فى حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله ان يواقعها، وحرمه أن يستحلها- فهو خير له عند ربه فى الآخرة، بما يناله من رضاه وحزيل ثوابه.(17/109)
وعن ابن زيد: الحرمات المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام.
و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي وأحل لكم أيها الناس أن تأكلوا الأنعام إذا ذكيتموها، فلم يحرّم عليكم بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا إلا ما يتلى عليكم فى كتاب الله، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، فإن كل ذلك رجس.
(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي فابتعدوا عن عبادة الأوثان، وطاعة الشيطان، فإن ذلك رجس، واتقوا قول الكذب والفرية على الله كقولكم فى الآلهة «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» وقولكم: الملائكة بنات الله، ونحو هذا من القول، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله، وقوله حنفاء لله غير مشركين به: أي تمسكوا بهذه الأمور على وجه العبادة لله وحده دون إشراك أحد سواه معه.
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي إن من أشرك مع الله سواه فقد أهلك نفسه هلاكا ليس وراءه هلاك، وكانت حاله أشبه بحال من سقط من السماء فتخطفته الطير ففرقت أجزاءه فى حواصلها إربا إربا، أو عصفت به الريح فهوت به فى المهاوى البعيدة التي لارجعة له منها.
(ذلك) أي امتثلوا ذلك واحفظوه، ولا تتهاونوا فى الحرص عليه والسير على نهجه.
(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي ومن يعظم البدن التي يهديها للحرم، بأن يختارها عظيمة الأجسام سمينة غير هزيلة غالية الثمن ويترك المكاس حين شرائها- فقد اتقى الله حقا، فإن تعظيمها باب من أبواب التقوى، بل هو من أعظم أبوابها.(17/110)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبى جهل فى أذنه برة- حلق- من ذهب، وأن عمر أهدى نجيبة- ناقة- طلبت منه بثلاثمائة دينار، وقد سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بهما فنهاه عن ذلك وقال بل أهدها، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يسوق البدن مجللّة بالقباطي- ثياب مصرية غالية الثمن- فيتصدق بلجومها وبجلالها.
(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي لكم فى تلك الهدايا منافع كركوبها حين الحاجة وشرب ألبانها حين الضرورة إلى أن تنحر ويؤكل منها ويتصدق بلحومها (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم مكان حل نحرها عند البيت العتيق أي عند الحرم جميعه، إذ الحرم كله فى حكم البيت الحرام.
أخرج البخاري فى تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبري وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سماه الله البيت العتيق، لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط»
وإلى هذا ذهب قتادة، وقد قصده تبّع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل له إن ربّا يمنعه، فتركه وكساه، وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه.
[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
تفسير المفردات
المنسك (بكسر السين وفتحها) والنسك فى الأصل: العبادة مطلقا، وشاع استعماله فى أعمال الحج، والمراد به هنا الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى، أسلموا:(17/111)
أي انقادوا له، المخبتين: أي المتواضعين الخاشعين، من أخبت الرجل: إذا سار فى الخبت وهو المطمئن من الأرض، وجلت: أي خافت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن تعظيم الشعائر من أعظم دعائم التقوى، وأن محل نحرها هو البيت العتيق- قفىّ على ذلك ببيان أن الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى ليس بخاص بهذه الأمة، بل لكل أمة مناسك وذبائح تذكر بالله حين ذبحها والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر، فالإله واحد والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، وبعدئذ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين الخاشعين لله الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم بجنات تجرى من تحتها الأنهار.
الإيضاح
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي جعلنا لأهل كل دين من الأديان التي سلفت من قبلكم ذبحا يذبحونه، ودما يريقونه على وجه التقرب لله، وليس ذلك خاصا بقوم دون آخرين.
ثم بين السبب فى ذلك فقال:
(لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي وإنما شرعنا لهم ذلك كى يذكروا الله حين ذبحها، ويشكروه على ما أنعم به عليهم، إذ هو المقصود الأهم.
وفى الصحيحين عن أنس قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكبشين أملحين (فيهما بياض يخالطه سواد) أقرنين فسمّى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما»
وروى أحمد عن زيد بن أرقم قال: «قلت يا رسول الله ما هذه الأضاحى؟ قال:
«سنة أبيكم إبراهيم» قالوا ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قالوا فالصوف؟
قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة»(17/112)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
ثم أخبر سبحانه بتفرده بالألوهية وأنه لا شريك له فقال:
(فإلهكم إله واحد فله أسلموا) أي فإن معبودكم واحد وإن اختلفت العبادات بحسب الأزمنة والأمكنة ونسخ بعضها بعضا، فما المقصد منها جميعا إلا عبادة الله وحده لا شريك له كما قال: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» فأخلصوا له العمل واستسلموا لحكمه وانقادوا له فى جميع ما كلّفكم به.
(وبشر المخبتين) أي وبشر أيها الرسول الخاضعين لله بالطاعة، المذعنين له بالعبودية، المنيبين إليه بالتوبة، بما أعدّ لهم من جزيل ثوابه، وجليل عطائه.
ثم بين سبحانه علاماتهم فقال:
(1) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي إنهم إذا ذكر الله عرتهم رهبة من خشيته، وخوف من عقابه.
(2) (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من النوائب والمحن فى طاعة الله.
(3) (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أي والمؤدين حقه تعالى فيما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة فى الأوقات التي حددها لهم.
(4) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق فى وجوه البر وعلى أهليهم وأقاربهم وعلى الخلق كافة، ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فى أثمانها.
[سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)(17/113)
تفسير المفردات
البدن: واحدها بدنة، وهى الناقة أو البقرة التي تنحر بمكة، وتطلق على الذكر والأنثى، وشعائر الله: أعلام دينه التي شرعها لعباده، صوافّ: أي قائمات قد صفت أيديهن وأرجلهن، واحدها صافة، وجبت جنوبها: أي سقطت جنوبها على الأرض ويراد بذلك زهقت أرواحها وفقدت الحركة، القانع: أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة، قال لبيد:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقىّ بالمعيشة قانع
والمعترّ:
أي المتعرض للسؤال، المحسنين: أي المخلصين فى كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم.
المعنى الجملي
بعد أن حث سبحانه على التقرب بالأنعام كلها، وبين أن ذلك من تقوى القلوب، خص من بينها الإبل، لأنها أعظمها خلقا، وأكثرها نفعا، وأنفسها قيمة.
الإيضاح
(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) امتن سبحانه على عباده بأن خلق لهم البدن وجعلها من شعائره، فتهدى إلى بيته الحرام، بل جعلها أفضل ما يهدى إليه.
وإطلاق البدنة على البعير والبقرة هو قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب أبى حنيفة وقول عطاء وسعيد بن المسيّب من التابعين، وروى عن بعض الصحابة فقد أثر عن ابن عمر رضى الله عنهما: لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر.(17/114)
وتجزىء البدنة عن سبعة لما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .
(لكم فيها خير) أي لكم فيها نفع فى الدنيا كالركوب واللبن، وأجر فى الآخرة بنحرها والتصدق بها.
(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ) أي فاذكروا اسم الله على البدن حين نحركم إياها قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، وقولوا: بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك.
(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أي فإذا سقطت وزهقت أرواحها ولم يبق لها حركة، فكلوا منها وأطعموا القانع المستغنى بما تعطونه وهو فى بيته بلا مسألة، والمعترّ الّذى يتعرض لكم، ويأتى إليكم لتطعموه من لحمها.
وخلاصة ذلك- كلوا وأطعموا.
(كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي هكذا سخرنا البدن لكم مع عظم أجرامها وكمال قوتها، فلا تستعصى عليكم، بل تأتى إليكم منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنونها فى لباتها، لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص فى أعمالكم.
ولما حث سبحانه على التقرب بها مذكورا اسمه عليها- بيّن السبب فقال:
(لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن ينال رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص فيها بإرادة وجهه تعالى فحسب.
والخلاصة- لن يرضى المضحّون ربهم إلا إذا أحسنوا النية وأخلصوا له فى أعمالهم، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقرب بها شيئا وإن كثر ذلك،
فقد جاء فى الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
ثم كرر سبحانه التنبيه على عظم تسخيرها، لافتا أنظارهم إلى ما أوجب عليهم بقوله:(17/115)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي هكذا سخرها لكم، لتشكروه على هدايته إياكم لمعالم دينه، ومناسك حجه، فتقولوا: الله أكبر على ما هدانا ولله الحمد على ما أولانا.
ثم وعد من امتثل بقوله:
(وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول الذين أطاعوا الله فأحسنوا فى طاعتهم إياه فى الدنيا- بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
تفسير المفردات
أذن: أي رخّص، الصوامع: واحدها صومعة، وهى معبد الرهبان فى الصحراء- الدير- والبيع: واحدها بيعة وهى معبد النصارى، والصلوات: واحدها صلاة معرّب صلوثا بالعبرية معبد اليهود، ومساجد: واحدها مسجد، وهو معبد المسلمين.(17/116)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه صدّ المشركين عن دين الله وعن المسجد الحرام، ثم أردفه ذكر مناسك الحج، وبين ما فيها من منافع فى الدين والدنيا- قفى على ذلك ببيان ما يزيل الصدّ عنه ويؤمن معه من التمكن من أداء تلك الفريضة على أتم الوجوه.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه- شر الأشرار وكيد الفجار، ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم ويكتب لهم الفلج عليهم والظفر بهم كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» .
ثم ذكر السبب فى وعيدهم بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي وإنما دفعهم وقهرهم، لأنهم خانوا أمانة الله وهى أوامره ونواهيه، وكفروا أنعمه التي يسديها إليهم بكرة وعشيا، وعبدوا غيره مما لا يضر ولا ينفع.
وفى هذا إيماء إلى أن المؤمنين هم أحباء الله.
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي رخّص للمؤمنين، وأبيح لهم أن يقاتلوا المشركين لظلمهم إياهم، فقد كانوا يؤذون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أذى شديدا فيأتون إليه بين مضروب ومشجوج فى رأسه ويتظلمون إليه فيقول لهم صبرا صبرا، فإنى لم أوذن بالقتال حتى هاجر، وأنزل الله هذه الآية، وهى أول آية نزلت بالإذن بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية كما رواه الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس.
ثم وعدهم بالنصر ودفع أذى المشركين عنهم فقال:
(وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أي وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون فى سبيله لقادر، وقد فعل فأعزهم ورفعهم، وأهلك عدوهم وأذلهم بأيديهم.(17/117)
وفى هذا الأسلوب مبالغة عظيمة زيادة فى توطين عزائم المؤمنين وتثبيتهم على الجهاد فى سبيله.
وبمعنى الآية قوله: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» وقوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وقوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» .
وإنما شرع الجهاد بعد الهجرة إلى المدينة، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر من المؤمنين عددا، حتى أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهمّوا بقتله وشرّدوا أصحابه، فذهبت طائفة منهم إلى الحبشة وذهب آخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا إليه وقاموا بنصره وصارت المدينة لهم دار إسلام ومعقلا يلجئون إليه- شرع الجهاد ونزلت الآية مرخّصة فيه.
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس أنه قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ليهلكنّ القوم. فأنزل الله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال.
ثم وصف سبحانه هؤلاء المؤمنين بقوله:
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أي أولئك المظلومون هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة وعذبوا بعضهم وسبوا بعضا آخر، وما كان لهم من إساءة إليهم ولا ذنب جنوه إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له.(17/118)
ونحو الآية قوله: «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» وقوله فى قصة أصحاب الأخدود «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .
ولما كان المسلمون ينشدون حين بناء الخندق:
لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الألى بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
كان رسول الله يوافقهم ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا: إذا أرادوا فتنة أبينا يقول أبينا ويمدّ بها صوته.
ثم حرض المؤمنين على القتال، وبيّن أنه أجرى العادة به فى الأمم الماضية، لينتظم أمر الجماعات، وتقوم الشرائع، وتصان بيوت العبادة من الهدم فقال:
(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) أي فليقاتل المؤمنون الكافرين، فلولا القتال وتسليط المؤمنين على المشركين فى كل عصر وزمان لهدّمت فى شريعة كل نبى معابد أمته، فهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود ومساجد المسلمين التي يذكرون فيها اسم الله كثيرا.
وفى هذا ترقّ وانتقال من الأقل إلى الأكثر حتى انتهى إلى المساجد وهى أكثر عمّارا وأكثر عبّادا وهم ذوو القصد الصحيح.
والخلاصة- إنه لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، وإقامة حدود الأديان، لاستولى أهل الشرك على مواضع العبادة وهدموها، وقد يكون المراد لولا هذا الدفع لهدمت فى زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد.
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي وليعينن الله من يقاتل فى سبيله، لتكون كلمته(17/119)
العليا، وتكون كلمة عدو دينه السفلى، ولقد أنجز الله وعده. وسلط المهاجرين والأنصار على صناديد قريش وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم.
ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .
(إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله لقوى على نصر من جاهد فى سبيله من أهل طاعته، منيع فى سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.
ونحو الآية قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» .
ثم وصف الله الذين أخرجوا من ديارهم بقوله:
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أي هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم هم الذين إن مكنا لهم فى البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها- أطاعوا الله فأقاموا الصلاة على النحو الذي طلبه، وأعطوا زكاة أموالهم التي حباها لهم، ودعوا الناس إلى توحيده، والعمل بطاعته، وأمروا بما حثت عليه الشريعة، ونهوا عن الشرك واجتراح السيئات.
وخلاصة ذلك- إنهم هم الذين كمّلوا أنفسهم باستحضار المعبود والتوجه إليه فى الصلاة على قدر الطاقة، وكانوا عونا لأممهم بإعانة فقرائهم وذوى الحاجة منهم، وكمّلوا غيرهم، فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم، ومنعوا المفاسد التي تعوق غيرهم عن الوصول إلى الرقى الخلقي والأدب السامي.
ثم وعد بإعلاء كلمته ونصر أوليائه فقال:
(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي ولله آخر الأمور ومصايرها، فى الثواب عليها أو العقاب فى الدار الآخرة.
ونحو الآية قوله: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .(17/120)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
تفسير المفردات
أمليت: أي أمهلت، أخذتهم: أي أهلكتهم، فكيف استفهام يراد به التعجب، والنكير والإنكار على الشيء: أن تفعل فعلا به يزجر المنكر عليه على ما فعل، خاوية: ساقطة، وعروشها: أي سقوفها، معطلة: أي عطلت من منافعها، مشيد: أي مبنى بالشيد، وهو الجصّ (الجير) .
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه فيما سلف أن المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأنه أذن لهم فى مقاتلتهم، وضمن لهم النصرة عليهم- أردف هذا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه، وتصبيره على أذاهم وتكذيبهم إياه، فأبان له أن هذا التكذيب ليس بدعا فى الأمم، فكثير منها قد كذبت رسلها فحل بها من البوار ما فيه عبرة لمن اعتبر وتذكر، مما يشاهدونه رأى العين فى حلهم وترحالهم، وفى غدوهم ورواحهم، فلا تحزن على ما ترى، واصبر فإن العاقبة للمتقين.(17/121)
الإيضاح
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي أي فإن يكذبك هؤلاء المشركون بالله على ما أتيتهم به من الحق وما تعدهم به من العذاب على كفرهم به، فلست بأوحدي فى ذلك، فتلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذبة لرسلها، وذلك منهاج من قبلهم، فلا يصدّنّك ذلك فإن العذاب من ورائهم، ونصرى إياك وأتباعك عليهم آت لا محالة، كما أتى عذابى على أسلافهم من الأمم من قبلهم بعد الإمهال، فقد أمهلت أهل الكفر من هذه الأمم فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب ثم أحللت بهم عقابى بعدئذ، فانظر أيها الرسول كيف كان تغييرى ما كان بهم من نعمة، وتنكرى لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم- ألم أبدلهم بالكثرة قلة، وبالحياة موتا وهلاكا، وبالعمارة خرابا، فكذلك سأفعل بمكذبيك من قريش وإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإنى منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلى وعدى فى أممهم فأهلكتهم وأنجيت رسلى من بين أظهرهم.
ونحو الآية قوله: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» .
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي فكثير من القرى أهلكناها، إذ كان أهلها يعبدون غير من ينبغى أن يعبد، ويعصون من لا ينبغى أن يعصى فخوت من مكانها وتساقطت على عروشها، أي سقطت حيطانها فوق سقوفها، وكم من بئر عطلناها بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فلا واردة لها ولا صادرة منها، وكم من قصر شيد بالصخور والجصّ قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله بسوء أفعالهم، فبادوا وبقيت القصور المشيدة خالية منهم، قال قتادة:
شيّدوه وحصّنوه، فهلكوا وتركوه.(17/122)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
ثم أكد لهم صدق وعيده، وأحالهم على ما يشاهدون بكرة وعشيا فقال:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون بآيات الله الجاحدون لقدرته- فى البلاد فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبى رسل الله الذين خلوا من قبلهم كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، ويروا أوطانهم ومساكنهم، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم، فيتفكروا ويعتبروا بها، ويعلموا أمرها وأمر أهلها، وكيف نابتهم النوائب، وغالتهم غوائل الدهر؟ فيكون فى ذلك معتبر لهم لو أرادوا، فينيبوا إلى ربهم، ويعقلوا حججه التي بثها فى الآفاق.
ثم أظهر اليأس من إيمانهم، لأن القلوب قد عميت، فلا تبصر الدلائل الكونية، ولا البراهين العقلية فقال:
(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي إن أبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها فقد أصابهم عمى القلوب، والعمدة على الثاني لا على الأول، فعمى الأبصار ليس بشىء إذا قيس بعمى القلوب والبصائر.
وفى هذا تهويل أيّما تهويل، وفى وصف القلوب بكونها فى الصدور فضل توكيد كما جاء فى قوله تعالى. «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ» فقد تعورف أن مكان العمى هو البصر بأن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، فحين أريد إثبات ما هو خلاف الأصل بنسبته إلى القلوب ونفيه عن الأبصار احتيج إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، وهذا على سنن قولهم: ليس المضاء للسيف ولكن للسان (الذي بين فكّيك) - فكأنهم قالوا ما نفينا المضاء عن السيف وأثبتناه للسان فلتة وسهوا، بل تعمدنا ذلك تعمدا.
[سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 51]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)(17/123)
تفسير المفردات
الإنذار: التخويف، وأصل السعى: الإسراع فى المشي، ثم استعمل فى الإصلاح والإفساد، يقال سعى فى أمر فلان: إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه، معاجزين: أي مسابقين المؤمنين ومعارضين لهم، فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من قولهم: عاجزه فأعجزه، إذا سابقه فسبقه.
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أن المشركين كذبوا رسوله وبالغوا فى تكذيبه وسلّاه على ذلك بأنك لست ببدع فى الرسل، فكثير ممن قبلك منهم قد كذّبوا وأوذوا فلا تبتئس بما يفعلون، واصبر على ما تدعو إليه ولا يضيرنّك ما يأتون وما يذرون- قفى على ذلك ببيان أنهم لاستهزائهم به وشديد تكذيبهم كانوا يستعجلونه العذاب كما قال تعالى حكاية عنهم: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ثم أنّبهم على إنكار ذلك العذاب وقد سبق وعد الله به فكان لزاما عليهم ألا يستعجلوه، فإنهم لو عرفوا ما ينالهم من آلامه وشدائده ما طلبوا استعجاله، فيوم عند ربك تصيبهم فيه المحن والشدائد كألف سنة لو بقوا وعذبوا فى الدنيا، ثم ذكّرهم بأن كثيرا من القرى الظالمة أمهلت ولم تعذب، لعلها ترعوى عن غيّها ثم أخذت أخذ عزيز مقتدر، وحسابها مدّخر ليوم تشخص فيه الأبصار، ثم أبان أن وظيفة الرسول إنما هى الإنذار والتحذير وليس عليهم من حسابهم(17/124)
من شىء، فإن شاء الله عجل لهم العذاب، وإن شاء أخره عنهم، وقد وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد الذين يثبّطون العزائم عن قبول دعوة الإسلام بدوام العذاب فى نار الجحيم.
الإيضاح
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي ويستعجلك كفار قريش المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر- مجىء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه، إنكارا منهم لوقوعه، واستهزاء بحلوله.
ثم بيّن أنه آت لا محالة فقال:
(وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) أي وكيف ينكرون مجىء ذلك العذاب وقد وعد الله به؟
وما وعد به كائن لا محالة، وهو كما فعل بمن قبلهم يفعل بهم، لأن ذلك هو نهجه، الثابت، وصراطه المستقيم، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم.
(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي وإن قلتم إن العهد قد طال ولم يحلّ بكم العذاب فأين هو؟ فإن الله حليم، وألف سنة عندكم كيوم عنده، فهو سينفذ وعده بعد أمد طويل عندكم قريب عنده كما قال: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدا طويلا فلا يكون فى ذلك إخلاف للوعد، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يوما عندكم.
والخلاصة- إن سنّتى لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين أمما وأفرادا فى الدنيا والآخرة أو عذابهم فى الآخرة فحسب مع الأكدار فى الدنيا وهم لا يشعرون.
ثم أكد ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد فقال:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي وكم من قرية أخرت إهلاكها مع استمرارها على ظلمها فاغترت بذلك التأخير، ثم أنزلت(17/125)
بها بأسى وشديد انتقامي، وحسابها بعد مدّخر ليوم الحساب حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد.
ثم أبان لهم عظيم خطئهم فى طلب استعجال العذاب من الرسول بقوله:
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل يا أيها المشركون المستعجلون مجىء العذاب: ليس ذلك إلىّ، وإنما أرسلنى ربى نذيرا لكم بين يدى عذاب شديد، وليس إلىّ من حسابكم من شىء، بل أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب وينيب إليه «لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .
ثم فصل هذا الإنذار بذكر الوعد للمتقين والوعيد للكافرين فقال:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي فالذين آمنت قلوبهم، وصدّقوا إيمانهم بأعمالهم- لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب عند ربهم على ما قدموا من حسناتهم، ولهم رزق كريم فى الجنة يفوق وصف الواصفين، ومقال المادحين كما قال تعالى: «فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ»
وفى الحديث: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين اجتهدوا فى رد دعوة الدين والتكذيب بها وثبّطوا الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أنهم يعجزوننا وأنهم لا يبعثون، فأولئك هم المقيمون فى النار المصاحبون لها لا يخرجون منها.
ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» .(17/126)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
تفسير المفردات
الرسول: من جاء بشرع جديد، والنبي يشمل هذا ويشمل من جاء لتقرير شرع سابق كأنبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام، والتمني والأمنية: القراءة كما قال تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» أي إلا قراءة، وقال حسان فى عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر
وينسخ: أي يزيل ويبطل، يحكم: أي يجعلها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال، فتنة: أي ابتلاء واختبارا، مرض: أي شك ونفاق، القاسية قلوبهم: هم الكفار المجاهرون بالكفر، شقاق بعيد: أي عداوة شديدة، فتخبت: أي تذل وتخضع، مرية: أي شك، بغتة: أي فجأة، الساعة: الموت، يوم عقيم: أي منفرد عن سائر(17/127)
الأيام لا مثيل له فى شدته والمراد به الحرب الضروس، الملك: أي التصرف والسلطان، يحكم بينهم: أي يقضى بين فريقى الكافرين والمؤمنين، مهين: أي مذل جزاء استكبارهم عن الحق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن قومه قد كذّبوه بوسائل شتى من التكذيب، فقالوا تارة إنه ساحر، وأخرى إنه شاعز، وثالثة إن القرآن أساطير الأولين، ثم سلاه على هذا بأنه ليس بدعا من الرسل، فكثير قبله قد كذّبوا، ثم ذكر أن لعظيم استهزائهم به، وتهكمهم بما يبلّغهم عن ربه- طلبوا منه استعجال العذاب الذي يعدهم به- أردف ذلك بذكر نوع آخر من التكذيب وهو إلقاؤهم الشبه والأوهام فيما يقرؤه على أوليائه من القرآن، ليجادلوه بالباطل ويردّوا ما جاء به من الحق ويكون فى ذلك فتنة لضعاف الإيمان وللكافرين، وليزداد المؤمنون إيمانا ويقينا بأنه الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم، وإن هذه حالهم حتى يموتوا أو يأتيهم عذاب لا يبلغ الوصف كنه حقيقته، وعندئذ يحكم الله بين عباده فيدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، ويجازى الذين كذبوا بآياته وكانوا فى مرية من رسالة رسوله بالعذاب المهين جزاء وفاقا على تدسية أنفسهم وتدنيسها بزائغ العقائد وسيىء الأعمال وباطلها.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي وما أرسلنا قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ، ألقى الشيطان على سامعيه وهو يتلو الوحى الذي أنزل إليه- شبهات فيما يقرأ، فيقول قوم إنه سحر، ويقول آخرون إنه نقله الرسول عن بعض الأولين، وهكذا من الأباطيل والترّهات التي يتقوّلونها.(17/128)
(فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) أي فيزيل سبحانه تلك الخرافات التي علقت ببعض النفوس، بأن يقيّض للدين من يدافع عنه ويدفع الشبهات، ثم يجعل آياته محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال.
وخلاصة ذلك- إن الله حين أنزل القرآن وقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم قال المشركون فيه ما قالوا، ثم لما استبان الحق وجاءت غزوة بدر ونصر الله المسلمين الذين بشرهم كتابه بالنصر على أعدائهم: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» استتب لهم الأمر ودخل أعداؤهم فى دينهم أفواجا «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا»
. وما مثل هذا إلا مثل النباتات الطّفيلية التي تنبت فى الأرض بجانب ما يزرع فيها من حنطة وفول وغيرهما مما يحتاج إليه الناس، ولا تزال تتغذى من الأرض وتأخذ غذاء النبات النافع، فلا يهدأ للزارع بال حتى يزيلها ويوفّ غذاءها للنبات الذي هو فى أشد الحاجة إليه.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فإنك الآن لترى أهل أوربا يرسلون الجيوش من القساوسة التي تفتح المدارس فى بلاد الشرق ويقولون للمسلمين: إن دينهم محشو بالخرافات والأكاذيب ويشككون فيه من تعلموا فى تلك المدارس، ويصدق بعض غوغائهم تلك الأباطيل، حتى لقد قالوا إن هذا الدين لا يعيش فى ظل العلم، ولا يقبل الأفكار والآراء الراقية، وهو والعلم عدوان لا يجتمعان، ومما جعل لهم بعض المعذرة فيما يقولون، حال المسلمين من الخمول وسوء الأحوال، وقبيح المعتقدات والأعمال مما جعلهم مضغة فى أفواه الأمم المتمدينة: «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» .
وإن الله لينسخ تلك الوساوس، ويزيل هذه الأوهام، فقد تصدى كثير من ذوى المعرفة لدحض تلك المفتريات، فقام العالم الحكيم محمد عبده، وألف كتابه [الإسلام والنصرانية] ودفع كثيرا من مطاعن أولئك المبشرين، وقام بعده كثير من أهل الفقه بالدين، فاحتذوا حذوه، وواصلوا الليل بالنهار فى دحض تلك الشبه، وإن الله ناصر دينه ولو كره الكافرون.(17/129)
هذا وقد دسّ بعض الزنادقة فى تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة لم ترد فى كتاب من كتب السنة الصحيحة، وأصول الدين تكذّبها، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها، وأنها ليست من الحق فى شىء، وهى مما تشكّك المسلمين فى دينهم، وتجعلهم فى حيرة من أمر الوحى وكلام الرسول، فيجب على العلماء طرحها وراءهم ظهريّا، ولا يضيعون الزمن فى تأويلها وتخريجها، ولا سيما بعد أن نص الثقات من المحدّثين على وضعها وكذبها، لمصادمتها لأصول الدين التي لا تقبل شكا ولا امتراء.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شىء، ومن ذلك ما يصدر عن الشيطان وأوليائه، فيجازيهم عليه أشد الجزاء، حكيم فى أفعاله، ومن ذلك أن يمكّن الشيطان من إلقاء الشبهات، ليحاجّ أولياؤه بها، فيتمكن المؤمنون من ردها ودحض المفتريات التي يتشدقون بها، ويرجع الحق إلى نصابه، فتظهر الحقيقة ناصعة بيضاء من بين تلك الظلمات، فتمحو الظلام الذي كان عالقا بنفوس الذين فى قلوبهم مرض، وتضىء آفاق العقول السليمة، وتهديهم إلى طريق الرشاد وإلى الفريقين أشار بقوله:
(1) (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي ليجعل ما يلقيه الشيطان على قلوب أوليائه فتنة واختبارا للمنافقين الذين فى قلوبهم مرض، وللكافرين الذين قست قلوبهم، فلا تلين لقبول الحق، ولا ترعوى عما هى فيه من الغىّ.
ثم بين مجانفة هذين الفريقين للحق وبعدهما عن الرشد لا إلى غاية فقال:
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي وإن هذين الصّنفين من الضلّال لفى عداوة لأمر الله، وبعد عن الرشاد والسداد، بما لا مطمع لهما معه فى النجاة والفوز برضا الله.
(2) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)(17/130)
أي ولكى يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها ونسخ ما ألقى الشيطان- أنه الحق من ربهم، فيصدقوا به وتخضع له قلوبهم وتذعن للإقرار به نفوسهم، وتعمل بما فيه من عبادات وآداب وأحكام وهى مثلجة الصدر هادئة مطمئنة ببرد اليقين، والسير على نهج سيد المرسلين.
ثم بين حسن مآلهم وفوزهم بسعادة العقبى فقال:
(وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإن الله لمرشد الذين آمنوا به وصدّقوا برسوله، وموفّقهم إلى الحق الواضح، بنسخ ما ألقى الشيطان فى أمنية رسوله حين تلاوة الوحى، وحفظ أصول الدين الصحيحة فى نفوسهم، والعمل بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وخلاصة ذلك- إن الله ليهدى الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابه من الدين، وتفصيل ما أجمل منه، بما تقتضيه الأصول المحكمة. فلا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، ولا تزلزل أقدامهم ترّهات المبطلين.
ثم أردفه بيان مآل الفريق الأول فقال:
(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي ولا يزال الكافرون فى شك مما ألقى الشيطان فى قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم حتى يأتيهم الموت فجأة وهم فى بيوتهم آمنون، أو يشتبكوا مع المؤمنين فى قتال يهلك فيه أبطالهم وصناديدهم كما حدث يوم بدر.
وقد جعل هذا اليوم عقيما، لأن المقاتلين يسمّون أبناء الحرب، فإذا هم قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم.
وخلاصة هذا- إنه لا مطمح فى إيمانهم، ولا لزوال المرية من قلوبهم، فهم لا يزالون كذلك حتى يهلكوا.
وبعد أن بين سبحانه حال الفريقين فى الدنيا أرشد إلى حالهم فى الآخرة فقال:
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي إذا جاء يوم القيامة حكم ربهم بينهم بالحق(17/131)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
وجازى كلا منهما بما هو له أهل، وبما أعدّ نفسه له فى الدنيا من عمل صالح زكى به نفسه وطهر روحه، أو عمل سيىء دسّاها به، فرانت على قلبه غشاوة الشكوك والأوهام، واجترام المعاصي والآثام.
ثم فصّل هذا الحكم والمحكوم عليهم فقال:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي فالذين آمنوا بهذا القرآن وبمن أنزله وبمن جاء به، وعمل بما فيه من أوامر ونواه- يثيبهم ربهم جنات النعيم يتمتعون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، جزاء وفاقا على ما زكّوا به أرواحهم، وأخلصوا له فى أعمالهم، وراقبوه فى السر والعلن، وخافوا عذابه فى ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي والذين كفروا بالله، وكذبوا رسوله، وجحدوا بآيات كتابه، وقالوا إنما هو إفك افتراه محمد وأعانه عليه قوم آخرون- أولئك لهم عذاب عند ربهم يذلّهم ويخزيهم كفاء استكبارهم عن النظر فيها وجحودهم بها عنادا، وقد كان لهم فيها لو تأمّلوا حق التأمل ما يكون صادا لهم عن غيّهم ورادعا لهم عن ضلالهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 62]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)(17/132)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين جنات النعيم- أردف ذلك ذكر وعده الكريم للمهاجرين فى سبيله بأنه يرزقهم الرزق الحسن ويدخلهم مدخلا يرضونه، ثم ذكر وعده لمن قاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن بأنه ينصره وهو قدير على ذلك، إذ من قدر على إدخال الليل فى النهار وإدخال النهار فى الليل، بأن يزيد فى أحدهما ما ينقصه من الآخر- يقدر على نصره، وهو الثابت الإلهية وحده، إذ لا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم، وأن ما سواه باطل لا يقدر على شىء.
أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «من مات مرابطا أجرى عليه الرزق، وأمن من الفتّانين واقرءوا إن شئتم: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) »
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمرّوا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفّى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: مالى أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا هذا القتيل فى سبيل الله، فقال والله لا أبالى من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) الآية.
وروى عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقتول فى سبيل الله والمتوفّى فى سبيل الله بغير قتل هما فى الأجر شريكان» .(17/133)
الإيضاح
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي والذين فارقوا أوطانهم، وتركوا عشائرهم، فى رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك- ليثيبنّهم الله الثواب الجزيل جزاء ما ناضلوا عن دينه، وأخلصوا فى الذود عنه، وإن الله ليعطى من يشاء بغير حساب، ويرزق الخلق كافة بارّهم وفاجرهم.
ثم بين هذا الرزق الحسن بقوله:
(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ) أي ليدخلنّ المقتولين فى سبيله والموتى مهاجرين فى طاعة ربهم وذودا عن دينه- جنات النعيم، ويكرمون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما لا ينالهم فيها مكروه ولا أذى كما قال «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» .
(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي وإن الله الذي عمّت رحمته، وعظمت نعمته- لعليم بمقاصدهم وأعمالهم وأعمال أعدائهم، حليم فلم يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة جزاء تكذيبهم ومقاومتهم دعوة الدين.
(ذلك) أي ذلك الرزق الحسن والمدخل الكريم لمن قتلوا فى سبيل الله أو ماتوا، ولهم أيضا النصر فى الدنيا على أعدائهم وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) أي وإن من جازى من المؤمنين بمثل ما عوقب به ظلما من المشركين، فقاتلهم كما قاتلوه ثم بغى عليه باضطراره إلى الهجرة ومفارقة الوطن- لينصرنّه الله الذي لا يغالب، ولينتقمنّ له من أعدائه، ولينكّلنّ بهم، ويمكننه منهم، ويجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والخلاصة- إنه تعالى كما يدخلهم مدخلا كريما، يعدهم بالنصر على أعدائهم إذا هم قاتلوهم وبغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم.(17/134)
(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي وإن الله الذي أحاطت قدرته بكل شىء- ليعفو عن المؤمنين، فيغفر لهم ما أمعنوا فيه من الانتقام. وما أعرضوا عنه مما ندبه من العفو بمثل قوله «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» وقوله: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» وقوله: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وهم بفعلهم هذا تركوا ما كان أجدر بهم وأحرى بمثلهم.
والخلاصة- كأنه سبحانه قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها لهم لأنى أذنت بها.
ثم قرر نصره لعباده المؤمنين وأكده بقوله:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ذلك النصر الذي أنصره لمن بغى عليه، لأنى أنا القادر على ما أشاء، ألا تروننى أدخل ما ينقص من ساعات الليل فى ساعات النهار، وأدخل ما ينقص من ساعات النهار فى ساعات الليل، وبهذه القدرة التي تفعل ذلك أنصر محمدا وصحبه على الذين قد بغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم أشد الأذى على إيمانهم بي وحدي.
(وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي وأن الله سميع للأقوال وإن اختلفت فى النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يعملون لا يغيب عنه شىء ولا يعزب عنه شىء وإن كان مثقال ذرة.
ولما وصف نفسه بما لا يقدر عليه غيره علل ذلك بقوله:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي ذلك الاتصاف بكمال القدرة وكمال العلم بسبب أن الله هو الثابت لذاته، وأنه لا مثيل له ولا شريك، وأن الذي يدعون من دونه من الآلهة باطل لا يقدر على صنع شىء بل هو المصنوع الموجد بعد العدم.
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأن الله فوق كل شىء وكل شىء دونه، وهو الكبير عن أن يكون له شريك، إذ لا شىء أعلى منه شأنا ولا أكبر سلطانا(17/135)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
وخلاصة ذلك- أفتتركون أيها الجهال عبادة من بيده النفع والضر وهو القادر على كل شىء وكل شىء دونه وهو فوق كل شىء وتعبدون من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا؟
[سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 66]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
الإيضاح
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف عظيم قدرته وبالغ حكمته فى ولوج الليل فى النهار والنهار فى الليل، ونبه بذلك على سابغ نعمه على عباده، أردف ذلك بذكر أنواع أخرى من الدلائل على قدرته فقال:
(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي ألم تبصر أيها الرائي أن الله ينزل من السماء مطرا فيحيى به الأرض فتنبت ضروبا مختلفة من النبات بديعة الألوان والأشكال ذات خضرة سندسية تبهر العين بحسن منظرها وبديع تنسيقها.
ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إنه تعالى لطيف يصل علمه إلى الدقيق والجليل، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم.(17/136)
ونحو الآية قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» .
(ب) (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي إن كل ما فى السموات وما فى الأرض منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه، وهو الغنى عن حمد الحامدين، لأنه كامل لذاته، غنى عن كل ما عداه، وقد فعل ما فعل إحسانا منه إلى عباده وتفضلا عليهم.
(ج) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي إنه تعالى سخر ما فى ظاهر الأرض وباطنها، لينتفع به الإنسان فى مصالحه ومرافقه المختلفة ويصرفه فيما أراد من شئون معايشه، ولا يزال العلم يهديه إلى غريب الأمور مما لم يكن يخطر لأسلافه على بال مما لو حدّث به السالفون لقالوا إنه ترّهات وأباطيل وما صدّقه بشر، ولا يزال العلم يولّد كل يوم جديدا: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ويهتدى العقل إلى ما هو أشبه بالمعجزات، لولا أن سدّت أبواب النبوات.
ونحو الآية قوله: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» .
(د) (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وسخر لكم السفن تجرى فى البحار برفق وتؤدة حاملة ما تريدون من نائى الأصقاع، وبعيد المسافات، من سلع وحيوان وأناسىّ، وبذلك يتم تبادل مرافق الحياة بالأخذ والعطاء.
(هـ) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي وإن الله يمسك أجرام الكواكب من شمس وقمر وكواكب نيرات بنظام الجاذبية، إذ جعل لكل منها مدارا خاصا بها لا تعدوه بحال، ولا تزال كذلك ما بقيت الحياة الدنيا، حتى إذا اقتربت الساعة اختل نظامها وانتثرت فى الفضاء كما ألمع إلى ذلك سبحانه بقوله: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» الآية.
ولولا هذا النظام الخاص لاصطدمت الكواكب العظيمة بعضها ببعض، وفسد العالم الأرضى، ولم يعش على ظهر البسيطة إنسان ولا حيوان.(17/137)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى رحيم بهم، إذ جعلهم على تلك الشاكلة، ليتسنى لهم البحث عن أسباب معايشهم وأسباب منافعهم، وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية على وجوده وبعثة رسله.
(و) (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي وهو الذي أنعم عليكم بهذه النعم، وجعلكم أجساما حية بعد أن كنتم ترابا، ثم يميتكم حين انقضاء آجالكم، ثم يحييكم بالبعث والنشور إلى عالم آخر تلقون فيه حسابكم وجزاءكم من نعيم أو جحيم، ثم بين طبيعة الإنسان التي فطر عليها فقال:
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي إن الإنسان لم يوجّه همه إلى كل هذه الآلاء التي يتقلب فيها ليل نهار، بل جحدها وجحد خالقها على وضوح أمرها، وعبد غيره، وجعل له الأنداد من الأصنام والأوثان.
ونحو الآية قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» وقوله: «قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» .
[سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 69]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
تفسير المفردات
المنسك: الشريعة والمنهاج، ناسكوه: أي عاملون به، والهدى: الطريق الموصل إلى الحق، مستقيم: أي سوىّ لا عوج فيه.(17/138)
المعنى الجملي
بعد أن قدّم عز اسمه ذكر نعمه وأنه رءوف بعباده رحيم بهم، وأن الإنسان كفور بطبعه، ومن ثم جحد الخالق لهذه النعم- أتبعه بزجر معاصريه عليه السلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته، بذكر خطئهم فيما تمسكوا به من الشرائع، وبيان أن لكل أمة شريعة خاصة، ثم أمره بالثبات على ما هو عليه من الحق، وأنه لا يضره عناد الجاحدين، فالله هو الحكم بينهم وبينه يوم القيامة.
الإيضاح
(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي إنا أنزلنا لأهل كل دين من الأديان السماوية شريعة خاصة يعملون بها، ويسيرون على نهجها، لا يتخطونها إلى غيرها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى منسكها ما فى التوراة، والأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم منسكها ما فى الإنجيل، وأمة محمد صلى الله عليه وسلّم وهم من وجد حين مبعثه إلى يوم القيامة منسكهم ما فى القرآن، لأن لكل زمان ما يليق به من الشرائع التي تناسب من فيه فى تلك الحقبة.
(فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي فلا ينبغى لهم أن ينازعوك فى أمر هذا الدين، فإن تعيينه تعالى لكل أمة شريعة خاصة موجب لطاعة هؤلاء لك وعدم منازعتهم إياك فى أمر هذه الشريعة زعما منهم أن شريعتهم هى ما عيّن لآبائهم من التوراة والإنجيل، فذلك خطأ منهم، فإن ذلك إنما كان شريعة لمن مضى قبل نسخه بالقرآن.
والخلاصة- اثبت أيها الرسول على دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك منه ليزيلوك عنه، والمراد بذلك تهييج حميّته عليه السلام، وإلهاب غضبه لله ولدينه، ومثل هذا كثير فى كتاب الله، وكأنه قد قيل له: تأسّ بالأنبياء قبلك فى متاركة القوم الظالمين، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم.(17/139)
(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي وادع هؤلاء المنازعين إلى توحيد الله وعبادته، إنك لعلى طريق يهدى إلى الحق، وشريعة توصل إلى السعادة.
ونحو الآية قوله: «وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي وإن جادلك هؤلاء المشركون فى نسكك بعد أن ظهر الحق ولزمتهم الحجة- فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد:
الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ومجاز كلا بما هو له أهل.
ونحو الآية قوله: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» وقوله: «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» .
وبعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم وكان ذلك شديد الوقع على النفس سلاه بأن الله سيجازيهم لا محالة يوم القيامة على ما يقولون ويفعلون فقال:
(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي الله يقضى بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما كنتم تختلفون فيه من أمر الدين، فيتبين المحق من المبطل.
ونحو الآية قوله: «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» الآية.
وقصارى ما سلف- ادع إلى شريعتك، ولا تخصّ بالدعاء أمة دون أمة، فكلهم أمتك، وإنك لعلى طريق واضحة الدلالة تصل بمن اتبعها إلى سبيل السعادة، فإن عدلوا عن النظر فى الأدلة إلى المراء والتمسك بالعادات، وبما وجدوا عليه الآباء(17/140)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
والأجداد، فدعهم فى غيهم يعمهون، فقد أنذرت، وما عليك إلا البلاغ، وقل لهم مهددا منذرا: الله يحكم بيننا وبينكم، يوم القيامة، ويتبين المحق منا من المبطل، ويجازى كلا بما يستحق.
[سورة الحج (22) : الآيات 70 الى 72]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
تفسير المفردات
سلطانا: أي حجة وبرهانا، نصير: أي ناصر ومعين، يسطون: أي يبطشون بهم من فرط الغيظ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه يحكم بين عباده يوم القيامة ويجازى كلا من المسيء والمحسن بما هو له أهل- أعقب هذا ببيان أنه العليم بما يستحقه كل منهم، فيقع حكمه بينهم بالعدل، ثم أرشد إلى أنه على وضوح الدلائل وعظيم النعم عليهم عبدوا غيره مما لم يقم الدليل على وجوده، وأنهم مع جهلهم إذا نبّهوا إلى الحق، وعرضت عليهم المعجزة، وتلى عليهم الكتاب الكريم ظهر فى وجوههم الغيظ والغضب، وهمّوا أن يبطشوا بمن يذكّرهم بآياته، إنكارا منهم لما خوطبوا به، ثم أبان لهم أن ما ينالهم من(17/141)
النار التي يقتحمونها بأفعالهم وأقوالهم أعظم مما ينالهم من الغم والغيظ حين تلاوة هذه الآيات.
الإيضاح
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قد علمت أيها الرسول أن علم الله محيط بما فى السموات وما فى الأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بما عملوه فى الدنيا، فمجازى المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته.
ثم أكد علمه بقوله.
(إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي إن علمه بذلك فى اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ربنا قبل أن يخلق ما هو كائن إلى يوم القيامة ويرى أبو مسلم الأصفهانى أن المراد بالكتاب فى مثل هذا الحفظ والضبط الشديد بحيث لا يغيب عنه مثقال ذرة.
ثم زاده تأكيدا بقوله.
(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه تعالى بما فى السماء والأرض وكتبه فى اللوح المحفوظ والفصل بين عباده يوم القيامة- يسير عليه إذ لا يخفى عليه شىء، ولا يتعسر عليه مقدور.
ثم حكى سبحانه بعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على سخافة عقولهم فقال:
(ا) (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه ما لم ينزل بجواز عبادته حجة وبرهانا من السماء فى كتاب من كتبه التي أنزلها إلى رسله، وما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بغير حجة ولا برهان.
والخلاصة- ويعبدون من دون الله ما لم يقم دليل من الوحى ولا من العقل على صحة عبادته.(17/142)
ونحو الآية قوله: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي وليس للظالمين من ينصرهم يوم القيامة فينقذهم من عذاب الله ويدفع عنهم عقابه إذا أراد ذلك.
(ب) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي وإذا تتلى على المشركين العابدين من دون الله ما لم ينزّل به سلطانا- آيات القرآن ذوات الحجج والبينات، بدت على وجوههم أمارات الإنكار بالتّجهّم والعبوس والبسور ونحو ذلك مما يذل على الغيظ والحفيظة الكامنة فى نفوسهم مما يسمعون منها.
ثم بين مقدار ذلك الغيظ ومبلغ أمره فقال:
(يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي هم من شدة حنقهم على من يتلونه من المؤمنين يكادون يثبون عليهم ويبطشون بهم ويبسطون أيديهم وألسنتهم بالسوء.
وقصارى ذلك- إنهم قد بلغوا من الجهالة حدا لا ينفع فيه العلاج، ولا تقنع فيه البينات والحجج.
ثم ذكر لهم أن هذا الغيظ الكمين فى نفوسهم ليس بشىء إذا قيس بما سيلاقونه من العذاب يوم القيامة فقال:
(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ؟) أي قل لهم: أتسمعون فأخبركم بشر من ذلكم الذي فيكم من الغيظ من التالين للآيات حتى قاربتم أن تسطوا بهم وتمدّوا إليهم أيديكم وألسنتكم بالسوء؟
ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال:
(النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوّفون به أولياء الله المؤمنين فى الدنيا، ومما تنالون منهم إن نلتم بإرادتكم واختياركم.(17/143)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار موئلا ومقاما لهؤلاء المشركين بالله.
ونحو الآية قوله: «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .
[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 76]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
تفسير المفردات
ضرب: أي جعل، والمثل والمثل: الشبه، لا يستنقذوه: أي لا يقدروا على استنقاذه، ما قدروا الله: أي ما عظّموه، عزيز: أي غالب على جميع الأشياء، يصطفى:
أي يختار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم عليه من الوحى، ولا دليل عليه من العقل- أردف هذا بما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية، وما ينبغى أن يكون لها من إجلال وتعظيم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه سبحانه يصطفى من الملائكة والناس لرسالته من يشاء وهو العليم بمن يختار «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»(17/144)
روى أن الوليد بن المغيرة قال: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل الله الآية:
«اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ»
وأخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة»
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي يا أيها الناس جعل المشركون لى أشباها وأندادا وهى الآلهة التي يعبدونها معى، فأنصتوا وتفهّموا حال ماملوهم وجعلوهم لى فى عبادتهم إياهم أشباها وأمثالا.
ثم بين حال هؤلاء الأشباه والأمثال فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة على صغر حجمها وحقارة شأنها ما قدروا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
روى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى، فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة» .
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي وإن يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه- لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه.
والخلاصة- إنهم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أعجب من ذلك أنهم عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه.
وفى ذلك إيماء إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة، وأشركوا بالله القادر على كل شىء آلهتهم من الأصنام والأوثان التي لا تقدر على خلق أحقر المخلوقات وأصغرها وهو الذباب ولو اجتمعت له، ولا تستطيع أن تنتصر منه لو سلبها شيئا.(17/145)
(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي عجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من المطلوب وهو الذباب ما سلبها إياه من الطيب وما أشبهه.
وقصارى هذا- إنه سبحانه وصف هذه الآلهة بما وصف، للدلالة على مهانتها وضعفها، تقريعا منه لعبدتها من مشركى قريش وكأنه قيل لهم: كيف تجعلون لى مثلا فى العبادة، وتشركون معى فيها ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ منه الذباب شيئا لم يقدر أن ينتصر منه، وأنا الخالق لما فى السموات والأرض، المالك لجميع ذلك، المحيي لما أردت والمميت له-؟ إن فاعل ذلك بالغ غاية الجهل وعظيم السفه.
ثم زاد هذا الإنكار توكيدا فقال:
(ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموه حق التعظيم، إذ عبدوا معه غيره من هذه الأصنام التي لا تقاوم الذباب لضعفها، ولا تنتصر منه إن سلبها شيئا.
(إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنه تعالى قوىّ لا يتعذر عليه شىء، وبقدرته خلق كل شىء، عزيز لا يغالب، لعظمته وسلطانه، ولا يقدر شىء أن يسلبه من ملكه شيئا، وليس كآلهتكم التي تدعونها من دون الله.
ونحو الآية قوله: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقوله: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» .
وبعد أن ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوات فقال:
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) أي الله يختار من الملائكة رسلا يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحى، ويصطفى من الناس رسلا يدعون عباده إلى ما يرضيه، ويبلغونهم ما نزّله عليهم من وحيه، إرشادا لهم وتشريعا للأحكام التي فيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى سميع لأقوال عباده، بصير بهم فيعلم من يستحق أن يختار منهم لهذه الرسالة.(17/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما كان بين أيدى ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم، ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.
وخلاصة ذلك- يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها.
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإليه ترجع الأمور يوم القيامة، فلا أمر ولا نهى لأحد سواه، وهو يجازى كلا بما عمل إن خيرا وإن شرا.
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
تفسير المفردات
فى الله: أي فى سبيله، والجهاد كما قال الراغب: هو استفراغ الوسع فى مجاهدة العدو، وهو ثلاثة أضرب:
(ا) مجاهدة العدو الظاهر كالكفار.
(ب) مجاهدة الشيطان.
(ج) مجاهدة النفس والهوى، وهذه أعظمها فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» .(17/147)
والمراد بالجهاد هنا ما يشمل الأنواع الثلاثة، كما يؤيده ما روى عن الحسن أنه قرأ الآية وقال: «إن الرجل ليجاهد فى الله تعالى وما ضرب بسيف» .
واجتباكم: أي اختاركم، حرج: أي ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم، واعتصموا بالله أي استعينوا به وتوكلوا عليه، مولاكم: أي ناصركم.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم فى الإلهيات ثم فى النبوات- أتبعهما بالكلام فى الشرائع والأحكام.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، اخضعوا لله، وخروا له سجدا، واعبدوه بسائر ما تعبّدكم به، وافعلوا الخير الذي أمركم بفعله من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق، لتفلحوا وتفوزوا من ربكم بما تؤمّلون من الثواب والرضوان.
(وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي وجاهدوا فى سبيل الله جهادا حقا خالصا لوجهه لا تخشون فيه لومة لائم.
(هو اجتباكم) أي هو اختاركم من سائر الأمم، وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع.
(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي وما جعل عليكم فى الدين الذي تعبدكم به ضيقا لا مخرج لكم منه، بل وسّع عليكم وجعل لكم من كل ذنب مخلصا، فرخص لكم فى المضايق فالصلاة وهى أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب فى الحضر أربعا وفى السفر تقصر إلى اثنتين، ويصليها المريض جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنبه،(17/148)
وأباح الفطر حين السفر وحين الإرضاع والحمل والشغل فى شاقّ الأعمال، ولم يوجب علينا الجمعة فى المساجد حين السفر أو الخوف من عدو أو سبع أو مطر إلى نحو أولئك، كما فتح لكم باب التوبة وشرع لكم الكفارات فى حقوقه ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الولي.
ونحو الآية قوله سبحانه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وقوله: «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» .
(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي وملتكم هى ملة أبيكم إبراهيم الحنيفية السمحة التي لم يعتورها جنف ولا إشراك.
ونحو الآية قوله تعالى: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» الآية.
(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هذا) أي إن الله سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم- المسلمين فى الكتب المتقدمة وفى هذا الكتاب.
وخلاصة هذا- إنه تعالى ذكر أنه اختارهم من بين سائر الأمم، ثم حثهم على اتباع ما جاءهم به الرسول، لأنه ملة أبيهم إبراهيم، ثم نوّه بذكره والثناء عليه فى كتب الأنبياء قبله وفى القرآن.
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلكم هكذا أمة وسطا عدولا مشهودا بعدالتكم بين الأمم، ليكون محمد صلّى الله عليه وسلّم شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم.(17/149)
وإنما قبلت شهادتهم على الناس لسائر الأنبياء، لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم، ولاعتراف سائر الأمم يومئذ بفضلهم على سواهم، وقد تقدم ذكر هذا فى سورة الأنعام عند قوله: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» الآية.
ولما ندبهم لأداء الشهادة على الأمم جميعا طلب منهم دوام عبادته والاعتصام بحبله المتين فقال:
(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) أي فقابلوا هذه النعم العظيمة بالقيام بشكرها، فأدّوا حق الله عليكم بطاعته فيما أوجب وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة التي هى وصلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هى طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم، واستعينوا بالله فى جميع أموركم، وهو ناصركم على من يعاديكم.
ثم علل الاعتصام به بقوله:
(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي إن من تولاه كفاه كل ما أهمه، وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه، إذ لا ناصر فى الحقيقة سواه ولا ولىّ غيره، فله الحمد وهو رب العالمين.
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام
(1) وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الولدان.
(2) جدال عبدة الأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان.
(3) إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه.
(4) وصف المنافقين المذبذبين فى دينهم وعدم ثباتهم على حال واحدة.
(5) ما أعد الله لعباده المؤمنين من الثواب المقيم فى جنات النعيم.(17/150)
(6) بيان أن الله ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر الأديان.
(7) بيان أن الله يحكم يوم القيامة بين عباده من أرباب الديانات المختلفة ويجازى كلا بما يستحق.
(8) إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته.
(9) أمر المؤمنين بقتال المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق فى كل زمان ومكان وأن الله ينصر من يدافع عنه.
(10) تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأنهم ليسوا بدعا فى الأمم، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم ثم كانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، والعبرة ماثلة أمامهم فى حلهم وترحالهم.
(11) بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق ليزلزلوا عقائد المؤمنين، لكنها لا تلبث أن تزول وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل.
(12) الثواب على الهجرة لله ورسوله سواء قتل المهاجر أو مات.
(13) وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن، بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب.
(14) بيان أن الله يرسل رسلا من الملائكة ورسلا من البشر وأن الله عليم بمن يصلح لهذه الرسالة.
(15) أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد فى سبيل الحق.
(16) بيان أن الدين يسر لا عسر، وأنه كمّلة إبراهيم سمح لا شدة فيه.(17/151)
(17) بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الله وما قصّروا فى ذلك.
اللهم ألهمنا الحق، واهدنا سبيل الرشاد، وتقبل أعمالنا، إنك أنت السميع المجيب.
قد انتهى تفسير هذا الجزء فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، وفقنا الله لإتمام تفسير كتابه الكريم.(17/152)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
المبحث 3 فى الحديث: «بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى» 6 طعن المشركون فى نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمرين 7 طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية أخرى غير القرآن 11 فضل القرآن 13 كانت الأمم السابقة تعترف بظلمها حين إهلاكها 14 فساد المطاعن التي وجهوها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم 17 السموات والأرض لم تخلقا عبثا فلابد من الحساب والجزاء 19 لو كان فى السموات والأرض إلهان لفسدتا 20 الكتب السماوية جميعا جاءت بوحدانية الله وطلب عبادته 21 الملائكة عباد مكرمون يسبحون الليل والنهار لا يفترون 24 الأدلة على وجود الله 29 الدنيا ما خلقت للخلود والدوام 30 الابتلاء والفتنة تكون بالخير والشر 32 جبل الإنسان على حب العجلة 34 تأتى الساعة بغتة وهم لا يشعرون 39 يوم القيامة يدعو المشركون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور 41 أوصاف المتقين(17/153)
42 حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد 44 احتجاج قومه بالتقليد 46 كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام 47 رجوع قوم إبراهيم على أنفسهم بالملامة 51 اتفاق قوم إبراهيم على إحراق إبراهيم 53 النعم التي أفاض الله بها على إبراهيم 54 النعم التي أسبغها على لوط 56 ما أنعم الله به على داود وسليمان 57 قضاء داود وسليمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم 58 نعم الله على داود عليه السلام نعم الله على سليمان عليه السلام 61 ما أحيطت به قصة أيوب من العجائب والغرائب 63 نداء يونس عليه السلام لربه فى الظلمات واستجابة الله له 66 دعاء زكريا ربه واستجابته لدعوته 68 لبّ الدين عند الله واحد واختلاف الأديان فى التفاصيل 73 الأصنام وعابدوها فى النار، وحكمة ذلك 74 أحوال أهل النار وما يلاقونه من الأهوال 75 ما كتب لأهل السعادة فى الجنة 76 صلاح الأمة يقوم على أربعة عمد 78 الرسول صلّى الله عليه وسلّم أرسل رحمة للعالمين 83 ما اشتملت عليه سورة الحج من المباحث 85 أهوال يوم القيامة 86 ذمّ المجادل بغير علم(17/154)
88 مراتب الخلق والاستدلال بها على البعث 91 المجادل بلا عقل صحيح ولا نقل صريح 94 من الناس المذبذب المضطرب فى دينه 97 إثبات نصر الرسول والمبالغة فى ذلك بما لا مزيد عليه 98 القرآن هاد إلى سواء السبيل الأديان ستة خمسة للشيطان وواحد للرحمن 99 السجود ضربان اختياري وتسخيرى 100 من يهنه الله فلا مكرم له 102 جزاء الكافرين يوم القيامة 103 جزاء المؤمنين يومئذ 105 جزاء الصادّ عن البيت الحرام 106 تأنيب من يصد عنه من المشركين 108 سبب الأمر بزيارة البيت الحرام 109 ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم 110 من أشرك بالله فقد أهلك نفسه وكان كمن سقط من السماء فتخطفه الطير 112 الذبح وإراقة الدماء قربة لله ليس بخاص بهذه الأمة 113 علامات المخبتين 114 الهدايا من شعائر الله ودليل تقواه 117 وعد الله رسوله والمؤمنين بالنصر على المشركين 119 تحريض المؤمنين على القتال وبيان أن به انتظام أمر الجماعات 121 تسلية الرسول على ما يرى من قومه من الأذى 124 كان المشركون يستهزئون بالعذاب فيستعجلونه(17/155)
125 سنة الله إهلاك الظالمين ولو بعد حين 126 وعد الله للمتقين ووعيده للكافرين 128 إلقاء المشركين الشبه والأوهام فيما يقرأ من القرآن 129 ما يفعله القساوسة والمبشرون الآن فى البلاد الإسلامية 131 هداية الله لعباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم 133 المقتول فى سبيل الله والمهاجر إعزازا لدين الله فى الأجر سواء 135 الله قدير على نصر عباده المؤمنين 136 الله سابغ نعمه على عباده المؤمنين 138 لكل أمة منسك وشريعة خاصة بها 141 النعي على عبادة الأوثان والأصنام 142 لا دليل على صحة عبادة الأصنام من عقل ولا نقل 143 كانت إذا تليت آيات القرآن على المشركين ظهر على وجوههم آثار الغيظ والألم 145 الأصنام لا تستطيع خلق الذباب ولا تدفع عن نفسها ما يسلب منها 147 الجهاد ضروب 148 الدين يسر لا عسر 149 الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيد عليكم وأنتم شهداء على الناس(17/156)
الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
هى مكية وقد نزلت بعد سورة الأنبياء، وآيها ثمانى عشرة ومائة.
روى أن بعض الصحابة قالوا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله؟ قالت.
كان خلقه القرآن، ثم قرأت: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- حتى انتهت إلى- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها من وجوه:
(1) إنه تعالى ختم السورة السابقة بخطاب المؤمنين وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات لعلهم يفلحون- وحقق فلاحهم فى بدء هذه السورة.
(2) إنه تكلم فى كل من السورتين فى النشأة الأولى وجعل ذلك دليلا على البعث والنشور.
(3) إن فى كل من السورتين قصصا للأنبياء الماضين وأممهم ذكرت عبرة للحاضرين والآتين.
(4) إنه نصب فى كل منهما أدلة على وجود الخالق ووحدانية.(18/3)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
تفسير المفردات
الفلاح: الظفر بالمراد، وأفلح: دخل فى الفلاح كأبشر دخل فى البشارة، والمؤمن: هو المصدّق بما جاء عن ربه على لسان نبيه من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، والخاشع: هو الخاضع المتذلل مع خوف وسكون للجوارح، واللغو: هجر القول وقبيحه، والزكاة: تزكية النفس وطهارتها بفعل العبادة المالية. والفرج: سوءة الرجل والمرأة، وحفظه: التعفف عن الحرام، وابتغى: طلب، وراء ذلك: أي غير ذلك، والعادون: أي المتناهون فى العدوان ومجاوزة الحدود الشرعية، والأمانات:
واحدها أمانة، وهى ما ائتمن المرء عليه من قبل الله كالتكاليف الشرعية أو من قبل الناس كالأموال المودعة لديه والنذور والعقود ونحوها، والعهد: ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه، وما أمر به الله كما قال: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» والرعي: الحفظ. والراعي: القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه، يحافظون: أي يواظبون عليها، والفردوس: أعلى الجنة.(18/4)
الإيضاح
حكم الله سبحانه بالفلاح لمن كان جامعا لخصال سبع من خصال الخير:
(1) الإيمان (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فاز وسعد المصدّقون بالله ورسله واليوم الآخر.
(2) الخشوع فى الصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي الذين هم مخبتون لله أذلاء منقادون له خائفون من عذابه،
روى الحاكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده
أي موضع سجوده، والخشوع واجب على المرء فى الصلاة لوجوه:
(1) للتدبر فيما يقرأ كما قال: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى كما قال: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» أي لتقف على عجائب أسراره وبديع حكمه وأحكامه.
(ب) لتذكر الله والخوف من وعيده كما قال: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» .
(ج) إن المصلى يناجى ربه، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة، ومن ثم قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند الله وبلوغ رضوانه.
(3) الإعراض عن اللغو (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) أي والذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم، وعن كل كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والهزل والسب، إذ لهؤلاء من الجدّ ما يشغلهم، فهم فى صلاتهم معرضون عن كل شى إلا عن خالقهم، وفى خارجها معرضون عن كل ما لا فائدة فيه، فهم متجهون للجد وصالح العمل، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة درسا انتفعوا منه بعدها، وتخلقوا بأخلاق للنبيين والصديقين.(18/5)
(4) تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي والذين هم لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها يؤدون المفروض للفقير والمسكين كما قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» وقال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» (5) حفظ الفرج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي والذين يحفظون فروجهم فى كافة الأحوال إلا فى حال تزوجهم أو تسرّيهم (قربان الأمة بالملك) فإنهم حينئذ يكونون غير ملومين، والمراد بهذا الوصف مدحهم بنهاية العفة والإعراض عن الشهوات.
(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي فمن طلب غير أربع من الحرائر وما شاء من الإماء فأولئك هم المتناهون فى العدوان والمتعدّون لحدود الله.
(6) رعاية الأمانة والعهد (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة لأهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بما عاهدوا عليه، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين كما
جاء فى الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان»
وقصارى ذلك- إنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه من الرب أو العبد كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والعقود التي عاقدوا الناس عليها.
(7) المحافظة على الصلوات (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يواظبون عليها على أكمل وجه فى الأوقات التي رسمها الدين،
روى عن ابن مسعود أنه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله: أىّ العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت ثم أىّ؟ قال: بر الوالدين قلت ثم أىّ؟ قال:
الجهاد فى سبيل الله» رواه الشيخان.
وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة، دلالة على عظيم فضلها، وكبير مناقبها،
وقد ورد فى الحديث: «اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .(18/6)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
ولما كان الجزاء فى الآخرة نتيجة للعمل فى الدنيا، وما فيها من نعيم حصّاد لما زرع فيها، رتب على ذلك قوله:
(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك المؤمنون الذين تحلّوا بتلك الخلال السامية جديرون بأن يتبوءوا أرفع مراتب الجنات، كفاء ما زينوا به أنفسهم من الأخلاق الفاضلة، والآداب العالية، ويبقون خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون.
وقصارى ما سلف- إن فلاح المؤمن موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر، العظيمة الأثر فى حياته الروحية، وكمالاته النفسية.
روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عند وجهه دوىّ كدوىّ النحل، فأنزل عليه يوما، فمكث ساعة ثم سرّى عنه، فاستقبل القبلة فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال لقد أنزل علىّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر» .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
تفسير المفردات
السلالة: ما سلّ من الشيء واستخرج منه، وتارة تكون مقصودة كخلاصات الأشياء كالزّبد من اللبن، وتارة تكون غير مقصودة كقلامة الظفر وكناسة البيت(18/7)
وقرار: أي مستقر، مكين: أي متمكن، والعلقة: الدم الجامد، والمضغة: قطعة اللحم قدر ما يمضغ، تبارك الله: أي تعالى وتقدس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال السعداء المفلحين- قفّى على ذلك بذكر مبدئهم ومآل أمرهم وأمر غيرهم من بنى الإنسان، وفى هذا إعظام للمنة، وحث على الاتصاف بحميد الصفات، وتحمل مئونة التكاليف، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية هى يوم القيامة الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي ولقد خلقنا أصل هذا النوع وأول أفراده، وهو آدم عليه السلام من صفوة طين لا كدر فيه.
ويرى جماعة من المفسرين: أن المراد بالإنسان هنا ولد آدم وهم يقولون: إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية وهى إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهى إلى نباتية، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء، فالإنسان على الحقيقة متوالد من سلالة من طين، ثم تواردت على تلك السلائل أطوار الخلقة إلى أن صارت نطفا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا نسله نطفا فى أصلاب الآباء، ثم قذفت إلى الأرحام، فصارت فى حرز حصين من وقت الحمل إلى حين الولادة.
ونحو الآية قول: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» .
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم خولنا النطفة من صفتها الثانية إلى صفة العلقة وهى الدم الجامد.
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم بمقدار ما يمضغ.(18/8)
(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي فصيرناها كذلك، وميزنا بين أجزائها، فما كان منها من العناصر الداخلة فى تكوين العظام جعلناه عظاما، وما كان من مواد اللحم جعلناه لحما، والمواد الغذائية شاملة لذلك ومنبثة فى الدم، ومن ثم قال:
(فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أنه يستر العظام، فأشبه بالكسوة الساترة للجسم.
(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مباينا للخلق الأول، إذ نفخنا فيه الروح وجعلناه حيوانا بعد ما كان أشبه بالجماد، ناطقا سميعا بصيرا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها وباطنها ما لا يحصى.
وقد قال العلماء: إن جميع أعضاء الإنسان مقسمة تقسيما دقيقا على نسب معينة مقيسة بشبره، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مدّ يديه إلى أعلى كان عشرة أشبار بقياسه، وإذا مد يديه إلى الجانبين كان طولهما كطوله على السواء، ومن ثمّ جعل المصريون أصل المقاييس الشبر، وجعلوا كل ضلع من أضلاع الهرم الأكبر بالجيزة ألف شبر بشبر الإنسان.
(فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي فتنزه ربنا جلت قدرته، وهو أحسن المقدّرين المصورين.
عن أنس قال: قال عمر «وافقت ربى فى أربع، قلت يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقلت يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر فأنزل الله «إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ» الآية ونزلت «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ- إلى قوله- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فقلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت يا عمر أخرجه الطيالسي.(18/9)
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي ثم إنكم بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) من قبوركم للحساب ثم المجازاة بالثواب والعقاب.
إذ يوفّى كل عامل جزاء عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف- بين أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه الذي أنشأه النشأة الأولى وقلّبه فى أطوار مختلفة حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله، فأصبح قادرا على تكليفه بتلك التكاليف، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء على ما كلّف به، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة.
ويقول الدكتور أحمد محمد كمال فى مجلة الدكتور، إن كلمة (تراب) أو (طين) الواردة فى القرآن وردت بمعناها المجازى، فالإنسان بل جميع الكائنات الحية تتركب كيميائيا من عناصر أولية جمعها الخالق سبحانه وتعالى وركبها فى شكل مادة كيميائية معقدة هى البروتوبلازم أي المادة الحيوية التي تتركب منها الخلايا والأنسجة الحيوانية والنباتية، وهذه المادة الحيوية تتركب من عناصر الأكسجين والأيدروجين والكربون والأزوت والكبريت والفسفور والكالسيوم والصديوم والكلور والحديد والنحاس واليود إلخ.
فإذا نظرنا إلى التراب وقمنا بتحليل عينات منه وجدنا أنه يحتوى على نفس العناصر لأولية المذكورة.
وليس أدل على أن التعبير مجازى من أن جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات عند ما يتحلل بعد الوفاة يتحول إلى رماد أو تراب بنفس العناصر.
ويقول الدكتور سالم محمد فى هذه المجلة إن الخلق فى قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ويكون إشارة إلى خلق آدم نفسه وقد يكون بمعنى أن النطفة فى كل من الذكر والأنثى ليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان أو الجسم، وأصل هذه التغذية ومنشؤها من تراب، والنطفة هى الحيوان المنوي للذكر والبويضة للأنثى، فإذا تم التلقيح بدأت البويضة فى الانقسام بدأ تطور العلقة وهى مجموعة من الخلايا الحية تنقسم إليها بويضة بعد تلقيحها. وإنما سميت فى هذا الطور علقة للشبه الكبير بينها وبين علق الماء(18/10)
وطور العلقة فى حياة الجنين يبلغ أربعة أسابيع، ثم تتطور العلقة إلى مضغة للشبه الكبير بينها وبين قطعة اللحم الممضوغة ويبلغ طور المضغة بضعة أسابيع، ثم يبدأ ظهور خلايا العظام، فاللحم أي العضلات التي تكسو هذه العظام.
وقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي انه من هذه الخلايا ومن هذه الأطوار المتعددة يخرج الله لنا هذه الصورة الإنسانية الجميلة التي تشهد بقدرة الخالق وعظمته.
وقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) فالقرار المكين هو الرحم، ومن يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين فى أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار المريض السميك ثم ترى هذه الأربطة العريضة والأربطة المستديرة، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره، وتحميه من الميل أو السقوط، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوبن الحوض عظامه يعرف جليا صدق قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وكذلك فى الرحم سائل أمينوس داخل جيب المياه يعوم فيه الجنين بحرية ويدفع عن الجنين ما قد تلاقيه الأم من صدمات وهزات عنيفة قد تصل إليه فتؤذيه إن لم يهدىء هذا السائل من قوتها ويضعف من شدتها. ثم هو يحتفظ للجنين بحرارة مناسبة حيث أنه موصل ردىء للحرارة، وكذلك هو يقوم بعملية تحديد عنق الرحم وتوسيعه وقت الولادة (القرن) كما يقوم بعملية التطهير أمام الجنين بما فيه من خواص مطهرة، فكل ذلك يزيد الرحم مكنة وأمنا.
وهكذا يبدو أن مصير هذا الكتاب العجيب الخالد لا يفنى، وأن معين العلم والإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكشف فيه آفاقا بعد آفاق كلما تقدم العلم فتلقى ما بهذا الكتاب الكريم من إيحاءات وإشراقات (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .(18/11)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
[سورة المؤمنون (23) : آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
تفسير المفردات
الطرائق: السموات واحدها طريقة أي مطروق بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين: إذا لبس ثوبا فوق ثوب، قال الخليل والزجاج: وهذا كقوله «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» وقوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» والخلق: أي المخلوقات التي منها السموات السبع، غافلين: أي مهملين أمرها كما قال: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان فى أطواره المختلفة، واستدل بذلك على قدرته وتفرده بالتصرف فى الملك والملكوت- أردفه بيان ما يحتاج إليه فى بقائه لما فيه من المنافع التي لا غنى له عنها
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي ولقد خلقنا فوقكم سبع سموات بعضها فوق بعض وهى أيضا طرق الكواكب المعروفة عند البشر قديما، وهناك طرائق أخرى عرفها الناس حديثا.
(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي وما كنا عن المخلوقات- سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها- غافلين عن أمرها، إذ تسير الكواكب فى تلك الطرائق بحساب منتظم، ولو أهملناها لاختل توازنها وسار كل كوكب فى غير مداره أو زلّ نجم عن سنن سيره، ففسد النظام العام للعالم العلوي والعالم الأرضى.(18/12)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
والخلاصة- إنا خلقنا السموات لمنافعهم، ولسنا غافلين عن مصالحهم، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة، فخلقها دال على كمال قدرتنا، وتدبير أمرها دال على كمال علمنا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 الى 20]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
تفسير المفردات
السماء: هنا السحاب، بقدر: أي بتقدير خاص وهو مقدار كفايتهم، فأسكناه فى الأرض: أي جعلناه ثابتا قارا فيها، والذهاب: الإزالة إما بإخراجه من المائية أو بتغويره فى الأرض بحيث لا يمكن استخراجه، والشجرة: هى الزيتون، وطور سيناء:
هو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه، ويسمى طور سينين أيضا، والصبغ:
ما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام، قال فى المغرب: يقال صبغ الثوب بصبغ حسن، وصباغ حسن، ومنه الصّبغ والصباغ من الإدام، لأن الخبز يغمس فيه ويلوّن به كالخل والزيت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن من دلائل قدرته خلق الطرائق السبع- قفى على ذلك ببيان ما فيها من منافع للإنسان، فمنها ينزل الماء الذي به تنشأ الجنات من النخيل والأعناب وكثير من أشجار الفاكهة التي تؤكل، وينبت به شجر الزيتون الذي يؤخذ من ثمره الزيت الذي يتّخذ دهنا للأجسام، وإداما فى الطعام.(18/13)
الإيضاح
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي وأنزلنا من السحاب مطرا بقدر الحاجة، لا هو بالكثير فيفسد الأرض، ولا هو بالقليل فلا يكفى الزرع والثمار، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها يساق إليها الماء من بلاد أخرى كما فى أرض مصر، ويقال لمثلها (الأرض الجرز) فيساق إليها ماء النيل حاملا معه الطين الأحمر (الغرين) يجترفه من بلاد الحبشة فى زمن الأمطار فيستقر فيها ويكون سمادا لها ونافعا لزرعها.
وبعض هذا الماء يسكن فى الأرض فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى، ومنه تتكون الآبار والعيون التي تمر على معادن مختلفة، فتتشكل بأشكالها وتتصف بصفاتها فيكون ماؤها حاويا إما للنوشادر وإما للكبريت وإما للأملاح وهكذا.
(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي وإنا على ذهابه وإزالته لقادرون بحيث يتعذر استخراجه، كما كنا قادرين على إنزاله، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى لا تستفيد منه كالأرضين السبخة والصحارى، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فى الأرض يغور فيها إلى مدى بعيد لا تصلون إليه ولا تنتفعون به، ولكن بلطفنا ورحمتنا ننزل عليكم الماء العذب الفرات، ونسكنه فى الأرض ونسلكه ينابيع فيها، لتسقوا به الزرع والثمار، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم.
(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء بساتين فيها نخيل وأعناب.
(لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي لكم فى الجنات فواكه كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والأعناب.
(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن زروع الجنات وثمارها ترزقون وتحصّلون معايشكم،(18/14)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
كما يقال فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن تجارة يتربح بها أي إنها طعمته وجهته التي منها يحصّل رزقه.
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت فى هذا الجبل بتلك البقعة المباركة، وتثمر زيتونا تصنع منه الزيوت التي يدّهن بها، وتتخذ إداما للآكلين.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
المعنى الجملي
بعد أن ذكرنا سبحانه بنعمة إنزال الماء من السماء الذي ينبت به جنات النخيل والأعناب والفواكه المختلفة والزيتون- أردفها ذكر النعم المختلفة التي سخّرها لنا من خلق الحيوان.
الإيضاح
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي إن فى خلق الأنعام لعبرة فضلا عن كونها نعمة، ووجه العبرة فيها أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول فى الغدد التي فى الضّرع إلى شراب طيب لذيذ الطعم صالح للتغذية، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها.
ثم فصّل منافعها وذكر منها أريعا فقال:
(1) (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى، فتتخذون منها الققشدة والسمن والجبن ونحوها.
(2) (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها، وتتخذونها ملابس وفرشا للدفء وبيوتا فى الصحارى ونحوها مما يجرى هذا المجرى.
(3) (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي وتأكلون منها بعد ذبحها، فكما انتفعتم بها وهى حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.(18/15)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
(4) َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
أي وتركبون ظهورها وتحمّلونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية كما قال فى آية أخرى: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» وقال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟» .
وقصارى ذلك- إن فى خلق الأنعام عبرا ونعما من وجوه شتى، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان من مصادر هى أبعد ما تكون منها- ونعما لنا فى مرافقها وأعيانها، فننتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونجعلها مطايا لنا فى أسفارنا إلى نحو أولئك من شتى المنافع.
قصة نوح عليه السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(18/16)
تفسير المفردات
الملأ: أشراف القوم، يتفضل: أي يدعى الفضل والسيادة، جنة: أي جنون، فتربصوا: أي انتظروا، بأعيننا: أي بحفظنا ورعايتنا، وفار: نبع، والتنور: وجه الأرض، استويت: أي علوت، لآيات: أي عبرا، لمبتلين: أي لمختبرين ممتحنين لهم: أي لمعامليهم معاملة من يختبر.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه ما أنعم به على عباده فى نشأتهم الأولى وفى خلق الماء لهم لينتفعوا به، وفى خلق الحيوان كذلك- ذكر هنا أن كثيرا من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار فى هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله الذين أرسلوا إليهم، فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وأهلكهم بعذاب من عنده، فأصبحوا كأمس الدابر، والمثل السائر، وفى هذا تخويف لقريش، وإنذار لهم على ما يفعلون، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه منذرا لهم عذاب الله وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به وتكذيب رسوله، فقال لهم متعطفا عليهم مستميلا لهم لقبول الحق: يا قوم اعبدوا الله وحده وأطيعوه، ولا تشركوا معه ربا سواه، فإنه لا رب لكم غيره، ولا معبود سواه.
(أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه؟.
(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين فى الكفر ومن ذوى الكلمة المسموعة والرأى المطاع: ما نوح إلا رجل منكم ليس له ميزة عليكم فى فضل ولا خلق فيكون(18/17)
أهلا للنبوة وتلقى الوحى من ربه وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم ويكون له الصّولة والسلطان عليكم، وقد ادعى الرسالة ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه وليس له من حقيقتها شىء.
وبعد أن بينوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينهما فذكروا أمورا ثلاثة:
(1) (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي ولو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدى إليكم رسالته.
(2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا فى القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه لا إله إلا إله واحد لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
وفى هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأى لهم، وإنما يعولون على التقليد وقول الآباء والأجداد، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئا مثل هذا أنكروا نبوّته، وفيه إشارة أيضا إلى أنهم قد بلغوا الغاية فى العناد والتكذيب والانهماك فى الغى والضلال.
(3) (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي وما نوح إلا رجل به خبل فى عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجل لا يزن قوله، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة، فلا يلتفت إذا إلى ما يدّعى، ولا ينبغى أن نضيع الوقت فى محاجّته، ودحض مزاعمه فى صدق دعوته.
وبعد أن ذكروا موانع نبوّته ذكروا الطريقة المثلى فى إبطال دعوته فقالوا:
(فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي فتلبثوا وانتظروا، لعله يضيق مما هو فيه فيعود سيرته الأولى، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم ودين آبائكم وأجدادكم.
وهذا من مكابراتهم لفرط عنادهم، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا، وأرزنهم قولا.
ولم يردّ سبحانه على هذه الشبه لسخافتها ووضوح فسادها، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز من غيره بالمعجزات التي تأتى على يديه سواء أكان ملكا أم بشرا(18/18)
وإرادته التفضل عليهم إن كانت لأجل أن يستبين فضله حتى ينقادوا له فلا ضير فى ذلك بل هو واجب، وإن أرادوا أنه يبغى التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عن ذلك، وقولهم:
ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين، اعتناق للتقليد وهو لا يصلح حجة تدفع بها حجج المعارضين الواضحة وضوح الشمس فى رائعة النهار، وقولهم: به جنة كذب صراح.
لأنهم يعلمون ذكنه، وعظيم فطنته، وما أوتيه من أصالة الرأى، وثاقب الفكر.
ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالهم وتماديهم فى غيّهم ويأسه من إيمانهم وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن- طلب إلى ربه أن ينصره عليهم:
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به من العذاب بقولي «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .
ونحو الآية قوله: «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» وقوله: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» .
وقد أجاب الله دعاءه فقال:
(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي فقلنا حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا لك، من التعدي عليك، وتعليمنا إياك كيفية صنعها.
(فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي فإذا جاء قضاؤنا من قومك بعذابهم وهلاكهم، ونبع الماء من وجه الأرض- فأدخل فيها من كل طائفة من الحيوان فردين مزدوجين كناقة وجمل، وحصان ورمكة، وأدخل ولدك ونساءهم إلا من سبق عليه القول منا بأنه هالك فيمن يهلك، فلا تحمله معك وهو كنعان وأمه.
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تسألنى أن أنجّى الذين كفروا بالله من الغرق. فإن كلمتى قد حقت عليهم أجمعين.(18/19)
ثم أمره بحمده والثناء عليه إذا هو استوى على الفلك فقال:
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فإذا اطمأننت فى السفينة أنت ومن معك ممن حملته من أهلك، فقل الحمد لله الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى المسرة بمصيبة أحد ولو عدوّا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره أو تطهير الأرض من دنس شركه وإضلاله.
قال ابن عباس: كان فى السفينة ثمانون إنسانا نوح وامرأته غير التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنسانا، وكل الخلائق من نسل من كان فى السفينة.
ثم أمر نوح أن يدعو ربه حين خروجه من السفينة.
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وقل إذا سلمت وخرجت من السفينة: رب أنزلنى من الأرض منزلا مباركا وأنت خير من أنزل عباده المنازل.
قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» وحين ركوب الدابة: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» وحين النزول: «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي إن فيما فعلنا بقوم نوح من إهلاكهم إذ كذبوا رسولنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام- لعبرا لقومك من مشركى قريش، وحججا لنا عليهم يستدلون بها على سنننا فى أمثالهم فينزجرون عن كفرهم، ويرتدون عن تكذيبهم حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم من العذاب، وقد كنا مختبريهم بالتذكير بهذه الآيات لننظر ماذا يفعلون قبل أن ننزل بهم عقوبتنا.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» وقد تقدم هذا القصص بتفصيل فى سورة هود عليه السلام.(18/20)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
قصة هود عليه السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
تفسير المفردات
القرن: الأمة، والمراد بهم عاد قوم هود لقوله تعالى فى سورة الأعراف:
«وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» أترفناهم: أي وسّعنا عليهم وجعلناهم فى ترف ونعيم، لخاسرون: أي لمغبونون فى آرائكم، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم، هيهات: أي بعد، ما توعدون: هو البعث والحساب، بمؤمنين:
أي بمصدقين، عما قليل: أي بعد زمان قليل، ليصبحنّ: أي ليصيرنّ، والصيحة:
العذاب الشديد كما قال:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خرّوا لشدتها على الأذقان(18/21)
والغثاء: ما يحمله السيل من الورق والعيدان البالية التي لا ينتفع بها، بعدا:
أي هلاكا.
الإيضاح
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي ثم أوجدنا من بعد مهلك قوم نوح قوما آخرين وهم عاد، فأرسلنا فيهم رسولا منهم، وهو هود عليه السلام داعيا لهم قائلا: يا قوم اعبدوا الله وأطيعوه دون الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا تنبغى إلا له، ولا تصلح لسواه، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم؟
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي وقال أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بالبعث والحساب، وقد وسعنا عليهم فى الحياة الدنيا بما بسطنا لهم من الرزق حتى بطروا وعتوا وكفروا بربهم: ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم، فهو يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، ومرادهم بذلك توهين أمره، وتحقير شأنه.
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي ولئن أطعتم بشرا مثلكم فاتبعتموه وقبلتم ما يقول: إنكم إذا لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة فى الدنيا.
ثم بينوا سبب إنكارهم لاتباعه، واستبعادهم وقوع ما يدعيه بقولهم:
(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا فى القبور بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعد ما توعدون أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما تخرجون من قبوركم للبعث والحساب ثم الجزاء على ما تعملون(18/22)
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي ما حياة إلا هذه حياة فى الدنيا، تموت الأحياء منا فلا تحيا، ويحدث آخرون منا ويولدون، وما نحن مبعوثين بعد الموت، إنما مثلنا مثل الزرع يحصد هذا وينبت ذاك والخلاصة- إنه يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم.
وبعد أن كان أمرهم معه مقصورا على الاستبعاد فحسب، جاهروا بتكذيبه فيما يدعى فقالوا:
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي ما هود إلا رجل يختلق الكذب على الله، فتارة يقول: مالكم من إله غير الله خالق السموات والأرض وأخرى يقول: إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون، وما نحن بمصدقيه فيما يدّعى ويزعم من التوحيد والبعث.
ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» فزع إلى ربه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال بعد أن يئس من إيمانهم وقد سلك فى دعوتهم كل مسلك، متضرعا إلى ربه: رب انصرني عليهم وانتقم لى منهم بتكذيبهم إياى فيما دعوتهم إليه من الحق وإصرارهم على الباطل.
فأجابه ربه إلى ما سأل.
(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرنّ مكذبوك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وستحل بهم نقمتنا، ولا ينفعهم الندم حينئذ.
ثم أخبر أنه أنجز وعيده فيهم فقال:
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي فسلطنا عليهم نقمتنا فأخذهم العذاب الذي لا قبل لهم به، وقد كانوا لمثله مستحقين، بسبب كفرهم وتكذيبهم برسوله، فجعلناهم كغثاء السيل، لاغناء فيهم، ولا فائدة ترجى منهم.(18/23)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فأبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم، إذ كفروا بربهم وعصوا رسوله وظلموا أنفسهم.
وفى هذا من الذلة والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى، وأن الذي ينزل بهم فى الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم من العقاب فى الدنيا، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم ممن هم عرضة لمثله.
قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
تفسير المفردات
تترى، من المواترة: وهى التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها قاله الأصمعى.
أحاديث: واحدها أحدوثة، وهى ما يتحدث به تعجبا منه وتلهيا به، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع، وقال الزمخشري: الأحاديث اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الجمهور على أنه جمع كما علمت.
الإيضاح
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي ثم أنشأنا من بعد هلاك عاد أقواما آخرين، كقوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.
(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة الوقت الذي قدّر لهلاكهم وما يستأخرون عنه.
والخلاصة- ما تهلك أمة قبل مجىء أجلها ولا بعده، فلكل شىء ميقات لا يعدوه.(18/24)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به، بعضهم فى إثر بعض.
(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي كلما بلّغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام كذبوه، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك.
(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي فأهلكنا بعضهم فى إثر بعض حين تألّبوا على رسلهم وكذبوهم.
(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث بها للناس ويتلهّون بذكرها.
ونحو الآية قوله: «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» .
ولما ترتب على تكذيبهم الهلاك المقتضى لبعدهم قال:
(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي فأبعد الله قوما لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله قصة موسى وهرون عليهما السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
تفسير المفردات
الآيات: هى الآيات التسع التي سبقت فى سورة الأعراف، والسلطان: الحجة عالين: أي متكبرين، عابدون: أي خدم منقادون، قال أبو عبيدة: العرب تسمى كل من دان للملك عابدا، وقال المبرد: العابد: المطيع الخاضع، الكتاب: هو التوراة.
الإيضاح
(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي ثمّ أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل- موسى(18/25)
وأخاه هرون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط، بالآيات والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، فاستكبروا عن اتباعهما والانقياد لما أمروا به ودعوا إليه، من الإيمان وترك تعذيب بنى إسرائيل كما جاء فى سورة النازعات: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» وقد كان من دأبهم العتوّ والبغي على الناس وظلمهم كبرا وعلوا فى الأرض.
ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت.
(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟) أي فقال فرعون وملؤه كيف ندين لموسى وأخيه، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا ويتلقّون أوامرنا؟
وما قصدوا بهذا إلا الزراية بهما والحط من قدرهما، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة، وقد قاسوا الشرف الديني والإمامة فى تبليغ الوحى عن الله بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال.
وهم فى هذا أشبه بقريش إذ قالوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة والاصطفاء للرسالة إنما هو السبق فى الفضائل النفسية والصفات السنية التي يتفضل الله بها على من يشاء من عباده، فالأنبياء لصفاء نفوسهم يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة، فيتلقون الوحى من الملأ الأعلى ويبلغونه إلى البشر، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق، عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق.
وإن تعجب من شىء فاعجب لهؤلاء وأمثالهم ممن لم يرض النبوة للبشر، كيف سوّغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» .
ثم ذكر عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال:
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فأصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى(18/26)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
وهرون، فأهلكهم الله بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبهم لرسلهم.
ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم فقال:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي بعد أن أهلكنا فرعون وملأه وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، رجاء أن يهتدى بها قومه إلى الحق، ويعملوا بما فيها من الشرائع.
قصص عيسى عليه السلام إجمالا
[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
تفسير المفردات
الآية: الحجة والبرهان، وآويناهما: أي جعلنا مأواهما ومنزلهما الربوة: وهى ما ارتفع من الأرض دون الجبل، ذات قرار: أي ذات استقرار للناس لما فيها من الزرع والثمار، ومعين: أي ماء جار.
الإيضاح
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي وجعلنا عيسى آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا، إذ خلقناه من غير أب، وأنطقناه فى المهد، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وجعلنا أمه آية إذ حملته من غير أب.
وجعلهما آية واحدة، لأنهما اشتركا فى هذا الأمر العجيب الخارق للعادة وهو الولادة بلا أب.
ونحو الآية قوله: «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» .
(وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض ذى ثمار وماء جار كثير.(18/27)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
قال قتادة: الربوة: بيت المقدس، وقال مقاتل والضحاك: هى غوطة دمشق إذ هى ذات الثمار والماء.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
تفسير المفردات
الطيبات: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه، أمتكم: أي ملتكم وشريعتكم، فتقطعوا: أي قطّعوا ومزّقوا، أمرهم: أي أمر دينهم، زبرا: أي قطعا واحدها زبور، فذرهم: أي فدعهم واتركهم، وأصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة ويسترها والمراد بها الجهالة، حتى حين: أي إلى أن يموتوا فيستحقوا العذاب، نمدهم:
أي نعطيه مددا لهم.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه علينا قصص بعض الأنبياء السالفين- عقّب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعا بأن يأكلوا من الحلال، ويعملوا صالح الأعمال، كفاء ما أنعم به عليهم من النعم العظيمة، والمزايا الجليلة التي لا يقدر قدرها، ثم حذرهم وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم، ظاهرها وباطنها، لا تخفى عليه من أمورهم خافية، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد لا تعدد فيه، ولكن الأمم قد فرقت دينها شيعا، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به كما هى حال قريش، ثم خاطب رسوله بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين، ثم ذكر أنهم فى عماية حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم هو حظوة من(18/28)
ربهم لهم- كلا، فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم وعاقبة حالهم، ولو عقلوا لعلموا أنهم فى سكرتهم يعمهون.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) أمر الله كل نبى فى زمانه بأن يأكل من المال الحلال مالذّ وطاب، وأن يعمل صالح الأعمال، ليكون ذلك كفاء ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة.
وهذا الأمر وإن كان موجها إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم، وكأنه يقول لنا:
أيها المسلمون فى جميع الأقطار، كلوا من الطيبات أي من الحلال الصافي القوّام- الحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل- واعملوا صالح الأعمال.
أخرج أحمد وابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد ابن أوس رضى الله عنها أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن حين فطره وهو صائم، فرد إليها رسولها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لى، ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالى فأخذه، فلما كان من الغد أمته وقالت يا رسول الله: لم رددت اللبن؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: أمرت الرسل ألا يأكلوا إلا طيبا، ولا يعملوا إلا صالحا.
وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس! إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» وقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب فأنى يستجاب له» ؟(18/29)
وفى تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا يتقبّل إلا إذا سبق بأكل المال الحلال.
وجاء فى بعض الأخبار «إن الله تعالى لا يقبل عبادة من فى جوفه لقمة من حرام»
وصح أيضا
«أيّما لحم نبت من سحت فالنار أولى به» .
ثم علل هذا الأمر بقوله:
(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي إنى بأعمالكم عليم، لا يخفى على شىء منها، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفّيكم أجوركم، وثوابكم عليها، فخذوا فى صالح الأعمال، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها، شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم وفى هذا تحذير من مخالفتهم ما أمروا به، وإذا قيل للأنبياء ذلك فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها، وترعوى عن غيها، وتخشى بأس الله وشديد عقابه.
(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي وإن دينكم معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
واختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لا يسمى اختلافا فى الدين، لأن الأصول واحدة.
(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي وإنى أنا ربكم لا شريك لى فى الربوبية فاحذرو عقابى وخافوا عذابى.
وفى هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله واتقاء معاصيه.
ثم بين أن أمم أولئك الرسل خالفوا أمر رسلهم واتبعوا أهواءهم وجعلوا دينهم فرقا وشيعا فقال:
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي فتفرق أتباع الأنبياء فرقا وجماعات، وأصبح كل فريق معجبا بنفسه، فرحا بما عنده، معتقدا أنه الحق الذي لا معدل عنه.(18/30)
فيا أتباع الأنبياء. أين عقولكم؟ إن الله أرسل إليكم رسلا فجعلتموهم محل الشقاق ومثار النزاع، لم هذا؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافى المودة والمحبة؟ وأين أنتم يا أتباع محمد؟ ما لكم كيف تفرقتم أحزابا؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية، وزيدية وشيعة يفرق العقيدة؟ وكيف يكون هذا سبب التفرقة فهل تغير الدين؟ وهل تغير القرآن؟ وهل تغيرت القبلة؟ وهل حدث إشراك؟ كلا كلا، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم وأنتم أهل دين واحد.
ولا علة لهذا إلا لجهالة الجهلاء، فقد خيّم الجهل فوق ربوعكم ومدّت طنبه بين ظهرانيكم، لأنكم فرطتم فى كتاب ربكم: ظننتم أن أسس الدين هى مسائل العبادات والأحكام، وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريا، وتركتم آيات التوحيد والنظر فى الأكوان ولو أنكم نظرتم إلى شىء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم وأنتم عنه غافلون.
وبعد أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء من التفرّق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة، ومن فرحهم بما فعلوا- أمر نبيه أن يتركهم فى جهلهم الذي لا جهل فوقه، لأنه لا ينجع فيهم النصح، ولا يجدى فيهم الإرشاد فقال:
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي فذرهم فى غيّهم وضلالهم إلى حين يرون العذاب رأى العين.
ونحو الآية قوله: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» وقوله: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .
وقد جعلوا فى غمرة تشبيها لحالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء وغطّاه.
ثم بين خظأهم فيما يظنون من أن سعة الرزق فى الدنيا علامة رضا الله عنهم فى الآخرة فقال:
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(18/31)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، كرامة لهم علينا وإجلالا لأقدارهم عندنا- كلا، إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا فى المعاصي، واستجرارا لهم إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة فى الخيرات، إذ هم أشبه بالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا فى أنه- استدراج هو أم مسارعة فى الخيرات؟
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» وقوله: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وقوله: «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» .
قال قتادة فى تفسير الآية: مكر الله بالقوم فى أموالهم وأولادهم. يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشّه وظلمه» .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
تفسير المفردات
الخشية: الخوف من العقاب، والإشفاق نهاية الخوف والمراد لازمه، وهو دوام الطاعة، والآيات: هى الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق والآيات المنزلة، وجلة:
أي خائفة، سابقون: أي ظافرون بنيلها.(18/32)
المعنى الجملي
بعد أن ذم سبحانه من فرقوا دينهم شيعا وفرحوا بما عملوا وظنوا أن ما نالوه من حظوظ الدنيا هو وسيلة لنيل الثواب فى الآخرة، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا- قفّى على ذلك بذكر صفات من له المسارعة فى الخيرات، ومن هو جدير بها.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائبون فى طاعته، جادّون فى نيل مرضاته، فهم فى نهاية الخوف من سخطه عاجلا، ومن عذابه آجلا، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي والذين هم بآيات ربهم الكونية التي نصبها فى الأنفس والآفاق دلالة على وجوده ووحدانيته، وبآياته المنزّلة على رسله- مصدّقون موقنون، لا يعتريهم شك ولا ريب.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي والذين لا يعبدون مع الله سواه، ويعلمون أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له صاحبة ولا ولد.
وفيما سبق وصف لله بتوحيد الربوبية، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول، لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية كما قال:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى، وعبدو معبودات مختلفة.
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي والذين يعطون ما أعطوا، ويتصدقون بما تصدقوا، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم، وألا يقع على الوجه المرضى حين يبعثون ويرجعون إلى ربهم، وتنكشف الحقائق، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه وإن قل «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .(18/33)
ويدخل فى قوله: (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) كل حق يلزم إيتاؤه، سواء أكان من حقوق الله كالزكاة والكفارة وغيرها أم من حقوق العباد كالودائع والديون والعدل بين الناس، فمتى فعلوا ذلك (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره) اجتهدوا فى أن يوفّوها حقّها حين الأداء.
وسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله: « (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزنى ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟ فقال لا يا بنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل ذلك منه.
(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن يرغبون فى الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا، ويتعجلون فى الدنيا وجوه الخيرات العاجلة التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة فى نحو قوله: «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» وقوله: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي إنهم يرغبون فى الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منّا لهم، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به وعدم الرياء فى العمل والتصديق مع الخوف منه.
ومعنى (هم لها) أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، كقولك لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره- أنت لها- وعلى هذا قوله:
مشكلات أعضلت ودهت ... يا رسول الله أنت لها
وخلاصة ذلك- إن النعم ليست هى السعادة الدنيوية ونيل الحظوظ فيها، بل هى العمل الطيب، بإيتاء الصدقات ونحوها مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية.(18/34)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
[سورة المؤمنون (23) : آية 62]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
تفسير المفردات
الوسع: ما يتسع على الإنسان فعله ولا يضيق عليه، والكتاب: هو صحائف الأعمال، بالحق: أي بالصدق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صفات المؤمنين المخلصين الذين يسارعون إلى الخيرات- أرشد إلى أن ما كلّفوا به سهل يسير لا يخرج عن حد الوسع والطاقة، وأنه مهما قلّ فهو محفوظ عنده فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى، وهو لا يظلم أحدا من خلقه، بل يجزى بقدر العمل، وبما نطقت به الصحف على وجه الحق والعدل.
الإيضاح
(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا إلا ما فى وسعها وقدر طاقتها، ومن ثم قال مقاتل: من لم يستطع القيام فى الصلاة فليصلّ قاعدا، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) أي وليدنا صحائف أعمالهم يقرءونها حين الحساب، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها فى الدنيا دون لبس ولا ريب، ويجازون على الجليل منها والحقير، والقليل والكثير.
ونحو الآية قوله «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وقوله: «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» .
ثم بين فضله على عباده وعدله بيننهم فى الجزاء إثر بيان لطفه فى التكليف وكتابة الأعمال على ما هى عليه فقال:
(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وهم لا يظلمون فى الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب، بل يجازون مما عملوا ونطقت به كتبهم بالعدل والحق.(18/35)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 77]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
تفسير المفردات
الغمرة: الغفلة والجهالة، من دون ذلك: أي غير ذلك، والمترف: المتوسع فى النعمة، وجأر الرجل: صلح ورفع صوته، لا تنصرون: أي لا يجيركم أحد ولا ينصركم، تنكصون: أي تعرضون عن سماعها، وأصل النكوص: الرجوع على(18/36)
الأعقاب (العقب مؤخر الرّجل) ورجوع الشخص على عقبه: رجوعه فى طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه، سامرا: أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، والهجر (بالضم) الهذيان، والجنّة: الجنون، والذكر: القرآن الذي هو فخرهم، عن ذكرهم: أي فخرهم، خرجا: أي جعلا وأجرا، صراط مستقيم: أي طريق لا عوج فيه، لنا كبون: أي عادلون عن طريق الرشاد، يقال نكب عن الطريق: إذا زاغ عنه، لج فى الأمر: تمادى فيه، يعمهون: أي يتحيرون ويترددون فى الضلال، واستكانوا: خضعوا وذلوا، وما يتضرعون: أي يجددون التضرع والخضوع، مبلسون:
أي متحيرون آيسون من كل خير.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سجاحه هذا الدين، وأنه دين يسر لا عسر، فلا يكلفها النفس إلا ما تطيق، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ فى كتاب لا يبخس منه شيئا ولا يزاد له فيه شىء- أردف هذا بيان أن المشركين فى غفلة عن هذا الذي بيّن فى القرآن، ولهم أعمال سوء أخرى من فنون الكفر والمعاصي، كطعنهم فى القرآن واستهزائهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإيذائهم للمؤمنين، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة جأروا واستغاثوا، فقلنا لهم لا فائدة فيما تعملون، فقد جاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عنها واتخذتموها هزوا تسمرون بها فى البيت الحرام، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن لتعلموا أنه الحق من ربكم، وأن مجىء الكتب إلى الرسل سنة قديمة، فكيف تنكرونها؟ وهل رابكم فى رسولكم شىء حتى تمتنعوا من تصديقه وتقولوا إن به جنة وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا- لا- إن الأمر على غير ما تظنون، إنه قد جاءكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون، لما دسّيتم به أنفسكم من الزيغ والانصراف عن سبيل الحق، ولو أجابكم ربكم إلى ما فى أنفسكم من الهوى وشرع الأمور وفق ذلك لفسدت السموات والأرض لفساد أهوائكم واختلافها، وأنتم(18/37)
لو تأملتم لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم فكيف تعرضون عنه؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرا على هدايتكم وإرشادكم، فما عند الله خير مما عندكم وهو خير الرازقين.
فها هو ذا قد تبين الرشد من الغىّ، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق الذي لا محيص منه، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق، وقد بلغوا حدا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح، فلو أنهم ردّوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم، ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا فى غيهم وضلالهم كما قال «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» .
فإذا جاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة.
الإيضاح
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي بل قلوب المشركين فى غفلة عن هدى القرآن والاسترشاد بما جاء به، مما فيه سعادة الناس فى دينهم ودنياهم، فلو قرءوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالصدق، وأنه يقضى بأن أعمال المرء مهما دقّت فهو محاسب عليها، وإن ربك لا يظلم أحدا من عباده.
ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة فقال:
(وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي إن لهم أعمالا أخرى أسوأ من ذلك، فقد أغرقوا فى الشرك والمعاصي، واتخذوا هذا الكتاب هزوا، وجعلوه سمرهم فى البيت الحرام يقولون فيه ما هو منه براء، يقولون إن هو إلا سحر مفترى، وما هو إلا أساطير الأولين، وما هو إلا كلام شاعر، ويتقوّلون على من أرسل به، فيزعمون أنه رجل به جنّة، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب، وانغمسوا فى عبادة(18/38)
الأوثان والأصنام، ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي حتى إذا حلّ بهم بأسنا يوم القيامة، وحاق بهم سوء العذاب، صاحوا صيحة منكرة وقالوا: وا غوثاه، ووا سوء منقلباه، لشدة ما يروه من الكرب والهول، ولا سيما مترفوهم الذي انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم، وندموا حين لا ينفع الندم:
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعا فقال:
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قلنا لهم: هيهات هيهات، قد فات ما فات، الآن لا يجديكم البكاء والعويل، فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم وقد حقّت عليكم كلمة ربكم، ولا مغيث من أمره، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه.
ولا يخفى ما فى ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم وأنه لا تجدى فيه ضراعة ولا استغاثة، ولا ينفع فيه ولىّ ولا نصير.
ثم ذكر سببا آخر يبين أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئا فقال:
(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي دعوا الصراخ فإنه لا يمنعكم منا، واتركوا النصير فإنه لا ينفعكم عندنا، فقد ركبتم شططا، وجاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عن سماعها، فضلا عن تصديقها والعمل بها، وكنتم كمن ينكص على عقبيه مولّيا القهقرى، نافرا مما يسمع ويرى.
ثم ذكر سببا ثالثا يدعو إلى التنكيل بهم والتشديد فى عذابهم فقال:
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تعرضون عن الإيمان، مستعظمين بالبيت الحرام، تقولون نحن أهل حرمه وخدّام بيته، فلا يظهر علينا أحد، ولا نخاف أحدا، وتسمرون حوله وتتخذون القرآن سلواكم، والطعن فيه هجّيراكم، تهذون فتقولون:
هو سحر، هو شعر، هو كهانة إلى آخر ما يحلولكم أن تتقوّلوه.(18/39)
والخلاصة- إنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين، مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه، فلا تضلمون، وتهذون فى أمر القرآن وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق، ولا جانب من الصواب.
ثم أنّبهم على ما فعلوا وبيّن أن إقدامهم عليه لا بد أن يكون لأحد أسباب أربعة فقال:
(1) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي إنهم لم يتدبروا القرآن فيعلموا ما خصّ به من فصاحة وبلاغة، وقد كان لديهم فسحة من الوقت، تمكنهم من التدبر فيه ومعرفة أنه الحق من ربهم، وأنه مبرأ من التناقض وسائر العيوب التي تعترى الكلام- إلى ما فيه من حجج دامغة، وبراهين ساطعة، إلى ما فيه من فضائل الآداب، وسامى الأخلاق، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه كانوا سادة البشر، واتبعهم الأسود والأحمر، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين.
(2) (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أم اعتقدوا أن مجىء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم، فاستبعدوا وقوعه، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى وتظهر على أيديهم المعجزات، فهلّا كان ذلك داعيا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.
(3) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدّعى النبوّة؟ كلا، إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة، وشهر لديهم باسم (الأمين) فكيف ينكرون رسالته، ولقد قال جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه للنجاشى: إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه، ونعرف صدقه وأمانته، وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه، وصدقه وأمانته، وقد كانوا بعد كفارا لم يسلموا.
(4) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي أم إن به جنونا فلا يدرى ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأوفرهم رزانة.(18/40)
وبعد أن عدد سبحانه هذه الوجوه، ونبّه إلى فسادها، بيّن وجه الحق فى عدم إيمانهم فقال:
(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي إن ما جاءهم به هو الحق الذي لا محيص منه، فما هو إلا توحيد الله، وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر، لكن أكثرهم جبلوا على الزيغ والانحراف عن الحق، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك والإسراف فى الآثام والمعاصي، ومن ثم فهم لا يفقهون الحق ولا تستسيغه نفوسهم فهم له كارهون.
وإنما نسب هذا الحكم للأكثر، لأن فيهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه أن يقولوا: ترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما أثر عن أبى طالب من قوله:
فو الله لولا أن أجىء بسبّة ... تجرّ على أشياخنا فى القبائل
إذا لا تبعناه على كل حالة ... من الدهر جدّا غير قول التخاذل
ثم بين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدى إلى الفساد العظيم فقال:
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي ولو سلك القرآن طريقهم، بأن جاء مؤيدا للشرك بالله، واتخاذ الولد، (تعالى الله عن ذلك) وزيّن الآثام واجتراح السيئات، لاختل نظام العالم كما جاء فى قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» ولو أباح الظلم وترك العدل لوقع الناس فى هرج ومرج، ولوقع أمر الجماعات فى اضطراب وفساد، والمشاهد فى الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يئول أمرها إلى الزوال، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال وأن يكون الضعيف فريسة للقوى، لما استتبّ أمن ولا ساد نظام، وحال العرب قبل الإسلام شاهد صدق على ذلك.
ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب وما عرف والد ولده، فلا تتكوّن الأسر، ولا يكون من يعول الأبناء، ولا يبحث لهم عن رزق، فيكونون شرّدا فى الطرقات لا مأوى لهم، ولا عائل يقوم بشئونهم، وأكبر برهان على هذا ما هو حادث فى أوروبا الآن من(18/41)
وجود نسل بازدواج غير شرعى مما تئنّ منه الأمم والجماعات إلى نحو أولئك مما سبق ذكره من قبل وفصّلناه تفصيلا.
وبعد أن أنبّههم على كراهتهم للحق، شنّع عليهم لإعراضهم عما فيه الخير لهم، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس من الرغبة فى ذلك فقال:
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم فأعرضوا عنه، ونكصوا على أعقابهم، وازدروا به وجعلوه هزوا وسخرية، وما كان لهم من الخير أن يفعلوا ذلك.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» .
ثم نفى عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما ربما صدّهم عن دعوته، وهو طلبه المال منهم أجرا لنصحه وإرشاده فقال:
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أم يزعمون انك طلبت منهم أجرا على تبليغ الرسالة، فلأجل هذا لا يؤمنون.
والمراد- إنك لا تسألهم أجرا، فإن ما رزقك الله فى الدنيا والعقبى خير من ذلك، لسعته ودوامه وعدم تحمل منّة فيه، ولأنك تحتسب أجره عند الله لا عندهم.
ونحو الآية قوله: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وقوله: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» وقوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» .
(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) توكيد لما قبله، إذ من يكون خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.
وبعد أن فنّد آراءهم أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال:
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتدعو هؤلاء المشركين من(18/42)
قومك إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته، وبعده عن الضلال والهوى والاعوجاج والزيغ.
وخلاصة ما سبق ما قاله صاحب الكشاف: قد ألزمهم الحجة فى هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم- بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره، وحاله مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدّعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضّلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيّرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اه.
ثم بين أن الذين ينكرون البعث هم فى ضلال مبين فقال:
(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي وإن الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت، وبقيام الساعة ومجازاة الله عباده فى الآخرة- عادلون عن محجة الحق، وعن قصد السبيل، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ونصب الأدلة عليه.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي إنهم بلغوا فى التمرد والعناد حدا لا يرجى معه صلاح لهم، فلو أنهم ردوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا لربهم ولا انقادوا لأمره ونهيه ولا تذللوا ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا فى غيهم وضلالهم.
ونحو الآية قوله: «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» .
ثم أبان عاقبة أمرهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال:(18/43)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون- أيسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
تفسير المفردات
ذرأكم فى الأرض: أي خلقكم وبثكم فيها، اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان: أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل فى الحقائق- أردف ذلك الامتنان على عباده بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما ووفقهم لاستعمالها، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها، ليستبين لهم الرشد من الغى، لكنها لم تغن عنهم شيئا، فكأنهم فقدوها كما قال: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته، فبين أنه أوجدهم من العدم وأن حشرهم إليه، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وأنه هو الذي يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل، أفلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون؟(18/44)
الإيضاح
امتن سبحانه على عباده بأمور هى دلائل قدرته وواسع علمه فقال:
(1) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله هو الذي أحدث لكم السمع، لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة، والعقول لتفقهوا بها ما ينفعكم ويوصلكم إلى سعادة الحياتين الدنيا والعقبى.
وخص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها طريق الاستدلال الحسى والعقلي لمعرفة الموجودات، وذكرها على هذا الترتيب، لما أثبته الطب أن الطفل فى الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر، ثم يبدأ الرؤية بعدئذ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك.
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) تقول العرب للكفور الجحود للنعمة: ما أقل شكر فلان على نعمتى، على معنى أنه لم يشكرها، فالمراد هنا أنكم لم تشكروه على هذه النعم العظيمة، وقد كان ينبغى أن تشكروه عليها فى كل حين.
(2) (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي خلقكم فى الأرض وبثكم فيها على اختلاف أجناسكم ولغاتكم، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم فى دار لا حاكم فيها سواه.
(3) (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم بعد أن لم يكونوا شيئا، ثم يميتهم بعد أن أحياهم، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والجزاء.
(4) (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وهو الذي سخر الليل والنهار وجعلهما متعاقبين يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، لا يملانّ ولا يفترقان كما قال: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» .
ثم أنب من ترك النظر فى كل هذا فقال:(18/45)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون فى هذه الموجودات، لتعلموا أن هذه صنع الإله العليم القادر على كل شىء، وأن كل شىء خاضع له تحت قبضته دالّ على وجوده؟
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
تفسير المفردات
الأساطير: الأكاذيب واحدها أسطورة كأحدوثة وأعجوبة، قاله المبرد وجماعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أدلة التوحيد المبثوثة فى الأكوان والأنفس والتي يراها الناس فى كل آن- أعقبها بذكر البعث والحشر وإنكار المشركين لهما، وتردادهم مقالة من سبقهم من الكافرين الجاحدين فى استبعادهما والتكذيب بحصولهما.
الإيضاح
(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد، كإعادة الأجسام بالبعث، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، تقليدا لهم دون برهان ولا دليل.
ثم فصل تلك المقالة. فقال:
قالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي قالوا: أئذا متنا وصرنا ترابا قد بليت أجسامنا، وجرّدت عظامنا: من لحومنا: أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كهيئتنا قبل الممات؟ إن هذا لن يكون.(18/46)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:
(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي قالوا: لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا به، ووعد آباؤنا من قبل مثل هذا على أيدى قوم زعموا أنهم رسل الله، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد.
ثم زادوا فى تأكيد الإنكار فقالوا:
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظل من الحقيقة، ولا نصيب من الصحة ونحو الآية قوله حكاية عنهم: «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 90]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
تفسير المفردات
تتقون: أي تحذرون عقابه، الملكوت: الملك والتدبير، يجير: أي يغيث، من قولهم أجرت فلانا من فلان إذا أنقذته منه، ولا يجار عليه: أي لا يعين أحد منه أحدا، تسحرون: أي تخدعون وتصرفون عن الرشد.(18/47)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه شبهات المشركين فى أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة- عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه وأنه كائن لا محالة.
الإيضاح
احتج سبحانه عليهم لإثبات البعث ببرهانات ثلاثة:
(1) (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك: لمن ملك السموات والأرض ومن فيها من الخلق، إن كنتم من أهل العلم بذلك؟
وفى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) استهانة بهم وتوكيد لفرط جهالتهم كما لا يخفى ولما كانت بداهة العقل تضطرهم أن يجيبوا بأن الخالق لها هو الله- أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي إنهم سيقرون بأنها لله ملكا وخلقا وتدبيرا دون غيره.
ثم أمر رسوله أن يرغبهم فى التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه فقال:
(قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي قل لهم حين يعترفون بذلك موبّخا لهم: أفلا تتدبرون فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء؟ - فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم، وإعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم.
(2) (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي قل لهم: من خلق السموات وخلق العرش المحيط بهن كما قال: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ومن يدبر أمرهن على هذا الوضع البديع والنظام العجيب، كما قال: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» .
ثم أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال:(18/48)
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي له كل شىء وهو رب ذلك، ليس لهم جواب غيره ولما تأكد الأمر وزاد وضوحا حسن التهديد فقال:
(قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي قل لهم منكرا وموبخا: أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم، فتنكروا ما أخبر به من البعث؟
وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلى ملك له تعالى- أمره أن يقررهم بأن له تدبير شئونهما وتدبير كل شىء فقال:
(3) (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قل لهم: من المالك لكل شىء؟ والمدبر لكل شىء؟ وفى قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شىء؟ وهو يغيث من يشاء فيكون فى حرز لا يقدر أحد على الدنوّ منه، ولا يغاث أحد ولا يمنع منه، لأنه ليس فى العوالم كلها ما هو خارج من قبضته.
والخلاصة- إنه المدبر لنظام العالم جميعه، وهو الذي يغيث من شاء، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه.
ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا فقال:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي بيده ذلك دون غيره.
(قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟) أي قل لهم على طريق الاستهجان والتوبيخ: كيف تخدعون وتصرفون عن توحيد الله وطاعته؟ فأنتم بعبادة الأصنام أو بعض البشر قد سحرت عقولكم كأنما غابت عن رشدها، واعتراها الذهول، فتصورت الأشياء على غير ما هى عليها.
وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقا، وتتوهم صدق ما يقال وإن كان باطلا، ومن ثم كثرت المذاهب الإسلامية وابتدع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب ما خدعوا به عقول الشعوب فى دينهم ودنياهم.(18/49)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
والخلاصة- إن الكتاب الكريم عبر عن انصراف المشركين عن الحقائق الملموسة إلى ما لا أصل له إلا فى أوهامهم وخيالاتهم بالسحر، فإن قوما يعترفون بإله خالق للسموات والأرض بل للعالم كله، ثم هم بعد ذلك يقولون إن له شريكا- ليس له من سر إلا أن العقول قد سحرت عن أن تفهم الحقائق، وعوّلت على الاقتناع بالترهات والأباطيل.
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر، وإنهم لكاذبون فى إنكار ذلك، لأن عقولهم قد سحرت بخدع الآباء، وتكرار القول، وحكم العادة، وهى طبيعة ثانية.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن المشركين كاذبون فى إنكار البعث والجزاء، وفى مقالتهم:
إن القرآن أساطير الأولين، قفى على ذلك ببيان أنهم كاذبون فى أمرين آخرين.
اتخاذ الله للولد، وإثبات الشريك له.
الإيضاح
نفى سبحانه عن نفسه شيئين:
(1) (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) أي ليس له ولد كما زعم قوم من المشركين حين(18/50)
قالوا: الملائكة بنات الله، وكيف يكون له ذلك، ولا مثل له ولا ندّ، والوالد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين، والله غنى عن كل شىء.
(2) (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشركه فى الألوهية، لا قبل خلق العالم ولا حين خلقه له ولا بعد خلقه.
ثم ذكر دليلين على بطلان تعدّد الآلهة فقال:
(ا) (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لو قدّر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة سواه، فكان يحصل التباين فى نظم الخلق والإيجاد، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون، والمشاهد أنه منتظم متسق، وهو الغاية فى الكمال كما قال: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .
(ب) (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولكان لكل منهم أن يطلب قهر الآخر وغلبته، فيعلو بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا، وإذا لم تروا أثرا للتحارب والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون.
وبعد أن وضح الحق وصار كفلق الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال:
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتقدّس عما يقوله الكافرون من أن له ولدا أو شريكا.
ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال:
(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويبصرونه، والمراد أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا، فإنهم يقولون عن غير علم، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها ولا تخفى عليه خافية من أمرهما- قد نفى ذلك، فخبره هو الحق دون خبرهم.
(فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس عما يقول الجاحدون الظالمون.(18/51)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 100]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
تفسير المفردات
الهمزات: الوساوس المغرية بمخالفة ما أمرنا به، واحدها همزة، وأصل الهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض (حديدة توضع فى مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع) كلا: كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب، من ورائهم:
أي من أمامهم، برزخ: أي حاجز بينهم وبين الرجعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما لهم من مقالات السوء، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد، ووصف الله بما لا يليق به، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب- أمر رسوله أن يدعوه بألا يجعله قرينا لهم فيما يحيق بهم من العذاب، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجّل لهم العذاب، ولكنه أخره ليوم معلوم، ثم أرشده إلى الترياق النافع فى مخالطة الناس، وهو إحسان المرء إلى من يسىء إليه حتى تعود عداوته صداقة، وعنفه لينا.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان(18/52)
ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين وأن يحضروه فى أي عمل من أعماله، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها وأطاعوا وسوستها، حتى إذا ما حان وقت الاحتضار تمنّوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحا، وإنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء، فإنه لارجعة لهم بعد هذا، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث.
الإيضاح
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قل رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك فلا تجعلنى فيهم، ولا تهلكنى بما تهلكهم به، ونجّنى من عذابك وسخطك، واجعلنى ممن رضيت عنهم من أوليائك.
وفى أمره بذلك إيماء إلى أن العذاب قد يلحق غير من هو أهل له كما قال:
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» .
روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّنى إليك غير مفتون» .
(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي وإنا أيها الرسول لقادرون على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب، فلا يحزننك تكذيبهم بك، وإنما تؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله، علما منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن، ومن جزاء ذلك لا نستأصلهم ولا نمحو آثارهم.
ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم فقال:
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي ادفع الأذى عنك بالخصلة التي هى أحسن، بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك، ونحن أعلم بما يصفوننا به، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب،(18/53)
وبما يقولون فيك من السوء وهجر القول ومجازوهم على ما يقولون، فلا يحزنك ذلك، واصبر صبرا جميلا.
ونحو الآية قوله: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» .
روى عن أنس رضى الله عنه أنه قال فى الآية: «يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبا فإنى أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقا فإنى أسأل الله أن يغفر لى» .
ولما أدب سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما به يقوى على ذلك فقال:
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي وقل: رب إنى ألتجئ إليك من أن يصل إلىّ الشياطين بوساوسهم، أو أن يبعثوا إلىّ أعداءك لإيذائى، وهكذا يدعو المؤمنون فإن الشيطان لا يصل إليهم إلا بأحد هذين الأمرين.
وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه، وتذكرر به فيما يأتى ويذر، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة، وازدجر عن المعصية.
وقد استعاذ صلّى الله عليه وسلّم أن تحضره الشياطين فى عمل من أعماله ولا سيما حين الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع: بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، قال فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها فى عنقه» .(18/54)
وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال: «يا رسول الله إنى أجد وحشة، قال:
إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنه لا يحضرك وبالحرى لا يضرك» .
وروى أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الهزم، وأعوذ بك من الهدم، ومن الغرق، وأعوذ بك أن تتخبّطنى الشياطين عند الموت» .
ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين معاينة الموت من سؤال الرجعة إلى الدنيا ليصلحوا ما كانوا قد أفسدوا حال حياتهم فقال:
(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي ولا يزال الكافر يجترح السيئات ولا يبالى بما يأتى وما يذر من الآثام والأوزار، حتى إذا جاءه الموت وعاين ما هو قادم عليه من عذاب الله ندم على ما فات، وأسف على ما فرّط فى جنب الله وقال: رب ارجعنى إلى الدنيا لأعمل صالحا فيما قصّرت فيه من عبادتك وحقوق خلقك.
وخلاصة ذلك- إنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا، ليصلح ما أفسد، ويطيع فيما عصى.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» وقوله: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» وقوله: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» وقوله: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» .
ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار، وحين النشور، وحين(18/55)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
العرض على الملك الجبار، وحين يعرضون على النار وهم فى غمرات جهنم، فلا يجابون إليها فى كل حال.
(كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي إنا لا نجيبه إلى ما طلب، لأن طلبه الرد ليعمل صالحا هو قول فحسب ولا عمل معه وهو كاذب فيه، فلو ردّ لما عمل كما قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ومن أمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم القيامة.
وفى هذا تيئيس لهم من الرجوع أبدا، لأنهم إذا لم يرجعوا قبل يوم القيامة، فهم بعدها لا يرجعون أبدا، لما علم أنه لا رجعة بعد البعث إلا إلى الآخرة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 111]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)(18/56)
تفسير المفردات
الصور واحدها صورة نحو بسر وبسرة: أي نفخت فى الأجساد أرواحها، ولا يتساءلون: أي لا يسأل بعضهم بعضا، موازينه: أي موزوناته وهى حسناته، المفلحون:
أي الفائزون، خسروا أنفسهم: أي غبنوها، تلفح: أي تحرق، كالحون: أي عابسون متقلصو الشفاه، الشقوة والشقاوة: سوء العاقبة، وهى ضد السعادة، اخسئوا: أي اسكتوا سكوت ذلة وهوان، سخريا: أي هزوا، ذكرى: أي خوف عقابى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزا إلى يوم القيامة- أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح فى الأجسام لا تنفع الأحساب، ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، وأن من رجحت حسناته على سيئاته فاز ونجا من النار ودخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك وأدخل النار خالدا فيها أبدا، وكان عابس الوجه متقلّص الشفتين من شدة الاحتراق، وأنه يقال لأهل النار توبيخا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام، ألستم قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت عليكم الكتب؟ فيقولون بلى، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فصللنا، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة، فيجيبهم ربهم: امكثوا فى النار صاغرين أذلاء ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين وكنتم منهم تضحكون، إنهم اليوم هم الفائزون جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم.
الإيضاح
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور، لا تنفعهم الأنساب، لأن التعاطف يزول، والود(18/57)
يختفى، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، واشتغال كل امرئ بنفسه كما جاء فى قوله:
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ» (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، لاشتغاله بأمر نفسه كما قال: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» وما جاء فى بعض الآيات من إثبات التساؤل بينهم كقوله: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» فإنما هو عند القرار فى الجنة أو النار.
ثم شرع يبين أحوال السعداء وأحوال الأشقياء حينئذ فقال:
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موزونات أخلاقه وأعماله فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، والحائزون لكل مرغوب.
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ومن ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك الذين خابوا وآبوا بالصفقة الخاسرة، إذ هم دسّوا أنفسهم باسترسالهم فى الشهوات وفعل الموبقات.
(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي مآلهم أن يمكثوا فى جهنم لا يخرجون منها أبدا.
ثم وصف حال النار وحالهم فيها فقال:
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرق النار وجوههم وهم فيها منقلصو الشفاه من أثر ذلك اللفح.
وإنما خص الوجوه من بين باقى الأعضاء، لأنها أشرفها، فذكر ما ينوبها من ألم، ويلحقها من أذى، يكون أزجر عن المعاصي التي تصل بهم إلى النار.
أخرج ابن مردويه عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى قول الله تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ توبيخا وتقريعا وتذكيرا لما به حقّ عليهم العذاب (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل،(18/58)
وأنزلت عليكم الكتب، وأزلت عنكم الشّبه، ولم يبق لكم حجة كما قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» فكذبتم بها، وأعرضتم عنها، وآذيتم من جاء بها.
ونحو الآية قوله: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» .
ثم ذكر جوابهم عن ذلك فقال:
(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قالوا قد قامت علينا الحجة ولم ننقد لها، لسوء استعدادنا وتغلّب شهواتنا، ولما دسّينا به أنفسنا من الآثام والمعاصي ومن ثم ضللنا طريق الهدى، ولم نتبع الحق.
ونحو الآية قوله «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» .
والخلاصة- إنا كنا نعرف الحق، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه، وما مثلنا إلا مثل شاربى الخمر والتّبغ والمولعين بحب الكبرياء والعظمة والمغرمين بالإسراف، فإنهم يعرفون أضرارها، ثم لا يجدون سبيلا إلى تركها ولا للبعد عنها.
وبعدئذ حكى دعاءهم ربّهم أن يخرجهم منها: وقولهم فإن عدنا كنا ظالمين فقال:
(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي قالوا ربنا أخرجنا من النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والآثام كنا ظالمين لأنفسنا جديرين بالعقوبة.
ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا فقال:
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال امكثوا فيها أذلاء صاغرين واسكتوا، ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم هذا، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا، وإنما يكلمنى من سمت نفسه إلى عالم الأرواح، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه، واحتقر الدنيا وشهواتها، وعزف عنها، لما يرجوه من ربه من ثواب عميم، ونعيم مقيم.(18/59)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
ثم بين السبب فيما نالهم من العذاب فقال:
(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي إن فريقا من عبادى ممن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فى الدنيا يقولون:
ربنا آمنا بك وبرسلك وبما جاءوا به من لدنك، فاستر زلّاتنا، وآمن روعاتنا، ولا تخزنا يوم العرض، ولا تعذبنا بعذابك، فإنك أرحم من رحم أهل البلاء.
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي فتشاغلتم بهم، ساخرين منهم، ودأبتم على هذا، حتى نسيتم ذكرى، ولم تخافوا عقابى، وكنتم تضحكون منهم استهزاء بهم.
والخلاصة- إنكم أضفتم إلى سيئاتكم، الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات، ويتقربون إلى رب الأرض والسموات، روى أنها نزلت فى كفار قريش وقد كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبلال وعمار وصهيب.
ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» .
ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال:
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي إنى جزينهم بصبرهم على الأذى والسخرية بهم- بالفوز بالنعيم المقيم.
والخلاصة- إنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)(18/60)
تفسير المفردات
اللبث: الإقامة، العادّين: الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم، والعبث: ما خلا من الفائدة الحق: أي الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه، والعرش: هو مركز تدبير العالم، ووصفه بالكريم لشرفه، وكل ما شرف فى جنسه يوصف بالكرم كما فى قوله: «وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» وقوله: «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» يدعو: يعبد، حسابه: أي جزاؤه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكارهم للبعث وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان فى هذه الدنيا، وأنه بعد الفناء لا حياة ولا إعادة- ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا فى النار ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدا، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم فى الأرض، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدا طويلا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه، وحينئذ يزدادون حسرة وألما على ما كانوا يعتقدون فى الدنيا حين رأوا خلاف ما ظنوا، ثم بين بعدئذ ما هو كالدليل على وجود البعث، وهو تمييز المطيع من العاصي، ولولاه لكان خلق العالم عبثا، تنزه ربنا عن ذلك. ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره، وأنذره بالعذاب الأليم، ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب، وأن يثنى عليه بما هو أهله.(18/61)
الإيضاح
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) أي قال الملك المأمور بسؤالهم: كم لبثتم فى الأرض أحياء؟.
(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقد نسى هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم فى الدنيا، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب، وقصّر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها، ما حل بهم من نقمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يوما أو بعض يوم، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثيرة.
(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي فاسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم كما روى ذلك جماعة عن مجاهد.
(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قال لهم الملك: ما لبثتم إلا زمنا يسيرا، ولو كنتم تعلمون شيئا من العلم لعملتم على مقتضى ذلك، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم فى النار، ولما قلنا لكم «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» .
روى مرفوعا «إن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال:
يا أهل الجنة كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم رحمتى ورضوانى وجنتى، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول يا أهل النار. كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول بئسما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم نارى وسخطى، امكثوا فيها خالدين مخلدين»
: ثم زاد فى توبيخهم على تماديهم فى الغفلة وتركهم النظر الصحيح فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة فقال:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي أظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبا وباطلا؟ كلا، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء.(18/62)
وفى هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضى تكليفهم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل، وأسلفوا من سعى فى الحياة الدنيا.
ثم نزه الله نفسه عما يصفه به المشركون فقال:
(فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت الذي لا يزول، وليس هناك معبود سواه، وهو ذو العرش الكريم الذي يدبر فيه نظام الكون علويّه وسفليّه وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثا، وأن تخلوا أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة، وأن يكون له ولد أو شريك.
وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو- أتبعه ببيان أن من ادعى أن فى الكون إلها سواه فقد ادعى باطلا، وركب شططا فقال:
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعبد مع ذلك المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودا آخر لا بيّنة له به، فحزاؤه عند ربه، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب.
وفى ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي إنه لا يسعد أهل الشرك، ولا ينجيهم من العذاب.
وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين، وختمها بخيبة الكافرين، وعدم فوزهم بما يؤملون!.
وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة، أمر رسوله بالانقطاع إليه، والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله:
(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي وقل أيها الرسول: رب استر على ذنوبى بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتى وترك عقابى على ما اجترحت من آثام وأوزار، وأنت ربّنا خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته وتجاوز عن عقابه إنك ربنا خير غافر، وإنك المتولى للسرائر، والمرجوّ لإصلاح الضمائر، وصلّ ربّنا على محمد وآله.(18/63)
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان فى جماعة عن أبى بكر أنه قال «يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به فى صلاتى قال: قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» .
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب
(1) فوز المؤمنين ذوى الصفات الفاضلة بدخول الجنات خالدين فيها أبدا.
(2) ذكر حال النشأة الأولى.
(3) خلق السموات السبع وإنزال المطر من السماء وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب وذكر منافع الحيوان للإنسان.
(4) قصص بعض الأنبياء كنوح وشعيب وموسى وهرون وعيسى عليهم السلام ثم أمرهم جميعا بأكل الطيبات وعمل الصالحات.
(5) لا يكلف الله عباده إلا بما فيه يسر وسجاحة.
(6) وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها.
(7) ذكر ما أنعم به على عباده من الحواس والمشاعر.
(8) إنكار المشركين للبعث والجزاء والحجاج على إثبات ذلك.
(9) النعي على من أثبت الولد والشريك لله.
(10) دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه ألا يجعله فى القوم الظالمين حين عذابهم.(18/64)
(11) تعليم نبيه صلّى الله عليه وسلّم الأدب فى معاملة الناس، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه.
(12) طلب الكفار العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحا.
(13) وصف أهوال يوم القيامة وبيان ما فيها من الشدائد.
(14) أوصاف السعداء والأشقياء.
(15) تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا وزجرهم على هذا الطلب.
(16) سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا، وبيان أنهم ينسون ذلك.
(17) النعي على من عبد مع الله إلها آخر.
وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.(18/65)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
سورة النور
هى مدنية وآيها أربع وستون.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إنه قال فى السورة السالفة: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، والنهى عن إكراه الفتيات على الزنا.
(2) إنه تعالى لما قال فيما سلف إنه لم يخلق الخلق عبثا بل للأمر والنهى- ذكر هنا جملة من الأوامر والنواهي.
روى عن مجاهد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور»
وعن حارث بن مضرّب رضى الله عنه قال:
كتب إلينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
[سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
تفسير المفردات
أنزلناها: أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده: رفعت إليه حاجتى، والفرض: التقدير كما قال: «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» وقال: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» والمراد هنا تقدير ما فيها من الحدود والأحكام على أتمّ وجه، بينات: أي واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام، ولعلّ هنا يراد بها الإعداد والتهيئة، تذكرون: أي تتذكرون وتتعظون.(18/66)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
الإيضاح
امتنّ سبحانه على عباده بما أنزل عليهم فى هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا، ليعدّهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم وفيه صلاحهم، فإن فى حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد، وأمنا على الصحة والبعد من الأمراض التي قد تودى بحياة المرء وتوقعه فى أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء.
كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجمع، ففيها نظام دخول البيوت للتزاور، وفيها حفظ الألسنة وصونها عن الولوغ فى الأعراض بما لا ينبغى أن يقال حتى لا ينتسر الفحش بين الناس، وفيها تحذير للعباد من ذلك «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
والخلاصة- إنه تعالى ذكر فى أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود الشرعية.
وفى آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته، فأشار إلى الأولى بقوله (وَفَرَضْناها) وإلى الثانية بقوله: (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) .
والفائدة فى كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها ومعرفة الله المعرفة التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قلّ أو كثر فإذا تم له ذلك صلحت نظم الفرد ونظم المجتمع، وسادت السكينة والطمأنينة بين الناس.
[سورة النور (24) : آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)(18/67)
عقوبة الزنا الدنيوية
الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين: أي متزوجين، أو غير محصنين: أي غير متزوجين.
عقوبة المحصنين
إن كان الزانيان محصنين واستوفيا الشروط الآتية، وهى أن يكونا بالغين عاقلين حرين مسلمين متزوجين بعقد نكاح صحيح- وجب رجمهما: أي رميهما بالحجارة حتى يموتا، ويكون ذلك فى حفل عامّ للمسلمين ليعتبر بهما غيرهما.
وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة، ورواه الثقات عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد رواه أبو بكر وعمر وعلىّ وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد ابن خالد وبريدة الأسلمى فى آخرين من الصحابة، وجاء فى رواياتهم أن رجلا من الصحابة يسمى ما عزا أقر بالزنا فرجم، وأن امرأتين من بنى لخم وبنى غامد أقرتا بالزنا فرجمعا على مشهد من الناس ومرأى منهم.
عقوبة غير المحصنين
إن كان الزانيان غير محصنين فالعقوبة مابة جلدة بمحضر جمع من المسلمين كما بينته الآية ليفتضح أمرهما كما تقدم ذلك.
طريق إثبات الزنا
يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة:
(1) الإقرار به وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا فى الإسلام، وبه أوقع النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته العقوبة على من زنى.
(2) الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها.
(3) شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما ملتبسان بالجريمة.(18/68)
عقوبة الزنا الأخروية
تقدم أن بيّنا المساوى والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات فى الدنيا، وهنا نذكر حكمه الأخروى فنقول: اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام، وأنه من الذنوب التي شدد الدين فى تركها، وأغلظ فى العقوبة على فعلها، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت فى غيره مما حرم الله، فقد قرن بالشرك فى قوله: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً»
وروى عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث فى الدنيا وثلاث فى الآخرة، أما التي فى الدنيا فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي فى الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: «قلت يا رسول الله، أىّ الذنب أعظم عند الله؟
قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت ثم أىّ؟ قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت ثم أىّ؟ قال وأن تزنى بحليلة جارك، فأنزل الله تصديقها:
«وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ»
الإيضاح
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين فاجلدوا كلا منهما مائة جلدة عقوبة له على ما أتى من معصية الله.
(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي ولا تأخذكم بهما رحمة ورقة فى حكم(18/69)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الله، فتعطلوا الحدود أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا فى دين الله ولا يأخذكم اللين والهوادة فى استيفاء الحدود، وكفى برسول الله أسوة فى ذلك، إذ
يقول: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» .
(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن كنتم تصدقون بالله ربكم، وأنكم مبعوثون للحشر ومجازون بالثواب والعقاب. فإن من كان مصدّقا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه خوف عقابه على معاصيه.
وفى هذا تهييج وإغضاب لتنفيذ حدود الله وإقامة شريعته.
(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ فى زجرهما، وأنجع فى ردعهما، والزيادة فى تأنيبهما على ما فعلا.
والطائفة: الأربعة فصاعدا كما روى عن ابن عباس، وعن الحسن: عشرة فصاعدا.
[سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
المعنى الجملي
قال مجاهد وعطاء: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا، ولكل منهن علامة على بابها للتعريف عن نفسها والإعلان عن أمرها، وكان لا يدخل عليهن إلا زان أو مشرك، فرغب فى كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا ننّزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهنّ، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية.
الإيضاح
(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي إن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب فى نكاح الصوالح من النساء،(18/70)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وإنما يرغب فى فاسقة خبيثة أو فى مشركة مثلها، والفاسقة المستهترة لا يرغب فى نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا فى أمثالهم: إن الطيور على أشكالها تقع.
ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقى، وقد يفعل الخير من ليس بتقى، فكذا هذا فإن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي إن نكاح المؤمن المتّسم بالصلاح الزانية، ورغبته فيها واندماجه فى سلك الفسقة المشهورين بالزنا- محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفسّاق ومن حضور مواضع الفسق والفجور التي قد تسبب له سوء القالة واغتياب الناس له، وكم فى مجالسة الفساق من التعرض لاقتراف الآثام، فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار، وجاء فى الخبر «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .
حكم قذف غير الزوجة من النساء
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
تفسير المفردات
المراد بالمحصنات هنا العفيفات الحرائر البالغات العاقلات المسلمات.
المعنى الجملي
بعد أن نفّر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبيّن أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله- نهى هنا عن رمى(18/71)
المحصنات به، وشدد فى عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته فى الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا، فيكون ساقط الاعتبار فى نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته فى الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى الله وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) أي إن الذين يشتمون العفيفات من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك- فاجلدوهم ثمانين جلدة جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق.
(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي وردوا شهادتهم، ولا تقبلوها أبدا فى أي أمر من الأمور.
ثم بين سوء حالهم عند ربهم بقوله:
(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم إذ أنهم فسقوا عن أمره وركبوا كبيرة من الكبائر، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبا وبهتانا كما قال حسان يمدح أمّ المؤمنين عائشة:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1»
وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات، وأوقعوا السامعين فى شك من أمرهن، دون أن يكون فى ذلك فائدة دينية ولا دنيوية لهم، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن فى ذلك مصلحة فى الدين.
__________
(1) حصان: عفيفة، ورزان: حصيفة الرأى، وتزن: تتهم، وريبة: أي شك فى عرضها، وغرثى: جائعة، والمراد أنها لا تغتاب النساء كما هو شأن المرأة.(18/72)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم.
وقد اختلف فى هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيّب وجماعة من السلف، وهو رأى مالك والشافعي وأحمد، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق.
ثم ذكر علة قبول التوبة فقال:
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن الله ستّار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.
حكم قذف الرجل زوجه
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
تفسير المفردات
يرمون أزواجهم: أي يقذفونهنّ بالريبة وتهمة الزنا، ولعنة الله: الطرد من رحمته، ويدرأ: أي يدفع، والعذاب: الحد، وغضب الله: سخطه والبعد من فضله وإحسانه(18/73)
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء- ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية، لأن فى تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روى عن ابن عباس أنه قال: «لما نزل قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات إلخ قال عاصم بن عدىّ الأنصاري: إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عو يمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتى خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا فى أهل بيتي! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال أخبرنى عويمر ابن عمى أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا وقال لعويمر اتقى الله فى زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيرى، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقى الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت يا رسول الله: إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلىّ ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(18/74)
فنودى (الصلاة جامعة) فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإنى لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنها حبلى من غيرى وإنى من الصادقين ثم قال:
قل: أشهد بالله إنها زانية وإنى ما قربتها منذ أربعة شهور وإنى لمن الصادقين ثم قال:
قل لعنة الله على عويمر (يعنى نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال:
اقعد، وقال لخولة: قومى فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا زوجى لمن الكاذبين، وقالت فى الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت فى الثالثة: إنى حبلى منه، وقالت فى الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآنى على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت فى الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين فى قوله، ففرق رسول الله بينهما» .
«و
فى رواية عن ابن عباس: أنها حين كانت تؤدى الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت والله لا أفضح قومى فشهدت فى الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتفريق بينهما وألا يدعى ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة»
فصار هذا سنّة المتلاعنين وسمى عملهما (اللعان والملاعنة) .
وفى رواية «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة (سحلية) فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه» .
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(18/75)
أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به.
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهى الحد أن تخلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة- لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.
وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هى سبب الفجور ومنبعه، بخديعتها وإطماعها الرجل فى نفسها.
وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن فى هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال:
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم فى كل آن، وأنه حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان- لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه، لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفترى عليها، لاشتراكهما فى الفضيحة، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون فى نفسه من أهلها، وفى كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما درائة عنه العقوبة الدنيوية، وإن كان قد ابتلى الكاذب منهما فى تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروى.(18/76)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)(18/77)
تفسير المفردات
الإفك: أبلغ الكذب والافتراء، والعصبة: الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين، وقد عدّت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبى ابن سلول وقد تولّى كبره، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى الله عنها وزوج طلحة ابن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، كبره (بكسر الكاف وضمها وسكون الباء) أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه، (لولا) كلمة بمعنى هلّا تفيد الحث على فعل ما بعدها، مبين: أي ظاهر مكشوف، أفضتم: أي خضتم فى حديث الإفك، تلقونه: أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض، يقال تلقّى القول وتلقّنه وتلقّفه ومنه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» سبحانك: تعجب ممن تفوّه به، بهتان: أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته، يعظكم: أي ينصحكم، تشيع: أي تنتشر، الفاحشة: الخصلة المفرطة فى القبح وهى الزنا، وخطوات واحدها خطوة (بالضم) ما بين القدمين من المسافة، ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه: والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر منه، زكا: أي طهر من دنس الذنوب، ولا يأتل: أي لا يحلف، الفضل الزيادة فى الدين، السعة: الغنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات- ذكر فى هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(18/78)
ومجمل القصص ما
رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن حرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى (نصيبى) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت فى هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودى بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى، فلست صدرى فإذا عقدى من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلون بي فاحتملوا هودجى فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أنى فيه لخفتى، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلى وظننت أنهم سيفقدوننى ويعودون فى طلبى، فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمى من وراء الجيش، فلما رآنى عرفنى فاستيقظت باسترجاعه، فخمّرت وجهى بجلبابي، وو الله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا فى نحر الظهيرة، وافتقدنى الناس حين نزلوا وماج القوم فى ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا فى حديثى فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبى، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك لا أشعر بشىء من ذلك، ويريبنى فى وجعي أنى لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذلك يريبنى ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التنزه فى البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح(18/79)
(هى ابنة أبى رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبى بكر الصديق) قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح فى مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه أولم تسمعى ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضى فلما رجعت إلى منزلى ودخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال كيف تيكم؟
قلت أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قال نعم، قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوىّ فقلت لأمى: أي أماه، ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوّنى عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراتر إلا أكثرن عليها: قالت قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت نعم، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقألى دمع ولا أكتحل بنوم؟ ثم أصبحت فدخل علىّ أبو بكر وأنا أبكى، فقال لأمى ما يبكيها؟
قالت: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبّ يبكى، فبكى ساعة ثم قال: اسكتي يا بنية، فكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواى أن البكاء سيفلق كبدى، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحى يستشيرهما فى فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي فى نفسه من الود، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علىّ فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية (يعنى بريرة) تصدقك، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال: هل رأيت من شىء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتى الدواجن فتأكله، فقام(18/80)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبىّ فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغني أذاه فى أهلى، فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلى إلا معى، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضى الله عنه فقال: أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس صربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة، فقال أىّ سعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، ثم أتانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا فى بيت أبوىّ، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكى معى، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم جلس عندى ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى بشىء، قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه دمعة، قلت لأبى: أجب عنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال، قال والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمى: أجيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، إنى والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر فى أنفسكم حتى كدتم أن تصدّقوا به،(18/81)
فإن قلت لكم إنى بريئة (والله يعلم أبى بريئة) لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنى منه بريئة لتصدّقنى، وإنى والله لا أجد لى ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ثم توليت فاضطجعت على فراشى وأنا والله أعلم أنى بريئة، وأن الله سيبرئنى ببراءتي، ولكنى والله ما كنت أظن أن ينزل فى شأنى وحي يتلى، ولشأنى كان أحقر فى نفسى من أن يتكلم الله فى بأمر يتلى، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام رؤيا يبرئنى الله بها، قالت والله ما دام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحى حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان
من العرق فى اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشرى يا عائشة، إن الله قد يراك، فقالت لى أمي قومى إليه، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا فى براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله:
«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ» فقال أبو بكر:
إنى لأحب أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى وما سمعت، فقالت: يا رسول الله أحمى سمعى وبصرى، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهى التي كانت تساميى، فعصمها الله بالورع، وطفقت أحبها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك» .(18/82)
وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتنى الصّديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبرّأة من السماء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها والله عليم بما يفعلون.
وفى التعبير (بعصبة) بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينتسرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس.
(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خير لكم، لاكتسابكم به الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر فى براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها.
ثم ذكر عقاب من اجترحوه- كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال:
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقلّ، وبعضهم أكثر.
(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمّل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد الله بن أبىّ (عليه اللعنة) له عذاب عظيم فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فبإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد، وأما فى الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم.
وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه فى عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم،(18/83)
وقال الضحاك: الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عذرها، وجلد معهما امرأة من قريش، وإنما أضاف الكبر إليه، لأنه ابتدأ بذلك القول، لاجرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك،
لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
ثم عاتب الله أهل الإيمان به فيما وقع فى أنفسهم من إرجاف من أرجف فى أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور:
(1) (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك فى عائشة ظنتم بمن اتّهم بذلك خيرا، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن، ويكفّكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» وقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» وهلا قلتم حينئذ: هذا كذب ظاهر مكشوف؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه- ذاك أن مجىء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم ينفى كل شك، وإنما قيل ما قيل لحسد فى القلوب كامن، وبغض فى النفس مكتوم.
ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبّخهم على ما اختلفوه وأذاعوه بقوله:
(2) (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاء الخائضون فى الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به.
(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون فى حكم الله وشرعه.
(3) (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه عليكم فى الدنيا بضروب النعم التي من أجلّها الإمهال للتوبة، ورحمته فى الآخرة بالعفو بعد التوبة- لعجل لكم العقاب فى الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.(18/84)
ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله:
(4) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ فى القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله.
وخلاصة ذلك- إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها:
(ا) تلقى الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع فى نشره.
(ب) إنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما فى القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه (ج) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة.
(هـ) (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي وهلّا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه فى القول- قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغى لنا أن نتفوه به سبحانك رب- هذا كذب صراح يحيّر السامعين، أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو فى الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة، وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق؟ وإنا لنبرأ إليك(18/85)
ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفّاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة فى انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
وخلاصة هذا- تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجور، والعقل والدين يمنعان الخوض فى مثل هذا، لأن فيه إيذاء للنبى صلّى الله عليه وسلّم والله يقول «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها، ولأن فى إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق الله
والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «تخلقوا بأخلاق الله» .
ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال:
(6) (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد فى الدنيا، والعذاب فى الآخرة، كى لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه.
وفى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا.
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويفصّل الله لكم فى كتابه، آيات التشريع، ومحاسن الفضائل والآداب، وهو العليم بكم، لا يخفى عليه شىء منها، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. الحكيم فى تدبير شئونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير الأمم فى سياسة الشعوب وعمارة الأرض، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» ولقد صدق الله وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا فى ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته(18/86)
حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط السوي، والنهج القويم، تقلّص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستعبدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بيّن ذلك بقوله:
(7) (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا فى المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات، لهم عذاب موجع فى الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس، وفى الآخرة بعذاب النار وبئس القرار.
وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» .
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة» .
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا، ولا ترووا ما لا علم لكم به، ولا سيما حلائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتهلكوا.
ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال:
(8) (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ولولا أن الله تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض فى الإفك ومكّنّكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.
وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال:
(9) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفحشاء فى الذين آمنوا، وإذا عتكموها فيهم، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.(18/87)
ثم ذكر سبب النهى فقال:
(وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما، ومن هذا شأنه لا ينبغى اتباعه ولا طاعته.
ثم أكد منته على عباده فقال:
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ على ظهرها مِنْ دَابَّةٍ» .
(وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي ولكنّ الله جلت، قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلّم من داء النفاق ممن وقع فى حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة، عليم بما فى قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك.
وفى هذا حث لهم على الإخلاص فى التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، وارتكاب الأوزار والآثام.
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون بالله، ألا يعطوا ذوى قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبى بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول الله بدرا.
روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قول فى عائشة ما قال(18/88)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
ذاك أنه بعد أن أنزلت براءة عائشة وطابت النفوس وتاب الله على من تكلم من المؤمنين فى ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه- تفضل وله الحمد والمنة فعطّف الصّدّيق على قريبه مسطح وكان ابن خالته وكان مسكينا لا مال له وكان من المهاجرين فى سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحدّ عليها.
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الإفضال.
ثم رغبهم فى العفو والتفضل فقال:
(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضاله عليكم، والجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح الله عنك، فحينئذ قال الصديق: بلى والله نحب أن تغفر لنا ربّنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال والله لا أنزعها منه أبدا.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيم به أن يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها.
وفي هذا ترغيب عظيم فى العفو، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب وحث على مكارم الأخلاق.
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)(18/89)
تفسير المفردات
المحصنات: العفيفات، الغافلات: أي عن الفواحش وهن النقيات القلوب اللاتي لا يفكّرن فى فعلها، لعنوا: أي طردوا من رحمة الله فى الآخرة وعذبوا فى الدنيا بالحدّ، دينهم: أي جزاءهم ومنه
«كما تدين تدان»
الحق: أي الثابت الذي يحق لهم لا محالة، أن الله: أي وعده ووعيده، الحق: أي العدل الذي لا جور فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة وبين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب فى هذا- أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور- فهو مطرود من رحمة الله، بعيد عن دار نعيمه، معذّب فى جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات بالله ورسوله- يبعدون من رحمة الله فى الدنيا والآخرة، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء فى المؤمنات، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها كما ورد فى الحديث:
«من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا فى الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل، إذ ينطقها الله بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.(18/90)
ونحو الآية قوله تعالى: «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ» .
عن أبى سعيد الخدرىّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول كذبوا، فيقال أهلك وعشيرتك، فيقول كذبوا، فيقال احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ثم يدخلهم النار» .
ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان، بل شهادة الإثبات والبيان، إذ كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان، واليد التي تمتد لفعل شىء، والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم فى قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيا جد الكفاية فى إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين.
(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي فى هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به فى حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه، ويزول عنهم كل ريب كان قد ألمّ بهم فى الدار الأولى.
عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» رواه الشيخان.
قال صاحب الكشاف: ولو قلّبت القرآن كله وفتّشت عما أوعد به العصاة(18/91)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
لم تر أن الله قد غلّظ فى شىء تغليظه فى إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعقاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف فى بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين فى الدارين جميعا وتوعّدهم بالعذاب العظيم فى الآخرة، بأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفّيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله اه.
[سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
المعنى الجملي
بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامى المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله- أردف ذلك دليلا ينفى الريبة عن عائشة بأجلى وضوح- ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين، والخبيثات للخبيثين، ورسول الله من أطيب الطيبين، فيجب كون الصّدّيقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق.
الإيضاح
(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال لا يتجاوزنهم إلى غيرهم(18/92)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
(وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، لأن المجالسة من دواعى الألفة ودوام العشرة.
(وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، لما قد عرفت من الأنس بمن يحاكيك فى الصفات، ويجانسك فى الفضل والكمال.
(وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون أيضا للطيبات منهن لا يتجاوزونهن إلى من عداهن.
وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، استبان أن الصديقة رضى الله عنها من أطيب الطيبات واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك.
(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أولئك الطيبون والطيبات ومنهم صفوان وعائشة مبرءون مما يقول الخبيثون والخبيثات من النساء.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة عن ذنوبهم التي اقترفوها من قبل، ورزق كريم عند ربهم فى جنات النعيم.
[تنبيه] هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع، وتبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء وكرة الهواء مطيعة لمجموعها، لما بينها من تناسب وتشابه فى الصفات، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا، وهم يكونون يوم القيامة كذلك، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)(18/93)
تفسير المفردات
حتى تستأنسوا: أي حتى تستأذنوا، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول، تذكرون: أي تتعظون، أزكى: أي أطهر، جناح: أي حرج، متاع: أي حق تمتع ومنفعة كإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات ونحوها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التّهمة فى كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة- أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التّهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون فى بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
روى عدى بن ثابت عن رجل من الأنصار «أن امرأة قالت يا رسول الله: إنى أكون فى بيتي على الحال التي لا أحب أن يرانى عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتينى آت فيدخل علىّ فكيف أصنع؟ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية» .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة فى بقاء الود وحسن العشرة بينهم، ومن ذلك(18/94)
ألا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يطلعوا على عورات سواهم، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس فى العادة، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها إلى أن فى هذا تصرفا فى ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه.
وينبغى أن يكون الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا انصرف،
فقد ثبت فى الصحيح أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس (يعنى أبا موسى) يستأذن؟
ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال إنى استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لى، وإنى سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف» .
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم خير من الدخول بغتة أو من الدخول على عادة الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حيّيتم صباحا، حيّيتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته فى لحاف واحد.
وقد أرشدكم ربكم إلى ذلك كى تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي فإن لم تجدوا فيها أحدا ممن يملك الإذن، بأن كان فيها عبد أو صبى فلا تدخلوها حتى يأذن لكم من يملكه وهو رب الدار.
وقد استثنى من ذلك ما إذا دعت الضرورة إلى الدخول فورا كإطفاء حريق أو منع حدوث جناية أو نحو ذلك.
(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي وإن قال لكم أهل البيت تستأذنون فيه ارجعوا فارجعوا، فإن الرجوع أطهر لكم فى دينكم ودنياكم، لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان،(18/95)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
ولما فى ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس، وربما ظن بأهل البيت سوء من وقوف الأجانب على أبوابهم.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي والله عليم بكل مقاصدكم ونواياكم من دخول البيوت ومجازيكم على ذلك.
ولما بين حكم البيوت المسكونة بين حكم البيوت غير المسكونة فقال:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي ليس عليكم أيها المؤمنون إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدّة لسكنى قوم معينين، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال ونحو ذلك، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم- غير موجود فيها.
روى أن أبا بكر قال «يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية فى الاستئذان، وإنا لنختلف فى تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت الآية» .
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي والله عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس أو من قصد ريبة أو فساد.
وفى هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى.
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)(18/96)
تفسير المفردات
غض بصره: خفّض منه، والخمر: واحدها خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها (طرحة) والجيوب واحدها جيب: وهو فتحة فى أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد، والبعولة: الأزواج واحدهم بعل، والإربة: الحاجة إلى النساء، والطفل: يطلق على الواحد والجمع، لم يظهروا: أي لم يعلموا عورات النساء لصغرهم.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم- أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.
الإيضاح
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنظروا إلا ما يباح لكم النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرفوا أبصارهم عنه سريعا لما
رواه مسلم عن عبد الله البجلىّ قال:(18/97)
«سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجاءة فأمرنى أن أصرف بصرى» ،
وروى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلى: «يا علىّ لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» ،
وفى الصحيح عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال صلّى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غضّ البصر، وكفّ الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» .
والحكمة فى ذلك: أن فى غض البصر سدا لباب الشر، ومنعا لارتكاب المآثم والذنوب، ولله در أحمد شوقى حيث يقول:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بمنعها من عمل الفاحشة، أو بحفظها من أن أحدا ينظر إليها،
وقد جاء فى الحديث: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» .
(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي ما ذكر من غض البصر وحفظ الفرج أطهر من دنس الريبة وأنفع دينا ودنيا فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور، ولله در شاعرهم:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت فى قلب فاعلها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء مادام ذا عين يقلّبها ... فى أعين العين موقوف على الخطر
بسر ناظره ما ضر خاطره ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلا يخفى عليه شىء مما يصدر منهم من الأفعال كإجالة النظر واستعمال سائر الحواس، وماذا يراد بذلك، فلتكونوا على حذر منه تعالى فى كل ما تأتون وما تذرون.(18/98)
وبعد أن أمر رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك.
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) وإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرم، وبدونها لا يحرم، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل لما
روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة «أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أوعمياوان أنتما؟ أولستما تبصرانه؟» .
(وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) عما لا يحل لهن من الزنا والسّحاق ويسترنها حتى لا يراها أحد.
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخضاب، فلا يؤاخذن إلا فى إبداء ما خفى منها كالسوار والخلخال والدّملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، لأن هذه الزينة واقعة فى مواضع من الجسد (وهى الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن) لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى فى الآية بعد.
ولما نهى عن إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها فقال:
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) أي وليلقين خمرهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتى لا يرى منها شىء، وكان النساء يغطين رءوسهن بالخمر ويسدلها من وراء الظهر فتبدو نحورهن وبعض صدورهن كعادة الجاهلية فنهين عن ذلك، قالت عائشة: رحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها.(18/99)
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) أي قل للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفيّة إلا لأزواجهن، فإنهم المقصودون بها والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم، حتى إن لهم ضربهن على تركها، ولهم النظر إلى جميع بدنهن، أو لآباء النساء أو لآباء الأزواج أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن أو لاخواتهن أو لأبناء الإخوة أو لأبناء الأخوات، لكثرة المخالطة بينهم وبينهن، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات، إلى أنهن محتاجات إلى صحبتهم فى الأسفار للركوب والنزول.
(أو نسائهن) أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة.
(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الجواري، أما العبيد فقد اختلفوا فيهم، فقال قوم عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا، وله أن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة، وقد روى أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها، وقال قوم هو كالأجنبى معها وهو رأى ابن مسعود والحسن وابن سيرين، ومن ثم قالوا لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، وسئل طاوس هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا، فأما رجل ذو لحية فلا.
(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم إلى النساء، إما لأنهم طعنوا فى السن ففنيت شهواتهم، وإما لكونهم ممسوحين قطعت منهم أعضاء التناسل.
(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء.
ثم نهى عن إظهار وسوسة الحلي بعد النهى عن إبداء مواضعه فقال:
(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ولا يضربن بأرجلهن.(18/100)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
الأرض لتقعقع خلاخلهن، فإن ذلك مما يهيج الرجال ويورث ميلا إليهن، وللنساء أفانين فى هذا، فقد يجعلن الخرز ونحوه فى جوف الخلخال، فإذا مشين ولو هونا كان له رنين وصوت خاص، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما تهيجه رؤيته (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
أخرج أحمد والبخاري والبيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: أيها الناس توبوا إلى الله، فإنى أتوب إليه كل يوم مائة مرة» .
ومن شرط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها، لا كما يظن الناس الآن أنها كلمة تلاك باللسان دون أن يكون لها أثر فى القلب، ولا عزم على عدم العود، حتى إن كثيرا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره، وهذا دليل على أنهم كاذبون فى توبتهم مراءون فى أفعالهم.
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)(18/101)
تفسير المفردات
الأيامى: واحدهم أيم وهو كما قال النضر بن شميل كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا كانت أو ثيبا، ويقال آمت المرأة وآم الرجل إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، وكثر استعماله فى الرجل إذا ماتت امرأته وفى المرأة إذا مات زوجها، والصالحين: أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه، والإماء: واحدهن أمة وهى الرقيقة غير الحرة، واسع: أي غنىّ، وليستعفف: أي وليجتهد فى العفة، لا يجدون: أي لا يتمكّنون من وسائله وهى المال والكتاب والمكاتبة: كالعتاب والمعاتبة يراد بها شرعا إعتاق المملوك بعد أداء شىء من المال منجّما أي فى موعدين أو أكثر فيقول له كاتبتك على كذا درهما ويقبل المملوك ذلك، فإذا أدّاه عتق وصار أحق بمكاسبه، كما صار أحق بنفسه، والفتيات: واحدهن فتاة، ويراد بالفتى والفتاة لغة العبد والأمة، والبغاء: الزنا والتحصن: العفة، لتبتغوا: أي لتطلبوا، عرض الحياة الدنيا: أي الكسب وبيع الأولاد، مبينات: أي مفصّلات ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من الأحكام والآداب، مثلا: أي فصة عجيبة من قصص الماضين كقصة يوسف ومريم.
المعنى الجملي
لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج ونحوهما مما يفضى إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الأنساب الذي يستدعى مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه، ثم رغّب فى مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارا فى أنفسهم(18/102)
وفى أموالهم يتزوجون كما يشاءون، وبعدئذ أردف ذلك النهى عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم فى هذه السورة وفى غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة، وعقوبات رادعة، وقصص عجيبة عن الماضين، وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم.
الإيضاح
(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوّجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر:
أي من الرجال والنساء، والمراد بذلك، مدّيد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك، كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال ونحو ذلك.
والخلاصة- إن فى الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب، لأنه قد كان فى عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وفى سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك أحد عليهم، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة.
ثم رغّب فى الزواج بالفقير والفقيرة وألا يكون عدم وجدان المال حائلا عن إتمامه فقال:
(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون زواجها، ففى فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح.
وكم يسر أتى من بعد عسر ... وفرّج كربة القلب الشجىّ
(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله ذو سعة وغنى، فلا انتهاء لفضله ولا حد لقدرته،(18/103)
فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما، وهو عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
قال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغّبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم فى ذلك الغنى.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي فى سبيل الله»
. وبعد أن بين حال القادرين على النكاح ووسائله، بين حال العاجزين عن تلك الوسائل فقال:
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وليجتهد فى العفّة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله حتى يصل إلى بغيته من النكاح،
وقد جاء فى الحديث الصحيح: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
الباءة مؤن النكاح من مهر ونفقة وكسوة، والوجاء نوع من الخصاء يكون برضّ عروق الأنثيين مع بقاء الخصيتين كما هما، فشبه الصوم فى قطعه شهوة النساء به.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجوما ليصيروا بعد أدائها أحرارا، ويكونون قادرين على الكسب وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق- فكاتبوهم ويكونون بعد انتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارا فى رقابهم وفى كسبهم.
ثم حث المؤمنين جميعا على تحرير الرقاب فقال:
(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي وآتوا أيها السادة المكاتبين شيئا من مال الله الذي أعطاكم وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم(18/104)
ملكه، وأعطوا أيها الحكام المكاتبين سهومهم التي جعلها الله لهم فى بيت المال فى مصارف الزكاة بقوله (وَفِي الرِّقابِ) أي وفى تحرير الأرقاء.
وفى هذا حث لجميع المؤمنين على عتق الرقاب،
روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد فى سبيل الله» .
ثم نهى المؤمنين عن السعى فى جمع المال بسبل الحرام فقال:
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تكرهوا إماءكم على الزنا إن كنّ يردن التعفف والتحصن، التماسا لعرض الدنيا من مال وزينة ورياش.
وفى قوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) زيادة فى تقبيح حالهم وتشنيع عليهم، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه، ولا سيما عند إرادة التعفف وتوافر الرغبة فيه.
والخلاصة- لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراه الإماء على البغاء، طلبا لمتاع سريع الزوال، وشيك الفناء والاضمحلال.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضى الله عنه أن جارية لعبد الله بن أبىّ ابن سلول يقال لها (مسيكة) وأخرى يقال لها (أميمة) كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية.
وأخرج ابن مردويه عن على كرم الله وجهه أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ونزلت الآية.
ثم أبان أنهن إن أكرهن فالوزر على من أكرههن لا عليهن فقال:
(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن يكرههن على البغاء فإن الله غفور رحيم لهن من بعد إكراههن والذنب على المكره لهن، وكان الحسن إذا قرأ الآية قال: لهن والله، لهن والله.(18/105)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
وبعد أن فصّل هذه الأحكام وبيّنها امتنّ على عباده بذلك فقال:
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي ولقد أنزلنا آيات القرآن مبينات لما أنتم فى حاجة إليه من الأحكام والآداب، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة كقصة يوسف وقصة مريم وفيها شبه بقصص عائشة، وفيها عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه وخشى عذابه.
وأثر عن على كرم الله وجهه فى وصف القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
تفسير المفردات
نور: أي ذو نور أي هو هاد أهل السموات والأرض، والمراد العالم كله، والمشكاة: لفظ حبشى معرّب يراد به الكوّة غير النافذة، الزجاجة: القنديل من الزجاج، والدرىّ: المضيء المتلألئ منسوب إلى الدر، لا شرقية ولا غربية: أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شىء من الشروق إلى الغروب، يضرب الله الأمثال: أي يبين للناس الأشباه والأمثال.(18/106)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أنزل فى هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس فى صلاح أحوالهم فى معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق- بين أنه نور السموات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته من قدرة وعلم إلى نحو أولئك، هادية إلى صلاح أمورهم فى الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الله هاد أهل السموات والأرض بما نصب من الأدلة فى الأكوان، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال ينجون.
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) أي مثل أدلته التي بثها فى الآفاق وهدى بها من شاء من عباده كنور مشكاة فيها سراج ضخم ثاقب له الصفات الآتية.
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي وذلك المصباح فى قنديل من الزجاج الصافي الأزهر.
(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي الزجاجة كأنها كوكب ضخم مضىء من درارى النجوم وعظامها كالزّهرة والمشترى.
(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي رويت ذبالته (فتيلته) بزيت شجرة زيتونة كثيرة المنافع، زرعت على جبل عال أو صحراء واسعة، فهى ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها، فزيتها أشد ما يكون صفاء.
فقوله: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا شرقية فحسب، ولا غربية فحسب، بل هى شرقية غربية تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر أحيانا ويقيم أخرى.(18/107)
(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي هو لصفائه وبريقه ولمعانه كأنه يضىء بنفسه دون أن تمسه النار، لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رئى من بعد يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء- كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد نورا على نور وهدى على هدى.
قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له، لموافقته إياه، وهو المراد من
قوله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» .
(نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هو نور مترادف متضاعف، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوّى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة.
ذاك أن المصباح إذا كان فى مكان ضيق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر، والقنديل أعون شىء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفؤه.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يوفّق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق بالنظر والتدبر وتوجيه الفكر لسلوك طريق الجادّة الموصلة إليه، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى سواء لديه جنح الليل الدّامس، وضحوة النهار الشامس. وعن على رضى الله عنه: «الله نور السماوات والأرض، ونشر فيهما الحق وبثه، فأضاء بنوره» .
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي ويسوق الله الأمثال للناس فى تضاعيف هدايتهم بحسب ما تدعو إليه حالهم، لما فيها من الفوائد فى النصح والإرشاد، إذ بها تتفتّق الأذهان للوصول إلى الحق، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها وتدين بها، ولأمر ما كثرت فى القرآن الكريم، فقلّما ساق حجاجا أو أقام دليلا إلا أردفه بالمثل، ليكون أدعى إلى الإقناع، وأرحى للاقتناع.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعطى هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم،(18/108)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
واستعدّوا لتلقى أحكام الدين وآدابه وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى بحسب اختلاف أحوال عباده، لتقوم له الحجة عليهم.
وفى هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها، ووعيد وإنذار لمن لم يتفكر فيها ولم يكترث بها، فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدى لطريقه.
وخلاصة ذلك ما قاله ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه فى قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضىء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءا على ضوء- يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد هدى على هدى ونورا على نور.
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
تفسير المفردات
المراد بالبيوت: المساجد، وأذن: أمر، أن ترفع: أي أن تعظم وتطهّر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال، يسبح: أي ينزّه ويقدّس، الغدو والغداة: أول النهار، والآصال: واحدها أصيل وهو العشى: أي آخر النهار، تلهيهم: أي تشغلهم وتصرفهم، تجارة: أي نوع من هذه الصناعة، ولا بيع: أي فرد من أفراد البياعات وخصه بالذكر لأنه أدخل فى الإلهاء، وإقام الصلاة: أي إقامتها لمواقيتها، وإيتاء الزكاة:(18/109)
أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين، واليوم: هو يوم القيامة، وتتقلّب فيه القلوب والأبصار: أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر- جلّت آلاؤه- نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه- بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
الإيضاح
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي كمشكاة فى بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «المساجد بيوت الله فى الأرض، تضىء لأهل السماء كما تضىء النجوم لأهل الأرض» .
وعن عمرو بن ميمون قال: «أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها» .
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي ينزه الله ويقدسه فى أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجاراتهم عن ذكر ربهم وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، فما عندهم ينفد، وما عند الله باق، ويؤدون الصلاة فى مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس.
ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الآية. وقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» .(18/110)
ثم ذكر السبب فى شغل أنفسهم بالعبادة فقال:
(يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف ونحو الآية قوله: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» وقوله:
«إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» .
ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال:
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة- ليثيبهم الله على حسناتهم التي فعلوها، فرضها ونفلها، واجبها ومستحبها.
ونحو الآية قوله: «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» .
وفى قوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم.
(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يجزيهم بأحسن الأعمال، ويضاعف لهم ما يشاء كما قال: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» وقال: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ»
وقال صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
ثم نبه إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال:
(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفى به الحساب، فهم لما اجتهدوا فى الطاعة، وخافوا ربهم أشد الخوف- جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.(18/111)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
تفسير المفردات
السراب: ما يرى فى الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب ويحرى على وجه الأرض كأنه ماء، والقيعة والقاع: المنبسط من الأرض، والظمآن: شديد العطش، لجى: أي ذى لج (بالضم) واللجّ معظم الماء، والمراد بحر عميق الماء كثيره، يغشاه:
أي يغطيه، لم يكد يراها: أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم فى الدنيا يكونون فى نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفى الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم- أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون فى الآخرة فى أشد الخسران والبوار، وفى الدنيا فى ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) شبه الأعمال الصالحة التي يعملها من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن(18/112)
وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب فى العاقبة آمالهم ويلقون خلاف ما قدّروا- بالسراب يراه من اشتد به العطش فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغى، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا- هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة منجيّة لهم من بأس الله، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه، واحتاج إلى ما به يروى غلّته.
ثم بين شديد عقابه بقوله:
(وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه، وتحوّل ما كان يظنه نفعا عظيما إلى ضرر محقق وتجيئه الزبانية تعتله وتسوقه إلى جهنم وتسقيه الحمم والغساق.
ونحو الآية قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» .
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر.
وخلاصة ما سلف- إن الخيبة والخسران فى الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال فى الدنيا كصلة الأرحام، وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف ونحو ذلك. وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدو ووحدانيته مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد أوامه ورأى السراب فخاله ماء وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع يخفّى حنين.
هذه حالهم فى الآخرة، أما حالهم فى الدنيا فكما قال:
(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي ومثل أعمالهم التي عملت على غير هدى مثل ظلمات مترادفة فى بحر عميق ماؤه، بعيد غوره، يغطّيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب- فالظلمات هى أعمال الكافرين، والبحر اللجىّ قلوبهم التي غمرها الجهل، وتغشبتها الحيرة والضلالة، فلا تعقل ما فى السكون من(18/113)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
آيات، ولا تسمع عظة الناصحين، ولا تبصر حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض.
قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وقال ابن عباس: هى ظلمة قلبه وبصره وسمعه.
والخلاصة- إن الكافر لشدة إصراره على كفره تراكمت عليه الضلالات، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها، فقلبه مظلم فى صدر مظلم فى جسد مظلم.
(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، فإن البحر يكون مظلم القعر جدا بسبب غور الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كان فوق الماء سحاب يغطّى النجوم ويحجب أنوارها بلغت الظلمة حدا عظيما.
(إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي إذا أخرج الناظر يده، وهى أقرب ما يرى إليه، لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي ومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة فما له هداية من أحد.
ونحو الآية قوله: «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» وقوله: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» .
وخلاصة ذلك- من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه فهو فى ظلمة الباطل لا نور له.
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)(18/114)
تفسير المفردات
يسبح: أي ينزه ويقدس، صافات: أي باسطات أجنحتها فى الهواء، المصير: المرجع.
المعنى الجملي
لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة- أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة.
الإيضاح
(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم تعلم بالدليل أن الله ينزهه آنا فآنا فى ذاته وصفاته وأفعاله جميع ما فى السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيها تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات فى وجودها وبقائها دالة على وجود خالق لها متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص.
وخص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جرّاء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلّوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوّا كبيرا.
كما ذكر الطير مع دخولها فى جملة ما فى الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيها، ولاستقلالها ببديع الصنع وإنبائها عن كمال قدرة خالقها ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف فى الجو وتتحرك كيف تشاء، وإرشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا- حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد.(18/115)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي كل مصلّ منهم ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه، لا يخفى عليه شىء من أفعالهم طاعتها ومعصيتها، وعلمه محيط بها ومجازيهم عليها.
وقد يكون المعنى- إن كل مصلّ ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
انظر إلى النحل كيف تبنى بيوتها السداسية الأشكال التي لا يتمكن من بنائها فطاحل المهندسين إلا بدقيق الآلات، وإلى العنكبوت كيف تفعل الحيل اللطيفة لاصطياد الذباب، وإلى الدبّ يستلقى فى ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إن لله تعالى ملك السموات والأرض وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادا وإعداما بدءا وإعادة، وإليه وحده مصيركم ومعادكم، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا فى طاعته، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال.
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)(18/116)
تفسير المفردات
زجى: يسوق برفق وسهولة، يؤلف: أي يجمع بين أجزائه وقطعه، ركاما:
أي متراكما بعضه فوق بعض، الودق: المطر، من خلاله: أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم، واحدها خلل كجبال وجبل، من جبال: أي من قطع عظام تشبه الجبال، والسنا: الضوء، يذهب بالأبصار: أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده، وهو كقوله فى البقرة «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يقلب الله الليل والنهار: أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا فى قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد، لأولى الأبصار: أي لأهل العقول والبصائر.
الإيضاح
(3) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية الله وقدرته.
وخلاصتهما- انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب، ويسوقه الله بقدرته أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، فينزل المطر من فتوقه، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه، وإلى ما فى هذا السحاب من برق يضىء بشدة وسرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد، ففيه توليد النار من الماء.
وانظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن فى هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلّبا لا يشبهه شىء.
عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: يؤذينى(18/117)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» أخرجه البخاري ومسلم.
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
الإيضاح
(4) هذا هو رابع الأدلة على التوحيد، فقد استدل بأحوال السماء والأرض، وبالآثار العلوية، وهنا استدل بأحوال الحيوان فقال:
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي والله خلق كل حيوان يدبّ على الأرض من ماء هو جزء مادته.
وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد، لظهور احتياج الحيوان إليه، ولا سيما بعد كمال تركيبه، ولامتزاج الأجزاء الترابية به.
ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض فقال:
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والسمك وغيرهما من الزواحف، وسمى حركتها مشيا مع كونها تزحف زحفا، إشارة إلى كمال القدرة، وأنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشى.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش.
ولم يذكر سبحانه ما يمشى على أكثر من ذلك كالعناكب وغيرها من الحشرات، لدخوله فى قوله:
(يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر، مع الاختلاف فى الصور والأعضاء، والحركات والطبائع، والقوى والأفاعيل.(18/118)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء- لذو قدرة فلا يتعذر عليه شىء أراده.
وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات فى الأعضاء والقوى، ومقادير الأبدان والأعمال والأخلاق- لا بد أن يكون بتدبير مدبّر حكيم، مطلع على أحوالها وأسرار خلقها، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوا كبيرا
[سورة النور (24) : آية 46]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
المعنى الجملي
بعد أن ساق سبحانه ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية وأحوال الحيوان- ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون لا خفاء فيها.
الإيضاح
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي لقد أنزلنا عليك دلائل واضحات على طريق الحق والرشاد، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتى بصيرة نيرة، وفطرة سليمة، تضىء له الفكر حتى يسير على نهج الحق ويبتعد عن الغى والضلال، ومن ثم قال:
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي والله يرشد من يشاء إلى الطريق الذي لا عوج فيه، وهو إخلاص العبادة له وحده والإنابة إليه.
[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 54]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)(18/119)
تفسير المفردات
يتولى: أي يعرض، مذعنين: أي منقادين، مرض: أي فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، ارتابوا: أي شكّوا فى نبوّتك، يحيف: أي يجور، الظالمون:
أي الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم، ويخشى الله: أي فيما صدر منه من الذنوب فى الماضي، ويتقه: أي فيما بقي من عمره، جهد أيمانهم: أي أقصى غايتها من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ أفصى وسعها وطاقتها، تولوا: أي تتولوا (بحذف إحدى التاءين) .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتمّ بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون(18/120)
الذين يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم، فيقولون: آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون صد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بيّن بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدّعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول فى كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبّوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والإيمان لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم: أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علىّ التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتمونى اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية فى بشر المنافق دعاه يهودى فى خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم لليهودى فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال نتحاكم إلى عمر رضى الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي: قضى لى النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال بلى، فقال مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضى الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ويقول هؤلاء المنافقون: صدّقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن فى قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.(18/121)
وخلاصة ذلك- لا يدخل فى زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله والرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة وينحاز إلى غير المؤمنين.
ثم بين هذا التولّى بقوله:
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي وإذا دعى هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله- أعرضوا عن قبول الحق واستكبروا عن اتباع حكمه، لأنه لا يحكم إلا بالحق.
ونحو الآية قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» .
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا إلى الرسول مطيعين، لعلهم بأنه يحكم لهم، لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جرّاء هذا لما خالف الحقّ قصدهم عدلوا عنه إلى غيره.
ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب فى عدولهم عن قبول حكمه صلّى الله عليه وسلّم بقوله:
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟) أي أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق؟ أم سببه أنهم ارتابوا وشكّوا فى نبوته عليه السلام على ظهور أمرها؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم فى الحكم؟
وخلاصة ذلك- لا يخرج أمرهم عن أن يكون فى القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك فى الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.(18/122)
ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال:
(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما فى قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أحبّوا وكرهوا، والتسليم لقضائه.
وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق بين صفات المؤمن الكامل فقال:
(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ينبغى أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم الله ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم- سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف.
وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز فقال:
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، ويخش الله فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي، ويتقه فى مستأنف أموره، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة، والآمنون من عذابه.
ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله:
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ)
أي وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها- لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ليلبّنّ الطلب وليخرجنّ كما أمرت.
والخلاصة- إنهم أغلظوا الأيمان وشددوها فى أن يكونوا طوع أمرك ورهن اشارتك وقالوا: أينما تكن نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوّه بهذه الأيمان الفاجرة وأمره أن يقول لهم:(18/123)
(قُلْ لا تُقْسِمُوا)
أي قل لهم: لا تحلفوا، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه.
ثم علل النهى عن الحلف بقوله:
(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)
أي لا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا، فهى طاعة باللسان فحسب من غير مواطأة القلب لها، ولا يجهلها أحد من الناس.
ونحو الآية قوله: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وقوله: «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .
ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة، ولا سيما ذلك النفق المفضوح فقال:
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
أي إنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبّرتموها.
ولما نبه سبحانه إلى خداعهم وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم- أمر بترغيبهم وترهيهم مشيرا إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي مرهم باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وفى هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها فى شىء.
ثم أكد الأمر السابق، وبالغ فى إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها، فما ضررتم الرسول بشىء، بل ضررتم أنفسكم، لأنه عليه(18/124)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتولّيتم فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم.
(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه- تهتدوا إلى الحق الموصّل إلى كل خير، المنجّى من كل شر، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلّغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم فى الهلكة.
والخلاصة- إن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقي ما يجب عليكم أن تفعلوه.
ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» .
[سورة النور (24) : آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
المعنى الجملي
بعد أن بيّن أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم- أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله خلفاء فى الأرض، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا، فيعبدون الله وحده وهم آمنون، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه، وكفر أنعمه.(18/125)
روى الطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبىّ بن كعب قال: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا فى السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟» فنزلت الآية.
الإيضاح
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم- ليورثنّهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها، كما استخلف بنى إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها.
وقد وفى سبحانه بوعده، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس فى مصر، والنجاشي ملك الحبشة.
ولما قبض صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون، فنهحوا منهجه، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق
قول رسوله «إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» .
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليجعلنّ دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم، ويعظم أهله فى نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار فى التدبير لإطفاء أنواره، لتعفو آثاره.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليغيرنّ حالهم من الخوف إلى الأمن
قال الربيع من أنس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال(18/126)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله: أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة، فأنزل الله «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا»
إلى آخر الآية.
ونحو الآية قوله: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين وما بعده بقوله:
(يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي يعبدوننى غير خائفين أحدا غيرى:
(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها، وتناسوا جليل خطرها.
[سورة النور (24) : الآيات 56 الى 57]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
تفسير المفردات
معجزين فى الأرض: أي جاعلين الله عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم وإن هربوا فى الأرض جميعها.(18/127)
المعنى الجملي
بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم فى الأرض، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا- أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، شكرا له على ما أنعم به عليهم، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار، وبئس القرار.
الإيضاح
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله فى مواقيتها ولا تضيعوها، وآتوا الزكاة التي فرضها على أهلها، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوى البؤس والحاجة، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه.
ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال، ولا يجدون مهربا مما أوعدهم به ربهم فقال:
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أيها الرسول لا تضّنّ الكافرين يجدون مهربا فى الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا، والكلام من وادي قولهم: (اسمعي يا جاره) .
وبعدئذ بين مآلهم فى الآخرة فقال:
(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي كما أنا سنضيّق عليهم فى الدنيا وننكّل بهم، ولا يفلتون من عذابنا- سنجعل عاقبة أمرهم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى.(18/128)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
والخلاصة- إنه سيلحقهم سخطنا فى الدنيا، وسينالهم الذل والصغار، وسيكون مصيرهم فى الآخرة سعيرا وحميما وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كذبوا بآياتنا كذابا.
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
تفسير المفردات
ما ملكت أيمانكم: يشمل العبيد والإماء أي الذكران والإناث، الحلم: بسكون اللام وضمها أي وقت البلوغ إما بالاحتلام، وإما ببلوغ الخامسة عشرة سنة من حلم بفتح اللام، تضعون: أي تخلعون، الظهيرة: وقت اشتداد الحرّ حين منتصف النهار، والعورات: أي الأوقات التي يختل فيها تستركم، من قولهم: أعور الفارس: إذا اختلت حاله. جناح: أي إثم وذنب، طوافون عليكم: أي يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية، القواعد: واحدها قاعد، وهى العجوز، لا يرجون نكاحا: أي لا يطمعن فيه لكبر سنهن، والتبرج: التكلف فى إظهار ما يخفى من الزينة، من قولهم: سفينة بارج، إذا كان لا غطاء عليها.(18/129)
المعنى الجملي
بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب فى البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن فى ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا لما لذلك من كبير الأثر فى المجتمع الإسلامى، بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب.
استثنى فى هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، وبين أن الاستئذان لا يكون فى جميع الأوقات، بل فى ثلاث أوقات هى عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ فى الستر، ثم ذكر أن النساء الطاعنات فى السن إذا لم يطمعن فى الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
روى أن سبب نزول الآية «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضى الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان عمر نائما فدقّ عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس، فانكشف منه شىء، فقال: لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجد الآية قد نزلت فخرّ ساجدا»
وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضى الله عنه للوحى.
وقيل إن السبب ما روى من أن أسماء بنت أبى مرشد دخل عليها غلام كبير لها فى وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ(18/130)
الْعِشاءِ)
أي لا يدخل أيها المؤمنون فى بيوتكم عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات فى ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن: قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم وليس ثياب اليقظة، وكل ذلك مظنة انكشاف العورة، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم.
وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف.
وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم.
ثم علل طلب الاستئذان بقوله:
(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم يختل فيها التستر عادة.
وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث بين حكم ما عدا ذلك فقال:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس عليكم معشر- أرباب البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم- حرج ولا إثم فى غير هذه العورات الثلاث.
والخلاصة- لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث- أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
ثم علل الإباحة فى غيرها بقوله:
(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم فى منازلهم غدوة وعشية بغير إذن، لأنهم يخدمونهم، أو لاحتياج الأقارب إليهم، كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوى قرابتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.(18/131)
ثم بين فضله على عباده فى بيان أحكام دينهم لهم فقال:
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه، والله عليم بما يصلح أحوال عباده، حكيم فى تدبير أمورهم، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم فى المعاش والمعاد.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» الآية، وقوله فى النساء:
«وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى» الآية، وقوله فى الحجرات: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .
وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان فى العورات الثلاث التي أمر الله بها فى القرآن فقال: إن الله ستّير يحب الستر، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال فى بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه فى حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا فى تلك العورات، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الجبال فرأوا أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به اه.
ولما بين الله حكم الأرقاء والصبيان الذين هم أطوع للأمر وأقبل لكل خير- أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله:
(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وإذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم الأحرار سنّ الاحتلام وهو خمس عشرة سنة فلا يدخلوا عليكم فى كل حين إلا بإذن لا فى أوقات العورات الثلاث ولا فى غيرها، كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وذكر الله فى هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال- لأن حكم ما ملكت اليمين وحد كبارهم، صغارهم، وهو الاستئذان فى الساعات الثلاث التي ذكرت فى الآية قبل(18/132)
ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله:
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي كما بين لكم ما ذكر غاية البيان، يبين لكم ما فيه سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم، وهو العليم بأحوال خلقه، الحكيم فيما يدبر لهم.
ولما بين سبحانه حكم الحجاب حين إقبال الشباب أتبعه بحكمه حين إدباره فقال:
(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي والنّساء اللواتى قعدن عن الولد كبرا، وقد يئسن من التبعل فلا يطمعن فى الأزواج، فليس عليهن إثم ولا حرج أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار إذا كنّ لا يبدين زينة خفية كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء.
وخلاصة ذلك- لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن فى بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب، ما لم يقصدن بذلك الزينة وإظهار ما يجب إخفاؤه- هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمال تورث الشهوة، فإن كان فيهن ذلك فلا يدخلن فى حكم الآية.
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فلبسنها كان ذلك خيرا لهن من خلعها، لتباعدهن حينئذ عن التّهمة، ولقد قالوا:
لكل ساقطة فى الحىّ لاقطة.
ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال:
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع بما يجرى بينهن وبين الرجال من الأحاديث، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن، فاحذروا أن يسوّل لكم الشيطان مخالفة ما به أمر، وعنه نهى.(18/133)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
تفسير المفردات
الحرج لغة: الضيق، ويراد به فى الدين الإثم، ما ملكتم مفاتحه: أي ما كان تحت تصرفكم من بستان أو ماشية بطريق الوكالة أو الحفظ، والصديق: يطلق على الواحد والجمع كالخليط والعدو، جميعا: أي مجتمعين، أشتاتا: أي متفرقين، واحدهم شتيت، على أنفسكم: أي على أهل البيوت، طيّبة: أي تطيب بها نفس المستمع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن للمماليك والصبيان الدخول فى البيوت فى غير العورات الثلاث بلا استئذان ولا إذن من أهل البيت- ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة فى تركهم للجهاد وما يشبهه، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه صلّى الله عليه وسلم فلهم القعود من غير استئذان ولا إذن، كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم فى الأكل من البيوت المذكورة فى الآية.(18/134)
قال صاحب الكشاف: والكلام على هذا التفسير صحيح لالتقاء الطائفتين فى أن كلا منهما منفى عنه الحرج، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار فى رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاجّ أن تقدّم الحلق على النحر اه.
قال الحسن: أنزلت الآية فى ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد وكان أعمى.
وقال مقاتل: نزلت فى الحارث بن عمرو، وكان قد خرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غازيا وخلف مالك بن يزيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك.
الإيضاح
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم فى ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم: قاله عطاء وزيد بن أسلم.
ونحو الآية قوله فى سورة براءة: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد من الحرج المنفي فى الآية الحرج فى الأكل ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى على هذه الرواية: ليس فى مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج.
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، ويشمل ذلك بيوت الأولاد، لأن بيت الولد كبيته
لقوله صلّى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك»
وقوله «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه»
.(18/135)
وفائدة ذكر قوله: (عَلى أَنْفُسِكُمْ) الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن، فقد كثر إقحام (النفس) فى ذوى القدر كقوله:
«كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» ولم يقل: كتب ربكم عليه الرحمة، وقوله
فى الحديث القدسي «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى»
ولم يقل: حرمت الظلم علىّ وذكر هذا الحكم وهو معلوم، ليعطف عليه غيره فى اللفظ، وليساويه ما بعده فى الحكم.
(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدّخر، وهذا إذا لم يجعل له أجرا على ذلك، فإن جعل له أجرا فلا يحل له أكل شىء منها.
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت أصدقائكم الذين يصدقونكم المودة وتصدقونهم، هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن أو بشاهد الحال، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إذا وجد الإذن.
قال ابن زيد: هذا شىء قد انقطع، إنما كان فى أوّله ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغ له أن يأكل منه، ثم قال ذهب ذلك اليوم، البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا اه.
وعلى هذا، فالمعنى يجوز الأكل من بيوت هؤلاء وإن لم يحضروا إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة.
وإنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم اعتادوا التبسط بينهم، والرضا فيهم محقق غالبا(18/136)
وعن جعفر الصادق رضى الله عنه. من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ.
وقيل لأفلاطون: من أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال لا أحب أخى إلا إذا كان صديقى، ولكن أنّى هو؟ فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت مانلت حتى الخلافة، وأعوزنى صديق لا أحتشم منه.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، روى عن ابن عباس والضحاك وقتادة أنها نزلت فى بنى ليث ابن عمرو بن كنانة تحرّجوا أن يأكلوا طعامهم متفرقين، وكان الرجل منهم يمكث طوال يومه لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله إلى الرواح، وقد تكون معه الإبل الحفّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، وفى مثل هذا يقول حاتم:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسى له ... أكيلا فإنى لست آكله وحدي
وفى الحديث: «شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده»
وإنما ذمّ هذا لأنه بخل بالقرى.
ثم شرع سبحانه يبين ما ينبغى رعايته حين دخول البيوت بعد أن ذكر الرخصة.
فيه فقال:
(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض.
وفى التعبير عن أهل تلك البيوتات (بأنفسكم) إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت، وأنه إنما كان لأن الداخل فيها كأنه داخل فى بيته، لما بينهما من قرابة أو نحوها.(18/137)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي حيّوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع.
وعن جابر بن عبد الله قال: «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة» أخرجه البخاري وغيره.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: أوصانى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخمس خصال قال: «يا أنس أسبغ الوضوء يزد فى عمرك، وسلّم على من لقيك من أمتى تكثر حسناتك، وإذا دخلت (يعنى بيتك) فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوّابين قبلك، يا أنس، ارحم الصغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائى يوم القيامة» .
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم، كما فصّل لكم فى هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكى تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون بسعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(18/138)
تفسير المفردات
أمر جامع: أي خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء كقتال عدو أو تشاور فى حادث قد عرض، والتسلل: الخروج من البيت تدريجا وخفية، واللواد والملاوذة: التستر، يقال لاذ فلان بكذا، إذا استتر به، والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله، فتنة: أي بلاء وامتحان فى الدنيا، عذاب أليم: أي عذاب مؤلم موجع فى الآخرة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كتشاور فى قتال أحد أو فى حادث عرض، وبيّن أن من يفعل ذلك فهو من كاملى الإيمان، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجّلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبى الله، ويا رسول الله، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان،
وقد ثبت فى الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
الإيضاح
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله،(18/139)
وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور فى أمر قد نزل، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له حتى يستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا أدب على نهج سابقه، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان حين الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع،
روى الترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» .
ولما كان الإذن كالدليل على كمال الإيمان والمميّز للمخلص من غيره أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك أيها الرسول في أمر جامع إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عنده- أولئك هم المؤمنون حقا.
ولما ذكر ما يلزم المؤمن من الاستئذان أعقبه بما يفعله الرسول حينئذ فقال:
(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أي فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهامّ أمورهم فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له، بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر رضى الله عنه حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلّم فى غزوة تبوك، حيث استأذن فى الرجوع إلى أهله فأذن له صلّى الله عليه وسلّم
وقال له: ارجع فلست بمنافق.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وادع الله أن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم، إنه غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.(18/140)
وفى هذا إيماء إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر قوى- فيه بعض الملامة لما فيه من تقديم شئون الدنيا على أمور الآخرة، كما أن فيه احتفالا برسوله صلّى الله عليه وسلّم إذ جعل الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا إلى الاستغفار، فضلا عن الذهاب بلا إذن، ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان لأى أمر مهما كان، مهمّا كان أو غير مهمّ، على أنه علق الإذن بالمشيئة.
وبعد أن ظهر فى هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما فى هذه الآية التي بهرت العقول- أردف هذا ما يؤكده فقال:
(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تقيسوا أيها المؤمنون دعاءه عليه السلام إياكم بدعاء بعضكم بعضا فى المساهلة والرجوع من مجلسه بغير ستئذان، فإن هذا محرم عليكم.
ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان فقال:
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد فى الخطبة واحدا بعد واحد من غير استئذان خفية مستترين بشىء، وإن عملهم هذا إن خفى على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون.
روى أبو داود أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس فى المسجد فإذا استأذن أحد من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به فأنزل الله الآية.
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فليتق الله من يفعلون ذلك منكم، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه، أن تصيبهم محنة وبلاء فى الدنيا أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع فى الآخرة، بأن يطبع الله على قلوبهم، فيتمادوا فى العصيان ومخالفة أمر الرسول، فيدخلهم النار وبئس القرار.(18/141)
والآية تعم كل من خالف أمر الله وأمر رسوله وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب من الخطأ.
وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السموات والأرض، ثم حذر كل مخالف لرسوله صلى الله عليه وسلّم- ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها، خلقا وملكا، وتصرفا وإيجادا، وإعداما بدءا وإعادة، فقال:
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وإنه عالم بما يعمل العباد كما قال: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقال تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ؟» .
ثم هدّد وتوعد فقال:
(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم حين العرض والحساب يخبرهم بما فعلوا فى الدنيا من جليل وحقير، وكبير وصغير كما قال:
«يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ»
وقال: «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» وبعدئذ ذكر ما هو كالدليل على ما سلف بقوله:
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه سينبئهم بما عملوا فى حياتهم الأولى، لأنه ذو علم بكل شىء وإحاطة به وهو موف كل عامل أجر عمله، يوم يرجعون إلى حكمه، إذ لا حكم يومئذ إلا هو.(18/142)
عن عقبة بن عامر قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية فى خاتمة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول بكل شىء بصير» أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي بسند حسن.
وصلّ ربنا على محمد النبي الأمى وعلى آله.
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) عقوبة الزاني والزانية.
(2) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات.
(3) حكم قذف الزوجات.
(4) قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة.
(5) آداب الزيارة.
(6) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج.
(7) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ.
(8) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء، فالمجتمع الإسلامى كأنه أسرة واحدة.
(9) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه الله.
(10) بيان أن الأعمال الصالحة التي يعملها الكافرون فى الدنيا لا تجدى عنهم نفعا يوم القيامة، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (11) الأدلة التي نصبها الله فى الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته.
(12) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
(13) وصف المؤمنين الصادقين.(18/143)
(14) وعد الله عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم فى الأرض وينشر دينهم الذي ارتضى لهم.
(15) استئذان الموالي والأطفال فى أوقات ثلاث إذا أرادوا الدخول على أهليهم (16) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فى الجهاد.
(17) لا حرج فى الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن.
(18) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كانوا معه فى أمر جامع.
(19) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب.
(20) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض.(18/144)
سورة الفرقان
هى مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهى 68، 69، 70، وآيها سبع وسبعون نزلت بعد سورة يس.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه سبحانه اختتم السورة السابقة بكونه مالكا لما فى السموات والأرض مصرّفا له على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة مع النظام البديع والوضع الأنيق، وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرا كان أو شرا، وافتتح هذه بما يدل على تعاليه فى ذاته وصفاته وأفعاله وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديا وسراجا منيرا.
(2) اختتم السورة السالفة بوجوب متابعة المؤمنين للرسول صلّى الله عليه وسلم مع مدحهم على ذلك وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة والعذاب الأليم، وافتتح هذه بمدح الرسول وإنزال الكتاب عليه لإرشادهم إلى سبيل الرشاد، وذمّ الجاحدين لنبوته بقولهم: إنه رجل مسحور، وإنه يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق إلى آخر ما قالوا.
(3) فى كل من السورتين وصف السحاب وإنزال الأمطار وإحياء الأرض الجرز فقال فى السالفة: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» إلخ وقال فى هذه: «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً» إلخ.
(4) ذكر فى كل منهما وصف أعمال الكافرين يوم القيامة وأنها لا تجزيهم فتيلا ولا قطميرا فقال فى الأولى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» إلخ وقال فى هذه:
«وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» .
(5) وصف النشأة الأولى للإنسان فى أثنائهما فقال فى الأولى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وفى الثانية: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً»(18/145)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
تفسير المفردات
تبارك: من البركة، وهى كثرة الخير لعباده، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم كما قال «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» والفرقان: هو القرآن، سمى بذلك لأنه فرّق فى الإنزال كما قال: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» على عبده:
أي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفه بذلك تشريفا له بكونه فى أقصى مراتب العبودية، وتنبيها إلى أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل، وفيه ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام، للعالمين: أي الثقلين من الإنس والجن، فقدره: أي هيّأه لما أعدّه له من الخصائص والأفعال.
المعنى الجملي
حوت هذه السورة توحيد الله وإثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وبيان صفات النبي، والرد على من أنكروا نبوته صلّى الله عليه وسلم، ثم بيان أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من الأهوال، ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين الذين يمشون على الأرض هوبا، ثم ذكر جلال الله، وتصرفه فى خلقه، وتفرده بالخلق والتقدير.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) حمد سبحانه نفسه على ما نزّله على رسوله من القرآن الكريم، لينذر به الثقلين الجن والإنس ويخوفهم(18/146)
بأسه، وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير مع أن الرسول مرسل بهما، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين المتخذين لله ولدا والطاعنين فى كتبه ورسله واليوم الآخر.
وخلاصة ذلك- تعالى الله عما سواه فى ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلوّ شأنه، وسمو صفاته، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح، على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم، لينذر به الناس ويخوفهم بأسه، ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم.
ونحو الآية قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» .
ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء:
(1) (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان القاهر عليهما، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
(2) (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي ولم يكن له ولد كما زعم الذين قالوا ذلك للمسيح وعزير والملائكة، كما حكى الله عنهم فى قوله: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» وقوله: «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟» (3) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي وما كان لله شريك فى ملكه وسلطانه يصلح أن يعبد من دونه، فأفر دواله العبادة وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس.
وفى هذا ردّ على مشركى العرب الذين كانوا يقولون فى تلبيتهم للحج: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» .(18/147)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
(4) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي وأوجد كل شىء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة، وهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال التي تليق به، فأعدّ الإنسان للإدراك والفهم، والتدبر فى أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصناعات المختلفة، والانتفاع بما فى ظاهر الأرض وباطنها، وأعدّ صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها وبإدراكها.
والخلاصة- إن كل شىء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شىء وربه ومليكه وإلهه، وكل شىء تحت قهره، وتسخيره وتقديره، ومن كان كذلك فكيف يخطر بالبال أو يدور فى الخلد كونه سبحانه والدا له أو شريكا له فى ملكه كما قال:
«بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟» الآية.
[سورة الفرقان (25) : آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
الإيضاح
بعد أن وصف سبحانه نفسه بصفات العزة والجلال، وبيّن وجه الحق فى ذلك أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان الذين اتخذوا من دونه آلهة، تعجيبا لأولى النّهى من حالهم، وتنبيها إلى خطأ أفعالهم، وتسفيها لأحلامهم، فقد انحرفوا عن منهج الحق وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آفن الرأى، مسلوب العقل.
وقد أبان سبحانه ما بها من النقص من وجوه متعددة:
(1) إنها لا تخلق شيئا، والإله يكون قادرا على الخلق والإيجاد.
(2) إنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه.(18/148)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
(3) إنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان كذلك فلا فائدة فى عبادته وإجلاله وتعظيمه.
(4) إنها لا تقدر على التصرف فى شىء ما، فلا تستطيع إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم، ومن كان كذلك فكيف يسمى إلها، وتعطى له خصائص الآلهة من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله؟.
وعلى الجملة فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق المالك لكل شىء، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه، وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وليس بعد هذا من حماقة، ولا يرضى بمثله من له مسكة من عقل، ولا أثارة من علم.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
تفسير المفردات
الافتراء: الاختلاق والكذب، من قولهم: افتريت الأديم- الجلد- إذا قطّعته للإفساد، جاءوا: أي أتوا، والظلم: وضع الشيء فى غير موضعه، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى من كان مبرأ منه، والزور: الكذب، والأساطير: واحدها أسطار أو أسطورة كأحدوثة، وهو ما سطّره المتقدمون، اكتتبها: أي أمر بكتابتها، تملى عليه: أي تلقى عليه بعد اكتتابها ليحفظها، بكرة وأصيلا: أي صباحا ومساء، والمراد دائما.(18/149)
المعنى الجملي
بعد أن تكلم أوّلا فى التوحيد، ثم فى الرد على عبدة الأوثان- أردف ذلك الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد قسموا مطاعنهم قسمين:
مطاعن فى القرآن، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن.
روى أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحرث إذ هو الذي قال هذه المقالة، وعنى بالقوم الآخرين عدّاسا مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسارا مولى العلاء بن الحضرمي، وأبا فكيهة الرومي، وكانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة ويحدّثون أحاديث منها، فأسلموا، وكان النبي يتعهدهم ويختلف إليهم، فمن ثم قال النضر ما قال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال الكافرون: إن هذا القرآن ليس من عند الله، بل اختلقه محمد، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب ممن أسلموا، وكان يتعهدهم ويختلف إليهم: «تقدم ذكر أسمائهم» فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة، وهو يصوغها بلغته وأسلوبه الخاص.
فرد الله عليهم مقالهم فقال:
(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد وضعوا الأشياء فى غير مواضعها، وكذبوا على ربهم، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- إفكا مفترى من قبل البشر، وكيف يتقوّلون ذلك على الرسول وقد تحداهم أن يأتوا بمثله، وهم ذوو اللسن والفصاحة والغاية فى البلاغة، فعجزوا أن يأتوا بمثله، ولو كان ذلك فى مكنتهم ما ادّخروا وسعا فى معارضته، وقد ركبوا الصعب والذلول ليدحضوا حجته، ويبطلوا دعوته، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد استعان فى ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا هم بغيرهم، فما مثله فى اللغة إلا مثلهم فلما(18/150)
لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز- إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.
وبعد أن حكى عنهم قولهم فى الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه- حكى عنهم طريق تلك الإعانة.
(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى: أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها فى كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار- اكتتبها من اليهود فهى تستنسخ منهم وتقرأ عليه، ليحفظها غدوة وعشيا: أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما.
ثم أمره الله تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله:
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق:
ليس ذلك كما تزعمون، بل هو أمر سماوى أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة، وأمور مكنونة، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير.
وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية، فالجلية المعلومة من باب أولى، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر.
(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم، ولولا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.(18/151)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
وفى هذا إيماء إلى أن هذه الذنوب مع بلوغها الغاية فى العظم- مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها، فلا ييأسوا منها بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من معاداة الرسول ومخاصمته.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
تفسير المفردات
مسحورا: أي سحر فاختلّ عقله، الأمثال: أي الأقاويل العجيبة الجارية لغرابتها مجرى الأمثال، فضلوا: أي فبقوا متحيرين فى ضلالهم، أعتدنا: أي هيأنا والسعير: النار الشديدة الاشتعال، رأتهم: أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد، من قولهم: دور تتراءى أي تتناظر، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المؤمن والكافر(18/152)
لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك فى أمور الدين، والتغيظ: إظهار الغيظ، والمراد صوت التغيظ، والزفير: إخراج النفس بعد مده، مقرنين: أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى السلاسل، والثبور: الهلاك، وجنة الخلد: هى التي لا ينقطع نعيمها، مسئولا:
أي جديرا أن يسأل ويطلب، لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه شبهتهم فيما يتعلق بالمنزّل وهو القرآن- ساق شبهتهم فى المنزّل عليه، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره ثم فنّد تلك الشبه وبين سخفها وأنها لا تصلح مطعنا فى النبي، ثم حكى عنهم نوعا ثالثا من أباطيلهم وهو تكذيبهم بيوم القيامة، ثم وصف ما أعد للكافرين فيه مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى يسمعون لها تغيظا وزفيرا، ووضعهم فيها مقرنين فى الأصفاد، وندائهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه، ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم بوصف ما يلقاه المتقون فى جنات النعيم: مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده.
الإيضاح
حكى الله هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبى تمنع النبوة فى زعمهم:
(1) (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ؟) أي أىّ شىء ميّزه عنا وجعله يدعي النبوة مع أنه يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب؟
(2) (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لابتغاء الرزق كما نفعل فهو مثلنا، فمن أين له الفضل علينا؟ وهم يقصدون بذلك استبعاد الرسالة عنه، لمنافاتها للأكل والشرب وطلب المعاش، وكأنهم قالوا: إن صح ما يدعيه، فما باله لم يخالف حاله حالنا ولم يؤت ميزة دوننا؟(18/153)
وما هذا منهم إلا لضعف عقولهم وقصور إدراكهم، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية، بل بصفات روحية، وفضائل نفسية، فطرهم الله عليها توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» .
(3) (لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي فهلا أنزل إليه ملك من عند الله يكون شاهدا على صدق ما يدعيه، ويردّ على من يخالفه، وشبيه بهذا ما قال فرعون عن موسى: «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» .
(4) (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي وهلا أنزل عليه كنز من السماء ينفق منه حتى لا يحتاج إلى المشي فى الأسواق لطلب المعاش.
(5) (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي وهلا كان له بستان يعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس.
قال صاحب الكشاف: إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكا، ثم زلوا عن ملكيّته إلى صحبة ملك يعينه، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه اه.
وعن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبى أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن(18/154)
نسودّك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني إليكم رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه علىّ أصبر حتى يحكم الله بينى وبينكم، قالوا يا محمد:
فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فسل لربك، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله فى ذلك هذه الآية.
أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر.
وبعد أن حكى عنهم أوّلا أنهم يثبتون له كمال العقل ولكنهم ينتقصونه بصفات فى شئون الدنيا- حكى عنهم ثانيا أنهم نفوا عنه العقل بتاتا وادّعوا أنه مختلّ الشعور والإدراك، وإلى هذا أشار بقوله:
(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي وقال الكافرون الظالمون لأنفسهم بنسبتهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما هو منه براء، وما يدل العقل والمشاهد على نفيه عنه: ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلّ عقله فهو لا يعى ما يقول، ومثله لا يطاع له رأى، وهذا منهم ترقّ فى انتقاصه، وأنه لا يصلح للنبوة بحال.
ولما ذكر ضلالاتهم التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم مسليا له بقوله:
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي انظر واعجب لهم: كيف جرءوا على التفوّه بتلك الأقاويل العجيبة، فاخترعوا لك صفات وأحوالا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها، فضلوا بذلك عن طريق الهدى(18/155)
وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون ولا ما يقدحون به فى نبوتك إلا مثل ذلك السّخف والهذر.
والخلاصة- إن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحا فى نبوتك ولا مطعنا فيك، فإن كان لهم مطعن فى المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا، ولكن أنّى لهم ذلك؟
ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله:
(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي كثر خير ربك، فإن شاء وهب لك فى الدنيا خيرا مما اقترحوا فإن أراد جعل لك فى الدنيا مثل ما وعدك به فى الآخرة، فأعطاك جنات تجرى من تحتها الأنهار، وآتاك القصور الشامخة والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالا وأعزهم نفرا، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنه أراد أن يكون عطاؤه لك فى الدار الباقية الدائمة، لا فى الدار الزائلة للفانية، وإنما كانت مما ذكروا: لكثرتها وجريلن الأنهار من تحت أشجارها وبناء المساكن الرفيعة فيها، والعرب تسمى كل بيت مشيد قصرا.
ثم انتقل من ذلك إلى كلامهم فى البعث وأمر الساعة مبينا بذلك السبب فى عدم تصديقهم برسوله فقال:
(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق، وتقوّلوا عليك ما تقوّلوا، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث، ولا يصدقون بالثواب والعقاب.
والخلاصة- إنهم أتوا بأعجب من هذا كله، وهو تكذيبهم بالساعة، ومن ثمّ فهم لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها.
ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان فقال:
(وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً(18/156)
وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)
أي إنا أعددنا لمن كذب بالبعث والحشر، والنشر والحساب والجزاء نارا تسعر وتتقد عليهم، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ لشدة توقدها، وصوت الزفير الذي يخرج من فم الحزين المتهالك حسرة وألما.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال «إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبىّ مرسل إلا ترعد فرائصه، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه فيقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسى» .
وإذا ألقوا منها فى مكان ضيق قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى الأغلال والسلاسل، استغاثوا وقالوا يا ثبوراه: أي باهلاكنا احضر فهذا وقتك، فيقال لهم:
لا تنادوا هلاكا واحدا وادعوا هلاكا كثيرا: أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحدا، إنما ثبوركم منه كثير، لأن العذاب ألوان وأنواع، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته.
وخلاصة ذلك- إن الله قد أعدّ لمن كذب بالقيامة نارا مستعرة، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد سمعوا صوت غليانها، وإذا طرحوا منها فى مكان ضيق وهم مقرنون فى السلاسل والأغلال تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل: (أشد من الموت ما يتمنى معه الموت) فيقال لهم حينئذ: لا تدعوا هلاكا واحدا فإنه لا يخلّصكم، بل اطلبوا هلاكا كثيرا لتخلصوا به- والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علّقوا به أطماعهم من الهلاك، وتنبيه إلى أن عذابهم أبدى لاخلاص لهم منه.
وبعد أن وصف عقاب المكذبين بالساعة، أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال:
(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ؟) أي قل لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم على مافاتهم: أهذه النار التي وصفت لكم خير أم جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد، وقد وعدها من اتقاه فى الدنيا بطاعته فيما به أمره ونهاه؟(18/157)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
ثم حقق أمرها تأكيدا للبشارة بقوله:
(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي كانت هذه الجنة لهم جزاء أعمالهم فى الدنيا بطاعته، وثوابا لهم على تقواه، ومرجعا لهم ينتقلون إليه فى الآخرة.
ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله:
(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) أي لهم فى جنة الخلد ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهم فيها خالدون أبدا بلا انقطاع ولا زوال.
(كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) أي وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم حين سألوه بقولهم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ»
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
تفسير المفردات
ضل السبيل: فقده وخرج عنه، والذكر: ما ذكّر به الناس على ألسنة أنبيائهم، بورا: أي هالكين وهو لفظ يستوى فيه الواحد والجمع، صرفا: أي دفعا للعذاب، يظلم: أي يكفر.(18/158)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعدّ لأولئك المكذبين بيوم القيامة من الشدائد والأهوال فى النار ودعائهم على أنفسهم بالويل والثبور- أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون الله وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم، ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولا يجدون من يستنصرون به.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟) أي واذكر لقومك تخويفا وتحذيرا يوم يحشر عابدو الأصنام والملائكة عيسى وعزير وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله، ثم يقال لأولئك المعبودين: ء أنتم دعوتم عبادى إلى الغى والضلال حتى دسّوا أنفسهم وهلكوا، أم هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحق، وسلكوا سبيل الهلاك بإعراضهم عن اتباع الرسول؟ فأجاب المعبودون:
(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي قال المعبودون على طريق التعجب مما قيل لهم، لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال: تنزهت ربنا مما نسب إليك هؤلاء المشركون، ما كان يليق بنا ونحن لا نتخذ من دونك أولياء أن ندعو غيرنا إلى ذلك، ولكنك ربنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم نعمك ليعرفوا حقها ويشكروك، فاستغرقوا فى الشهوات، وانهمكوا فى اللذات وغفلوا عن ذكرك والإيمان بك، فكانوا من الهالكين، فحينئذ يقال لأولئك العابدين.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي فقد كذبكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم- فيما تقولون،(18/159)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
فما تستطيعون صرف العذاب عن أنفسكم ولا تجدون من ينصركم ويدفع عقاب الله عنكم والخلاصة- إنكم لا تستطيعون النجاة، لا بالهرب ولا بالانتصار لأنفسكم، فأنتم معذبون لا محالة.
ثم عمم سبحانه الحكم وخاطب جميع المكلفين فقال:
(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) أي ومن يكفر منكم أيها المكلفون فيعبد الله إلها غيره كهؤلاء الذين كذبوا بيوم القيامة- نذقه فى الآخرة عذابا كبيرا بقدر قدره، ولا تصل العقول إلى معرفة كنهه.
[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» زاعمين أن هذا مما لا ينبغى للرسول أن يفعل مثله- أردن ذلك الاحتجاج عليهم بأن محمدا ليس بدعا فى الرسل، فكلهم كانوا يفعلون فعله.
وفى هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتصبير له على أذاهم.
ثم بين أن سنته أن يبتلى بعض الناس بعض، فيبتلى الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، فيناصبوهم العداء وعودهم، ليعلم أيّهم يصبر وأيهم يجزع؟ وهو البصير بحال الصابرين وحال الجازعين(18/160)
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إن جميع من سبقك من الرسل كانوا يأكلون الطعام للتغذى به، ويمشون فى الأسواق للتكسب والتجارة، ولم يقل أحد إن ذلك نقص لهم يغضّ من كرامتهم ويزرى بهم، ولم يكن لهم امتياز عن سواهم فى هذا، وإنما امتازوا بصفاتهم الفاضلة، وخصائصهم السامية، وآدابهم العالية، وبما ظهر على أيديهم من خوارق العادات، وباهر المعجزات، مما يستدلّ به كل ذى لب سليم وبصيرة نافذة على صدق ما جاءوا به من عند ربهم- فمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل، إذ يأكل ويمشى فى الأسواق، وليس هذا بذم له ولا مطعن فى صدق رسالته كما تزعمون.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» وقوله: «وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» .
ثم سلى رسوله على قولهم: «أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» بقوله.
(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟) أي وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، فجعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرا وحرمناه من لذات الحياة ونعيمها، لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنى، والملك بصبره على ما أوتيه الرسول من الكرامة، وكيف يكون رضى كل منهم بما أعطى وقسم له، وطاعته ربه على حرمانه مما أعطى سواه- ومن جرّاء هذا لم أعط محمدا الدنيا وجعلته بمشى فى الأسواق يطلب المعاش، لأبتليكم وأختبر طاعتكم وإجابتكم إياه إلى ما دعاكم إليه وهو لم يرج منكم عرضا من أعراض الدنيا، ولو أعطيتها إياه لسارع كثير منكم إلى اتباعه، طمعا فى أن ينال شيئا من دنياه.(18/161)
والخلاصة- لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى حتى لا يخالفوا لفعلت، لكنى أردت أن أبتلى العباد بهم، وأبتليهم بالعباد، فينالهم منهم الأذى، ويناصبوهم العداء، فاصبروا على البلاء، فقد علمتم ما وعد الله به الصابرين.
(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي وربك أيها الرسول بصير بمن يجزع، وبمن يصبر على ما امتحن به من المحن، ويجازى كلا بما يستحق من عقاب أو ثواب.
روى مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «انظروا إلى أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هم فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» .
اللهم اجعلنا من الصابرين على أذى السفهاء، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا من لدنك قناعة وغنى نربأ بهما عما فى أيدى الناس، وثبت أقدامنا فى فهم كتابك، وبلغنا ما نرجوه من إرشاد عبادك بما نقدّم لهم من نور يهتدون به إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصل ربنا على محمد وآله.
ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، لثلاث خلون من صفر سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، ولله الحمد أولا وآخرا.(18/162)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 المؤمن المفلح هو الجامع لخصال سبع من خصال الخير 7 أطوار خلق الإنسان 9 قال عمر: وافقت ربى فى أربع إلخ 12 ما يحتاج إليه الإنسان فى معيشته 14 ما فى السماء من منافع للإنسان 15 النعم التي سخرها الله لنا من خلق الحيوان 16 قصص نوح عليه السلام مع قومه وما فيه من عبرة 21 قصص هود عليه السلام مع قومه 24 قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام 25 قصص موسى وهرون عليهما السلام 27 قصص عيسى عليه السلام إجمالا 28 الرسل جميعا أمروا أن يأكلوا من الحلال الطيب 29 فى الحديث: إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا 30 دين الأنبياء دين واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، واختلاف الشرائع لا يسمى اختلافا فى الدين 31 كثرة المال والبنين ليست كرامة من الله لعباده 32 صفات المسارعين فى الخيرات 35 لا يكلف العبد إلا بما فى وسعه وهو فى كتاب محفوظ عليه 38 المشركون فى عمى بين فى القرآن 39 لا ينفع المشركين يوم القيامة الصريح والعويل 40 الأسباب التي ركن إليها المشركون فى إنكارهم لهذا الدين 41 لو جاء التشريع بحسب الهوى لاختل نظام العالم 42 ما أنت أيها الرسول بطالب أجرا على هدايتهم 45 ما امتنّ به سبحانه على عباده 46 المشركون أنكروا البعث تقليدا لمن سبقهم 48 إثبات البعث ببرهانات ثلاثة 50 كذب المشركون فى ادعائهم اتخاذ الله للولد واتخاذ الشريك 51 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال 52 أمر الله رسوله أن يدعوه ألا يجعله قرينا للمشركين فى العذاب 53 أمر الرسول بالدفع بالحسنى 54 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم صحبه كلمات يقولونها عند النوم 55 طلب المشركين الرجوع إلى الدنيا عند معاينة العذاب 57 أهوال يوم القيامة 58 أحوال الأشقياء يومئذ 62 يسأل المجرمون توبيخا لهم عن مده لبثهم فى الأرض 63 تنزيه الله نفسه عما يصفه به المشركون 68 عقوبة الزنا الدنيوية لنير المحصن 68 طريق إثبات الزنا 69 العقوبة الأخروية 70 الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة 71 حكم قذف غير الزوجة من النساء 73 حكم قذف الرجل زوجه 74 ما ورد فى ذلك من الآثار 77 حديث الإفك على أم المؤمنين عائشه رضى الله عنها 79 من هلك بسببه من المؤمنين 83 وعيد من أشاع هذا الحديث 84 عتاب الله للمؤمنين على ما وقر فى نفوسهم من إرجاف المرجفين 85 ارتكاب المرجفين ثلاثة آثام(18/163)
86 تحذير المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا 87 جزاء من يحب إشاعة الفاحشة فى المؤمنين 90 من اتهم محصنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة الله 90 شهادة الأيدى والأرجل والألسنة 92 الأدلة على براءة عائشة 93 الإنسان لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة 94 دخول المرء بيت غيره لا بد فيه من الإذن 95 من قيل للداخل ارجع وجب أن يرجع 96 حكم دخول البيوت غير المسكونة سكنى خاصة 96 الأمر بغض البصر وحفظ التزوج سدّ الباب الشر ومنعا 99 الأمر بضرب الخمر على الجيوب لارتكاب الآثام 100 النهى عن إبداء الزينة إلا للبعولة أو آباء البعولة إلخ 101 الأمر بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء حفظا للأنساب 104 ثلاثة حق على الله عونهم وبقاء للنوع 106 مثل نور الله فى السموات والأرض 108 فوائد ضرب الأمثال فى القرآن 110 المساجد بيوت الله، وحق على الله أن يكرم من زاره فيها 111 أعددت لعبادى الصالحين- الحديث 112 مثل أعمال الكافرين فى الآخرة 115 ذكر دلائل التوحيد 119 المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم 122 المنافقون يعرضون عن التحاكم إلى الرسول 123 طاعة الله ورسوله توجب الفوز والنجاة 124 نهى المنافقين عن الحلف 126 وعد المؤمنين بالاستخلاف فى الأرض 127 الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة 129 الأمر بالاستئذان فى العورات الثلاث 130 سبب نزول آية الاستئذان 133 لا حرج على النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فى ترك الزينة 134 الأمر بالسلام عند دخول البيوت 135 لا حرج على الأعمى ولا على المريض ولا على الأعرج فى ترك الجهاد 138 الأمر بالاستئذان حين الانصراف عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 141 النهى عن الانصراف خفية من مجلسه 142 علم الله محيط بكل شىء 147 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكبرياء 148 ما فى الأصنام من صفات النقص 150 الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 151 قال المشركون إن محمدا اكتتب أساطير الأولين 153 الصفات التي تمنع نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فى زعمهم 155 ادعى المشركون أن محمدا رجل مسحور 156 تكذيب المشركين بيوم القيامة 160 الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق 162 لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى لفعلت(18/164)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
الجزء التاسع عشر
[تتمة سورة الفرقان]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
تفسير المفردات
لا يرجون: أي لا يخافون كما جاء فى قوله: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» واللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته، ولقاءنا: أي لقاء جزائنا، واستكبروا فى أنفسهم:
أي أوقعوا الاستكبار فى شأن أنفسهم بعدّها كبيرة الشأن، والعتوّ: تجاوز الحد فى الظلم تجاوزا بلغ أقصى الغاية حيث كذبوا الرسول الذي جاء بالوحى ولم يكترثوا بالمعجزات التي أتاهم بها، حجرا محجورا: كلمة تقولها العرب حين لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة(19/3)
هائلة، يقصدون بها الاستعاذة من وقوع ذلك الخطب الذي يلحقهم والمكروه الذي يلمّ بدارهم: أي نسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا، وقدمنا: أي عمدنا وقصدنا، والهباء كما قال الراغب: دقاق التراب وما انبثّ فى الهواء ولا يبدو إلا فى أثناء ضوء الشمس من كوّة ونحوها، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه المرء فى أكثر الأوقات للجلوس والمحادثة، والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه للاستمتاع بالأزواج والتمتع بحديثهن، سمى بذلك لأن التمتع به يكون وقت القائلة غالبا.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه أباطيل المشركين السالفة بطعنهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» أردف ذلك بذكر سخافات أخرى لهم فى هذا الصدد فقالوا: هلا أنزل علينا الملائكة فيخبرونا بصدقه، أو يرى ربنا فينبئنا بذلك، ثم بين أن هذا عتو عظيم منهم، ثم أعقب هذا ببيان أنهم سيرون الملائكة حين الهول يوم الجزاء والحساب حين يقولون لهم: لا بشرى لكم اليوم بل فيه منعكم من كل خير، فإن ما قدمتم من عمل صالح فى الدنيا صار هباء منثورا، ثم أخبر بما يكون لأهل الجنة من خير المستقر، وحسن المقيل، فى ظل ظليل، ونعم لا مقطوعة ولا ممنوعة، حين يقولون: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» ولعل فى ذكر هذا ما يكون حافزا لهم على مراجعة أنفسهم وتخمير الرأى، ليرشدوا إلى طريق السّداد، ويقلعوا عما هم فيه من هوى متّبع، وشيطان مطاع.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر ويطعنون فى صدق الرسول فيما أوحى به إليه: هلا أنزل علينا(19/4)
الملائكة فيخبرونا بأن محمدا صادق فيما يدّعى، فإنا فى شك من أمره، وفى ريب مما يخبر به، وإن لم يكن هذا فلنر ربنا ونعلم أنه هو حقا بأمارات لا يعتريها لبس ثم يقول لنا:
إنى أرسلت إليكم محمدا من لدنى بشيرا ونذيرا، فإن تم لنا ذلك صدّقناه وآمنا به، وما مقصدهم من هذا وذاك إلا التمادي فى الإنكار والعناد والعتوّ ومن ثم قال:
(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي والله لقد استكبروا فى شأن أنفسهم، وتجاوزوا الحد فى الظلم والطغيان تجاوزا بلغ أقصى الغاية، تكذيبا برسوله، وشموخا بأنوفهم عن أن ينصاعوا إليه ويتبعوه، ولم يأبهوا بباهر معجزاته، ولا كثرة آياته، وإنهم لقد بلغوا غاية القحة فى الطلب، وفى الحق إن شأنهم لعجب، وإن العقل ليحار فى أمرهم، ويدهش لقصور عقولهم، وسذاجة آرائهم، وضعف أحلامهم، «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» ولله در القائل:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
ونحو الآية قوله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ» .
ثم بين أنهم سيلقون الملائكة حين الهول يوم القيامة لا على الوجه الذي طلبوه، ولا على الصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر لم يمر ببالهم فقال:
(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي يوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلا بشرى لهم بخير، إذ يقولون لهم: حجرا محجورا أي محرم عليكم البشرى بالغفران والجنة، أي جعلهما الله حراما عليكم، إذ هما لا يكونان إلا لمن اعترف بوحدانية الله وصدّق رسوله.
والخلاصة- لا بشرى يومئذ للكافرين وتقول لهم الملائكة: حرام أن نبشركم بما نبشر به المتقين.
ثم بين السبب فى وبالهم وخسرانهم حينئذ فقال:
(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي فعمدنا إلى محاسن(19/5)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
أعمالهم التي قاموا بها فى الدنيا كصلة رحم، وإغاثة ملهوف، ومن على أسير ونحو ذلك مما لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها- فجعلناه كالهباء المنثور لا يجدى ولا يفيد.
وخلاصة ذلك- إنه تعالى جعل مثل هؤلاء الكفار ومثل أعمالهم التي عملوها حال كفرهم- مثل قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقصد إلى ما بين أيديهم فأفسده وجعله شذر مذر، ولم يترك له أثرا ولا عينا.
وبعد أن بين حال الكافرين حينئذ ذكر حال أضدادهم المؤمنين فقال:
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أي إن منازل أهل الجنة خير من منازل أولئك المشركين الذين يفتخرون بأموالهم وما أوتوا من الترف والنعيم فى الدنيا، وأحسن فيها قرارا حين القائلة من مثلها لهم فى الدنيا، لما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وجمال التنوّق والأبّهة والزّخرف وغيرها من المحاسن التي لا يوجد مثلها فى الدنيا فى بيوت المترفين، ولما فيه من نعيم لا يشو به كدر ولا تنغيص بخلاف مقيل الدنيا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات أن المشركين طلبوا إنزال الملائكة- أردف هذا ببيان أنهم ينزلون حين ينتهى هذا العالم الدنيوي، ويختلّ نظام الأفلاك،(19/6)
والأرض والسموات، ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب، فيعض الكافر على يديه نادما على مافات ويتمنى أن لو كان قد أطاع الرسول فيما أمر ونهى ولم يكن قد أطاع شياطين الإنس والجن الذين أضلوه السبيل وخذلوه عن الوصول إلى محجة الصواب.
الإيضاح
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي واذكر أيها الرسول لقومك أهوال هذا اليوم حين تكون شمسنا وكواكبنا والشموس الأخرى وسياراتها أشبه بالغمام، لأنها تصير هباء متفرقة فى الجو وترجع سيرتها الأولى أي تتحلل وترجع فى الجو كما كانت ويختلى نظام هذا العالم المشاهد كما قال تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» .
(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) بصحائف أعمال العباد، لتقدّم لدى العرض والحساب، وتكون شاهدة عليهم لدى فصل القضاء.
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي الملك الحق فى هذا اليوم ملك الرحمن، فله السلطان القاهر، والاستيلاء العام ظاهرا وباطنا، ولا ملك لغيره فى هذا اليوم وهو الذي يقضى بين عباده بالعدل، ولا شفيع ولا نصير: «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» .
ثم ذكر الهول الذي ينال الكافرين حينئذ فقال:
(وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي وكان ذلك اليوم شديد الهول على الكافرين، لأنه يوم عدل وفصل للقضاء، وهو على المؤمنين يسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى،
وفى الحديث «إنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلّاها فى الدنيا»
.(19/7)
ونحو الآية قوله: «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» .
ثم بين شدة ندم المشركين وعظيم حسرتهم فى هذا اليوم:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) أي وفى هذا اليوم يعضّ المشرك بربه على يديه ندما وأسفا على ما فرّط فى جنب الله، وعلى ما أعرض عنه من الحق الواضح الذي جاء به رسوله ويقول: ليتنى اتخذت مع الرسول طريقا إلى النجاة، ولم تتشعب بي طرق الضلالة.
(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا) أي يا هلكتى احضرى فهذا أوانك، ليتنى لم أتخذ فلانا الذي أضلنى وصرفنى عن طريق الهدى خليلا وصديقا.
ومن الأخلاء الشياطين، ولا فارق بين شياطين الإنس وشياطين الجن، ومن هؤلاء أبىّ بن خلف،
فقد روى أن عقبة بن أبى معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبىّ صديقه فعاتبه، وقال له: صبأت، فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامى وهو فى بيتي فاستحييت منه فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق فى وجهه، فوجده ساجدا فى دار النّدوة ففعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلّا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله، وقتل أبىّ بن خلف بيده الشريفة يوم أحد، طعنه بحربة فوقعت فى ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم فى جوفه فجعل يخور كما يخور الثور، فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور، فما لبث إلا يوما أو نحوه حتى ذهب إلى النار فأنزل الله الآية.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحشر المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخال» أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقىّ»
وروى الشيخان عن أبى موسى الأشعري أن(19/8)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» .
ثم بين علة هذا التمني بقوله:
(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي لقد أضلنى عن الإيمان بالقرآن بعد إذ جاءنى من ربى.
ثم أخبر عن طبيعة الشيطان ودأبه فقال:
(وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) أي وكان من عادة الشيطان أن يخذل الإنسان فيصرفه عن الحق ويدعوه إلى الباطل ثم لا ينقذه مما يحل به من البلاء، ولا ينجيه منه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالاتهم الباطلة، وتعنتهم الظالم فى الرسول من نحو قولهم: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، وقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، وقولهم فى القرآن: إن هو إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وقولهم فيه: إن هو إلا أساطير الأولين اكتتبها- أعقب ذلك بشكاية الرسول إلى ربه بأن قومه قد هجروا كتابه، ولم يلتفتوا إلى ما فيه من هداية لهم، ورعاية لمصالحهم فى دينهم ودنياهم، ثم سلاه سبحانه على ذلك بأن هذا ليس دأب قومك فحسب، بل إن كثيرا من(19/9)
الأمم قد فعلوا مع رسلهم مثل هذا، فاقتد بأولئك الأنبياء ولا تجزع، ثم وعده وعدا كريما بأن يهديه إلى مطلبه، وينصره على عدوه، وكفى به هاديا ونصيرا.
الإيضاح
(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي وقال الرسول مشتكيا إلى ربه: رب إن قومى الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك، وأمرتنى بإبلاغه إليهم، قد هجروا كتابك، وتركوا الإيمان بك، ولم يأبهوا بوعدك ووعيدك، بل أعرضوا عن استماعه واتباعه.
وفى ذكره صلى الله عليه وسلم بلفظ (الرَّسُولُ) تحقيق للحق، ورد عليهم، إذ كان ما أورده قدحا فى رسالته صلى الله عليه وسلم.
ثم سلى رسوله على ما يلاقيه من الشدائد والأهوال، بأن له فى سلفه من الأنبياء قبله أسوة بقوله:
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك ما يتقولون من التّرهات والأباطيل ويفعلون من السخف ما يفعلون- جعلنا لكل نبى من الأنبياء الذين سلفوا وأوتوا من الشرائع ما فيه هدى للبشر- أعداء لهم من شياطين الإنس والجن، وكانوا لهم بالمرصاد، وقاوموا دعوتهم، َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» .
فلا تجزع أيها الرسول فإن هذا دأب الأنبياء قبلك، واصبر كما صبروا قال ابن عباس: كان عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى.
ونحو الآية قوله: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» .
ثم وعده بالهداية والنصر والتأييد وغلبته لأعدائه فقال:
(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي وكفاك ربك هاديا لك إلى مصالح الدين(19/10)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
والدنيا، وسيبلغك أقصى ما تطلب من الكمال، وسينصرك على أعدائك، وستكون لك الغلبة عليهم آخرا، فلا يهولنك كثرة عددهم وعددهم، فإنى لا محالة جاعل كلمة الله هى العليا وكلمة أعدائه هى السفلى، فاصبر لأمرى، وامض لتبليغ رسالتى، حتى يبلغ الكتاب أجله.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
تفسير المفردات
جملة واحدة: أي دفعة واحدة، لنثبت به فؤادك: أي لنقوى به قلبك، ورتلناه:
أي أتينا ببعضه إثر بعض على تؤدة ومهل من قولهم ثغر مرتّل: أي متفلج الأسنان، بمثل: أي بنوع من الكلام جار مجرى المثل فى تنميقه وتحسينه، ورشاقة لفظه وصدق معناه، تفسيرا: أي إيضاحا، يحشرون على وجوههم إلى جهنم: أي يسحبون على وجوههم ويجرّون إليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مطاعنهم فى الكتاب الكريم كقولهم إن هو إلا إفك مبين، وقولهم هو أساطير الأولين- قفى على ذلك بذكر شبهة أخرى لهم وهى قولهم: لو كان القرآن من عند الله حقا لأنزله جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل جملة على عيسى والزبور على داود، فرد الله عليهم مقالتهم، وبين لهم فوائد إنزاله(19/11)
منجّما، فذكر منها تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم بتيسير الحفظ، وفهم المعنى، وضبط الألفاظ، إلى نحو أولئك، ثم وعده بأنهم كلما جاءوا بشبهة دحضها بالجواب الحق، والقول الفصل الذي يكشف عن وجه الصواب، وبعدئذ ذكر حال المشركين وأنهم حين يحشرون يكونون فى غاية الذل والهوان ويجرّون على وجوههم إلى جهنم وهم مصفّدون بالسلاسل والأغلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي وقال اليهود:
هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك، وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة فقد أنزلت التوراة منجمة فى ثمانى عشرة سنة كما تدل على ذلك نصوص التوراة، وليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنة كما نزل القرآن، لكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون كيف نزلت كتب الله على أنبيائه، وهو اعتراض بما لا طائل تحته، لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرقا.
فرد الله عليهم ما قالوا وأشار إلى السبب الذي لأجله نزل منجما فقال:
(كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي أنزلناه كذلك لنقوّى قلبك به بإعادته وحفظه كما قال: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» .
وخلاصة تلك الفوائد:
(1) إنه عليه الصلاة والسلام لما كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة كان من الصعب عليه أن يضبطه، وجاز عليه السهو والغلط.
(2) إنه أنزل هكذا ليكون حفظه له أكمل ويكون أبعد عن المساهلة وقلة التحصيل.
(3) إنه لو أنزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم،(19/12)
ولا يخفى ما فى ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجّما جاء التشريع رويدا رويدا فكان احتمالهم له أيسر ومرانهم عليه أسهل.
(4) إنه عليه الصلاة والسلام إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوى قلبه على أداء ما حمل به، وعلى الصبر على أعباء النبوة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طوال حياته الشريفة.
(5) إنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع، فكان فى ذلك زيادة بصر لهم فى دينهم.
(6) إنه لما نزل هكذا، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه، وعجزوا عن معارضته- كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق فى نظر الرأى الحصيف.
(7) إن بعض أحكام الشريعة جاء فى بدء التنزيل وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها، فلما أضاء الله بصائرهم بهدى رسوله تغيرت بعض أحوالهم واستعدت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرا على طهر، ويذهب عنهم رجس الجاهلية الذي كانوا فيه، فجاء ذلك التشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة، ولو نزل القرآن جملة لم يتسنّ شىء من هذا.
(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) أي وأنزلناه عليك هكذا على مهل، وقرأناه بلسان جبريل شيئا فشيئا في ثلاث وعشرين سنة.
وبعد أن أبان فساد قولهم بالدليل الواضح أعقبه بما يقوّى قلبه إزاء المشركين، وأنه قد كتب له الفلج عليهم، فهم محجوجون فى كل آن، وقولهم مدفوع على كل وجه فقال:
(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح فى نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانا مما يقولون.(19/13)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
ونحو الآية قوله: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» .
والخلاصة- إنهم لا يقترحون اقتراحا من فاسد مقترحاتهم، إلا أتيناك بما يدفعه، ويوضح بطلانه.
وبعد أن وصفوا رسوله بتلك الأوصاف السالفة تحقيرا له- سلاه على ذلك، وطلب إليه أن يقول لهم.
(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنى لا أقول لكم كما تقولون ولا أصفكم بمثل ما تصفوننى به، بل أقول لكم: إن الذين يسحبون إلى جهنم ويجرّون بالسلاسل والأغلال هم شر مكانا وأضل سبيلا، فانظروا بعين الإنصاف، وفكّروا من أولى بهذه الأوصاف منا ومنكم؟ لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا.
وهذا على نسق قوله تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
ويسمّون هذا الأسلوب فى المناظرة بإرخاء العنان للخصم، ليسهل إفحامه وإلزامه،
روى الترمذي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف. صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم، قيل يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك»
والمراد أن الملائكة عليهم السلام تسحيهم وتجرّهم على وجوههم إلى جهنم، أو يكون الحشر على الوجوه عباوة عن الذلة والخزي والهوان، أو هو من قول العرب مرّ فلان على وجهه إذا لم يدر أين يذهب.
قصص بعض الأنبياء مع أممهم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)(19/14)
تفسير المفردات
قال الزجاج: الوزير من يرجع إليه للاستعانة برأيه، والتدمير: كسر الشيء على وجه لا يمكن معه إصلاحه، وأعتدنا. هيّأنا وأعددنا، الرس: البئر غير المطوية (غير المبنية) والجمع: رساس. قال أبو عبيدة: والمراد بهم كما قال قتادة أهل قرية من اليمامة يقال لها الرسّ والفلج فتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح، والتتبير: التفتيت والتكسير قال الزجاج: كل شىء كسرته وفتّته فقد تبرّته ومنه التّبر لفتات الذهب والفضة، والقرية: هى سذوم أعظم قرى قوم لوط، لا يرجون: أي لا يتوقعون، والنشور:
البعث للحساب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم فى دلائل وحدانيته ونفى الأنداد، وفى النبوة وأجاب عن شبهات المنكرين لها، وفى أحوال يوم القيامة وأهوالها التي يلقاها الكافرون، وفى النعيم الذي يتفضل به على عباده المتقين، أردف ذلك بقصص بعض الأنبياء مع أممهم الذين كذّبوهم فحل بهم النكال والوبال، ليكون فى ذلك عبرة لقومه المشركين الذين كذبوا رسوله حتى لا يحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم إذا هم تمادوا فى تكذيبهم وأصرّوا على بغيهم وطغيانهم.(19/15)
وقد ذكر من ذلك خمس قصص: قصة موسى مع فرعون وقومه. وقصة نوح وقومه. وقصة هود مع قومه عاد. وقصة صالح مع قومه ثمود. وقصة أصحاب الرس.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة كما أنزلنا عليك الفرقان، وجعلنا معه أخاه هرون معينا وظهيرا له، ولا تنافى بين هذه الآية وقوله: «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» فإنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها، كما أن الوزير متبع لسطانه.
ثم ذكر ما أمرا به من تبليغ الرسالة مع بيان أن النصر لهما آخرا على أعدائهما.
(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي فقلنا لهما اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بدلائل التوحيد المودعة فى الأنفس والآفاق، فلما ذهبا إليهم كذبوهما فأهلكناهم أشد إهلاك.
ونحو الآية قوله: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» .
وفى ذلك تسلية لرسوله وأنه ليس أول من كذّب من الرسل، فله أسوة بمن سلف منهم.
قصة نوح عليه السلام
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي وكذلك فعلنا بقوم نوح حين كذبوا رسولنا نوحا عليه السلام، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويحذّرهم نقمته «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» فأغرقناهم ولم نترك منهم أحدا إلا أصحاب السفينة وجعلناهم عبرة للناس كما قال: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» أي أبقينا لكم(19/16)
السفينة، لتذكروا نعمة الله عليكم بإنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدّق بأمره.
وفى قوله: كذبوا الرسل وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا وهو نوح- إيماء إلى أن من كذّب رسولا وأخذا فقد كذب جميع الرسل، إذ لا فرق بين رسول وآخر، إذ جميعهم يدعو إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والأوثان قاله الزجاج.
ثم ذكر مآل المكذبين فقال:
(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا لكل من كفر بالله ولم يؤمن برسله عذابا أليما فى الآخرة.
وفى ذلك رمز إلى أن قريشا سيحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة مثل ماحل بأولئك المكذبين إذا لم يرعووا عن غيّهم.
قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم
(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) أي ودمّرنا عادا قوم هود عليه السلام بالريح الصرصر العاتية، وثمود قوم صالح بالصيحة، وأهلكنا أصحاب الرس الذين كانوا باليمامة وقتلوا نبيهم. واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا فى سورة البروج وسيأتى ذكر قصصهم.
(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي وأمما كثيرة أهلكناهم لما كذّبوا رسلنا.
ثم ذكر أنه أنذر أولئك المكذبين وحذرهم قبل أن أوقع بهم فقال:
(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي وكل هؤلاء أوضحنا لهم حججنا، وبينا لهم أذلتنا، وأزحنا عنهم الأعذار، فتمادوا فى كفرهم وطغيانهم، فأهلكناهم أفظع الإهلاك وأشده.
ثم ذكّر مشركى مكة بما يرونه من العبر فى حلّهم وتر حالهم وما يشاهدونه مما حل بأولئك الأمم المكذبة من المثلات فقال:(19/17)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي وتالله لقد مرّ هؤلاء المكذبون فى رحلة الصيف على سذوم أعظم قرى قوم لوط وقد أهلكها الله بأن أمطر عليها حجارة من سجيل، لأن قومها كانوا يعملون الخبائث، وحذّرهم لوط، فما أغنت عنهم الآيات والنذر.
ثم وبخهم على تركهم التذكر حين مشاهدة ما يوجبه فقال:
(أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟) أي أفلم يروا ما نزل بتلك القرية من عذاب الله بتكذيب أهلها رسول ربهم فيعتبروا ويتذكروا ويراجعلوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم لرسوله.
ثم أبان أن عدم التذكر لم يكن سببه عدم الرؤية، بل منشؤه إنكار البعث والنشور فقال:
(بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي إنهم ما كذّبوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، لأنهم لم يكونوا رأوا ما حل بالقرية التي وصفت، بل كذبوه من قبل أنهم قوم لا يخافون نشورا بعد الممات، ولا يوقنون بعقاب ولا ثواب فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصى الله.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مطاعن المشركين فى النبي صلى الله عليه وسلم وأورد شبهاتهم فى ذلك- أردف هذا بيان أن ذلك ما كفاهم، وليتهم اقتصروا عليه، بل زادوا على(19/18)
ذلك الاستهزاء به والحطّ من قدره حتى لقد قال بعضهم لبعض: أهذا الذي بعث الله رسولا؟ بل لقد غالوا فى ذلك فسمّوا دعوته إضلالا، فرد الله عليهم مقالهم وأبان لهم أنه سيظهر لهم حين مشاهدة العذاب من الضالّ ومن المضلّ؟ ثم عجّب رسوله من شناعة أحوالهم بعد حكاية أقوالهم وأفعالهم القبيحة، وأرشد إلى أن مثل هؤلاء يبعد أن يزدجروا عما هم فيه من الغىّ بنصحك وإرشادك، فإن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون وما هم إلا كالأنعام أو أضل منها سبيلا.
روى أن الآية الأولى نزلت فى أبى جهل ومن معه فإنه كان إذا مر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) .
الإيضاح
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم- اتخذوك موضع هزؤ وسخرية وقالوا احتقارا لشأنك هذه المقالة.
ثم ذكر ما زاد قبحه فى زعمهم فقال:
(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي ويقولون إنه قد كاد يصدّنا عن عبادة آلهتنا لولا صبرنا على عبادتها وثباتنا على ديننا.
وفى هذا إيماء إلى وجوه من الفائدة:
(1) إنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاحتفال فى الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات، وإقامة الحجج والبينات، مبلغا شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط عنادهم وتناهى عتوهم ولجاجهم.
(2) الدلالة على تناقضهم واضطرابهم، فإن فى استفهامهم السابق ما يدل على التحقير له، وفى آخر كلامهم ما يدل على قوة حجته، ورجاحة عقله، فذكره تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.(19/19)
وبعد أن حكى مقالتهم سفّه آراءهم من وجوه ثلاثة:
(1) (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنهم حين يشاهدون العذاب الذي استوجبوه بكفرهم وعنادهم سيعلمون من الضال ومن المضل؟
وفى هذا رد لقولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا، كما أن فيه وعيدا شديدا على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.
(ب) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟) أي انظر فى حال هذا الذي جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، وأعرض عن استماع الحجة الباهرة، والبرهان الجلى الواضح، واعجب ولا تأبه به، فإنك لن تكون حفيظا على مثل هذا تزجره عما هو عليه من الضلال وترشده إلى الصراط السوىّ.
وخلاصة ذلك- كأنه سبحانه يقول لرسوله: إن هذا الذي لا يرى معبودا له إلا هواه، لا تستطيع أن تدعوه إلى الهدى، وتمنعه من متابعة الهوى، إن عليك إلا البلاغ.
ونحو الآية قوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقوله: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .
وفى هذا الأسلوب تعجيب لرسوله من سوء أحوالهم بعد أن حكى قبيح أقوالهم وأفعالهم، وتنبيه له إلى سوء عاقبتهم.
قال ابن عباس: كان الرجل فى الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول فأنزل الله الآية.
(ح) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي بل أتظن أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات، أو يعقلون ما تتضمنه من المواعظ الداعية إلى الفضائل ومحاسن الأخلاق، حتى تجتهد فى دعوتهم، وتحتفل بإرشادهم وتذكيرهم، وتطمع فى إيمانهم فما حالهم إلا حال البهائم فى تركهم للتدبر فيما يشاهدون من البينات والحجج، بل هم أضل منها سبيلا،(19/20)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
هى قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهّدها، وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدى لمراعيها ومشاربها، وتأوى إلى معاطنها ومرابضها، لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات- إلى أنهم لا يرجون ثوابا، ولا يخافون عقابا، إلى أن جهالة الأنعام مقصورة عليها، وجهالة هؤلاء تؤدى إلى وقوع الفتنة والفساد، وصدّ الناس عن سنن السّداد، ووقوع الهرج والمرج بين العباد، إلى أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق، إلى أنها لم تعطّل قوة من القوى المودعة فيها، فلا تقصير من قبلها عن الكمال، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قالوا الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس وهوى، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار، فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام.
وتخصيص الأكثر بالذكر، لأنه قد كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق وكابر، استكبارا وخوفا على الرياسة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)(19/21)
تفسير المفردات
ألم تر: أي ألم تنظر، إلى ربك: أي إلى صنعه، مد: بسط، الظل: ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها، ساكنا: أي ثابتا على حاله فى الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس، دليلا: أي علامة، قبضناه: أي محوناه، يسيرا: أي على مهل قليلا قليلا بحسب سير الشمس فى فلكها، والسبات: الموت لما فى النوم من زوال الإحساس، والنشور: البعث، بشرا: (تخفيف بشر بضمتين) واحدها بشور كرسل ورسول:
أي مبشرات، والرحمة: المطر، بين يديه: أي قدامه، طهورا: أي يتطهر به، والبلدة:
الأرض، والميت: التي لا نبات فيها، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وخصها بالذكر لأنها ذخيرتنا. ومعاش أكثر أهل المدر منها، وأناسىّ: واحدهم إنسان (أصله أناسين أبدلت النون ياء وأدغمت فى الياء) وصرفناه: أي حولناه فى أوقات مختلفة إلى بلدان متعددة، ليذكروا: أي ليعتبروا، كفورا: أي كفرانا للنعمة وإنكارا لها، نذيرا:
أي نبيا ينذر أهلها، والمرج: من قولهم مرج فلان دابته إذا تركها وشأنها، فرات: أي مفرط العذوبة، أجاج: أي شديد الملوحة، برزخا: أي حاجزا، حجرا محجورا: أي تنافرا شديدا فلا يبغى أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب، نسبا وصهرا: أي ذكورا ينسب إليهم، وإناثا يصاهر بهن.(19/22)
المعنى الجملي
لما بين سبحانه جهالة المعرضين عن دلائل التوحيد، وسخيف مذاهبهم وآرائهم أعاد الكرة مرة أخرى، فذكر خمسة أدلة عليه نراها عيانا، وتتوارد علينا ليلا ونهارا، وتكون دليلا على وجود الإله القادر الحكيم.
الإيضاح
(1) (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي انظر أيها الرسول إلى صنع ربك، كيف أنشأ الظل لكل مظلّ من طلوع الشمس حتى غروبها، فاستخدمه الإنسان للوقاية من لفح الشمس وشديد حرارتها.
(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ولو شاء لجعله ثابتا على حال واحدة لا يتغير، لكنه جعله متغير فى ساعات النهار المختلفة، وفى الفصول المتعاقبة، ومن ثم اتّخذ مقياسا للزمن منذ القدم، فاتخذ المصريون (المسلات) وقاسوا بها أوقات النهار على أوضاع مختلفة، وطرق حكيمة منوّعة، واتخذ العرب المزاول لمعرفة أوقات الصلاة فقالوا: يجب الظهر عند الزوال: أي إذا تحول الظل إلى جانب المشرق، والعصر حين بلوغ ظل كل شىء مثله عند الأئمة عدا أبا حنيفة الذي قال: لا يجب إلا إذا بلغ ظل كل شىء مثليه.
(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهور الظل ومشاهدته للحس والعيان، والأشياء تستبين بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة ما عرف النور.
(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرا يسيرا، ومحوناه على مهل جزءا فجزءا بحسب سير الشمس.
(2) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي ومن آثار قدرته، وروائع رحمته الفائضة على خلقه، أن جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه(19/23)
كما يستركم اللباس، وجعل النوم كالموت لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة كما قال:
«وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» وقال: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت.
وخلاصة ذلك- جعلنا موتكم بالنوم فى الليل، وجعلنا نشوركم: أي انبعاثكم من النوم الذي يشبه الموت بالنهار، إذ ينشر الخلق للمعاش كما ينشرون بعد الموت للحساب. قال لقمان لابنه كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
ونحو الآية قوله: «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الآية.
(3) (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي والله الذي أرسل الرياح مبشّرات بقدوم الأمطار.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار والوضوء لما يتوضأ به، أي وأنزلنا من السحاب ماء تتطهرون به فى غسل ملابسكم وأجسامكم، وتنتفعون به فى طبخ مطاعمكم، وتشربونه عذبا فراتا.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى البحر «هو الطّهور ماؤه، والحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأنزلناه لنحيى به أرضا طال انتظارها للغيث، فهى هامدة لا نبات فيها، وبذلك الماء تزدهر بالشجر والنبات والأزهار، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان.
ونحو الآية قوله: «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» وقوله: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)
أي وليشرب منه الحيوان والإنسان،(19/24)
وأخر ذكر الإنسان عن النبات والحيوان لحاجته إليهما فى حياته، ولأنهم إذا ظفروا بماء يسقى أرضهم ومواشيهم لم يعدموا ما يكون منه سقياهم.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي ولقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى، فلا تمر ساعة فى ليل ولا نهار إلا كان فيه دليل على آثار قدرتنا، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين، فنحن صرفناه بينهم كما صرفنا الليل والنهار، فالشمس تجرى من عند قوم وتذهب إلى آخرين: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» .
إلى أن الماء يكون جامدا يشبه الحجر، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات، وحينا بخاريا يشبه الهواء، وهو أيضا غاد ورائح فى الجوّ وفى الأنهار وفى الغدران وفى أجسام النبات والحيوان والإنسان.
(لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي صرّفناه بينهم، ليعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيشكروا، ولكن أكثر الناس أبوا إلا جحودا للنعمة، وكفرانا بخالقها.
ثم بين منته على رسوله وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة ليزداد شرفا ويعظم قدرا فقال:
(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي ولو أردنا أن نرسل رسولا إلى أهل كل قرية لفعلنا وخفّت عنك أعباء النبوة، ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة، لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة، فقابل ذلك بشكر النعمة، وبالثبات والاجتهاد فى الدعوة وإظهار الحق كما قال: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً»
وجاء فى الصحيحين «بعثت إلى الأحمر والأسود»
أي إلى العجم والعرب.
والخلاصة- إنّا عظّمناك بهذا الأمر، وجعلناك مستقلا بأعبائه، لتحوز ما ادّخر لك من عظيم جزائه، وكبير مثوبته فعليك بالمجاهدة والمثابرة، ولا عليك من تلقّيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة.
(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) أي فلا تطع الكافرين فيما(19/25)
يدعونك إليه من موافقتهم على مذاهبهم وآرائهم، وجاهدهم بالشدة والعنف، لا بالملاينة والمداراة لتكسب ودّهم ومحبتهم، وعظهم بما جاء به القرآن من المواعظ والزواجر، وذكّرهم بأحوال الأمم المكذبة لرسلها، وذلك منتهى الجهاد الذي لا يقادر قدره.
ونحو الآية قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» .
والخلاصة- إنك مبعوث إلى الناس كافة، لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، فاجتهد فى دعوتك، ولا تتوان فيها، ولا تحفل بوعيدهم، فإن الله ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.
(4) (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين وجعلهما لا يمتزجان، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه، وحجزه عنه بقدرته، فكأن بينهما حاجزا يمنع أحدهما من إفساد الآخر، وكأن بينهما ساترا يجعله لا يبغى عليه.
والخلاصة- إنه تعالى جعل البحرين مختلطين فى مرأى العين، منفصلين فى التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده.
ونحو الآية قوله فى سورة الرحمن: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
(5) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي وهو الذي جعل الماء جزءا من مادة الإنسان، ليقبل الأشكال المختلفة، والأوضاع المنوّعة وقسمه قسمين ذوى نسب ينسب إليهم وهم الذكور، وذوات صهر يصاهر بهن وهن(19/26)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
الإناث كما قال: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» وكان الله قديرا، إذ خلق من مادة واحدة بشرا عجيب الصنع، بديع الخلق، كبير العقل، عظيم التفكير، سخّر ما على ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته «وَسَخَّرَ لَكُمْ ... ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» .
[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 62]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
تفسير المفردات
الظهير والمظاهر: المعاون فهو يعاون الشيطان على ربه: أي على رسوله بالعداوة، وسبح بحمده: أي ونزّهه وصفه بصفات الكمال، ويقال كفى بالعلم جمالا: أي حسبك، فلا تحتاج معه إلى غيره، والخبير بالشيء: العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به، والبروج: منازل السيارات الاثني عشر المعروفة التي جمعها بعضهم فى قوله:(19/27)
حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان
ورمى عقرب بقوس لجدّى ... نزح الدلو بركة الحيتان
فهى الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت، وهى منازل الكواكب السيارة السبعة وهى: المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة: ولها الثور والميزان، وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة، والقمر:
وله السرطان، والشمس: ولها الأسد، والمشترى: وله القوس والحوت، وزحل:
وله الجدى والدلو.
وهى فى الأصل القصور العالية. فأطلقت عليها على طريق التشبيه، والسراج: الشمس خلفة: أي يخلف أحدهما الآخر ويقوم مقامه فيما ينبغى أن يعمل فيه.
المعنى الجملي
بعد أن بسط سبحانه أدلة التوحيد، وأرشد إلى ما فى الكون من باهر الآيات، وعظيم المشاهدات، التي تدل على بديع قدرته، وجليل حكمته- أعاد الكرة مرة أخرى، وبين شناعة أقوالهم وقبيح أفعالهم، إذ هم مع كل ما يشاهدون لا يرعوون عن غيّهم، بل هم عن ذكر ربهم معرضون، فلا يعظّمون إلا الأحجار والأوثان وما لا نفع فيه إن عبد، وما لا ضرّ فيه إن ترك، إلى أنهم يظاهرون أولياء الشيطان، ويناوثون أولياء الرحمن وإن تعجب لشىء فاعجب لأمرهم، فقد بلغ من جهلهم أنهم يضارّون من جاء لنفعهم وهو الرسول الذي يبشّرهم بالخير العميم إذا هم أطاعوا ربهم، وينذرهم بالويل والثبور إذا هم عصوه، ثم هو على ذلك لا يبتغى أجرا.
ثم أمر رسوله بألا يرهب وعيدهم، ولا يخشى بأسهم، بل يتوكل على ربه، ويسبح بحمده، وينزهه عما لا يليق به من صفات النقص كالشريك والولد، وهو الخبير بأفعال عباده، فيجازيهم بما يستحقون.(19/28)
الإيضاح
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها، ولا تضرهم إن تركوا عبادتها، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» إلى آخر الآيات.
ثم ذكر لهم جرما آخر فقال:
(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي وكانوا مظاهرين الشيطان، على معصية الرحمن، وذلك دأبهم وديدنهم، فهم يعاونون المشركين، ويكونون أولياء لهم على رسوله وعلى المؤمنين، بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفير منها كما قال: «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ» .
وقد يكون المعنى- وكان الكافر على ربه هيّنا ذليلا لا قدر له ولا وزن له عنده من قول العرب: ظهرت به، أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى:
«وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» أي هينا، وقول الفرزدق:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتى ... بظهر فلا يعيا علىّ جوابها
قال ابن عباس نزلت الآية فى أبى الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام.
ثم بين عظيم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم ودفع الأذى عنهم فقال:
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي كيف تطلبون العون على الله ورسوله والله قد أرسل رسوله لنفعكم، إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات، وينذركم على فعل المعاصي، فتستحقوا الثواب وتبتعدوا عن العقاب.(19/29)
وخلاصة ذلك- لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده فى إيذاء من يرجو نفعه فى دينه ودنياه.
وفى هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغى لنفسه نفعا فقال:
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي قل لمن أرسلت إليهم: لا أسألكم على ما جئت به من عند ربى أجرا، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له فى أموالنا مطمع.
(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى الله بالإنفاق فى الجهاد وغيره، ويتخذ ذلك سبيلا إلى رحمته ونيل ثوابه فليفعل.
وخلاصة ذلك- لا أسألكم عليه أجرا لنفسى، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته.
وبعد أن بين له أن الكافرين متظاهرون على إيذائه- أمره بالتوكل عليه فى دفع المضارّ وجلب المنافع فقال:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شىء ومليكه، واجعله ملجأك وذخرك، وفوّض إليه أمرك، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه، فإنه كافيك وناصرك ومبلغك ما تريد، ونزّهه عما يقوله هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، كما تنزهه عن الأنداد والشركاء من الأصنام والأوثان فهو لا كفء له ولا ند: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» .
وقد علمت قبل أن التوكل اعتماد العبد على الله فى كل الأمور، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها.
ونحو الآية قوله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .(19/30)
وفى قوله: (الْحَيِّ) إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن، ولا على من لا بقاء له ممن يموت، لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه.
وحكى عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال: لا ينبغى لذى لب أن يثق بعدها بمخلوق.
ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم، ومجازيهم عليها يوم القيامة فقال:
(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي وحسبك بالحي الذي لا يموت خبيرا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن، فهو لا يخفى عليه شىء منها، وهو محصيها عليهم ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.
وفى هذا ساوة لرسوله، ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم، وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء، وكأنه قيل: إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه فى مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.
ثم وصف نفسه بذكر أفعاله التي تجعله حقيقا أن يتوكّل عليه فقال:
(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم إيضاح هذا فى سور يونس وهود وطه، ولكن يلاحظ هنا أنه تعالى وصف نفسه بالأبدية والعلم الشامل، ثم بخلق السموات والأرض ليقرر وجوب التوكل عليه ويؤكده، فإن من أحدث هذه الأجرام العظيمة على ذلك النمط البديع وجعلها مرفوعة بغير عمد فى تلك الأيام، وقد كان قديرا على إبداعها دفعة واحدة بقدرته التي لا تقف على كنهها العقول- جدير بأن يتوّكل عليه ويفوّض أمره إليه.
(الرَّحْمنُ) أي عظيم الرحمة بكم، والحدب عليكم، فلا تعبدوا إلا إياه ولا تتوكلوا إلا عليه.
وخلاصة ذلك- توكلوا على من لا يموت وهو رب كل شىء وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو، وخالق(19/31)
الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ويقضى بالحق.
(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرا به يخبرك بحقيقته وهو الله سبحانه، لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، فالأيام التي ثم فيها الخلق إنما هى أطوار ستة سار عليها طورا بعد طور وحالا بعد أخرى كما يرشد إلى ذلك قوله:
«وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» والاستواء على العرش لا يراد به الجلوس عليه بل تمام التصرف فيه.
فمن كان محدود الفكر فليقف عند ظاهر اللفظ ويترك البحث فيه، ومن كان حصيف الرأى طليق الفكر فليجدّ فى البحث والدرس وسؤال أهل الذكر من العلماء ليعلم المراد من ذلك على قدر ما تصل إليه طاقة البشر.
وبعد أن ذكر سبحانه إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من الكفر فى موضع الشكر فقال:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصا دون الآلهة والأوثان، قالوا على طريق التجاهل: وما الرحمن؟ أي نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له.
ونحو هذا قول فرعون: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» حين قال له موسى عليه السلام:
«إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» وهو قد كان عليما به كما يؤذن بذلك قول موسى له:
«لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ» .
ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك وأنكروه عليه بقولهم:
(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟) أي أنسجد للذى تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه.
ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادا واستكبارا فقال:(19/32)
(وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وبعدا مما دعوا إليه، وقد كان من حقه أن يكون باعثا لهم على القبول ثم الفعل.
وكان سفيان الثّورى يقول فى هذه الآية: إلهى زدنى لك خضوعا، ما زاد عداك نفورا.
روى الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا فى ناحية المسجد مستهزئين.
وبعد أن حكى عنهم مزيد النفرة من السجود له، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود لمن له تلك الخصائص فقال:
(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) أي تقدس ربنا الذي جعل فى السماء نجوما كبارا عدها المتقدمون نحو ألف وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديثة (التلسكوبات) أكثر من مائتى ألف ألف ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدا، وجعل فيها شمسا متوقدة وقمرا مضيئا.
ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته وفيها الدليل على وحدانيته فقال:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر، فيكون فى ذلك عظة لمن أراد أن يتعظ باختلافهما ويتذكر آلاء الله فيهما ويتفكر فى صنعه، أو أراد أن يشكر نعمة ربه ليجنى ثمار كل منهما، إذ لو جعل أحدهما دائما لفاتت فوائد الآخر، ولحصلت السآمة والملل، وفتر العزم الذي يثيره دخول وقت الآخر إلى نحو أولئك من الحكم التي أحكمها العلى الكبير.
وفى الحديث الصحيح: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل» .
وعن الحسن: من فاته عمل من التذكر والشكر بالنهار كان له فى الليل مستعتب،(19/33)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
ومن فاته بالليل كان له فى النهار مستعتب. وروى أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه! فقال: إنه بقي علىّ من وردى شىء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» إلخ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 77]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(19/34)
تفسير المفردات
الهون: الرفق واللين والمراد أنهم يمشون فى سكينة ووقار، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا، الجاهلون: أي السفهاء، سلاما: أي سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية كقول إبراهيم لأبيه: «سَلامٌ عَلَيْكَ» ويبيتون: أي يدركهم الليل ناموا أو لم يناموا كما يقال بات فلان قلقا، غراما: أي هلاكا لازما، قال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالى والإسراف: مجاوزة الحد فى النفقة بالنظر لنظرائه فى المال، والتقتير: التضييق والشح، قواما: أي وسطا وعدلا لا يدعون: أي لا يشركون، والآثام: الإثم والمراد جزاؤه، مهانا: أي ذليلا مستحقرا، لا يشهدون الزور: أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة والمراد أنهم لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، واللغو ما ينبغى أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه، كراما: أي مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه، والخرور:
السقوط على غير نظام وترتيب، وقرة العين: يراد بها الفرح والسرور، والإمام:
يستعمل للمفرد والجمع والمراد الثاني أي أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين، والغرفة:
كل بناء عال مرتفع ويراد بها الدرجات الرفيعة، ما يعبأ بكم: أي لا يعتدبكم، دعاؤكم:
أي عبادتكم، لزاما: أي لازما يحيق بكم حتى يكبكم فى النار.
المعنى الجملي
بعد أن وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته، والنفور من طاعته، والسجود له عز اسمه- ذكر هنا أوصاف خلص عباده المؤمنين، وبين ما لهم من فاضل الصفات، وكامل الأخلاق، التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم، وأكرم لأجلها مثواهم وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئب إليها أعناق العاملين، وتتطلع إليها نفوس الصالحين، الذين يبتغون المثوبة ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال، وأتوا به من جليل الأعمال.(19/35)
الإيضاح
وصف الله سبحانه عباده المخلصين الذين استوجبوا المثوبة منه وجازاهم على ذلك الجزاء بصفات تسع:
(1) (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي وعباد الله الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون فى سكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم كبرا، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا.
روى أن عمر رضى الله عنه رأى غلاما يتبختر فى مشيته فقال: إن البخترة مشية تكره إلا فى سبيل الله، وقد مدح الله أقواما فقال: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد فى مشيتك.
وقال ابن عباس: هم المؤمنون الذين يمشون علماء حلماء ذوى وقار وعفة.
وفى الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس فى الإيضاع»
(السير السريع)
وفى صفته صلى الله عليه وسلم: إنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب
(التقلع: رفع الرجل بقوة، والتكفؤ: الميل إلى سنن القصد، والهون: الرفق والوقار، والذريع: الواسع الخطا) أي إنه كان يرفع رجله بسرعة فى مشيه ويمد خطوه خلاف مشية المختال وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ومن ثم قيل كأنما ينحط من صبب قاله القاضي عياض فى الشفاء.
وخلاصة هذا- إنهم لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوّا فى الأرض ولا فسادا.
(2) (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أي وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما.(19/36)
وعن الحسن البصري: هم حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم؟ خير ليل، صفّوا أقدامهم، وأجروا دموعهم، يطلبون إلى الله جل ثناؤه فكاك رقابهم.
قال ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أندية المشركين ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم.
ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه فقال:
(3) (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي والذين يبيتون ساجدين قائمين لربهم أي يحيون الليل كله أو بعضه بالصلاة، وخص العبادة بالبيتوتة، لأن العبادة بالليل أحمص وأبعد عن الرياء، وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا قائما: وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا قائما.
ونحو الآية قوله: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» وقوله: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وقوله: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» .
(4) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي والذين يدعون ربهم أن يضرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها.
وفى هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم للخلق واجتهادهم فى عبادة الخالق وحده لا شريك له، يخافون عذابه ويبتهلون إليه فى صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال فى شأنهم: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» .
ثم بين أن سبب سؤالهم ذلك لوجهين:
(ا) (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي إن عذابها كان هلاكا دائما، وخسرانا ملازما.(19/37)
(ب) (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إنها بئس المنزل مستقرا وبئس المقيل مقاما: أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا فهم أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النّجح.
قال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم، وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم فى الدنيا فلم يأتوا به، فأخذ ثمنه بإدخالهم النار.
(5) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي والذين هم ليسوا بالمبذّرين فى إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم فيقصّرون فيما يجب نحوهم، بل ينفقون عدلا وسطا، وخير الأمور أوسطها، وقد قيل:
ولا تغل فى شىء من الأمر واقتصد ... كلا طرفى قصد الأمور ذميم
وقيل:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
قال يزيد بن أبى حبيب: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقوّيهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويكفهم من الحر والبرد، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة:
ما نفقتك؟ قال عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية، وقال لابنه عاصم:
يا بنى كلّ فى نصف بطنك، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله فى بطونهم وعلى ظهورهم.
(6) (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر فيشركون فى عبادتهم إياه، بل يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة.(19/38)
(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق.
(وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أىّ الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت ثم أىّ؟
قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أىّ؟ قال أن تزانى حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.
وقد نفى عنهم هذه القبائح مع أنه وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس ومزيد خوفهم من الله وإحياء الليل يقتضى نفيها عنهم، تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، وتنبيها إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين، فكأنه قيل: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنتم تدعون، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة، ولا يزنون وأنتم تزنون.
روى مسلم عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً)
ونزل: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية: وقد قال ابن عباس وسعيد بن جبير إن هذه نزلت فى وحشي قاتل حمزة.
ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب فقال:
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة، يلق فى الآخرة جزاء إثمه وذنبه(19/39)
الذي ارتكبه، بل سيضاعف له ربه العذاب يوم القيامة ويجعله خالدا أبدا فى النار مع المهانة والاحتقار، فيجتمع له العذاب الجسمى والعذاب الروحي.
وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار فى التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين فيفوزون بجنات النعيم فقال:
(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لكن من رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمله الصالحات فألئك يمحو الله سوابق معاصيه بالتوبة ويثبت له لواحق طاعته.
قال الحسن: قال قوم هذا التبديل فى الآخرة وليس كذلك.
وقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن السيئات تبدل بحسنات» ،
وروى معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» .
والخلاصة- إنه يعفو عن عقابه، ويتفضل بثوابه، والله واسع المغفرة لعباده، فيثيب من أناب إليه بجزيل الثواب، ويبعد عنه شديد العقاب.
(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً) أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها، وندم على ما فرط منه، وزكى نفسه بصالح الأعمال، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحا، مقبولة لديه، ماحية للعقاب، محصلة لجزيل الثواب، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل، ويوفقه للخير، ويبعده عن الضير.
وفى هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها.
(7) (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي والذين لا يؤدون الشهادات الكاذبة، ولا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيه كاللغو فى القرآن وشتم الرسول والخوض فيما(19/40)
لا ينبغى، وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، (يطليه بمادة سوداء) ويحلق رأسه ويطوف به السوق.
ونحو الآية قوله: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» .
(8) (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي والذين إذا ذكّروا بها أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مبصرين بعيون راعية.
وفى هذا تعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما كانوا عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم، وجهلهم وضلالهم، فكأنهم صمّ لا يسمعون، وعمى لا يبصرون.
(9) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي والذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له- وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه فى الطاعة قرت بهم عينه، وسر قلبه، وتوقّع نفعهم له فى الدنيا حيا وميتا، وكانوا من اللاحقين به فى الآخرة ويسألون أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل.
روى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية» .
والخلاصة- إنهم طلبوا من ربهم أمرين- أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه فتقربهم أعينهم فى الدنيا والآخرة وأن يكونوا هداة مهتدين، دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين ذكر إحسانه إليهم بقوله:(19/41)
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي أولئك المتصفون بصفات الكمال، الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب، يجزون المنازل الرفيعة، والدرجات العالية، بصبرهم على فعل الطاعات، واجتنابهم للمنكرات، ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقّون التوفير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام.
ونحو الآية قوله: «والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار» .
ثم بين أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع فقال:
(خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي مقيمين فيها لا يظعنون ولا يموتون، حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا.
ونحو الآية قوله: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» .
ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم أمر رسوله أن يقول لهم:
(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) أي قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون، إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن، ولولاها لم يعتد بهم ربهم، ومن ثم لا يعبأبكم إذا لم تعبدوه، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه ويطيعه وحده لا شريك له كما قال: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .
(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي أما وقد خالفتم حكمى، وعصيتم أمرى، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل وكذبتم رسولى، فسوف يلزمكم أثر تكذيبهم، وهو العقاب الذي لا مناص منه، فاستعدوا له، وتهيئوا لذلك اليوم، فكل آت قريب.
وخلاصة ذلك- لا يعتد بكم ربى لولا عبادتكم إياه، أما وقد قصر الكافرون منكم فى العبادة، فسيكون تكذيبهم مفضيا لعذابهم وهلاكهم فى الدنيا والآخرة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصل ربنا على محمد وآله.(19/42)
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام
اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد:
(1) إثبات النبوة والوحدانية، والنعي على عبدة الأصنام والأوثان، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذلك مع ذكر شبهاتهم التي قالوها فى النبي صلى الله عليه وسلم وفى القرآن ثم تفنيدها.
(2) قصص بعض الأنبياء السالفين وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(3) العجائب الكونية من مدّ الظل وجعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار ومروج البحرين: العذب الفرات، والملح الأجاج، وجعل البروج فى السماء، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
(4) الأخلاق والآداب من قوله: وعباد الرحمن إلى آخر السورة.(19/43)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
سورة الشعراء
هى مكية نزلت بعد سورة الواقعة إلا آية 197 ومن 224 إلى آخر السورة فمدنية وآيها 227.
وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطانى السبع الطوال مكان التوراة، وأعطانى المئين مكان الإنجيل، وأعطانى الطواسين مكان الزبور، وفضّلنى بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبىّ قبلى» .
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(ا) إن فيها بسطا وتفصيلا لبعض ما ذكر فى موضوعات سالفتها.
(ب) إن كلتيهما قد بدئت بمدح الكتاب الكريم.
(ح) إن كلتيهما ختمت بإبعاد المكذبين.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)(19/44)
تفسير المفردات
لعل: هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار، وقال العسكري: إنها للنهى، وباخع نفسك: أي مهلكها من شدة الحزن، قال ذو الرمة:
ألا أيها الباخع الوجد نفسه ... لشىء تحته عن يديه المقادر
وأصل البخع: أن تبلغ بالذّبح البخاع (بكسر الباء) وهو عرق مستبطن فقار الرقبة، وذلك يكون من المبالغة فى الذبح، والأعناق: الجماعات، يقال جاءت عنق الناس: أي جماعة منهم، وذكر: أي موعظة، والمراد بالأنباء ما سيحل بهم من العذاب، وزوج: أي صنف، والكريم من كل شىء: المرضىّ المحمود منه.
الإيضاح
(طسم) تقدم أن بيّنا أن المراد بمثل هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور التنبيه، فهى أشبه بألا ونحوها من حروف التنبيه، ويا التي للنداء، وتقرأ بأسمائها فيقال طا- سين- ميم.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات القرآن البين الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل، والغىّ والرشاد.
(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أقاتل نفسك أسفا وحزنا على ما فاتك من إسلام قومك وخوفك ألا يؤمنوا؟
وقد يكون المعنى- لا تبخع نفسك ولا تهلكها أسى وحسرة على إيمانهم.
ونحو الآية قوله: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» وقوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
ثم بين سبب النهى عن البخع بقوله:
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي لو شئنا(19/45)
أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظّلّة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها- لفعلنا، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريا لا قسريا كما قال: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .
ومن ثم نفذ قدرنا، ومضت حكمتنا، وقامت حجتنا، على الخلق بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.
والخلاصة- إن القرآن وإن بلغ فى البيان الغاية غير موصّل لهم إلى الإيمان، فلا تبالغ فى الأسى والحزن، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئا، فحزنك عليهم لا يجدى نفعا، وقد كان فى مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعا لا كرها، ومن جراء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل، لكنهم ضلوا وأضلوا، وما ربك بظلام للعبيد.
ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيد الصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم فقال:
(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي وما يجىء هؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون ما أتيتهم به- ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلا أعرضوا عن استماعه وتركوا إعمال الفكر فيه ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه، وما كان أحراهم بذلك وهم أهل الذّكن والفطنة، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون.
وخلاصة ذلك- إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء.
ثم أكد إعراضهم بقوله:(19/46)
(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله فى الدنيا والآخرة كما قال: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» وقال: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .
ونحو الآية قوله: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
وقصارى ذلك- إنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق، وإنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل بلا تدبر ولا تفكير فى العاقبة.
وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم- ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها فى الآفاق فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟) أي أهم أصروا على ما هم عليه من الكفر بالله وتكذيب رسوله ولم يتأملوا فى عجائب قدرته ولم ينظروا فى الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلى الكبير؟
والخلاصة- كيف اجترءوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه، وإلهه هو الذي خلق الأرض وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين وتسترعى أنظار الغافلين.
ثم بين أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر، وعدموا التأمل والنظر فى الأكوان، ومن ثمّ فهم جاحدون فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولى الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها وجعل فيها الحدائق الغناء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم، ويعيدهم سيرتهم الأولى، ولكن أكثر الناس غفلوا(19/47)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
عن هذا، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه، وخالفوا أوامره، واجترحوا معاصيه، ولله در القائل:
تأمل فى رياض الورد ونظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
والخلاصة- إن فى هذا وأمثاله لآية عظيمة، وعبرة جليلة، دالة على ما يجب الإيمان به، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان، بل تمادوا فى الكفر والضلالة، وانهمكوا فى الغى والجهالة.
وفى هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم، وبيان سوء مآلهم.
ثم بشره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه وإظهاره عليهم فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره والقادر على كل ما يريد، وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك وإشراكهم بي وعبادتهم للأوثان والأصنام، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته بل يغفر له حوبته.
والخلاصة- إن ربك عزّ كل شىء وقهره، ورحم خلقه، فلا يعجل بعقاب من عصاه، بل يؤجله وينظره لعله يرعوى عن غيه، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر.
قصص موسى عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)(19/48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سوء حال المشركين وشدة عنادهم وقبيح لجاجهم- سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم وأنه ليس بالأوحد فى الأنبياء المكذبين، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات، وعظيم المعجزات، ولم تغن الآيات والنذر فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون، وأخذهم الله بذنوبهم وأغرقهم فى اليم جزاء اجتراحهم للسيئات، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات، وما ربك بظلام للعبيد.
الإيضاح
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، والظالمين لبنى إسرائيل باستعبادهم(19/49)
وذبح أبنائهم- قوم فرعون ذى الجبروت والطغيان، والعتوّ والبهتان، ليكون لهم فى ذلك عبرة لو تذكروا، فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم، حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم، إذ ابتلعهم اليم وأغرقوا جميعا.
ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه كما أسلفنا من قبل.
ثم أتبع ذكر إرساله عليه السلام إنذارهم وتسجيل الظلم عليهم وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله فقال:
(أَلا يَتَّقُونَ؟) أي قال الله لموسى: ألا يتقى هؤلاء القوم ربهم ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به.
فأجاب موسى عن أمر ربه الإتيان إليهم متضرعا إليه:
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى: رب إنى أخاف تكذيبهم إياى، فيضيق صدرى تأثرا منه ولا ينطلق لسانى بأداء الرسالة، بل يتلجلج بسبب ذلك، كما يرى أن كثيرا من ذوى اللسن والبلاغة إذا اشتد بهم الغم وضاق منهم الصدر تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم.
وفى هذا تمهيد العذر فى استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة، وعدم إلزام الحجة ومن ثم قال:
(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فأرسل جبريل عليه السلام إلى هرون، واجعله نبيا، وآزرنى به واشدد به عضدى، فبإرساله تحصل أغراض الرسالة على أتم وجه.
ثم ذكر سببا آخر فى الحاجة إلى طلب العون وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرسالة فقال:
(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم علىّ تبعة جرم بقتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكز بها، فأخاف إن أنا جئتهم وحدى أن يقتلونى من جرّاء ذلك- وهذا اختصار لما بسط من القصة فى موضع آخر.(19/50)
ومقصده عليه السلام بهذا طلب دفع بلوى قتله، خوف فوت أداء الرسالة ونشرها بين الملأ كما هو دأب أولى العزم من الرسل، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .
وفى هذا إيماء إلى أن الخوف قد يحصل من الأنبياء كما يحصل من غيرهم.
والخلاصة- إن موسى طلب من ربه أمرين: دفع الشر عنه، وإرسال هرون معه، فأجابه إليهما.
(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال له: لا تخف من شىء من ذلك، فاذهب أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتكما به مؤيّدين بآياتنا الدالة على صدقكما، وإنى ناصركما ومعينكما عليه، وهذا كقوله: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» .
(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأتياه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك لتطلق سبيل بنى إسرائيل وتخلّيهم وشأنهم، ليذهبوا إلى الأرض المقدسة موطن الآباء والأجداد التي وعدنا الله بها على ألسنة رسله، وكانوا قد استعبدوا أربعمائة سنة.
قال القرطبي: فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة فى الدخول عليه اهـ.
ووحّد الرسول هنا ولم يثنه كما جاء فى قوله: «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» لأن رسولا يستعمل للمفرد وغيره كما قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول
كما يستعمل كذل عدوّ وصديق كما جاء فى قوله: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» .
فأجابه فرعون على وجه التفريع والازدراء وذكر أمرين كما حكى سبحانه عنه:
(1) (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك ستين؟) أي أبعد أن ربيناك فى بيوتنا ولم نقتلك فى جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك بنعمنا ردحا من الزمن تقابل الإحسان بكفران النعمة، وتواجهنا بمثل تلك المقالة؟.
روى أنه لبث فيهم ثمانى عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة.(19/51)
(2) (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت ذلك القبطي الذي وكزته وهو من خواصى، فكنت من الجاحدين لنعمتى عليك من التربية والإحسان إليك.
وخلاصة ما سلف- إنه عدد نعماءه عليه أولا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وهو من خواصه، وهو بهذا أيضا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله.
فأجاب موسى عن الأمر الثاني، وترك أمر التربية، لأنها معلومة مشهورة، ولا دخل لها فى توجيه الرسالة، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم، سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا.
(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى مجيبا فرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهى قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الجاهلين بأن وكزني تأتى على نفسه، فإنى إنما تعمدت الوكز للتأديب، فأدى ذلك إلى القتل.
(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فخرجت هاربا منكم حين توقعت مكروها يصيبنى حين قيل لى: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» فوهب لى ربى علما بالأشياء على وجه الصواب، وجعلنى من المرسلين من قبله لهداية عباده وإرشادهم إلى النجاة من العذاب.
وخلاصة ما قال- إن القتل الذي توبخنى به لم يكن مقصودا لى، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فرارى، وإن أنتم أسأتم إلىّ فقد أحسن إلىّ ربى فوهب لى فهم الأمور على حقائقها وجعلنى من زمرة عباده المخلصين.
ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة فقال:
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال عبّدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا، وتمنّ من المنة بمعنى الإنعام: أي وما أحسنت إلىّ وربيتنى إلا وقد أسأت إلى بنى إسرائيل جملة، فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم فى أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة.(19/52)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
وخلاصة ذلك- أفيفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت به إلى مجموعهم؟
فهو ليس بشىء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع، وكأنه قال: إن هذا ليس بنعمة، لأن الواجب عليك ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومى، فكيف تذكر إحسانك إلىّ على الخصوص، وتنسى استعباد الشعب كله.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
الإيضاح
لما دخل موسى وهرون على فرعون وقالا له: إنا رسولا رب العالمين أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق وإرشادك إلى طريق الرشد، وغلباه بالحجة رجع إلى معارضة موسى فى قوله: َسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) أي قال لموسى: إنك تدّعى أنك رسول من رب العالمين فما هو؟ إذ كان قد قال لقومه: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» .
فأجابه موسى عن سؤاله:
(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي قال: رب العالمين هو خالق العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم(19/53)
السفلى وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوان ونبات وما بين ذلك من هواء وطير، إن كانت لكم قلوب موفقة، وأبصار نافذة.
حينئذ عجب فرعون من كلام موسى والتفت إلى الملأ حوله معجّبا لهم من ذلك المقال.
(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ؟) أي التفت فرعون إلى الملأ والرؤساء من حوله وقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تعجبون من مقالته وزعمه أن لكم إلها غيرى؟
ثم زاد موسى وصف إلههم إيضاحا وبيانا.
(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي قال: إنه هو خالقكم وخالق من قبلكم من آبائكم وأجدادكم.
وقد انتقل بهم موسى من النظر فى الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر فى الأنفس وما فيها من عجيب الصنع، فإن التناسل المستمر فى النبات والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر فى الآفاق.
ولما لم يستطع ردا لما جاء به أورد ما يشككّ قومه فى حسن تقديره للأمور وفهمه لما يقول:
(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم لا عقل له، إذ يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه، فهو يدّعى أن ثمّة إلها غيرى.
ثم وصف موسى الإله بأنه. خالق الأكوان، ورب الزمان والمكان.
(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قال موسى: إن ربكم هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها مع انتظام مداراتها، وتغير المشارق والمغارب كل يوم، إن كان لكم عقول تفقهون بها ما يقال لكم، وتسمعون بها ما تسمعون، إذ فى كل(19/54)
ذلك أدلة على أن هناك إلها مصوّرا صوّر هذه العوالم كلها وأبدعها وزيّنها ورتبها ونظّمها على أحسن النظم.
وقد لاينهم أوّلا وعاملهم بالرفق حيث قال لهم: إن كنتم موقنين، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ لهم فى الرد وعارضهم بمثل مقالهم بقوله إن كنتم تعقلون، لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه.
ولما قامت الحجة على فرعون عدل إلى القهر واستعمال القوة ولبس لموسى جلد التمر كما حكى سبحانه عنه.
(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي قال له: لأجعلنّك فى زمرة الذين فى سجونى على ما تعلم من فظاعة أحوالها، وشديد أهوالها، وكانت سجونه أشد من القتل، لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه فى هوّة عميقة تحت الأرض وحده، وفى توعده بالسجن ضعف منه، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعا شديدا.
وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريّا، ويلجأ إلى المعجزات، وخوارق العادات.
(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟) أي أتفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة على صدق دعواى، وهى المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته، وعلى صدق دعوى من ظهرت على يديه.
وحين سمع فرعون هذا الكلام من موسى.
(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى دعوى الرسالة، فإن من يدّعى النبوة لا بد له من حجة على صدق ما يدعى، وقد أمره بذلك ظنا منه أنه يقدر على معارضته.(19/55)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
تفسير المفردات
مبين: أي ظاهر أنه ثعبان بلا تمويه ولا تخييل كما يفعل السحرة، الملأ:
أشراف القوم، عليم: أي خبير بفن السحر حاذق فى تلك الصنعة، فماذا تأمرون؟
أي فبم تشيرون، أرجه وأخاه: أي أخر أمرهما ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة، حاشرين: أي اجعل رجال الشرطة يحشرون السحرة.
الإيضاح
(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي فبعد أن قال له فرعون مقالته ألقى عصاه فإذا هى ثعبان واضح لا لبس فيه، ولا تخييل ولا تمويه،
وقد روى أنها لما صارت حية ارتفعت فى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال: بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.
وقد جاء فى آية أخرى «كَأَنَّها جَانٌّ» والجان الصغير من الحيات، تشبيها لها به من جراء الخفة والسرعة.
ولما أتى موسى بهذه الآية قال له فرعون: هل هناك غيرها؟ قال نعم.
(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي وأدخل يده فى جيبه ثم أخرجها فإذا هى تضىء الوادي من شدة نورها، وكأنها فلقة قمر، قال ابن عباس: أخرج موسى يده من جيبه فإذا هى بيضاء تلمع للناظرين، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يعشى الأبصار ويسدّ الأفق.(19/56)
ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد وذكره لأشراف قومه أمورا ثلاثة:
(1) (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي قال لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروّج عليهم بطلان ما يدّعيه موسى: إن هذا الرجل لبارع فى السحر حاذق فى الشعوذة، ومراده من هذا أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر لا من وادي المعجزات.
ثم هيّجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به والتنفير منه بقوله:
(2) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر، فيكثر أعوانه وأتباعه، ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم.
(3) (فَماذا تَأْمُرُونَ) أي فأشيروا علىّ ماذا أصنع؟ وبم أدافعه عما يريد؟
ومثل هذا القول يوجب جذب القلوب والتضافر فى مكافحة العدو والتغلب عليه جهد المستطاع.
قال المفتى أبو السعود: بهره سلطان المعجزة وحيره حتى حطه من ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده فى زعمه، والامتثال لأمرهم، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم بعد ما كان مستقلا بالرأى والتدبير، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه، ونسبه إلى إخراجهم من الأرض لتنفيرهم منه.
(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي قالوا: أخّر البت فى أمرهما، ولا تعاجلهما بالعقوبة، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك، وأقاليم دولتك، كل سحار عليم، ثم تقابلهم به وجها لوجه ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة وقرعت الدليل بمثله، ويكون لك النصر والتأييد عليه، وتجتذب قلوب الشعب إليك.(19/57)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
وقد كان هذا من تسخير الله تعالى له، ليجتمع الناس فى صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه للناس فى وضح النهار جهرة.
روى أن فرعون أراد قتله فقال له الملأ: لا تفعل. فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة فى أمره، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم، ظنا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره، وتم لفرعون الغلب.
فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 51]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
تفسير المفردات
الميقات: ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام، واليوم المعلوم: هو يوم الزينة الذي حدده موسى فى قوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس(19/58)
ضحى، وعزة فرعون: أي قوته التي يمتنع بها من الضيم، تلقف: أي تبتلع بسرعة، يأفكون: أي يقلبونه عن وجهه وحقيقته بكيدهم وسحرهم، من خلاف: أي بقطع الأيادى اليمنى والأرجل اليسرى، لا ضير: أي لا ضرر علينا فيما ذكرت، منقلبون:
أي راجعون.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه هذه المناظرة بين موسى عليه السلام والقبط فى سورة الأعراف وسورة طه وفى هذه السورة.
وخلاصتها- إن فرعون وقومه أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وذلك شأن الإيمان والكفر والحق والباطل ما تقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» ومن ثم لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم مصر العليا وكانوا أبرع الناس فى فن السحر وأشدهم خداعا وتخيلا، وكانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا أحضروا مجلس فرعون، فطلبوا منه الأجر إن هم غلبوا، فأجابهم إلى ما طلبوا، وزادهم عليه أن سيجعلهم من بطانته ومن المقربين إليه، ولكن المناظرة انتهت بغلبة موسى لهم وهزيمة من استنصر بهم، وإيمانهم بموسى، وحينئذ عاد إلى المكابرة والعناد، وشرع يتهدد السحرة ويتوعدهم ويقول: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ولكن ذلك لم يردّهم إلا إيمانا وتسليما، لعلمهم ما جهله قومهم من أن هذا لا يصدر عن بشر إلا إذا أيده الله وجعله حجة على صدق ما يدّعى، ومن ثمة قالوا له بعد أن توعدهم بقطع الأيدى والأرجل: إن ذلك لا يضيرنا، وإن المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، وإنا لنرجو أن يغفر لنا خطايانا، لأنا سبقنا قومنا من القبط إلى الإيمان، ويروى أنه قتلهم جميعا.(19/59)
الإيضاح
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت فى أمر موسى، وبان من الخير له أن يجمع السحرة، ليظهر عند حضورهم فساد قوله- رضى بما أشاروا به واستقر عليه الرأى وأحب أن تقع المناظرة فى يوم عيد لهم، لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس، ويتم الله نوره ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله.
(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي وقيل للناس حثا لهم على المبادرة إلى الاجتماع ومشاهدة ما يكون من الجانبين: هل أنتم مجتمعون فى ذلك الميقات لتروا ما سيكون فى ذلك اليوم المشهود، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وقد طلب أن يكون ذلك بمجمع من الناس لئلا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع من موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أن حجة الله هى الغالبة، وحجة الكافرين هى الداحضة، وفى ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة فى الاستظهار للمحقين، وقهر للمبطلين.
(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي إنا نرجو أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم ولا نتبع دين موسى.
(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي فلما جاء السحرة مجلس فرعون طلبوا منه الإحسان ببذل المال والتقرب إليه إن هم غلبوا، فأجابهم إلى ما طلبوا وزاد على هذا أن وعدهم بأنهم سيكونون من جلسائه وخاصة بطانته.
بعدئذ عادوا إلى مقام المناظرة وقالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين.
(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي قال لهم موسى ألقوا ما تريدون إلقاءه، مما يكون حجة لكم(19/60)
على إبطال ما أدعيه من المعجزات فألقوا ما معهم من الحبال والعصى وقد كانت مطليّة بالزئبق، والعصىّ مجوّفة مملوءة به، وقالوا بقوة فرعون وجبروته: إنا لنحن الغالبون، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها وصارت كأنها حيات تدبّ من كل جانب، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.
وجاء فى سورة طه: «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» .
وقد استفرغوا الوسع وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية بل ما فوقها وأن النصر قد كتب لهم.
(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون صورته وحاله الأولى بتمويههم وتخييل الحبال والعصى أنها حيات تسعى.
وجاء فى آية أخرى: «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
وقد قامت الحجة لموسى عليهم واستبان لهم أن هذا ليس من متناول أيديهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي فخروا سجد الله، لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحرى، فلما ابتلعت الحية ما زّوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى، حينئذ خروا سجدا لله القوى القاهر فوق عباده.
وفى التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا.
ثم فاهوا بما يجيش فى صدورهم، وتنطوى عليه جوانحهم.
(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا: آمنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون.(19/61)
وفى هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية، وأن سبب إيمانهم ما أجراه الله على يدى موسى وهرون من المعجزات.
وبعد أن حصحص الحق، وو صح الصبح لذى عينين، لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة وشرع يهدّد ويتوعد، ولكن ذلك لم يجد فى السحرة شيئا، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما، إذ كان حجاب الكفر قد انكشف، واستبان لهم نور الحق، وعلمهم ما جهل قومهم، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية قد أيده الله بها، وجعلها دليلا على صدق ما يدّعى.
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟) أي قال لهم: أتؤمنون به قبل أن تستأذنو، وقد كان ينبغى أن تفعلوا ذلك، وألا تفتاتوا علىّ، فإنى أنا الحاكم المطاع؟
ثم التمس لإيمانهم عذرا آخر غير انبلاج الحق، ليعمّى على العامة، ويصرفهم عن وجه الحق فقال:
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه.
ولا شك أن هذا تضليل لقومه، ومكابرة ظاهرة البطلان، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر.
ثم توعدهم فقال:
(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم، وسوء عاقبة ما اجترحتم.
ثم بين ذلك بقوله:
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأقطعنّ اليد اليمنى من كل منكم والرجل اليسرى، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك.
فأجابوه غير مكترثين بقوله، ولا عابثين بتهديده، بأمرين فى كل منهما دليل على اطمئنان النفس وبرد اليقين:(19/62)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
(1) (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي قالوا لا ضرر علينا فى تنفيذ وعيدك، ولا نبالى به، لأن كل حىّ لا محالة مائت.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ونحو ذلك قول على كرم الله وجهه: لا أبالى أوقعت على الموت أم وقع الموت علىّ؟
(2) (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ؟) أي ولأنا نؤمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من السحر، واعتقدناه من الكفر، من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا الموقف، انقياد للحق، وإعراضا عن زخرف الدنيا وزينتها.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(19/63)
تفسير المفردات
أسرى: سار ليلا، متبعون: أي يتبعكم فرعون وجنوده، والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، غائظون: أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا، حاذرون: أي من دأبنا الحذر واستعمال الحزم فى الأمور، كنوز: أي أموال كنزوها وخزنوها فى باطن الأرض، ومقام كريم: أي قصور عالية ودور فخمة، أورثناها: أي ملكناها لهم تمليك الميراث، مشرقين: أي داخلين فى وقت الشروق، تراءى الجمعان: أي تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر، لمدركون: أي سيدر كوننا ويلحقون بنا، كلا: أي لن يدركوكم، انفلق: انشق، الفرق: الجزء المنفرق منه، والطود: الجبل، وأزلفنا:
أي قرّبنا. وثمّ: أي هناك، لآية: أي لعظة وعبرة توجب الإيمان بموسى.
المعنى الجملي
أقام موسى بين ظهرانى المصريين يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا واستكبارا، يرشد إلى ذلك قوله فى سورة الأعراف: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» الآيات، ثم أمره الله أن يخرج بنى إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضى بهم حيث يؤمر، ففعل ما أمر به وخرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليّا كثيرة.
فلما وصل علم ذلك إلى فرعون أرسل فى المدائن حاشرين يجمعون له الجند، ثم قوّى نفسه ونفس أصحابه، بأن وصف بنى إسرائيل بالقلة، وأن أفعالهم تضيق بها الصدور، وتوجب الغيظ، وهو مستعد أن يبيدهم بما لديه من قوة وجند، ثم تبعهم هو وجنوده وقت الشروق، فلما تقارب الجمعان خاف أصحاب موسى وقالوا إن فرعون وقومه لاحقون بنا لا محالة. فقال لهم موسى لن يدركوكم وإن ربى سيهدينى إلى طريق النجاة وحينئذ أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق حتى صار شكل الماء المتراكم كالجبل العظيم، فسار هو وقومه فى اليبس حتى جاوزوا البحر(19/64)
من الجانب الآخر، ودخل فرعون وجنوده من الجانب الأول فانطبق البحر عليهم وأغرقوا أجمعون.
وهذه آية كان من حقها أن توجب الاعتبار والعظة فيؤمن به من بقي من المصريين لكنهم لم يفعلوا.
الإيضاح
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي وأوحينا إليه أن سر بعبادي ليلا حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم فلا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على إثركم حين تلجونه، فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فيغرقون.
وقد جاء فى سفر الخروج من التوراة فى الإصحاح الحادي عشر: إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة، وأن الله سيميت كل بكر فى أرض مصر من الإنسان والحيوان، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة فى اليوم الرابع عشر من شهر الخروج، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف، وهذا هو (فصح الرب) وهذا الدم علامة على بيوت بنى إسرائيل حتى يحفظ كل بكر منهم ويتخطاهم الموت إلى أبكار المصريين، ويكون أكل الفطير سبعة أيام، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارا بالخروج من مصر من يوم 14 من شهر أبيب إلى 21 من هذا الشهر كل سنة.
وهكذا أمر موسى قومه بذلك، ففعلوا كل هذا ونجا أولادهم، وصار ذلك سنة أبدية.
ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان فى جميع بلاد مصر فى نصف الليل اشتغل الناس بالأموات، وأخذ بنو إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر، ومعاجنهم(19/65)
مصرورة فى ثيابهم على أكتافهم، وفعلوا ما أمرهم به الرب، فارتحلوا من رعمسيس إلى سكوت وكانوا ستمائة ألف ماش من الرجال ما عدا الأولاد، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملّة (فطيرا) اهـ.
وكانت إقامة بنى إسرائيل فى مصر 430 سنة، وليلة الخروج هى عيد الفصح عندهم إلى الأبد.
(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي فلما أسرى بهم موسى وأخبر فرعون بما صنعوا، أرسل فى مدائن مصر رجالا من حرسه، ليجمعوا الجند فيتبعوهم ويردّوهم إلى مصر، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا.
ثم قوّى فرعون جنده فى اقتفاء آثارهم بأمور:
(ا) (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم وكبح جماحهم فى الزمن الوجيز.
(ب) (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن، فيحدثون الشغب والاضطراب فى البلاد- إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها.
(ج) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم ويصعب رأب صدعهم، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر، واستعمال الحزم فى الأمور.
والخلاصة- إنه أشار أولا إلى عدم الموانع التي تمنع اتباعهم من قلة وجود الشّوكة لهم، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم لهم، ووجوب التيقظ فى شأنهم حثا منه عليه.
وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه.
وخلاصة مقاله- إن هؤلاء عدد لا يعبأ به، وإن فى مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم ورددناهم على أعقابهم(19/66)
خاسئين، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب فى البلاد، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة فى الأمور.
والذي نجزم به أن بنى إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون، لكنا لا نجزم بعدد معين، وما فى كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها ولا ينبغى التعويل عليها، فخير لنا ألا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها، وقد فنّد ابن خلدون فى مقدمة تاريخه هذه الروايات وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح.
وقد جازى الله فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بنى إسرائيل فأهلكوا جميعا كما قال:
(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ) أي فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم، وتركوا المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله، وقد كان الأمر حقا كما قلنا.
ثم بين ما آل إليه أمر بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر:
(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وملّكنا بنى إسرائيل جنات وعيونا مماثلة لها فى أرض الميعاد التي ساروا إليها، وفى هذا بيان لأن حالهم تحوّل من الاستعباد والرقّ إلى الترف والنعيم فى الجنات والعيون والمقام الكريم.
ونحو الآية قوله: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» .
(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي فخرجوا من مصر فى حفل عظيم وجمع كثير من أولى الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند، فوصلوا إليهم حين شروق الشمس.
ثم ذكر ما عرا بنى إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه.
(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي فلما رأى كل من(19/67)
الفريقين صاحبه قال بنو إسرائيل: إن فرعون وجنوده سيلحقوننا ويقتلوننا، وكانوا قد قالوا لموسى من قبل: إنا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، فقد كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا يدركوننا ويقتلوننا.
والخلاصة- إنا لمتابعون وسنهلك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد لأناقد انتهى بنا السير إلى سيف البحر (ساحله) وقد أدركنا فرعون وجنوده.
فأجابهم موسى وطمأنهم وقوّى نفوسهم.
(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي قال لهم موسى: إنه لن يصلكم شىء مما تحذرون، فإن الله هو الذي أمرنى أن أسير بكم إلى هنا، وهو سبحانه لا يخلف وعده، فهو:
(1) سيهدينى إلى طريق النجاح والخلاص.
(2) سينصرنى عليهم ويتكفّل بمعونتي.
ثم ذكر سبحانه كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه فقال:
(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي وصار فيه اثنا عشر طريقا، لكل سبط منهم طريق وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض كما قال فى آية أخرى: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» .
(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي وقربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم منه.
(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي وأنجينا موسى وبنى إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرقنا: فرعون وجنوده ولم نبق منهم أحدا.(19/68)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
والخلاصة- إنه لما خرج أصحاب موسى وتتامّ أصحاب فرعون، انطبق عليهم البحر فأغرقهم جميعا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى الذي حدث فى البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، من حيث كان معجزة له، وتحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم بيّن أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئا.
(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وإن أكثرهم لم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات.
وفى ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات على يديه، فنبهه بهذا الذكر إلى أن له أسوة بموسى عليه السلام، فإن ما ظهر على يديه من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب أكثر القبط له وكفرهم به مع ما شاهدوه فى البحر وغيره، وتكذيب بنى إسرائيل، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
ثم توعدهم وقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
وفى هذا بشارة لنبيه بأن النصر سيكتب له، والفوز سيكون حليفه كما قال:
«وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» .
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)(19/69)
المعنى الجملي
لما ذكر فى أول السورة شدة حزنه صلى الله عليه وسلم على كفر قومه وعدم استجابتهم دعوته، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون فى ذلك تسلية له، وليعلم أنه ليس ببدع فى الرسل، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادا واستكبارا، فقد أتى موسى بباهر المعجزات، وعظيم الآيات، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل، ولم يؤمن به من المصريين إلا النذر اليسير- أردف ذلك بقصص إبراهيم أبى الأنبياء، وخليل الرحمن، وكليم الله، ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد، وآلامه كانت أمض، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم، وقد أكثر حجاجهم حتى حجّهم ولم يجد ذلك فيهم شيئا، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا، فهى لا تسمع دعاءهم «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ» ولو سمعت لم تغن عنهم شيئا. ثم ذكر لهم صفات الرّب الذي ينبغى أن يعبد وفصلها أتم التفصيل.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟) أي واتل على أمتك أخبار إبراهيم إمام الحنفاء، ليقتدوا به فى الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده(19/70)
لا شريك له والتبري من الشرك وأهله، وقد أوتى الرشد من صغره، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأصنام فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له، ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.
روى أنّ أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل، المزهوّ بجميل ما يصنع.
(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قالوا نعبد الأصنام ونقيم على عبادتها طوال ليلنا ونهارنا. وبعد أن أوضحوا له طريقتهم نبههم إلى فساد معتقدهم بسوق الدليل الذي يرشد إلى بطلانه.
(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟) أي قال لهم:
هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم فيستجيبوا لكم ببذل معونة أو دفع مصرة؟.
ذاك أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه فى المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له ببذل المعونة من جلب نفع أو دفع ضر، فإذا كان ما تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ما استطاع مدّ يد المعونة، فكيف بكم تستسيغون لأنفسكم أن تعبدوا ما هذه صفته؟.
وحينئذ فلجت حجة إبراهيم ولم يجدوا مقالا يقولونه وكأنما ألقمهم حجرا، فعدلوا عن الحجاج إلى اللجاج، وتقليد الآباء والأجداد، وتلك هى حجة العاجز المغلوب على أمره، الذي أظلم وجه الحق أمامه، ولم يهتد لحجة ولا دليل.
فزاد فى تقريعهم وتوبيخهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدّعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلىّ بالمساءة فإنى عدوّ لها، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها، ولكن رب العالمين هو ولى فى الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلا علىّ فيهما.
ونحو هذا قول نوح عليه السلام «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» وقول هود:(19/71)
«إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد:
(1) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى، وهو الذي يهدينى إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.
(2) (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي وهو رازقى بما يسرّ من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى.
(3) (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وهو الذي ينعم علىّ بالشّفاء إذا حصل لى مرض، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» .
والخلاصة- إنى إذا مرضت لا يقدر على شفائى أحد غيره بما يقدّر من الأسباب الموصلة إلى ذلك.
(4) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو، فهو الذي يبدئ ويعيد، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء.
(5) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب فى الآخرة إلا هو كما قال: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» وسمى إبراهيم ما صدر منه من عمل- هو خلاف الأولى- خطيئة، استعظاما له.
وخلاصة مقاله- إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هى من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شىء منها.(19/72)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وفى صحيح مسلم عن عائشة «قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه، إنه لم يقل يوما:
رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين» .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
تفسير المفردات
الحكم: هو العلم بالخير والعمل به، واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام فى زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، لسان صدق: أي ذكرا جميلا بين الناس بتوفيقى إلى الطريق الحسنة حتى يقتدى بي الناس من بعدي، وهذا هو الحياة الثانية كما قال: قد مات قوم وهم فى الناس أحياء، من ورثة جنة النعيم: أي من الذين يتمتعون بالجنة وسعادتها فيكون ذلك غنيمة لهم كما يتمتع الناس بالميراث فى الدنيا، والخزي: الهوان، والقلب السليم: هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة.
المعنى الجملي
بعد أن أثنى إبراهيم على ربه بما أثنى عليه- ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه، ليستغرق فى معرفة ربه ومحبته، ويصير أقرب شبها بالملائكة الذين(19/73)
يعبدون الله بالليل والنهار لا يفترون، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به فى دينه ودنياه، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدى إلى ما يريد، ومن ثم جاء فى الأثر حكاية عن الله تعالى: «من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» .
الإيضاح
دعا إبراهيم ربه أن يؤتيه من فضله أجمل الأخلاق وأكمل الآداب، فطلب إليه أمورا هي:
(1) (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي ائتني معرفة بك وبصفاتك، ومعرفة للحق لأعمل به.
(2) (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي ووفقني للعمل فى طاعتك، لأنتظم فى سلك المقربين إليك، المطيعين لك، وقد أجاب الله دعاءه كما قال: «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» .
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى دعائه: «اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدّلين» .
(3) (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي وخلّد ذكرى الجميل فى الدنيا بتوفيقى لصالح العمل، فأكون قدوة لمن بعدي إلى يوم القيامة، وقد أجاب الله دعاءه كما قال: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .
ومن ثم لا نرى أمة إلا محبة لإبراهيم وتدّعى أنها على ملته، وقد جاء من ذريته كملة الأنبياء وأولو العزم منهم.
وختم ذلك بمجدّد دينه، وداعية الناس إلى التوحيد وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن طلب سعادة الدنيا طلب ثواب الآخرة فقال:(19/74)
(4) (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي واجعلنى ممن يدخلون الجنة ويتمتعون بنعيمها كما يتمتع المالك بما يملكه ميراثا ويئول إليه أمره من شئون الدنيا.
وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأقرب الناس إليه وهو أبوه فقال:
(5) (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي واغفر له ذنوبه، إنه كان ضالا عن طريق الهدى، وهذه الدعوة وفاء بما وعده من قبل كما جاء فى آية أخرى:
«وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» .
ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة فقال:
(6) (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي ولا تخزنى بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص مرتبتى عن بعض الوارثين.
ثم بين حال هذا اليوم وما فيه من شديد الأهوال فقال:
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي يوم لا يقى المر، من عذاب الله المال ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعا، ولكن ينفعه أن يجىء خالصا من الذنوب وأدرانها، وحب الدنيا وشهواتها، وخص الابن بالذكر لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى.
قال النسفي: وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين، حيث سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة فى نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى، فعظم شأنه، وعدّد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته، مع ما يرجى فى الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأدب، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعذابه وما يفعل المشركون يومئذ من الند(19/75)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا اهـ.
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» الآية. وقال بعض أصحاب رسول الله لو علمنا أىّ المال خير اتخذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
تفسير المفردات
أزلفت: أي قرّبت، برزت: أي جعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها، والغاوين: الضالين عن طريق الحق، فكبكبوا: أي ألقوا على وجوههم مرة بعد أخرى من قولهم كبّه على وجهه: أي ألقاه، يختصمون: أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين، نسويكم: أي نجعلكم مساوين له فى استحقاق العبادة، والصديق:
هو الصادق فى وده، والحميم: هو الذي يهمه ما أهمك، والكرة: الرجعة.(19/76)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لا ينفع فى هذا اليوم مال ولا بنون، وإنما ينفع البعد من الكفر والنفاق- ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورا تبين شديد أهواله، وعظيم نكاله.
الإيضاح
ذكر ما يحدث فى هذا اليوم مما يبشر بثواب المتقين ونكال الكافرين، ثم قرّعهم على ما اجترحوا من السيئات فقال:
(1) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي إن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها، ويفرحون بأنهم سيحشرون إليها كما جاء فى آية أخرى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» .
وفى هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها.
(2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي وتكون النار بارزة مكشوفة للأشقياء، بحيث تكون بمرأى منهم، يسمعون زفراتها التي تبلغ منها القلوب الحناجر، ويوقنون بأنهم مواقعوها، لا يجدون عنها مصرفا.
وفى هذا تعجيل للغم والحسرة، إذا نسوا فى دنياهم هذا اليوم كما جاء فى قوله:
«وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .
ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعا لهم.
(3) (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟)(19/77)
أي أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم؟ لا- إنهم وآلهتهم وقود النار.
والخلاصة- ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئا، ولا هى بدافعة عن نفسها شيئا، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.
ثم ذكر مآلهم بعدئذ فقال:
(4) (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي فألقى الآلهة والغاوون الذين عبدوها فى النار، والشياطين والداعون إلى عبادتها- على رءوسهم أو ألقى بعضهم على بعض.
وتأخير الغاوين فى الكبكبة عن آلهتهم ليشاهدوا سوء حالهم، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم.
ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة.
(5) (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين: تالله إننا كنا فى ضلال واضح لا لبس فيه حين سويناكم برب العالمين فى استحقاق العبادة وعظمناكم تعظيم المعبود الحق، وما أضلّنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء كما جاء فى آية: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» .
وخلاصة ذلك- إنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها.
ثم أكّدوا ندمهم على ما فرط منهم وحسرتهم على ما صنعوا.
(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما(19/78)
نحن فيه من ضيق أو ينقذنا من هلكة، ولا صديق شفيق بعنيه أمرنا ويودنا ونوده.
ونحو الآية ما جاء فى آية أخرى حكاية عنهم: «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» .
وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع، وقد نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم فى تخليصهم من العذاب بشفاعته، ثم ترقّوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم.
والخلاصة- إن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع.
ثم حكى الله عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله يعلم إنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فقال:
(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) / 103 أي إن فى محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم فى التوحيد- لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره، ولا معبود سواه، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم.
وفى هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم- لهو القادر على الانتقام منهم، الرحيم بهم إذ لم يهلكهم، بل أخّر ذلك وأرسل إليهم الرسل ونصب لهم الشرائع، ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.(19/79)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
قصص نوح عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
تفسير المفردات
القوم: اسم لا واحد له من لفظه كرهط ونفر يذكّر ويؤنث، أخوهم: أي أخوّة نسب، كما يقال يا أخا العرب ويا أخاتيم، يريدون يا من هو واحد منهم قال الحماسى:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا
الأرذلون: واحدهم أرذل، والرذالة: الخسة والدناءة، وقد استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة حظوظهم من الدنيا، من المرجومين: أي من المقتولين رميا بالحجارة،(19/80)
فافتح: أي احكم من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفلك: يستعمل واحدا وجمعا، المشحون: أي المملوء
المعنى الجملي
بعد أن قص على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد وما حجهم به من الآيات- أردف هذا بقصص الأب الثاني وهو نوح عليه السلام، وفيه ما لا فاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» فأغرقهم الطوفان ولم ينج منهم إلا من حملته السفينة.
وهذا القصص مجمل تقدم تفصيله فى سورتى الأعراف وهود، وسيأتى بسطه أتم البسط فى سورة نوح.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون الله فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله؟.
وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا، لأن تكذيبه يتضمن تكذيب غيره منهم إذ طريقتهم لا نختلف فهى فى كل مكان وزمان الدعوة إلى التوحيد وأصول الشرائع.
وقد حكى سبحانه عن نوح أنه خوفهم أوّلا بقوله: ألا تتقون؟ لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدا، والمقلد إذا خوّف خاف، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر.(19/81)
وقد وصف نوح نفسه بأمرين:
(1) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إنى رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالاته، لا أزيد فيها، ولا أنقص منها.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي خافوا عقاب الله وأطيعونى فيما آمركم به من التوحيد، وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن التقوى هى ملاك الأمر كله فى هذه الحياة وكرر الأمر بها لأنها العمدة فى جميع الأعمال، فيجب على العامل ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل.
(2) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا أطلب منكم جزاء على نصحى لكم، بل أطلب ثواب ذلك من عند الله.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح الأمر لكم، وبان نصحى وأمانتى فيما بعثني الله به وائتمنى عليه، وسبب التكرير ما علمته من قبل، ونظير هذا ما يقول الوالد لولده:
ألا تتقى الله فى عقوقى وقدر بيتك صغيرا؟ ألا تتقى الله فى عقوقى وقد علمتك كبيرا؟.
وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هى أوهى من بيت العنكبوت.
(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟) أي قالوا كيف نتبعك ونصدّقك ونؤمن بك ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك؟ ومرادهم أن هذا لن يكون أبدا وهذه شبهة لا ينبغى لعاقل أن يركن إليها، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، لا بارق بين غنى وفقير، وصعلوك وأمير، ولا بين ذوى البيوتات والحسب، وذوى الوضاعة والخسة فى النسب، فليس له إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش والبحث عن البواطن، ومن ثم أجابهم:
(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) أي وأىّ شىء يعلمنى ما كان يعمل أتباعى؟
إنما لى منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنا، ومن أظهر(19/82)
السوء ظنت به ذلك، ولم أكلّف العلم بأعمالهم، وإنما كلّفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصناعات والفقر والغنى، وهم كأنهم يقولون إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح. بل لتوقع مال ورفعة.
ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم لا عليه، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم فقال:
(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ما حسابهم على ما تحويه سرائرهم إلا على ربهم المطّلع عليها لو كنتم من ذوى الشعور والعقل.
ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم فقال:
(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعنى وصدق بما جئت به من عند الله.
ثم بين وظيفة الرسول فقال:
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت منذرا ومخوّفا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطعنى كان منى وأنا منه، شريفا كان أو وضيعا، جليلا كان أو حقيرا.
ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجئوا إلى التهديد.
(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي قال قوم نوح له: لئن لم تنته عما تدعو إليه من الطعن فى آلهتنا لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها.
ولما طال مقامه بين ظهرانيهم، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وإعلانا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمّوا آذانهم وصمموا على تكذيبه وتمادوا فى عتوّهم واستكبارهم- استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسلهم وينجيه والمؤمنين به.
(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن قومى كذبونى فيما أتيتهم به من الحق من عندك، فاحكم بينى وبينهم حكما تهلك به المبطل وتنتقم منه وتنصر به الحق وأهله.(19/83)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
وجاء فى آية أخرى «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» .
وفى ذلك إيماء إلى طلب إنزال العذاب بهم كما يرشد إلى ذلك قوله: (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
فأجاب الله دعاءه كما قال:
(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أي فأنجينا نوحا ومن اتبعه على الإيمان بالله وطاعة رسوله، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره.
وفى قوله- المشحون- إيماء إلى كثرتهم وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم، وقد روى أنهم كانوا ثمانين، أربعين رجلا وأربعين امرأة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك المصدقين منهم والمكذبين، على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم، وكذلك هى سنتى فيك وفى قومك.
(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل، وفى هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين لما عوجلوا بالعقاب.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته.
قصص هود عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)(19/84)
تفسير المفردات
عاد: اسم أبى القبيلة الأكبر، ويعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة باسم الأب أو بينى فلان أو آل فلان، والريع (بالفتح والكسر) المكان المرتفع، ويقال كم ريع أرضك أي ارتفاعها، آية: أي قصرا مشيدا عاليا، تعبثون: أي تفعلون العبث، وما لا فائدة فيه، مصانع: أي قصورا مشيدة وحصونا منيعة، ولعل هنا معناها التشبيه أي كأنكم تخلدون، والبطش: الأخذ بالعنف، والجبار: المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة، أمدكم: أي سخر لكم، والوعظ: كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد، خلق الأولين: أي عادتهم التي كانوا بها يدينون، ونحن بهم مقتدون: نموت ونحيا بلا حساب ولا بعث.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص نوح وقومه وأن نوحا دعاهم وحذرهم عقاب الله وطال عليه المطال ولم يزدهم ذلك إلا عتوّا ونفورا، فدعا ربه فأخذهم الطوفان وهم ظالمون- أردف هذا قصص هود عليه السلام مع قومه عاد، وكانوا بعد قوم نوح كما قال فى سورة(19/85)
الأعراف «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» . يسكنون الأحقاف، وهى جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال، وجنات وأنهار وزروع وثمار، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فبعث الله فيهم نبيّا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ويحذّرهم نقمته وعذابه، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت هذه المقالة على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه إلى أن بعثة الأنبياء أسّها الدعاء إلى معرفة الله وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب، وأن الأنبياء مجمعون على ذلك وإن اختلفوا فى تفصيل الأحكام تبعا لاختلاف الأزمنة والعصور، وأن الأنبياء منزّهون عن المطامع الدنيوية لا يأبهون بها، ولا يجعلونها قبلة أنظارهم، ومحط رحالهم.
ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه فقال:
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟) أي أتبنون فى كل مرتفع عال قصرا مشيدا للتفاخر والدلالة على الغنى.
(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي وتتخذون الحصون والقلاع كأنكم مخلّدون فى الدنيا.
روى ابن أبى حاتم أن أبا الدرداء رضى الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون فى غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام فى مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا تستجيبون، ألا تستجيبون، تجمعون(19/86)
ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأكلون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان، خيلا وركابا، فمن يشترى منى ميراث عاد بدرهمين؟.
(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذوو جبروت وعتوّ، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة.
وخلاصة ما قال- إن أفعالكم تدل على حب الدنيا وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف.
ولما نهامم عن حب الدنيا والاشتغال بالسّرف والجبروت، دعاهم إلى العمل للآخرة زجرا لهم عما هم فيه فقال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاحذروا عقاب الله، واتركوا هذه الأفعال الذميمة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإن ذلك أجدى لكم وأنفع.
ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم الله التي غمرتهم، وفواضله التي عمّتهم، وذكرها أوّلا مجملة ثم فصلها ليكون ذلك أوقع فى نفوسهم فيحتفظوا بها ويعرفوا عظيم قدرها فقال:
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي واتقوا عقاب الله بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد فى الأرض، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار تتمتعون بها كما شئتم، حتى صرتم مضرب الأمثال فى الغنى والثروة والزخرف والزينة، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها وتعظيمه وحده.
ثم بين السبب فى أمرهم بالتقوى فقال:
(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم(19/87)
ولم تشكروا هذه النعم، عذاب يوم شديد الهول تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وترى الناس فيه سكارى حيارى وما هم بكارى، ولكن عذاب الله شديد.
وبعد أن بلغ الغاية فى إنذارهم وتخويفهم، وترغيبهم وترهيبهم كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا، كما أشار إلى ذلك بقوله:
(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي هوّن عليك وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد فى غير عدوّ، وضرب فى حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى سبحانه قولهم فى سورة هود: «وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» .
ثم ذكروا السبب فى أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم:
(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أي فاستمروا فى تكذيبهم ومخلفة أمر رسوله، فأملكناهم بريح صرصر عاتية: (ريح عظيمة ذات برد شديد) كما جاء فى قوله: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» وقوله: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى» :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها- لعبرة لقومك المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك.
(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون فى سابق علمنا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو الشديد فى انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا.(19/88)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
قصص صالح عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
تفسير المفردات
الطلع: أول ما يطلع من الثمر وبعده يسمى خلالا ثم بلحا ثم بسرا ثم رطبا ثم تمرا، والهضيم: هو النضيج الرّخص اللين اللطيف، والنحت: النجر والبرى،(19/89)
والنّحاتة: البراية، والمنحت: ما ينحت به، والفره: النشاط وشدة الفرح، من المسحّرين: أي الذين سحروا حتى ذهبت عقولهم، الشرب: (بالكسر) النصيب والحظ، فعقروها: أي رموها بسهم ثم قتلوها.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص عاد وهود- قص قصص ثمود وصالح وقد كانوا عربا مثلهم يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام، ومساكنهم معروفة تتردد عليها قريش فى رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام.
دعاهم صالح إلى عبادة الله وحده وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم، لآيات المصدّقة لرسالته، فأخذهم العذاب وزلزلت بهم الأرض ولم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كذبت ثمود أخاهم صالحا حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه، وخلافكم أمره، بطاعتكم أمر المفسدين فى الأرض؟ إنى لكم رسول من عند الله أرسلنى إليكم بتحذيركم عقوبته، أمين على رسالته التي أرسلها معى إليكم، فاتقوه وأطيعونى، وما أسألكم على نصحى وإنذارى جزاء ولا ثوابا، ما جزائى إلا على رب السموات والأرض وما بينهما.(19/90)
ثم خاطب قومه واعظا لهم ومحذرا نقم الله أن تحل بهم ومذكّرا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة والجنات والعيون والزروع والثمرات، والأمن من المحذورات فقال:
(1) (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟) أي لا نظنوا أنكم تتركون فى دياركم آمنين متمتعين بالجنات والعيون والزروع والثمار اليانعة، وأن لا دار للجزاء على العمل. بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعيم، وأمن من عدوّ، لن يدوم وأنكم عائدون إلى ربكم، مجازون على أعمالكم خيرها وشرها.
(2) (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي وتتخذون تلك البيوت المنحوتة فى الجبال أشرا وبطرا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام فى بنائها، فاتقوا الله وأقبلوا على ما يعود عليكم نفعه فى الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وتسبيحه بكرة وأصيلا.
(3) (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا فى معصية ربكم واجترءوا على سخطه، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون فى الأرض ولا يصلحون وهم لنذكورون فى قوله:
«وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» أي يسعون فى أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته.
وخلاصة هذا- لا تطيعوا رؤساءكم وكبراءكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.
ولما عجزوا عن الطعن فى شىء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة.
(1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي أنت ممن سحر كثيرا حتى غلب على عقله، فلا يقبل لك قول، ولا يسمع لك نصح.(19/91)
(2) (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحى إليك دوننا؟ كما حكى عنهم فى آية أخرى: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟»
فأجابهم إلى ما اقترحوا من الآيات الدالة على صدقه فيما جاء به من عند ربه.
(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقة: يا قوم هذه ناقة الله آية لكم، ترد ماءكم يوما وتردونه أنتم يوما، فلها حظ من الماء يوما ولكم مثله يوما آخر.
قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولا تشرب فى يومهم ماء.
روى أنهم اقترحوا عليه عشراء (الحامل فى عشرة أشهر) تخرج من صخرة عيّنوها، ثم تلد سقبا، فقعد عليه الصلاة والسلام يتذكر، فقال له جبريل عليه السلام:
صلّ ركعتين وسل ربك، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها فى العظم.
وإن أمثال هذه الروايات لا يجب علينا التصديق بها إلا إذا ثبتت بصحيح الأخبار.
(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي ولا تمسوها بسوء كضرب أو عقر فيحل بكم عذاب لا قبل لكم به.
ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم فقال:
(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي فعقروا الناقة بعد أن مكثت بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل المرعى، ثم ندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم، إذ أنظرهم ثلاثة أيام وفى كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله فندموا حيث لا ينفع الندم، فأخذهم العذاب وزلزلت أرضهم زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت منها قلوبهم، ونزل بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تقسيرها(19/92)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
قصص لوط عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
تفسير المفردات
أخوهم: أي فى البلد والسكنى، لا فى الدين ولا فى النسب، لأنه ابن أخى إبراهيم وهما من أرض بابل، والذكران: واحدهم ذكر ضد الأنثى من كل حيوان، عادون:
أي متعدون الحدود التي رسمها العقل والشرع، من المخرجين: أي ممن نخرجهم من أرضنا وننفيهم من قريتنا، من القالين: أي المبغضين لفعلكم، والقلى: البغض(19/93)
الشديد كأنه يقلى الفؤاد، يقال قليته أقليه قلى وقلاء، الغابرين: أي الباقين فهى لم تخرج مع لوط ومن مضى معه.
المعنى الجملي
قص الله علينا فى هذه الآيات قصص لوط بن هارون بن آزر بن أخى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بعثه الله فى حياته إلى أمة عظيمة تسكن مذوم وما حولها من المدائن من بلاد الغور بالقرب من بيت المقدس، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته وارتكاب ما كانوا ابتدعوا من الفواحش مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، فكذّبوه فأهلكهم الله، فأرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء فاحترقت قريتهم وأحدث بها زلزالا جعل عاليها سافلها كما جاء فى قوله: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» .
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم تفسير هذا فى سالف القصص.
وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره وبخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله:
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أأنتم دون الناس جميعا تفعلون هذه الفعلة الشنعاء، تعشون الذكور وتتركون النساء اللاتي جعلهن الله حلّا لكم تستمتعون بهن ويستمتعن بكم.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول وتبيحها الشرائع، بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال أحد ممن قبلكم،(19/94)
ولما اتضح لهم وجه الحق وانقطعت حجتهم لجئوا إلى التهديد واستعمال القوة:
(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من إنكارك ما تنكره من أمرنا لننفينّك من قريتنا، وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف واحتباس الأموال: (كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم) .
حينئذ أجابهم بأن إبعاده لا يقف به عن الإنكار عليهم.
(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي إنى برىء مما تعملون، مبغض له، لا أحبه ولا أرضاه، ولا يضيرنى تهديدكم ولا وعيدكم، وإنى لراغب فى الخلاص من سوء حواركم.
وقال (مِنَ الْقالِينَ) دون (قالَ) إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه، كما يقال فلان من العلماء فإنه أشد مدحا من قولك فلان عالم، إذ الأولى تدل على أنه فى عداد زمرة العلماء المعروفين بمساهمته لهم فى العلم.
ثم أعرض عنهم وتوجه إلى الله أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله قال:
(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي رب نجّنى من شؤم أعمالهم وأبعدنى من عذابك الدنيوي والأخروى.
فأجاب الله دعاءه وأغاثه بعد أن استغاثه قال:
(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه وأهله جميعا مما حل بأهل القرية من العذاب، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم ما نزل، إلا عجوزا قد بقيت ولم تخرج معه وهى امرأته كما جاء فى سورة هود: «إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» وكانت عجوز سوء لم نتبع لوطا فى الدين ولم تخرج معه.
والخلاصة- فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزا قدر الله بقاءها لسوء أفعالها وقبح طويّتها، ولما لها من ضلع فى استحسان أفعالهم.(19/95)
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار.
وبئس المطر هذا وما أشد وطأته، وما أقسى وقعه، فقد أحدث بأرضهم زلزالا جعل عاليها سافلها.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سبق تفسير ذلك.
إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون
كتبت مجلة السياسية الأسبوعية فصلا قالت فيه: روت الكتب المنزلة أن الله أهلك مدينتى سذوم وعمورة وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته ولوط وابنتيه ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن، بل نزح إليها من الشمال طلبا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحّل فى ذلك الزمن.
وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه قصة خرافية، وبعضهم يقول إنها قصة واقعية كما يشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط) .
وقد قام الدكتور (أو لبرابط) بمباحث واسعة فى وادي نهر الأردن وعلى سواحل البحر الميت حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها، وعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام انحدر حوالى القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين ومعه أهل بيته وابن أخيه لوط وأهله ومعهما أنعام كثيرة، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة فرأى لوط حفظا للسلام أن يفترق عن إبراهيم واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها(19/96)
سذوم وعمورة وأقام بسذوم، واختار إبراهيم المرتفعات التي فى الشمال وضرب خيامه هنالك.
وكشف الدكتور آثارا تدل على صدق هذه القصة، إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمسمائة قدم وبجواره (المذبح) هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة يرجح أن الوثنيين فى ذلك الزمن كانوا يقدّمون عليها قرابينهم، ويرجح أن البحر الميت طغا على المدن الخمس التي كانت فى منطقة الأردن اهـ.
وبعض علماء الجيولجيا (طبقات الأرض) يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادا كانت آهلة بالسكان.
وفى التوراة: إن إبراهيم كان ذات يوم جالسا بباب خيمته فى حرّ النهار إذ أقبل إليه ثلاثة ملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة واحتفى بهم، وفى أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم وانغماسهم فى شهواتهم البهيمية ولا سيما المحرمة منها، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توّا إلى منزل لوط ابن أخى إبراهيم ليبيتوا عنده، وعلم أهل سذوم بقدومهم فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقا، ولكن لوطا دافع عنهم وعرّض أن يضحى بشرف ابنتيه لينقذهم، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء، وقد تمكن الضيوف من الفرار، وأقنعوا لوطا وأهل بيته بالفرار، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط (صوعر) فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وجميع سكانها ونظرت امرأة لوط إلى الوراء فصارت عمود ملح: (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت إما بحدوث زلزلة أو بسقوط صاعقة من الجو) .
وفى التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات هيو لوجية شبيهة بحادثة (سذوم وعمورية) فقد يثور بركان ويتدفق حممه على البلاد المجاورة فيغمرها ويهلك أهلها، وقد تغور بلاد واسعة فيطمو عليها البحر وتزول هى وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان، وقد تنشقّ الأرض فتبتلع مدنا بأسرها:(19/97)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
والخلاصة- إن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين وكانت ذات رياض غناء وغياض غنيه بوفرة مائها وحيراتها وشمل أهلها الفساد ورتعوا فى شهواتهم البهيمية ولم يبق فيها برّ إلا لوط وأهله، فانتقم الله منهم فأمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء، فألهب البراكين النارية التي فيها، فعجلت دمارهم، وخسفت الأرض بهم، وظهرت البحيرة على ما يراه الآن.
قصص شعيب عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)(19/98)
تفسير المفردات
الأيكة: غيضة كثيرة الشجر قرب مدين بعث الله إلى أهلها شعيبا كما بعثه إلى أهل مدين ولم يكن منهم نسبا، من المخسرين: أي المطففين الآخذين من الناس أكثر ممّا لكم، والقسطاس: الميزان، والمستقيم: أي العدل، ولا تعثوا: أي لا تفسدوا، والجبلة: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضمهما وتشديد اللام: الخلقة والطبيعة، ويقال جبل فلان على كذا: أي خلق، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة، كسفا:
واحدها كسفة كقطعة (وزنا ومعنى) والظلة: السحابة التي استظلوا بها.
المعنى الجملي
قص الله تعالى علينا فى هذه الآيات قصص شعيب مع قومه أهل مدين، وقد بعثه إليهم فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان وألا يعثوا فى الأرض فسادا فكذبوه، فسلط الله عليهم الحر الشديد فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أحر من غيرها فيخرجون، ثم أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا.
الإيضاح
(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) سبق تفسير هذا.
وبعد أن نصحهم بتلك النصائح وعظهم بعظة أخرى، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم وهى التطفيف فى الكيل والميزان فقال:
(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملا ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصا، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم.(19/99)
وخلاصة ذلك- خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.
(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان السوي العدل، وقد جاء فى سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه فقال: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا، عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» .
ثم عمم النهى عن البخس فى كل حق فقال:
(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا الناس حقهم فى كيل أو وزن أو غيرهما كالمذروعات والمعدودات كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير وهكذا.
ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنا وأشد خطرا، وهو الفساد فى الأرض بجميع ضروبه وأشكاله فقال:
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تكثروا فيها الفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق والسلب والنهب ونحوها.
وبعد أن نهاهم عن ذلك خوّفهم سطوة الجبار الذي خلقهم وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشا وعتوّا فقال:
(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وخافوا بأس الله الذي خلقكم من العدم للإصلاح فى الأرض، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة وأكثر مالا، كقوم هود الذين قالوا من أشد مناقوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وقد تمخض هذا النصح عن شيئين: القدح فى رسالته أولا، واستصغار الوعيد ثانيا.
(1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي ما أنت إلا ممن سحر عقله مرة بعد أخرى، فصار كلامه جزافا لا يعبّر عن حقيقة، ولا يصيب هدف الحق.
(وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فما وجه تفضيلك علينا وإرسالك رسولا إلينا.(19/100)
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:
(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا لنعتقد أنك ممن يتعمد بالكذب فيما يقول، ولم يرسلك الله نبيّا إلينا.
(2) (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فإن كنت صادقا فى دعواك الرسالة فأنزل علينا من السحاب قطعا يكون فيها العذاب لنا.
وهذا شبيه بما قالته قريش لنبيهم فيما حكى الله عنهم بقوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إلى أن قالوا- أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» وقوله: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
فأجابهم شعيب:
(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به، فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وما علىّ إلا البلاغ، وأنا مأمور به، فلم أنذركم من تلقاء نفسى، ولا ادّعى القدرة على عذابكم.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي وهكذا دأبوا على التكذيب فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حرّ عظيم أخذ بأنفاسهم، لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا كلهم تحتها، فأمطرتهم شواظا من نار فاحترقوا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه، والعذاب لكل من عصاه فى كل العصور- لدلالة واضحة على صدق الرسل، وما كان أكثر قومك بمؤمنين، مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك، لما يصحبه من الدليل والبرهان.(19/101)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين التائبين.
(تنبيه) جاءت هذه القصص السبع مختصرة هنا وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب، فإن النتائج التي حصل عليها الأنبياء مع أقوامهم هى مثل النتائج التي حصل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين- نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 212]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)(19/102)
تفسير المفردات
الروح الأمين: هو جبريل عليه السلام، ووصف بالأمين، لأنه أمين وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده، على قلبك: أي على روحك، لأنه المدرك والمكلّف دون الجسد، والزبر: الكتب، واحدها زبرة كصحف وصفحة، والآية: الدليل والبرهان، والأعجمين: واحدهم أعجمى، وهو من لا يقدر على التكلم بالعربية، سلكناه: أي أدخلناه، والمجرمين: مشركى قريش، بغتة: فجأة، منظرون: أي مؤخرون، ذكرى: أي تذكرة وعبرة لغيرهم، وما ينبغى لهم: أي ما يتيسر ولا يتسنى لهم، وما يستطيعون: أي ما يقدرون على ذلك، لمعزولون: أي لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكّنين.
المعنى الجملي
بعد أن اختتم سبحانه هذا القصص، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل، وذكر أنه قد أهلك المكذبين، وكان النصر فى العاقبة لرسله المتقين فإن سنته فى كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» .
وفى ذلك سلوة لرسوله، وعدة له بأنه مهما أوذى من قومه ولقى منهم من الشدائد، فإن الفلج والفوز له: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» أردف هذا بيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من الله أنزله على عبده ورسوله جبريل عليه السلام بلسان عربىّ مبين، لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين، وأن ذكره فى الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشّروا به حتى قام آخرهم خطيبا فى ملئه يبشر به كما قال: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي(19/103)
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ»
وأن العلماء من بنى إسرائيل يجدون ذكره فى كتبهم كما قال:
«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» وكما أن الأعجمين إذا قرئ عليهم لم يدروا منه شيئا ولم يؤمنوا به، كذلك هؤلاء المجرمون من قريش لا يؤمنون به كفرا وعنادا حتى يأتيهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون، فيتمنون إذ ذاك النّظرة ليطيعوا الله ويتبعوا أوامره، وأنّى لهم ذلك؟ وهل يجديهم التمني ساعتئذ؟ «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» .
وقد جرت سنتنا ألا نهلك قوما إلا بعد أن نبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
ثم رد على مشركى قريش الذين قالوا: إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة- بأن الشياطين من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبأنهم ممنوعون عن سماع ما تتكلم به الملائكة فى السماء، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا مدة إنزال القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استراق السمع كما قال: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» .
الإيضاح
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره فى قوله «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ» أنزله الله إليك، وجاء به جبريل عليه السلام فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك، لتنذر به قومك بلسان عربىّ بيّن ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة، هاديا إلى الرشاد، مصلحا لأحوال العباد.(19/104)
وفى قوله: على قلبك إيماء إلى أن ذلك المنزّل محفوظ، وأن الرسول متمكن منه، إلى أن القلب هو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز، والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ»
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» أخرجاه فى الصحيحين
ولأن القلب إذا غشّى عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وفى قوله: بلسان عربى مبين، تقريع لمشركى قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار والعناد، لا عدم الفهم، لأنه نزل بلغتهم، فلا عذر لهم فى الإعراض عنه.
(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه بشأنه لفى كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به فى قديم الدهر وحديثه، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك وبه بشر عيسى بقوله: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟) أي أو ليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بنى إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر.
ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه وذكروا نعته.
وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل، ولا تجديهم البراهين فقال:
(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إنا أنزلنا(19/105)
هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وبشرت به الكتب السالفة ومع هذا لم يؤمنوا به، بل جحدوه وسمّوه تارة شعرا وأخرى كهانة، فلو أنا نزّلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية فقرأه عليهم لكفروا به أيضا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا وقالوا له:
لا نفقه ما يقول كما قال فى آية أخرى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» .
وفى هذا تسلية من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على ما حصل من قومه لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماع له.
والخلاصة- إنا لو نزلناه على بعض الأعجمين: «لا عليك فإنك رجل منهم ويقولون لك ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك» فقرأه ذلك الأعجم عليهم ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه منزل من عندنا ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال.
ثم وكّد هذا الإنكار أفضل توكيد فقال:
(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أدخلنا التكذيب به بقراءة الأعجم، أدخلنا التكذيب به فى قلوب المجرمين كفار قريش.
وفى ذلك إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنا فى قلوبهم أشد التمكن وصار كالشىء الجبلىّ الذي لا يمكن تغييره.
ثم زاد ذلك توكيدا فقال:
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب، حين لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
وإجمال ما تقدم- هكذا مكنا التكذيب وقررناه فى قلوبهم، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده(19/106)
وإنكاره كما قال: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فيأتى هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم وهم لا يشعرون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم.
ثم بين أنهم يتمنّون التأخير حينئذ ليتداركوا ما فات.
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي فيقولوا على وجه الحسرة والأسف والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرّطوا فيه: هل تؤخر إلى حين؟ كما يستغيث المرء حين تعذر الخلاص، وهم يعلمون إذ ذاك أنه لا رجعة لهم، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا.
ولما أوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا به، ومتى هذا كما قال:
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) أي كيف يستعجلون عذابنا بنحو قولهم: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وقولهم: «ائْتِنا بِما تَعِدُنا» .
وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية؟
ثم أبان أن طول العمر لا يغنى عنهم شيئا وأن العذاب آت لا محالة فقال:
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي هل الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم فى النعيم، فأخبرنى إن متعناهم فى الدنيا برغد العيش وصافى الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئا منه أو يخففه عنهم؟.
والخلاصة- إن طول التمتع ليس بدافع شيئا من عذاب الله، وكأنهم لم يمتّعوا بنعيم قط كما قال: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقال:
«يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» وقال «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» .(19/107)
وعن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن البصري فى الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه فقال: عظنى فلم يزد أن تلا هذه الآية فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.
ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة عليها فقال:
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم، تذكرة لهم وتنبيها إلى ما فيه النجاة من عذابنا، وما كنا ظالمين فى إهلاكهم، لأنهم جحدوا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد.
ونحو الآية قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وقوله: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» .
ولما كان المشركون يقولون: إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين أكذبهم سبحانه بقوله:
(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة أو شعرا أو سحرا، وما ينبغى لهم أن ينزلوا به، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب.
والخلاصة- إن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة:
(1) إنه ليس من مبتغاهم، إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان متين، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة.
(2) إنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته كما قال: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» .(19/108)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
(3) إنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
المعنى الجملي
بعد أن بالغ سبحانه فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وأقام الحجة على نبوته، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه- أردف ذلك أمره بعبادته وحده وإنذار العشيرة الأقربين ومعاملة المؤمنين بالرفق، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده، فإنه هو العليم بكل شئونه وأحواله.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنه قال: لما أنزل الله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» أنى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجىء إليه ورجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى لؤى، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتمونى؟ قالوا نعم، قال:
فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟» وأنزل الله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»
.(19/109)
الإيضاح
أمر سبحانه نبيه بأربعة أوامر ونواه:
(1) (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، فإن من أشرك به فقد عصاه، ومن عصاه فقد استحق عقابه.
وفى هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص، وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فيكون الوعيد لغيره أزجر، وله أقبل.
وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع الله إلها آخر أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم ثنى بالأقرب فالأقرب كان قوله لسواهم أنفع، وتأثيره أنجع فقال:
(2) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي وخوّف الأقربين من عشيرتك بأس الله، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه.
وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم كما قال: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» وقال: «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة قال: «لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وعم وخص، فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى قصىّ أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى عبد مناف، أنفذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار،(19/110)
فإنى لا أملك لك ضرا ولا نفعا، ألا إن لكم رحما وسأبلّها ببلالها- يريد: أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا» .
وفى الحديث والآية دليل على أن القرب فى الأنساب، لا ينفع مع البعد فى الأسباب، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر وإرشاده ونصحه بدليل قوله: إن لكم رحما سأبلها ببلالها.
وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسى بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودىّ ولا نصرانى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» .
وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه أمره بالرفق بالمؤمنين فقال:
(3) (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك، وترفّق بمن اتبعك من المؤمنين، فإن ذلك أجدى لك، وأجلب لقلوبهم، وأكسب لمحبتهم، وأفضى إلى معونتك، والإخلاص لك.
(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي فإن عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك، وقد أديت ما أمرت به، ولا عليك إثم مما يعملون، وقل لهم إنى برىء منكم ومن دعائكم مع الله إلها آخر، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(4) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وفوّض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضرّ عنك، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك، الرحيم بك إذ نصرك عليهم برحمته وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى تغيرك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت لهم إماما،
وفى الخبر «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
وعبر عن المصلين بالساجدين، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم(19/111)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وسكناتهم، بسرهم ونجواهم كما قال: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» .
وقصارى ذلك- إنه هو القادر على نفعكم وضركم، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
تفسير المفردات
أنبئكم: أي أخبركم: والأفاك: كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الذنوب والفجور، يلقون السمع: أي يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون مما أكثره الكذب، والغاوون: الضالون المائلون عن السنن القويم.
والوادي: الشّعب، يهيمون: أي يسيرون سير البهائم حائرين لا يهتدون إلى شىء، والمنقلب: المرجع.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه امتناع تنزل الشياطين بالقرآن، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين- أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها(19/112)
لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر، ورسول الله صادق أمين. ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع.
وبعدئذ ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، لأن الشعراء يهيمون فى كل واد من أودية القول من مدح وهجو وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة، وليس بينها وبين الصدق نسب، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الصدق، فأنّى له أن يكون شاعرا؟.
الإيضاح
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) أي هل أخبركم خبرا جليا نافعا فى الدين، عظيم الجدوى فى الدنيا، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن- على من تنزل الشياطين حين تسترق السمع؟.
وهذا ردّ على من زعم من المشركين من ما جاء به الرسول ليس بحق، وأنه شىء أتاه به رئىّ من الجن، فنزّه الله رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبّه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، وأنه ليس من قبل الشياطين.
ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين:
(1) (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي هى تنزل على كل كذاب فاجر من الكهنة نحو شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة.
(2) (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي يلقى الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويصغون إليهم أشد إصغاء، فيتلقون منهم ما يتلقون، وهؤلاء قلما يصدقون فى أقوالهم، بل هم فى أكثرها كاذبون.
والخلاصة- إن هناك فارقا بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة، فمحمد(19/113)
لا يكذب فيما يخبر عن ربه، وما عرف عنه إلا الصدق، والكهنة كذابون فيما يقولون، وقلما عرف عنهم الصدق فى أخبارهم.
وبعد أن ذكر الفارق بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة- أردف ذلك ذكر الفارق بينه وبين الشعراء فقال:
(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي إن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم، المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك، بل هم الساجدون الباكون الزاهدون.
وقد سبق أن قلنا: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: «ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شىء؟ قلت نعم، قال هيه فأنشدته بيتا، فقال هيه، ثم أنشدته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مائة بيت» .
وفى هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما، ألا ترى
قوله عليه الصلاة والسلام «كاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» .
ثم بين تلك الغواية بأمرين:
(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام، فقد يمدحون الشيء حينا بعد أن ذموه، أو يعظّمونه بعد أن احتقروه، والعكس بالعكس، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا تحرّى الصدق، لكنّ محمدا جبلّته الصدق، ولا يقول إلا الحق، وقد بقي على طريق واحد، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب فى الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
(2) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فهم يرغّبون فى الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويضرون عليه، ويقدحون فى الأعراض لأدنى الأسباب،(19/114)
ولا يأتون إلا الفواحش، ومحمد صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك. فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه: (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ثم بالأقرب فالأقرب فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فليست حاله حال الشعراء.
ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة (1) : الإيمان (2) والعمل الصالح (3) وكثرة قول الشعر فى توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق (4) وألا يهجو أحدا إلا انتصارا ممن يهجوه اتباعا لقوله: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: «اهجهم، فو الذي نفسى بيده لهو أشد عليهم من رشق النّبل»
وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك» ،
وفى رواية «اهجهم وجبريل معك» .
وإلى هذا أشار بقوله:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) .
وروى ابن جرير عن محمد بن إسحق «أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، قالوا قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء فتلا النبي صلى الله عليه وسلم:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال أنتم (وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) قال: أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال: أنتم (أي بالرد على المشركين) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
انتصروا ولا تقولوا إلا حقا، ولا تذكروا الآباء والأمهات» ، فقال حسان لأبى سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله فى ذاك الجزاء وإن أبى ووالده وعرضى لعرض محمد منكم وقاء(19/115)
أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لسانى صارم لا عيب فيه وبحرى لا تكدّره الدّلاء وقال كعب: يا رسول الله. إن الله قد أنزل فى الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، «إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسى بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» وقال كعب:
جاءت سخينة كى تغالب ربها وليغلبنّ مغالب الغلّاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد مدحك الله يا كعب فى قولك هذا:
وبعد أن ذكر سبحانه من الدلائل العقلية وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بين الدلائل على صدق نبوته، ثم أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة وبينه وبين الشعراء- ختم السورة بالتهديد العظيم، والوعيد الشديد للكافرين فقال:
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرا بها وعنادا- أىّ مرجع يرجعون إلى الله بعد الموت، وأىّ معاد يعودون إليه؟ إنهم ليصيرنّ إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهيبها.
اللهم أبعدنا عن تلك النار وأدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.(19/116)
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة
(1) مقدمة فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على إعراض قومه عن الدين، وبيان أنهم ليسوا ببدع فى الأمم، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بأول الرسل الذين كذّبوا، وأن الله قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان فى القلوب اختيار يا لا اضطراريا.
(2) الاستدلال بخلق النبات وأطواره المختلفة وأشكاله المنوّعة- على وجود الإله ووحدانيته.
(3) قصص الأنبياء مع أممهم لما فيه من العبرة لأولئك المكذبين.
(4) إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين، لا كلام تتنزل به الشياطين.
(5) بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن ولا شاعر.
(6) التهديد والوعيد لمن يعبد مع الله سواه من الأصنام والأوثان، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه.(19/117)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
سورة النمل
مكية نزلت بعد الشعراء، وآيها ثلاث وتسعون.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه:
(1) إنها كالتتمة لها، إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان.
(2) إن فيها تفصيلا وبسطا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام.
(3) إن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن وأنه منزل من عند الله.
(4) تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم، وإصرارهم على الكفر به، والإعراض عنه.
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
الإيضاح
(طس) تقدم القول فى المراد من فواتح السور، وأن الأصح أنها حروف مقطعة جاءت للتنبيه نحو ألا ويا التي للنداء، وينطق بأسمائها فيقال: (طا- سين) .
(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن، وآيات كتاب بيّن لمن تدبره وفكر فيه أنه من عند الله(19/118)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
أنزله إليك، لم تتقوّله أنت ولا أحد من خلقه، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس.
والمراد بالكتاب المبين: القرآن، وعطفه عليه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما يقال هذا فعل السخي والجواد الكريم.
(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هى تزيد المؤمنين هدى على هداهم كما قال:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وهى تبشرهم برحمة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.
ولما كان وصف الإيمان خفيا ذكر ما يلزمه من الأمور الظاهرة فقال:
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها، ويؤدون الزكاة التي تطهّر أموالهم وأنفسهم من الأرجاس، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم، وأن هناك يوما يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرّها، فيذلّون أنفسهم فى طاعته، رجاء ثوابه وخوف عقابه.
وليسوا كأولئك المكذبين به الذين لا يبالون. أحسنوا أم أساءوا، أطاعوا أم عصوا، لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابا، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.
[سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
تفسير المفردات
يعمهون: أي يتحيرون ويترددون فى أودية الضلال، الأخسرون: أي أشد الناس خسرانا، لحرمانهم الثواب، واستمرارهم فى العذاب.(19/119)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى، إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه- أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يركب رأسه، ويتمادى فى غيه، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض، ومن ثم تراه حائرا مترددا فى ضلاله، فهو فى عذاب شديد فى دنياه لتبلبله، وقلقه واضطراب نفسه، وفى الآخرة له أشد الخسران، لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة والمعاد إلى الله بعد الموت، وبالثواب والعقاب- حبّبنا إليهم قبيح أعمالهم، ومددنا لهم فى غيهم، فهم فى ضلالهم حيارى تائهون، يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لا يفكرون فى عقبى أمرهم، ولا ينظرون إلى ما يئول إليه سلوكهم.
قال الزجاج: أي جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع، محبوبا إلى النفس.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فى الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين كما حدث يوم بدر.
(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي وهم فى الآخرة أعظم خسرانا مما هم فيه فى الدنيا، لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع، وعذابهم فى الدنيا ليس بدائم بل هو زائل لا بقاء له.(19/120)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قصص موسى عليه السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 6 الى 14]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
تفسير المفردات
لتلقى: أي لتلقّن وتعطى، آنست: أي أبصرت إبصارا حصل لى به أنس، بخبر: أي عن الطريق وحاله، بشهاب: أي بشعلة نار، قبس: أي قطعة من النار مقبوسة ومأخوذة من أصلها، تصطلون: أي تستدفئون بها، قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
جان: أي حية صغيرة سريعة الحركة، ولّى مدبرا: أي التفت هاربا، ولم يعقب:
أي لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ماوراءه من قولهم: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ،(19/121)
من غير سوء: أي من غير برص ولا نحوه من الآفات، آيات: أي معجزات دالة على صدقك، مبصرة: أي بينة واضحة، جحدوا بها: أي كذبوا، واستيقنتها أنفسهم:
أي علمت علما يقينيا أنها من عند الله، وعلوا: أي ترفعا واستكبارا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف عز اسمه القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين- أردفه بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا له.
الإيضاح
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلّمه من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم، فخبره هو الصدق، وحكمه هو العدل كما قال: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا» .
ثم خوطب صلى الله عليه وسلم وأمر بتلاوة بعض ما تلقاه من لدنه عز اسمه تقريرا لما قبله وتحقيقا له بقوله:
(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين قول موسى لأهله وقد ساربهم فضلّ الطريق فى ليل دامس وظلام حالك، فرأى نارا تأجج وتضطرب، إنى أبصرت نارا سآتيكم منها إما بخبر عن الطريق أو آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها، وكان كما قال: فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس نورا جليلا.
وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر ولم يكن معه سوى امرأته، وكانا يسيران ليلا فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد.(19/122)
وفى مثل هذه الحال يستبشر الناس بمشاهدة النار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بها للاصطلاء، ومن ثم قال لها هذه المقالة.
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصل إلى النار نودى بأن بورك من فى مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها هى البقعة المباركة المذكورة فى قوله: «نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» ومن حولها من فى ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات ومهبط الخيرات، لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا.
وقوله سبحان الله تنزيه لنفسه عما لا يليق به فى ذاته وحكمته وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين.
أخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن أبى موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شىء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة «أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين» .
وفى التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعير، واستعلى من جبل فاران، فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم (وفاران مكة) .
ولما تشوقت النفس إلى تحقيق ما يراد بالتصريح قال تعالى تمهيدا لما أراد إظهاره على يد موسى من المعجزات الباهرة:
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا موسى إن الذي يخاطبك ويناجيك هو ربك الذي عزّ كل شىء وقهره، وهو الحكيم فى أقواله وأفعاله.(19/123)
ثم أرى موسى آية تدل على قدرته، ليعلم ذلك علم شهود فقال:
(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي وألق عصاك، فلما ألقاها انقلبت حية سريعة الحركة، فلما رآها كذلك ولّى هاربا خوفا منها ولم يلتفت وراءه من شدة فرقه.
وحينئذ تاقت النفس إلى معرفة ما قيل إذ ذاك فقال:
(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف مما ترى، فإنى لا يخاف عندى رسلى وأنبيائى الذين اختصهم وأصطفيهم بالنبوة.
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لكن من ظلم من سائر العباد، فإنه يخاف إلا إذا تاب، فبدل بتوبته حسنا بعد سوء، فإنى أغفر له وأمحو ذنوبه وجميع آثارها كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى، وفى هذا بشارة عظيمة لسائر البشر، فإن من عمل ذنبا ثم أقلع عنه وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه كما قال:
«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» .
ثم أراه جلت قدرته آية أخرى ذكرها بقوله:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي وأدخل يدك فى جيب «مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر» فميصك تخرج بيضاء بياضا عظيما، ولها شعاع كشعاع الشمس بلا آفة بها من برص أو غيره.
والآية الأولى كانت بتغيير ما فى يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية.
(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي هاتان آيتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه كما قال: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» .
ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله:(19/124)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي لأنهم قوم خرجوا عما تقتضيه الفطرة ويوجبه العقل بادعاء فرعون الألوهية وتصديقهم له فى ذلك.
وبعدئذ ذكر ما حدث لهم حين أتاهم بالبراهين من ربه فقال:
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءت فرعون وقومه أدلتنا الواضحة المنيرة الدالة على صدق الداعي- أنكروها وقالوا هذا سحر بين لائح يدل على مهارة فاعله وحذق صانعه.
ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب لا بالقلب فقال:
(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي وكذبوا بها بألسنتهم وأنكروا دلالتها على صدقه وأنه رسول من ربه، لكنهم علموا فى قرارة نفوسهم أنها حق من عنده، فخالفت ألسنتهم قلوبهم، ظلما للآيات، إذ حطوها عن مرتبتها العالية وسمّوها سحرا، ترفعا عن الإيمان بها كما قال فى آية أخرى: «فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» .
والخلاصة- إنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها وهم يعلمون أنها من عند الله.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبرة للظالمين، ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم.
وفى هذا تحذير للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم الجاحدين لما جاء به من عند ربه، أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون.
قصص داود وسليمان عليهما السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)(19/125)
تفسير المفردات
ورث سليمان داود: أي قام مقامه فى النبوة والملك، منطق الطير: أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، حشر: أي جمع، يوزعون: أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وادي النمل: واد بأرض الشام لا يحطمنكم:
أي لا يكسرنكم ويهشمنكم، أوزعنى: أي يسر لى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص موسى صلى الله عليه وسلم تقريرا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم- أردفه قصص داود وسليمان، وذكر أنه آتى كلا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا، فعلّم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلّم سليمان منطق الطير، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم.(19/126)
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أعطينا داود وسليمان ابنه عليهما السلام طائفة عظيمة من العلم، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك مما لم نؤته أحدا ممن قبلهما، فشكر الله على ما أولاهما من مننه، وقالا الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن، على كثير من المؤمنين من عباده الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا.
وفى الآية إيماء إلى فضل العلم وشرف أهله من حيث شكرا عليه وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا شيئا دونه مما أوتياه من الملك العظيم: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا الله على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن عباد الله من يفضلهم فيه.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي قام مقامه فى النبوة والملك بعد موته، وسخّرت له الريح والشياطين.
قال قتادة فى الآية: ورث نبوته وملكه وعلمه، وأعطى ما أعطى داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، وكان أعظم ملكا منه وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان، شاكرا لنعم الله تعالى اهـ.
ثم ذكر بعض نعم الله عليه:
(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي وقال متحدثا بنعمة ربه، ومنبها إلى ما شرّفه به، ليكون أجدر بالقول: يا أيها الناس إن ربى يسرّ لى فهم ما يريده الطائر إذا صوّت، فأعطانى قوة أستطيع بها أن أتبين مقاصده التي يومئ إليها فضلا منه ونعمة.
وقد اجتهد كثير من الباحثين فى العصر الحاضر فعرفوا كثيرا من لغات الطيور(19/127)
أي تنوع أصواتها لأداء أغراضها المختلفة من حزن وفرح وحاجة إلى طعام وشراب واستغاثة من عدوّ، إلى نحو ذلك من الأغراض القليلة التي جعلها الله للطير.
وفى هذا معجزة لكتابه الكريم لقوله فى آخر السورة: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» .
وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرا من الأمم تبحث فى لغات الطيور والحيوان والحشرات كالنمل والنحل، وتبحث فى تنوع أصواتها لتنوع أغراضها، فكأنه تعالى يقول: إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن وعلّمتها سليمان، وسيأتى يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتى، ويطلع الناس على عجائب صنعى فيها.
(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما نحتاج إليه فى تدبير الملك، ويعيننا فى ديننا ودنيانا.
وهذا أسلوب يراد به الكثرة من أي شىء، كما يقال فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شىء، وسيأتى فى مقال الهدهد عن بلقيس. «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» .
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل المبين الذي لا يخفى على أحد.
ثم ذكر بعض ما أوتيه سليمان بقوله:
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع له عساكره من مختلف النواحي ليحارب بهم من لم يدخل فى طاعته فهو يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وقال ابن عباس لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها، لئلا تتقدمها فى السير كما يصنع الملوك. وقال الحسن: لا بد للناس من وازع: أي سلطان يكفلهم. وقال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي حتى إذا أشرفوا على وادي النمل صاحت نملة بما فهم منه سليمان أنها تأمرهم بأن يدخلوا مساكنهم خوفا من تحطيم سليمن وجنوده لهم وهم لا يشعرون بذلك.(19/128)
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي فضحك متعجبا من حذرها وتحذيرها والهداية التي غرسها الله فيها، مسرورا بما خصه الله من فهم مقاصدها، وقال رب ألهمنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علىّ وعلى والدىّ، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه، وتوفنى مسلما وألحقنى بالصالحين من عبادك.
وخلاصة ذلك- كأنه قال: العلم غاية مطلبى وقد حصلت عليه، ولم يبق بعد ذلك إلا أن أطلب التوفيق للشكر عليه بالعمل الصالح الذي ترضاه، وأن أدخل فى عداد الصالحين من آبائي الأنبياء وغيرهم.
تذكرة وعبرة بالآية
قد دلّ بحث الباحثين فى معيشة النمل على مالها من عجائب فى معيشتها وتدبير شئونها، فإنها لتتخذ القرى فى باطن الأرض، وتبنى بيوتها أروقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات، وتملؤها حبوبا وقوتا للشتاء، وتخفى ذلك فى بيوت من مساكنها منعطفات إلى فوق، حذرا من ماء المطر.
وفى هذه الآية تنبيه إلى هذا لإيقاظ العقول إلى ما أعطيته من الدقة وحسن النظم والسياسة، فإن نداءها لمن تحت أمرها وجمعها لهم ليشير إلى كيفية سياستها، وحكمتها وتذبيرها لأمورها، وأنها تفعل ما يفعل الملوك، وتدبّر وتسوس كما يسوس الحكام.
ولم يذكره الكتاب الكريم إلا ليكون أمثالا تضرب للعقلاء، فيفهموا حال هذه الكائنات، وكيف أن النمل أجمعت أمرها على الفرار خوفا من الهلاك كما تجتمع على طلب المنافع، وإن أمة لا تصل فى تدبيرها إلى مثل ما يفعل هذا الحيوان الأعجم تكون أمة حمقاء تائهة فى أودية الضلال، وهى أدنى حالا من الحشرات والديدان:
«وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .(19/129)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
تفسير المفردات
التفقد: طلب ما فقد، بسلطان مبين، أي بحجة واضحة، والإحاطة بالشيء علما علمه من جميع جهاته، وسبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، ونبأ: أي خبر عظيم، والعرش: سرير الملك، عن السبيل: عن سبيل الحق والصواب والخبء: هو المخبوء من كل شىء كالمطر وغيره من شئون الغيب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير وجعلهم جنودا له- ذكر هنا أنه احتاج إلى جندى من جنوده وهو الهدهد، فبحث عنه فلم يجده فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرا يبرئه، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها تحكمها امرأة هى بلقيس ملكة سبأ، ووصف له مالها من جلال الملك وأبّهته وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس(19/130)
العليم بكل شىء فى السموات والأرض، والعليم بما نخفى وما نعلن، والعليم بالسر والنجوى، وهو رب العرش العظيم.
الإيضاح
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي وطلب ما فقد من الطير بحسب ما تقتضيه العناية بأمر الملك من الاهتمام بالرعايا ولا سيما الجند فقال: الهدهد حاضر ومنع مانع من رؤيته كساتر ونحوه؟ ثم لاح له أنه غائب فقال أم كان قد غاب قبل ذلك ولم أشعر به؟.
وخلاصة ذلك- أغاب عنى الهدهد الآن فلم أره حين تفقده، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته.
ثم توعده بالعذاب إذا لم يجد سببا يبرر به غيبته فقال:
(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي لأعذبنه بحبسه مع ضده فى قفص، ومن ثم قيل: أضيق السجون معاشرة الأضداد، أو بإبعاده من خدمتى، أو بإلزامه بخدمة أقرانه أو نحو ذلك، أو لأذبحنه ليعتبر به سواه أو ليأتينى بحجة تبين عذره.
والخلاصة- إنه ليعذبنه بأحد الأمرين الأولين إن لم يكن الأمر الثالث.
ثم ذكر أنه جاء بعد قليل وبين أن غيابه كان لأمر هامّ لدى سليمان.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي فغاب مدة قصيرة بعد سؤال سليمان عنه ثم جاء فسأله: ما الذي أبطأ بك عنى؟
فقال: اطلعت على ما لم تطلع أنت ولا جنودك عليه، على سعة علمك واتساع أطراف مملكتك.
وقد بدأ كلامه بهذا التمهيد، لترغيبه فى الإصغاء إلى العذر، واستمالة قلبه إلى قبوله، ولبيان خطر ما شغله، وأنه أمر جليل الشأن يجب أن يتدبر فيه، ليكون فيه(19/131)
الخير له ولمملكته، فهو ما كان إلا لكشف مملكة سبأ، ومعرفة أحوالها، ومعرفة من يسوس أمورها، ويدبر شئونها.
قال صاحب الكشاف: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له فى علمه، وتنبيها على أن فى أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له فى ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة اهـ.
ثم فصل هذا النبأ وبينه بقوله:
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) بين فى هذا الكلام شئونهم الدنيوية وذكر منها ثلاثة أمور:
(1) إن ملكتهم امرأة وهى بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلها ملكا جليل القدر واسع الملك.
(2) إنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح وآلات القتال، الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا فى الممالك العظمى.
(3) إن لها سريرا عظيما تجلس عليه، مرصّعا بالذهب وأنواع اللآلئ والجواهر فى قصر كبير رفيع الشأن، وفى هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته ورفعة شأنه بين الممالك.
وبعد أن بين شئونهم الدنيوية ذكر معتقداتهم الدينية فقال:
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) أي وجدتها وقومها فى ضلال مبين، فهم يعبدون الشمس لا ربّ الشمس وخالق الكون المحيط بكل شىء علما، وزين لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فظنوا حسنا ما ليس بالحسن، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل وهو إخلاص السجود والعبادة لله وحده.(19/132)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي فصدهم عن السبيل حتى لا يهتدوا ويسجدوا لله الذي يظهر المخبوء فى السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن المخبوءة فى الأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال كما قال: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» .
ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره، ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأبان أن أعظمها قدرا، وهو العرش الذي هو مركز تدبير شئون العالم هو الخالق له وهو محتاج إليه فقال:
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو الله الذي لا تصلح العبادة إلا له وهو رب العرش العظيم، فكل عرش وإن عظم فهو دونه، فأفردوه بالطاعة ولا تشركوا به شيئا.
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 31]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
تفسير المفردات
تولّ عنهم: أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر: أي تأمل وفكّر، يرجعون: أي يرجع بعضهم إلى بعض من القول ويدور بينهم بشأنه، والملأ: أشراف القوم وخاصة الملك، ألا تعلوا علىّ:
أي ألا تتكبروا ولا تنقادوا للنفس والهوى، مسلمين: أي منقادين خاضعين.(19/133)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه- أردف ذلك إجابة سليمن عن مقالة الهدهد، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ، والتنحي جانبا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصتها بشأنه.
الإيضاح
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ؟) أي قال سنختبر مقالك، ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول، أم كاذب فيه لتتخلص من الوعيد؟
وفى التعبير بقوله: كنت من الكاذبين، دون أن يقول أم كذبت، إيذان بأن تلفيق الأقوال المنمّقة، واختيار الأسلوب الذي يستهوى السامع إلى قبولها من غير أن يكون لها حقيقة تعبر عنها- لا يصدر إلا ممّن مرن على الكذب وصار سجيّة له حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه، ومن كان كذلك لا يوثق به.
ثم شرع يفعل ما يختبره به فكتب له كتابا موجزا وأمره بتبليغه إلى ملكة سبأ فقال:
(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) أي اذهب بهذا الكتاب فألقه إليهم، ثم تنح عنهم وكن قريبا منهم، واستمع مراجعة الملكة أهل مملكتها، وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا ونقاشهم فيه.
ثم فصل ما دار بينهم بشأنه فقال:
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي وبعد أن ذهب الهدهد بالكتاب ألقاه إلى الملكة ففضّت خاتمه وقرأته، وجمعت أشراف قومها ومستشاريها(19/134)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
وقالت تلك المقالة للمشورة، وطلبت أخذ الرأى فى ذلك الخطب الذي نزل بها كما هو دأب الدول الديمقراطية.
وفى الآية إيماء إلى أمور:
(1) سرعة الهدهد فى إيصال الكتاب إليهم.
(2) إنه أوتى قوة المعرفة فاستطاع أن يفهم بالسمع كلامهم.
(3) إنها ترجمت ذلك الكتاب فورا بواسطة تراجمتها.
(4) إن من آداب رسل الملوك أن يتنحّوا قليلا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، ليتشاور المرسل إليهم فيها.
ثم بينت مصدر الكتاب وما فيه لخاصتها وذوى الرأى فى مملكتها فقالت.
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ونص هذا الكتاب على وجازته يدل على أمور:
(1) إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته وكونه رحمانا رحيما.
(2) نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق.
(3) أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين.
وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه فى الدين والدنيا.
[سورة النمل (27) : الآيات 32 الى 35]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)(19/135)
تفسير المفردات
أفتونى: أي أشيروا علىّ بما عندكم من الرأى والتدبير فيما حدث، قاطعة أمرا:
أىّ باتّة فيه منفذته، تشهدون: أي تحضروني، والمراد بالقوة: القوة الحسية وكثرة الآلات، والمراد بالبأس: النجدة والثبات فى الحرب.
المعنى الجملي
ذكر فيما سلف أن الهدهد حيما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولى الرأى لديها وقرأت عليهم نصّ الكتاب، وهنا بين أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهمّ والحادث الجلل حتى ينجلى لهم صواب الرأى فيما تعمل ويعملون، لأنها لا نريد أن تستبدّ بالأمر وحدها، فقلّبوا وجوه الرأى واشتد الحوار بينهم وكانت خاتمة المطاف أن قالوا: الرأى لدينا القتال، فإنا قوم أولو بأس ونجدة، والأمر مفوّض إليك فافعلى ما بدا لك، وإن قالت: إنى أرى أن عاقبة الحرب والدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلا، وإنى أرى أن نهادنه ونرسل إليه بهدية ثم ننظر ماذا يكون رده، علّه يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه كل عام ونلتزم ذلك له، وبذا يترك قتالنا وحربنا:
الإيضاح
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علىّ فى أمر هذا الكتاب الذي ألقى إلىّ فإنى لا أقضى فيه برأى حتى تشهدونى فأشاوركم فيه.
وفى قولها هذا دلالة على إجلالهم وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضاءهم على الطاعة لها، علما منها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن(19/136)
لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان فى استبدادها برأيها وهن فى طاعتها، وتعمية فى تقدير أمرهم، وكان فى مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريد من قوة شوكتهم وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم فى جوابهم: (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) على مالها من عقل راجح وأدب جمّ فى التخاطب.
وعلى هذا النهج سار الإسلام، فقد قال سبحانه لنبيه «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وقد مدح سبحانه صحابة رسوله بقوله: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» .
فأجابوا عن مقالها:
(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) أي قال الملأ من قومها حين شاورتهم فى أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو بأس ونجدة فى القتال، إلى ما لنا من وافر العدّة وعظيم العتاد وكثير الكراع والسلاح، وإن أمر القتال والسلم مفوّض إليك، فانظرى وقلّبى الرأى على وجوهه، ثم مرينا نأتمر بذلك.
ولما أحست منهم الميل إلى القتال شرعت تبين لهم وجه الصواب، وأنهم فى غفلة عن قدرة سليمان وعظيم شأنه، إذ من سخر له الطير على الوجه الذي يريده ليس من السهل مجالدته والتغلب عليه.
(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان: إن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها وإتلاف أموالها، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم أو قتلوهم تقتيلا، ليتم هلم الملك والغلبة، وتتقرر لهم فى النفوس المهابة، وهكذا يفعلون معنا.
وفى هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم.(19/137)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
وبعد أن أبانت ما فى الحرب والمجالدة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها:
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟) أي وإنى سأرسل إليه هدية من نفائس الأموال لأتعرف حاله وأختبر أمره، أنبى هو أم ملك؟ فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية وانصرف إلى حين، فإن الهدايا مما تورث المودة، وتذهب العداوة،
وفى الحديث: «تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء»
ولقد أحسن من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولّد فى قلوبهم الوصالا
وتزرع فى الضمير هوى وودّا ... وتكسبهم إذا حضروا جمالا
[سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
تفسير المفردات
لا قبل لهم بها: أي لا طاقة لهم بمقاومتها، صاغرون: أي مهانون محتقرون.
الإيضاح
لما وصلت الهدية مع الرسول إلى سليمان وكانت من ذهب وجواهر ولآلى وغيرها مما تقدمه الملوك العظام، قال سليمان للرسول: أتصانعونني بالمال لأترككم على شرككم وكفركم؟ لن يكون ذلك أبدا، إن الذي أعطانيه الله من النبوة والملك الواسع الأرجاء والمال الوفير- خير مما أنتم فيه، فلا حاجة لى بهديتكم، وليس رأيى فى المال كما ترون، فأنتم تفرحون به دونى، فارجع بما جئت به إلى من أرسلك،(19/138)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
ولنأتينكم بجنود لا طاقة لكم بدفعها ولا الانتصار عليها، ولنخرجنكم من أرضكم أذلة مأمورين مستعبدين، إن لم تأتونى مستسلمين منقادين.
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
تفسير المفردات
العرش: سرير الملك، مسلمين أي خاضعين منقادين، العفريت من البشر:
الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين: المارد، مقامك: أي مجلسك الذي تجلس فيه للحكم، قوى: أي قادر على حمله لا أعجز عنه، أمين: أي على ما فيه من لآلئ وجواهر وغيرها، والكتاب: هو علم الوحى والشرائع، والذي عنده علم هو سليمان عليه السلام كما اختاره الرازي وقال إنه أقرب الآراء، يرتد: أي يرجع، والطرف: تحريك الأجفان والمراد بذلك السرعة العظيمة، مستقرا: أي ساكنا قارا على حاله التي كان عليها، الفضل: التفضل والإحسان، ليبلونى: أي ليعاملنى معاملة المختبر، أم أكفر أي أقصر فى أداء واجب الشكر، كفر أي لم يشكر.
المعنى الجملي
استبان مما سلف أن سليمان رفض قبول الهدايا وتهدد الرسول بأن قومه وملكتهم إن لم يأتوا إليه طائعين خاضعين فسيوجه إليهم جيشا جرارا ينكل بهم أشد التنكيل،(19/139)
يقتل من يقتل ويأتى بالباقين أسارى وهم صاغرون، ويجليهم جميعا عن الديار والأوطان، ويأخذ أموالهم غنائم له- وهنا ذكر أنهم خافوا تهديده واستجابوا لدعوته، فتوجهت الملكة وأشراف قومها إليه، لكن سليمان رأى حين قربت من الوصول إليه أن يحضر سرير ملكها قبل مقدمها، ليكون فى ذلك دلالة على قدرة الله وإثبات نبوته وتتظاهر عليها الأدلة من كل أوب، فسأل أعوانه: أيكم يستطيع أن يحضره قبل وصولها إلينا، فأجابه عفريت من الجن بأن فى استطاعته أن يحضره قبل قيامه من مجلس الحكم والقضاء، فقال هو: بل أنا آتيكم به كلمح البصر، وقد كان كما قال: فرأى العرش حاضرا أمامه فشكر ربه على ما آتاه من النعم العظام الذي لا يستطيع إيفاء حقها من الشكر.
وعلينا أن نؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم على أنه معجزة لسليمان، إذ هو لا ينطبق على السنن العادية التي وضعها ربنا لخلقه، فعلم البشر إلى الآن لم يصل إلى تحقيق ذلك عمليا مع تقدم سبل الانتقال، فالطائرات على سرعتها التي أدهشت العقول لا تستطيع أن تسافر من جنوب اليمن إلى أطراف الشام فى مثل تلك اللحظات الوجيزة.
الإيضاح
لما رجعت الرسل إلى بلقيس وأخبرتها بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه إنى قادمة إليك بأشراف قومى، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه، من دينك، ثم شخصت إليه، فجعل يبعث الجن يأتونه بأخبارها ويعلمونه غاية سيرها كل يوم حتى إذا دنت منه جمع جنده من الجن والإنس وتكلم فيهم.
(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي قال أيها الأعوان من منكم فى مكنته أن يأتينى بسرير ملكها قبل قدومها علينا، لنطلعها(19/140)
على بعض ما أنعم الله به علينا من العجائب النبوية، والآيات الإلهية، لتعرف صدق نبوتنا، ولتعلم أن ملكها فى جانب عجائب الله وبدائع قدرته يسير، وحينئذ تقدّم إليه بعض جنده بمقترحات.
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك وكان إلى منتصف النهار، ثم زاد الأمر توكيدا فقال: وإنى على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه، وإنى لأمين لا أمسه بسوء، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى- حينئذ.
(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال سليمان للعفريت متحدثا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره فى أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال:
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟) أي فلما رآه سليمان ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شىء ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال هذا تفضل من الله ومنّة ليختبرنى: أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة منى أم أجحد فلا أشكر بل أنسب العمل إلى نفسى؟
وإن النعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن الله بها عباده، فمن ضل بها هوى، ومن شكرها ارتقى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه، لأنه يجلب دوام النعمة، ومن جحد ولم يشكر فإن الله غنى عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه، كما قال: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وقال: «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»
وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه(19/141)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
«يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد دلك فى ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» .
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
تفسير المفردات
نكروا لها عرشها: أي غيروا هيئته وشكله بحيث لا يعرف بسهولة، مسلمين:
أي خاضعين منقادين، صدها: أي منعها، والصرح: القصر وكل بناء عال، واللجة الماء الكثير، ممرد: أي ذو سطح أملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر فى وجهه، القوارير: الزجاج واحدها قارورة، أسلمت: أي خضعت.
المعنى الجملي
علمنا مما سلف أن بلقيس تجهزت للسفر مقبلة إلى سليمان، وأن الجن كانت تترسم خطاها من يوم إلى آخر حتى إذا دنت منه سأل سليمان جنده: من يستطيع(19/142)
إحضار عرشها؟ فقال عفريت من الجن: أنا أفعل ذلك قبل أن تقوم من مجلس القضاء، فقال سليمان: بل أستطيع أن أحضره فى لمح البصر وكان كما قال: فلما رآه أمامه شكر ربه على جزيل نعمه.
وهنا ذكر ما فعل سليمان من تغيير معالم العرش وتبديل أوضاعه، ثم سؤالها عنه ليختبر مقدار عقلها، ولتعلم صدق سليمان فى دعواه النبوة، وتتظاهر لديها الأدلة على قدرة المولى سبحانه.
وقد كان مما أعده لنزولها قصر عظيم مبنى من الزجاج الشفاف، فرشت أرضه بالزجاج أيضا، وفى أسفله ماء جار فيه صنوف السمك، فلما دخلت فى بهوه خالته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوض فيه، فأنبأها سليمان بأن هذا زجاج يجرى تحته الماء، حينئذ أيقنت بأن دين سليمان هو الحق وأنها قد ظلمت نفسها بكفرها بالله ربها خالق السموات والأرض وصاحت تقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين
الإيضاح
(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لجنده لما جاء عرش بلقيس: غيروا لها معالم السرير وبدّلوا أوضاعه، لنختبر حالها إذا نظرت إليه ونرى: أتهتدي إليه وتعلم أنه هو أم لا تستبين لها حقيقة حاله؟.
ثم أشار إلى سرعة مجيها وخضوعها بقوله:
(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فحين قدمت واطلعت على عرشها سئلت عنه، أعرشك مثل هذا؟ أجابت بما دل على رجاحة عقلها إذ قالت كأنه هو، ولم تجزم بأنه هو، إذ ربما كان مثله.
قال مجاهد: جعلت تعرّف وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت:(19/143)
كأنه هو: وقال مقاتل: عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها أهذا عرشك لقالت نعم.
ولما ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار المعجزة لها قالت:
(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا منقادين لك من ذلك الحين، فلا حاجة بي إلى إظهار معجزات أخرى.
ثم ذكر سبحانه ما منعها عن إظهار ما ادعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال:
(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها ما كانت تعبده من دون الله وهو الشمس عن إظهار الإسلام والاعتراف بوحدانيته تعالى، من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها ونشأت بين أظهرهم ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدى سليمان فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده فى قرارة نفسها ويجول فى خاطرها.
روى أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه من زجاج أبيض شفاف يجرى من تحته الماء وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره، فلما قدمت إليه استقبلها فيه وجلس فى صدره، فحين أرادت الوصول إليه حسبته ماء فكشفت عن ساقيها، لئلا تبتل أذيالها كما هى عادة من يخوض الماء، فقال لها سليمان: إن ما تظنينه ماء ليس بالماء، بل هو صرح قد صنع من الزجاج فسترت ساقيها وعجبت من ذلك، وعلمت أن هذا ملك أعزّ من ملكها، وسلطان أعز من سلطانها، ودعاها سليمان إلى عبادة الله وعليها على عبادة الشمس دون الله، فأجابته إلى ما طلب وقالت: رب إنى ظلمت نفسى بالثبات على ما كنت عليه من الكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شىء وأخلصت له العبادة
وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله:(19/144)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .
أخرج البخاري فى تاريخه والعقيلي عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من صنعت له الحمامات سليمان» .
قصص صالح
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
تفسير المفردات
فريقان: أي طائفتان طائفة مؤمنة وأخرى كافرة، يختصمون: أي يجادل بعضهم بعضا ويحاجه، السيئة: العقوبة التي تسوء صاحبها، الحسنة: التوبة، لولا: أي هلّا، وهى كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها، اطيرنا: أي تطايرنا وتشاء منا بك،(19/145)
طائركم: أي ما يصيبكم من الخير والشر، وسمى طائرا لأنه لا شىء أسرع من نزول القضاء المحتوم، تفتنون: أي تختبرون بتعاقب السراء والضراء، والمراد بالمدينة:
الحجر، والرهط والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، تقاسموا: أي احلفوا، والبيات:
مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا، وليه: أي من له حق القصاص من ذوى قرابته إذا قتل، والمهلك: الهلاك، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر، والتدمير: الإهلاك، خاوية: أي خالية، لآية: أي لعبرة وموعظة.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي ولقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا وقلنا لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلها غيره.
وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين:
(1) فريق صدّق صالحا وآمن بما جاء به من عند ربه.
(2) فريق كذّبه وكفر بما جاء به.
وصارا يتجادلان ويتخاصمان، وكل منهما يقول أنا على الحق وخصمى على الباطل.
ثم ذكر أن صالحا استعطف المكذّبين وكانوا أكثر عددا وأشد عتوّا وعنادا حتى قالوا: «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» .
(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟) أي لم تستعجلون بالعقوبة التي يسوءكم نزولها بكم قبل حصول الخيرات التي بشّرتكم بها فى الدنيا والآخرة إن أنتم آمنتم بي.
ثم نصحهم وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون فقال:(19/146)
(لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي هلّا تتوبون إلى الله من كفركم، فيغفر لكم عظيم جرمكم ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا، لعلكم ترحمون بقبولها، إذ قد جرت سنته ألا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة.
ولما قال لهم صالح ما قال، وأبان لهم سبيل الرشاد أجابوه بفظاظة وغلظة.
(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قالوا: إنا تشاءمنا بك وبمن آمن معك، إذ زجرنا الطير فعلمنا أن سيصيبنا بك وبهم من المكاره ما لا قبل لنا به، ولم تزل فى اختلاف وافتراق منذ اخترعتم دينكم وأصابنا القحط والجدب بسببكم.
وسمى التشاؤم تطيرا من قبل أنه كان من دأبهم أنهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه: أي رموه بحجر ونحوه، فإن مرّ سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا به، وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا منه.
فأجابهم صالح عليه السلام:
(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال إن ما يصيبكم من خير أو شر مكتوب عند الله وهو بقضائه وقدره، وليس شىء منه بيد غيره، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم:
وسمى ذلك القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان، فلا شى أسرع منه نزولا.
ثم أبان لهم سبب نزول ما ينزل من الشر بقوله:
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلنى إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه؟
ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد فقال:
(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان فى مدينة صالح وهى الحجر تسعة أنفس يعيثون فى الأرض فسادا لا يعملون فيها صالحا.
ثم بين بعض ما عملوا من الفساد:(19/147)
(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي قال بعضهم لبعض فى أثناء المشاورة فى أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة وتوعّدهم بقوله: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» احلفوا لنباغتّنه وأهله بالهلاك ليلا ثم لنقولن لأولياء الدم، ما حضرنا هلاكهم، ولا ندرى من قتله ولا قتل أهله. ونحلف إنا لصادقون فى قولنا.
وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى، وأيضا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحربهم ألا يقتلوا صالحا.
قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرا منهم، ومن ثم قال سبحانه محذّرا لهم ولأمثالهم.
(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون فى الأرض بصالح، إذ صاروا إليه ليلا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك، فأخذناهم بعقوبتنا، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم.
ثم بين ما ترتب على ما باشروه من المكر بقوله:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ففكر كيف آل أمرهم، وكيف كانت عاقبة مكرهم، فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضى النظر، ويسترعى الاعتبار، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم فى جميع الأزمان.
روى أنه كان لصالح فى الحجر مسجد فى شعب يصلى فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبّقت عليهم الشعب فهلكهوا وهلك الباقون فى أماكنهم بالصيحة، ونجّى الله صالحا ومن آمن معه.
ثم أكد ما تقدم وقرره بقوله:(19/148)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم، إذ قد أهلكهم الله بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن فى فعلنا بثمود ما قصصناه عليك لعظة لمن كان من أولى المعرفة والعلم، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، بحسب السنن التي وضعت فى الكون.
وبعد أن ذكر من هلكوا أردفهم بمن أنجاهم فقال:
(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود- رسولنا صالحا ومن آمن به، لأنهم كانوا يتقون سخط الله ويخافون شديد عقابه، بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم.
وفى هذا إيماء إلى أن الله ينجى محمدا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركى قريش حين يخرج من بين ظهرانيهم كما أحلّ بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون إلى أطراف الشام ونزل رملة وفلسطين.
قصص لوط
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
الإيضاح
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي واذكر لقومك حديث لوط لقومه إذ قال لهم منذرا ومحذّرا: إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بنى آدم، مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع (واقتراف القبيح ممن يعلم قبحه أشنع) .(19/149)
ثم بين ما يأتون من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ليكون أوقع فى النفس فقال:
(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي أينبغى أن تأتوا الرجال وتقودكم الشهوة إلى ذلك وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال، وفيهن مباهج الرجال، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ما جنون.
ونحو الآية قوله: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» .
وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم وعظيم شناعته من وجوه:
(1) قوله: (الرِّجالَ) وفيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا.
(2) قوله: (مِنْ دُونِ النِّساءِ) وفى ذلك إيماء إلى أن تركهن واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع وفعل قبيح.
(3) قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وفى هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلا الذين لا عقول لهم، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون.
هذا آخر ما سطرناه تفسيرا لهذا الجزء من كلام ربنا العليم القدير، فله الحمد والمنة.
وكان ذلك بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(19/150)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 3 ما شرطه المشركون للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم 5 ما تقوله الملائكة للمشركين يوم القيامة 8 ندمهم فى الآخرة على ما فعلوا فى الدنيا 9 مثل الجليس الصالح وجليس السوء 10 شكاية الرسول إلى ربه بأن قومه هجروا كتابه 10 كان لكل نبى أعداء من شياطين الإنس والجن 12 فوائد إنزال القرآن منجّما 13 وعد الله رسوله بتأييده بإزالة ما يقولون من الشبه 14 قصص بعض الأنبياء مع أممهم 17 قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم 19 استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقولهم «أهذا الذي بعث الله رسولا 19 احتفال النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والإلحاف فى البلاغ 20 تسفيه آراء المشركين من وجوه ثلاثة:
23 الأدلة على التوحيد 25 بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما جاء فى الحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود 27 النهى على المشركين فى عبادة الأصنام 27 المشركون يظاهرون أولياء الشيطان ويعادون أولياء الرحمن(19/151)
27 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوكل على الله وحده ألا يرهب الوعيد ولا التهديد 31 خلق السموات والأرض فى ستة أيام 33 جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر 34 أوصاف خلّص عباده المؤمنين 36 صفة مشى النبي صلى الله عليه وسلم 37 سؤالهم صرف العذاب عنهم 38 كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم 39 سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أىّ الذنب أكبر؟
40 ترغيب الأبرار فى التوبة 41 كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة 41 «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» 42 إحسان الله إلى عباده المتقين 42 لولا عبادتكم ربكم لم يعبأ بكم 45 الحروف المقطعة فى أوائل السور 46 جرت سنة الله أن يكون الإيمان طوعا لا كرها 46 إعراض المشركين عن النظر فى الآيات 48 بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بتأييده ونصره 48 قصص موسى عليه السلام 49 تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم 50 الأسباب التي جعلت موسى يطلب معونة هارون 51 تقريع فرعون لموسى على حسن صنيعه له 52 قال موسى لفرعون إن أحسنت إلىّ فقد أسأت إلى شعبى(19/152)
3 تعريف موسى لإلهه أمام فرعون 54 بعد أن عجز فرعون عن دحض حجج موسى وصفه بالجنون 55 تهديد فرعون لموسى بالسجن 56 الأدلة التي أدلى بها موسى على صحة نبوته 57 ما يرويه فرعون. موقفه من موسى أمام شعبه 58 المناظرة بين موسى والسحرة وفلج موسى عليهم 61 إيمان السحرة بموسى 62 تهديد فرعون للسحرة على إيمانهم 63 رد السحرة على تهديد فرعون 65 أمر الله لموسى بالهجرة مع قومه من مصر 65 ما جاء فى سفر الخروج من التوراة عن هذه الهجرة 66 ما قوّى به فرعون جنده فى تعقبهم 67 ما جازى الله به فرعون وقومه 68 ما طمأن به موسى قومه حين خافوا من تعقبهم 68 كيف نجى الله موسى وقومه 69 قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه 71 محاجة إبراهيم لقومه 72 ما وصف به إبراهيم رب العالمين 74 ما طلبه إبراهيم من ربه 76 تقريب الجنة من المتقين والنار من الغاوين 77 سؤال أهل النار سؤال تقريع(19/15353)
78 ندم المشركين على ما كان قد فرط منهم 80 قصص نوح عليه السلام مع قومه 82 الحجة التي تذرعوا بها لعدم إجابتهم دعوته 83 تهديدهم لنوح عليه السلام 84 قصص هود عليه السلام مع قومه 86 ما أنكره هود على قومه 87 عظته لقومه على ما آتاهم من النعم 88 بعد أن أنذرهم ووبخهم قابلوه بالإنكار 89 قصص صالح عليه السلام مع قومه 91 ما خاطب به قومه محذرا لهم 92 إجابتهم له على ما اقترحوه من الآيات 93 قصص لوط عليه السلام مع قومه 94 توبيخ لوط لقومه على قبيح أفعالهم 95 إغاثة الله له بعد أن استغاثه 96 ما كتبه الباحثون حديثا عن قرى قوم لوط 97 رواية التوراة لقصة قوم لوط 98 قصص شعيب عليه السلام مع قومه 100 نهيهم عن بخس الحقوق 100 قدحهم فى نبوة الرسول لأمرين 101 ما نزل بهم من العذاب(19/154)
102 إخبار القرآن عن الغيب 103 القرآن ذكر فى الكتب السالفة 104 الرد على المشركين بأن لمحمد تابعا من الجن 105 بعث المشركون إلى أهل يثرب يسألونهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم 106 تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمان قومه 107 طول العمر لا يدفع عنهم العذاب المنتظر 108 لا يهلك الله قرية إلا بعد إنذارها 109 إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لقريش 111 أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلين الجانب 112 تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم 114 الشعراء يتبعهم الغاوون وذكر سبب ذلك 115 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على قول الشعر انتصار للدين 116 تحذير المشركين من سوء العاقبة 117 خلاصة ما حوته سورة الشعراء 118 أصح الأقوال فى فواتح السور 119 لوازم الإيمان الصحيح 120 يجب الله إلى من لا يؤمن بالآخرة سوء عمله 122 قصص موسى عليه السلام حين عودته من مدين 123 ما جاء فى التوراة عن ذلك 124 ما أراه ربه من الآيات الدالة على قدرته 125 قصص داود وسليمان عليهما السلام(19/155)
128 كثير من العلماء الآن يهتمون بالبحث عن لغات الطيور والحشرات كالنمل والنحل 129 تذكرة وعبرة بالآية 130 تفقد سليمان للهدهد 132 وصف مملكة سبأ 132 كتاب سليمان لملكة سبأ وردها عليه 135 ما يدل عليه الكتاب على وجازته 136 طلبت بلقيس من أشراف قومها إبداء الرأى فى كتاب سليمان 137 تحذيرها قومها من حرب سليمان 138 لم يقبل سليمان عليه السلام هدية بلقيس 140 مجىء سليمان بعرش بلقيس 141 من الذي عنده علم من الكتاب؟
143 ما فعلته بلقيس حين دخولها الصرح 144 ما أعده سليمان لنزول بلقيس 145 قصص ثمود مع صالح عليه السلام 148 توعدوا صالحا عليه السلام بعد أن توعدهم 149 ما قاله لوط لقومه ناصحا لهم 150 تأنيب قوم لوط على قبيح فعلهم(19/156)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
الجزء العشرون
[تتمة سورة النمل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
تفسير المفردات
يتطهرون: أي ينزهون أنفسهم، ويتباعدون عما نفعله، ويزعمون أنه من القاذورات، قدّرنا: أي قضينا وحكمنا، الغابرين: أي الباقين فى العذاب.
المعنى الجملي
سبق أن بيّنا أن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين لاحظوا العدّ اللفظي للحروف والكلمات والآيات، ولم ينظروا إلى ارتباط المعاني بعضها ببعض، ومن ثم نرى هنا أن الجزء قد انتهى قبل تمام قصة لوط وبدئ الجزء العشرون بتمام هذه القصة، وقد بين فيها أن النصح لم يجدهم شيئا وعقدوا العزم على استعمال القوة فى إخراجه من(20/3)
بين ظهرانيّهم، ولم يكن لهم حجة على المعارضة إلا أن لوطا وقومه لا يريدون أن يشاركوهم فيما يفعلون تباعدا من الأرجاس، وتلك مقالة قالوها على سبيل الاستهزاء بهم، وقد نسوا أن هناك قوة أشد من قوتهم هى لهم بالمرصاد، وأنها تمهلهم ولا تهملهم، فلما حان حينهم جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأهلك الله القوم الظالمين، ونصر الحق وأزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
الإيضاح
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي فلم يكن جوابهم للوط إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الذكور إلا قيل بعضهم لبعض:
أخرجوا لوطا وأهله من قريتنا، وقد عدّوا سكناه بينهم منّة ومكرمة عليه إذ قالوا:
من قريتكم.
ثم عللوا هذا الإخراج بقولهم استهزاء بهم:
(إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي إنهم يتحرّجون من فعل ما تفعلون، ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم، فإنهم لا يصلحون لجواركم فى بلدكم.
ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها، وإلى هذا أشار بقوله:
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي فأهلكناهم وأنجينا لوطا وأهله إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين فى العذاب، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم وكانت ترشد قومها إلى صيفان لوط ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبى الله صلى الله عليه وسلم، لا كرامة لها.
ثم بين ما أهلكوا به فقال:
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي وأمطرنا عليهم مطرا غير ما عهد(20/4)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
من نوعه، فقد كان حجارة من سجيل، فبئس ذلك المطر مطر الذين أنذرهم الله عقابا لهم على معصيتهم إياه، وخوّفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
تفسير المفردات
العباد المصطفون: هم الأنبياء عليهم السلام، الحدائق: البساتين واحدها حديقة، والبهجة: الحسن والرونق، يعدلون: من العدول وهو الانحراف، قرارا: أي مستقرا، الخلال: واحدها خلل وهو الوسط، رواسى: أي ثوابت أي جبالا ثوابت، الحاجز:
الفاصل بين الشيئين، والمضطر: الذي أحوجته الشدة وألجأته الضراعة إلى الله،(20/5)
ويكشف: أي يرفع، خلفاء: من الخلافة وهى الملك والتسلط، يهديكم: أي يرشدكم، بين يدى رحمته: أي أمام المطر.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص أولئك الأنبياء السالفين، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم، وصدق أخبارهم، وفيها بيان صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الشرك والكفر، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى، ومن أعرض عنهم فقد تردّى فى مهاوى الردى، ثم شرح صدره عليه الصلاة والسلام بما فى تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية، والمعارف الربانية، الفائضة من عالم القدس مقررا بذلك قوله: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أردف هذا أمره عليه الصلاة والسلام بأن يحمده تعالى على تلك النعم، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانا لفضلهم، وأداء الحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير ووجوب عبادته وحده، وأنه لا ينبغى عبادة شىء سواه من الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر الله رسوله أن يحمده شكرا له على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وأن يسلّم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار.
ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه، وحلول الخزي والنكال بأعدائه.
ونحو الآية قوله: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .(20/6)
وفى هذا تعليم حسن، وأدب جميل، وبعث على التيمن بالذّكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، والإصغاء إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر: هذا الأدب، فحمدوا الله وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة، وفى مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتزسّلون فأجروا عليه أوائل كتبهم فى الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن.
ثم شرع يوبخ المشركين ويتهكم بهم وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار فقال:
(آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) أي آلله الذي ذكرت لكم شئونه العظيمة خير أم الذي تشركون به من الأصنام؟ وفى ذلك ما لا يخفى من تسفيه آرائهم، وتفبيح معتقداتهم، وإلزامهم الحجة، إذ من البين أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير، فهو من وادي ما حكاه سيبويه: تقول العرب: السعادة أحب إليك أم الشقاء؟ وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
وجاء فى بعض الآثار «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال:
بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم»
ثم انتقل من التوبيخ تعريضا إلى التبكيت تصريحا فقال:
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي أعبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير، أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها وجعل فيها كواكب نيّرة ونجوما زاهرة، وأفلاكا دائرة وخلق الأرض وجعل فيها جبالا وأنهارا وسهولا وأوعارا، وفيافى وقفارا، وزروعا وأشجارا، وحيوانات مختلفة(20/7)
الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لكم من السماء مطرا جعله رزقا للعباد، فأنبت به بساتين مونقة تسر الناظرين؟ ولو لاه ما نبت الشجر، ولا ظهر الثمر.
ونحو الآية قوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وقوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» .
ثم زاد فى التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفى الخيرية عنها فقال.
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) أي أإله غيره يقرّون به، ويجعلونه شريكا له فى العبادة، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين؟ ونحو الآية قوله: «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» .
ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم فقال:
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي بل هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق، والانحراف عن جادّة الاستقامة فى جميع شئونهم، ومن ثمّ يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح وهو التوحيد، ويعكفون على الضلال المبين وهو الإشراك.
وفى معنى الآية قوله: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» وقوله: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وقوله:
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ» .
ثم أعاد التوبيخ بوجه آخر فقال:
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم مع أنه لا يضر ولا ينفع خير، أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان والدواب، وجعل فى أوسطها أنهارا تنتفعون بها فى شربكم وسقى أنعامكم ومزارعكم، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا نميد بكم،(20/8)
وحتى تنتفعوا بما فيها من المعادن المختلفة، وقد أنزل الماء على شواهقها وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزا يمنعهما من الاختلاط حتى لا يفسد هذا بذاك، والحكمة تقضى ببقاء كل منهما على حاله، فالعذبة: لسقى الناس والحيوان والنبات والثمار، والملحة: تكون مصادر للأمطار التي تجرى منها، وكذلك هى وسيلة لإصلاح الهواء.
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) فى إبداع هذه الكائنات وإيجاد هذه الموجودات.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله وما عليهم من ضرّ فى إشراكهم غيره به، وما لهم من نفع فى إفرادهم إياه بالألوهة، وإخلاصهم العبادة له، وبراءتهم من كل معبود سواه.
ثم زادهم توبيخا من وجه ثالث فقال:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟) أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللّجأ والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره، ويرفع عن الإنسان ما يسوءه من فقر أو مرض، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم فى الأرض فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها؟.
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله أن تدعو لى فأنا مضطر قال:
إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وقال الشاعر:
وإنى لأدعو الله والأمر ضيّق ... علىّ فما ينفك أن يتفرّجا
ورب أخ سدّت عليه وجوهه ... أصاب لها لمّا دعا الله مخرجا
وعن أبى بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعاء المضطر: «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت» .
وجاء فى الخبر: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده»
.(20/9)
وفى صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن:
«واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» .
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) الذي هذه شئونه، وتلك نعمه؟.
ثم بين أن من طبيعة الإنسان ألا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلا، وإلى ذلك أشار بقوله:
(قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا ما تتذكرون نعم الله عليكم، وأياديه عندكم، ومن ثمّ أشركتم به غيره فى العبادة.
ثم زادهم تأنيبا وتهكما من ناحية أخرى فقال:
(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمن تشركون بالله خير، أم من يرشدكم فى ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل فضللتم الطريق- بما خلق من الدلائل السماوية كما قال: «وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» وقال: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيى موات الأرض.
ولما اتضحت الأدلة ولم يبق لأحد فى ذلك عذر ولا علة قال:
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) فعل هذا؟.
ثم أكد هذا النفي وقرره بقوله:
(تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا المنفرد بالألوهية، ومن له صفات الكمال والجلال، ومن تخضع له جميع المخلوقات، وتذلّ لقهره وجبروته- عن شرككم الذي تشركونه به وعبادتكم معه ما تعبدون.
ثم أضاف إلى ذلك برهانا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال:
(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي أما تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء ويبتدعه من غير أصل سلف، ثم يفنيه إذا(20/10)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه، وهو الذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من الأولى غيثا وينبت من الثانية نباتا لأقواتكم وأقوات أنعامكم.
وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يلتفت إلى ذلك الإنكار لظهور أدلته فلم يبق لهم عذر فيه وبعد أن وضح الدليل على نفى الشريك بكّتهم وقال:
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) يفعل هذا حتى يجعل شريكا له؟
وبعد أن ذكر البرهان تلو البرهان وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح زاد فى التهكم بهم والإنكار عليهم والتسفيه لعقولهم، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدّعون. فقال:
(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم أيها الرسول: هاتوا الدليل على وجود ما تزعمون من الشركاء إن كان ما تقولونه حقا وصدقا
[سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
تفسير المفردات
أيان: أي متى، يبعثون: أي يقومون من القبور للحساب والجزاء، ادّارك:
أي تدارك وتتابع والمراد التتابع فى الاضمحلال والفناء، فى شك: أي فى حيرة عظيمة، عمون: واحدهم عم وهو أعمى القلب والبصيرة.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت تفرده بالألوهية، لاختصاصه بالقدرة التامة، والرحمة العامة- أعقب هذا بذكر لوازمها وهو اختصاصه بعلم الغيب، تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث(20/11)
(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) يقول سبحانه آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلم جميع خلقه أنه لا يعلم الغيب أحد من أهل السموات والأرض، بل الله وحده هو الذي يعلم ذلك كما قال: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» الآية. وقال: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» الآية.
والمراد بالغيب الشئون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها، وشئون الدنيا التي لا تقع تحت حسّنا وليست فى مقدورنا.
وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على الله، لأن الله يقول: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» ثم ذكر بعض ذلك الغيب فقال:
(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يدرى من فى السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة كما قال: «ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها، بل تأتيهم فجأة.
ثم أكد جهلهم بهذا اليوم بقوله:
(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بل انتهى علمهم وعجزهم عن معرفة وقتها فلم يكن لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسباب العلم، وليس المراد أنه كان لهم علم بوقتها على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل المراد أن أسباب العلم ومبادثه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت فى اعتبارهم شيئا فشيئا كلما تأملوا فيها حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن.
ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة فى الآخرة نفسها، أتكون أو لا تكون؟ فقال:(20/12)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي بل هم فى حيرة عظيمة من تحققها ووجودها، أكائنة هى أم غير كائنة؟ كمن يحار فى الأمر لا يجد عليه دليلا، فضلا عن تصديق ما سيحدث فيها من شئون أخبرت عنها الكتب السماوية كالثواب والعقاب، والنعيم والعذاب والأهوال التي لا يدرك كنهها العقل.
ثم ارتقى من وصفهم بالشك فى أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة فقال:
(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي بل هم فى عماية وجهل عظيم من أمرها، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق فى شأنها، والنظر فى دلائلها
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه فيما سلف جهلهم بالآخرة وعما هم عنها- أردف ذلك بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابا، وأنهم قالوا(20/13)
تلك مقالة سمعناها من قبل، وما هى إلا أسطورة من أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى صدق هذا بالسير فى الأرض حتى يروا عاقبة المجرمين، بسبب تكذيبهم للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم صبّر سبحانه رسوله على ما يناله من أذى المشركين، ووعده بالنصر عليهم، ثم ذكر أنهم مكذبون بالساعة وغيرها من العذاب والجزاء الموعود، وأنهم يسألون عن ذلك سخرية واستهزاء، وأجابهم بأن العذاب سينزل بهم قريبا، ثم ذكر فضله على عباده بأنه لا يعجل لهم العذاب مع استحقاقهم له، إذ هم لا يشكرونه على ذلك، ثم بين أنه تعالى عليم بالسر والنجوى، وأنه مطلع على ما تكنّه القلوب، وأنه ما من شىء مهما خفى فالله عليم به وهو مثبت عنده فى كتاب مبين.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي وقال الكافرون بالله المكذبون لرسله، أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا وبعد أن بلينا وكنا فيها ترابا؟
وهذا منهم استبعاد لإعادة الأجسام بعد صيرورتها عظاما ورفاتا.
ثم ذكروا شبهتهم على استبعاده فى زعمهم فقال:
(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي إنا ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى تحقق ذلك ولا وقوعه.
ثم أكدوا هذا الاستبعاد بقولهم:
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد إلا أسطورة مما سطّره الأولون من الأكاذيب فى كتبهم من غير أن يكون لهم بينة على إمكان تحققه ووجوده.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى وجه الصواب مع التهديد والوعيد فقال:(20/14)
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي قل لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الأنباء من عند ربك: سيروا فى الأرض فانظروا إلى ديار من كان قبلكم من المكذبين، كيف هى؟ ألم يخرّ بها الله ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم، وردّهم عليهم نصائحهم، فخلت منهم الديار، وعفت منها الرسوم والآثار، وكان ذلك عاقبة إجرامهم، وتلك سنة الله فى كل من سلك سبيلهم فى تكذيب رسله، وسيفعل ذلك بكم إن أنتم لم تبادروا إلى الإنابة من كفركم وتكذيبكم رسوله.
ثم صلّى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يناله من عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل فقال:
(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك، ولا يضق صدرك من مكرهم، فإن الله ناصرك عليهم، ومظهر دينك على من خالفه فى المشارق والمغارب.
ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب الله أشد بقوله:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك: متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به؟ إن كنتم صادقين فيما تدّعون؟.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال:
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي قل لهم: عسى أن يلحقكم ويصل إليكم بعض ما تستعجلون حلوله من العذاب، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال.
قال صاحب الكشاف: عسى ولعل وسوف، فى وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم،(20/15)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، وعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده اهـ.
ثم بين سبحانه السبب فى ترك تعجيل العذاب فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم. فلا يشكره إلا القليل منهم.
ثم أبان سبحانه أنه مطّلع على ما فى قلوبهم فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يقال كننت الشيء وأكننته:
إذا سترته وأخفيته، أي إن ربك يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر كما قال «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» وقال «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» .
وقصارى ذلك- إنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له وما يعلنون، وهو محصيها عليهم ومجازيهم بذلك.
ثم ذكر أن كل ما يحصل فى الوجود فهو محفوظ فى اللوح المحفوظ فقال:
(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من أمر مكتوم وسر خفى يغيب عن الناظرين فى السماء أو فى الأرض إلا وهو فى أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة، وهو بيّن لمن نظر إليه وقرأ ما فيه، مما أثبته ربنا جلت قدرته.
ونحوه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» .
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)(20/16)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يتعلق بالنشأة الأولى وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وما يتصل بالبعث والنشور وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد- أردف ذلك الكلام فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأقام الأدلة على صحتها وصدق دعواه فيما يدّعى، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه:
(1) إن ما فيه من القصص موافق لما فى التوراة والإنجيل مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا ولم يخالط أحدا من العلماء للاستفادة والتعلم، فلا يكون ذلك إذا إلا من وحي إلهى من لدن حكيم خبير.
(2) إن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر فى دنياهم وآخرتهم- لا يوجد له نظير فى كتاب آخر، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله.
(3) إنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته مع حرصهم عليها أشد الحرص، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى الشر، وأنه من من الملإ الأعلى ومن لدن خالق القوى والقدر.
ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكما على بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فأبان لهم الحق فى هذا كاختلافهم فى أمر المسيح، فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل(20/17)
إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون إنه كاذب فى دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هى منزهة عنه، وقالوا إن النبي المبشّر به فى التوراة هو يوشع عليه السلام أو هو نبى آخر يأتى آخر الدهر. إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه، وأنه لا يحكم إلا بالعدل، فقوله الحق وقضاؤه الفصل.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه فإنه حافظه وناصره، وأن يعرض عن أولئك الذين لا يستمعون لدعوته، لأنهم صم بكم لا يعقلون، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعى، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها.
الإيضاح
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بنى إسرائيل الحق فى كثير مما اختلفوا فيه، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه، لكنهم لم يفعلوا وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله كما تفعلون أنتم أيها المشركون.
ثم وصف القرآن بقوله:
(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإنه لهاد للمؤمنين إلى سبيل الرشاد، ورحمة لمن صدّق به وعمل بما فيه.
وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه دليل عدله فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بحكمه العادل، فينتقم من المبطل منهم، ويجازى المحسن بما يستحق من الجزاء، وهو العزيز الذي لا يردّ حكمه وقضاؤه، العليم بأفعال العباد وأقوالهم، فقضاؤه موافق لواسع علمه.
وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه وحده فقال:(20/18)
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي ففوض إلى الله جميع أمورك وثق به فيها، فإنه كافيك كل ما أهمك، وناصرك على أعدائك، حتى يبلغ الكتاب أجله.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» .
ثم أيأسه من إيمان قومه وأنه لا أمل فى استجابتهم لدعوته فقال:
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلوبهم فأماتها، ولا أن تسمعه من أصمهم عن سماعه، ولا سيما أنهم مع ذلك معرضون عن الداعي، مولّون على أدبارهم، وإنما شبههم بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل فى استجابتهم للدعوة، لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال.
وظاهر نفى سماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل.
كما
ثبت فى الصحيح «أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى فى قليب (بئر) بدر فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» . أخرجه مسلم.
وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.
وقصارى ما سلف- إنه تعالى أمره بالتوكل عليه والإعراض عما سواه، لأنه على الحق المبين ومن سواه على الباطل، ولأنه تعالى مؤيده وناصره، ولأنه لا مطمع فى مشايعة المشركين ومعاضدتهم، لأنهم كالموتى وكالصم البكم، فلا أمل فى استجابتهم للدعوة، ولا فى قبولهم للحق.
ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه فى إيمانهم على أتم وجه فقال:(20/19)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي أنت أيها الرسول لا تستطيع أن تصرف العمى عن ضلالتهم وتهديهم إلى الطريق السوىّ، والمراد أنك لا تهدى من أعماهم الله عن الهدى والرشاد، فجعل على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما جئت به نظرا يوصلهم إلى معرفة الحق وسلوك سبيله.
ثم زاد ذلك توكيدا فقال:
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة، خاضع لربه، متبتل إليه، مجيب لدعوة رسله.
الخلاصة- إنك لا تقدر أن تفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول، ويتدبرونه ويعملون به، إذ هم ينقادون للحق فى كل حين.
[سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 90]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)(20/20)
تفسير المفردات
وقع: حدث وحصل، والمراد من القول: ما دل من الآيات على مجىء الساعة، تكلمهم: أي تنبئهم وتخبرهم، نحشر: أي نجمع، فوجا: أي جماعة من الرؤساء، يوزعون: أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا فى موقف التوبيخ والمناقشة، ولم تحيطوا بها علما: أي ولم تدركوا حقيقة كنهها، ألم يروا: أي ألم يعلموا، ليسكنوا فيه: أي ليستريحوا فيه ويهدءوا، مبصرا: أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب فى أمور معاشهم، الصور: البوق، داخرين: أي أذلاء صاغرين، جامدة: أي ثابتة فى أماكنها، أتقن: أي أحكم، يقال رجل تقن (بكسر التاء وسكون القاف) أي حاذق بالأشياء، الحسنة: الإيمان وعمل الصالحات، والسيئة: الإشراك بالله والمعاصي، كبت: أي ألقيت منكوسة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان بعدئذ إمكان البعث والحشر والنشر، ثم فصل القول فى إعجاز القرآن، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- أردف ذلك ذكر مقدمات القيامة وما يحدث من الأهوال حين قيامها، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم، وأنه حينئذ ينفخ فى الصور، فيفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله، وأن الجبال تجرى وتمر مر السحاب ثم بين أحوال المكلفين بعد ذلك وجعلهم(20/21)
قسمين: مطيعين يعملون الحسنات فيثابون عليها بما هو خير منها ويأمنون الفزع والخوف ساعتئذ، وعاصين يكبّون فى النار على وجوههم ويقال لهم حينئذ هذا جزاء ما كنتم تعملون.
الإيضاح
(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يخبر سبحانه بأنه حين فساد الناس وتركهم أوامره وتبديلهم الدين الحق قرب مجىء الساعة- تخرج دابة من الأرض تحدّث الناس بأنهم كانوا لا يوقنون بآياته الدالة على مجىء الساعة ومقدّماتها.
والمقصود من هذا التحديث: التشنيع عليهم بهذه المقالة، وفى التعبير بكلمة (النَّاسَ) الإشارة إلى كثرتهم وأنهم جمّ غفير منهم.
وما جاء فى وصف الدابة والمبالغة فى طولها وعرضها، وزمان خروجها ومكانه- مما لا يركن إليه، فإن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بالدليل القاطع عن الرسول المعصوم.
ثم بين سبحانه حال المكذبين حين مجىء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال:
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويوم نجمع من كل أهل قرن جماعة كثيرة ممن كذبوا بآياتنا ودلائلنا، ونحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا فى موقف التوبيخ والإهانة، حتى إذا جاءوا ووقفوا بين يدى الله فى مقام السؤال والجواب، ومناقشة الحساب، قال لهم ربهم مؤنبا وموبخا لهم على تكذيبهم:
أكذبتم بآياتى الناطقة بلقاء يومكم هذا بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يوصلكم إلى العلم بحقيقتها، أم ماذا كنتم تعملون فيها من تصديق وتكذيب؟.(20/22)
(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي وحلّ بأولئك المكذبين بآيات الله- السخط والغضب بتكذيبهم بها. فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حل بهم من العذاب الأليم.
ونحو الآية قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» .
وبعد أن خوّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة فقال:
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ومخالفتنا بينهما يجعل ذاك سكنا لهم يسكنون فيه، ويهدءون راحة لأبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهارا، وجعل هذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها، فيتقلبون فيه لمعايشهم- فيتفكرون فى ذلك ويتدبرون ويعلمون أن مصرّف ذلك كذلك، هو الإله الذي لا يعجزه شىء، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء، وإحياء الأموات بعد الممات.
وفى ذلك أيضا دليل على النبوة، لأنه كما يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ففى بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس فى دنياهم ودينهم، فما المانع إذا من بعثهم إليهم؟
بل الحاجة إلى ذلك ملحّة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فيما ذكر لدلالة على قدرته على البعث بعد الموت، وعلى توحيده لمن آمن به وصدّق برسله، فإن من تأمل فى تعاقبهما واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم تحار فى فهمها العقول، ولا يحيط بعلمها إلا الله وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل الحالكة المشابهة للموت، بضياء النهار المضاهي للحياة، وعاين فى نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة- قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور، وجزم بأن الله جعل هذا دليلا على تحققه، وأن الآيات الناطقة به حق، وأنها من عند الله.(20/23)
وبعد أن ذكر الحشر الخاصّ وأقام الدليل عليه- ذكر الحشر العام فقال:
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ فى الصور، إذ يفزع من فى السموات ومن في الأرض، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور، بمشاهدة الأهوال الخارقة لعادة فى الأنفس والآفاق، إلا من ثبّت الله قلبه.
ويرى أكثر أهل العلم أن هناك نفختين، نفخة الفزع المذكورة فى هذه الآية وهى نفخة الصعق المذكورة فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» لأن كلا الأمرين الفزع والخوف، والصعق وهو الموت يحصلان بها، ونفخة البعث المذكورة فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» .
(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين، حين النفخة يحضرون الموقف بين يدى رب العزة للسؤال والجواب، والمناقشة والحساب، أذلاء صاغرين، لا يتخلف أحد عن أمره كما قال: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» .
وقال: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقال:
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» .
ولما ذكر دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم فقال:
(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وترى الجبال كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهى تزول عن أماكنها وتسير حثيثا كمر السحاب، لأن الأجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد تبين حركتها.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» وقوله:
«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» وقوله: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وهذا يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، فيبدل الله الأرض غير الأرض ويغيّر هيئتها ويسيّر الجبال عن مقارّها ليشاهدها أهل المحشر، وهى وإن(20/24)
دكت عند النفخة الأولى، فتسييرها إنما يكون لدى النفخة الثانية كما نطق به قوله:
«فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» وقوله: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» .
ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله:
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ذلك الصنع العظيم صنع الله الذي أحكم كل شىء وأودع فيه من الحكمة ما أودع.
ثم علل ما تقدم من النفخ فى الصور والقيام للحساب ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله:
(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهو مجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
ثم بين حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من آمن بالله وعمل صالحا فله على ذلك جزيل الثواب من عند ربه فى جنات النعيم، يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة كما جاء فى الآية: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» وقال: «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟» وقال: «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» وقد صح تفسير الحسنة هنا بشهادة أن لا إله إلا الله، على ما رواه ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ومن أشركوا بالله وعملوا السيئات يكبّون على وجوههم فى جهنم ويطرحون فيها.
ونحو الآية قوله: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ» .
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال:
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويقال لهم: هل هذا إلا جزاء ما كنتم تعملون فى الدنيا، مما يسخط ربكم ويغضبه منكم من شرك به ومعصية له.(20/25)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
تفسير المفردات
البلد: هى مكة، أتلو القرآن: أي أواظب على تلاوته، من المنذرين: أي المخوفين قومهم من عذاب الله.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أحوال المبدإ والمعاد، وفصّل أحوال القيامة- أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة تنبيها لهم إلى أنه قد تمّ أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله والاستغراق فى مراقبته، غير مبال بهم ضلّوا أو رشدوا، صلحوا أو فسدوا، إثارة لهممهم بألطف وجه إلى تدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفى فى إرشادهم، وتشفى عللهم وأمراضهم.
الإيضاح
(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أي قل لهم أيها الرسول إنما أمرت أن أعبد رب مكة التي حرم على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما أو يظلموا فيها أحدا. وخصها بالذكر لأنى أول بيت للعبادة كان فيها- دون الأوثان التي تعبدونها كما قال: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» .(20/26)
وفى هذا تأنيب لهم على ما يفعلون من أنواع الفجور وفظيع المنكرات، فإنهم قد تركوا عبادة رب مكة، ونصبوا الأوثان فيها، وعكفوا على عبادتها.
(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا وتصرفا دون أن يشركه فى ذلك أحد.
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرنى ربى أن أسلم وجهى له، فأكون من الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المخبتين له فى الطاعة.
ونحو الآية قوله: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) آناء الليل وأطراف النهار، لتنكشف لى أسراره المخزونة فى تضاعيفه، وأستطلع أدلة الكون المتفرّقة فى آية، فأعرف حقائق الحياة، وسر الوجود، ويفاض علىّ من فيوضاته الإلهية، وأسراره القدسية ما شاء الله أن يفيض.
وقد روى «أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة يصلى فقرأ قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر، ويتجلّى له من مقاصدها ما تسمو به نفسه إلى الملإ الأعلى حتى طلع الفجر» .
ونحو الآية: «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» .
(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اتبعنى واهتدى بهداي وآمن بي وبما جئت به فقد سلك سبيل الرشاد، وأمن نقمة ربه فى الدنيا وعذابه فى الآخرة.
(وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن جار عن قصد السبيل بتكذيبه بي وبما جئت به من عند الله، فقل إنما أنا من المنذرين فحسب، وقد خرجت من عهدة الإنذار، وليس علىّ من وبال ضلالكم من شىء، فإن قبلتم وانتهيتم عما يكرهه ربكم من الشرك، فحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن كذبتم وأعرضتم عما أدعوكم إليه فعلى أنفسكم تجنون، وقد بلّغتكم ما أمرت بإبلاغه إياكم.
ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .(20/27)
ثم أمره سبحانه بترغيب قومه وترهيبهم فقال:
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي وقل الحمد لله على ما أفاض علىّ من نعمائه التي من أجلّها نعمة النبوة المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها، بالآيات البينة، والبراهين الساطعة، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون بها حقيقة نصحى، ويستبين لكم صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد حين لا تجدى المعرفة، ولا تفيد التبصرة شيئا.
ونحو الآية قوله: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» .
ثم ذيل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله:
(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون ولكنه مؤخر عذابهم إلى أجل هم بالغوه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا يحزنك تكذيبهم فإنى لهم بالمرصاد، وأيقن بأنى ناصرك وخاذل عدوك، ومذيقهم الذلّ والهوان.
روى أن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفى الرياح من أثر قدمى ابن آدم وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علىّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب
والحمد لله وصلاته على النبي الأمى وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/28)
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام وقصص
(1) وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين.
(2) قصص موسى عليه السلام.
(3) قصص سليمان عليه السلام.
(4) قصص ثمود وقصص قوم لوط.
(5) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى.
(6) إنكار المشركين للبعث والنشور وقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين.
(7) علم الله بما فى الصدور.
(8) حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل.
(9) قطع الأطماع فى إيمان المشركين وتشبيههم بالعمى الصم (10) أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال.
(11) الجزاء على العمل خيرا كان أو شرا.
(12) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: إنه إنما أمر بعبادة رب مكة، لا بعبادة الأصنام والأوثان.
(13) أمره بحمد الله والثناء عليه وطلبه تلاوة القرآن.
(14) إنه سبحانه سيرى المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة حين لا يفيدهم ذلك شيئا.(20/29)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
سورة القصص
هى مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل:
إلا من آية 52 إلى 55 فمدنية، وإلا آية 85 فقد نزلت بالجحفة أثناء الهجرة إلى المدينة.
وآيها ثمان وثمانون، نزلت بعد النمل.
ووجه مناسبتها لما قبلها أمور:
(1) إنه سبحانه بسط فى هذه السورة ما أوجز فى السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام وفصّل ما أجمله هناك، فشرح تربية فرعون لموسى وذبح أبناء بنى إسرائيل الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته فى اليمّ خوفا عليه من الذبح، ثم ذكر قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته، ثم مناجاته لربه.
(2) إنه أحمل فى السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة وبسطه هنا أتم البسط.
(3) إنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط، وأجمله هنا فى قوله: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» الآيات.
(4) بسط هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة، وأوجز ذلك هنا، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين.
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)(20/30)
تفسير المفردات
نتلو عليك: أي ننزل عليك، والنبأ: الخبر العجيب، علا: تجبر واستكبر، شيعا: أي فرقا يستخدم كل صنف فى عمل من بناء وحفر وحرث إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة، ويغرى بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا، يستضعف: أي يجعلهم ضعفاء مقهورين، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل، ونمن: أي نتفضل، والأئمة: واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا، ويقال مكّن له إذا جعل له مكانا موطّأ ممهدا يجلس عليه، والمراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها، وهامان وزير فرعون، يحذرون: أي يتوقعونه من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود من بنى إسرائيل.
الإيضاح
(طسم) تقدم أن قلنا إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول فى معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يراد بها التنبيه، كما يراد مثل ذلك من معنى (يا) فى النداء و (ألا) ونحوهما، وينطق بها بأسمائها هكذا (طاسين ميم) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات الكتاب الكريم، الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحا جليا كاشفا لأمور الدين وأخبار الأولين، لم تتقوله ولم تتخرّصه كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة من أوحى إليه.
ثم ذكر ما هو كالدليل على أنه وحي يوحى وليس هو من وضع البشر فقال:(20/31)
(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة، وإخبار فرعون وجبروته وطغيانه، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تجد معه البراهين الساطعة، والمعجزات الواضحة، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر، فكانت عاقبته الدمار والوبال، وأغرق ومن معه من جنده أجمعون، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق كأنك شاهد حوادثها، مبصر وقائعها، تصف ما ترى وتبصر عيانا، لقوم يصدقون بك وبكتابك. لتطمئن به قلوبهم وتثلج به صدورهم، ويعلموا أنه الحق من ربهم، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هى سنته فيمن عادى موسى ومن آمن معه من بنى إسرائيل، وأن النصر دائما للمتقين ويخزى الله المكذبين: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» .
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين وهو يتلى على الناس أجمعين، لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع وأذن سامعة تذكر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه، وأبى واستكبر، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر، فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقى له بالا، ولا يعى ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ما حكى الله عنهم:
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» .
ثم فصل هذا المجمل ووضحه بقوله:
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن فرعون تجبر فى مصر وقهر أهلها وجاوز الغاية فى الظلم والعدوان وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكّن له فى ذلك ما بينه الله سبحانه بقوله:
(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي وفرقهم فرقا مختلفة، وأحزابا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء، كيلا يتفقوا على أمر ولا يجمعوا على رأى، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هى سياسة الدول الكبرى فى العصر الحاضر، وذلك هو دستورها فى حكمها(20/32)
لمستعمراتها، وقد نقش حكامها فى صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه «فرّق تسد» وطالما أجدى عليهم فى سياسة تلك البلاد، التي يعمّها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور. ويرضون بالنّفاية والقشور.
رحماك، اللهم رحماك، بسطت لعبادك سنتك فى الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
(يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أي يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين، يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف، وهم بنو إسرائيل.
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله:
(يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكل بذلك عيونا تتجسس، فكلما ولدت امرأة منهم ذكرا ذبحوه، ويستبقى إناثهم، لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها والغلب الاقتصادى فى بلد ما أشدّ وقعا وأعظم أثرا فى أهلها من الغلب الاستعمارى، ومن ثمّ لم يشأ أن يقتل النساء.
روى السّدّى أن فرعون رأى فى منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتغلت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بنى إسرائيل، فسأل علماء قومه، فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فلا داعى للقتل اهـ.
ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شىء فسواء صحت أو لم تصح، فإن السرّ المعقول ما قصصناه عليك أوّلا.(20/33)
ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم، وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله:
(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ومن ثم سولت له نفسه أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه، وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان له فيها غنية عن سفك الدماء، ولكن قساة القلوب غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوغ فى الدم، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم، وسخائم أفئدتهم.
ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة وما أتاح لها من السلطان الديني والدنيوي، فتأسست لهم دولة عظيمة فى بلاد الشام، وصاروا يتصرفون فى أرض مصر كما شاءوا فقال:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي ونريد أن نتفضل بإحساننا على من استضعفهم فرعون وأذلهم، وننجيهم من بأسه، ونريهم فى أنفسهم وفى أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون.
(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقتدى بهم فى الدين والدنيا.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك الشام لا ينازعهم فيه منازع، وقد جاء فى آية أخرى:
«وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» وفى ثالثة «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» .
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ونسلطهم على أرض مصر يتصرفون فيها كيفما شاءوا بتأييدهم بكليم الله ثم بالأنبياء من بعده.
ثم بين ما نال عدوهم من النكال والوبال فقال:
(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي ونرى أولئك الأقوياء والأعداء والألداء على أيدى بنى إسرائيل من المذلة والهوان وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا ينجى حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام الذي احترز من وجوده وقتل بسببه ألوفا من الولدان، وكان منشؤه ومرباه على فراشه وفى داره، وغذاؤه(20/34)
من طعامه، وكان يدلله ويتبناه، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره، الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وخلاصة ما سلف:
(1) إن فرعون علا فى الأرض.
(2) استضعف حزبا من أحزاب مصر.
(3) قتل الأبناء.
(4) استحيا النساء.
(5) إنه كان من المفسدين.
وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة مثلها تكرمة لبنى إسرائيل:
(1) إنه منّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.
(2) إنه جعلهم أئمة مقدّمين فى الدارين.
(3) إنه ورّثهم أرض الشام.
(4) إنه مكن لهم فى أرض الشام ومصر.
(5) إنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من ذهاب ملكهم على أيديهم:
هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر كما يعقب الليل النهار، سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .
انظر إلى الدولتين الفارسية والرومية، وما كان لهما من مجد بازخ، وملك واسع، كيف دالت دولتهما، وذهب ريحهما بظلم أهلهما، وتقسّم ملكهما، ثم قامت بعدهما الدولة العربية وعاشت ما شاء الله أن تعيش، ثم قام بعدها بنو عثمان وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية، ثم هرمت دولتهم وشاخت واستولت عليها ممالك أوروبا.
«قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .(20/35)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 13]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
تفسير المفردات
الوحى: الإلهام كما جاء فى قوله: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» والخوف: غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث فى المستقبل، والحزن: (بفتحتين وبضم فسكون كالرّشد والرّشد والسّقم والسّقم) غم يحدث بسبب مكروه قد حصل، واليمّ: البحر، والمراد هنا نهر النيل، والالتقاط: أخذ الشيء فجأة من غير طلب له، والمراد من الخطأ هنا: الخطأ فى الرأى وهو ضد الصواب والمراد به الشرك والعصيان لله، وقرت به العين:
فرحت به وسرّت، فارغا: أي خاليا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه فى يد عدوه نحو ما جاء فى قوله: «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» أي خلاء(20/36)
لا عقول بها، والإبداء: إظهار الشيء، والربط على القلب: شده والمراد هنا تثبيته، وقصيه: أي اقتفى أثرة وتتبعى خبره، فبصرت به: أي أبصرته، عن جنب: أي عن بعد، لا يشعرون: أي لا يدرون أنها أخته، حرمنا: أي منعنا، يكفلون: أي يضمنون رضاعه والقيام بشئونه، والنصح: إخلاص العمل والمراد أنهم يعملون ما ينفعه فى غذائه وتربيته، ولا يقصرون فى خدمته.
الإيضاح
بعد أن ذكر سبحانه أنه سيمنّ على بنى إسرائيل الذين استضعفوا فى الأرض، أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال:
(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي وألهمناها وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه عن عدوه وعدوك.
(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) أي فإذا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون أولاد بنى إسرائيل اتباعا لأمره، أو من الجيران أن يتمّوا عليه إذا سمعوا صوته، فألقيه فى النيل ولا تخافي هلاكه، ولا تحزنى لفراقه، وقد تقدم فى سورة طه بيان الكيفية التي ألقته بها فى اليم.
روى أن دارها كانت على الشاطئ فاتخذت تابوتا ومهدت فيه مهدا وألقته فى النيل، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قصته بين الولادة والإلقاء فى اليم.
ثم وعدها سبحانه بما يسليّها ويطمئن قلبها ويملؤه غبطة وسرورا، وهو رده إليها وجعله رسولا نبيا فقال:
(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنا رادو ولدك إليك للرضاع وتكونين أنت مرضعه، وباعثوه رسولا إلى هذا الطاغية وجاعلو هلاكه ونجاة بنى إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه.
وهذه الآية اشتملت على أمرين: أرضعيه وألقيه، ونهيين: ولا تخافي ولا تحزنى،(20/37)
وخبرين: إنا رادوه إليك وجاعلوه. وبشارتين فى ضمن الخبرين: وهما الرد والجعل من المرسلين، حكى عن الأصمعى قال: سمعت أعرابية تنشد:
أستغفر الله لذنبى كله ... قبّلت إنسانا بغير حله
مثل الغزال ناعما فى دلّه ... فانتصف الليل ولم أصله
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! قالت أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) الآية؟ فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
ثم ذكر صدق وعده ومقدمات نجاته فقال:
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي فأخذه أهل فرعون أخذ اللقطة التي يعنى بها وتصان عن الضياع صبيحة الليل الذي ألقى فيه التابوت.
روى أن الموج أقبل به يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون، فخرج جوارى امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا، فلما فنحنه وجدن فيه غلاما فوقعت عليها رحمته فأحبته.
ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه إذ قال إنى أخاف أن يكون هذا من بنى إسرائيل وأن يكون هلاكنا على يديه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.
ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت فقال:
(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي لتكون عاقبة أمره كذلك إذ أراد الله هذا، وهذا كما تقول لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله وهو يظن نفسه محسنا فيه وأدى الأمر إلى مساءة وضرّ قد لحقه: فعلت هذا لضر نفسك، وهو قد كان حين الفعل راجيا نفعه غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو، وهذا جار على سنن العرب فى كلامهم، فيذكرون الحال بالمئال، قال شاعرهم:
وللمنايا تربّى كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن(20/38)
فعاقبة البناء الخراب وإن كان فى الحال مفروحا به، وعاقبة تغذية السخال الذبح وإن كانت الآن تغذّى لتسمن.
والخلاصة- إن الله قيّضهم لالتقاطه: ليجعله لهم عدوا وحزنا، ويستبين لهم بطلان حذرهم منه.
وعداوته إياهم مخالفته لهم فى دينهم وحملهم على الحق، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات ولا يستجيبوا لدعوته، فتحل بهم القوارع كما هى سنة الله فى خلقه المكذبين.
ثم بين أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنوده لبنى إسرائيل حمق وطيش فقال:
(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي إن هؤلاء كان من دأبهم الخطأ وعدم التدبر فى العواقب، ومن ثم قتلوا لأجله ألوفا، ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون.
ثم حكى سبحانه قول امرأة فرعون حين رآه فرعون وهمّ بقتله.
(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون: إنه مما تقرّ به العيون، وتفرح لرؤيته القلوب، فلا تقتلوه.
ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت.
(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي لعلنا نصيب منه خيرا، لأنى أرى فيه مخايل اليمن، ودلائل النجابة، كما قال الشاعر:
فى المهد ينطق عن سعادة جدّه ... أثر النجابة ساطع البرهان
أو نتخذه ولدا لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلا لتبنى الملوك له، وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون فوهبه لها.
ثم بين سبحانه أنهم لا يدرون خطأهم فيما صنعوا فقال:
(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر، وبما يئول إليه أمرهم(20/39)
معه من عظائم الأمور التي تؤدى إلى هلاكهم، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب، فهو الذي يدرى ما أراد بالتقاطهم إياه من الحكم البالغة، والحجج القاطعة.
وبعد أن أخبر سبحانه عن حال من لقيه موسى عليه السلام خبّر عن حال من فارقه بقوله:
(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنها حين سمعت بوقوعه فى يد فرعون طار عقلها شعاعا لما دهمها من الجزع والحزن وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريا على عادته مع أنداده ولداته، ولولا أن عصمناها وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها، وأظهرت أنه ابنها وقالت من شدة الوجد «وا ولداه» وقد فعلنا ذلك لتكون من المصدّقين بوعدنا: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» .
ثم أخبر عن فعلها فى تعرف خبره بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله:
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وقالت لابنتها وكانت كبيرة تعى ما يقال لها: تتبّعى أثره، وتسمّعى خبره، فأبصرته عن بعد، وهم لا يشعرون أنها تقصه، وتتعرف حاله، وأنها أخته.
ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال:
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي ومنعنا موسى المراضع من أول أمره، فقالت أخته حين رأت اهتمامهم برضاعه: أتحبون أن أرشدكم إلى أهل بيت يأخذونه ويتولون تربيته ويقومون بجميع شئونه ولا يقصّرون فى خدمته والعناية بأمره؟
روى عن ابن عباس أنها لما قالت ذلك أخذوها وشكّوا فى أمرها وقالوا لها:
ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت هم يفعلون ذلك رغبة منهم فى سرور الملك ورجاء عطائه، وبذا خلصت من أذاهم، وذهبوا معها إلى منزلهم ودخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك(20/40)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها العطاء الجزيل، ثم سألتها أن تقيم عندها وترضعه فأبت ذلك عليها وقالت إن لى بعلا وأولادا ولا أستطيع المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه فى بيتي فعلت، فأجابتها إلى ما طلبت، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا وجزيل العطايا ورجعت بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا وهى موفورة العز والجاه والرزق الواسع،
وقد جاء فى الأثر «مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها» .
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي فرددناه إلى أمه بعد أن التقطه آل فرعون، لتقرّ عينها بابنها إذ رجع إليها سليما، ولا تحزن على فراقه إياها.
(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ولتعلم أنّ وعد الله الذي وعدها حين قال لها:
(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) حق لامرية فيه ولا خلف، وقد شاهدت بعضه، وقاست الباقي عليه.
وبرده إليها تحققت أنه سيكون رسولا، فربّته على ما ينبغى لمثله من كامل الأخلاق وفاضل الآداب.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حكم الله فى أفعاله وعواقبها المحمودة فى الدنيا والآخرة، إذ قد يكون الشيء بغيضا إلى النفوس ظاهرا، محمود العاقبة آخرا كما قال:
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .
وقد حدث هذا فى أمر موسى، فقد ألقى فى اليم ثم رد إلى أمه مكرّما ثم كان له من الوجاهة فى الدنيا والآخرة ما كان.
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 19]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)(20/41)
تفسير المفردات
واحدة الأشد: شدة كأنعم ونعمة، والشدة: القوة والجلادة، وبلوغ الأشد:
استكمال القوة الجسمانية وانتهاء النمو المعتدّ به، والاستواء: اعتدال العقل وكماله، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال، والحكم: الحكمة، والمدينة: هى مصر، على حين غفلة: أي فى وقت لا يتوقعون دخولها فيه، من شيعته: أي ممن شايعه وتابعه فى الدين وهم بنو إسرائيل، من عدوه: أي من مخالفيه فى الدين وهم القبط، فاستغاثه أي طلب غوثه ونصره، فوكزه أي فضربه بجمع يده، أي بيده، مجموعة الأصابع، فقضى عليه: أي فقتله وأنهى حياته، من عمل الشيطان: أي من تزيينه، مبين: أي ظاهر العداوة والإضلال، فاغفر لى: أي فاستر ذنوبى، بما أنعمت علىّ: أي أقسم بنعمك علىّ، ظهيرا: أي معينا، يترقب: أي ينتظر ما يناله من أذى، استنصره: أي طلب نصره ومعونته، يستصرخه: أي يطلب الاستغاثة برفع الصوت، غوىّ:(20/42)
أي ضال، يبطش: أي يأخذ بصولة وسطوة، والجبار: هو الذي يفعل ما يفعل دون نظر فى العواقب، من المصلحين: أي ممن يبغون الإصلاح بين الناس، ويدفعون التخاصم بالحسنى
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه فى الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه فى التابوت وإلقائه فى النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بنى إسرائيل- أردفه ذكر ما أنعم به عليه فى كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بنى إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا فى موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما، ثم أعقب ذلك بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطى آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا، فقال له المصري:
أتريد الإصلاح فى الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين؟.
الإيضاح
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ولما قوى جسمه واعتدل عقله آتيناه فقها فى الدين وعلما بالشريعة كما قال تعالى: «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ» وكما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصيره على أمرنا- نجزى كل من أحسن من عبادنا، وأطاع أمرنا، وانتهى عما نهيناه عنه.
وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة ذكر ما كان السبب فى هجرته إلى مدين وتوالى الأحداث الجسام عليه فقال:
(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي ودخل مصر آتيا من عين شمس فى وقت ليس من المعتاد الدخول فيه وهو وقت القائلة.(20/43)
روى أنه دخلها مستخفيا من فرعون وقومه، لأنه كان قد خالفهم فى دينهم وعاب ما كانوا عليه.
ثم أبان ما حدث منه حينئذ فقال:
(فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي فوجد فى مصر رجلين أحدهما من بنى إسرائيل وثانيهما من القبط وهو طباخ فرعون وكان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلى من موسى غوثه ونصره على عدوه القبطي، فضر به موسى بجمع يده فى صدره وحنكه فقتله فقال:
إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته.
ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال:
(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي إنه عدو فينبغى الحذر منه، مضل، فلا يقود إلى خير بيّن العداوة والإضلال.
ثم أخبر بندم موسى على قتله نفسا لم يؤمر بقتلها بقوله:
(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) أي قال رب إنى ظلمت نفسى بقتل نفس لا يحل قتلها، فاغفر لى ذنبى واستره ولا تؤاخذني بما فعلت، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر اهـ. ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه: إنى قتلت نفسا لم أومر بقتلها، وإنما عده ذنبا وقال: (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) من أجل أنه لا ينبغى لنبى أن يقتل حتى يؤمر بالقتل.
روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق: ما أسألكم، وأركبكم للكبيرة. سمعت أبى عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الفتنة تجىء من هاهنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من(20/44)
آل فرعون خطأ فقال الله عزّ وجلّ: «وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» .
ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له فقال:
(فَغَفَرَ لَهُ) أي فعفا عن ذنبه ولم يعاقبه عليه وبعدئذ ذكر ما هو كالعلة لما قبله فقال:
(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه، المتفضل عليه بالعفو عنها، الرحيم له أن يعاقبه بعد أن أخلص توبته، ورجع عن حوبته.
ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه فقال:
(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ بعفوك عن قتل هذه النفس لأمتنعنّ عن مثل هذا الفعل، ولن أكون معينا للمشركين فأصحبهم وأكثر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد، ومن ثم كانوا يسمونه ابن فرعون.
وقد يكون المراد لأمتنعن عن مظاهرة من تئول مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلى التي أدت إلى القتل الذي لم يؤمر به.
ونحو الآية قوله: «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» .
ثم ذكر حاله بعد قتل القبطي فى المدينة فقال:
(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي فصار موسى فى تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من جنايته التي جناها بقتله النفس التي قتلها، وصار يتحسس الأخبار ويسأل عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي وما هم بالغوه به، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به، وإذا الإسرائيلى الذي استنصره بالأمس على المصري يطلب منه الغوث والعون على مصرى آخر، فقال له موسى: إنك لذو غواية وضلال لا شك فيه، وقد تبينت ذلك بقتالك أمس رجلا واليوم آخر، ثم دنا منهما.(20/45)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) أي فلما أراد موسى أن يأخذ الفرعوني عدوهما بالشدة والعنف قال له منكرا:
أتريد أن تفعل معى كما فعلت بالأمس وتقتلنى كما قتلت من قتلت؟ وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه.
ثم زاد الإنكار توكيدا فقال:
(إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي ما تريد إلا أن تكون قاهرا عاليا فى الأرض تضرب وتقتل دون أن تنظر فى العواقب، ولا تريد أن تكون ممن يعمل فيها بما فيه صلاح أهلها ودفع تخاصمهم بالحسنى.
[سورة القصص (28) : الآيات 20 الى 28]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)(20/46)
تفسير المفردات
أقصى المدينة: أي أبعدها مكانا، يسعى: أي يسرع، الملأ: أشراف الدولة ووجوهها، يأتمرون بك: أي يتشاورون فى أمرك، قال الأزهرى ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا كما قال: «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» وقال النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفى كل حادثة يؤتمر
يترقب: أي يلتفت يمنة ويسرة، توجه إلى الشيء: صرف وجهه إليه، تلقاء مدين: أي جهتها، ورد: أي وصل، والمراد بماء مدين: البئر التي كانوا يستقون منها، أمة: أي جماعة، تذودان: أي تطردان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء، قال الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدرى بأيّ عصا تذود؟
ما خطبكما: أي ما شأنكما ولم لا تردان مع هؤلاء؟ قال رؤبة يا عجبا ما خطبه وخطبى؟ يصدر الرعاء: أي يصرفون مواشيهم عن الماء، والرعاء: واحدهم راع، تولى: أي انصرف، والظل: ظل شجرة كانت هناك، والخير يكون بمعنى الطعام كما فى الآية وبمعنى المال كما قال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» وبمعنى القوة كما قال: «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» وبمعنى العبادة كقوله: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» فقير: أي(20/47)
محتاج، والاستحياء: شدة الحياء، ليجزيك: أي ليثيبك، القصص: الحديث المقصوص أي المخبر به، أنكحك: أزوجك، ويقال أجرته: أي كنت له أجيرا كما تقول أبوته أي كنت له أبا، والحجج: واحدها حجة بكسر الحاء وهى السنة، قال زهير ابن أبى سلمى:
لمن الديار بقنّة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر
أشق عليك: أي أدخل عليك مشقة، الأجلين: أي الأطول أو الأقرب، فلا عدوان:
أي فلا حرج، وكيل: أي شهيد.
المعنى الجملي
اعلم أنه بعد أن انتشر فى المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا فى هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتى النبوة وهو قافل فى طريقه.
الإيضاح
(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، يخفى إيمانه عن فرعون وآله، لأسباب هو بها عليم، يسرع للحاق بموسى إشفاقا وخوفا عليه أن يصيبه مكروه من فرعون وآله وقال: يا موسى: إن الملك وبطانته وأشراف دولته يدبرون لك المكايد، وينصبون لك الحبائل، يريدون أن يقتلوك، فالبدار البدار والهرب(20/48)
الهرب قبل أن يقبضوا عليك وينفذوا ما دبّروه ويقتلوك، فاخرج من المدينة مسرعا وإنى لك لناصح أمين.
فانتصح بنصحه وتقبل قوله.
(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي فخرج من مدينة فرعون خائفا يترقب لحوق الطالبين، ويتلفت يمينا ويسارا وينظر أيتبعه أحد؟.
ثم لجأ إلى الله تعالى علما منه أن لا ملجأ إلا إليه (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال: رب نجنى من هؤلاء الذين من دأبهم الظلم والعسف ووضع الأمور فى غير مواضعها، فيقتلون من لا يستحق القتل ومن لا يجرم إلى أحد، فاستجاب الله دعاءه، ووفقه إلى سلوك الطريق الأعظم نحو مدين، روى أن فرعون لما بعث فى طلبه قال: (اركبوا بنيّات الطريق) فانبثوا فيما بين الطريق الأعظم يمينا وشمالا ففاتهم ونجا من بغيهم.
ثم أخبر عما ناجى به موسى ربه وهو سائر إلى مدين فقال:
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي ولما اتجه نحو مدين ماضيا إليها شاخصا عن مدينة فرعون، قال: رب اهدني إلى سواء السبيل، وأرشدنى إلى الطريق القويم، ونجنى من هؤلاء الظلمة وقد قال هذا توكلا على الله، وثقة بحسن توفيقه، وقد كان لا يعرف الطريق، فعنّ له ثلاث طرائق فسار فى الوسطى وأخذ طالبوه فى الآخرين، وقالوا: المريب لا يسلك أعظم الطرق، بل يأخذ بنيّاتها (أضيقها غير المشهور منها) وقد روى أنه بقي ثمانى ليال وهو حاف لا يطعم إلا ورق الشجر، إذ ليس معه زاد ولا دابة يركبها.
ثم ذكر سبحانه ما جرى له حين وصوله إلى مدين من الأحداث فقال:
(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما؟ قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي ولم وصل إلى مدين ورد ماءها وقد كان لها بئر يرده رعاء الشاء فوجد جماعة منهم(20/49)
يسقون نعمهم ومواشيهم، ووجد فى مكان أسفل من مكانهم امرأتين تكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذوها، فلما رآهما موسى كذلك رقّ لهما ورحمهما، قال ما خبركما، لم لا تردان الماء مع هؤلاء القوم؟ فأجابتاه، قالتا: لا نسقى غنمنا إلا إذا فرغ هؤلاء من السقي، وأبونا شيخ كبير لا يستطيع السقي بنفسه، فنحن نلجأ إلى ما ترى، تشرب مواشينا فضل الماء.
ثم ذكر ما فعله بعد أن سمع هذا القصص فقال:
(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي فسقى لهما غنمهما، ثم انصرف إلى ظل شجرة ليقيل ويستريح، وناجى ربه قائلا: إنى لمحتاج إلى شىء تنزله إلىّ من خزائن جودك وكرمك.
روى عن ابن عباس أنه قال: لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلق الله عليه، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع.
فجاءه الفرج بعد الشدة وأجاب الله طلبه.
(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي فجاءته إحدى المرأتين تمشى وهى حيية قد سترت وجهها بثوبها قائلة: إن أبى يدعوك ليكافئك على ما صنعت من الإحسان، وأسديت إلينا من المعروف بسقى غنمنا، قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعا من النساء (جريئة على الرجال) خرّاجه ولّاجة.
وقد أسندت الدعوة إلى أبيها وعلّلتها بالجزاء حتى لا يتوهم من كلامها شىء من الريبة، كما أن فى كلامها دلالة على كمال العقل والحياء والعفة كما لا يخفى.
وقد اختلف فى الأب من هو؟ فقيل هو شعيب عليه السلام وهو بعيد كل البعد، لأن شعيبا كان قبل موسى بزمن طويل بدليل قوله تعالى لقومه: «وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» وقد كان هلاك قوم لوط فى عصر الخليل عليه السلام كما نص على ذلك الكتاب الكريم، وكان بين إبراهيم وموسى ما يزيد على أربعمائة سنة، وفى كتب اليهود أن اسمه يثرو وفى التوراة فى الفصل الثاني من السفر الثاني ما نصه:(20/50)
ولما سمع بهذا الخبر (خبر قتل القبطي) طلب أن يقتل موسى فهرب من بين يديه وذهب إلى مدين وجلس على بئر ماء، وكان لكاهن مدين سبع بنات فجاءت وأدلت الدلاء وملأت الأحواض لسقى غنم أبيهن، فلما جاء الرعاة طردوهن، فقام موسى فأغائهن وسقى غنمهن، فلما جئن إلى رعوائيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم؟ إلخ.
وفى الفصل الثالث: وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه كاهن مدين.
ولما قدمت هذه المرأة إلى موسى أجابها تبركا بالشيخ لا طمعا فى الأجر (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلما جاء موسى هذا الشيخ وحدثه حديثه مع فرعون وآله فى كفرهم وطغيانهم وإذلالهم للعباد وتآمرهم على قتله وهربه منهم بعد الذي علمه- قال له: لا تخف من حولهم وطولهم، إنك قد نجوت من سطوة هؤلاء الظلمة، إذ لا سلطان لهم علينا، ولسنا فى دائرة ملكهم.
ولما أمنه وطمأنه على نفسه دار الحديث وكان ذا شجون.
(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي قالت واحدة من بناته: استأجر موسى ليرعى عليك ما شيتك، فإن خير من تستأجره للرعى القوىّ على حفظ الماشية والقيام عليها فى إصلاحها وصلاحها، الأمين: الذي لا تخاف خيانته فيما تأتمنه عليه منها.
ولا يخفى أن مقالها من جوامع الكلم والحكمة البالغة، لأنه متى اجتمعت هاتان الصفتان: الأمانة والكفاية فى القائم بأداء أمر من الأمور تكلّل عمله بالظفر وكفل له أسباب النجح.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف فى قوله «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» وأبو بكر فى عمر.(20/51)
ولما أعلمت البنت الشيخ بذلك.
(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي قال أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى: إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتىّ الحاضرتين أمامك، فانظر من يقع اختيارك عليها منهما، على أن تكون أجيرا لى ثمانى سنوات ترعى لى فيها غنمى، فإن أتممت الثماني السنين التي شرطتها عليك فجعلتها عشرا فإحسان من عندك، وما أحب أن أشاقك بمناقشة أو مراعاة أوقات ولا إتمام عشر ولا غير ذلك، وإنك ستجدنى إن شاء الله ممن تحسن صحبتهم ويوفون بما تريد من خير لك ولنا.
وفى هذا دليل على مشروعية عرض ولىّ المرأة لها على الرجل، فقد عرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على أبى بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر «لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر» الحديث أخرجه البخاري.
فأجابه موسى:
(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي قال ما شرطت علىّ فلك، وما شرطت من تزوج إحداهما فلى والأمر على ذلك لا يخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت علىّ، ولا أنت عما شرطت على نفسك.
ثم فسر هذا بقوله:
(أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) أي أىّ المدتين قضيت، الثماني الحجج أو العشر وفرغت منها فوفيتكها برعى غنمك وما شيتك فليس لك أن تطالبنى بأكثر منها.(20/52)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما» رواه الخطيب فى تاريخه.
ثم جعل الله شهيدا على صدق ما يقول كل منهما فقال:
(وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي والله شهيد على ما أوجب كل منهما على نفسه لصاحبه.
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
تفسير المفردات
قضى الأجل: أي أتم المدة المضروبة بينهما، آنس: أي أبصر إبصارا بينا لا شبهة فيه، جذوة: أي عود غليظ فى رأسه نار، تصطلون: أي تستدفئون، والبقعة: القطعة من الأرض على غير هيئة التي بجانبها، والجانّ: الحية الصغيرة التي توجد فى كثير من الدور ولا تؤذى، ولم يعقب: أي ولم يرجع، اسلك يدك: أي أدخلها، والجيب: الفتحة فى القميص ونحوه من حيث يخرج الرأس، سوء: أي عيب، والرهب: المخافة.(20/53)
المعنى الجملي
بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوى قرابته، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسى أمره وكأنه أصبح فى خبر كان، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث، ليحضر لهم جذوة من هذه النار، فناداه ربه، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا فى كتابه.
الإيضاح
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي فلما وفّى موسى الأجل الذي اتفق عليه مع حميه تحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره وسلك بهم الطريق فى ليلة مطرة وظلمة باردة ونزل منزلا فجعل كلما أورى زنده لا يضىء شيئا، فعجب لذلك، وبينا هو كذلك رأى نارا تضىء عن بعد فقال لأهله انتظروا قليلا، إنى أبصرت نارا لعلى آتيكم منها بخبر الطريق وكانوا قد ضلوا عنه، أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار لنستدفئوا بها من البرد وكان الوقت شتاء.
(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربّه من جانب الوادي الأيمن: أي عن يمين موسى فى البقعة المباركة من ناحية الشجرة: يا موسى إنى أنا الله ربك ورب العالمين جميعا.
وقد خلق الله فيه علما يقينيا بأن المتكلم هو الله تعالى، وأن ذلك الكلام كلامه، وقد جعلت الشجرة مباركة، لأنه تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا.
ثم أمره الله أن يلقى عصاه لديه آية على نبوته فقال:(20/54)
(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ونودى بأن ألق عصاك فألقاها فصارت حية تسعى فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات، لسرعة عدوها وخفة حركتها- ولّى هاربا منها ولم يرجع.
ثم نودى بما يهدئ زوعه:
(يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي يا موسى أقبل إلىّ ولا تخف مما تهرب منه، فإنك آمن من أن ينالك سوء، إنما هى عصاك أردنا أن نريك فيها آية كبرى، لتكون عونك لدى الطاغية الجبار فرعون ملك مصر.
ثم أراه آية أخرى زيادة فى طمأنينته، وأمره بقوله:
(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك فى جيب قميصك تخرج ولها شعاع يضىء من غير عيب ولا برص.
ولما اعترى موسى الخوف من العصا تارة، ومن الدهشة بشعاع يده مرة أخرى، أمره ربه أن يضع يده على صدره ليزول ما به من الخوف فقال:
(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي وضع يدك على صدرك يذهب ما بك من خوف، كما يشاهد من حال الطائر، إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان.
قال ابن عباس: كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال:
(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي فما تقدم من جعل العصا حية تسعى وخروج اليد بيضاء من غير سوء بعد وضع اليد فى الجيب- دليلان واضحان على قدرة ربك، وصحة نبوة من جريا على يديه، أرسلناهما إلى فرعون وقومه.
ثم ذكر العلة له فى إظهار الآيات لهم بقوله:
(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي إنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، مخالفين(20/55)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
لأمره، منكرين لكل دين جاء به الرسل، فكانوا جديرين بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين.
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
تفسير المفردات
الردء: العون، يقال ردأته على عدوه: أي أعنته عليه، قال الشاعر:
ألم تر أن أصرم كان ردئى ... وخير الناس فى قلّ ومال
يصدقنى: أي يوضح ما قلته، ويقيم عليه الأدلة، ويجادل المشركين، والعضد:
ما بين المرفق إلى الكتف، والمراد بشد العضد: التقوية والإعانة. قال طرفة:
بنى لبينى لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
والسلطان: التسلط والغلبة، مفترى: أي مختلق، عاقبة الدار: أي العاقبة المحمودة فى الدار الدنيا التي تفضى إلى الجنة.
المعنى الجملي
اعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه- وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّى به قلبه ويزيل(20/56)
خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر- فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هرون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهرون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجئوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى: ربى أعلم بالمهتدي منا ومنكم، وسيفصل بينى وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح
(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي قال يا رب إنى قتلت من قوم فرعون نفسا، فأخاف إن أتيتهم ولم أبن عن نفسى بحجة أن يقتلونى، لأن ما فى لسانى من عقدة يحول بينى وبين ما أريد من الكلام، وأخى هرون هو أفصح منى لسانا، وأحسن بيانا، فأرسله معى عونا يلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإنى أخاف أن يكذبونى ولسانى لا يطاوعنى حين المحاجة.
فأجابه سبحانه إلى ما طلب.
(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي سنقويك ونعينك بأخيك، ونجعل لكما تسلطا عظيما وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب.
(بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) أي أنتما ومن تبعكما الغالبون بحججنا وسلطاننا الذي يجعله لكما.
وفى هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشىء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم فى سبيل الله.(20/57)
ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجىء موسى إليه فقال:
(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي فحين جاء موسى بالحجج البالغة الدالة على صدق رسالته- فرغون وملأه، قالوا ما هذا إلا سحر افتريته من عندك، وانتحلته كذبا وبهتانا، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه من عبادة إله واحد فى أسلافنا وآبائنا الذين مضوا من قبلنا.
وهذا تحكيم لعادة التقليد التي أضلّت كثيرا من الناس، على أنهم قد كذبوا وافتروا، فإنهم سمعوا بذلك فى عهد يوسف عليه السلام (وما بالعهد من قدم) فقد قال لهم الذي آمن: «يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ- إلى أن قال- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ» .
ولما كذبوه كفرا وعنادا وهم الكاذبون رد عليهم بما أشار إليه بقوله:
(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي وقال موسى مجيبا فرعون وملأه: ربى أعلم بالمحق منا يا فرعون من المبطل، ومن الذي جاء بالحق الذي يوصّل إلى سبيل الرشاد، ومن الذي له العقبى المحمودة فى الدار الآخرة؟.
وفى هذا الأسلوب من أدب الخطاب فى الحجاج والمناظرة ما لا يخفى، فهو لم يؤكد أن خصمه فى ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بقوله: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب فقال:
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه لا ينجح الكافرون ولا يدركون طلبتهم، وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة، بل يحصلون على ضد ذلك، وهذا غاية الزجر والتهديد لكفهم عن العناد.(20/58)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 43]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
تفسير المفردات
هامان: وزير فرعون، صرحا: أي قصرا عاليا، أطلع: أي أصعد وأرتقى، فنبذناهم: أي طرحناهم، أئمة: واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا، يدعون إلى النار: أي إلى ما يوجبها من الكفر والمعاصي، لعنة: أي طردا من الرحمة، من المقبوحين: أي المخزيين، يقال قبحه الله: أي نحاه من كل خير، وقبحت وجهه وقبّحت بمعنى، قال الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلّها ... وقبّح يربوعا وقبّح دارما
الكتاب: هو التوراة، القرون الأولى: هم قوم نوح وهود وصالح، بصائر:
واحدها بصيرة، وهى نور القلب الذي يميز بين الحق والباطل.(20/59)
المعنى الجملي
بعد أن رغّب موسى فرعون وقومه فى التوحيد والنظر فى الكون تارة، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى- أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حدّ لها فى الإنكار وأنه لا مطمع فى إيمانه، لعتوّه وطغيانه واستكباره فى الأرض حتى قال ما قال، ومن ثم كانت عاقبته فى الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس، وفى الآخرة الطرد من رحمة الله.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي وقال فرعون يا أيها القوم ما علمت لكم فى أي زمن إلها غيرى كما يدّعى موسى، والأمر محتمل أن يكون، وسأحقق ذلك لكم، وهذا كلام ظاهره الإنصاف، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك فى شأن الإله وتسليمهم إياه، اعتمادا على ما رأوا من عظيم نصفته فى القول.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان قالهما فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» كان بينهما أربعون عاما، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى» .
وخلاصة مقاله- لا علم لى برب غيرى فتعبدوه، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به، من أن لكم وله ربا غيرى، ومعبودا سواى.
ونحو الآية قوله: «فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» وقوله «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»(20/60)
قال الرازي: ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السموات والأرض والبحار والجبال وخالق الناس، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذى عقل، بل مراده بذلك وجوب عبادته، فهو ينفى وجود الإله ويقول: لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم وينقادوا لأمره اهـ بتصرف.
ثم خاطب وزيره آمرا له على سبيل التهكم أمام موسى، ليشكّك قومه فى صدق مقالته.
(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي فاصنع لى آجرّا واجعل لى منه قصرا شامخا وبناء عالينا أصعد وأرتقى إلى إله موسى الذي يعبده فى السماء، ويدعى أنه يؤيده وينصره وهو الذي أرسله إلينا.
وبمعنى الآية قوله: «وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» .
ثم زاد قومه شكا فى صدقه بقوله:
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يدّعى، من أن له معبودا فى السماء ينصره ويؤيده، وأنه هو الذي أرسله.
ثم ذكر سبحانه ما هو كالسبب فى العناد والجحود فقال:
(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي ورأى هو وجنوده كل من سواهم فى أرض مصر حقيرا، عتوّا منهم على ربهم، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون، ولا يثابون ولا يعاقبون، ومن ثم ركبوا أهواءهم، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم، وسيىء أقوالهم.
ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة فقال:
(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) أي فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فألقيناهم جميعا فى البحر.(20/61)
وفى هذا ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه، وشديد احتقاره لفرعون وقومه، واستقلاله لهم وإن كانوا عددا كبيرا، وجما غفيرا، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده فى البحر.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل فى العواقب، ليعلموا أن هذه سنة الله فى كل مكذب برسله فقال:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر بالآيات، كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وردوا على رسوله نصيحته- ألم نهلكهم ونوّرث ديارهم وأموالهم أولياءنا ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كبير، بعد أن كانوا مستضعفين، تقتّل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، وإنّا بك وبمن آمن بك فاعلون، فمخوّلوك وإياهم دبار من كذبك وردّ عليك ما أتيتهم به من الحق، وأموالهم بعد أن تستأصلوهم قتلا بالسيف- سنة الله فى الذين خلوا من قبل.
ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم فى النار فقال:
(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدى بهم أهل العتو والكفر بالله، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي، وتدسية النفوس بالفسوق والآثام التي تلقى بفاعلها فى النار.
وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين بالله ورسوله، بل دأبوا على إضلال سواهم وتحسين العصيان لهم، وبذا قد ارتكبوا جريمتين، فباءوا بجزاءين: جزاء الضلال وجزاء الإضلال،
وقد جاء فى الحديث: «من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
ثم ذكر أنه لا نصير لهم ولا شفيع فى ذلك اليوم فقال:
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي ويوم القيامة لا يجدون نصيرا يدفع عنهم عذاب(20/62)
الله إذا حاق بهم، وقد كانوا فى الدنيا يتناصرون، فكان لهم مطمع فى النصرة يومئذ بحسب ما يعرفون.
ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم، وبين سوء حالهم فى الدارين فقال:
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي وألزمنا فرعون وقومه فى هذه الدنيا خزيا وغضبا منا عليهم ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار وسوء الأحدوثة، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة، فمخزوهم الخزي الدائم ومهينوهم الهوان اللازم الذي لا فكاك عنه.
ثم بين سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفصلنا فيها الأحكام التي فيها سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم من بعد ما أهلكنا الأمم التي من قبلهم كقوم نوح وهود وصالح، ودرست معالم الشرائع وطمست آثارها واختلت نظم العالم، وفشا بينهم الشر، ورفع الخير. فاحتاج الناس إلى تشريع جديد يصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم، بتقرير أصول فى ذلك التشريع تبقى على وجه الدهر، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور واختلاف أحوال الناس، وفيها التذكير بأحوال الأمم الخالية، ليكون فى ذلك عبرة للناس، ونور لقلوبهم، تبصر به الحقائق، وتميز لحق من الباطل، بعد أن كانوا فى عماية عن الفهم والإدراك، وتهديهم إلى ما يوصلهم إلى القرب من ربهم، ونيل رضوانه ومغفرته ورحمته، ليتذكروا نعم الله عليهم فيشكروه عليها، ولا يكفروا بها.
قال أبو سعيد الخدري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة(20/63)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
على موسى غير القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى» .
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
تفسير المفردات
الغربي: هو الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى، قضينا: أي عهدنا إليه وكلفناه أمرنا ونهينا، الأمر: أي أمر الرسالة، الشاهدين:
أي الحاضرين، فتطاول عليهم العمر: أي بعد الأمد، ونحوه «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» ثاويا: أي مقيما. قال العجّاج:
فبات حيث يدخل الثّوىّ ... أي الضيف المقيم، أهل مدين: أي قوم شعيب
عليه السلام، مصيبة: أي عذاب الدنيا والآخرة، ولولا الثانية بمعنى هلا وتفيد تمنى حصول ما بعدها والحث عليه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبى يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم فى معاشهم ومعادهم(20/64)
أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند الله، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب.
الإيضاح
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى حين عهدنا إليه أمر النبوة، وما كنت من جملة السبعين الذين اختيروا لسماع تفاصيل ذلك الأمر الذي أوحينا به إلى موسى حتى تخبر به كله على الوجه الذي أتيناك به فى هذه الأساليب المعجزة.
وخلاصة ذلك- إن إخبارك بالغيوب الماضية التي لم تشهدها وقد قصصتها كأنك سامع راء لها وأنت أمي لا نقرأ ولا تكتب، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئا من ذلك- لهو من أعظم البراهين على نبوتك، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من الله كما قال: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى» .
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه فدرست العلوم فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء، وأحوال موسى، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر.
والخلاصة- إنك ما كنت شاهدا موسى وما جرى له ولكنا أوحيناه إليك، وفى هذا تنبيه إلى المعجزة كأنه قال: إن فى إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلّم من أهله- لدلالة ظاهرة على نبوتك.(20/65)
ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال:
(1) (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كنت مقيما بين أهل مدين تتلقف القصة ممن شاهدها، وتقرؤها عليهم بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم على معلمه، فتفهّم أخبار موسى بهذا الطريق ونحوه.
(وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك موحين إليك تلك الآيات ونظائرها، ولولا ذلك ما علمتها وما أخبرتهم بها.
(2) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وما كنت بجانب الطور ليلة المناجاة وتكليم الله موسى حتى تحدّث أخبارها، وتفصل أحوالها، حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها.
(وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم، لتنذر قوما لم يأتهم قبلك نذير، وتحذّرهم بأس الله وشديد عقابه على إشراكهم به وعبادتهم الأوثان والأنداد، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويتذكرون عظيم خطئهم، وكبير جرمهم، فينيبوا إلى ربهم، ويقروا بوحدانيته، ويفردوه بالعبادة دون سواه من الآلهة.
ثم ذكر الحكمة فى إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وأن فى ذلك قطعا لمعذرتهم، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة فقال:
(وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحلّ بهم بأسنا ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم واجتراحهم للمعاصى قبل أن نرسلك إليهم: ربنا هلّا أرسلت إلينا رسولا قبل أن يحلّ بنا سخطك وينزل بنا عذابك، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تنزلها عليه، ونكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين برسولك- لعاجلناهم العقوبة على شركهم، لكنا بعثناك إليهم نذيرا ببأسنا(20/66)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
كما هو سنتنا فى أمثالهم كما جاء فى الآية الكريمة: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .
والخلاصة- إنا أزحنا العذر، وأكملنا البيان، فبعثناك أيها الرسول إليهم، وقد حكمنا بأنا لا نعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل.
[سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 51]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
تفسير المفردات
الحق: أي الأمر الحق وهو القرآن، سحران: أي ما أوتيه موسى وما أوتيه محمد، تظاهرا: أي تعاونا وتناصرا، فإن لم يستجيبوا لك: أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به، والتوصيل: ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض قال شاعرهم:
فقل لبنى مروان ما بال ذمّتى ... بحبل ضعيف ما يزال يوصّل
والمراد به هنا إنزال القرآن منجّما مفرقا يتصل بعضه ببعض.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزول بأسنا بهم: هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه- أردفه بيان أنه حين مجىء الرسول وإنزال(20/67)
القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجىء معجزات كمعجزات موسى، من مجىء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا: ما هى إلا سحر مفترى وما هى إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.
ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا النهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله- بالكتاب الكريم قالوا تمردا وعنادا وتماديا فى الغى والضلال: هلا أوتى مثل ما أوتى موسى من المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وتظليل الغمام إلى نحو أولئك.
ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين فى كل زمان، لا يريدون بما يقولون إظهار الحق، بل يقصدون التمادي والإنكار، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة كما أشار إلى ذلك بقوله:
(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟) أي إن المعاندين الذين مذهبهم كمذهبكم وهم الكفار الذين كانوا فى زمن موسى كفروا بما جاء به موسى، فأنتم متّبعون نهجهم، وسالكون سبيلهم.
ثم بين طريق كفرهم به فقال:
(قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي قالوا إن موسى ومحمدا ساحران(20/68)
تعاونا على الدّجل والتضليل، وخداع السّذج من الجماهير، ولم يرسلهما ربهما لهداية البشر كما زعما، وإنا لكافرون بكل منهما، ولا نؤمن بما جاءا به.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى قومه بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر، وأصلح لحالهم فى المعاش والمعاد من التوراة والقرآن فقال:
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ائتوني بكتاب من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن، فإن جئتم به فإنى لأتركهما وأتبع ما تجيئون به، إن كنتم صادقين فيما تقولون، جادّين فيما تدّعون.
ثم توعدهم إذا هم نكصوا على أعقابهم، ولم يلبّوا طلبه، ولم يأتوا بالكتاب فقال:
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به فاعلم أنهم سادرون فى غلوائهم، متبعون لأهوائهم، راكبون لرءوسهم، حائدون عما يقتضيه الدليل والبرهان.
ثم بين عاقبة من يتبع الهوى فقال:
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟) أي ومن أضل عن طريق الرشاد وسبيل السداد، ممن سار متبعا الهوى بغير بيان من الله وعهد منه بما ينزله على رسله بوحي منه.
وفى هذا من التشنيع عليهم، وتقبيح فعلهم ما لا يخفى على كل ذى لب.
ثم بين سنته تعالى فى خلقه فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفّق لإصابة الحق واتباع سبيل الرشد، من خالفوا أمره، وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدّلوا عهده، واتبعوا هوى أنفسهم، إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمن.
ولما أثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بين الحكمة فى إنزال القرآن منجّما فقال:
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلا(20/69)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
بعضه إثر بعض على ما تقتضيه الحكمة، وترشد إليه المصلحة، وهى أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه، فهم فى كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم، ورسوخه فى نفوسهم، وامتلاء قلوبهم نورا به.
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
تفسير المفردات
مسلمين: أي منقادين خاضعين لله، يدرءون أي يدفعون، واللغو: ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وسخف القول، سلام عليكم: أي سلام لكم مما أنتم فيه، لا نبتغى الجاهلين: أي لا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل، فنجازيكم على باطلكم بباطل مثله.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما فى كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية فى سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي(20/70)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.
الإيضاح
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب، ثم أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا بالقرآن، لأنهم قد وجدوا فى كتبهم البشرى به، وانطباق الأوصاف عليه.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ» ، وقوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» .
(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي وإذا تلى هذا القرآن عليهم قالوا صدّقنا بأنه نزل من عند ربنا حقا، وقد كنا مصدّقين به قبل نزوله، لأنا وجدنا فى كتبنا نعت محمد، ونعت كتابه.
وفى هذا إيماء إلى أن إيمانهم به متقادم العهد، فآباؤهم الأولون قرءوا فى الكتب الأول ذكره، وأبناؤهم من بعدهم فعلوا كما فعلوا من قبل نزوله.
ثم بين جزاءهم على إيمانهم به بعد إيمانهم بما سبقه من الكتب بقوله:
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أي هم يؤتون ثواب عملهم مرتين:
مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن، بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمانين فإنّ تجشم مثل هذه المشاقّ شديد على النفوس، فقد يصيبهم من جرّاء ذلك أذى من قومهم أو من المشركين فى اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم.
ونحو الآية قوله تعالى فى شأنهم «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ»
وفى الحديث الصحيح عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد(20/71)
مملوك أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها»
وروى أبو أمامة قال: إنى لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه ما علينا» .
ثم ذكر من أوصافهم ما يؤهّلهم للزلفى والقرب من ربهم فقال:
(1) (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي وهم يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم بالصفح والعفو عنه.
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما أعطاهم الله من فضله من المال الحلال، النفقات الواجبة لأهلهم وذوى قرباهم، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ويساعدون البائسين وذوى الخصاصة المعوزين.
(3) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي وإذا سمعوا ما لا ينفع فى دين ولا دنيا، من السب والشتائم وتكذيب الرسول أعرضوا عن قائليه ولم يخالطوهم، وإذا سفه عليهم سفيه، وكلّمهم بما لا ينبغى رده من القول لم يقابلوه بمثله، إذ لا يصدر منهم إلا طيب الكلام، وقالوا لنا أعمالنا لا تثابون على شىء منها ولا تعاقبون، ولكم أعمالكم لا نطالب بشىء منها، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، فإنا لا نريد طريق الجاهلين.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» .
روى محمد بن إسحق «أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو يزيدون من نصارى الحبشة حين بلغهم خبره، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا الله وآمنوا به وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره،(20/72)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، ما رأينا ركبا أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خير.
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
تفسير المفردات
الهداية: تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير وهى التي أثبتها الله لرسوله فى قوله «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» وتارة يراد بها هداية التوفيق وشرح الصدر بقذف نور يحيا به القلب كما جاء فى قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» وهى بهذا المعنى نفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الآية، يجبى إليه: أي يجمع إليه، يقال جبى الماء فى الحوض: أي جمعه، والجابية:
الحوض العظيم، والخطف: الانتزاع بسرعة ويراد به هنا الإخراج من البلاد.
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به، وجاءوا إليه زرافات ووحدانا من كل فج عميق، وجابوا الفيافي وقطعوا البحار للإيمان به،(20/73)
بعد أن سمعوا أخباره، وترامت لهم فضائله وشمائله، وقد كان فى هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به وأن تحدثه نفسه الشريفة بالطمع فى إيمانهم، ودخول الهدى فى قلوبهم والانتفاع بما آتاه الله من العرفان، فتكون لهم به السعادة فى الدنيا والآخرة- أردف ذلك الآية الأولى تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ لم ينجع فى قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص- إنذاره وإبلاغه، فيقبلوا ما جاء به، بل أصرّوا على ما هم عليه، وقالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى، فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به، وقالوا إنه الحق من ربنا.
وقد استفاضت الأخبار بأن الآية نزلت فى أبى طالب،
فقد أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي والبيهقي فى الدلائل عن أبى هريرة قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا عماه: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا أن تعيّرنى قريش، يقولون ما حمله على ذلك إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك، فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) » الآية.
ونزل فى الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ونحن أكلة رأس (يريد: إنا قليلو العدد) أن يتخطفونا- قوله تعالى: (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى) الآية.
الإيضاح
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إنك لا تستطيع هدى من أحببت من قومك أو من غيرهم هدى موصلا إلى البغية، فتدخله فى دينك وإن بذلت كل مجهود، وإنما عليك البلاغ، والله يهدى من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
وبمعنى الآية قوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .
وقوله: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .(20/74)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعلم بالمستعدّين للهداية فيمنحونها، ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، دون من هم من أهل الغواية كقومك وعشيرتك.
ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار فى عدم اتباعهم للهدى فقال:
(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي وقالوا: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى، ويحاربونا ويجلونا من ديارنا.
فرد الله عليهم مقالتهم وأبان لهم ضعف شبهتهم فقال:
(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟) أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أن يكون عذرا، لأنا جعلناكم فى بلد أمين، وحرم معظّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لكم حال كفركم وشرككم ولا يكون أمنا لكم وقد أسلمتم واتبعتم الحق؟ قال يحيى بن سلام: يقول: كنتم آمنين فى حرمى، تأكلون رزقى، وتعبدون غيرى، أفتخافون إذ عبدتمونى وآمنتم بي؟ وقد تفضل عليكم ربكم وأطعمكم من كل الثمرات التي تجلب من فجاج الأرض والمتاجر والأمتعة من كل بلد، رزقا منه لكم.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ومن ثم قالوا ما قالوا، وقد كان من حقهم أن يعلموا أن تلك الأرزاق إنما وصلت إليهم من ربهم، فهو الذي يخشى ويتّقى، لا سواه من المخلوقين.
[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)(20/75)
تفسير المفردات
بطرت: أي بغت وتجبرت ولم تحفظ حق الله، وأمّها: أكبرها وأعظمها، وهى قصبتها (عاصمتها) .
المعنى الجملي
هذا هو الرد الثاني على شبهتهم، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية الذين كانوا فى رغد من العيش، فكذبوا الرسل، فأزال عنهم تلك النعم، وأحل بهم النقم.
وإجمال هذا- إن قولكم لا نؤمن خوفا من زوال النعم ليس بحق، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم.
ثم بين أن من سنته تعالى ألا يهلك قوما إلا إذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
الإيضاح
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي وكثير من القرى أثرى أهلها وسعوا فى الأرض فسادا وبطروا تلك النعم، فخرّب الله ديارهم، وأصبحت خاوية لم يعمر منها إلا أقلها، وصار أكثرها خرابا يبابا.
ونحو الآية قوله: «وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ» .
(وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لهم، إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم فى ديارهم وسائر ما يتصرفون فيه.
والشيء إذا لم يبق له مالك معين قيل إنه ميراث الله، لأنه هو الباقي بعد خلقه.
ونحو الآية قوله: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» .(20/76)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
ثم أخبر سبحانه عن عدله وأنه لا يهلك أحدا إلا بعد الإنذار وقيام الحجة بإرسال الرسل فقال:
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كانت سنته فى عباده أن يهلك القرى حتى يبعث فى كبراها رسولا يتلو عليهم الآيات الناطقة بالحق، ويدعوهم إليه بالترغيب حينا، والترهيب حينا آخر، فيكون ذلك أدعى إلى إلزام الحجة وقطع المعذرة.
وإنما كان البعث فى أم القرى، لأن فى أهلها فطنة وكياسة، فهم أقبل للدعوة، وأعرف بمواقع الحق إلى أن الرسول يبعث للأشراف كما يرسل إلى العامة، وهم يسكنون المدائن وهى أمّ ما حولها.
ونحو الآية قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» .
ثم بين أنه لا يهلك القرى بعد إرسال الرسل إلا إذا ظلموا أنفسهم وكذبوا رسلهم فقال:
(وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي ولا نهلك القرى التي نبعث فيها الرسل الذين يدعونهم إلى الحق، ويرشدونهم إلى سبيل السّداد إلا إذا ظلموا بتكذيب الرسول وكفروا بالآيات، فلا نهلك قرية بإيمان، ولكن نهلكها بظلمها واجترامها المعاصي وارتكابها الآثام، وقوله: بظلم إشارة إلى أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 61]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)(20/77)
تفسير المفردات
من المحضرين: أي الذين يحضرون للعذاب، وقد اشتهر ذلك فى عرف القرآن كما قال: «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» وقال: «إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» لأن فى ذلك إشعارا بالتكليف والإلزام، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات بل هو أشبه بمجالس المكاره والمضار.
المعنى الجملي
هذا هو الرد الثالث على تلك الشبهة، فإن خلاصة شبهتهم أنهم تركوا الدين لئلا تفوتهم منافع الدنيا، فرد الله عليهم بأن ذلك خرق رأى وخطل عظيم، فإن ما عند الله خير مما فيها، لكثرة منافعه وخلوصه من شوائب المضار، ومنافعها مشوبة، وهو أبقى مما فيها، لأنه دائم لا ينقطع، ومنافعها لا بقاء لها، فمن الجهل الفاضح إذا ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافعها، ولا سيما إذا قرنت تلك المنافع بعقاب الآخرة.
الإيضاح
(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما أعطيتم أيها الناس من شىء من الأموال والأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به فى الحياة الدنيا، وتتزينون به فيها، وهو لا يغنى عنكم شيئا عند ربكم، ولا يجديكم شروى نقير لديه، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته لدوامه وبقائه، بخلاف ما عندكم فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير.
ونحو الآية قوله «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» وقوله: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» وقوله: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» ،
وفى الحديث: «والله ما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه فى اليمّ، فلينظر ماذا يرجع إليه؟»
.(20/78)
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها، فتعرفون الخير من الشر، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له على الفاني الذي ينقطع، ومن أجل هذا أثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث للمشتغلين بطاعة الله تعالى- وكأنه رحمه الله أخذه من هذه الآية.
ثم أكد ترجيح ما عند الله على ما فى الدنيا من زينة بقوله:
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟) أي أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فآمن بما وعدناه وأطاعنا فاستحق أن ننجز له وعدنا فهو لاقيه حتما وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسى العمل بما وعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله كان من المحضرين لعذابه وأليم عقابه؟.
وهذه الآية تبين حال كل كافر متّع فى الدنيا بالعافية والغنى وله فى الآخرة النار، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله فى الآخرة الجنة.
وخلاصة ذلك- أفمن سمع كتاب الله فصدّق به، وآمن بما وعده الله فيه، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا وقد كفر بالله وآياته ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه- الجواب الذي لا ثانى له- إنهما لا يستويان فى نظر العقل الرجيح؟!.
وتلخيص المعنى: إنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا قيل لهم: لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضى بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم؟.
وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ فى الاعتراف بالترجيح.(20/79)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
تفسير المفردات
حق: أي وجب وثبت، والقول: أي مدلول القول ومقتضاه وهو قوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والغواية: الضلال، والفعل غوى يغوى كضرب يضرب، فلم يستجيبوا لهم: أي فلم يجيبوا، عميت: أي خفيت، والأنباء: الحجج التي تنجيهم، ولا يتساءلون، أي لا يسأل بعضهم بعضا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه- يكون وبالأعلى الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب- أردف ذلك بيان ما يحصل فى هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون فى الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أوّلا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها فى الدنيا من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي(20/80)
تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى رب العزة هؤلاء الذين يضلّون الناس ويصدون عن سبيل الله فيقول لهم: أين شركائى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم لى شركاء- ليخلّصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب.
وهذا السؤال للإهانة والتحقير، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» .
ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال فقال:
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين حق عليهم غضب الله، ولزمهم الوعيد بقوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فدخلوا النار: ربنا إن هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم، أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلجاء- فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال.(20/81)
وخلاصة ذلك- إن تبعة غيّهم واقعة عليهم لا علينا، إذ لم نلجئهم إلى ذلك، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب، فإن كان تسويلنا لهم داعيا إلى الكفر، فقد كان فى مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع من الأدلة العقلية، وبعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر داعيا إلى الإيمان.
ونحو ذلك قوله حكاية عن الشيطان «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» وقوله لإبليس: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» فقوله: إلا من اتبعك يدل على أن ذلك الاتباع من قبل أنفسهم، لا من إلجاء الشيطان إلى ذلك.
ثم زاد الجملة الأولى توكيدا بقوله:
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي اتباعا لهوى أنفسهم، فلا لوم علينا فى الحقيقة بسببهم.
ونحو الآية قوله: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» .
ثم ذكر ما هو كالعلة لنفى الشبهة عنهم فقال:
(ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي هم ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زيّنت لهم أهواؤهم.
ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخا لهم وتهكما بهم فقال:
(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد فى الدنيا: ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلا منكم شركتهم لله ليدفعوا العذاب عنكم، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الإجابة.(20/82)
والمقصد من طلب ذلك منهم فضيحتهم على رءوس الأشهاد، بدعاء من لا نفع له، ولا فائدة منه.
ثم بين حالهم حينئذ وتمنيهم أن لو كانوا وفّقوا فى الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد فقال:
(وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين فى الدنيا.
ونحو الآية قوله: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» .
وبعد أن سئلوا عن إشراكهم بالله توبيخا لهم، سئلوا عن تكذيبهم للأنبياء كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) أي ويوم ينادى المشركين ربهم وقد برز الناس فى صعيد واحد، منهم المطيع ومنهم العاصي، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، فيقول لهم: ماذا أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام؟.
ثم بين أنهم لا يحارون جوابا، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم فقال:
(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الحجج ولم يجدوا معذرة يجيبون بها، فلم يكن لهم إلا السكوت جوابا.
ثم ذكر أنه تخفى عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم فى الدنيا فقال:
(فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي فلا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس فى المشكلات لما اعتراهم من الدهشة وعظيم الهول، ولتساويهم جميعا فى عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب.(20/83)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
وإذا كان الأنبياء لهول ذلك اليوم يتعتمون فى الجواب عن مثل ذلك السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله كما قال: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» فما ظنك بهؤلاء الضلّال؟.
وبعد أن ذكر حال المعذبين من الكفار وما يجرى عليهم من التوبيخ والإهانة أتبعه بذكر من يتوب منهم فى الدنيا، ترغيبا فى التوبة وزجرا عن الثبات على الكفر فقال:
(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي فأما من تاب من المشركين، وراجع الحق، وأخلص لله بالألوهة، وأفرد له العبادة، وصدّق نبيّه، وعمل بما أمر به فى كتابه على لسان نبيه، فهو من الفائزين، الذين أدركوا طلبتهم وفازوا بجنات النعيم خالدين فيها أبدا.
وقد تقدم أن ذكرنا فى كثير من المواضع أن (عسى) يراد بها فى الكتاب الكريم الإعداد وتوقع حصول ما بعدها من الفوز والنجح لما طلبوا.
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
تفسير المفردات
الخيرة والتخير: الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض، سبحان الله: أي تنزيها لله أن ينازعه أحد فى الاختيار، تكنّ: أي تخفى، ويعلنون: أي يظهرون، الحكم: القضاء النافذ فى كل شىء دون مشاركة لغيره فيه.(20/84)
المعنى الجملي
بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم- أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضلال.
الإيضاح
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) أي وربك يخلق ما يشاء خلقه، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفى ما يريد أن يصطفيه ويختاره، فيختار أقواما لأداء الرسالة وهداية الخلق وإصلاح ما فسد من نظم العالم، ويميز بعض مخلوقاته عن بعض ويفضّله بما شاء، ويجعله مقدما عنده، وليس لهم إلا اتباع ما اصطفاه، وهو لم يصطف شركاءهم الذين اختاروهم للعبادة والشفاعة، فما هم إلا فى ضلال مبين، صدوا عن عمل ما يجب عليهم فعله طاعة لله ورسوله، وتصدّوا لما ليس من حقهم أن يفعلوه بحال.
ونحو الآية قوله: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» وقال الشاعر:
العبد ذو ضجر، والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفى اختيار سواه اللوم والشّوم
وروت عائشة عن أبى بكر رضى الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لى واختر لى»
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق إليه قلبك، فإن الخير فيه» .(20/85)
ويستحسن ألا يقدم أحد على أمر من الأمور حتى يسأل الله الخيرة فيه، وذلك بأن يصلى ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ فى الركعة الأولى بعد الفاتحة «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» وفى الركعة الثانية «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» .
وعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى، فاقدره لى ويسّره لى، ثم بارك لى فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ودنياى ومعاشى وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى واصرفني عنه، واقدر لى الخير حيث كان، ثم رضنى به، قال: ويسمى حاجته» .
ثم أكد هذا وقرره بقوله:
(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئا، وله الخيرة عليهم، فله أن يرسل من يشاء رسولا بحسب ما يعلمه من الحكمة والمصلحة دون أن يكون ذلك منوطا بمال أو جاه كما خيّل إلى بعض المشركين فقالوا «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» .
ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه فى سلطانه أحد فقال:
(سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له وعلوا عن إشراك المشركين، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء، فإذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدى أحدا ممن يحب، أو أراد أهل مكة أن يرسل الله رسولا من عظمائهم قال الله لهم: ليس لكم من الأمر شىء، فلا النبي صلى الله عليه وسلم بقادر على هدى عمه، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة فى عظمائهم.(20/86)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
ثم بين أن اختياره تعالى مبنى على العلم الصحيح لا اختيارهم فقال:
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن اختياره من يختار منهم للإيمان به مبنى على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها، فيختار للخير أهله فيوفقهم له، ويولّى الشر أهله ويخلّيهم وإياه.
ونحو الآية قوله: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» .
ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلها واحدا فردا صمدا، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علّمه قال:
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي وهو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته، وهو العليم بكل شىء، القادر على كل شىء.
ثم ذكر بعض صفات كماله فقال:
(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي هو المحمود فى جميع ما يفعل فى الدنيا والآخرة، لأنه المعطى لجميع النعم عاجلا وآجلا.
(وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ فى كل شىء، فلا معقّب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجزى كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا، ولا يخفى عليه منهم خافية.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)(20/87)
تفسير المفردات
أرأيتم: أي أخبرونى، والسرمد: الدائم المتصل قال طرفة:
لعمرك ما أمرى علىّ بغمّة ... نهارى ولا ليلى علىّ بسرمد
تسكنون فيه: أي تستقرون فيه من متاعب الأعمال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم، وتفضل به من المنن- أردف هذا تفصيل ما يجب أن يحمد عليه منها، ولا يقدر عليها سواه.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله: أيها القوم أخبرونى إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار له يتبعه إلى يوم القيامة، أىّ معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار فتستضيئون به؟.
وفى هذا الأسلوب من التبكيت والتقريع والإلزام ما لا يخفى.
(أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ما يقال لكم سماع تدبر وتفكر فتتعظوا وتعلموا أن ربكم هو الذي يأتى بالليل ويزيل النهار إذا شاء، وإذا أراد أتى بالنهار وأذهب الليل، ولا يقدر على ذلك سواه.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟) أي أخبرونى إن جعل الله عليكم النهار دائما لاليل معه أبدا إلى يوم القيامة، أىّ المعبودات غير الله الذي له عبادة كل شىء يأتيكم بليل تستقرون فيه وتهدءون؟.(20/88)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار.
ثم بين أن المخالفة بينهما من فضله تعالى ورحمته فقال:
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار، وخالف بينهما، فجعل الليل ظلاما لتستقروا فيه راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارا فى شئونكم المختلفة، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم، وتخلصوا له الحمد، لأنه لم يشركه فى إنعامه عليكم شريك، ومن ثم ينبغى ألا يكون له شريك يحمد.
والخلاصة: إن الليل والنهار نعمتان تتعاقبان على مرّ الزمان، والمرء فى حاجة إليهما، إذ لا غنى له عن الكدح فى الحياة لتحصيل قوته، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضى لولا ضوء النهار، كما لا يكمل له السعى على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل، ولا يقدر على شىء من ذلك إلا الله الواحد القهار.
وجاء تذييل الآيتين بقوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) لبيان أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر.
[سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)(20/89)
تفسير المفردات
ونزعنا: أي أحضرنا من قولهم: نزع فلان بحجة كذا إذا أحضرها وأخرجها، والشهيد: هو نبى الأمة يشهد عليها بما أجابته حين أرسل إليها، وضل: أي غاب.
المعنى الجملي
بعد أن وبخ المشركين أوّلا على فساد رأيهم فى اتخاذ الشركاء لله، ثم ذكر التوحيد ودلائله- عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيا ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح، بل كان عن محض الهوى كما يرشد إلى ذلك قوله (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ)
الإيضاح
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ويوم ينادى ربك- أيها الرسول- هؤلاء المشركين، فيقول لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى، ليخلّصوكم مما أنتم فيه.
وهذا النداء للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد على عبادة غير الله، للاشعار بأنه لا شىء أجلب لغضبه تعالى من الإشراك به، كما أنه لا شىء أدخل فى مرضاته من توحيده عز وجل.
(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما آتاهم به عن الله برسالته.
ونحو الآية قوله «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» .
وهذا فى موقف من مواقف القيامة، وفى موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة كما قال تعالى: «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» .(20/90)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة فقال:
(فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء مع إعذار الرسل إليكم، وإقامة الحجج عليكم، فلم يحيروا جوابا، وأيقنوا حينئذ بعذاب دائم، ونار تتلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
وحينئذ يستبين لهم خطأ ما كانوا يفعلون كما قال:
(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة عليهم، وأن خبره هو الصادق، وأنه لا يشركه فى الألوهية شىء سواء.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وغاب عنهم ما كانوا يتخرّصون به فى الدنيا ويكذبون به على ربهم من الأباطيل والأضاليل.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
تفسير المفردات
فبغى عليهم: أي تكبّر وتجبر، والكنز: المال المدفون فى باطن الأرض، والمراد(20/91)
به هنا المال المدّخر، ومفاتحه: أي خزائنه واحدها مفتح (بفتح الميم) وتنوء: من ناء به الحمل ينوء: إذا أثقله حتى أماله. قال ذو الرمة:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ... وتمشى الهوينى عن قريب فتبهر
والعصبة: الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض بلا تعيين عدد خاص، والقوة:
الشدة، لا تفرح: أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاتها حتى تتلهى عن الآخرة، قال بيهس العذرى:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّنى ... ولا جازع من صرفه المتقلّب
والدار الآخرة: أي ثواب الله بإنفاق المال فيما يوصل إلى مرضاته، على علم عندى: أي على حسن تصرف فى المتاجر واكتساب الأموال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رءوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم. أعقبه بقصص قارون، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت فى الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف، وزلزلت به الأرض، وهوت من تحته، ثم أصبح مثلا يضرب للناس فى ظلمه وعتوّه، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة، وما يكون لهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة. فيندمون على ما فعلوا:
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
الإيضاح
(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي إنه كان من بنى إسرائيل، لأنه ابن عم(20/92)
موسى، فموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام، وقارون ابن يصهر بن قاهث إلخ.
وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بنى إسرائيل للتوراة، وأقرأهم لها، لكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوة لموسى، والمذبح والقربان لهرون، فما لى إذا؟.
(فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تجاوز الحد فى احتقارهم. والقرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي.
ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله:
(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطيناه المال المذخور الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من الأقوياء من الناس.
روى عن ابن عباس أن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء، وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوى يعسر الوصول إليه، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شىء معين.
وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال:
(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) أي إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتى حين قال له قومه من بنى إسرائيل: لا تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا، وتتلهى عن شئون الآخرة، وفعل ما يرضى ربك.
ثم علل النهى عن الفرح بكونه مانعا محبة الله فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا يقرّبهم من جواره، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.(20/93)
وأثر عن بعضهم أنه قال: لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن إليها، أما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب فلا يفرح بها، وما أحسن ما قال المتنبي:
أشدّ الغم عندى فى سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن منه وأوجز قوله سبحانه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» .
ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا:
(1) (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي واستعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة فى طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب فى الدنيا والآخرة،
وفى الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس:
شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» .
(2) (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا فى مآكلها، ومشاربها وملابسها فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا،
وروى عن ابن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»
وعن الحسن: «قدّم الفضل وأمسك ما يبلّغ» .
(3) (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلقه، كما أحسن هو إليك فيما أنعم به عليك، فأعن خلقه بمالك وجاهك، وطلاقة وجهك، وحسن لقائهم، والثناء عليهم فى غيبتهم.
(4) (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي ولا تصرف همتك، بما أنت فيه إلى الفساد فى الأرض، والإساءة إلى خلق الله.
ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها فقالوا:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي إن الله لا يكرم المفسدين، بل يهينهم ويبعدهم من حظيرة قربه، ونيل مودته ورحمته.(20/94)
ثم بين أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد فى كفران النعمة فقال:
(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي قال قارون لمن وعظوه: إنما أوتيت هذه الكنوز لفضل علم عندى، علمه الله منى، فرضى بذلك عنى، وفضّلنى بهذا المال عليكم.
وتلخيص ذلك: إنى إنما أعطيته لعلم الله أنى له أهل.
ونحو الآية قوله «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» .
فرد الله عليه مقاله بقوله:
(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أنسى ولم يعلم، حين زعم أنه أوتى الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتى؟ أن الله قد أهلك من قبله من الأمم، من هم أشد منه بطشا، وأكثر جمعا للأموال؟ ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالا، لأن من يرضى الله عنه، فمحال أن يهلكه وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا، ألم يشاهد فرعون وهو فى أبّهة ملكه، وحقّق أمره يوم هلكه.
وفى هذا الأسلوب تعجيب من حاله، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك.
وبعد أن هدده سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا- أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة وهو عدم سؤالهم عن ذنوبهم، إذ أنه يؤذن بشدة الغضب عليهم، والإيقاع بهم لا محالة، فقال: «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» أي إنه تعالى حين إرادة عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم(20/95)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
ولا عن كنهها، لأنه عليم بها، ولا يعاتبهم عليها، كما قال تعالى: «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» وقال: «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .
ونحو الآية قوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» .
وهذا لا يمنع أنهم يسألون سؤال تقريع وإهانة، كما جاء فى قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» .
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
تفسير المفردات
الحظ: البخت والنصيب، العلم: هو علم الدين وما ينبغى أن يكون عليه المتقون، ويل: أصلها الدعاء بالهلاك، ثم استعملت فى الزجر عن ترك ما لا يرتضى، وخسف المكان: أي غار فى الأرض، وخسف الله به الأرض خسفا: غاب به فيها كما قال:
«فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» وفئة: أي جماعة من المنتصرين.(20/96)
أي الممتنعين عن عذابه، يقال: نصره من عدوه فانتصر: أي منعه منه فامتنع، وى:
كلمة يراد بها التندم والتعجب مما حصل، يقدر: أي يضيّق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بغى قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولو القوة- أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو فى أبهى حليّه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالى على العشيرة، وأبناء البلاد، وفى ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون فى الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنّوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتى قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين: إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيّق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
الإيضاح
(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج ذات يوم على قومه فى زينة عظيمة، وتجمل باهر من مراكب وخدم وحشم، مريدا بذلك التعالي على الناس، وإظهار العظمة، وذلك من الصفات البغيضة، والافتخار الممقوت، والخيلاء المذمومة لدى(20/97)
عقلاء الناس من جرّاء أنها تقوّض كيان المجتمع، وتفسد نظمه، وتفرق شمل الأمة، وتقسمها طبقات، وفى ذلك تخاذلها، وطمع العدو فى امتلاك ناصيتها.
وفى هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يظهرون النعم، إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه، وسعة ماله بين عشيرته وبنى جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب الله ثراءه، ويجعله عبرة لمن اعتبر.
فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما فى الآخرة فحسب، بل يحصل شؤمهما فى الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم.
وقد روى عن مفسرى السلف فى زينة قارون ما يجعلنا نقف أمامه موقف الحذر، ويجعلنا نعتقد أن الإسرائيليات سداه ولحمته، فمن ذلك ما روى عن قتادة قال: ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه، على أربعة آلاف دابة، عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول، وعليهم الثياب الأرجوانية، ومعه ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحلىّ والثياب الحمر يركبن البغال الشّهب.
وحين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين:
(1) (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي قال من كان همه الدنيا وزينتها: يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل ما لقارون منها، حتى ننعم عيشا، ونتمتع بزخارف الحياة، كما يتمتع.
وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم، وفى كل بلد، وفى كل قرية، فترى الرجل والشاب، والمرأة والفتاة، يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتى فلان(20/98)
وفلانة من ثوب جميل، أو دابة فارهة، أو مزرعة يحصد غلتها، أو قصر مشيد، أو نحو ذلك.
ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم:
(إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي إن الله قد تفضل عليه، وآتاه من بسطة الرزق حظا عظيما، ونصيبا كبيرا يغبط عليه.
والقائلون هذه المقالة: إما جماعة من المؤمنين قالوا ذلك جريا على الجبلة البشرية من الرغبة فى السعة واليسار، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنّوا مثل ماله، ولم يتمنوا زوال نعمته، ومثل هذا لا ضرر فيه.
(2) (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي وقال الذين أوتوا العلم بما أعد الله لعباده فى الآخرة وصدّقوا به ردّا على أولئك المتمنين:
تبّا لكم وخسرا، كيف تتغالون فى طلب الدنيا، ويسيل لعابكم عليها، وما عند الله من ثواب فى الآخرة لمن صدق به، وآمن برسله، وعمل صالح الأعمال، خير مما تتمنون، فإن هذا باق، وذاك فان، وهذا خالص مما يشوبه وينغصه من الأكدار، وذلك مشوب بالأحزان والمنغّصات.
ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال:
(وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي ولا يتّبع هذه النصيحة، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات، واجتنب المحرمات، ورضى بقضاء الله فى كل ما قسم من المنافع والمضار، وأنفق ماله فى كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع، وكان قدوة صالحة فى حفظ مجد أمته، ورفع صيتها بين الأمم، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها، وإعلاء شأنها، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس، ويلقى المثوبة من ربه.
ثم ذكر ما آل إليه بطره وأشره من وبال ونكال فقال:
(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوّه(20/99)
وفى هذا عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالى فى الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض.
وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة، فضاعت دورهم وأموالهم، وأصبحت ملكا لغيرهم، وهذا هو الخسف العظيم، وما خسف قارون بشىء إذا قيس بهذا، فإن الخسف الآن خسف الأمم، لا خسف الأفراد، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه، وخسف أمة أدهى من خسف فرد، فليخسف الفرد، ولتبق الأمة، وهكذا دخلت البلاد تباعا فى ملك الغاصب، واحدة إثر أخرى، ولم يبق منها إلا ما رحم الله، وما ذاك إلا بجهلها لدينها، وعدم اتباعها أحكامه، وغفلتها عن مقاصده.
ثم بين أنه لم يجد له شفيعا ولا نصيرا يدفع عنه العذاب حينئذ فقال:
(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي ما أغنى عنه ماله، ولا خدمه ولا حشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله ولا نكاله، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه.
وقصارى ذلك. إنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها، الجاهلة بمقاصد شريعتها فى إنفاق الأموال أن تجد مناصا من خراب الديار، وإضاعة المجد الطارف والتالد، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين، الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة، وقد كان ذلك جزاءا وفاقا، لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها، ولا يظلم ربك أحدا، وهكذا حال من تصرّف فى ماله تصرف السفهاء، وركب رأسه، وصار يبعثره يمنة ويسرة، فإنه سيندم ولات ساعة مندم.
وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال، وحفظ الشهوات والعقول، وكل الفضائل التي حث عليها الدين، وسلك سبيلها السلف الصالح.(20/100)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
وقد حكى المفسرون فى أسباب الخسف أمورا كثيرة هى غاية فى الغرابة يبعد أن نصدقها العقول، ومن ثم قال الرازي: إنها مضطربة متعارضة، فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب اهـ.
ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب، صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى، وداعما إلى الرضا بقضاء الله وبما قسمه، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله، كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي فلما خسف الله بقارون الأرض أصبح قومه يقولون: إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا، لا تدل على رضا الله عن صاحبه فالله يعطى ويمنع ويوسع ويضيّق، ويرفع ويخفض، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة، لا معقب لحكمه.
وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطى المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطى الإيمان إلا من يحبّ» .
ولما لاح لهم من واقعة أمره أن الرزق بيد الله يصرّفه كيف يشاء، أتبعوه بما يدل على أنهم اعتقدوا أن الله قادر على كل ما يريد من رزق وغيره فقالوا:
(لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) أي لولا لطف الله بنا لخسف بنا كما خسف به، لأنا وددنا أن نكون مثله. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم:
(وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمه المكذبون برسله وبما وعدوا به من ثواب لآخرة، كما كان شأن قارون.
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)(20/101)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قول أهل العلم بالدين: ثواب الله خير- أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء، وهو الدار الآخرة وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يترفعون على الناس، ولا يتجبرون عليهم، ولا يفسدون فيهم، بأخذ أموالهم بغير حق، ثم بين بعدئذ ما يحدث فى هذه الدار جزاء على الأعمال فى الدنيا، فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا علام الغيوب، فضلا من الله ورحمة وجزاء السيئة مثلها، لطفا منه بعباده، وشفقة عليهم.
الإيضاح
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) أي تلك (الدار التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها- نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحق وإعراضا عنه، ولا ظلم الناس ومعصية الله.
وثبت فى الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد» .
وروى مسلم وأبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» .
وروى أبو هريرة: «أنه جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان جميلا، فقال: يا رسول الله إنى رجل حبّب إلىّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقنى أحد بشراك نعل أفمن ذلك؟ قال: لا ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس» .
وعن عدى بن حاتم قال: «لما دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألقى إليه وسادة(20/102)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وجلس على الأرض فقال: أشهد إنك لا تبغى علوا فى الأرض ولا فسادا فأسلم» .
أخرجه ابن مردويه.
(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي والعاقبة المحمودة، وهى الجنة لمن اتقى عذاب الله يعمل الطاعات، وترك المحرمات، ولم يكن كفرعون فى الاستكبار على الله، بعد امتثال أوامره، والارتداع عن زواجره، ولا كقارون فى إرادة الفساد فى الأرض.
ثم بين ما يكون فى تلك الدار من جزاء على الأعمال فقال:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء الله يوم القيامة بحسنة فله خير منها، فهو يضاعفها له أضعافا مضاعفة تفضلا منه ورحمة.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ومن أتى بسيئة فلا يجزى عليها إلا مثلها، وهذا منه سبحانه رحمة وعدل.
ونحو الآية قوله: «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)(20/103)