(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه أخذ من وجد فى رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله:
(فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حق الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب فى مثل هذا، وقد كان الحكم فى شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.
(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم فى شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.
وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفىّ كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله.
ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا فى يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفى هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا.
ثم علل ما صنعه الله من الكيد ليوسف بقوله:
(ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان(13/21)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله- بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال:
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي نرفع من نشاء درجات كثيرة فى العلم والإيمان ونريه وجوه الصواب فى بلوغ المراد، كما رفعنا درجات يوسف على إخوته فى كل شىء.
وفى هذا إيماء إلى أن العلم أشرف المقامات، وأعلى الدرجات.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي وفوق كل عالم من هو أوسع إحاطة منه وأرفع درجة، إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شىء علما وهو فوق كل ذى علم.
وخلاصة ذلك- إن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف كان أعلم منهم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 79]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
الإيضاح
(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أي قال إخوة يوسف، إن(13/22)
يسرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فالسرقة جاءت وراثة من أمهما إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفى قولهم هذا إيماء إلى أن الحسد لا يزال كامنا فى قلوبهم، لاختلاف الأمهات، ولمزيد محبة الأب لهما.
وأصح ما قيل فى سرقة يوسف مارواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال:
سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبى أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه فى الطريق فعيره بذلك إخوته.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة إسحاق إذ كانوا يتوارثونها بالكبر، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته فكان معها، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء كحبها إياه حتى إذا ترعرع ووقعت نفس يعقوب عليه السلام عليه فأتاها فقال يا أخية سلمى إلىّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عنى ساعة قالت: فو الله ما أنا بتاركته فدعه عندى أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسلينى عنه، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه، ثم قالت فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت:
اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام، فقالت والله إنه لسلم لى أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.
وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها على سرقة حقيقية.
(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي فأضمر مقالتهم فى نفسه ولم يجبهم عنها.
(وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي ولم يؤاخذهم بها لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما.(13/23)
ثم فسر ما أسره بقوله:
(قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي قال فى نفسه أنتم شر فى مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه، إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك، والرق، وقلتم لأبيكم قد أكله الذئب إلخ.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي والله أعلم منكم بما تصفونه به، لأنه سبحانه هو العليم بحقائق الأشياء، فيعلم كيف كانت سرقة الذي أحلتم سرقته عليه.
ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين فيرجعوا به إلى أبيهم، لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه.
(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) طاعنا فى السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف من قصصه ومن تعلقه به.
(فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله فلسنا عنده بمنزلته فى المحبة والشفقة عنده.
ثم عللوا رجاءهم فى إجابته بقولهم:
(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فى ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا، فأتم إحسانك، فما الإنعام إلا بالإتمام، أو المعنى إن من عادتك الإحسان مطلقا، فاجر على عادتك ولا تغيرها، فنحن أحق الناس بذلك.
فأجابهم عن مقالتهم:
(قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي حاش لله أن نأخذ إلا من وجدنا الصواع عنده، لأنا قد أخذناه بفتواكم (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) فلا يسوغ لنا أن نخلّ بموجبها.
ولم يقل إلا من سرق متاعنا اتقاء للكذب، لأنه يعلم أنه ليس بسارق.
(إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إنا إذا أخذنا غيره لظالمون من وجهين: مخالفة شرعكم ونص فتواكم، ومخالفة شريعة الملك.(13/24)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
[سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 84]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
تفسير المفردات
استيأسوا: أي يئسوا يأسا كاملا، خلصوا: انفردوا عن الناس، نجيا: أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم، كبيرهم: أي فى الرأى والعقل وهو يهوذا، وموثقا: أي عهدا يوثق به وهو حلفكم بالله، فرطتم: قصرتم فى شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه، أبرح: أفارق، أمرا: أي كيدا آخر، تولى: أعرض، والأسف:
أشد الحزن والحسرة على ما فات، كظيم: أي مملوء غيظا على أولاده ممسك له فى قلبه، القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا، ويستعمل فى كل واحد منهما قاله الراغب.
الإيضاح
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) أي فلما استحكم اليأس فى أنفسهم من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم وأنه إن فعل(13/25)
غيره يكون ظالما بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر- اعتزلوا الناس ولم يخالطوا أحدا، وانفردوا للمناجاة والتشاور فى أمرهم.
وخلاصة ذلك- أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل، غادر كل منهم رحله وانضم بعضهم إلى بعض وأدنى رأسه من رأسه وأرهفوا آذانهم للنجوى.
(قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أي قال كبيرهم عقلا ورأيا وهو يهوذا، ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهد الله وميثاق لتردّنّه إليه إلا أن يحاط بكم، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم.
(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي ومن قبل هذا قد قصرتم فى حفظ يوسف بعد وعدكم المؤكد بحفظه، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى.
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لى أبى بتركها والرجوع إليه وبنيامين فيها، أو يحكم الله لى بامر من عنده مما هو غيب فى علمه، كأن يترك العزيز لى أخى بإلهام منه تعالى أو بسبب آخر.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل، وهو المسخر للأسباب والمقدر للاقدار.
ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التّهمة عن أنفسهم قال:
(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صواع الملك فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر فى مصر عملا بشريعتنا، إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها.
(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي وما شهدنا عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة بل ما شهدنا إلا بما علمنا، إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه.
(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) فنعلم أنه سيسرق حين أعليناك المواثيق، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك العهد الموثق علينا.(13/26)
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي واسأل أهل القرية التي كنا نمتار فيها وهى مصر، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا.
(وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب العير الذين كانوا يمتارون معنا.
ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم:
(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به، سواء أسألت غيرنا أم لم تسأل، إذ أن من عادتنا الصدق فلا نخبرك إلا به ولا نظنك فى مرية من هذا:
وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر مقال أبيهم فقال:
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي فرجع الإخوة إلى أبيهم وقالوا له مالقنهم كبيرهم فلم يصدقهم فيما قالوا، بل قال لهم بل زينت لكم أنفسكم كيدا آخر فنبذتموه، ومما يقوّى ذلك عندى أنكم لقنتم هذا الرجل حكم شريعتنا وأفتيتموه به، وليس ذلك من شريعته.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فحالى على ما نالنى من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، بل أشكو إلى الله وحده وأعلق رجائى به.
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي أطلب من الله أن يرجع إلىّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه العليم بوحدتى وفقدهم والحزن عليهم، وله فينا حكمة بالغة، وهو الحكيم فى أفعاله فيبتلى ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته فى تدبير خلقه، وقد جرت سنته أن الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجا، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها كما قال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به.
(وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا حزنى ويا حسرتى عليه أقبلى فهذا وقتك والحال(13/27)
مقتضية لك، فقد كنت أنتظر أن يأتونى من مصر ببشرى لقاء يوسف، فخاب أملى وحل محله ذهاب ابني المسلّى عنه، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه، لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه، ومحل غيره دون ذلك.
(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي أصابتهما غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليما معافى، قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا:
البياض المصحوب بضياع البصر غالبا معناه (الجلوكوما) والمعروف عند الاختصاصيين فى أمراض العيون أن أهم سبب لها هو التغيرات فى الأوعية الشعرية نتيجة لأسباب كثيرة، من أهمها الانفعالات العصبية (كما يحدث فى زيادة ضغط الدم) لا سيما الحزن (الدكتور مار) اه.
(فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا على أولاده، يردد حزنه فى جوفه ولا يتكلم بسوء والحزن عرض طبيعى للنفس ولا يذم شرعا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو يفعل ما لا يرضى الله تعالى، ومن ثم
قال النبي صلى الله عليه وسلّم عند موت ولده إبراهيم وقد جعلت عيناه تذر فان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين، تدمع وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزون» رواه الشيخان وغيرهما.
وفى التفسير بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بنى إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلنى لهم رابعا، فأوحى الله إليه أن: يا داود إن إبراهيم ألقى فى النار بسببى فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببى فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذ منه حبيبه فابيضّت عيناه من الحزن، وتلك بلية لم تنلك»
قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث مرسل وفيه نكارة، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح اه(13/28)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
[سورة يوسف (12) : الآيات 85 الى 87]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
تفسير المفردات
تفتأ: أي لا تفتأ بمعنى لا تزال. والحرض: المرض المشفى على الهلاك، من الهالكين: أي الميتين، البث فى الأصل: إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، ثم استعمل فى إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم أو السر، وتحسسوا: أي تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر، والرّوح: التنفس، يقال أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب.
الإيضاح
(قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي قال ولد يعقوب الذين جاءوا من مصر حين قال يا أسفا على يوسف: تالله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم.
وخلاصة ذلك- إنك الآن فى بلاء شديد، ونخاف أن يحصل لك ماهو أكثر وأقوى منه، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف.
فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن:
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
أي لا تلومونى وأنا لم أشك إليكم ولا إلى(13/29)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
أخذ من الخلق حزنى الذي أمضّني كتمانه، فأفشيته بهذه الكلمة (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) بل شكوت ذلك إلى الله وحده.
َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
أي وأنا أعلم فى ابتلائى بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فأعلم أنه حى يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقّ، وتحسبون أنى بحزني ساخط على قضاء الله فى شىء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلا هو بالغه، وإنى لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم فى يوسف من قبل، وبأخيه الذي كان يسلينى عنه من بعده.
وعن ابن عباس فى تفسير الآية: أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق وأننى سأسجد له.
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما.
(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه عن النفس هذا الكرب، بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب.
(إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بقدرته وسعة رحمته ويجهلون مالله فى عباده من حكم بالغة ولطف خفى، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر أو جلب خير بخعوا أنفسهم (انتحروا) همّا وحزنا.
أما المؤمن حقا فلا تقنطه المصايب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، ومن ثم قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه فى البلاء ويحمده فى الرخاء.
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)(13/30)
تفسير المفردات
الضر: أي ضر المجاعة من الهزال والضعف، والمزجاة: الرديئة التي يدفعها التجار من أزجى الشيء وزجاه: إذا دفعه برفق كما قال: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» وآثرك: أي اختارك وفضلك، والخاطئ: هو الذي يأتى بالخطيئة عمدا، والمخطئ:
من إذا أراد الصواب صار إلى غيره، والخطء: الذنب، وخطّأته: قلت له أخطأت، ولا تثريب: أي لا لوم ولا تأنيب وثرّب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه، ويأت بصيرا أي يصر بصيرا فى الحال، أو يأت إلىّ وهو بصير.
الإيضاح
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي بعد أن قبلوا وصية أبيهم حين قال لهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، وعادوا إلى مصر- دخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له يا أيها العزيز أصابنا الهزال والضعف لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه- ليروا تأثير الشكوى فيه،(13/31)
فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجّح أنه هو يوسف فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه.
(وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ببضاعة رديئة يحتقرها التجار ويدفعونها احتقارا لها.
(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي فأتمه كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك.
(وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن رداءتها.
(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فيخلف ما ينفقون ويضاعف الأجر لهم.
وقد بالغوا فى الضراعة والتذلل، لما كانوا يرون من تأثير ذلك فى ملامح وجهه، وجرس صوته، ومعالبة دمعه.
ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر ردّ يوسف عليهم.
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي قال ما أعظم ما فعلتم بيوسف من قبل وبأخيه بنيامين من بعد على قرب العهد، وما أقبح ما أقدمتم عليه، كما يقال للمذنب هل تدرى من عصيت، وهل تعرف من خالفت.
(إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبح ما فعلتموه فى حكم شرعكم، وحقوق بر الوالدين وما يجب من رحمة القرابة والرحم.
وخلاصة ذلك- إنكم كنتم فى حال يغلب عليكم فيها الجهل بهذه الحقوق، وبعاقبة البغي والعقوق.
وقد يكون المراد من الجهل الطيش والنّزق واتباع الهوى وطاعة الحسد والأثرة.
وقد قال لهم هذه المقالة تمهيدا لتعريفهم بنفسه، إذ آن أن يصارحهم به بعد أن بلغ الكتاب أجله، وبلغت به وبهم الأقدار غايتها، ولم يبق بعد هذا إلا التصريح، وتأويل رؤياه التي كانت السبب فى كل ما حدث من تلك الأفاعيل.
وقد ذكّر يوسف إخوته بذنوبهم تذكيرا مجملا قبل أن يتعرف إليهم بذكر(13/32)
العذر وهو الجهل بقبح الذنب فى ذاته وبسوء عاقبته لتمكن نزغ الشيطان من أنفسهم الأمارة بالسوء، وقد ذكرهم بطريق سؤال العارف المتجاهل على طريق التقرير لا التقريع والتوبيخ كما يدل عليه نفى التثريب والدعاء بالمغفرة.
قال صاحب الكشاف فى تفسير الآية: أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب «فقال هل علمتم» قبح «ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون» لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعنى هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم فى الدين لا معاتبة وتثريبا، إيثارا لحق الله على حق نفسه فى ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها اه.
وكان سؤاله إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه وهو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداءة إلى النهاية- مصدقا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه فى غيابة الجب من قوله: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» إذ يبعد أن يعرف هذا سواه، فأرادوا أن يتثبتوا من ذلك ويستيقنوا به، فوجهوا إليه سؤالا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع.
(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟) أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف- وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه.
(قالَ أَنَا يُوسُفُ) الذي ظلمتمونى غاية الظلم، وقد نصرنى الله فأكرمنى وأوصلنى إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه فى غيابة الجب، ثم صرت إلى ما ترون.
(وَهذا أَخِي) الذي فرّقتم بينى وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون.(13/33)
(قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة، وآنسنا بعد الوحشة، وخلّصنا مما ابتلينا به.
وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخى لا أخوكم.
تنبيه
فإن قيل لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه فى أول مرة ليبشروا أباهم به وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون فى ذلك السرور كل السرور له؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيّم فى كتابه [الإغاثة الكبرى] قال رحمه الله: لو عرّفهم بنفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحلّ ذلك المحلّ وهذه عادة الله فى الغايات العظيمة الحميدة، إذا أراد أن يوصّل عبده إليها هيأ له أسبابا.
من المحن والبلايا والمشاقّ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام.
فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب.
وبالجملة فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره والنار وحفها بالشهوات اه.(13/34)
(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو: من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشىء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره فى الدنيا ثم يؤتيه أجره فى الآخرة.
وفى الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين الله، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى.
(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) أي قال إخوة يوسف له: لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل.
(وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي وما كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك إلا متعمدين للخطيئة، ولا عذر لنا فيها عند الله ولا عند الناس.
وبعد أن قدّموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا.
(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا لوم ولا تعنيف عليكم فى هذا اليوم الذي هو مظنّته، ولكن لكم عندى الصفح والعفو. وهو إذا لم يثرّب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى.
وقال السيد المرتضى: إن كلمة (اليوم) موضوعة موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
كأنه أريد بعد اليوم اه.
(يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي يعفو الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، وهو أرحم الراحمين لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته.
وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلّم بالآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال: «ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟(13/35)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قالوا نظن خيرا، أخ كريم وابن كريم، فقال: وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ، فخرجوا كأنما نشروا من القبور» . أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي عن أبى هريرة.
روى أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا ذهب بصره فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال:
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) الذي على بدني أو بيدي.
(فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه دون تأخير يصر بصيرا، وقد علم هذا إما بوحي من الله، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما أصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس فإذا ألقى عليه قميصه شرح صدره وسر أعظم السرور، وقوى بصره وزالت منه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتى بعد.
(وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من الرجال والنساء والذراري وغيرهم، وقد روى أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
تفسير المفردات
يقال فصل عن البلد: إذ انفصل وجاوز حيطانه، وتفندون: أي تنسبونى إلى(13/36)
الفند وهو فساد الرأى وضعف العقل والخرف من الكبر، فى ضلالك: أي فى خطئك أو فى إفراطك فى حبه والإصرار على اللهج به، وارتد: أي رجع.
الإيضاح
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي ولما انفصلت عير بنى يعقوب عن حدود مصر قافلة إلى أرض الشام، قال أبو هم لمن حضره من حفدته ومن غيرهم: إنى لأشمّ رائحة يوسف كما عرفتها فى صغره، لولا أن تنسبونى إلى ضعف الرأى وفساد العقل وخرف الكبر، لصدقتمونى فى أنى أجد رائحته حقيقة، وأنه حى قد قرب موعد لقائه وبالتمتع برؤيته.
وروى عن ابن عباس أنه لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، قال «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فوجد ريحه من ثمانية أيام، وفى رواية من ثمانين فرسخا، والمراد من مسافات بعيدة جدا.
(قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي قال حاضرو مجلسه: تالله إنك لفى خطئك الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حى يرحى لقاؤه وقد قرب.
ولا غرو فللخلىّ أن يقول فى الشجىّ ما شاء، فأذنه عن العذل صماء:
سلوتى عنكم احتمال بعيد ... وافتضاحى بكم ضلال قديم
كل من يدّعى المحبة فيكم ... ثم يخشى الملام فهو مليم
قال قتادة فى تفسيرها: «تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه اه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها له.
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف- وهو الذي حمل إليه قميصه الملطّخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة- ألقاه على وجه يعقوب فعاد من فوره بصيرا كما كان، بل قد قيل إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثيرا ما شفى(13/37)
السرور من الأمراض وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا: لا تتحسن أعراض مرض (الجولكوما) أو شدة توتر العين أو تقف شدته إلا بالعلاج، ومنه العمليات الجراحية ولكن شفاء سيدنا يعقوب بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه، فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب، ولكن المهم هو طريقة الشفاء وهى إرادة الله المنحصرة فى (كن فيكون) وهى خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها، فعظمة المعجزة ليست فى النتيجة فحسب ولكن فى طريق الشفاء- وما أعظم إعجاز القرآن الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض فى ذلك الوقت ولا بعده بزمن طويل اه.
وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعى من ربه بصدق ما يقول:
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي قال لهم ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله: إنى أعلم بوحي الله لا من خطرات الأوهام ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام- وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.(13/38)
نبذة فى تعليل شم يعقوب رائحة يوسف
أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهى مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهى بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما، فالكلب ذو حاسة قوية فى الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه فى حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلا قاطعا فى بعض الدول.
والروائح منها القوى والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواصّ عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر.
وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره فى أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمّه ويشمّه- شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى- لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك- لم نبعد، عن العقل ولا عن العلم، إذ لا خلاف بين العلماء فى أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه.
وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث فى كنهه أو صفته مادام ذلك داخلا فى حيز الإمكان.(13/39)
(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير: يا أبانا اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة، عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين.
الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي:
(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعدهم بالاستغفار لهم فى مستأنف الزمان، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء.
والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة:
(1) إن حال أبيهم معهم حال المربّى المرشد للمذنب، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هيّن لديه حتى يعجّل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.
(2) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم.
(3) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها، فلا يمّحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها.
فلا يحسن بعدئذ من المربى الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبّث فى الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.(13/40)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
(4) إن حال يوسف معهم كان حال القادر بل المالك القاهر مع مسىء ضعيف لديه، عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم فى ذلك أحسن الأسوة، وفى هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا فى وجل مما سيحلّ بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا فى قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عاما والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك وهو العليم الحكيم.
تأويل رؤيا يوسف من قبل
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
تفسير المفردات
آوى إليه أبويه: أي ضمهما إليه واعتنقهما، ورفع أبويه: أي أصعدهما، والعرش:
كرسى تدبير الملك لا كل سرير يجلس عليه الملك، وخروا له سجدا: أي أهوى أبواه(13/41)
وإخوته إلى الأرض وخروا له سجدا، تأويل رؤياى: أي مآلها وعاقبتها، وأصل النزغ: نخس الرائض الفرس بالمهماز لإزعاجه للجرى، ثم قيل نزغه الشيطان كأنه نخسه ليحثّه على المعاصي، ونزغ بين الناس: أفسد بينهم بالحث على الشر.
المعنى الجملي
بعد أن أخبر فيما سلف أن يوسف قال لإخوته ائتوني بأهلكم أجمعين- أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف بقرب مجيئهم خرج للقائهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر دولته بالخروج معه للقاء نبى الله يعقوب عليه السلام.
الإيضاح
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) فى العبارة حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام والمعنى- تفصيله بعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف فى مصر وأنه الحاكم المفوّض المستقل فى أمرها- أبلغوه أنه يدعوهم كلّهم للإقامة معه فيها والتمتع بحضارتها فرحلوا حتى بلغوها- ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم فى الطريق فى جمع حافل احتفاء بهم ضم إليه أبويه واعتنقهما.
وظاهر الآية يدل على أن أمه كانت لا تزال حية ورجحه ابن جرير، وقال جمع من المفسرين إن المراد بأبويه أبوه وخالته، لأن أمه قد ماتت قبل ذلك فتزوج أبوه خالته.
(وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) أي وقال لهم ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك، فإن سنى القحط كانت لا تزال باقية، وذكر المشيئة فى كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم، وهذا من شأن المؤمنين ولا سيما الأنبياء والصديقون.(13/42)
وفى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام عرّف نفسه إلى إخوته عقب مجيئهم ببنيامين شقيقه وأرسلهم لاستحضار أبويه وأهلهم، فجاءوا فأقطعهم أرض جاسان (إقليم الشرقية الآن) وأرسل إليهم العربات لتحملهم، وأحمال الغذاء والثياب على الحمير، فلما وصلوا إليها شد يوسف على مركبته وصعد ليلاقى إسرائيل أباه فى جاسان، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا، ثم استأذنهم ليذهب إلى فرعون ويخبره بمجيئهم ومكانهم ليقرّهم عليه، لأنهم رعاة وأرض جاسان خصبة ففعل، ثم أخذ وفدا منهم لمقابلة فرعون وأدخل أباه عليه فبارك فرعون.
ومن هذا يتبين أن هذا اللقاء كان هو الأول لهم، وبعد لقاء فرعون قال لهم ادخلوا مصر ثم عاد بهم إلى قصره الخاص.
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي أصعد أبويه إلى السرير الذي كان يجلس عليه لتدبير أمر الملك تكرمة لهما فوق ما فعله بالإخوة.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي أهوى أبواه وإخوته وخروا له سجودا، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء فى عهدهم، ومن ثم سجد يعقوب لأخيه عيسو حين تلاقيا بعد تفرق.
والسجود ليس عبادة بذاته، وإنما يكون كذلك بالنية والتزام الصفة الشرعية فيه.
(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي هذا السجود منكما ومن إخوتى الأحد عشر هو المآل والعاقبة التي آلت إليها رؤياى التي رأيتها من قبل فى صغرى «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» .
(قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي قد جعلها ربى حقيقة واقعة واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتى الأحد عشر، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر، ولا بدع فى ذلك فهذه الأسرة هى التي حفظ الله بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين فكانت خير أسر البشر جميعا.(13/43)
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي وقد أحسن بي ربى إذ أخرجنى من السجن وسما بي إلى عرش الملك، وجاء بكم من البادية حيث كنتم تعيشون فى شظف العيش وخشونته، ونقلكم إلى الحضر حيث تعيشون فى نعم الاجتماع ونشر الدين الحق، وتتعاونون على ترقى العلوم والصناعات. ولم يذكر له إخراجه من الجب لوجوه:
(1) إنه ذكر آخر المحن المتصلة بنهاية النعم.
(2) إنه لو ذكر حادث الجب لكان فى ذلك تثريب لإخوته وقد قال (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) .
(3) إنه بعد خروجه منه صار عبدا لا ملكا.
(4) إنه بعد خروجه منه وقع فى مضارّة تهمة المرأة التي بسببها دخل السجن.
وعلى الجملة فالنعم الكاملة إنما حصلت بعد خروجه من السجن.
(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان ما بينى وبين إخوتى من عاطفة الأخوّة، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم، وهيج الحسد والشر.
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إن ربى عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده، فينفذ ما يشاء فى خلقه بحكمته البالغة، فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء فى الجب يعقبه الرق، ويتلو الرق فتنة العشق، ومن أجله يزجّ فى غيابات السجن، ومن ذا إلى السيادة والملك.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه هو العليم بمصالح عباده، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها، الحكيم الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة، فيجازى الذين أحسنوا بالحسنى، ويجعل العاقبة للمتقين.
وبعد أن حمد يوسف ربه على لطفه فى مشيئته وعلمه وحكمته- تلا ذلك بالدعاء فقال:(13/44)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
الإيضاح
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته، وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكن له فى الأرض: رب قد آتيتني ملك مصر وجعلتنى متصرفا فيها بالفعل وإن كان لغيرى بالاسم، ولم يكن لى فيها حاسد ولا باغ إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد.
(وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي وعلمتنى ما أعبر به عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة فتقع كما قلت وأخبرت.
(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما.
(أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أنت متولى أمورى ومتكفّل بها، أو أنت موال لى وناصرى على من عادانى وأرادنى بسوء، وإن نعمك لتغمرنى فى الدنيا، وسأتمتع بها بفضلك ورحمتك فى الآخرة، ولا حول لى فى شىء منهما ولا قوة.
(تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضنى إليك مسلما، وأتم لى وصية آبائي وأجدادى.
«وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .
(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي وألحقنى بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك، واحشرني فى زمرتهم، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء فى سورة الفاتحة(13/45)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فى ذكر هذا القصص إثبات لنبوة محمد عليه السلام
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 104]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104)
الإيضاح
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي إن نبأ يوسف ووالده يعقوب وإخوته وكيف مكن ليوسف فى الأرض وجعل له العاقبة والنصر، وآتاه الملك والحكمة، فساس ملكا عظيما وأحسن إدارته وتنظيمه وكان خير قدوة للناس فى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه فى غيابة الجب كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره، ولكنا نوحيه إليك لنثبّت به فؤادك، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم فى سبيل الله، وأعرضوا عن الجاهلين فازوا بالظفر وأيّدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم.
ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله:
(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي وما كنت حاضرا عندهم ولا مشاهدا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف فى غيابة الجب، يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه، وهذا كقوله تعالى بعد سياق موسى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ(13/46)
الطُّورِ إِذْ نادَيْنا»
الآية، وقوله فى هذه القصة «وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» الآية.
وخلاصة هذا- إن الله أطلع رسوله على أنباء ما سبق، ليكون فيها عبرة للناس فى دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثرهم، ومن ثم قال:
(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما أكثر مشركى قومك ولو حرصت على أن يؤمنوا بك ويتّبعوا ما جئتهم به من عند ربك بمصدقيك ولا متّبعيك.
قال الرازي: إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا ذكر هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التعنت، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى ما ذكر الله تعالى فى قوله «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .
(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي وما تسأل هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم، بل ثوابك وأجر عملك على الله.
والخلاصة- إنك لا تسألهم على ذلك ما لا ولا منفعة فيقولوا إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك عن أموالنا إذا سألتنا عن ذلك، فحالك حال من سبقك من الرسل، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى، والقرآن ملىء بنحو هذا كما فى سورتى هود والشعراء وغيرهما.
وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرا فقد كان حقا عليهم أن يعلموا أنك إنما تدعوهم إليه اتباعا لأمر ربك ونصيحة منك لهم.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي هذا الذي أرسلك به ربك تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لالهم خاصة، وبه يهتدون وينجون فى الدنيا والآخرة.
وفى الآية إيماء إلى عموم رسالته صلى الله عليه وسلّم.(13/47)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
غفلتهم عن التأمل فى الآيات
[سورة يوسف (12) : الآيات 105 الى 107]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
تفسير المفردات
وكأين: بمعنى كثير، والآية هنا: الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته، يمرون عليها: يشاهدونها، معرضون: أي لا يعتبرون بها، والغاشية: العقوبة تغشاهم وتعمّهم، بغتة: فجأة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون فى الدلائل الدالة على نبوتك- ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم، فأكثرهم فى غفلة عن التفكر فى آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه فى السموات من كواكب ثوابت وسيارات، وأفلاك دائرات، وفى الأرض من حدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات:
وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد
الإيضاح
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أي وكم فى السموات والأرض من آيات دالة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار، يمر عليها أكثر الناس وهم غافلون عما فيها(13/48)
من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شىء فأحسن تدبيره.
وعلى الجملة فما فى السموات والأرض من عجائب وأسرار وإتقان وإبداع- ليدلّ أتم الدلالة على العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة التامة.
والذين يشتغلون بعلم ما فى السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما، ذاهلون عن ذكره- يمتّعون عقولهم لذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عزّ وجلّ، إذ الفكر وحده إن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة فى الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد فى الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فطوبى لمن جمع بين الأمرين فكان من الذين أوتوا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ونجوا من عذاب النار فى الآخرة.
(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أي وما يقر هؤلاء بأن الله هو الخالق كما قال «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» إلا وهم مشركون به فى عبادتهم سواه من الأوثان والأصنام ومن زعمهم أن له ولدا، تعالى عما يقولون.
قال ابن عباس هم أهل مكة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون فى تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهذا هو الشرك الأعظم، إذ يعبد مع الله غيره،
وفى صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (قد، قد)
أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا،
وفى الصحيحين عن ابن مسعود «قلت يا رسول الله: أىّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» .
ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة عرف كيف طرأ الشرك على الأمم، وسرى فى عبادتهم سريان السّم فى الدّسم.
قال ابن القيم فى إغاثة اللهفان: وما زال الشيطان يوحى إلى عبّاد القبور منهم.(13/49)
أن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء لها والإقسام على الله بها مع أن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه- فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل ويحجّ إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر هذا عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم من تجديد التوحيد وألا بعبد إلا الله اه.
أما التوسل إلى الله بصالحى عباده كقولهم اللهم بجاه فلان عندك أو بحق فلان أو بحرمته أسألك أن تفعل كذا فلم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، وما أخرجه الطبراني من حديث فاطمة بنت أسد من قوله (بحق نبيك والأنبياء من قبلى) فقد طعن فيه رجال الحديث، على أنه ليس فيه إلا الدعاء بحق النبيين فحسب، وهو ما فضّلهم الله به على غيرهم من النبوة والرسالة وما وعدهم به من التمكين والنصر، على أن حقوق الرسل وصلاح الصالحين ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء ولا رابطة تربطها بإجابة سؤاله.
(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟) أي أفأمن هؤلاء الذين يؤمنون بالله ربهم ويشركون به فى عبادته غيره، أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم، أو تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم، وكفرهم بربهم، فيخلدهم فى نار جهنم.
والآية كقوله «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ؟ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ؟ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ؟ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .(13/50)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
وقوله «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» .
وجاء فى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة ذات الدّر) فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته (لقمته) إلى فيه فلا يطعمها»
والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم فلا يشعرون إلا وقد أتتهم.
والحكمة فى إبهام وقتها أن الفائدة لاتتم إلا بذلك، ليخشى أهل كل زمان إتيانها فى هذا الوقت، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى فى أعمالهم فيلتزموا الحق ويتحرّوا الخير ويتقوا الشرور والمعاصي.
طريق النبي صلى الله عليه وسلّم الدعوة إلى التوحيد
[سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن أكثر الناس لا يفكرون فيما فى السموات والأرض من آيات، ولا يعتبرون بما فيها من علامات، تدل على أن الله هو الواحد الأحد، الفرد(13/51)
الصمد أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هى الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده يدعوبها هو ومن اتبعه على بصيرة وبرهان.
الإيضاح
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي قل أيها الرسول:
هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام هى سنتى ومنهاجى، وأنا على يقين مما أدعو إليه ولدىّ الحجة والبرهان على ما أقول، وكذلك يدعو إليها أيضا من اتبعنى وآمن بي وصدقنى.
والآية كقوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» .
(وَسُبْحانَ اللَّهِ) أي وأنزه الله وأعظمه من أن يكون له شريك فى ملكه، أو أن يكون هناك معبود سواه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» .
(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وأنا برىء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم منى وفى قوله: (عَلى بَصِيرَةٍ) إيماء إلى أن هذا الدين الحنيف لا يطلب التسليم بنظرياته ومعتقداته بحكايتها فحسب، ولكنه دين حجة وبرهان، فقد ذكر مذاهب المخالفين وكرّ عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان، وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه.
نقل البغوي عن ابن عباس فى تفسير قوله: «وَمَنِ اتَّبَعَنِي» يعنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا على أحسن طريقة، وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن، وعن ابن مسعود: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم، كانوا أفضل(13/52)
هذه الأمة، وأبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على إثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقد كان من شبه منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا كما حكى عنهم سبحانه: «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» فرد سبحانه عليهم بقوله:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فكيف عجبوا منك ولم يعجبوا ممن قبلك من الرسل.
ونظير هذا قوله: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» وقوله: «وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ» وقوله: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» الآية.
وهذه الشبهة ذكرت فى كثير من السور كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء.
وقال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء، وهذا قول الجمهور كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة، فالله لم يوح إلى امرأة من بنات بنى آدم وحي تشريع اه.
وفى قوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل الأمصار دون البوادي إيماء إلى أن سائر البلدان تتبعهم إذا آمنوا، ولأن أهل البادية أهل جفاء، يرشد إلى ذلك
قوله عليه السلام «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل» .
ثم أتبع ذلك بتأنيهم وتهديدهم على تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلّم فقال:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟) أي أفلم يسر هؤلاء المشركون من كفار قريش ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له، فينظروا فيما وطئوا من البلاد من أوقعنا بهم(13/53)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
من الأمم قبلهم كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم، وما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، ويعتبروا بما حل بهم.
ثم رغّب فى العمل للآخرة فقال:
(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله واتقوا الشرك به وارتكاب الآثام والمعاصي- خير من هذه الدار المشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها.
فإن نعيمها البدني أكمل من نعيم الدنيا، لدوامه وثباته ولخلوه عن المنغّصات والآلام، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة، أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.
ثم ذكر سبحانه تثبيتا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق الحال وانتظار الفرج كما قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون فى تكذيبهم فقال:
الفرج بعد الشدة
[سورة يوسف (12) : الآيات 110 الى 111]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)(13/54)
تفسير المفردات
الظن هنا: إما بمعنى اليقين وإما بمعنى الحسبان والتقدير، والبأس: العقاب، والألباب: العقول واحدها لب، وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإنسان من قواه، والعبرة: الحال التي يتوصل بها من قياس ما ليس بمشاهد بما هو بمشاهد.
الإيضاح
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له فكذبوا بما جاءوهم به، وردوا ما أتوا به من عند ربهم، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم، لانهما كهم فى الكفر وتماديهم فى الطغيان من غير وازع، وظنّت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده لهم النصر عليهم- جاءهم نصرنا.
وهذه سنة الله فى الأمم، يرسل إليهم الرسل بالبينات، ويؤيدهم بالمعجزات، حتى إذا أعرضوا عن الهداية، وعاندوا رسل ربهم، وامتدّت مدة كيدهم وعدوانهم، واشتد البلاء على الرسل واستشعروا بالقنوط من تمادى التكذيب وتراخى النصر- جاءهم نصر الله فجأة، وأخذ المكذبين العذاب بغتة، كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها كما قال: «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .
وفى هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل كما قال فى سورة القمر: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟» وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلّم فى غزوة بدر وما بعدها من الغزوات، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.(13/55)
روى البخاري بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) الآية، هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم- جاءهم نصر الله عند ذلك.
وعن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ وظنوا أنهم قد كذبوا» (مخففة) أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة،
ونحوه عن ابن عباس قال: «يئس الرسل أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبوهم بما جاءوهم به جاءهم نصرنا» ونحوه
«عن ابن مسعود قال «حفظت عن رسول الله فى سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة» اه.
(فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي فنجى الرسل ومن آمن بهم من أقوامهم، لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال فى طهارة النفوس وزكائها- هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم كما قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .
(وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي ولا يمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا فكفروا بالله وكذبوا رسله، وما أتوهم به من عند ربهم.
وقد جرت سنة الله أن يبلّغ الرسل أقوامهم ويقيموا عليهم الحجة ويندروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن المهتدون، ويصرّ المعاندون، فينجى الله الرسل ومن آمن من أقوامهم ويهلك المكذبين.
ولا يخفى ما فى الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم.
(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قص الخبر: حدّث به على أصح الوجوه وأصدقها، من قولهم قص الأثر واقتصه إذا تتبّعه وأحاط به خبرا، أي لقد كان فى قصص يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوى العقول الراجحة والأفكار الثاقبة، لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدلّ عليها أوائلها ومقدماتها، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم فى النظر والاستدلالات، ومن ثم لا يفيدهم النصح.(13/56)
وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف بعد إلقائه فى غيابة الجب، وإعلاء أمره بعد وضعه فى السجن، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس، والتمكين له فى الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية- إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته، وإظهار دينه، فيخرجه من بين أظهركم، ثم يظهره عليكم، ويمكن له فى البلاد، ويؤيده بالجند والرجال، والأتباع والأعوان، وإن مرّت به الشدائد، وأتت دونه الأيام والحوادث.
(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما كان هذا القصص حديثا يختلق ويفترى، لأنه نوع أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار- ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء، فهو دليل ظاهر، وبرهان قاهر، على أنه جاء بطريق الوحى والتنزيل. ومن ثم قال ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب السماوية التي أنزلها الله قبله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور، أي تصديق ما عندهم من الحق فيها، لا كل الذي عندهم، فهو ليس بمصدّق لما عندهم من خرافات فاسدة، وأوهام باطلة، لأنه جاء لمحوها وإزالتها، لا لإثباتها وتصديقها.
(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) من أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وبيان ما يجب له تعالى من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، وفيه قصص الأنبياء مع أقوامهم، لما فيها من عبر وعظات وسائر ما بالعباد إليه حاجة.
وعلى الجملة ففى القرآن تفصيل كل شىء يحتاج إليه فى أمر الدين، وقد أسهب فى موضع الإسهاب، وأوجز حيث يكفى الإيجاز، ففصّل الحق فى العقائد بالحجج والدلائل، وفى الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام، بما به تصلح أمور البشر، وشئون الاجتماع (وَهُدىً) أي وهو هدى لمن تدبّره، وأمعن فى النظر فيه، وتلاه حق تلاوته، فهو مرشد إلى الحق وهاد إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح، فى الدين والدنيا.(13/57)
(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وهو رحمة عامة للمؤمنين الذين تنفّذ فيهم شرائعه فى دينهم ودنياهم.
والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم، مساوين للمؤمنين فى حقوقهم ومعاملاتهم، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم فى الدنيا والآخرة، وأن يحشرنا فى زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه وأن يجعل خواتيمنا خير الخواتيم فى الدنيا والآخرة كما جعل خاتمة يوسف مع أبويه وإخوته كذلك.
إجمال ما جاء فى سورة يوسف
(1) قصص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب.
(2) نهى يعقوب لولده عن قصّه قصصه على إخوته.
(3) تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه فى غيابة الجب.
(4) ادعاؤهم أن الذئب قدأ كله.
(5) عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له.
(6) بيعها إياه فى مصر بثمن بخس لعزيز مصر.
(7) وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه.
(8) مراودة المرأة له عن نفسها وإعداد الوسائل لذلك.
(9) تمنّعه من ذلك إكراما لسيده الذي أكرم مثواه.
(10) قدّها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد بها الفاحشة.
(11) شهادة شاهد من أهلها بما يحلى الحقيقة.
(12) افتضاح أمرها فى المدينة لدى النسوة.
(13) تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها.
(14) إدخاله السجن اتباعا لمشيئتها.(13/58)
(15) تعبيره رؤيا فتيبن دخلا معه السجن (16) رؤيا الملك وطلبه تعبيرها (17) إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف وأنه نعم المعبّر لها (18) طلب الملك إحضاره من السجن واستخلاصه لنفسه (19) توليته رئيسا للحكومة ومهيمنا على ماليتها (20) مجىء إخوة يوسف إليه وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم (21) إرجاع البضاعة التي جاءوا بها.
(22) إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموثق لأبيهم.
(23) طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة.
(24) إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه.
(25) أذان المؤذن أن العير قد سرقوا.
(26) قول الإخوة إن أخاه قد سرق من قبل بعد حجزه عنده.
(27) طلب الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه.
(28) وجود غشاوة على عينى يعقوب من الحزن.
(29) تعريف يوسف بنفسه لإخوته.
(30) حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرا.
(31) طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم.
(32) رفع يوسف أبويه على العرش.
(33) قول يوسف لأبيه هذا تأويل رؤياى من قبل.
(34) دعاؤه بحسن الخاتمة.
(35) فى هذا القصص إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم.
(36) تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم.
(37) لم يرسل الله إلا رجالا وما أرسل ملائكة.
(38) نصر الرسل بعد الاستيئاس.
(39) فى قصص الرسل عبرة لأولى الألباب.(13/59)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
سورة الرعد
هى مدنية وآيها ثلاث وأربعون، نزلت بعد سورة محمد، ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه سبحانه أجمل فى السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية فى قوله:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» ثم فصلها هنا أتم تفصيل فى مواضع منها:
(2) إنه أشار فى سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟» ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر فى سالفتها.
(3) إنه ذكر فى كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وكتب الخزي على الكافرين، والنصر لرسله والمؤمنين، وفى ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتثبيت لقلبه.
(4) جاء فى آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» وفى أول هذه وهو قوله: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .
بسم الله الرّحمن الرّحيم صفات القرآن
[سورة الرعد (13) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)(13/60)
الإيضاح
(المر) قلنا فيما سلف إن هذه الحروف فى أوائل السور حروف تنبيه كألا ونحوها وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال «ألف، لام، ميم، را» كما قلنا إن كل سورة بدئت بهذه الحروف ففيها انتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي آيات هذه السورة آيات القرآن البالغ حد الكمال المستغنى عن الوصف بين الكتب السماوية، الجدير بأن يختص باسم «الكتاب» .
(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) أي وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حق لا شك فيه، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال فكأنه سبحانه بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم فأثبته للقرآن جميعه، فلا تختص به سورة دون أخرى.
وهذا الأسلوب جار على سنن العرب فى تخاطبهم فقد قالت فاطمة الأنمارية وقد سئلت عن بنيها، أىّ بنيك أفضل؟ (ربيعة، بل عمارة، بل قيس، بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها) فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين، أجملت القول وأثبتت لهم الفضل جميعا.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا فى الدنيا والآخرة وقد سلك المسلمون سبيلها فى عصورهم الأولى فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وامتلكوا أكثر المعمور فى ذلك الحين وثلّوا عروش كسرى والروم ودانت لهم الرقاب، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق، وأخذ على يد الظالم لإنصاف المظلوم، فلله دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم(13/61)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
إلى السماكين، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه، وألقوها وراءهم ظهريا فحاق بهم ما كانوا يكسبون، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة، تابعين بعد أن كانوا متبوعين «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» والآية بمعنى قوله: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .
دلائل الوحدانية والقدرة
[سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 4]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
تفسير المفردات
العمد: السواري واحدها عمود كأدم وأديم، والتسخير: التذليل والطاعة، والتدبير:
التصريف للأمور على وجه الحكمة، والتفصيل: التبيين، والآيات: هى الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر، واليقين: العلم الثابت الذي لاشك فيه، والمد:
البسط، والرواسي: الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل واحدها راسية، والأنهار(13/62)
واحدها نهر: وهو المجرى الواسع من الماء، زوجين اثنين: أي ذكر وأنثى، والعرب تسمى الاثنين زوجين والواحد من الذكور زوجا لأنثاه، والأنثى زوجا وزوجة لذكرها، يغشى يغطى، قطع: أي بقاع، متجاورات: أي متقاربات، جنات أي بساتين، صنوان: هى النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها واحدها صنو، وفى الحديث «عم الرجل صنو أبيه» والأكل (بضمتين وبتسكين الثاني) : ما يؤكل والمراد به التمر والحب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السموات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها وأزهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوّع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شىء قدير.
الإيضاح
ذكر سبحانه أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته، بعضها سماوى وبعضها أرضى، وذكر من الأولى جملة أمور:
(1) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي إنه تعالى خلق السموات مرفوعات عن الأرض بغير عمد، بل بأمره وتسخيره، على أبعاد لا يدرك مداها، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها، ولا علاقة من فوقها تمسكها، وقد تقدم هذا بإيضاح فى سورة البقرة.
(2) (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من(13/63)
النظام، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان، وقد سبق تفصيل هذا فى سورتى الأعراف ويونس.
(3) (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وذلل الشمس والقمر وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير فى منازله لوقت معين فالشمس تقطع فلكها فى سنة، والقمر فى شهر لا يختلف جرى كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» وقوله «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» وإيضاح هذا ذكر فى سورتى يونس وهود، وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال:
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إنه تعالى يتصرف فى ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه فهو يميت ويحيى، ويوجد ويعدم، ويغنى ويفقر، وينزل الوحى على من يشاء من عباده، وفى ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شىء بوضع خاص وصفة معينة لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شىء عن تدبير آخر كما هو شأن المخلوقات فى هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضا على أنه تعالى متعال فى ذاته وصفاته وعلمه وقدرته لا يشبه شيئا من مخلوقاته.
(يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة فى حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه ولا تجد معدلا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها، ولا تزال كذلك حتى ينتهى العالم، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها، واختلال لحركاتها: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» .(13/64)
وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد، فالزارع يحرث أرضه ويلقى فيها الحب ثم يسقيها ويضع فيها السّماد ويوإلى سقيها حتى تؤتى أكلها، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة باء صاحب الزرع بالخسران فلم يحصل على شىء أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنّصب الذي فعله.
ثم أبان سبحانه أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة، جاءا لحكمة اقتضتهما وهى الإيقان بالبعث لفضل القضاء ومجازاة كل عامل بما عمل: «يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه» فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم، وإلى ذلك أشار بقوله:
(لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي رجاء أن تتحققوا أن من قدر على رفع السموات بغير عمد ودبر الأمر بإحكام ونظام- قادر على البعث والنشور وإحياء الموتى من القبور لفصل القضاء ثم ثواب كل عامل على ما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر فإما سعادة لا شقاء بعدها، وإما نكال وعذاب تتبدل من هوله الجلود «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها» وخلاصة هذه العبرة- إنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب فى الجو بلا عمد ودبّر الأمور بغاية الإحكام والدقة ولم يشغله شأن عن شأن- ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح إلى الأجساد ويعيد العالم إلى حياة أخرى حياة استقرار وبقاء لافناء بعدها، وإذا أيقنتم بذلك ولّيتم معرضين عن عبادة الأصنام والأوثان، وأخلصتم العبادة للواحد الديان، وائتمرتم بوعده ووعيده، وصدقتم برسله، وبادرتم إلى اتباع أوامره وتركتم ما نهى عنه، ففزتم بسعادة الدارين.
وبعد أن ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحدانيته وكمال قدرته أردفها بالأدلة الأرضية فقال:(13/65)
(1) (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي جعلها متسعة ممتدة فى الطول والعرض، لتثبت عليها الأقدام، ويتقلب عليها الحيوان، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها، وبما فى باطنها من معادن جامدة وسائلة، ويسيرون فى أكنافها يبتعون رزق ربهم منها.
ولا شك أن الأرض لعظم سطحها هى فى رأى العين كذلك، وهذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك ولم يبق لديهم فيها ريب.
(2) (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي وأرساها بجبال راسيات شامخات لا تنتقل ولا تتحرك حتى لا تميد وتضطرب.
(3) (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا جارية لمنافع الإنسان والحيوان، فيسقى الإنسان ما جعل الله فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال ويجعلها لنفسه طعاما وفاكهة، ويكون منها مادة حياته فى طعامه وشرابه وغذائه.
(4) (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى حين تكوّنها، فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر والزرع لا يولدان التمر والحب إلا من اثنين ذكر وأنثى، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث فى شجرة واحدة كأغلب الأشجار، وقد يكون عضو التذكير فى شجرة وعضو التأنيث فى شجرة أخرى كالنخل، وما كان العضوان فيه فى شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن، وإما أن يكون كل منهما فى زهرة كالقرع مثلا.
(5) (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس النهار ظلمة الليل، فيصير الجو مظلما بعد أن كان مضيئا، فكأنه وضع عليه لباسا من الظلمة، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار فيصير الجو مضيئا، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» وقال: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» .(13/66)
وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد رأى العين فى كل صباح ومساء وفى كل حين ووقت، ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به وعقل يهتدى به إلى وجه الصواب وينتقل من النظر فى الأسباب إلى مسبباتها فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة- لدلائل وحججا لمن يتفكر فيها ويعتبر فيعلم أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه، ولا إعادة من فنى منهم، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه، ولا ينبغى أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبى أو غير أولئك ممن سلب النفع والضر، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» .
وقد روى «تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله» .
(6) (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي وفى الأرض بقاع متجاورات متدانيات، يقرب بعضها من بعض، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها، فمن سبخة لا تنبت شيئا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات، ومن صالحة للزرع دون الشجر، إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع، إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك، ومنها الرّخوة التي لا تكاد تتماسك وهى تجاور الصّلبة التي لا تفتّتها المعاول وأدوات. التدمير من المفرقعات (الديناميت والقنابل) وكلها من صنع الله وعظيم تدبيره فى خلقه.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أي وفيها بساتين من أشجار الكرم.
(وَزَرْعٌ) أي وفيها زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون فذاء للإنسان والحيوان.(13/67)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
(وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي وفيها نخيل صنوان يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوان أي متفرقات مختلفة الأصول.
(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي يسقى كل ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل بماء واحد لا اختلاف فى طبعه، ومع وجود أسباب التشابه نفضّل بمحض القدرة بعضا منها على بعض فى الثمرات شكلا وقدرا، ورائحة وطعما، وحلاوة وحموضة.
ثم بين أن مثل هذا لا يفكر فيه إلا من أوتى العقل الذي يفكر فى المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فيما فصّل من الأحوال السالفة لآيات باهرة لقوم يعملون على قضية العقل، فمن ير خروج الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح فى تلك البقاع المتلاصقة، مع أنها تسقى بماء واحد وتتشابه وسائل نموها- يجزم حتما بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لا يعجزه شىء، وكذلك يعتقد بأن من قدر على إنشاء ذلك، فهو قادر على إعادة ما بدأه أول مرة، بل هو أهون منه لدى النظر والاعتبار.
إنكار المشركين للبعث والنبوة
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)(13/68)
تفسير المفردات
العجب: تغير النفس حين رؤية ما يستبعد فى مجرى العادة، والأغلال: واحدها غلّ، وهو طوق من الحديد طرفاه فى اليدين ويحيط بالعنق، والمثلات (بفتح فضم) واحدها مثلة (بفتح فضم) كسرة وهى العقوبة التي تترك فى المعاقب أثرا قبيحا كصلم أذن أو جدع أنف أو سمل عين، والغفر: الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، والمراد بالآية هنا الآيات الحسية كقلب عصا موسى حية وناقة صالح، والإنذار:
التخويف، والهادي: القائد الذي يقود الناس إلى الخير كالأنبياء والحكماء والمجتهدين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك، من خلق السموات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر فى ذلك الملكوت العظيم- ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السموات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان فى الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته فى خلق جديد كما قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» .(13/69)
الإيضاح
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وإن تعجب من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم:
(أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي أئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بداءة ذى بدء وتصويرهم فى الأرحام وتدبير شئونهم حالا بعد حال.
وقد تكرر هذا الاستفهام فى أحد عشر موضعا فى تسع سور من القرآن:
فى الرعد، والإسراء، والمؤمنون، والنحل، والعنكبوت، والسجدة، والصافات، والواقعة، والنازعات! وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستبعاد.
ثم وصف أولئك المنكرين للبعث فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي أولئك الذين جحدوا قدرة ربهم وكذبوا رسوله على ما عاينوا من آياته الكبرى التي ترشدهم إلى الإيمان وتهديهم سبيل الرشاد لو كانوا يبصرون- هم الذين تمادوا فى عنادهم وكفرهم، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له لأن الإله لا يكون عاجزا.
(وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي وأولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر فى الحق واتباع طريق الهدى والبعد عن الهوى كما قال:
كيف الرشاد وقد خلّفت فى نفر ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقد يكون المعنى- إنهم يوم القيامة عند العرض للحساب توضع الأغلال فى أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل، ويؤيده قوله تعالى: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» .
(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأولئك هم الماكثون فى النار دار(13/70)
الذل والهوان لا يتحولون عنها ولا يبرحونها كفاء ما سولت لهم أنفسهم من سىء الأعمال وما اجترحوا من الموبقات والشرور والآثام: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» .
وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلّم فى إنكار عذاب يوم القيامة ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له جئنا به وطلبوا منه إنزاله، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) أي ويستعجلونك بالعقوبة التي هددوا بها إذا هم أصروا على الكفر استهزاء وتكذيبا كما حكى الله عنهم فى قوله: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وفى قوله «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» وفى قوله «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» .
(قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل الثواب والسلامة من العقوبة، وكان صلى الله عليه وسلّم يعدهم على الإيمان بالثواب فى الآخرة وحصول النصر والظفر فى الدنيا.
(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين، فمن أمة مسخت قردة، وأخرى أهلكت بالرجفة، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده فتارك فضيحته بها فى يوم القيامة، ولولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» .
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يجترح السيئات وهو متماد فى غوايته سادر(13/71)
فى آثامه، وقد يعجل له قسطا منه فى الدنيا ويكون جزاء له على ما سولت له نفسه كما يشاهد لدى المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف ومرض مزمن وفقر مدقع وذل وهوان بين الناس، وفى المقامرين من خراب عاجل وإفلاس فى المال والذل بعد العز، وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين فيستوفى قطّه هناك نارا تكوى بها الجباه والجنوب، وتبدل الجلود غير الجلود، وقد قرن المغفرة بالعقاب فى مواضع كثيرة من الكتاب الكريم ليعتدل الرجاء والخوف كقوله «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» وقوله «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء.
روى ابن أبى حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل واحد» .
وبعد أن ذكر طعنهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم لقوله بالحشر والمعاد، ثم طعنهم فيه لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال ذكر أنهم طعنوا فيه، لأنه لم يأت لهم بمعجزة مبيّنة كما فعل الرسل من قبله فقال:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا تعنتا وجحودا: هلا يأتينا بآية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، فيجعل لنا الصفا ذهبا ويزيح عنا الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا، وقد طلبوا ذلك ظنا منهم أن القرآن كتاب كسائر الكتب لا يدخل فى باب المعجزات التي أتى بها الرسل السالفون.
وقد رد الله عليهم الشبهة بقوله فى آية أخرى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» أي إن سنتنا أن الآيات إن لم يؤمن بها من طلبوها أهلكناهم بذنوبهم، ولم نشأ أن يحل بكم عذاب الاستئصال.(13/72)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلّم راغبا فى إجابة مقترحاتهم حبا فى إيمانهم بيّن له وظيفته التي أرسل لأجلها فقال:
(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي إن مهمتك التي بعثت لها هى الإنذار من سوء مغبّة ما نهى الله عنه كدأب من قبلك من الرسل، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم «ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدى من يشاء» ، «فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» .
(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبل الخير، فطره الله على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة فى كل زمان كى لا يترك الناس سدى. وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل، ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلّم «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» .
الله عليم بكل شىء
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)(13/73)
تفسير المفردات
الغيض: النقصان يقال غاض الماء وغضته كما قال «وَغِيضَ الْماءُ» بمقدار، أي بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، والغائب: ما غاب عن الحس، والشاهد:
الحاضر المشاهد، الكبير: العظيم الشأن، والمتعالي: المستعلى على كل شىء، وأسر الشيء: أخفاه فى نفسه، والمستخفى: المبالغ فى الاختفاء، والسارب: الظاهر، من قولهم سرب: إذا ذهب فى سربه (طريقه) معقبات، أي ملائكة تعتقب فى حفظه وكلاءته واحدها معقبة، من عقّبه: أي جاء عقبه، من بين يديه، أي قدّامه، ومن خلفه، أي من ورائه، من أمر الله، أي بأمره وإعانته، وال، أي ناصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتّها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتنائر فى بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجرى بها الماء وتدفن فى بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، والذي يعلم الأجنّة فى بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى:
الإيضاح
(اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، طويل العمر أو قصيره كما قال «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» ، وقال «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» .(13/74)
(وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي وما تنقصه الأرحام وما تزداده من عدد فى الولد، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ومن جسده فقد يكون تامّا وقد يكون ناقص الخلق وهو المخدج، ومن مدة الحمل فقد تكون أقل من تسعة أشهر وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا، فقد دل الإحصاء والبحث الذي عمل فى مستشفيات لندن على أن الجنين لا يستقر فى البطن وهو حى أكثر من 305 أيام، وفى مستشفيات برلين على أنه لا يستقر أكثر من 308 ومن ثم جرت المحاكم الشرعية الآن على أن عدة المطلقة لا تكون أكثر من سنة بيضاء أي سنة قمرية أي 354 يوما، وهو رأى فى مذهب مالك.
(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي ولكل شىء ميقات معيّن لا يعدوه زيادة ولا نقصا «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» .
وفى معنى الآية قوله تعالى «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»
وفى الحديث «إن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلّم بعثت إليه رسولا: إن ابنا لها فى الموت، وأنها تحب أن تحضره، فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شىء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» .
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها، فقد أثبت العلم حديثا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة بل ترى بالمنظار المعظم (التليسكوب) ومنها الجراثيم (المكروبات) التي تولد كثيرا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها أو يتعذر فى كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري، أو تشفى بعد حين كجراثيم الجدرىّ و (الدفتيريا) والحصبة ونحوها وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» ، وما تشاهدونه وترونه بأعينكم «وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا فى كتاب مبين» .
(الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) أي هو العظيم الشأن الذي يجلّ عما وصفه به الخلق من صفات(13/75)
المخلوقين، المستعلى على كل شىء بقدرته وجبروته وهو وحده الذي له التصرف فى ملكوته.
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه، والآيات التي اقترحوها، والعذاب الذي استعجلوه، وإنما يؤخر ذلك لمصلحة لا يدركها البشر فيخفى عليه سرها.
وفى معنى الآية قوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» .
ثم بين أن علمه تعالى شامل لجميع الأشياء فقال:
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفّظ به، أو جهر به وأظهره فهو سواء عند الله يسمعه ولا يخفى عليه شىء منه كما قال «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» وقال «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ»
قالت عائشة: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكى زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا فى جنب البيت وإنه ليخفى علىّ بعض كلامها فأنزل الله «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .
(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مختف فى عقر داره فى ظلام الليل.
(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش فى بياض النهار، فكلاهما عند الله سواء، وروى عن ابن عباس فى تفسير ذلك: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برىء من الإثم.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه:
حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضارّ ويراقبون أحواله، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب(13/76)
السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا، حافظان وكاتبان كما
جاء فى الحديث الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» .
وإذا علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصى عليه أعماله كان حذرا من وقوعه فى المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحى منه من البشر، وهو أيضا إذا علم أن كل عمل له فى كتاب مدّخر يكون ذلك رادعا له داعيا إلى تركه.
وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئا إلا تحصيه، فقد أصبحت المياه والكهرباء فى المدن تعدّ بالآلات (العدادات) فالمياه التي يشربونها، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعدّ كما يعدّ الدرهم والدينار، وكذلك هناك آلات تحصى المسافات التي تقطعها السيارات فى سيرها، وأخرى تحصى تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها.
وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبا عنا كان فى ذلك تصديق أيّما تصديق لنظريات الدين، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرّون إلا بما يرونه رأى العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم، وبهذا يصدق قول القائل (الدين والعقل فى الإسلام صنوان لا يفترقان، وصديقان لا يختلفان) .
(يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي هم يحفظونه بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته(13/77)
حكمته، فجعل الجفن سببا لحفظ العين مما يدخل فيها، فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابا، فجعل الملائكة أسبابا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح.
وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كراما كاتبين وإن كنا لا ندرى ما قلمهم وما مدادهم؟
وكيف كتابتهم؟ وأين محلهم؟ وما حكمة ذلك؟ مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كاف فى الثواب والعقاب عليها، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب.
ولمفسرى السلف أقوال فى الآية. قال ابن عباس: هم الملائكة تعقّب بالليل، تكتب على ابن آدم، ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وذلك الحفظ من أمر الله وبإذن الله، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر الله وبما قضاه عليه إلا بأمره وإذنه، فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه. وقال علىّ: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى فى بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق، فإذا جاء القدر خلوّا بينه وبين القدر اه.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض نظم المجتمع، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم بالأفراد.
روى أن أبا بكر قال: قال صلى الله عليه وسلّم «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»
ويرشد إلى صحة هذا قوله تعالى:
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وقد بسطنا هذا فيما سلف فى مواضع متعددة، وأشار إليه المحقق المؤرخ ابن خلدون فى مقدمة التاريخ وعقد له بابا جعل عنوانه [فصل فى أن الظلم مؤذن بخراب العمران] واسترسل فيه على(13/78)
المنهج المعروف عنه، وضرب له الأمثلة بما حدث فى كثير من الأمم قبل الإسلام وبعده، وبين أن الظلم قد ثلّ عروشها، وأذل أهلها، وجعلها طعمة للآكلين، ومثلا للآخرين.
وفى حال الأمم الإسلامية اليوم وقد اجتثت من أطرافها وتحكم فيها أهل الغرب وأذلوها بعد أن استعمروها، عبرة لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد، والقرآن شاهد على صدق هذه النظرية، كما قال: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» وقوله «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بخيراتها، ما ظهر منها وما بطن.
(وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا فى الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ولا يردّ ما قدّره لهم.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة، وطلب العقاب قبل الثواب، فإنه متى أراد الله ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له.
والخلاصة- إنه ليس من الحكمة فى شىء أن يستعجلوا ذلك.
(وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي ومالهم من دون الله سبحانه من يلى أمورهم، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلا عن دفعه عن غيرها.
والله در الأعرابى الذي رأى صنما يبول عليه الثعلب فثارت به حميّته فأمسكه وكسره إربا إربا وقال:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» .(13/79)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
نعم الله على عباده
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
تفسير المفردات
البرق: ما يرى من النور لا معا خلال السحاب، والرعد: هو الصوت المسموع خلال السحاب. وسببهما على ما بيّن فى العلوم الطبيعية- أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفى الكهربائية، حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوىّ شديد، فذلك النور هو البرق. والصوت هو الرعد الذي نشأ من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها، والصواعق: واحدها صاعقة. وسببها أن السحب قد تمتلىء بكهربائية، والأرض بكهربائية أخرى والهواء يفصل بينهما، فإذا قاربت السحب وجه الأرض تنقص الشرارة الكهربائية منها فتنزل صاعقة تهلك الحرث والنسل، والمجادلة: من الجدل وهو شدة الخصومة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، كأن المجادلين يفتل كل منهما الآخر عن رأيه، والمحال: أي أفتله المماحلة والمكايدة لأعدائه، يقال محل فلان بفلان إذا كايده وعرّضه للهلاك، وتمحل إذا تكلف فى استعمال الحيلة، فى ضلال أي ضياع وخسار، والظلال: واحدها ظل وهو(13/80)
الخيال الذي يظهر للجرم، والغدو: واحدها غداة كقنىّ وقناة وهى أول النهار، والآصال، واحدها أصيل: ما بين العصر والمغرب.
المعنى الجملي
بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد- أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.
روى «أن عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله: أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة (الأنصار من الأوس والخزرج) ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستلّ سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا فى أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول: (غدّة كغدّة البكر وموت فى بيت سلولية، حتى مات) وأنزل الله فى مثل ذلك «ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله» .
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي إنه سبحانه يسخّر البرق فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن فى جرينه التمر والزبيب للتجفيف، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقى زرعه، وهكذا حال كل شىء فى الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه فى أوانه، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه.
(وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويوجد السحب منشأة جديدة ممتلئة ماء فتكون ثقيلة قريبة من الأرض.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي إن فى صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه(13/81)
عن الشريك والعجز، كما يدل صوت المسبّح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير.
ونحو الآية قوله سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .
وأخرج ابن مردويه عن أبى هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا هبّت الريح أو سمع صوت الرعد تغيّر لونه حتى يعرف ذلك فى وجهه، ثم يقول للرعد: سبحان من سبّحت له، وللريح: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا» .
(وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي ويسبح الملائكة الكرام من هيبته وجلاله، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد.
(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) إصابته بها فيهلكه.
(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ) أي يجادلون فى شأنه تعالى، وفيما وصفه به الرسول الكريم، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب.
وفى هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم فى اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية- سلّاه بما ذكر كأنه قال له: إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون فى الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.(13/82)
(وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي وهو سبحانه لا يغالب، فهو شديد البطش والكيد لأعدائه، يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون، وهو القادر على أن ينزل عليهم عذابا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه ولا قوة على ردّه، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقتضيه الحكمة كما صح
فى الحديث: «إن ربك لا يهمل ولكن يمهل» .
ومثل الآية قوله: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» وقوله: «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» .
قال: ابن جرير فى تفسير ذلك: والله شديد فى عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى فى كفره.
(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أي له تعالى الدعاء والتضرع الواقع حيث ينبغى أن يكون، والمجاب حين وقوعه، أي إن إجابة ذلك له تعالى دون غيره.
وفى هذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بحلول محاله بهم، وتهديدهم بإجابة دعائه عليه السلام إن دعا عليهم. وقيل دعوة الحق كلمة التوحيد: أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له، وإنه شرعها وأمر بها.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون وبتضرعون إليهم ويتجاوزون الله لا يجيبونهم بشىء مما يريدونه من نفع أو ضر إلا كما يجيب الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا شعور له ببسط الكفين ولا قبضهما، فكيف يجيب دعاءه، وهكذا أصنامهم لا تحير جوابا.
وخلاصة ذلك- إنه شبه آلهتهم حين استكفوا بهم ما أهمهم، وهم لا يشعرون بشىء فضلا عن أن يجيبوا أحد بماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه هلمّ أقبل إلىّ وهو لا يستطيع ردا ولا جوابا.(13/83)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي فى ضياع وخسار، فإن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم.
ثم بين عظيم قدرته تعالى فقال:
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي وينقاد لعظمته كل شىء، فيخضع له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا فى الشدة والرخاء، والكفار كرها فى حال الشدة كما جاء فى آيات كثيرة كقوله: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» وقوله: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» وقوله: «لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» .
(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي وتسجد أيضا ظلال من له ظل منهما بالغدوات والعشايا تبعا لانقياد الأجسام التي تشرق عليها الشمس، ثم يصرفه الله تعالى بالمد والتقلص، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص فيهما، أو المراد بهما الدوام كما جاء ذلك كثيرا فى استعمالاتهم.
إعادة الكلام فى الوحدانية
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)(13/84)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن كل من فى السموات والأرض خاضع لقدرته، منقاد لإرادته بالغدو والآصال، وفى كل وقت وحين، طوعا أو كرها بحسب ما يريد- أعاد الكلام مع المشركين ليلزمهم الحجة ويقنعهم بالدليل ويضيق عليهم باب الحوار حتى لا يستطيعوا الفرار من الاعتراف بوحدانيته وشمول قدرته وإرادته وأنه لا معبود سواه ولا رب غيره.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين اتخذوا من دونه أولياء: من رب هذه الأجرام العلوية والسفلية التي تبهر العقول بجميل صنعها، وكامل ترتيبها ووضعها؟.
(قُلِ اللَّهُ) أي قل لهم: الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو الله، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك، للاشارة إلى أنه هو وهم سواء فى ذلك الجواب الذي لا محيص منه، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» .
(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟) أي قل لهم بعد أن ثبت هذا لدينكم: فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات هى جمادات، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا؟ فكيف تنفع غيرها أو تضر؟ وإذا لم يكن لها القدرة على شىء من ذلك فعبادتها محض السفه الذي لا يرضاه لنفسه رشيد، يزن أعماله بميزان الحكمة والمصلحة.
وخلاصة ذلك- أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم، تتخذون من دونه أولياء هم غاية فى العجز؟ وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا فى الاعتراف بالوحدانية وهو علمكم بذلك- سببا فى إشراككم به سواه من أضعف خلقه، وهو بمعنى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ»(13/85)
ثم ضرب مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعترفون بأن لارب غيره ولا معبود سواه، فقال:
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل لهم مصوّرا سخيف آرائهم مفنّدا قبيح معتقداتهم: هل يستوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدى لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل والبصير الذي يهدى الأعمى لسلوك الطريق؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتّبعه، ويعرف الهدى فيسلكه، لا يستوى وإياكم؟ وأنتم لا تعرفون حقا، ولا تبصرون رشدا.
ثم ضرب مثلا للكفر والإيمان بقوله:
(أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي بل هل تستوى الظلمات التي لا ترى فيها الطريق فتسلك، والنور الذي يبصر به الأشياء، ويجلو ضوؤه الظلام- لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان، فكذلك الكفر بالله صاحبه منه فى حيرة، يضرب أبدا فى غمرة لا يهتدى إلى حقيقة ولا يصل إلى صواب، والإيمان بالله صاحبه منه فى ضياء، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه، ويعاقبه على إساءته، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ويكلؤه بعنايته فى كل وقت وحين، فهو يفوّض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب، وتعقدت فى نظره مدلهمّات الحوادث.
(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي بل أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون الله، خلقا كخلقه، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق الله، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك- أم إنما بكم الجهل والبعد عن الصواب، إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل، أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع، من الجهل بحقيقة المعبود، ومن يجب له التذلل والخضوع، والإنابة والزلفى والإخبات إليه، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضرّه، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت لها فقال:(13/86)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
(قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي قل مبينا لهم وجه الحق:
الله خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شىء، وهو الفرد الذي لا ثانى له، الغالب على كل شىء سواه، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع؟.
[سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
تفسير المفردات
الأودية: واحدها واد، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء والفرجة بين الجبلين وقد يراد به الماء الجاري فيه، بقدرها: أي بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرا وكبرا، واحتمل: أي حمل، والزبد: ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالجب، وما يعلو القدر عند غليانها، والرابى: العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه، والجفاء: ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه.
المعنى الجملي
بعد أن ضرب الله مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر- ضرب مثلين للحق فى ثباته وبقائه، وللباطل فى اضمحلاله وفنائه(13/87)
ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعى تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم، والعقل الراجع، والفكر الثاقب.
الإيضاح
(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أنزل من السحاب مطرا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها فى الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا مرتفعا فوقه طافيا عليه- وهذا هو المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومن الذي يطرحه الناس فى النار من ذهب أو فضة وكذلك من سائر الفلزّات كالحديد والنحاس والرّصاص- زبد راب كما يطفو على الماء فى الأودية زبد مثله، ويتّخذ من الذهب والفضة حلىّ، ومن الحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك متاع وهو ما يتمتع به الناس كالأوانى والقدور وغيرها من آلات الحرث والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال، وهذا هو المثل الثاني.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك فى النار بل يذهب ويضمحل، فالباطل لاثبات له ولا دوام أمام الحق.
ثم فصل هذا بقوله.
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي فأما الزبد الذي يعلو السيل فيذهب فى جانبى الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شىء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة فيمكث فى الأرض، فالماء نشر به ونسقى به الأرض فينبت(13/88)
جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان، والذهب والفضة نستعملها فى الحلي وصكّ النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها فى متاعنا من الحرث والحصد وفى المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
وخلاصة المثلين- أنه تعالى مثل نزول الحق وهو القرآن الكريم من حضرة القدس، على القلوب الخالية منه، المتفاوتة الاستعداد فى ملاحظته وحفظه، وفى استذكاره وتلاوته، وهو وسيلة الحياة الروحية والفضائل النفسية والآداب المرضية- بماء نزل من السماء فى أودية قاحلة لم يكن لها سابق عهد به، وسال بمقدار اقتضت الحكمة أن يكون نافعا فى إحياء الأرض وما عليها، جالبا لسعادة الإنسان والحيوان، وكذلك جعله حلية تتحلى بها النفوس، وتصل بها إلى السعادة الأبدية، ومتاعا يتمتع به فى المعاش والمعاد، ومثله بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات، وتبقى منتفعا بها ردحا طويلا من الزمن.
ومثّل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لفقد استعدادهم لعمل الخير بما ران على قلوبهم من شرور المعاصي واجتراح الآثام- بالزبد الرابى الذي يطفو على الماء، أو يخرج من خبث الحديد والنحاس والفضة والذهب ونحوها ويضمحل سريعا ويزول.
وقال الزجاج: مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شىء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر، لأنها كلها تبقى منتفعا بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به اه.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) أي ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر- نضرب لهم الأمثال فى كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا(13/89)
بين الناس: «كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» .
وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ- فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .
وروى أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها- فذلك مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار فتغلبونى فتقتحمون فيها» .
وبعد أن بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل فى الحال والمآل وأتم البيان، شرع يبين حال أهلهما مآلا ترغيبا فيهما وترهيبا، وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير وتنفيرا عن سلوك طرق الباطل والشر فقال:
(1) (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه- المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنّصب، الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال.
والآية بمعنى قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وقوله: «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» .
(ب) (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ،(13/90)
أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)
أي والذين لم يطيعوا الله ولم يمتثلوا أوامره ولم ينتهوا عما نهى عنه لهم ألوان وأنواع من العذاب منها:
(1) إنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما فى الأرض جميعا ومثله معه فدية لأنفسهم لفعلوا، فإن المحبوب أولا لكل إنسان هوذاته، وما سواها فيحبّ لكونه وسيلة إلى مصالحها، فإذا كان مالكا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه.
وفى هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم فى ذلك اليوم، ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر.
(2) سوء الحساب، فيناقشون على الجليل والحقير،
وفى الحديث «من نوقش الحساب عذب»
ذاك أن كفرهم أحبط أعمالهم، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرئ الغواية والضلالة، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون عما يقربهم إلى الله زلفى فباءوا بالخسران والهوان والنكال.
(3) إن مأواهم جهنم وبئس المسكن مسكنهم يوم القيامة، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم وينيلهم كرامته ورضوانه، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا فى لذاتهم فحقت عليهم كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) .
ونزل فى حمزة رضى الله عنه وأبى جهل كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله تعالى:
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي لا يستوى من يعلم أن الذي أنزله الله عليك من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء. ومن لا يعلم فهو أعمى، لا يهتدى إلى خير يفهمه، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه، فيبقى حائرا فى ظلمات الجهل وغياهب الضلالة.
قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله اه.(13/91)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها، ويصل إلى لبّها وسرها، إلا أولوا العقول السليمة، والأفكار الرجيحة.
الجامع لصفات الخير كتبت له حسنى العقبى
[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
تفسير المفردات
يدرءون: أي يدفعون، والعدن: الإقامة، يقال عدن بمكان كذا: إذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر، والدار: هى دار الآخرة.
المعنى الجملي
بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار فى سبل الضلالة لا يلوى على شىء ولا يقف لدى غاية- بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحى الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة فى الدنيا والآخرة(13/92)
الإيضاح
(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) أي الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين العباد، وشهدت فطرهم فى هذه الحياة بصحته، وأنزل عليهم فى الكتاب إيجابه.
قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق فى بضع وعشرين موضعا من القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه.
(وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) أي الميثاق الذي وثقوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل،
وفى الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدّث كذب» .
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى، ويحسنون إلى المحاويج وذوى الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة،
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سره أن يبسط له فى رزقه، وأن ينسأ له فى أجله فليصل رحمه»
وإنساء الأجل: تأخيره، وذلك بالبركة له فيه فكأنه قد زاد.
ويدخل فى ذلك جميع حقوق الله وحقوق عباده كالإيمان بالكتب والرسل، ووصل قرابة المؤمنين بسبب الإيمان كالإحسان إليهم، ونصرتهم، والشفقة عليهم، وإفشاء السلام، وعيادة المرضى، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقة فى السفر إلى غير ذلك.
أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن البر والصلة ليخفّفان سوء الحساب يوم القيامة ثم تلا: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» .(13/93)
(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الخشية: خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه، ومن ثم خص الله بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته فى قوله: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» والمراد أنهم يخشون ربهم ويخافونه خوف مهابة وإجلال.
(وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي ويحذرون مناقشته إياهم الحساب، وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم، فهم لرهبتهم جادون فى طاعته، محافظون على اتباع أوامره وترك نواهيه.
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الصبر: حبس النفس عن نيل ما تحب، أي والذين صبروا على ما تكرهه النفس ويثقل عليها من فعل الطاعات وترك الشهوات، طلبا لرضا ربهم من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا.
(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدّوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية لله، مع تمام أركانها وهيئآتها احتسابا لوجهه.
(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي وأنفقوا بعض ما رزقناهم سرا فيما بينهم وبين ربهم، وعلانية بحيث يراهم الناس، سواء كان الإنفاق واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء، أم مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمحاويج من الأجانب.
(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان فهو كقوله: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» ومن ثم قال ابن عباس:
أي يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم.
(أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي أولئك الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية فى الشرف والكمال- هم الذين لهم العقبى الحسنة فى الدار الآخرة.
ثم بين هذه العقبى فقال:(13/94)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي تلك العقبى هى جنات إقامة، يخلّدون فيها لا يخرجون منها أبدا.
ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين فقال:
(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحا لتقربهم أعينهم، ويزدادوا سرورا برؤيتهم، حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم فى الدنيا فيشكرون الله على الخلاص منها.
وفى الآية إيماء إلى أنه فى ذلك اليوم لا تجدى الأنساب إذا لم يسعفها العمل الصالح، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .
وفى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلّم وهو فى مرض موته قال لفاطمة: «يا فاطمة بنت محمد، سلينى من مالى ما شئت، لا أغنى عنك من الله شيئا» .
ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم فقال:
(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهنا للتسليم عليهم، والتهنئة بدخول الجنة، والإقامة فى دار السلام، فى جوار الصدّيقين والأنبياء والرسل الكرام.
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) أي قائلين لهم: أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم، بما احتملتم من مشاقّ الصبر ومتاعبه والآلام التي لا قيتموها فى دار الحياة الدنيا.
(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة.
أخرج ابن جرير «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ، وكذا كان يفعل «أبو بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم» .(13/95)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
[سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أوصاف المتقين، وما أعدّ لهم عنده فى دار الكرامة، بما كان لهم من كريم الصفات وفاضل الأخلاق- بين حال الأشقياء وما ينتظرهم من العذاب والنكال، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب على سنة القرآن الدائبة فى مثل هذا «نبّى عبادى أنّى أنا الغفور الرّحيم. وأنّ عذابى هو العذاب الأليم» .
الإيضاح
وصف سبحانه الأشقياء بصفات هى السبب فى خسرانهم:
(1) (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده بما أقام عليه من الأدلة العقلية كالتوحيد والقدرة والإرادة والإيمان بالأنبياء والوحى ونحوها.
ونقضه إما بألا ينظروا فيه فلا يمكنهم العمل بموجبه، وإما بأن ينظروا فيه ويعلموا صحته ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته.
وقوله: من بعد ميثاقه أي من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته.
(2) (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاءوا بالحق، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وقطعوا الرحم وكانوا حربا على المؤمنين وعونا للكافرين، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين كما
جاء فى الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»
وجاء أيضا «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى باقى الأعضاء بالسهر والحمى» .(13/96)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
(3) (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بظلمهم لأنفسهم وظلمهم لغيرهم بابتزاز أموالهم واغتصابها بلا حق، وتهييج الفتن بين المسلمين وإثارة الحرب عليهم، وإظهار العدوان لهم.
ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسّوا به أنفسهم فقال:
(أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي أولئك الذين اتصفوا بهذه المخازي وسىء الصفات، لهم بسبب ذلك الطرد من رحمته ورضوانه، والبعد من خيرى الدنيا والآخرة.
(وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم سوء العاقبة وهو عذاب جهنم، جزاء وفاقا لما اجترحوه من السيئات، وأتوا به من الشرور والآثام.
يبسط الله الرزق لبعض عباده ويقدر على آخرين لحكمة هو بها عليم
[سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
تفسير المفردات
يقدر: يضيّق كقوله «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» أي ضيّق، والمراد أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شىء، متاع: أي متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء، وأناب:
أي رجع عن العناد، وأقبل على الحق، وتطمئن: أي تسكن وتخشع، وطوبى لهم:
أي لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور، والمآب: المرجع والمنقلب.(13/97)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقرّ بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم فهو ملعون فى الدنيا ومعذب فى الآخرة- بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيّق على المؤمن زيادة فى أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر فى القرآن تردادها وهى طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
الإيضاح
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق فى جمع المال، وله من الحيلة فى الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره، ولا علاقة لهذا بإيمان وكفر ولا صلاح ومعصية.
(وَيَقْدِرُ) على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة فى كسبه، وليس بالحوّل القلّب فى استنباط أسبابه ووسائله وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البرّ والفاجر كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء.
ثم ذكر أن مشركى مكة بطروا بغناهم فقال:
(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق ببسط الرزق فى الحياة الدنيا، وعدّوه أكبر متاع لهم وأعظم حظوة عند الناس.
ثم بين لهم خطأهم فقال:
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي وما نعيم الدنيا إذا قيس على نعيم(13/98)
الآخرة إلا نزر يسير سريع الزوال فهو كعجالة الراكب وزاد الراعي، فلا حق لهم فى البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها، وانتفعوا به من خيراتها، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال.
أخرج الترمذي عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما الدنيا فى الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليمّ فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة»
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حصير فقام وقد أثّر فى جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال مالى وللدنيا، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» .
ولما أبان أنهم قد انخدعوا بالسراب، واكتفوا بالحباب، ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله صلى الله عليه وسلّم الآيات فقال:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا من أهل مكة كعبد الله بن أبىّ وأصحابه، هلا أنزل على محمد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين كسقوط السماء عليهم كسفا، أو تحويل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابراتهم قد ادّعوا أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان أو التي لا تقبل شكا ولا جدلا.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له فى هداية ولا ضلال بل الأمر كله بيده.
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي إنه لا فائدة لكم فى نزول الآيات إن لم يرد الله هدايتكم فلا تشغلوا أنفسكم بها، ولكن تضرّعوا إليه واطلبوا منه الهداية، فإن الضلال والهداية بيده وإليه مقاليدها، وادعوه أن يهيئ(13/99)
لكم من أمره رشدا، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه، لتظفروا بالحسنى فى الدارين.
والخلاصة- أن فى القرآن وحده غنى عن كل آية، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها وكان لكم فيه مرشدا أيّما مرشد، ولكن الله جعلكم سادرين فى الضلالة لا تلوون على شىء، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح، لسوء استعدادكم، وكثرة لجاجكم وعنادكم، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدى ولو جاءته كل آية؟
كما قال: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» وقال: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» .
أما من أقبلوا إلى الله وتأملوا فى دلائله الواضحة، وسلكوا طرقه المعبدة، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم، وهم لا بد واصلون إلى الفوز بالحسنى، وحاصلون على السعادة فى الدنيا والآخرة، وهم من أشار إليهم بقوله:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أي هم الذين آمنوا وركنت قلوبهم إلى جانب الله وسكنت حين ذكره، وإذا عرض لهم الشك فى وجوده ظهرت لهم دلائل وحدانيته فى الآيات، وعجائب الكائنات، فرضى به مولى ورضى به نصيرا، ومن ثم قال:
(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي ألا بذكر الله وحده تطمئن قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة، وهى بمعنى قوله فى الآية الأخرى: «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» .(13/100)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
فالمؤمنون إذا ذكروا عقاب الله ولم يأمنوا من وقوعهم فى المعاصي وجلت قلوبهم كما قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت نفوسهم واطمأنت إلى ذلك الوعد وزال منها القلق والوحشة.
وفى الآية إيماء إلى أن الكفار أفئدتهم هواء، إذ لم تسكن نفوسهم إلى ذكره، بل سكنت إلى الدنيا وركنت إلى لذاتها.
ثم بين سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم فقال:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الفرح وقرّة العين عند ربهم، وحسن المآب والمرجع.
وفى هذا من الترغيب فى طاعته، والتحذير من معصيته، ومن شديد عقابه، ما لا خفاء فيه.
وخلاصة ذلك- أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء فى الحديث:
«فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
محمد صلى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)(13/101)
تفسير المفردات
خلت: مضت، متاب: مرجعى، قطعت: شققت، ييأس: يعلم وهو لغة هوازن قارعة رزية تقرع القلوب، أمليت: أي أمهلت مدة طويلة فى أمن ودعة، قائم:
رقيب ومتولّ للأمور، تنبئونه: تخبرونه، بظاهر من القول: أي بباطل منه لا حقيقة له فى الواقع. والسبيل: هو سبيل الحق وطريقه، والواقي: الحافظ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلّم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبين أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أوتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا، لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.(13/102)
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلى مكة أخشبيها (اسمى الجبلين) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبى، أو احملنا إلى الشام أو اليمين أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجىء فى ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا: سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
الإيضاح
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي كما أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلا فكذبوهم، كذلك أرسلناك فى هذه الأمة، لتبليغهم رسالة الله إليهم، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم.
وخلاصة ذلك- إننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم، أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم، فلماذا يقترحون غيره؟.
(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي وحالهم أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه، ووسعت كلّ شىء رحمته، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم، ولا سيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك.، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة كما قال تعالى:
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .
وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتا أو أثبتوا له الشركاء.(13/103)
(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي قل لهم: إن الرحمن الذي كفرتم به هو خالقى ومتولّى أمرى ومبلغى مراتب الكمال. لا رب غيره ولا معبود سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وعن قتادة قال: «ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب فى الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، قال لا، اكتبوا كما يريدون» اه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه لا على غيره توكلت فى جميع أمورى، ولا سيما فى نصرتى عليكم.
(وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي وإليه وحده توبتى، وهو بمعنى قوله: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وفى هذا بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند الله، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطف سبيل، إذ أمر بها عليه السلام وهو منزّه عن اقتراف الذنوب، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحق وأجدر.
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي ولو ثبت أن كتابا سيّرت بتلاوته الجبال وزعزعت من أماكنها كما فعل بالطور لموسى عليه السلام.
(أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاة.
(أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أي أو كلم أحد به الموتى فى قبورهم بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد كما وقع لعيسى عليه السلام- لو ثبت هذا الشيء من الكتب لثبت لهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع الله فى الأنفس والآفاق، واشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم فى الدار الفانية والدار الباقية، ومن قوانين العمران التي تكون خيرا لمتبعيها وفوزا لسالكيها، ويجعل منهم خير أمة أخرجت(13/104)
للناس، وهذا بمعنى قوله: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» .
خلاصة ذلك- لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة، لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدّوه آية واقترحوا غيره.
ولا يخفى ما فى هذا من تعظيم شأنه الكريم، ووصفهم بسخف العقل، وسوء التدبير والرأى، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغى أن يؤبه لها، ولا يلتفت إليها، لأنها صادرة عن التشهّى والهوى، والتمادي فى الضلال والمكابرة والعناد، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح، وتأمل فى حقائقها، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار.
ويجوز أن يكون المعنى- لو أن كتابا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به، لفرط عنادهم وغلوهم فى مكابرتهم، وهذا بمعنى قوله: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» .
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي بل مرجع الأمور كلها بيد الله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل فلا هادى له، ومن يهد فما له من مضل.
وخلاصة ذلك- إن الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك، لعلمه أن قلوبهم لا تلين، ولا يجدى هذا فائدة فى إيمانهم.
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أي ألم يعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاء هداية الناس أجمعين لهداهم، فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أنجع فى العقول من هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، لكنه لم يشأ ذلك.
روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون(13/105)
أكثرهم تابعا يوم القيامة»
يريد أن كل نبى انقرضت معجزته بموته، وهذا القرآن حجة باقية على وجه الدهر، لا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا يشبع منه العلماء.
(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) أي ولا يزال الكافرون تصيبهم البلايا والرزايا، من القتل والأسر، والسلب والنهب، بسبب تماديهم فى الكفر وتكذيبهم لك وإخراجك من بين أظهرهم.
(أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي أو تحل تلك القارعة قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير شررها إليهم.
(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) أي حتى ينجز الله وعده الذي وعدك فيهم، بظهورك عليهم، وفتحك أرضهم، وقهرك إياهم بالسيف.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي إن الله منجزك ما وعدك من النصر عليهم، لأنه لا يخلف وعده كما قال: «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» .
ولما كان الكفار يسألون النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه، ويتأذى منه، أنزل الله تسلية له على سفاهة قومه قوله:
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي إن يستهزئ بك هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبا لما جئتهم به فاصبر على أذاهم وامض لأمر ربك، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم.
ثم بين سبحانه شأنه مع المكذبين فقال:
(فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فتركتهم ملاوة أي مدة من الزمان فى أمن ودعة كما يملى للبهيمة فى المرعى.(13/106)
(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي ثم أحللت بهم عذابى ونقمتى حين تمادوا فى غيهم وضلالهم، فانظر كيف كان عقابى إياهم حين عاقبتهم- ألم أذقهم أليم العذاب وأجعلهم عبرة لأولى الألباب؟.
وقد صدق الله وعده، ونصر رسوله على عدوه، فدخل فى دين الله من دخل، ومن أبى قتل، ودانت العرب كلها له، وانضوت تحت لوائه، وحقت عليهم كلمة ربك وفى هذا تعجيب مما حل بهم، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى.
ثم ذكر سبحانه ما يجرى مجرى الحجاج عليهم، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، وكيف إنها وصلت إلى حد لا ينبغى لعاقل أن يقبله ولا يرضى به فقال:
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي أفمن هو قائم بحفظ أرزاق الخلق ومتولى أمورهم وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر ولا يعزب عنه شىء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرا، ولا تجلب لهم نفعا.
وخلاصة ذلك- أنه لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازى لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها- بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها رأى العين- كمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن اتخاذه ربا يرجى نفعه، أو يخشى ضره.
ونحو الآية قوله: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» وقوله: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
ثم أكد هذا بقوله:
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) عبدوها معه من أصنام وأوثان وأنداد.
ثم أعقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ فقال:(13/107)
(قُلْ سَمُّوهُمْ) أي صفوهم، فهل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة، وقد يكون المعنى، سموهم من هم وما أسماؤهم؟ فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمّى، فإنما يسمى من ينفع ويضر.
(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي بل أتخبرونه بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم، أو تخبرونه بصفات لهم يستحقون لأجلها العبادة وهو لا يعلمها، وفى هذا نفى لوجودها، لأنها لو كانت موجودة لعلمها، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل أتسمونهم شركاء ظنا منكم أنهم ينفعون ويضرون كما تسمونهم آلهة كما قال: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» .
وخلاصة حجاجه على المشركين- نفى الدليل العقلي والدليل النقلى على أحقية عبادتها- فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» زاد ذلك إيضاحا فقال: وليتهم إذ أشركوا بربهم الذي لا ينبغى أن يشرك به- أشركوا به من له حقيقة واعتبار ومن ينفع ويضر، لا من لا اسم له فضلا عن المسمى، بل من لا يعرف له وجود فى الأرض ولا فى السماء، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه، ثم زاد على ذلك فقال: وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل وما هى إلا أصوات جوفاء كثيرة المبانى خالية من المعاني.
(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي دع هذا الحجاج وألق به جانبا، فإنه لا فائدة فيه، لأنه زيّن لهم كيدهم، لاستسلامهم للشرك، وتماديهم فى الضلال.
(وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أي وصرفوا عن سبيل الحق، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.(13/108)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله لسوء اعتقاده وفساد أعماله واجتراحه للآثام والمعاصي فلا هادى له يوفقه إلى النجاة ويوصله إلى طرق السعادة.
ونحو الآية قوله: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» وقوله:
«إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .
ثم بين عاقبة أمرهم فقال:
(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
أي لهم عذاب شاق فى هذه الحياة بالقتل والأسر وسائر الآفات التي يصيبهم بها.
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ)
أي ولتعذيب الله إياهم فى الدار الآخرة أشد من تعذيبه إياهم فى الدنيا وأشق لشدته ودوامه.
ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم فقال:
(وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ)
أي وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب الله، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يأذن لأحد فى الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره.
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)(13/109)
تفسير المفردات
المثل: الصفة والنعت، والأكل: ما يؤكل، والظل: واحد الظلال والظلول والأظلال، والأحزاب: واحدهم حزب، وهو الطائفة المتحزّبة: أي المجتمعة لشأن من الشئون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك، والمآب: المرجع، والواقي. الحافظ، والأجل:
الوقت والمدة، والكتاب: الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة، والمحو: ذهاب أثر الكتابة، وأمّ الكتاب: أصله وهو علم الله تعالى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال فى الدنيا والآخرة- أتبعه بذكر ثواب المتقين فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول صلى الله عليه وسلّم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلّم كقولهم: إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب- إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك فى رسالاتهم، وكقولهم: إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم: إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول،(13/110)
فأجيبوا عن ذلك بقوله: لكل أجل كتاب: أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
الإيضاح
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي فيما نقصّه عليك صفة الجنة التي وعد الله المتقين وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) سارحة فى أرجائها وجوانبها يصرّفونها كيف شاءوا وأين أرادوا.
(أُكُلُها دائِمٌ) أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب التي لا تنقطع عنهم ولا تبيد.
(وَظِلُّها) كذلك، فليس هناك حر ولا برد، ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة كما قال تعالى: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» .
وبعد أن وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث- بين أنها مآل المتقين ومنتهى أمرهم فقال:
(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي هذه الجنة عاقبة من اتّقوا ربهم فأقلعوا عن الكفر والمعاصي واجتراح السيئات، وعنت وجوههم للحى القيوم، وخافوا يوما تشيب من هوله الولدان، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
ثم بين عاقبة الكافرين بعد ما بين عاقبة المتقين فقال:
(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) أي وعاقبة الكافرين بالله النار، بما اقترفوا من الذنوب ودنسوا به أنفسهم من الآثام.
وفى الآية فتح باب الطمع على مصراعيه للمتقين، وإقفاله بالرّتاج على الكافرين.
ثم بين أن أهل الكتاب انقسموا فئتين: فئة فرحت بنزول القرآن، وفرقة أنكرته وكفرت ببعضه فقال:(13/111)
(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» وهم جماعة ممن آمن من اليهود كعبد الله ابن سلام وأصحابه، ومن النصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي ومن جماعتهم الذين تحزّبوا وتألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعداوة ككعب بن الأشرف والسيد والعاقب أسقفّى نجران وأشياعهم- من أنكر بعض القرآن وهو مالم يوافق ما حرفوه من كتابهم وشرائعهم.
ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب فى شأنه صلى الله عليه وسلّم- بين بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين فقال:
(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي قل لهم صادعا بالحق ولا تكترث بمن ينكره إنى أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله وحده ولا أشرك به شيئا سواه، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره وأطبقت عليه الشرائع والكتب كما قال: «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» وذلك ما دلت الدلائل التي فى الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له والاعتراف به.
وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد
(إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي إلى طاعته وإخلاص العبادة له وحده أدعو الناس.
(وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي وإليه وحده مرجعى ومصيرى ومصيركم للجزاء، ولا خلاف بيننا فى هذا، فالعجب لكم أن تنكروا المتفق عليه، وتختلفوا فيما لا محل للخلاف فيه.
وهذه الآية جامعة لشئون النشأة الأولى والآخرة، فقوله: «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ» توحى إلى ما جاء به التكليف، وقوله «إِلَيْهِ أَدْعُوا» تشير إلى مهامّ الرسالة، وقوله: (وَإِلَيْهِ مَآبِ) تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة.(13/112)
ثم بين سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلا بلغات أقوامهم فقال:
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب، أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا بلسانك ولسان قومك ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره. وسمى القرآن حكما: أي فصلا للأمر على وجه الحق- لأن فيه بيان الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه المكلفون ليصلوا إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
وقد جاء بمعنى الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» .
ثم إن أهل مكة دعوه إلى أمور يشاركهم فيها فقال:
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت أهواء هؤلاء الأحزاب ابتغاء رضاهم، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم فى شىء مما يعتقدونه.
(ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي ليس لك من دون الله ولىّ ولا ناصر ينصرك، فينقذك منه إن هو أراد عقابك، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك، فاحذر أن تتبع أهواءهم وتنهج نهجهم.
وقد تقدم أن مثل هذا من وادي قولهم: (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو إنما جاء لقطع أطماع الكافرين وتهييج المؤمنين على الثبات فى الدين لا للنبى صلى الله عليه وسلّم فهو بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث ولا مهيّج.
ونزل: لما عابت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكثرة النساء، فقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي وكما أرسلناك رسولا بشريا، كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم.(13/113)
وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى» :
وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفيّة التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمهن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين، وناهيك بأم المؤمنين عائشة وفيها
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»
ومن ثم كانت أكثر من حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أبى هريرة، وأكثر من حدث عن شمائله وأحلاقه فى السر والعلن، ومنها علم المسلمون كثيرا من أحكام دينهم، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا وكانت تحاجهم وتجادلهم، وتلزمهم الحجة ولا يجدون معدلا عن التسليم برأيها.
وروى أن المشركين طعنوا فى نبوته لعدم إتيانه بما يقترحونه من الآيات فنزل قوله:
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
أي وما كان فى وسع رسول من الرسل أن يأتى من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء الله وعلم أن فى الإتيان بها حكما ومصالح لعباده، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر، وغناء لمن تفكر وتدبر، ولكنهم أبوا إلا التمادي فى الغواية والضلال كما تقدم من مقال عبد الله بن أبى أمية.
والآيات المقترحة لا تأتى إلا على مقتضى الحكمة فى أزمان يعلمها الله، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس، ولا صلاح فيما اقترحوه، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره، وأن يجعل له مهد ينام فيه؟
كذلك لا حكمة فى إنزال الآيات التي اقترحوها، وهذا إيضاح قوله:
(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه الله أجل معين ووقت معلوم، فلا آية من المقترحات بنازلة قبل أوانها، ولا عذاب مما خوّفوا به بحاصل فى غير وقته، ولا نبوة بحاصلة فى غير الزمان المقدر لها، فموسى وعيسى(13/114)
ومحمد عليهم السلام جاءوا فى أزمنة رأى الله الصلاح فى وجودهم فيها لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، وهكذا انقضاء أعمار الناس ووقوع أعمالهم وآجالهم، كلها كتبت فى آجال ومدد معينة لا تقديم فيها ولا تأخير.
ونحو الآية قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) .
فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتّبت أعماله، ووضعت عماله. فى حجر معينة، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة، فى أوقات معينة، ولهم مناهج يتبعونها، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل، فالدنيا قد جعل الله لها نظاما على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلّق بها علمه، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب وظهر النبات والحيوان وتعاقب الموت والحياة، وظهرت نجوم وفنيت أخرى، ونبت زرع وحصد آخر ومات نبى وقام آخر، وامتد دين وانتشر، وتقلّص دين ونسخ.
وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى، وذلك تابع لما فى المنهج الأصلى، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها، كما ينسخ زرع بزرع، وليل بنهار، وقوم بقوم، ودين نبى بآخر فى ميقاته المعين فى علمه تعالى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) وقد أثر عن أئمة السلف فيها أقوال لا تناقض فيها بل هى داخلة فيما سلف:
(1) قال الحسن: يمحو الله من جاء أجله ويثبت من بقي أجله.
(2) وقال عكرمة: يمحو الله القمر ويثبت الشمس.
(3) وقال الربيع: يقبض الله الأرواح حين النوم، فيميت من يشاء ويمحوه ويرجع من يشاء فيثبته (4) وقال السدى: يمحو الله القمر ويثبت الشمس.(13/115)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
(5) وقال آخرون: يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ، ويثبت ما يشاء.
فلا ينسخه ولا يبدله.
(6) وقال آخر: يمحو الله المحن والمصايب بالدعاء.
(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) هو علم الله، وجميع ما يكتب فى صحف الملائكة لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما يثبت فيه فهو أمّ لذلك، فكأنه قيل يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء وهو ثابت عنده فى علمه الأزلى الذي لا يكون شىء إلا وفق ما فيه.
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
تفسير المفردات
الأطراف: الجوانب، المعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، ويقال لصاحب الحق معقّب، لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب، والمكر: إرادة المكروه فى خفية، وعقبى الدار: أي العاقبة الحميدة، والأم: أصل الشيء وما يجرى مجراه، كأم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة.
المعنى الجملي
سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها، وكان صلى الله عليه وسلّم يتمنى وقوع بعض ما توعّدوا به ليكون زاجرا(13/116)
لغيرهم، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم، وهل هم فى شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم فى خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال- ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب، لمن حسن العاقبة؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفى شهادته غنى عن شهادة أىّ شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه فى كتبهم.
الإيضاح
(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي إن أريناك أيها الرسول فى حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ونحو الآية قوله تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» .
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟) أي أشكّ أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات، ولم يروا أنا نأتى الأرض فنفتحها لك أرضا بعد أرض، ونلحقها بدار الإسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء؟ أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله، ونذيرا بما سيحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة لو تدبروا، فما لهم عن التذكرة معرضين؟.(13/117)
ونحو الآية قوله: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» .
(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي والله يحكم وحكمه النافذ الذي لا يردّ، ولا يستطيع أحد أن يبطله، وقد جرت سنته أن الأرض يستعمرها عباده الصالحون بالعدل فيها والسير على نهج المساواة وترك الظلم. وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال على ما وضع من السنن العامة، وعلى أعدائهم بالإدبار وركود ريحهم، لما سلكوه من الظلم والفساد فى الأرض (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعمّا قريب سيحاسبهم فى الآخرة كفاء ما دنّسوا به أنفسهم، وران على قلوبهم بارتكاب الآثام بعد أن يعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر، فلا تستبطئ عقابهم، فإنه آت لا محالة، وكل آت قريب.
ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم، فقد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم فأخذ الله أخذ عزيز مقتدر فقال:
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كما فعل نمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، ثم دارت الدائرة على الظالمين، وأهلك الله المفسدين.
وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتصبير بأن العاقبة له لا محالة.
(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إن مكر الماكرين لا يضر إلا بإذنه تعالى، ولا يؤثر إلا بتقديره، فيجب ألا يكون الخوف إلا منه تعالى.
وفى هذا أمان له صلى الله عليه وسلّم من مكرهم.
(يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فيعصم أولياءه ويعاقب الماكرين بهم، ليوفى كل نفس جزاء ما كسبت.
وفى هذا ما لا يخفى من شديد الوعيد والتهديد للكافرين الماكرين.
ثم أكد هذا التهديد بقوله.(13/118)
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي وسيعلم الكفار إذا قدموا إلى ربهم يوم لقيامة حين يدخل الرسول والمؤمنون الجنة ويدخلون النار، لمن العاقبة المحمودة إذ ذاك، وإن جهلوا ذلك من قبل؟.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسقف من اليمن فقال له عليه السلام: هل تجدنى فى الإنجيل رسولا؟ قال لا فأنزل الله تعالى:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا)
أي ويقول الجاحدون لنبوتك، الكافرون برسالتك، لست رسولا من عند الله أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان، وتصلح حال المجتمع البشرى، وتمنع عنه الظلم والفساد.
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل حسبى الله شاهدا بتأييد رسالتى، وصدق مقالتى، إذ أنزل علىّ هذا الكتاب الذي أعجز البشر قاطبة أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهم من أسلم من أهل الكتابين التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته فى كتابهم.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي رضى الله عنهم.
خلاصة هذه السورة
ترى مما تقدم فى تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية:
(1) إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السموات والأرض والجبال والأنهار والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله، وهذا تفصيل لما أجمله فى السورة(13/119)
قبلها من قوله: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» .
(2) إثبات البعث ويوم القيامة، والتعجب من إنكارهم له.
(3) استعجالهم العذاب من الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبيان أنه واقع بهم لا محالة كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة.
(4) بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر الله.
(5) ضرب الأمثال لمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابى.
(6) بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى السر والعلن، وبيان مآلهم يوم القيامة.
(7) بيان حال الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويفسدون فى الأرض وبيان مآلهم.
(8) إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك لله.
(9) وصف الجنة التي وعد بها المتقون وبيان أنها مآل المتقين ومآل الكافرين النار وبئس القرار.
(10) بيان أن كثيرا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن، إذ يرون فيه تصديقا لما بين أيديهم من الكتاب.
(11) بيان مهمة الرسول وأن خلاصة ما جاء به- عبادة الله وحده، وعدم الشرك به، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر وأن إليه المرجع والمآب.
(12) بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها.
(13) تحذير الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.(13/120)
(14) إن جميع الرسل صلوات الله عليهم كان لهم أزواج وذرية.
(15) إن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا، وإنما هى بإذن الله وإرادته.
(16) بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هى محو وإثبات، وموت وحياة، فيزيل الله قوما ويوجد آخرين، وكل ذلك محفوظ فى علم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.
(17) إن مهمة الرسل إنما هى التبليغ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى الله، ولا يعنى الرسول أن يحصل فى زمنه أو بعد وفاته.
(18) إن انتقام الله من المكذبين قد بدأ فى حياة الرسول بقتل أعدائه وأسرهم وتشريدهم فى البلاد.
(19) إن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم، وكان النصر حليف المتقين، ونكّل الله بالقوم الظالمين.
(20) إلحاف الكافرين فى إنكار رسالته صلى الله عليه وسلّم، مع بيان أن الله شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته صلى الله عليه وسلّم فى كتبهم وتبشيرها بها.(13/121)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
سورة إبراهيم
هى مكية وعدد آياتها ثنتان وخمسون.
وارتباطها بالسورة قبلها من وجوه:
(1) إنه قد ذكر سبحانه فى السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا.
(2) إنه ذكر فى السورة السالفة قوله: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهنا ذكر أن الرسل قالوا: «ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» .
(3) ذكر هناك أمره عليه السلام بالتوكل على الله، وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جل شأنه.
(4) اشتملت تلك على تمثيل الحق والباطل، واشتملت هذه على ذلك أيضا.
(5) ذكر هناك رفع السماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر، وذكر هنا نحو ذلك.
(6) ذكر هناك مكر الكفار وذكر مثله هنا، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)(13/122)
تفسير المفردات
الظلمات: الضلالات، والنور: الهدى، وإذن ربهم: تيسيره وتوفيقه، والعزيز:
الغالب، والحميد: المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدا، ويل:
هلاك، يستحبون: يختارون، سبيل الله: هو دينه الذي ارتضاه، يبغونها: يطلبون لها، عوجا: زيغا واعوجاجا، واللسان: اللغة.
الإيضاح
(الر) تقدم أن بينا فى سورتى يونس وهود طريق قراءته والمعنى المراد منه بما أغنى عن إعادته هنا.
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول.
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي لتنقذ الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصّر به أهل الجهل والعمى، سبل الرشاد والهدى، بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات، المرشدة إلى النظر فى حقائق الكون، الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا شريك له وأن الواجب عبادته وحده، ثم دعاؤه لجلب النفع، وكشف الضر، وفيها أيضا سعادة البشر وصلاحهم فى الدنيا والآخرة.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ولطفه بهم، بإرسال نور الهدى إلى قلوبهم، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح.
(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم، وهو العزيز الذي لا يغالب، المحمود فى جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه.(13/123)
ونحو الآية قوله: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» الآية، وقوله: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» الآية.
ثم بين ما سلف بقوله:
(اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقا وتصرفا وتدبيرا.
وهذه الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان، المنفرد بالعظمة والسلطان، قد كرّرت فى كثير من سور الكتاب الكريم، للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون فى المسلمين حكماء ربانيون، يتفهمون حقائق هذا الكون، ويدركون أسرار بدائعه، ويستخرجون للناس ما فى باطن الأرض، وينتفعون بما فى ظاهرها، ويتأملون فيما فى السموات من بديع الصنع، وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان، فى مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما.
وجاء فى سورة يوسف قوله تعالى توبيخا للغافلين، وحثا لهمم المستبصرين:
«وكأيّن من آية فى السّموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون» .
ومع كل هذا فوا أسفا، رأينا كثيرا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء- يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها، ولا استبصار بما تنطوى عليه من المقاصد والمرامى، ولو كان ذلك كافيا لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيا فى الشّبع، والنظر إلى الماء كافيا فى الرّى.
ثم توعد الذين جحدوا آياته، وكفروا بوحدانيته، فقال:
(وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي وهلاك بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك، ولم يستجب دعوتك، بإخلاص التوحيد لخالق السموات والأرض،(13/124)
وترك عبادة من لا يملك لنفسه شيئا، بل هو مملوك له تعالى لأنه بعض ما فى السموات والأرض.
ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث.
(1) (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا، ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها، ويقترفون الآثام، ويرتكبون الموبقات، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقرّبهم إلى الله زلفى، وينسون يوما تجازى فيه كل نفس بما عملت، يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا.
(2) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي ويمنعون من تتجه عزأ: بالله واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه، أن يؤمنوا به ويتبعوه، لما رين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان، والبعد عند كل ما يقرّب إلى الرحمن.
(3) (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويطلبون لها الزيغ والعوج وهى أبعد ما تكون من ذلك، فيقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل الله ودينه، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم، وزائغ عن الحق واليقين، وإنك لتسمع كثيرا من الملحدين يقول إن القوانين الإسلامية فى الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة وإنها تصلح للأمم العربية فى البادية، لا للأمم التي أخذت قسطا عظيما من الحضارة: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا» فتلك شريعة دانت لها أمة غيّرت وجه البسيطة، وملكت ناصية العالم ردحا من الزمان، وكانت مضرب الأمثال فى العدل وترك الجور، وثلّت عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتلكت بلادهم وأزالت عزهم وسلطانهم، إلى أن غيّر أهلها معالمها فأركسهم الله بما كسبوا فبدّل عزهم ذلا، وسعادتهم شقاء، وتلك سنة الله، أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها، ثم حكم عليهم بما يستحقون فقال:(13/125)
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي فهم باختيارهم لأنفسهم حب العاجلة، وصدهم عن الدين، وابتغائهم له الزيغ والعوج- فى ضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم فلاح، وأنى لهم ذلك وقد كبّوا على وجوههم وزيّن لهم الفساد والغىّ، فيرون حسنا ما ليس بالحسن، وقبيحا ما ليس بالقبيح؟.
ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم، كى لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه فقال:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم من قبلك وقبل قومك إلا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم، ليفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم وهو يتلى عليهم، فأى عذر لهم فى ألا يفقهوه، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه، ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام، وحلال وحرام، وإصلاح لنظم المجتمع، ليسعدوا فى حياتيهم الدنيا والآخرة؟.
والنبي صلى الله عليه وسلّم وإن أرسل إلى الناس جميعا، ولغاتهم متباينة، وألسنتهم مختلفة، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيرهم، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم، حتى يصير مفهوما لهم كما فهمره، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبيّنه ولكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف، وفتحا لباب التنازع، لأن كل أمة قد تدّعى من المعاني فى لسانها ما لا يعرفه غيرها، وقد يفضى ذلك إلى التحريف والتصحيف، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر فى عدم فهم شرائعه- ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته فقال:
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن الناس فريقان، فريق هداه الله وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام فاتبع سبيل الرشاد وفريق رانت على قلبه(13/126)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
الغواية والضلالة، بما اجترح من الآثام، وأوغل فيه من المعاصي والذنوب، وذلك كله بتقديره تعالى ومشيئته، لا رادّ لقضائه ولا دافع لحكمه.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز فلا يغلب مشيئته غالب، الحكيم فى صنعه، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة فى خلقه، والنواميس التي وضعها لصلاح حال عباده وضلالهم: «سنّة الله الّتى قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا» .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
تفسير المفردات
الآيات: هى الآيات التسع التي أجراها الله على يده عليه السلام، والظلمات:
الكفر والجهالات، والنور: الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به، وذكرهم: أي عظهم، وأيام الله: وقائعه فى الأمم السابقة ويقال فلان عالم بأيام العرب: أي بحروبها وملاحمها كيوم ذى قار ويوم الفجار قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غرّ طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا(13/127)
والصبار. كثير الصبر، والشكور كثير الكشر، يسومونكم. يكلفونكم بلاء. أي ابتلاء واختبار، وتأذن: أي آذن وأعلم، وحميد مستوجب للحمد لذاته وإن لم يحمده أحد.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن فى هذا الإرسال نعمة له ولقومه- أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء وتفصيل مالاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد، لما فى ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي كما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسلنا موسى إلى بنى إسرائيل وأيدناه بالآيات التسع التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف وأمرناه بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.
(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي عظهم مرغّبا لهم بتذكيرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فى الأمم السابقة، ليكون فى ذلك حافز لهم على العمل ويكون لهم بمن سلف أسوة- ومخوّفا موعدا بتذكيرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود، ليكون لهم فى ذلك مزدجر وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بغيرهم.
وأيام الله فى جانب موسى عليه السلام منها ما كان محنة وبلاء وهى الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم.(13/128)
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته لكل صبار فى المحنة والبلية، شكور فى المنحة والعطية.
قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر،
وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» .
وفى هذا إيماء إلى أن الإنسان فى هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدا، لأنه إما فى مكروه يصبر عليه وإما فى محبوب يشكر عليه، والوقت فى هذه الحياة ذهب، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدى فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا فقد كفرنا النعمة، وأضعنا الفرصة، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل، وليخف على وقت يضيع، ثم بعده عذاب سريع.
ولما سمع موسى أمر ربه امتثله وأخذ يذّكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه فقال:
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي واذكر لقومك حين قول موسى لقومه: يا قوم تذكروا إنعام الله عليكم إذ أنجاكم من فرعون وآله، حين كانوا يذيقونكم العذاب ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال، ويذبحون أبناءكم ويبقون نساءكم على قيد الحياة ذليلات مستضعفات، وهذا رز من أشد الأرزاء، وأعظم ألوان البلاء، قال شاعرهم:
ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا
وفى ذلك التذكير عبرة لهم لو يعتبرون.
(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم من ربكم(13/129)
لما فيه من نقمة التعذيب والإذلال وقتل الأولاد واستحياء البنات، ثم نعمة الإنجاء من كل ذلك العسف والقهر، فالابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة كما قال «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» وقال: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» .
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده فقال:
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم ما خوّلتكم من نعمة الإنجاء وغيرها بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأزيدنكم من نعمى عليكم، وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل كلما مرن عليه ازداد قوة، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت، وإن أهملت ذهبت.
أخرج البخاري فى تاريخه والضياء فى المختارة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ألهم خمسة لم يحرم خمسة- وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة» .
والخلاصة- إن من شكر الله على ما رزقه وسّع عليه فى رزقه، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته زاد فى طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة زاده الله صحة، إلى نحو أولئك من النعم.
(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) النعم وجحدتموها فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها.
(إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) بحرمانكم منها، وسلبكم ثمراتها، فى الدنيا والآخرة، فتعذبون فى الدنيا بزوالها، وفى الآخرة بعذاب لا قبل لكم به،
وفى الحديث: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصبه» .
ثم بين سبحانه أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم، أما المعبود المشكور فهو متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يضره الكفر، فلا جرم قال:(13/130)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن تجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليكم، ويفعل مثل فعلكم من فى الأرض جميعا، فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم، إذ حرمتموها من مزيد الإنعام، وعرّضتموها للعذاب، الشديد، وإن الله غنى عن شكركم وشكر غيركم، وهو المحمود وإن كفر به من كفر، وهذا كقوله: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» الآية، وقوله: «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» .
وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد، ومخايل الإصرار على الكفر والفساد، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب، ولا التعريض بالترهيب.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)(13/131)
تفسير المفردات
الريبة: اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر، وفاطر السموات والأرض أي موجدهما على نظام بديع، والسلطان. الحجة والبرهان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما ذكّر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة، ورفع عنهم من نقمة، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر، ووعيده بالعذاب لمن كفر، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم، وأنه غنى عن حمدهم وحمد من فى الأرض جميعا يذكّرهم بأيام الله فيمن قبلهم، من الأمم السالفة والأجيال البائدة، بأسلوب طلىّ ومقال جلىّ، فذكر القول أوّلا على سبيل الإجمال، ثم أتبعه بمحاورة بين الرسل وأقوامهم، أقام فيها الرسل الحجة على أممهم، ودحض ما تمسكوا به من الترّهات والأباطيل.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) أي ألم يأتكم خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل التي غاب عن الناس علمها، وعند الله إحصاؤها.
ثم فصل هذا النبأ وفسره بقوله:
(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة، والبينات الباهرة، وبين كل رسول لأمته طريق الحق، ودعاهم إليه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.(13/132)
(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي عضّوا بنان الندم غيظا لما جاءهم به الرسل، وضجر لنفرتهم من استماع كلامهم، إذ سفّهوا أحلامهم، وشتموا أصنامهم، وقد فعلت العرب مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال سبحانه: «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» .
وقال أبو عبيدة والأخفش ونعمّا قالا هو مثل، والمراد أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت، قد ردّ يده فى فيه.
(وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به، من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم.
(وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله ووحدانيته، وجملة ما جئتم به من الشرائع.
وخلاصة مقالهم- إنهم جاحدون نبوتهم، قاطعون بعدم صحتها، لأن ما جاءوا به من التعاليم والشرائع مما يشكّ فى صدقه، وأن الله سبحانه يدعو إلى مثله. فرد الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء كما أشار إلى ذلك عز اسمه بقوله:
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ؟) أي أفي وجود الله شك، وكيف ذلك والفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به فالاعتراف به ضرورى لدى كل ذى رأى حصيف كما
جاء فى الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» .
ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر فى الأدلة الموصلة، إلى ذلك، ومن ثمّ وجه الرسل أنظار أممهم إلى هذه الأدلة فقالوا:
(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما، فلا بد لهما من صانع وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق(13/133)
كل شىء وإلهه ومليكه، وقد جاء هذا الوصف فى محاورات الأنبياء جميعا، وهو نفس الوصف الذي جاء فى أول السورة على لسان نبينا صلى الله عليه وسلّم، ومن هذا يعلم أن كل نبى جعل مطمح نظره توجه النفوس إلى علوم السموات والأرض.
ولما أقاموا الدليل على وجوده وصفوه بكمال الرحمة بقولهم:
(يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان به بإرساله إيانا، لنخرجكم من ظلمات الوثنية، إلى نور الوحدانية، وإخلاص العبادة له، وهو الواحد القهار.
(لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يدعوكم لمغفرة بعض ذنوبكم، وهى الذنوب التي بينكم وبين ربكم، لا المظالم وحقوق العباد.
والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم يرى أن كل موضع ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ (من) كقوله: «وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» وقوله: «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» لأنه يخاطبهم فى أمر الإيمان وحده.
وفى المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجىء بدون ذكر (من) كقوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها.
(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت سماء الله، وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال، جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد، وإخلاص العبادة للواحد القهار.
ثم حكى سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل، وهو يتضمن ثلاثة أشياء:
(1) (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا فضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوة، أطلعكم الله على الغيب، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا إلى أنه لو كان الأمر(13/134)
كما تدّعون لوجب أن تخالفونا فى الحاجة إلى الأكل والشرب وقربان النساء وما شاكل ذلك.
(2) (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ولا حجة لكم على ما تدّعون، وليس من حصافة العقل أن نترك أمرا قبل أن يقوم الدليل على خطئه.
(3) (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعون من النبوة، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فلسنا نحفل بهما، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتى لهم بما هو خارج عن طور معتادهم، وحينئذ يعظّمونه ويبجّلونه، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئا خارقا للعادة، وإذا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فوق طاقتنا، كقلب العصا حية ونقل الجبال وما إلى ذلك.
وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم فى الطعن فى النبوة حكى عن الأنبياء جوابهم عنها فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة، لأن هذا منصب يمن الله به على من يشاء من عباده، كما لا يمتنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وأن يحرم الجمع العظيم منه، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا، وما اقترحتموه من الآيات فأمره إلى الله إن شاء أظهره وهو زائد على قدر الكفاية، وذلك ما أومئوا إليه بقولهم:
(وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بمشيئته وإرادته، وليس ذلك فى قدرتنا.
وبعد أن أجابهم الأنبياء عن شبهاتهم أخذ المشركون يخوفونهم ويتوعدونهم بالانتقام منهم وإيذائهم قدر ما يستطيعون، فقال لهم الأنبياء إنا لا نخاف تهديدكم(13/135)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
ولا وعيدكم، بل نتوكل على الله ونعتمد عليه، ولا نقيم لما تقولون وزنا ولا نأبه به، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله حكاية عنهم:
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فى دفع شرور أعدائهم عنهم، وفى الصبر على معاداتهم.
ثم زادوا أمر التوكل توثيقا وتوكيدا فقالوا:
(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي وكيف لا نتوكل على الله وقد هدانا إلى سبل المعرفة، وأوجب علينا سلوك طريقها، وأرشدنا إلى طريق النجاة، ومن أنعم الله عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها.
(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي ولنصبرنّ على إيذائكم بالعناد واقتراح الآيات ونحو ذلك مما لا خير فيه، وندعوكم لعبادة الله وحده، ليكون ذلك منا شكرا على نعمة الهداية.
ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان أن إيذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا:
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي وعلى الله وحده فليثبت المتوكلون على توكلهم وليحتملوا كل أذى فى جهادهم، ولا يبالوا بما يصيبهم من أذى ولا بما يلاقون من صعاب وعقبات.
ومن عنده مال أو علم فلينفع به الناس وليكن كالنهر يسقى الزرع والشمس تضىء العباد، وليصبر على أذى الناس كما صبر الأنبياء وأوذوا، فالهداة ما خلقوا إلا ليعملوا فهم هداة بطباعهم، ولذاتهم فى قلوبهم ومنهم تنتقل إلى الناس.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)(13/136)
تفسير المفردات
لتعودنّ: لتصيرن، والملة: الدين والشريعة، والمقام: موقف الحساب، واستفتحوا:
أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء، وخاب: هلك، والجبار: العاتي المتكبر على طاعة الله، والعنيد: المعاند للحق المخالف له، ومن ورائه: أي من بعد ذلك ينتظره، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار، يسيغه: أي يستطيبه يقال ساغ الشراب:
إذا جاز الحلق بسهولة، يأتيه الموت: أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جهة، عذاب غليظ: أي شديد غير منقطع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مادار من الحوار والجدل بين الرسل وأقوامهم، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل، وقد كان فيها المقنع لمن أراد الله له الهداية والتوفيق، ومن كان له قلب يعى به الحكمة وفصل الخطاب- ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب فى الخصومة، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين إما الخروج من الديار: وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد، فأوحى الله إلى أنبيائه أن العاقبة لكم، وستدور عليهم الدائرة، وستحلّون محلهم فى ديارهم وسيعذبون فى الآخرة بنار جهنم، ويرون ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها.(13/137)
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي وقال الذين كفروا بالله لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان:
لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها، إلا أن تعودوا فى ديننا الذي نحن عليه، من عبادة الأصنام كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» الآية، وكما قال قوم لوط: «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» الآية، وقال إخبارا عن مشركى قريش: «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا» .
وخلاصة هذا- ليكونن أحد الأمرين لا محالة: إما إخراجكم، وإما صيرورتكم فى ملتنا ملة الآباء والأجداد، وهى عبادة الآلهة والأوثان، وقد مكّن لهم فى ذلك أنهم كانوا كثرة وكان أهل الحق قلة، كما جرت بذلك العادة فى كل زمان ومكان، فإن الظّلمة يكونون متعاونين متعاضدين، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق، كما هو شأن المعتزّ بقوته، الذي لا يخشى اعتراضا ولا خلافا.
والأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا فى ملتهم ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم، لكنهم لما نشئوا بين ظهرانيهم، وكانوا من أهل تلك البلاد، ولم يظهروا فى أول أمرهم مخالفة لهم- ظنوا أنهم كانوا على دينهم.
ولما تمادت الأمم فى الكفر وتوعدوا الرسل بأخذهم بالشدة والإيقاع بهم- أوحى الله إليهم بإهلاك من كفربهم، ووعدهم بالنصر والغلب على أعدائهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم: لنهلكن من تناهى فى الظلم من المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) .(13/138)
وفى ذلك وعيد وتهديد للمشركين من قريش على كفرهم وجراءتهم على نبيه، وتثبيت وأمر له بالصبر على ما يلقى من المكروه كما صبر من كان قبله من الرسل، وبيان لأن عاقبة من كفر به الهلاك وعاقبته النصر عليهم كما قال: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» وقال: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وقال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» .
ثم ذكر السبب فى نصرهم عليهم فقال:
(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي هكذا أفعل بمن خاف مقامه بين يدىّ يوم القيامة، وخاف وعيدي فاتقانى بطاعتي وتجنب سخطى- أنصره على من أراد به سوءا وبغى به مكروها من أعدائى، وأورثه أرضه ودياره.
ثم بين أن كلا من الفريقين الأمم والرسل طلبوا المعونة والتأييد من ربهم وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَاسْتَفْتَحُوا) أي واستفتحت الرسل على أممها أي استنصرت الله عليها، واستفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
ثم ذكر مآل المشركين وبيّن أن النصر للمتقين فقال:
(وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه.
(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء الجبار العنيد جهنم أي هى له بالمرصاد تنتظره، ليسكنها مخلدا فيها أبدا، ويعرض عليها فى الدنيا غدوّا وعشيا إلى يوم التناد.
ثم بين شرابه فيها فقال:
(وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ليس له فى النار شراب إلا ماء يخرج من جوفه وقد خالطه القيح والدم، وخص بالذكر لأنه آلم أنواع العذاب.(13/139)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب فقال:
(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يتحساه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يزدرده، من شدة كراهته، ورداءة طعمه ولونه، وريحه وحرارته كما قال: «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» وقال: «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ» .
ثم ذكر ما يحيط به من الأهوال فقال:
(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي وتحيط به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله فى نار جهنم، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، لكنه لا يموت كما قال تعالى: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» .
ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال:
(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم أغلظ من الذي قبله وأمرّ كما قال تعالى: «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» وقال: «وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 20]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)(13/140)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما سيلاقيه الكافرون فى هذا اليوم العصيب من سائر أنواع العذاب التي سلف وصفها- بين هنا أن ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا، فما أشبهه إذ ذاك برماد أطارته الريح فى يوم عاصف فذهبت به فى كل ناحية، فهم لا يجدون من أعمالهم فيه شيئا، ثم بين أن ذلك اليوم آت لا ريب فيه، فإن من أنشأ السموات والأرض بلا معين ولا ظهير قادر على أن يفنيهم ويأتى بخلق سواهم، وليس ذلك بعزيز ولا بممتنع عليه.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي ما مثل أعمال الكافرين التي كانوا يعملونها فى الدنيا ويزعمون أنها تنفعهم يوم الجزاء- إلا كمثل رماد حملته الريح وأسرعت الذهاب به فى يوم عاصف فنسفته ولم تبق له أثرا، فهم يوم القيامة لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، إذ لم يكونوا يعملونها لله خالصة، بل كانوا يشركون فيها الأصنام والأوثان:
والمراد من تلك الأعمال أعمال البر كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك.
ثم أكد نفى فائدتها لهم إذ ذاك فقال:
(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا يقدرون يوم القيامة على شىء من أعمالهم فى الدنيا، فلا يرون لها أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب، كما لا تنتفع بالرماد إذا أرسل عليه الريح فى يوم عاصف.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» وقال: َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ(13/141)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
وورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت «يا رسول الله إن ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه، لأنه لم يقل:
رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين» .
(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك السعى والعمل على غير أساس ولا استقامة، حتى فقدوا ثوابهم منه أحوج ما كانوا إليه، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب.
ثم ذكر دليل وحدانيته فقال:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ومن قدر على خلقهما على أتم نظام وأحكم وضع بلا معين ولا ظهير، فهو قادر على أن يفنيكم ويأتى بخلق جديد سواكم، وما ذلك بممتنع ولا متعذر عليه ومثل الآية قوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
وخلاصة ذلك- إنهم بعدوا فى الضلال وأمعنوا فى الكفر بالله، مع وضوح الآيات الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة، وأنه هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخشى عقابه.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 23]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)(13/142)
تفسير المفردات
وبرزوا: أي صاروا بالبراز وهى الأرض المتسعة، ويراد بها مجتمع الناس فى ذلك اليوم والضعفاء: واحدهم ضعيف، ويراد به ضعيف الرأى والفكر، والذين استكبروا:
هم رؤساؤهم الذين استنفروهم، والتبع: واحدهم تابع كخادم وخدم، مغنون: أي دافعون، ومحيص: أي منجى ومهرب، والسلطان: التسلط، بمصر حكم: أي بمغيثكم، يقال استصرخنى فأصرخته: أي استغاثني فأغثته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يلقاه الأشقياء فى ذلك اليوم من العذاب، وذكر أن أعمالهم الطيبة التي كانت فى الدنيا أحبطت فلم تغن عنهم شيئا- ذكر هنا محاورة بين الاتباع المستضعفين والرؤساء المتبوعين، وما يحدث فى ذلك الوقت من الخجل لهم، ثم أردفها مناظرة وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس. وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء وبالغ فى بيانها وتفصيلها شرح أحوال السعداء وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل.(13/143)
الإيضاح
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي برزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار: أي اجتمعت فى براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شىء يستر أحدا.
(فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي فقال الأتباع لقادتهم وسادتهم الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع قول الرسل: إنا كنا تابعين لكم، تأمروننا فنأتمر وتنهوننا فتنتهى.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي فهل تدفعون عنا اليوم شيئا من ذلك العذاب كما كنتم تعدوننا وتمنوننا فى الدنيا.
وقد حكى الله رد أولئك السادة عليهم.
(قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي لو أرشدنا الله تعالى، وأضاء أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه ومعونته، لأرشدناكم ودعوناكم إلى سبل الهدى، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم.
ولما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا:
(سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا أو جزعنا.
وخلاصة ذلك- سيّان الجزع والصبر، فلا نجاة لنا من عذاب الله.
وفى مثل الآية قوله: «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» وقوله: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» .(13/144)
ولما ذكر سبحانه المناظرة التي ستكون بين الاتباع والرؤساء أردفها المناظرة التي ستكون بين الشيطان وأتباعه حينئذ فقال:
(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقال إبليس مخاطبا أتباعه من الإنس، بعد أن حكم الله بين عباده فأدخل المؤمنين فراديس الجنات، وأسكن الكافرين سحيق الدركات.
(إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أي إن الله وعدكم على ألسنة رسله بالبعث وجزاء كل عامل على عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ووعده حق وخبره صدق.
(وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي ووعدتكم أن لا جنّة ولا نار، ولا حشر ولا حساب، ولئن كانا فنعم الشفيع لكم الأصنام والأوثان، فأخلقتكم موعدى إذ لم أقل إلا بهرجا من القول وباطلا منه، فاتبعتمونى وتركتم وعد ربكم، وهو وليّكم ومالك أمركم.
ونحو الآية قوله: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» .
(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي وما كان لى قوة وتسلط تجعلنى ألجئكم إلى متابعتى على الكفر والمعاصي.
(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلال بوسوستي وتزيينى، أسرعتم إلى إجابتى، واتبعتم شهوات النفوس، وأطعتم الهوى، وخضتم فى مسالك الردى.
(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنه ما كان منى إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، ولوموا أنفسكم، إذا استجبتم لى باختياركم الذي نشأ عن سوء استعدادكم بلا حجة منى ولا برهان، بل بتزيينى وتسويلى، ولم تستجيبوا لربكم وقد دعاكم دعوة الحق المقرونة بالحجج والبينات.
(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب فأزيل صراحكم، وما أنتم بمغيثىّ مما أنا فيه من العذاب والنكال.(13/145)
(إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي إنى جحدت اليوم أن أكون شريكا لله فيما أشركتمونى فيه من قبل هذا اليوم أي فى الدنيا، وهذا كقوله: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» .
ومعنى كفره بإشراكهم تبرؤه منه واستنكاره له، وهذا كقوله تعالى: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ» .
(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال إبليس ذلك، قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والنجاة من العذاب، وإنما حكى الله ذلك عنه ليكون تنبيها للسامعين، وحضّا لهم على النظر فى عاقبة أمرهم، والاستعداد لذلك اليوم الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم ويتذكروا هول ذلك الموقف ورهبته.
ولما جمع سبحانه فريقى السعداء والأشقياء فى قوله: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» وبالغ فى وصف حال الأشقياء من وجوه كثيرة- ذكر حال السعداء وما أعد لهم من نعيم مقيم فى ذلك اليوم فقال:
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وأدخل الذين صدقوا الله ورسوله، فأقروا بوحدانيته تعالى ورسالة رسله، وعملوا بطاعته، فانتهوا إلى أمره ونهيه، بساتين تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، لا يتحولون عنها ولا يزولون منها.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه تعالى، إذ وجّه نفوسهم فى الدنيا لكسب الخيرات، والميل إلى العمل بما يرضيه ويرضى رسوله، وأنار بصائرهم للاعتقاد بأن يوم الجزاء آت لا ريب فيه، فأعدّوا له العدّة، فكان على الله بمقتضى وعده أن يدخلهم جناته كفاء ما جدّوا فى رضاه، ونصبوا فى طاعته، خوفا من هول ذلك اليوم العصيب.
(تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، تعظيما لشأنهم وعناية بأمرهم، وجاء فى هذا المعنى قوله تعالى فى وصف دخولهم الجنة: «حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم» وقوله: «وَالْمَلائِكَةُ(13/146)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ»
وقوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» كما يحييهم ربهم جلت قدرته إظهارا لرضاه عنهم، وإجلالا وإكبارا لهم كما قال: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
تفسير المفردات
المثل: قول فى شىء يشبّه بقول فى شىء آخر، لما بينهما من المشابهة، ويوضح الأول بالثاني، ليتم انكشاف حاله به، ثابت: أي ضارب بعروقه فى الأرض، فى السماء:
أي جهة العلو، تؤتى أكلها: أي تعطى ثمرها، بإذن ربها: أي بإرادة خالقها، اجتثت:
أي استؤصلت وأخذت جثتها، والقرار: الاستقرار، القول الثابت: أي الذي ثبت عندهم وتمكن فى قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال الأشقياء ومآل أمرهم وما يلاقونه من الشدائد والأهوال فى نار جهنم التي لا يجدون عنها محيصا، وذكر أحوال السعداء وما ينالون من فوز عند ربهم- ضرب لذلك مثلا يبين حال الفريقين ويوضح الفرق بين الفئتين، وبه ألبس المعنويات(13/147)
لباس الحسيات، ليكون أوقع فى النفس وأتم لدى العقل، والأمثال لدى العرب هى المهيع المسلوك، والطريق المتبع، لإيضاح المعاني إذا أريد تثبيتها لدى السامعين، والقرآن الكريم ملىء بها، والسنة النبوية جرت على منهاجه، فكثيرا ما تتبع المسائل الهامة بضرب الأمثال لها، لتستقر فى النفوس، وتنقش فى الصدور.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أي ألم تعلم أيها الإنسان علم اليقين، كيف ضرب الله مثلا ووضعه الموضع اللائق به.
(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) أي إن الله جلت قدرته شبه الكلمة الطيبة وهى الإيمان الثابت فى قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» وتنال بركته وثوابه فى كل وقت، فالمؤمن كلما قال لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءت بركتها وخيرها- بالشجرة الطيبة المثمرة الجميلة المنظر الشذّية الرائحة التي لها أصل راسخ فى الأرض به يؤمن قلعها وزوالها، وفروعها متصاعدة فى الهواء (فيكون ذلك دليلا على ثبات الأصل ورسوخ العروق، وعلى بعدها عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية) فتأتى الثمرة نقية خالية من جميع الشوائب، وتثمر فى كل حين بأمر ربها وإذنه، وإذا اجتمع لهذه الشجرة كل هذه المميزات كثر رغبة الناس فيها.
وخلاصة ذلك- إنه تعالى شبه كلمة الإيمان بشجرة ثبتت عروقها فى الأرض، وعلت أغصانها إلى السماء، وهى ذات ثمر فى كل حين، ذاك أن الهداية إذا حلت قلبا فاضت منه على غيره، وملأت قلوبا كثيرة، فكأنها شجرة أثمرت كل حين، لأن ثمراتها دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وكل قلب يتلّقى عما يشاكله، ويأخذ منه بسرعة أشد من سرعة إيقاد النار فى الهشيم، أو سريان الكهرباء فى المعادن، أو الضوء فى الأثير.(13/148)
وقد روى عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هى قول «لا إله إلا الله» وأن الشجرة الطيبة: هى النخلة،
وعن ابن عمر قال «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال:
أخبرونى عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها لا صيفا ولا شتاء وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. قال ابن عمر فوقع فى نفسى أنها النخلة، ورأيت أبابكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
النخلة. فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع فى نفسى أنها النخلة، قال ما منعك أن تتكلم؟ قلت لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا» رواه البخاري.
ثم نبه سبحانه إلى عظم هذا المثل ليكون ذلك داعية تدبره ومعرفة المراد منه فقال:
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إن فى ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير للناس، لأن أنس النفوس بها أكثر، فهى تخرج المعنى من خفىّ إلى جلىّ، ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، وبها يطبق المعقول على المحسوس فيحصل العلم التام بالشيء الممثل له.
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي ومثل كلمة الكفر وماشا كلها مثل شجرة خبيثة كالحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت فى الأرض، بل عروقها لا تتجاوز سطحها، وقد اقتلعت من فوق الأرض، لأن عروقها قريبة منه، أو لا عروق لها فى الأرض، فكما أن هذه لاثبات لها ولا دوام، فكذلك الباطل لا يدوم ولا يثبت، بل هو زائل ذاهب، وثمره مرّكريه كالحنظل.
وما أقوى الحق وأثبته، وأكثر نفعه للناس، فهو ثابت الدعائم متين الأركان، وما كل حين كالنخل.
والخلاصة- إن أرباب النفوس العالية وكبار المفكّرين هم أصحاب الكلمة الطيبة، وعلومهم تعطى أممهم نعما ورزقا فى الدنيا، وهى مستقرة فى نفوسهم، وفروعها ممتدة(13/149)
إلى العوالم العلوية والسفلية، وتثمر كل حين لأبناء أمتهم ولغيرهم، فيهتدى بها المؤمنون، وما أشبههم بالنخلة التي لها أصل مستقر وفروع عالية وثمر دائم ويأكل الناس منها صيفا وشتاء.
وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة والمقلّدون فى العلم هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي لا ثبات لها كالحنظل.
وبعد أن وصف الكلمة الطيبة بما سلف أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم فى الدنيا والآخرة فقال:
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي يثبتهم بالكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة فيما سلف مدة حياتهم، إذا وجد من يفتنهم عن دينهم ويحاول زللهم كما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبعد الموت فى القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، وفى مواقف القيامة فلا يتلعثمون ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقدهم ولا تدهشهم الأهوال.
أخرج ابن أبى شيبة عن البراء بن عازب أنه قال فى الآية: التثبيت فى الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل فى القبر فقالا له: من ربك؟ قال ربى الله، وقالا:
وما دينك؟ قال دينى الإسلام، وقالا وما نبيك؟ قال نبي محمد صلى الله عليه وسلّم.
وعن عثمان بن عفان قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» أخرجه أبو داود.
وقد وردت أحاديث كثيرة فى سؤال الملائكة للميت فى قبره وفى جوابه لهم، وفى عذاب القبر وفتنته وليس هذا موضعها. نسأل الله التثبيت فى القبر وحسن الجواب بمنه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير.
وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة، والآخرة يوم القيامة، والعرض للحساب، وبعد أن وصف الكلمة الخبيثة فى الآية المتقدمة بين حال أصحابها بقوله:(13/150)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
(وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) أي ويخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه بحسب إرادتهم واختيارهم، لسوء استعدادهم وميلهم مع شهوات النفوس وتدسيتها بصنوف الشرور والمعاصي، سنة الله فى عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
والمراد بالظالمين هنا الكفار، لأنهم ظلموا أنفسهم بتبديلهم فطرة الله التي فطر الناس عليها وعدم اهتدائهم إلى القول الثابت.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضى الله عنهما «إن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره أقعد فقيل له من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليه شيئا، فذلك قوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) » .
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) أي وبيده تعالى الهداية والإضلال بحسب ما تقتضيه سننه العامة التي سنها فى عباده، بحسب استعداد النفوس وقبولها لكل منهما، فلا تنكروا قدرته على اهتداء من كان ضالا ولا ضلال من كان منكم مهتديا، فإن بيده تصريف خلقه، وتقليب قلوبهم، يفعل فيهم ما يشاء.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
تفسير المفردات
البوار: الهلاك، يقال رجل بائر وقوم بور كما قال: «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» ويصلونها: يقاسون حرها، والأنداد: واحدهم ندّ وهو المثل والشبيه، والمصير: المرجع، والبيع: الفدية، والخلال: المخالّة والصداقة.(13/151)
المعنى الجملي
بعد أن ضرب عز اسمه الأمثال بيانا لحالى الفريقين، وذكر ما يلهمه من التوفيق فى الدارين للسعداء، وما ينال الأشقياء من الخذلان والإضلال، جزاء ما كسبت أيديهم من تدسيتهم لأنفسهم باجتراحهم للشرور والآثام، وبين أن كل ذلك يفعله على حسب ما يرى من الحكمة والمصلحة.
ذكر هنا الأسباب التي أوصلتهم إلى سوء العاقبة معجبا رسوله مما صنعوا من الأباطيل التي لا تكاد تصدر ممن له حظّ من الكفر والنظر، ولم تكن هذه الطامة خصّيصى بهم، بل كانت فتنة شعواء عمتهم جميعا «واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة» .
ذاك أنهم بدلوا النعمة كفرا، والشكر جحدا وإنكارا، وليت البليّة كانت واحدة بل أضافوا إليها أخرى فاتخذوا الله الأنداد والشركاء، ثم ثلّثوا بإضلال غيرهم فكانوا دعاة الكفر وأعوان الفتنة:
فلو كان همّ واحد لا حتملته ... ولكنه هم وثان وثالث
ومن ثم كانت عاقبتهم التي لا مرد لها العذاب الأليم فى جهنم وبئس المصير ثم بين لرسوله أن مثل هؤلاء لا تجدى فيهم العظة، فذرهم يتمتعوا فى هذه الحياة حتى حين، ثم لا بد لهم من النصيب المحتوم.
وبعد أن أمر الكافرين على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر عباده المؤمنين بعدم المغالاة فى التمتع بها، والجد فى مجاهدة النفس والهوى، ببذل النفس والمال فى كل ما يرفع شأنهم، ويقرّبهم من ربهم، وينيلهم الفوز لديه فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا صداقة ولا خلة: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم» .
أخرج عطاء عن ابن عباس أن هؤلاء هم كفار مكة.
وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن على كرم الله وجهه أنه قال فى هؤلاء المبدّلين: هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.(13/152)
الإيضاح
عدّد سبحانه الأسباب التي أوقعت هؤلاء الأشقياء ومن شايعهم فى سوء المنقلب وحصرها فى ثلاثة:
(1) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) أي ألم تعلم وتعجب من قوم بدّلوا شكر النعمة غمطا لها وجحودا بها، كأهل مكة الذين أسكنهم الله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء وجعلهم قوّام بيته، وشرّفهم بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم من بينهم، فكفروا بتلك النعمة فأصابهم الجدب والقحط سبع سنين دابا وأسروا يوم بدر، وصفّدوا فى السلاسل والأغلال، وقتل منهم العدد العديد من صناديدهم ورجالاتهم ممن كانوا يضنّون بهم ويحتفظون بمواضعهم ليوم كريهة وسداد ثغر.
(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي وأحلوا من شايعهم على الكفر دار الهلاك الذي لاهلاك بعده.
ثم بين هذه الدار فقال:
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي هذه الدار هى جهنم دار العذاب التي يقاسون حر نارها، وبئس المستقر هى لمن أراد الله به النكال والوبال.
(2) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي واتخذوا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شىء- أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان، أشركوهم به فى العبادة كما قالوا فى الحجّ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
(3) (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي لتكون عاقبة أمر الذين شايعوهم على ضلالهم، الصدّ والإعراض عن سبيله القويم ودينه الحنيف، والوقوع فى حمأة الكفر والضلال.
ولما حكى الله عنهم هذه الهنات الثلاث، تبديل النعمة، واتخاذ الأنداد والأمثال، وإضلال قومهم، أمر نبيه أن يقول لهم على سبيل التهديد والوعيد: سيروا على ما أنتم عليه، فإنه لا فائدة فى نصحكم وإرشادكم والعاقبة النار.(13/153)
(قُلْ تَمَتَّعُوا) أي تمتعوا بما أنتم فيه سادرون مما سيؤدى بكم إلى مهاوى الهلاك، من الكفران وعبادة الأوثان والأصنام والسعى فى إضلال الناس والصد عن سبيله.
ثم بين جزاءهم المحتوم فقال:
(فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي إن مرجعكم وموئلكم إليها كما قال: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» وسمى الله تعالى ذلك تمتعا، لأنهم تلذذوا به، وأحسوا بغبطة وسرور كما يتلذذون بالمشتهيات من النعم، وهذا الأسلوب التهكمى يستعمل فى التخاطب كثيرا فترى الطبيب يأمر مريضه بالاحتماء من بعض ما يضره ويؤذيه، ثم لا يرى منه إلا تماديا فى الإعراض عن أوامره، واتباعا لشهواته فيقول له:
كل ما تريد، فإن مصيرك إلى الموت، وما مراده من ذلك إلا التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول. وكما يقال لمن سعى فى مخالفة السلطان: اصنع ما شئت، فإن مصيرك إلى السيف.
وبعد أن هدد الكفار على انغماسهم فى اللذات، أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يأمر خلّص عباده بإقامة العبادات البدنية، وأداء الفرائض المالية فقال:
(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي قل لهم:
أقيموا الصلاة على وجهها، وأدوها كما طلب ربكم، فهى عماد الدين، وهى التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهى المصباح للمؤمن يستضىء به للقرب من ربه، وأدوا الزكاة شكرا له على نعمه الجزيلة، رأفة بعباده الفقراء سدا لخلتهم وإيجادا للتضامن والتعاون بين الإخوة فى الدين: «إنّما المؤمنون إخوة» .
(سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي أنفقوا ذلك فى السر والعلن، ولكل منهما حال تستحب فيها وقد تقدم القول فى تفصيل ذلك.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي من قبل أن يأتى اليوم الذي لا تنفع فيه فدية، ولا تجدى فيه صداقة، فلا يشفع خليل ولا يصفح، عن عقابه لمخالّته لصديقه، بل هناك العدل والقسط كما قال: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ(13/154)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا»
وقال: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ» .
أدلة التوحيد المنصوبة فى الآفاق والأنفس
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
تفسير المفردات
السماء: السحاب، وكل ما علا الإنسان فأظله فهو سماء، والرزق: كل ما ينتفع به، والتسخير: التيسير والإعداد، والفلك: السفن، دائبين: أي دائمين فى الحركة لا يفتران، يقال دأب فى العمل إذا سار فيه على عادة مطردة كما قال: «تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» آتاكم: أي أعطاكم، لا تحصوها: لا تطيقوا حصرها، والإحصاء: العد بالجصى، وكان العرب يعتمدونه فى العد كاعتمادنا فيه على الأصابع، ظلوم: أي لنفسه بإغفال شكر النعمة، كفار: شديد الكفران والجحود لها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه، حين بدّلوا الشكر بالكفر، واتخذوا الله أندادا، فكان جزاؤهم جهنم وبئس المهاد، ثم أمر المؤمنين بإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة، شكرا لربهم على ما أوتوا من النعم، وحثا لهم على الجهاد فى سبيل كما لهم ورقبهم ببذل النفس والنفيس وهو المال، لتكمل لهم السعادة فى الدارين-(13/155)
شرع يذكر الأدلة المنصوبة فى الآفاق والأنفس التي توجب على عباده المثابرة على شكره ودوام الطاعة له، ويذكر النعم الجسام التي يتقلبون فى أعطافها آناء الليل وأطراف النهار، ليكون فى ذلك حث لهم على التدبر فيما يأتون وفيما يذرون، وفيه عظيم الدلالة على وجوب شكر الصانع لها، كما فيه أشد التقريع للكافرين الذين أعرضوا عن النظر والتفكر فى تلك النعم، فكان هذا داعية كفرها وجحودها، وغمطها وكنودها.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي الله الذي خلق لكم السموات والأرض، هما أكبر خلقا منكم، وفيهما من المنافع لكم ما تعلمون وما لا تعلمون، وتقدم تفصيل هذا فى مواضع متعددة من كتابه الكريم.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت لكم رزقا تأكلون منه وتعيشون به.
والآية كقوله: «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» أي من ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجرى عليه بأمره تعالى وسخر البحر لحملها، ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) تشق الأرض شقا من قطر إلى قطر، لانتفاعكم بها حيث تشربون منها، وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم، وما أشبه ذلك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي دائمين فى الحركة، لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا كما قال: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وقال: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ(13/156)
وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان، فالنهار لسعيكم فى أمور معاشكم وما تحتاجون إليه فى أمور دنياكم، والليل لتسكنوا فيه كما جاء فى الآية الأخرى «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من ذاك فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، كما قال تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي هيّألكم كل ما تحتاجون إليه فى جميع أحوالكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه، سواء أسألتموه أم لم تسألوه، لأن هذه الدنيا قد وضع الله فيها منافع يجهلها الناس وهى معدّة لهم، فلم يسأل الله أحد فى الأمم الماضية أن يعطيهم الطائرات والمغناطيس والكهرباء، بل خلقها وأعطاها للناس بالتدريج، ولم يزل هناك عجائب ستظهر لمن بعدنا.
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) أي لا تطيقوا عدّ أنواعها فضلا عن القيام بشكرها.
وفى صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفىّ ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربنا» .
وأثر عن الشافعي أنه قال: الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها، وقال شاعرهم:
لو كلّ جارحة منى لها لغة ... تثنى عليك بما أوليت من حسن
لكان مازاد شكرى إذ شكرت به ... إليك أبلغ فى الإحسان والمنن
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك واضع للشكر فى غير موضعه- ذاك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم، واستحق إخلاص العبادة له، فعبد هو غيره وجعل له أندادا ليضل عن سبيله وذلك هو ظلمه، وهو جحود لنعمه التي أنعم بها عليه، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم بها عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.(13/157)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
تفسير المفردات
واجنبنى: أي أبعدنى، وأصل التجنب أن يكون الرجل فى جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل فى البعد مطلقا، وتهوى إليهم: أي تسرع شوقا وحبا، ويقوم الحساب:
أي يثبت ويتحقق كما يقال قامت السوق والحرب: أي وجدتا.
المعنى الجملي
بعد أن نصب سبحانه الأدلة على أن لا معبود سواه، وأنه لا يجوز بحال أن يعبد غيره، وطلب إلى رسوله أن يعجب من حال قومه، إذ بدّلوا نعمة الله كفرا، وعبدوا لأوثان والأصنام.(13/158)
ذكر هنا أن الأنبياء جميعا حثوا على ترك عبادة الأصنام، فإبراهيم صلوات الله عليه وهو أبوهم نعى على قومه عبادتها، وطلب إلى الله أن يجنبه وبنيه ذلك، فإنها كانت سببا فى ضلال كثير من الناس، وشكر الله على أن وهب له على كبره ولديه إسماعيل وإسحاق، ثم ختم مقاله بأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين ذنوبهم عند العرض والحساب.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي واذكر لقومك مذكّرا لهم بأيام الله خبر إبراهيم إذ قال: ربى المحسن إلىّ بإجابة دعائى، اجعل مكة بلدا آمنا.
وقد أجاب الله تعالى دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي وباعدنى وبنىّ من أن نعبد الأصنام، أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام.
وقد استجيب دعاؤه فى بعض بنيه دون بعض ولا ضير فى ذلك.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي يا رب إن الأصنام أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن وكفروا بك.
(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك، وإخلاص العبادة لك والبعد عن عبادة الأوثان- فإنه مستنّ بسنتى وجار على طريقتى، ومن خالف أمرى فلم يقبل منى ما دعوته إليه وأشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه وهدايته إلى الصراط المستقيم.
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي يا رب إنى أسكنت بعض ذريتى وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذى زرع وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به وجعلت ما حوله حرما لمكانه.(13/159)
(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ويعمروه بذكرك وعبادتك.
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي فاجعل قلوب بعض الناس محترقة شوقا إليهم.
(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي وارزق ذريتى الذين أسكنتهم هناك من أنواع الثمار بأن تجبى إليهم ذلك من شاسع الأقطار، وقد استجاب الله ذلك كما قال: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا فى كتابه (الإسلام والطلب الحديث) دعاء سيدنا إبراهيم يفسر ما قلناه، وهو أن الدعاء سنة طبيعية لا أكثر ولا أقل، فالنبى يدعو ربه ليلهم الناس حج البيت، فهو يستعين بسنة طبيعية وهى إلهام الخالق لنا حج البيت مع أنه يعلم أن الله قادر على أن ينزل عليهم رزقا من السماء، ولكن النبي ضرب لنا مثلا فى طريق استعمال الدعاء وقيمته، فالدعاء لا يلغى سنة طبيعية ولا يأتى بالمعجزات، ولكن الداعي يطلب من الخالق الهداية إلى إحدى السنن الطبيعية وسأضرب لك مثلا بالنسبة للمريض وعلاجه، فقد أخبرنى البعض أن من يطلب الطبيب لا يستعين بالدعاء، والحقيقة غير ذلك، فالوالد الذي يدعو ربه لشفاء ولده، لا فائدة من دعائه إذا كان ولده قد مات أو إذا كان مرضه مميتا حتما، ولكن قد يكون للمرض طرق علاج خاصة، أو يشفى من نفسه فى ظروف خاصة، فالدعاء فى هذه الحال معناه إلهام المريض ومن حوله من طبيب وغيره استعمال الطريق المؤدى إلى الشفاء، والطبيب يحتاج دائما إلى هذا الإلهام، وكم من مرة يقف فى مفترق الطرق ولا يدرى أية ناحية يسلك، وكل طريق سنة طبيعية تؤدى إلى نتيجة خاصة، والدعاء هداية إلى السنة المؤدية إلى الشفاء، وهكذا يكون الدعاء والتطبيب وكل أعمال الإنسان يكمّل بعضها بعضا وليست متناقضة، فدعاء سيدنا إبراهيم معناه أن يلهم الناس بواسطة القوانين الطبيعية حج البيت، وقد يقال ولكننا لا نشعر بإلهام من عند الله، وكل أفعالنا نتيجة مباشرة لتفكيرنا، والشخص الذي يحج(13/160)
لا يشعر بإلهام أو شىء خفى، ولكن الحقيقة أن أفعال الإنسان قد تكون نتيجة تفكيره واختباراته ويكون سبب حركاتها ظاهرا وقد تكون أفعاله غير منطبقة على تفكيره واختباراته ولكنه مع ذلك يندفع إلى العمل، وكثيرا ما نشاهد أشخاصا لا يفكرون فى الحج مدة طويلة، ولكن فجأة وبدون سبب ظاهر يصممون على الحج وينفذون إرادتهم، وهذا العمل ظاهره الاختيار طبعا ولكنهم مدفوعون بقوة مسيطرة عليهم أشبه بالغريزة أو الوحى.
وقد أجاب الله إبراهيم إلى دعائه، فألهم الناس الحج فى آلاف السنين وإلى ما شاء الله، لا فى مدى حياته فحسب وفى هذا إظهار لقدرة الخالق وصدق وعده اه.
(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجبات العبودية.
وفى هذا إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وتحصيل الطاعات، وفى دعائه عليه السلام مراعاة للأدب والمحافظة على الضراعة وعرض الحاجة واجتلاب الرأفة، ومن ثم منّ الله عليه بالقبول وإعطاء المسئول، ولا بدع فى ذلك فهو خليل الرحمن وأبو الأنبياء جميعا.
(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي أنت تعلم ما تخفى قلوبنا حين سؤالك ما نسأل، وما نعلن من دعائنا فنجهر به.
(وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولا يخفى على الله شىء يكون فى الأرض أو فى السماء، لأن ذلك كله ظاهر متجلّ له، لأنه مدبره وخالقه، فكيف يخفى عليه.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أي الحمد لله الذي وهب لى وأنا آيس من الولد لكبر سنى- ولدين: إسماعيل وإسحاق.
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إن ربى لسميع دعائى الذي أدعو به من قولى:
«اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» وقد كان إبراهيم سأله الولد(13/161)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
بقوله: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فلما استجاب الله دعاءه قال الحمد لله إلخ.
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي رب اجعلنى مؤديا ما ألزمتنى من فريضتك التي فرضتها علىّ.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل أيضا ذريتى مقيمى الصلاة، وقد خص الصلاة من بين فرائض الدين لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره، ولما لها من المزية العظمى فى تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) المراد بالدعاء العبادة أي ربنا تقبل عبادتى كما جاء فى قوله:
«وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي» .
وجاء فى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ.
وقال ربّكم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» .
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي ربنا اغفر لى ما فرط منى من الذنوب ولأبوىّ، وقد روى عن الحسن أن أمه كانت مؤمنة: واستغفاره لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه كما قال تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» الآية، وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه، فأطاعك فى أمرك ونهيك- يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)(13/162)
تفسير المفردات
تشخص: ترتفع، مهطعين: مسرعين إلى الداعي، مقنعى رءوسهم: أي رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شىء. لا يرتد: لا يرجع، هواء:
خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ويقال للجبان والأحمق قلبه هواء: أي لا قوة ولا رأى له كما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب:
ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... فأنت مجوّف نحب هواء
من زوال: أي من انتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء وضربنا لكم الأمثال: أي بينا لكم أنهم مثلكم فى الكفر واستحقاق العذاب. عزيز: أي غالب(13/163)
على أمره ينتقم من أعدائه لأوليائه، وبرزوا: أي خرجوا من قبورهم، مقرّنين أي مشدودين، فى الأصفاد: أي فى القيود واحدها صفد، سرابيلهم، واحدها سربال:
وهو القميص، والقطران: دهن يتحلّب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت. ويقال له الهناء، وهو أسود اللون منتن الريح تقول هنأت البعير أهنؤه إذا طليته بالهناء، وتغشى وجوههم النار: أي تعلوها وتحيط بها، بلاغ:
كفاية فى العظة والتذكير.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن جزاء من بدّلوا نعمة الله كفرا وجعلوا له الأنداد جهنم يصلونها وبئس المهاد، وطلب إلى عباده المؤمنين مجاهدة النفس والهوى وإقامة فرائض الدين- ذكر هنا تسلية لرسوله وتهديدا للظالمين من أهل مكة أن تأخيرهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية ليس إعمال للعقوبة ولا لغفلة عن حالهم، وإنما كان لحكمة اقتضت ذلك وهم مرصدون ليوم شديد الهول، له من الأوصاف ما بيّن بعد، وعليك أيها الرسول أن تنذر الناس بقرب حلوله، وأنهم فى ذلك اليوم سيطلبون المردّ إلى الدنيا ليجيبوا دعوة الداعي، وهيهات هيهات.
صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الصّرع ما قرى فى الحلاب
وقد كان لكم معتبر فى تلك المساكن التي تسكنونها، فإنها كانت لقوم أمثالكم كفروا بأنعم الله، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ألا إن وعد الله لرسله لا يحلف، وهو ناصرهم وخاذل أعدائه، كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا» وقال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» ومحاسبهم فى يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات. يوم يخرجون من قبورهم للحساب أمام الواحد القهار، وترى حال المجرمين يجلّ عن الوصف.(13/164)
وهذا الذي قصصته عليكم تبليغ وإنذار، ليتذكر به ذوو العقول الراجحة، وليعلموا أن الله واحد لا شريك له.
الإيضاح
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) تقدم أن مثل هذا الخطاب من وادي قولهم: (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو فى صورته للنبى صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته، وفيه تسلية للمؤمنين وتهديد للظالمين بأن الله محص أعمالهم ومحيط بها، وسيجزيهم وصفهم فى الحين الذي سبق فى علمه، وأن عقابهم لا بد آت، فتركه بمنزلة حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم، إذ العلم بذلك مستوجب لعقابهم لا محلة.
ثم أوعدهم حلول يوم يحاسبون فيه على أعمالهم وفيه من الهول ما يحيّر اللب، ويدهش العقل فقال:
(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي إنما يمهلهم ويمتعهم بكثير من لذات الحياة ولا يعجل عقوبتهم، ليوم شديد الهول ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، وتبقى مفتوحة لا تطرف من الفزع والاضطراب.
(مُهْطِعِينَ) أي يأتون مسرعين إلى الداعي بالذلة والاستكانة كما يسرع الأسير والخائف.
(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شىء.
(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم كما كانوا يفعلون فى الدنيا فى كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف من شدة الفزع والخوف.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي إنها مضطربة تجيش فى صدورهم، تجىء وتذهب، ولا تستقر فى مكان حتى تبلغ الحناجر، لشدة ما يرون من هول موقف الحساب.
ثم ذكر مقالتهم حين يرون هذا الهول وما فيه من العذاب فقال:
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ(13/165)
نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أي وحوّف أيها الرسول القوم الظالمين، وازجرهم عما هم عليه من الظلم شفقة بهم- هول يوم العذاب وشدته حين يقولون من الهلع والجزع:
ربنا أرجعنا إلى الدنيا، وأمهلنا أمدا قريبا، نجب فيه دعوة الرسل إلى توحيدك، وإخلاص العبادة لك، بعد أن جحدنا ذلك.
ثم رد عليهم مقالتهم بقوله:
(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي وحينئذ يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تحلفوا فى الدنيا أنكم إذا متّم لا تخرجون لبعث ولا حساب كما حكى الله عنهم «وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» فذوقوا وبال أمركم.
أخرج البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى فى أربع منها، فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون:
«رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟» فيجيبهم الله عزّ وجلّ «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» ثم يقولون: «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» فيجيبهم جل شأنه: «فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الآية، ثم يقولون: «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» فيجيبهم تبارك وتعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» الآية، ثم يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» فيجيبهم جل جلاله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» فيقولون «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» فيجيبهم جلا وعلا «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق وحينئذ ينقطع رجاؤهم ويقبل بعضهم ينبح فى وجه بعض وتطبق عليهم جهنم. اللهم إنا نعوذ(13/166)
بك من غضبك، ونلوذ بكنفك من عذابك، ونسألك التوفيق للعمل الصالح فى يومنا لغدنا، والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا اه.
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي وأقمتم فيها واطمأننتم وسرتم سيرة من قبلكم فى الظلم والفساد، لم تفكروا فيما سمعتم من أخبار من سكنوها قبلكم ولم تعتبروا بأيام الله فيهم وأنه أهلكهم بظلمهم، وأنكم إن سرتم سيرتهم حاق بكم مثل ما حاق بهم، بعد أن تبين لكم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم، ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك الأشباه والنظائر، فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم.
الآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم من العذاب ما نزل؟ فهيهات هيهات، قد فات ما فات، ولن يكون ذلك حتى يلج الجمل فى سم الخياط.
ثم بين أن حالهم كحال من سبقهم حذو القذّة بالقذّة فقال:
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكروا فى إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم الذي استفرغوا فيه كل جهدهم، وأحكموا أسبابه حتى لم يبق فى قوس الحق منزع.
ثم ذكر بعدئذ أن الله عليم بكل ما دبّروا فقال:
(وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) أي ومكتوب عند الله مكرهم، وهو لا محالة لمجازيهم عليه، ومعذبهم من حيث لا يشعرون.
والخلاصة- عند الله جزاؤهم وما هو أعظم منه، فرأيهم آفن، إذ هم سلكوا طريقا كان ينبغى البعد عنها بعد أن استبان فسادها.
ثم ذكر أن عاقبة مكرهم الخسران والبوار فقال:
(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي وما كان مكرهم لتزول به آيات الله وشرائعه، ومعجزاته الظاهرة على أيدى الرسل التي هى كالجبال فى الرسوخ والثبات.(13/167)
والخلاصة- تحقير شأن مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات الثابتة ثبوت الجبال، فليس بمزيل شيئا منها مهما قوى وكان غاية فى المتانة والعظم.
(فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) هذا الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلّم على نهج سالفه، والمقصود منه تثبيت أمته على ثقتهم بوعد ربهم وتيقنهم بإنجازه، بتعذيب الظالمين وأنه منزل سخطه بمن كذّبه وجحد نبوته.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) أي غالب على أمره، لا يمتنع منه من أراد عقوبته، قادر على كل من طلبه، لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام ممن كفر برسله، وكذبتهم وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره.
ثم ذكر زمان الانتقام فقال:
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أي إنه تعالى ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض بأن تتطاير هذه الأرض كالهباء وتصير كالدخان المنتشر ثم ترجع أرضا أخرى بعد ذلك، وتبدل السموات بانتشار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
قال ابن عباس رضى الله عنهما هى تلك الأرض إلا أنها تغيرت فى صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت،
وروى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيسطها ويمدها مدّ الأديم العكاظىّ، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا» .
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن التي أيدها العلم الحديث وانطبقت عليه أشد الانطباق، فعلماء الفلك الآن يقولون إن الأرض والشمس وسائر الكواكب السيارة كانت فيما مضى كرة نارية حارة طائرة فى الفضاء، ودارت على محورها ملايين السنين، ثم تكونت منها الشمس، وبعد ملايين أخرى فصلت منها السيارات ومنها الأرض، وبعد مئات الألوف انفصلت عنها الأقمار.(13/168)
ولا شك أن هذه الحال بعينها ستعاد كرّة أخرى: أي إن الأرض والكواكب والشمس بعد ملايين السنين ستنحلّ مرة أخرى ويذوب ذلك الموجود كله، ويتطاير فى الفضاء حقبة من الزمن، ثم تعاد كرة أخرى وتكون شمس غير هذه الشمس وأرض غير هذه الأرض وسموات غير هذه السموات.
روى مسلم عن عائشة قالت «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات- فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال:
على الصراط» .
وروى عن أبىّ بن كعب أنه قال فى معنى التبديل: إن الأرض تصير نيرانا.
وعلى الجملة فقد اتفق العلم الحديث مع الآيات والأحاديث على أن الأرض تصير نارا وأن الناس لا يكونون عليها، بل هناك ما هو أعجب وهو ما روى عن ابن مسعود وأنس رضى الله عنهما من قولهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة، ولا بدع فى أن تكون أرضا جديدة لم يسكنها أحد، بل تخلق خلقا جديدا.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي وخرجوا من قبورهم لحكم الله والوقوف بين يدى الواحد القهار، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار سواه.
وفى هذا من تهويل الخطب ما لا يخفى، لأنهم إذا وقفوا عند ملك عظيم قهار لا يشاركه سواه فى سلطانه كانوا على خطر، إذ لا منازع له ولا مغيث سواه.
وبعد أن وصف سبحانه نفسه بكونه قهارا- بين عجز المجرمين وذلتهم فقال:
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وصفهم سبحانه بحملة أمور:
(1) إنه يقرن بعضهم إلى بعضهم فى القيود ويضمّ كلّ إلى مشاركه فى كفره وعمله كما قال تعالى «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» وقال: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ» وفى الحديث: «أنت مع من أحببت» .(13/169)
(2) إن قمصهم التي يلبسونها من قطران، والمراد من ذلك أن جلود أهل النار تطلى بالقطران حتى يعود طلاؤها كالسرابيل، ليجتمع عليهم أربعة ألوان من العذاب:
لذع القطران وحرقته، وإسراع اشتعال النار فى الجلود، واللون الأسود الموحش، وننن الريح.
(3) إن وجوههم تعلوها النار، وتحيط بها وتسعّر أجسامهم المسربلة بالقطران، وإنما ذكرت الوجوه مع أن ذلك يكون لسائر الجسم- لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها.
ونظير الآية قوله: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقوله:
«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» .
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي فعل الله ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبوا فى الدنيا من الآثام، لكى يثيب كل نفس بما كسبت من خير أو شر، فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسب جميع العباد فى أسرع من لمح البصر، ولا يشغله حساب عن حساب: كما لا يشغله رزق زيد عن رزق عمرو.
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي هذا القرآن الكريم بلاغ للناس، أبلغ الله به إليهم فى الحجة، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره.
(وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عقاب الله ويحذروا به نقمته.
(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي وليعلموا بما احتج به عليهم من الحجج فيه، إنما هو اله واحد لا آلهة شتى كما يقول المشركون بالله، وهو الذي سخر لهم الشمس والقمر، والليل والنهار، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم.
(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتذكروا ويتعظوا بما احتج الله به من الحجج، فيزدجروا عن أن يجعلوا معه إلها غيره، وفى تخصيص التذكر بأولى الألباب إعلاء لشأنهم، وإيماء إلى أنهم هم أهل النظر والاعتبار.(13/170)
وجملة القول: إنه سبحانه جعل لهذا البلاغ ثلاث فوائد هى الحكمة من إنزال الكتب والرسل:
(1) إن الرسل يخوّفون الناس عقاب الله وينذرونهم بأسه، ليكمّلوهم بمعرفة ربهم وتقواه والعمل على طاعته.
(2) إن الناس ترتقى قوتهم النظرية إلى منتهى كما لها، بتوحيد الخالق والاعتراف بأنه مدبر الكون والمسيطر عليه.
(3) إنهم يستصلحون قوتهم العملية بتدرعهم بلباس التقوى.
فذلكة لمحتويات السورة
(1) هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسموات والأرض.
(2) دم الكافرين الذين يستحبون الدنيا ويصدّون عن الدين القويم.
(3) بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم، ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي.
(4) التذكير بأيام الله ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم، ليكون فى ذلك تسلية لرسوله، وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار.
(5) وعيد الكافرين على كفرهم وذكر ما يلقونه من العذاب، وضرب الأمثلة لذلك.
(6) وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار، وضرب المثل لذلك.
(7) دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرا من الناس، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب.(13/171)
(8) بيان أن تأخير العذاب عن المجرمين ليوم معلوم إنما كان لحكمة اقتصت ذلك، وحينئذ يرون من الذلة والصغار وسوء العذاب ما يجل عنه الوصف.
ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة فى صبيحة يوم الأحد لثلاثين من شهر ربيع الثاني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه الكرام.(13/172)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر 5 اللغة التي كلم بها يوسف ملك مصر 6 الجهل وسوء تدبير الثروة أضاعا كثيرا من الممالك الشرقية فى القرون الأخيرة 7 جىء بيوسف مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ 9 لما ولى يوسف الوزارة ساس البلاد سياسة رشيدة وقت البلاد شر المجاعات 11 فى سفر التكوين أنه استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم 12 طلب من إخوته إحضار أخيه الشقيق 13 ممانعة الأب فى إرسال الأخ ثم الإذن لهم بذلك 15 أخذه العهد والميثاق عليهم 19 مقابلتهم ليوسف بعد إحضار الأخ وحسن معاملته لهم 20 سرقة الصواع 21 قضت الحكمة الإلهية عقاب إخوة يوسف بما فرطوا فى يوسف 23 أصح ما قيل فى سرقة يوسف 26 تشاورهم فيما يفعلون عند رجوعهم إلى أبيهم 27 لم يصدقهم يعقوب فى المعاذير التي أبدوها فى عدم رجوع الأخ معهم 28 سبب ما أصاب يعقوب من ابيضاض عينيه 29 نصيحة أولاد يعقوب له على حزنه الممضّ 30 كان لدى يعقوب إلهام بأن يوسف لا يزال حيا 34 لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه بادئ بدء؟(13/173)
الصفحة المبحث 35 تمثل النبي صلى الله عليه وسلّم حين فتح مكة بقول يوسف لا تثريب عليكم اليوم 39 كيف شم يعقوب رائحة يوسف 41 تأويل رؤيا يوسف من قبل 43 خرّ يعقوب وأولاده سجدا ليوسف 45 طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة 46 فى ذكر قصص يوسف إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم 50 التوسل إلى الله بصالح عباده 51 الحكمة فى إبهام وقت الساعة 52 الدين الإسلامى دين حجة وبرهان لا دين تقليد وتسليم 53 أرسل الله من البشر رسلا من قبل محمد فكيف يعجبون من رسالته عليه السلام؟
55 نصر الله رسله ينزل حين ضيق الحال وانتظار الفرج 56 فى قصص يوسف عبرة لذوى البصائر 61 اهتدى المسلمون بهدى القرآن فامتلكوا أكثر المعمور 63 الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته 67 تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله 70 إنكار المشركين للبعث 72 طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلّم آية غير القرآن 73 الرسول نذير لا جبار مسيطر 75 أقصى المدة التي يبقى فيها الجنين حيا فى الرحم 75 فى قوله عالم الغيب والشهادة دليل على وجود عوالم لا ترى بالعين المجردة كالجرائيم التي أثبتها العلم حديثا(13/174)
الصفحة المبحث 77 المرء بين أربعة أملاك بالليل وأربعة بالنهار 77 ليس أمر الحفظة ببعيد من العقل بعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها 78 الظلم مؤذن بخراب العمران 81 وفد عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما كان من أمرهما 82 كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك فى وجهه 85 تأنيب المشركين على اتخاذ الشركاء 86 من عنده مسكة من عقل لا يعبد ما لا يضر ولا ينفع 88 مثل الحق والباطل 95 كان رسول الله يأتى المقابر فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار 96 جزاء ناقضى العهد والميثاق 98 لا تعلق لبسطة الرزق بإيمان ولا كفر 99 طلبهم من الرسول آية غير القرآن 102 ليس محمد ببدع من الرسل ولا قومه بأول المكذبين 105 ليس ما اقترحوه من الآيات مما تقتضيه الحكمة 106 اصبر أيها الرسول كما صبر أولو العزم من الرسل 108 ليس هناك من دليل عقلى ولا نقلى على وجود الشركاء 112 مهام الرسالة 113 إنكار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلّم كثرة الزوجات مع ذكر الحكمة فى ذلك 114 لا تأتى المعجزات إلا على مقتضى الحكمة 114 لكل أجل كتاب لا يعدوه(13/175)
الصفحة المبحث 115 مثل الدنيا مثل مصنع رتبت أعماله على نهج معين لا تغيير فيه ولا تبديل 117 على الرسول البلاغ وعلى الله الحساب 118 لا معقب لحكم الله 124 الله هو خالق الأكوان، والمنفرد بالعظمة والسلطان 129 الإنسان يجب أن يكون فى هذه الحياة بين صبر وشكر 133 كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه 143 ما أعد الله لعباده السعداء من الثواب 145 محاورة بين الشيطان وأتباعه 146 مآل المتقين جنات النعيم 147 مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة 149 فائدة ضرب الأمثال 150 سؤل الملكين فى القبر 154 الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة 156 نعم الله على عباده 157 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 158 دعاء إبراهيم بجعل مكة بلدا آمنا 160 الدعاء سنة طبيعية 161 إجابة دعاء إبراهيم 164 سيطلب المجرمون العودة إلى الدنيا وهيهات هيهات 165 وصف حال المجرمين فى ذلك اليوم 167 حال مشركى قومك كحال من سبقهم 168 يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات 169 سيكون المجرمون مقرنين فى الأصفاد والسلاسل(13/176)
الجزء الرابع عشر
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع عشر(14/1)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
الجزء الرابع عشر
سورة الحجر
هى مكية وآيها تسع وتسعون.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها من وصف الكتاب المبين.
(2) إنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين كما كانت السالفة كذلك.
(3) إن فى كل منهما وصف السموات والأرض.
(4) إن فى كل منهما قصصا مفصّلا عن إبراهيم عليه السلام.
(5) إن فى كل منهما تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم وكانت العاقبة للمتقين.
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)(14/3)
شرح المفردات
ربما (بضم الراء وتخفيف الباء وتشديدها) كلمة تدل على أن ما بعدها قليل الحصول، فإذا قيل ربما زارنا فلان دل على أن حصول الزيارة منه قليل، يلههم: أي يشغلهم من قولهم: لهيت عن الشيء ألهى لهيا إذا أعرضت عنه، ما تسبق: أي ما يتقدم زمان أجلها.
الإيضاح
(الر) تقدم القول فى بيان معانى هذه الحروف ومبانيها، فذكرنا أنها حروف تنبيه بمنزلة ألا، ويا، وينطق بأسمائها ساكنة فيقال: (ألف. لام. را) .
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي تلك السورة من آيات ذلك الكتاب الكامل من بين سائر الكتب المنزلة من عند الله، المبين للرشد من الغى، والمظهر فى تضاعيفه للحكم والأحكام.
(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) هذا إخبار من الله عن الكفار بأنهم سيندمون فى الآخرة على ما كانوا عليه من الكفر، ويتمنون أن لو كانوا فى الدنيا مسلمين.
عن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اجتمع أهل النار فى النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين:
ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا بلى، قالوا فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا فى النار؟
قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان فى النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا يا ليتنا كنا مسلمين(14/4)
فنخرج كما خرجوا، قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين، ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» .
ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . قال الزجاج: إن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ودّ أن لو كان مسلما.
وقصارى ذلك- قد يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين حينما يعاينون العذاب وقت الموت: «والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون» وفى الموقف حينما يرون هول العذاب وقد انصرف المسلمون إلى الجنة وسيقوا هم إلى النار، والمسلمون المذنبون عذّبوا بذنوبهم ثم خرجوا منها وبقي الكافرون فى جهنم.
وقد جاءت (ربما) للتقليل على سنة العرب فى نحو قولهم: ربما تندم على ما فعلت، ولعلك تندم على ما فعلت، لا يقصدون التقليل فى نحو ذلك، وإنما يريدون أن الندم لو كان مشكوكا فيه أولو كان قليلا لحق عليك ألا تفعل هذا الفعل، إذ العاقل يتحرز من التعرض للغم المظنون كما يتعرض للغم المتيقن، ويبتعد عن القليل منه كما يبتعد عن الكثير.
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي دعهم أيها الرسول فى غفلاتهم يأكلون كما تأكل الأنعام، ويتمتعون بلذات الدنيا وشهواتها، وتلهيهم الآمال عن الآجال، فيقول الرجل منهم غدا سأنال ثروة عظيمة، وأحظى بما أشتهى، ويعلو ذكرى، ويكثر ولدي، وأبنى القصور، وأكثر الدور، وأقهر الأعداء، وأفاخر الأنداد، إلى نحو ذلك مما يغرق فيه من بحار الأمانى والآمال وطلب المحال.
ثم علل الأمر بتركهم بقوله:
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم إذا هم عاينوا سوء جزائهم، ووخامة عاقبتهم وفى هذا وعيد بعد تهديد، وإلزام لهم بالحجة ومبالغة فى الإنذار، وقد(14/5)
جاء فى أمثالهم (أعذر من أنذر) وإيماء إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها- ليس من أخلاق المؤمنين.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» .
وروى عن الحسن أنه قال: ما أطال عبد الأمل، إلا أساء العمل،
وروى عن على أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنتين، طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسى الآخرة، واتباع الهوى يصدّ عن الحق.
وبعد أن هدد من كذب الرسول بقوله: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل، ذكر سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم التعجيل به كما فعل بكثير من الأمم السالفة فقال:
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي وما أهلكنا قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها، أو بإخلائها من أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بأخرى، إلا ولها أجل مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ لا ينسى ولا يغفل عنه ولا يتقدم عن وقته ولا يتأخر.
وخلاصة ذلك- إننا لو شئنا لعجلنا لهم العذاب فصاروا كأمس الدابر، ولكن لكل أجل كتاب، وشأننا الإمهال لا الإهمال.
وبعد أن بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم بحسب ما هو مكتوب فى اللوح- بين أن كل أمة منهم ومن غيرهم لها أجل لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال:
(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يجىء هلاك أمة قبل محىء أجلها، ولا يتأخر الهلاك متى حل الأجل.
وفى هذا تنبيه لأهل مكة وارشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والإلحاد(14/6)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
الذي يستحقون به الهلاك، وزجر لهم بأن هذا الإمهال لا ينبغى أن يغترّوا به، فالهلاك مدّخر لهم لا يتقدم ولا يتأخر.
[سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
تفسير المفردات
الذكر: هو القرآن، و (لوما) مثل (هلا) كلمة تفيد الحث والحضّ على فعل ما يقع بعدها، منظرين: أي مؤخرين، والشيع: واحدهم شيعة وهى الجماعة المتفقة على مبدأ واحد فى الدين والمعتقدات، أو فى المذاهب والآراء. نسلكه: أي ندخله يقال سلكت الخيط فى الإبرة: أي أدخلته فيها، يعرجون: يصعدون، سكّرت:
سددت ومنعت من الإبصار، مسحورون: أي سحرنا محمد بظهور ما أبداه من الآيات
المعنى الجملي
بعد أن هدد سبحانه الكافرين وبالغ فى ذلك أيما مبالغة- شرع يذكر بعض مقالاتهم فى محمد صلى الله عليه وسلم المتضمنة للكفر بما جاء به، ثم يذكر ما هم فيه من(14/7)
جحود وعناد بلغا مدى تنكر معه المشاهدات، ويدّعى معه السحر والخداع حين رؤية المبصرات.
ثم ذكر سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له أن ما صدر منهم من السفه ليس بدعا، فهذا دأب كل محجوج، فكثير من الأمم السالفة فعلت مثل هذا مع أنبيائها، فلك أسوة بهم فى الصبر على سفاهتهم وجهلهم.
قال مقاتل: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أمية والنضر بن الحرث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.
الإيضاح
(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي وقالوا استهزاء وتهكما: أيها الرجل الذي زعم أنه نزّل عليه القرآن: إن ما تقوله أملاه عليك الجنون، وليس له معنى معقول، وهو مخالف لآرائنا، بعيد من معتقداتنا، فكيف نقبل ما لا تقبله العقول، ولا ترضاه الفحول، من رجالاتنا الفخام، وعشائرنا العظام؟
(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إن كان ما تدعيه حقا وقد أيدك الله وأرسلك، فما منعك أن تسأله أن ينزل معك ملائكة من السماء يشهدون بصدق نبوتك.
وخلاصة ذلك: إن من يخالف آراءنا إما مجنون وإما له سلطان عظيم من ربه، وحينئذ فماذا يمنعه أن يقويه بالملائكة ليشهدوا بصدقه؟.
ونحو الآية قوله: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ» وقال فرعون فى شأن موسى: «فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين» وقوله: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» .(14/8)
وقد أجاب الله عن اقتراحهم فقال:
(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما ننزل الملائكة إلا بالحكمة والفائدة، وليس فى نزول الملائكة من السماء وأنتم تشاهدونهم- فائدة لكم، لأنكم إذا رأيتموهم قلتم إنهم بشر لأنكم لا تطيقون رؤيتهم إلا وهم على الصورة البشرية، إذ هم من عالم غير عالمكم، وإذا قالوا نحن ملائكة كذبتموهم، لأنهم على صورتكم فيحصل اللبس ولا تنتفعون بهم وإلى هذا أشار فى سورة الأنعام بقوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» .
(وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي إن فى نزول الملائكة ضررا لهم لا محالة، لأنا مهلكهم ولا نؤخرهم، إذ قد جرت عادتنا فى الأمم قبلهم أنهم إذا اقترحوا آية وأنزلناها عليهم ولم يؤمنوا بها- يكون العذاب فى إثرها، فلو أنا أنزلناهم ولم يؤمنوا بهم لحق عليهم عذاب الاستئصال ولم ينظروا ساعة من نهار.
والخلاصة- إنه ليس فى إنزال الملائكة إليهم فائدة لهم بل فيه اللبس عليهم، إلى ما فيه من الضرر المحقق لهم وهو الهلاك، وحينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم.
ثم أجاب سبحانه عن قولهم الأول، وردّ إنكارهم تنزيل الذكر واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلّاه على ذلك بقوله:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي إنما أنتم قوم ضالون مستهزئون بنبينا، وليس استهزاؤكم بضائره، لأنا نحن نزلنا القرآن ونحن حافظوه، فقولوا إنه مجنون، ونحن نقول: إنا نحفظ الكتاب الذي أنزلناه عليه من الزيادة والنقص، والتغيير والتبديل، والتحريف والمعارضة، والإفساد والإبطال.
وسيأتى فى مستأنف الأزمان من يتولون حفظه والذب عنه، ويدعون الناس إليه، ويستخرجون لهم ما فيه من عبر وحكم، وآداب وعلوم، تناسب ما تستخرجه(14/9)
العقول من المخترعات، وتستنبطه الأفكار من نظريات وآراء فيستنير بها العارفون، ويهتدى بهديها المفكرون، فلا تبتئس أيها الرسول بما يقولون وما يفعلون.
ثم سلّى رسوله عما أصابه من سفه قومه وادعائهم جنونه- بأن هذا دأب الأمم المكذبة لرسلها من قبل، فلقد أصابهم مثل ما أصابك من قومك، فاستهزءوا بهم كما استهزأ قومك بك، فنصرنا رسلنا وكبتنا أعداءهم، وسيكون أمركم وأمرهم كذلك، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي إننا أرسلنا قبلك رسلا لأمم قد مضت، وما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزءوا به، لما جرت به العادة من أن فعل الطاعات وترك اللذات- مستثقل على النفوس- إلى أنهم يدعونهم إلى ترك ما ألفوا من المعتقدات الخبيثة، وترك عبادة الأوثان الباطلة، وذلك مما يشق على النفوس، إلى أن الرسول قد يكون فقيرا لا أعوان له ولا أنصار، ولا مال ولا جاه، فلا يتبعه الرؤساء وذوو البأس والقوة، بل يعملون على مشاكسته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، إلى أن الله يخذلهم ويلقى دواعى الكفر فى قلوبهم بحسب السنن التي سنها لعباده كما يرشد إلى ذلك قوله:
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي كذلك نلقى القرآن فى قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لديهم، لأنه ليس فى نفوسهم استعداد لتلقى الحق، ولا تضىء نفوسهم بمصابيح هدايته الربانية، كما كانت حال الأمم الماضية حين ألقيت عليهم الكتب المنزّلة من الملأ الأعلى.
وقد جرت سنة الله فى الأولين ممن بعث إليهم الرسل أن يخذلهم ويدخل لكفر والاستهزاء فى قلوبهم، ثم يهلكهم وتكون العاقبة للمتقين والنصر حليف رسله والمؤمنين، فلك أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي فى ذلك.
والخلاصة- هكذا نفعل باللاحقين كما فعلنا بالسابقين، ويستهزىء بك(14/10)
المجرمون ولا يؤمنون بكتابنا، وسيحل بهم مثل ما حل بالأولين وننصرك عليهم بعد حين كما قال: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» .
ثم بين سبحانه عظيم عنادهم ومكابرتهم للحق فقال:
(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أي ولو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء فظلوا فى ذلك الباب يصعدون، فيرون من فيها من الملائكة، وما فيها من العجائب- لقالوا لفرط عنادهم وغلوهم فى المكابرة: إنما سدت أبصارنا، فما نراه تخيل لا حقيقة له، وقد سحرنا محمد بما يظهر على يديه من الآيات.
ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
وخلاصة هذا- هبنا فتحنا عليهم بابا من السماء وقلنا لهم اعرجوا فيه، أفلا يقولون فى أنفسهم ويقول بعضهم لبعض: إنما سحرنا محمد كما يفعل علماء السيميا.
إذ يفعلون أفعالا تخيل للإنسان أنه طائر وليس بطائر، وكما يفعل علماء التنويم المغناطيسى فى هذه الأيام، فالمنوّم يقول للمنوّم: أنت ملك. أنت امرأة. أنت كذا فيصدّق كل ما قيل له. وهكذا فى النوع البشرى أقوام لهم قدرة على استهواء العقول فيخيلون للإنسان ما لا حقيقة له، وقد أصبح هذا العلم فنّا يدرس فى معاهد أوربا وأمريقا. فكيف يكون مثل هذا دليلا أو موجبا للتصديق؟ كلا فإن أمثال ذلك لا يقوم بهداية نوع الإنسان.
وبعد فكيف يقترح هؤلاء عليك الآيات، ويغرمون بما يخرق العادات، من ملائكة يرونها، وعجائب ينظرونها، وهل تغنى تلك الآيات، وهل النوع الإنسانى يكفيه ما يخالف العادات؟ فما يشتبه على الناس بأفعال السحرة والمشعوذين يوقعهم(14/11)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
فى اللبس، فكم من نبى أيدناه بمثل تلك الآيات ولم يؤمن به من قومه إلا قليل منهم، وما الآيات إلا ما تفهمه العقول، وتمحّصه القرائح درسا وتحليلا، وبحثا واستنباطا.
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 20]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
تفسير المفردات
البروج: واحدها برج وهى النجوم العظام، ومنها نجوم البروج الاثني عشر المعروفة فى علم الفلك، للناظرين: أي المفكّرين المستدلين بذلك على قدرة مقدّرها وحكمة مدبّرها، وحفظناها: أي منعناها، والرجيم: أي المرجوم المرمى بالرّجام: أي الحجارة، والمراد بالرجيم هنا المرمىّ بالنجوم، واسترق: من السرقة، وهى أخذ الشيء خفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى، والسمع: المراد به ما يسمع، والشهاب:
الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن السحاب فى الجو وتبعث القوم تبعا وتباعة بالفتح: أي مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، مددناها: أي بسطناها، والرواسي: واحدها راسية وهى الجبال الثوابت.
موزون: أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر شديد جحودهم وأنهم مهما أوتوا من الآيات لم يفدهم ذلك شيئا حتى بلغ من أمرهم أن ينكروا المشاهدات ويدعوا الخداع حين رؤية المبصرات،(14/12)
- أعقب هذا ببيان أنهم قد كانوا فى غنى عن كل هذا، فإن فى السماء وبروجها العالية، وشموسها الساطعة، وأقمارها النيّرة، وسياراتها الدائرة، وثوابتها الباسقة عبرة لمن اعتبر، وحجة لمن ادّكر، فهلّا نظروا إلى الكواكب وحسابها، ونظامها ومداراتها، وكيف حدثت بها الفصول والسنون، وكيف كان ذلك بمقادير محدودة وأوقات معلومة؟ لا تغيير فيها ولا تبديل، فبأمثال هذا يكون اليقين، وبالتدبر فيه تقوى دعائم الدين، ويشتد أزر سيد المرسلين.
وهلّا رأوا الأرض كيف مدّت، وثبتت جبالها، وأنبتت نباتها، بمقادير معلومة موزونة فى عناصرها وأوراقها، وأزهارها وثمارها، وجعل فيها معايش للإنسان والحيوان. أفلا يعتبرون بكل هذا؟ «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» .
الإيضاح
(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أي ولقد خلقنا فى السماء نجوما كبارا ثوابت وسيارات، وجعلناها وكواكبها بهجة لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من عجائبها الظاهرة، وآياتها الباهرة، التي يحار الفكر فى دقائق صنعتها، وقدرة مبدعها.
ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ومنعنا كل شيطان رجيم من القرب منها كما قال فى آية أخري. «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» أي وحفظناها من كل شيطان خارج من الطاعة برميه بالشهب، كما تحفظ المنازل من متجسس يخشى منه الفساد.
(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أي لكن من أراد اختطاف شىء من عالم الغيب مما يتحدث به الملائكة فى الملأ الأعلى- تبعه كوكب مشتعل(14/13)
نارا ظاهرا للمبصرين فأحرقه، ولم يصل إلى معرفة شىء مما يدبّر فى ملكوت السموات، وبهذا المعنى قوله: «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ» .
وجاء بمعنى الآية قوله فى سورة الجن حكاية عنهم: «وأنّا لمسنا السّماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنّا كنّا نقعد منها مقاعد للسّمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» وقوله فى صورة الملك: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» .
وبعد، فالكتاب الكريم أخبر بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب مما لدى الملائكة الكرام، فسلّطت عليهم الشهب المشتعلة، والنجوم المتقدة، فأحرقتهم، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك، ولا ننعم فى النظر، لندرك حقيقته، لأنا لم نؤت من الوسائل والأسباب ما يمكننا من معرفة ذلك معرفة صحيحة، تجعلنا نؤمن به إيمانا مبنيا على البرهان بوسائله المعروفة، وليس لنا إلا التصديق بما جاء فى الكتاب وأوحى به إلى النبي الكريم، والبحث وراء ذلك لا يقفنا على علم صحيح، بل على حدس وتخمين، لا حاجة للمسلم به للاطمئنان فى دينه، فالأحرى به أن يعرض عنه لئلا يحيد عن القصد، ويضل عن سواء السبيل.
وبعد أن ذكر الدلائل السماوية على وحدانيته أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال:
(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي وقد بسطنا الأرض وجعلناها ممتدة الطول والعرض والعمق، ليمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل، وهذا فيما يظهر فى مرأى العين، فلا يدل على نفى الكروية عن الأرض، لأن الكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي.
(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت خوف أن تضطرب بسكانها كما قال فى آية أخرى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» وقد سبق تفصيل ذلك فى سورة الرعد.(14/14)
(وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي إن كل نبات قد وزنت عناصره وقدرت تقديرا، فترى العنصر الواحد يختلف فى نبات عنه فى آخر بوساطة امتصاص الغذاء من العروق الضاربة فى الأرض ومنها يرفع إلى الساق والأغصان والأوراق والأزاهير، والذي حدد هذا الاختلاف، تلك الفتحات الشعرية التي فى ظواهر الجذور وثقوب كل نبات لا تسع إلا المقدار اللازم لها من العناصر وتطرد ما سواه، لأنه لا يلائمها، إذ هى قد كونت على هيئة خاصة بحيث لا تبتلع إلا تلك المقادير بعينها.
وهاك عنصر البوتاس تره يدخل فى حب الذرة الذي نأكله بمقدار 32 وفى القصب 3 ر 34 وفى البرسيم بمقدار 6 ر 34 وفى البطاطس بمقدار 5 ر 61 وبهذا التفاوت صلح القصب لأن يكون سكرا، والبرسيم لأن يكون قوتا للبهائم، والذرة والبطاطس لأن تكونا قوتا للإنسان.
وحسبك دليلا على ذلك ما تجده فى سورة الرحمن من قوله: «وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» كما نظم سبحانه الكواكب فى سيرها وأوضاعها، وحركاتها وأضوائها، ووزن عناصرها بمقادير يتناسب بعضها مع بعض.
فلك الحمد ربنا جعلت كل شىء فى الحياة موزونا بقدر معلوم، لتتدبر نظم الحياة، فنعرف قدرة منشىء العالم، وأنه لم يخلق شيئا فيه جزافا، ليكون فيه دليل على قدرة المبدع والمدبر له حال وجوده.
(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي إن أنواع معايشكم من غذاء وماء، ولباس ودواء، قد سخرناها لكم فى الأرض، فلا السمك فى البحر غذّيتموه، ولا الطير فى الجوّ ربيتموه، ولا غيرهما من أشجار الجبال والغابات وحيوان البر والبحر خلقتموه.
(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي وجعلنا لكم فيها من لستم رازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب. وفى هذا إيماء إلى أن الله يرزقهم وإياهم لا أنهم يرزقون منهم، وفى ذلك عظيم المنة، وجزيل الفضل والعطاء، وواسع الرحمة لعباده.(14/15)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
وخلاصة هذا- إنه سبحانه يسّر لكم أسباب المكاسب، وصنوف المعايش وسخّر لكم الدواب التي تركبونها، والأنعام التي تأكلونها، والعبيد التي تستخدمونها، فكل أولئك رزقهم على خالقهم لا عليكم، فلكم منها المنفعة، ورزقها على الله تعالى.
[سورة الحجر (15) : الآيات 21 الى 25]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
تفسير المفردات
الخزائن: واحدها خزانة وهى المكان الذي تحفظ فيه نفائس الأموال، واللواقح: واحدها لاقح أي ذات لقاح وحمل، وأسقيناكموه: أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم، تقول العرب إذا سقت الرجل ماء أو لبنا سقيته، وإذا أعدوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا أسقيته أو أسقيت أرضه أو ماشيته. والمستقدمين:
من ماتوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يموتوا بعد.
المعنى الجملي
بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل النبات وجعل لنا فيه معايش فى هذه الحياة وهنا أتبعه بذكر ما هو كالسبب فى ذلك، وهو أنه تعالى مالك كل شىء وأن كل شىء سهل عليه، يسير لديه، فإن عنده خزائن الأشياء من النبات والمعادن النفيسة المخلوقات البديعة مما لا حصر له.(14/16)
الإيضاح
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي ما من شىء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به متى أردنا دون أن يكون تأخير ولا إبطاء، فخزائن ملكنا مليئة بما تحبون من النفائس، غير محجوبة عن الباحث الساعي إلى كسبها من وجوهها بحسب السنن التي وضعناها، والنظم التي قدرناها، ولا يمنعها مانع، ولا يستطيع دفعها دافع، فهى تحت قبضة الطالب لها إذا أحسن المسعى.
وأحكم الطلب كما قال: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .
(وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وما نعطى ذلك ألا بقسط محدود نعلم أن فيه الكفاية لدى الحاجة، وفيه الرحمة بالعباد كما قال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» .
وقد جرت سنة القران بأن يسمى ما يصل إلى العباد بفضل الله وجوده إنزالا كما قال: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» وقال «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» .
ثم فصل بعض ما فى خزائنه من النعم فقال:
(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي إن من فضله على عباده وإحسانه إليهم أن أرسل إليهم الرياح لواقح، ويكون ذلك على ضروب.
(1) أن يرسلها حاملات للسحاب، فتلقّح بها الأشجار بما تنزل عليها من الأمطار فتغيرها من حال إلى حال، فتعطيها حياة جديدة إذ تزدهر أزهارها، وتثمر أغصانها، بعد أن كانت قد ذبلت وصوّحت، وأصبحت فى مرأى العين كأنها ميتة لا حياة فيها كما قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ» .(14/17)
(2) أن يرسلها ناقلة لقاح الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث لتخرج الثمر والفواكه للناس.
(3) أن يرسلها لتزيل عن الأشجار ما علق بها من الغبار، لينفذ الغذاء إلى مسامّها فيكون ذلك رياضة للشجر والزرع كرياضة الحيوان.
(فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي فأنزلنا من السحاب مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب زرعكم ومواشيكم، وفى ذلك استقامة أمور معايشكم، وتدبير شئون حياتكم إلى حين كما قال: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .
(وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي ولستم بخازنى الماء الذي أنزلناه، فتمنعوه من أن أسقيه من أشاء، لأن ذلك بيدي وهو خاضع لسلطانى، إن شئت حفظته على سطح الأرض، وإن شئت غار فى باطنها وتخلل طبقاتها، فلا أبقى منه شيئا ينفع الناس والحيوان، ويسقى الزرع الذي عليه عماد حياتكم.
والخلاصة- نحن القادرون على إيجاده وخزنه فى السحاب وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين.
وبعد أن ذكر نظم المعيشة فى هذه الحياة ذكر إحياء الإنسان وإماتته فقال:
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي وإنا لنحيى من كان ميتا إذا أردنا، ونميت من كان حيا إذا شئنا، ونحن نرث الأرض ومن عليها، فنميتهم جميعا ولا يبقى حىّ سوانا، ثم نبعثهم كلهم ليوم الحساب، فيلاقى كل امرئ جزاء ما عمل إن خيرا وإن شرا.
ثم أقام الدليل على إمكان ذلك وأثبت قدرته عليه فقال:
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي ولقد علمنا من مضى منكم وأحصيناهم وما كانوا يعملون، ومن هو حى ومن سيأتى بعدكم، فلا تخفى علينا أحوالكم ولا أعمالكم، فليس بالعسير علينا جمعكم يوم التناد للحساب والجزاء يوم ينفخ فى الصور كما قال:(14/18)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) فيجمع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة، من أطاعه منهم ومن عصاه، ويجازى كلا بما عمل، بحسب ما وضع من السنن، وقدّر من ارتباط المسببات بأسبابها، وجعل لكل عمل جزاء له.
ثم أكد هذا وزاده إيضاحا فقال:
(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى باهر الحكمة واسع العلم، فهو يفعل ما يشاء على مقتضى الحكمة والعدل، وما يؤيده من سعة العلم والفضل.
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)(14/19)
تفسير المفردات
صلصال: أي طين يا بس يصلصل ويصوّت إذا نقر وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخّار، وحما: أي طين تغير واسودّ من مجاورة الماء له واحدته حمأة، ومسنون:
أي مصوّر مفرغ على هيئة الإنسان كالجواهر المذابة التي تصب فى القوالب. والجانّ:
أي هذا الجنس كما أن الإنسان يراد به ذلك، فإذا أريد بالإنسان آدم أريد بالجان أبو الجن، ونار السموم: هى النار الشديدة الحرارة التي تقتل وتنفذ فى المسامّ، بشرا: أي إنسانا وسمى بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده، سويته: أي أتممت خلقه وهيّاته لنفخ الروح فيه، والنفخ: إجراء الريح من الفم أو غيره فى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، ويراد به هنا إضافة ما به الحياة على المادة القابلة لها، ورجيم: أي مرجوم مطرود من كل خير وكرامة، اللعنة: الإبعاد على سبيل السخط يوم الدين: أي يوم الجزاء، فأنظرنى:
أي أمهلنى وأخرنى ولا تمتنى، ويوم الوقت المعلوم: هو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق كما روى عن ابن عباس، والإغواء: الإضلال، هذا صراط علىّ: أي هذا صراط حق لا بد أن أراعيه مستقيم أي لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره، والسلطان: التسلط والتصرف بالإغواء، سبعة أبواب: أي سبع طبقات، جزء مقسوم:
أي فريق معين مفروز من غيره.
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي ولقد خلقنا أول فرد من أفراد الإنسان من طين يابس يصلصل ويصوت إذا نقر، أسود متغير مفرغ فى قالب ليجفّ وييبسن كالجواهر المذابة التي تصبّ فى القوالب.(14/20)
ونحو الآية قوله: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» وقد جاء «خلق آدم على أطوار مختلفة فكان أولا ترابا» كما قال:
«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» ثم كان طبنا كما قال:
«إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ» ثم كان صلصالا من حمأ مسنون كما جاء فى هذه الآية وإنما خلقه على ذلك الوضع، ليكون خلقه أعجب وأتم فى الدلالة على القدرة.
(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي وخلقنا هذا الجنس من قبل خلق آدم من نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته.
وعن ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ثم قرأ: (والجان خلقناه من قبل من نار السموم)
وقد ورد فى الصحيح «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» .
وفى الآية إيماء إلى شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده، وعلينا أن نؤمن بأن الجن خلقت من النار، ولكنا لا نعرف كنه ذلك ولا حقيقته، فذلك ما لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الوحى.
وبعد أن ذكر سبحانه فى معرض الدليل على قدرته- خلق الإنسان الأول، ذكر بعد مقاله للملائكة والجن بشأنه فقال:
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين نوّه ربكم بذكر أبيكم آدم فى ملائكته قبل خلقه، وتشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وعنادا واستكبارا بالباطل فقال: «لم أكن لأسجد» إلخ.(14/21)
وحكى عنه فى آية أخرى أنه قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» وتقدم هذا القصص فى سورة الأعراف وقلنا هناك: إن الأمر بالسجود أمر تكليفى، وأنه قد وقع حوار بين إبليس وربه، ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، إذ جعل الملائكة وهم المدبّرون لأمور الأرض بإذن ربهم مسخرون لآدم وذريته، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها لعله بسنن الله فيها وعمله بهذا السنن، فانتفع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها، وبذا أظهر حكمة الله فى خلقها، واصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين ومنذرين، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوّا له، وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله وإقامة سننه فى صلاح الخلق، وبين أرواح الجن الذين يغلب على شرارهم- الشياطين- التمرد والعصيان.
وقد ذكر سبحانه حجاج إبليس وذكر سبب امتناعه عن السجود لآدم بأنه خير منه، فإنه خلق من النار وآدم من الطين، والنار خير من الطين وأشرف منه، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره ربه بذلك.
وفى هذا ضروب من الجهالة وأنواع من الفسق والعصيان فإنه:
(1) اعترض على خالقه بما تضمنه جوابه.
(2) احتج عليه بما يؤيد به اعتراضه.
(3) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية.
(4) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية المواد بعضها على بعض أمر اعتباري تختلف فيه الآراء، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.(14/22)
(5) إنه قد جهل ما خصّ به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة والطاعة لربهم.
(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أمره سبحانه أمرا كونيا لا يخالف بالخروج من المنزلة التي كانت فيها من الملا الأعلى، ثم جعله مرجوما مطرودا وأتبعه لعنة لا تزال متواصلة لاحقة به متواترة عليه إلى يوم القيامة، وهو يبعث الخلق من قبورهم، فيحشرون لموقف الحساب وهو وقت النفخة الأولى، فلما تحقق النّظرة.
(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي قال إبليس: رب بسبب إغوائك إياى وإضلالى لأزينن لذرية آدم واحببنّ إليهم المعاصي وأرغّبنّهم فيها ولأغوينّهم كما أغويتنى وقدّرت علىّ ذلك إلا من أخلص منهم لطاعتك، ووفقته لهدايتك، فإن ذلك ممن لا سلطان لى عليه ولا طاقة لى به.
ثم هدده سبحانه وأوعده بقوله:
(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي قال هذا طريق مرجعه إلىّ، فأجازى كل امرئ بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما يقول القائل لمن يتوعده ويتهدده:
طريقك علىّ. وأنا على طريقك: أي لا مهرب لك منى، ونظير الآية قوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» .
وهذا رد لما جاء فى كلام إبليس حيث قال: «لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم.
ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم» الآية.
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي إن عبادى(14/23)
لا سلطان لك على أحد منهم سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، لكن من اتبعك باختياره صار من أتباعك.
وقال سفيان بن عيينة: ليس لك عليهم قوة ولا قدرة على أن تلقيهم فى ذنب يضيق عنه عفوى.
والخلاصة- إن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطانا بقوله لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين، فأكذبه الله بقوله إن عبادى إلخ.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس: «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» وقوله «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» .
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي وإن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس وهى مقرهم وبئس المهاد جزاء ما اجترحوا من السيئات وكفاء ما دنّسوا به أنفسهم من قبيح المعاصي.
(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي لها سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم فى الغواية والضلالة.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها: جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهى أسفلها.
(لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي كتب لكل باب منها فريق معين من أتباع إبليس يدخلونه ولا محيد لهم عند بحسب أعمالهم واختلاف مراتبهم فى النار.
قال ابن جريج: النار سبع دركات وهى جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية فأعلاها للعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات ثم ما بعدها تحتها وهكذا.(14/24)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
وروى عن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام، وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين العصاة، وهؤلاء يرجى لهم ولا يرجى لغيرهم أبدا. وليس فى هذا أثر مرفوع يمكن أن يركن إليه ويجعل حجة فيه.
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
تفسير المفردات
المتقون: هم الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب من الصغائر تكفرها الصلوات وغيرها، جنات: أي بساتين، وعيون: أي أنهار جارية، بسلام: أي بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، والغل: الحقد الكامن فى القلب، والسرر: واحدها سرير وهو مجلس رفيع مهيأ للسرور، والنصب: الإعياء والتعب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الغواية، وبين أنهم فى نار جهنم يخلّدون فيها أبدا، وأنهم يكونون فى طبقات بعضها أسفل من بعض، بمقدار ما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من المعاصي- أردفه ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من نعيم مقيم، ووفاق بعضهم مع بعض، لا ضغن بينهم ولا حقد، وهم يتحدثون على سرر متقابلين ولا يجدون مس التعب والنصب، ولا يخرجون منها أبدا.(14/25)
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي إن الذين اتّقوا الله وخافوا عقابه، فأطاعوا أوامره واجتنبوا نواهيه- يمتعون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار كما قال: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» الآية.
(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) أي ويقال لهم: ادخلوها وأنتم سالمون من الآفات والمنغصات، آمنون من سلب تلك النعم التي أنعم بها ربكم عليكم وأكرمكم بها، ولا تخافون إخراجا ولا فناء ولا زوالا.
(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي وأخرجنا ما فى صدور هؤلاء المتقين الذين ذكرت صفتهم- من الحقد والضغينة من بعضهم لبعض.
روى القاسم عن أبى أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما فى صدورهم فى الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما فى صدورهم فى الدنيا من غل ثم قرأ: (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) .
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن على كرم الله وجهه أنه قال لابن طلحة: إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) الآية. فقال رجل من همدان: إن الله سبحانه أعدل من ذلك، فصاح علىّ صيحة تداعى لها القصر، وقال. فمن إذا إن لم نكن نحن أولئك.
والخلاصة- إن الله طهّر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات فى الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادّ والتحاب والتصافي.
والمراد بكونهم على سرر متقابلين أنهم فى رفعة وكرامة.
وقد روى أن الأسرّة تدوربهم حيثما داروا، فهم فى جميع أحوالهم متقابلين، لا ينظر بعضهم إلى أقفية بعض، وهم يجتمعون ويتنادمون ويتزاورون ويتواصلون.(14/26)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي لا يلحقهم فى تلك الجنات مشقة ولا أذى، لأنهم ليسوا فى حاجة إلى ما يوجب ذلك من السعى فى تحصيل ما لا بدّ لهم منه، لحصول كل ما يشتهون من غير مزاولة عمل.
روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمرنى أن أبشّر خديجة ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
(وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي وهم خالدون فيها أبدا لا يبرحونها، يشعرون بلذة النعيم ودوامه، فهم فى خلود بلا زوال، وكمال بلا نقصان، وفوز بلا حرمان.
والخلاصة- إن المسرة بالنعيم لا تتم إلا إذا توافرت فيه أمور:
(1) أن يكون مقرونا بالتعظيم، وإلى ذلك الإشارة بقوله (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) .
(2) أن يكون خالصا من شوائب الضرر، روحانية كانت كالحقد والحسد والغضب، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) أو جسمانية كالإعياء والتعب، وإلى ذلك الإشارة بقوله (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) .
(3) أن يكون دائما غير قابل للزوال، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) .
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 84]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)(14/27)
تفسير المفردات
تقول: أنبأت القوم إنباء ونبّأتهم تنبئة: إذا أخبرتهم، والأفصح فى كلمة الضيف:
ألا تثنى ولا تجمع حين تستعمل للمثنى والجمع والمؤنث بل تستعمل بلفظ واحد لكل ذلك، والوجل: اضطراب النفس لخوفها من توقع مكروه يصيبها، عليم: أي ذى علم كثير، بالحق: أي بالأمر المحقق الذي لا شك فى وقوعه، وقنط من كذا:
أي يئس من حصوله والضالون: الكفار الذين لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته، وخطبكم: أي أمركم وشأنكم الذي لأجله أرسلتم، قدرنا: أي قضينا وكتبنا يقال قضى الله عليه كذا وقدّره عليه: أي جعله على مقدار الكفاية فى الخير والشر، وقدر الله الأقوات: جعلها على مقدار الحاجة، والغابرين: أي الباقين مع الكفار ليهلكوا معهم، وأصله من الغبرة وهى بقية اللبن فى الضّرع، منكرون: أي لا أعرفكم ولا أعرف من أىّ الأقوام أنتم؟ ولأى غرض دخلتم علىّ؟ ويمترون:
أي يشكّون ويكذبون به، فأسر بأهلك: أي اذهب بهم ليلا، والقطع من الليل:
الطائفة منه كما قال:
افتحي الباب وانظري فى النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم
اتبع أدبارهم: أي كن على إثرهم لتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم، وقضينا: أي أوحينا، ودابر: آخر، ومقطوع: أي مهلك مستأصل، مصبحين: أي فى وقت الصباح، والمدينة: هى سذوم (بالذال المعجمة) مدينة قوم لوط، والاستبشار: إظهار السرور، والفضيحة: إظهار ما يوجب العار، والخزي: الذل والهوان، والعمر والعمر (بالفتح والضم) : الحياة، وهو حين القسم بالفتح لا غير، سكرتهم: غوابتهم: يعمهون أي يتحيرون، والصيحة: الصاعقة، وكل شىء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير، مشرقين: أي داخلين فى الشروق وهو بزوغ الشمس، والسجيل: الطين المتحجر وهو معرّب لا عربى فى المشهور، للمتوسمين.(14/29)
أي المتفرسين الذين يتثبتون فى نظرهم ليعرفوا سمة الشيء وعلامته، يقال توسمت فى فلان خيرا: أي ظهرت لى منه علاماته، قال عبد الله بن رواحة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
إنى توسمت فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أنى ثابت البصر
لبسبيل مقيم: أي لبطريق واضح معلم ليس بخفي ولا زائل، وأصحاب الأيكة:
قوم شعيب عليه السلام، والأيكة: الغيضة، وهى الشجر الملتف بعضه على بعض وقد كانوا فى مكان كثير الأشجار كثيف الغبار، لبإمام مبين: أي لبطريق واضح وأصل الإمام ما يؤتم به سمى به الطريق لأنه يؤتم ويتّبع، وأصحاب الحجر: هم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرا ومنه حجر الكعبة، وآياتنا: هى الناقة وفيها آيات كثيرة كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها، والإمام: ما يؤتم به ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أوعد به أهل الغواية فى يوم القيامة من دخول جهنم، وذكر أنها دركات لأولئك الغاوين بحسب اختلاف أحوالهم بمقدار ما دنّسوا به أنفسهم من اتخاذ الانداد والشركاء وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم أعقبه بذكر ما أعدّ لعباده المؤمنين من الجنات والعيون والنعيم المقيم والراحة التي لا نصب بعدها ولا تعب، وجلوس بعضهم مع بعض، يتنادمون ويتجاذبون أطراف الأحاديث، وهم فى سرور وحبور على سرر متقابلين- أردف ذلك فذلكة وخلاصة لما سبق، فأمر نبيه أن يبلغ عباده أنه غفار لذنوب من تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأن عذابه مؤلم لمن أصرّوا على المعاصي ولم يتوبوا منها، ثم فصل ذلك الوعد والوعيد فذكر البشارة لإبراهيم بغلام عليم، وذكر إهلاك قوم لوط بما اجترحوا من كبرى الموبقات، وفظيع الجنايات، بفعلهم فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين، حتى(14/30)
صاروا كأمس الدابر، وأصبحوا أثرا بعد عين، وإهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب جزاء ظلمهم بشركهم بالله ونقصهم للمكاييل والموازين، فانتقم الله منهم بعذاب يوم الظلة، وإهلاك أصحاب الحجر وهم ثمود الذين كذبوا صالحا وكانوا ذوى حول وطول، وغنى ومال، وقوة وبطش، فأعرضوا عن آيات ربهم حينما جاءتهم على يدى رسوله، فأخذتهم الصيحة وقت الصباح ولم يغن عنهم مالهم من دون الله شيئا حين جاء أمره
أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبى رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: (ألا تراكم تضحكون) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: إنى لما خرجت من الباب جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لك: لم تقنط عبادى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) » .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فى قوله (نَبِّئْ عِبادِي) الآية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه» .
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» .
الإيضاح
(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي أخبر أيها الرسول عبادى أنى أنا الذي أيستر ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم أن أعذبهم بعد توبتهم منها.(14/31)
وفى قوله (نَبِّئْ عِبادِي) إيماء إلى أنه ينبىء كل من كان معترفا بعبوديته، فيشمل ذلك المؤمن المطيع والعاصي، وغير خاف ما فى ذلك من تغليب جانب الرحمة من قبله تعالى على جانب العقاب.
(وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي وأخبرهم أيضا بأن عذابى لمن أصر على معاصىّ وأقام عليها ولم يتب منها- هو العذاب المؤلم الموجع الذي لا يشبهه عذاب آخر، وفى هذا تهديد شديد وتحذير لخلقه أن يقدموا على معاصيه، ومن الأمر لهم بالإنابة والتوبة.
والخلاصة- إن الله جمع لعباده بين التبشير والتحذير، ليكونوا على قدمى الرجاء والخوف، وحال الأنس والهيبة.
ثم ذكر سبحانه قصصا تقدم مثله بأسلوب آخر فى سورة هود وبدأ بقصص إبراهيم عليه السلام فقال:
(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي أخبر عبادى عن ضيوف إبراهيم خليل الرحمن وهم الملائكة الذين أرسلهم الله إلى قوم لوط ليستأصلوا شأفتهم ويبيدوهم على ظلمهم، فقالوا حين دخلوا عليه سلاما: أي سلمت من الآفات والآلام سلاما.
(قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي قال إبراهيم للضيف: إنا خائفون منكم، لأنهم دخلوا عليه بلا إذن وفى وقت لا يجىء فى مثله طارق، أو لأنه حين قرّب إليهم العجل الحنيذ لم يأكلوا منه، والضيف إذا لم يأكل مما يقدم له من الطعام يظنّ أنه لم يأت لخير، ويؤيد هذا قوله فى سورة هود: «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» .
(قالُوا لا تَوْجَلْ) أي قال الضيف لإبراهيم: لا تخف ولا يحم حول ساحتك الخوف والهلع.(14/32)
ثم عللوا النهى عن الوجل بقولهم:
(إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي إنا جئناك بالبشرى بعلام ذى علم وفطنة وفهم لدين لله، وسيكون له شأن، لأنه سيصير نبيا.
ونحو الآية قوله «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا» .
ثم قال إبراهيم متعجبا من مجىء ولد من شيخ وعجوز:
(أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ؟) أي أبشرتموني بذلك مع مس الكبر وتأثيره فىّ، وتلك حال تنافى هذه البشرى.
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي فبأى أعجوبة تبشرون؟ إذ لا سبيل فى العادة إلى مثل ذلك، وكأنه عليه السلام أراد أن يعرف: أيعطى هذا الولد مع بقائه على حاله من الشيخوخة التامة، أو يرجع شابا ثم يعطى الولد، لما جرت به العادة من أن الولد لا يكون إلا حين الشباب.
فأجابوه مؤكدين ما بشروه به، تحقيقا لما قالوا وليكون بشارة بعد بشارة:
(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي قال ضيف إبراهيم له:
بشرناك بما يكون حقا، وإنا لنعلم أن الله قد وهب لك غلاما، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسوا من خرق العادة، بل أبشر بما بشرناك به واقبل البشرى.
والخلاصة- إنه عليه السلام استعظم نعمة الله عليه، فاستفهم هذا الاستفهام التعجبي المبنى على السنن التي أجراها الله بين عباده، لا أنه استبعد ذلك على قدرة الله، فهو أجل من ذلك قدرا، ويؤيد هذا جوابه عليه السلام.
(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي قال إبراهيم للضيف: لا ييأس من رحمة الله إلا من أخطأ سبيل الصواب، وغفل عن رجاء الله الذي لا يخيب من رجاه، فضلّ بذلك عن الرأى القيّم، وهذا كقول يعقوب: «لا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون» .(14/33)
وخلاصة مقاله- إنه نفى القنوط عن نفسه على أتم وجه، فكأنه قال: ليس بي قنوط من رحمته تعالى، لكن حالى تنافى فيض تلك النعم الجليلة التي غمرنى بها، وتوالى المكرمات التي شملت آل هذا البيت.
وبعد أن تحقق عليه السلام مصداق هذه البشرى ورأى أنهم أتوا مختفين على غير ما عهد عليه ملك الوحى؟ سألهم عن أمرهم ليزول عنه الوجل.
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال لهم: ما الأمر العظيم الذي جئتم لأجله سوى البشرى؟ وكأنه عليه السلام فهم من مجرى حديثهم فى أثناء الحوار أن ليست هذه البشرى هى المقصودة، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا. لأنهم كانوا عددا والبشارة لا تحتاج إلى مثل هذا العدد، ومن ثم اكتفى بالواحد فى بشارة زكريا ومريم عليهما السلام وأيضا لو كانت البشارة هى المقصودة لابتدءوا بها، فأجابوه:
(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين من قوم لوط، واكتفوا بهذا القدر من الجواب، لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لهلاكهم وإبادتهم. ومما يرشد إلى هذا الفهم قولهم:
(إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إلا أتباع لوط فى الدين فلن نهلكهم، بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نعذب به قوم لوط.
(إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي لا نهلك آل لوط وأتباعه إلا امرأته فقد قضى الله أنها من الباقين مع الكفرة، ثم هى مهلكة بعد ذلك معهم، وقد أضاف الملائكة هذا التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى، بيانا لمزيد قربهم من ربهم، واختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر الآمر هو الملك.
وبعد أن بشّروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين- ذهبوا إلى لوط وآله كما قال سبحانه.(14/34)
(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي فلما خرج المرسلون من عند إبراهيم وجاءوا قرية لوط أنكرهم لوط ولم يعرفهم وقال لهم: من أي الأقوام أنتم، ولأى غرض جئتم؟ وإنى أخاف أن تمسونى بمكروه.
ونحو الآية قوله: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» وإنما قال هذه المقالة، لأنه لم يشاهد من المرسلين حين مقاساة الشدائد ومعاناة المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون- إعانة ولا مساعدة فيما يأتى وما يدرحين تجشم الأهوال فى تخليصهم، فأنكر خذلانهم له، وتركهم نصره حين المضايقة التي حلت به بسببهم حتى اضطر إلى أن يقول: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» كما جاء فى سورة هود.
(بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي قال له الرسل: ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه، بل بما فيه سرورك وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه، فأنّى لك بعد هذا أن تعتريك مساءة وضيق ذرع؟
وخلاصة ما أرادوا أن يقولوا- ما خذلناك، وما خلّينا بينك وبينهم، بل جئناك بما يدمّرهم ويهلكهم، من العذاب الذي كنت تتوعدهم به وهم يكذبونك.
واختاروا هذا الأسلوب ولم يقولوا جئناك بعذابهم لإفادة ذلك شيئين: تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام بعد أن كابد منهم كثيرا من الإنكار والتكذيب.
(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وجئناك بالأمر المحقق المتيقن الذي لا محال فيه للامتراء والشك، وهو العذاب الذي كتب وقدّر لقوم لوط، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به.
ثم شرعوا يرتبون له مبادئ النجاة قبل حلول العذاب بقومه فقالوا له:
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فسر بأهلك ببقية من الليل، وأهله على ما روى هما ابنتاه(14/35)
(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي وكن من وراء أهلك الذين تسرى بهم، وعلى إثرهم لتذود عنهم، وتسرع بهم، وثراقب أحوالهم، حتى لا يتخلّف منهم أحد لغرض، فيصيبه العذاب.
(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) فيرى ما ينزل بقومه فيرق قلبه لهم، وليوطن نفسه على الهجرة، ويطيب نفسا بالانتقال إلى المسكن الجديد.
ثم أكدوا هذا النهى بقولهم (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي وامضوا حيث يأمركم ربكم غير ملتفتين إلى ماوراءكم كالذى يتحسر على مفارقة وطنه، فلا يزال يلوى له أخادعه كما قال أبو تمام:
تلفت نحو الحىّ حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا
والخلاصة- إنهم أمروا بمواصلة السير ونهوا عن التواني والتوقف ليكون ذلك أقطع للعوائق، وأحق بالإسراع للوصول إلى المقصد الحقيقي وهو بلاد الشام.
ثم بين العلة فى الأمر بالإسراء السريع فقال:
(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي وأوحينا إليه أن ذلك الأمر مقضى مبتوت فيه:
ثم فصّل ذلك الأمر فقال:
(أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي إن آخر قومك وأولهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم، ولا يبقى منهم أحد ونحو الآية قوله: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» .
ثم شرع يذكر ما صدر من القوم حين علموا بقدوم الأضياف وما ترتب عليه بما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال فقال:
(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) أي وجاء أهل سدوم حين سمعوا أن ضيفا قد ضاقوا لوطا- مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعا فى ركوب الفاحشة منهم.
وفى هذا إيماء إلى فظاعة فعلهم، إذ هم خالفوا ما جرى به العرف، وركب فى الأذواق السليمة، من إكرام الغريب وحسن معاملته، وقصدوا بهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.(14/36)
روى أن امرأة لوط أخبرتهم بأنه نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح منهم وجها ولا أحسن شكلا، فذهبوا إلى دار لوطا طلبا لهم، مظهرين اغتباطا وسرورا بهم.
ثم أخبر عن مقالة لوط لقومه حين رآهم يقصدون بهم السوء.
(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي قال لوط لقومه: إن هؤلاء الذين جئتموهم تريدون منهم الفاحشة ضيفى، وحقّ على الرجل إكرام ضيفه، فلا تفضحونى فيهم، وأكرمونى بترك التعرض لهم بمكروه.
ثم زاد النهى توكيدا بقوله:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ) أي وخافوا الله فىّ وفى أنفسكم أن يحل بكم عقابه، ولا تهينوئى فيهم بالتعرض لهم بالسوء، وهذه الجملة آكد فى الغرض من سابقتها، إذ التعرض للجار بعد حمايته والذبّ عنه أجلب للعار، ومن ثم عبر عن لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي، وأمرهم بتقوى الله فى ذلك.
قأبانوا له أنه السبب فى الفضيحة وفى هذا الخزي:
(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟) أي قال قومه له: أولم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين أو تؤويه فى قريتنا؟ إذ هم كانوا يتعرضون لكل غريب بالسوء، وكان لوط ينهاهم عن ذلك على قدر حوله وقوته ويحول بينهم وبين من يعرضون له، وكانوا قد نهوه عن التعرض لهم فى مثل ذلك.
وخلاصة مقالهم- إن ما ذكرت من الخزي والفضيحة أنت مصدره، والجالب له، فلولا تعرضك لنا، ما أصابك ما أصابك.
ولما رآهم متمادين فى غيهم، لا يرعون عن غوايتهم، ولا يقلعون عما هم عليه.
(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال لوط لقومه: تزوجوا النساء ولا تفعلوا ما قد حرم الله عليكم من إتيان الرجال إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمرى، وقد سمى نساء قومه بناته، لأن رسول الأمة كالأبّ لهم كما قال تعالى:
«النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» .(14/37)
ثم أبان له الرسول أنه لا أمل فى ارعوائهم عن غيهم فقالوا:
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي قالت الملائكة للوط: وحياتك أيها الرسول إن قومك لفى ضلالتهم التي جعلتهم حيارى لا يعرفون ما أحاط بهم من البلاء، ولا ماذا يصيبهم من العذاب المنتظر، لما أصابهم من عمى البصيرة، فهم لا يميزون الخطأ من الصواب، ولا الحسن من القبيح.
ثم ذكر سبحانه عاقبة أمرهم فقال:
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي فنزل بهم العذاب المنتظر، وأخذتهم الصاعقة وقت الشروق، وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق، ومن ثم قال أوّلا مصبحين وقال هنا مشرقين، وأخذ الصيحة قهرها لهم وتمكنها منهم، ومن ثمّ يقال للأسير أخيذ.
ثم بيّن كيفية أخذها لهم ولقريتهم فقال:
(فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي فجعلنا عالى المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها فانقلبت عليهم وأمطرنا عليهم أثناء ذلك حجارة من طين متحجر، وقد تقدم ذكر ذلك فى سورة هود.
وخلاصة ذلك- إنه تعالى أرسل عليهم ثلاثة ألوان من العذاب:
(1) الصيحة المنكرة الهائلة، والصوت المفزع المخيف.
(2) إنه قلب عليهم القرية، فجعل عاليها سافلها.
(3) إنه أمطر عليهم حجارة من سجيل.
ثم ذكر أن فى هذا القصص عبرة لمن اعتبر فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والعذاب لدلالات للمفكرين الذين يعتبرون بما يحدث فى الكون من عظات وعبر، ويستدلون بذلك على ما يكون لأهل الكفر والمعاصي من عقاب بئيس بما كانوا يكسبون.
أخرج البخاري فى التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وأبو نعيم(14/38)
وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى، ثم قرأ: إن فى ذلك لآيات للمتوسمين» .
والفراسة على نوعين:
(1) ما يوقعه الله فى قلوب الصلحاء فيعلمون بذلك أحوال الناس بالحدس والظن (2) ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق.
وقد صنّف الناس فى القديم والحديث كتبا فى ذلك، وبعض العلماء يجعلها دليلا يحكم به كما فعل إياس بن معاوية (كان قاضيا ذكيا فى عهد التابعين) .
ثم لفت أنظار أهل مكة إلى الاعتبار بها لو أرادوا فقال:
(وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن هذه المدينة- مدينة سدوم- التي أصابها ما أصابها من العذاب- لبطريق واضح لا تخفى على السالكين، فآثارها باقية إلى اليوم لم تندثر ولم تخف، فالذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثارها كما قال فى الآية الأخرى: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
ثم أيأس من اعتبارهم بها، إذ هى لا يعتبر بها إلا المؤمنون فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله- لدلالة جلية للمؤمنين المصدقين بالله ورسله، إذ هم يعرفون أن ذلك إنما كان انتقاما من الله لأنبيائه من أولئك الجهال الذين عصوا أمر ربهم، وكفروا برسله ولم يرعوا عن غيّهم وضلالهم بعد إنذارهم ونصحهم.
أما الذين لا يؤمنون بالله فيجعلون ذلك حوادث كونية، لأسباب فلكية، وشؤون أرضية، جعلت الأرض تنهار لحدوث فراغ فى بعض أجزائها. كما يشاهد اليوم فى البلاد ذات البراكين من اختفاء بلاد فى باطن الأرض وابتلاع الأرض لها كما حدث فى مدينة مسينا بإيطاليا سنة 1909، وظهور جزائر فى وسط المحيطات لم تكن من قبل(14/39)
وبعد أن ذكر قصص قوم لوط أتبعه بقصص قوم شعيب عليه السلام فقال:
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) أي وإن أصحاب الأيكة كانوا بجبلّتهم ظالمين كفارا، ليس لديهم استعداد للإيمان بالله ورسله، أرسل الله إليهم وإلى أهل مدين شعيبا فكذبوه.
أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا» .
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر والمعاصي.
فسلطّ على أصحاب الأيكة الحر سبعة أيام لا يظل منه ظلّ، ولا يمنعهم منه شىء، ثم أرسلت عليهم سحابة فحلّوا تحتها يلتمسون الرّوح منها، فبعثت عليهم منها نار فاضطرمت عليهم فأكلتهم، فذلك عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم.
وأما أهل مدين فقد أخذتهم الصيحة ثم ذكر عز اسمه أنه قد كان من حق قريش أن يعتبروا بهما فقال:
(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي وإن مدينة أصحاب الأيكة ومدينة قوم لوط لبطريق واضح يأتمون به فى سفرهم ويهتدون به فى مسيرهم.
ثم ذكر سبحانه قصة صالح فقال:
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد كذبت ثمود نبيهم صالحا عليه السلام ومن كذب رسولا من رسل الله فكأنما كذب الجميع، لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول العامة التي لا تختلف باختلاف الأمم والأزمان.
(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وأريناهم حججنا الدالة على نبوة صالح عليه السلام من الناقة وغيرها، فأعرضوا عنها ولم يعتبروا بها.
(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من هدمها ونقب اللصوص لها أو تخريب الأعداء لقوة أسرها وبديع إحكامها، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأعراف.(14/40)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
ثم ذكر ميقات هلاكهم فقال:
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي فأخذتهم صيحة الهلاك حين كانوا فى ضحوة اليوم الرابع من اليوم الذي أوعدوا فيه بالعذاب كما جاء فى قوله: «فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» .
(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فما دفع عنهم ما نزل بهم ما كانوا يكسبون من تحت البيوت وجمع الأموال وكثرة العدد وجمع العدد، بل خرّوا حاثمين هلكى حين حل بهم قضاء الله.
وروى البخاري وغيره عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلّم مرّ بالحجر وهو ذاهب إلى تبوك، فقنّع رأسه، وأسرع براحلته، وقال لأصحابه: لا تدخلوا بيوت القوم المعذّبين إلا أن تكونوا باكين: فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم» .
وأخرج ابن مردويه عنه قال: «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور وعلف العجين للإبل:
ثم ارتحل عن البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذّبوا وقال: إنى أخشى عليكم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، فلا تدخلوا عليهم» .
[سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
تفسير المفردات
بالحق: أي بالحكمة والمصلحة، والساعة يوم القيامة، والصفح: ترك التثريب واللوم، والصفح الجميل: ما خلا من العتب.(14/41)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى القصص السالف إهلاك الأمم المكذبة لرسلها، وعذابها بشتى أنواع العذاب، كفاء ما دنسوا به أنفسهم من فظائع الشرك، وأنواع المعاصي التي تقوّض دعائم الإخلاص لبارئ النسم، وتهدّ أركان نظم المجتمع بعبادة الأصنام والأوثان، وتطفيف الكيل والميزان، وإتيان الفاحشة التي تشمئز منها النفوس، وتنقر منها الأذواق السليمة- أرشد هنا إلى أنهم بعملهم هذا قد تركوا ما قضت به الحكمة والمصلحة، من خلق السموات والأرض لعبادة خالقها وطاعته واستقرار نظم المجتمع على وجه صالح صحيح، ودأبوا على عبادة غيره من الأصنام والأوثان، فكان من العدل تطهير الأرض منهم، دفعا لشرورهم وإصلاحا لمن يأتى بعدهم.
الإيضاح
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي وما خلقنا الخلائق، مما فى الأرض والسماء وما بينهما، إلا بالعدل والإنصاف لا بالظلم والجور، فإهلاكنا للأمم التي كذبت رسلها وقصصنا عليك قصصها، وتعجيل النقمة لهم لم يكن ظلما بل كان عدلا وحكمة.
وفى هذا إيماء إلى أن ما يصيب غيرهم من المكذبين لك من العذاب فى الآخرة فيه عدل ومصلحة للبشر.
ثم هدد العصاة وتوعدهم فقال:
(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي وإن يوم القيامة لآت لا ريب فيه، وحينئذ ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، فارض بما يكون لهم من شديد العقاب.
(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا، واحتمل أذاهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.(14/42)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وخلاصة ذلك- خالقهم بخلق حسن، وتأنّ عليهم واحلم عنهم، وأنذرهم، وادعهم إلى ربك قبل أن تقاتلهم.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك هو الذي خلقهم وخلق كل شىء، وهو العليم بهم ومما يألفون وما يذرون، وهو المدبّر لأمورهم، والمقدّر لها على وجه الحكمة والمصلحة وقصارى ذلك- إنه خالقك وخالقهم، وعليم بأحوالك وأحوالهم، ولا يخفى عليه شىء مما جرى بينك وبينهم، فخليق بك أن تكل الأمور إليه، ليحكم بينك وبينهم، وقد علم أن الصفح الجميل أولا أولى بهم إلى أن يحكم السيف بينك وبينهم.
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
تفسير المفردات
المثاني: واحدها مثنى من التثنية وهو التكرير والإعادة، ومد عينيه إلى حال فلان: اشتهاه وتمناه، والأزواج: واحدها زوج وهو الصّنف، وخفض الجناح:(14/43)
إذ به التواضع واللين، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحه له، والجناحان من الإنسان: جانباه، والنذير: المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به، وعضين: أي أجزاء واحدها غضة من عضيت الشاة جعلتها أعضاء وأقساما، فاصدع بما تؤمر: أي اجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، يضيق صدرك: أي ينقبض من الحسرة والحزن، والساجدين: أي للمصلّين، واليقين: الموت وسمى به لأنه أمر متيقن لا شك فيه.
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله أن يصبر على أذى قومه، وأن يصفح عنهم الصفح الجميل- أردف ذلك ذكر ما أولاه من النعم، وما أغدق عليه من الإحسان، ليسهل عليه الصفح ويكون فيه سلوة له على احتمال الأذى، فذكر أنه آتاه السبع المثاني- الفاتحة- والقرآن العظيم الجامع لما فيه هدى البشر وصلاحهم فى دنياهم وآخرتهم.
وبعد أن ذكر له تظاهر نعمه عليه، نهاه عن الرغبة فى الدنيا، ومد العينين إليها، يتمنى ما فيها من متاع ونهاه عن الحسرة على الكفار أن لم يؤمنوا بالقرآن وبما جاء به وأمره بالتواضع لفقراء المسلمين، وبإنذار قومه المشركين بتبليغهم ما أمر به الدين وما نهى عنه، بالبيان الكافي، والإعذار الشافي، وبيان عاقبة أمرهم بتحذيرهم أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين «اليهود والنصارى» الذين جعلوا القرآن أقساما، فآمنوا بما وافق التوراة وكفروا بما عدا ذلك، ويبين لهم أن ربهم سيسألهم عن جريرة أعمالهم.
ثم أمره أن يعلن ما أمر به من الشرائع، ولا يلتفت إلى لوم المشركين وتثريبهم له، ولا يبال بما سيكون منهم، فالله تعالى كفاه أمر المستهزئين به وأزال كيدهم، وإذا ساوره ضيق الصدر من سماع سفههم واستهزائهم كما هو دأب البشر، فليسبح ربه(14/44)
وليحمده وليكثر الطاعة له، فالعبد إذا حزبه أمر نزع إلى طاعة ربه، وقد كفل سبحانه أن يكشف عنه ما أهمه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي ولقد أكرمناك بسبع آيات هى الفاتحة التي تثنى وتكرر فى كل صلاة، وهذا قول عمر وعلى وابن مسعود لما
روى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها»
أو لأنها قسمت قسمين: ثناء ودعاء،
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين»
وأكرمناك أيضا بالقرآن العظيم.
وتخصيص الفاتحة بالذكر من بين القرآن الكريم لمزيد فضلها على نحو ما جاء فى قوله تعالى: «وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» .
وبعد أن عرّف سبحانه رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين- نهاه عن الرغبة فى الدنيا فقال:
(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي لا تتمنّين أيها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعا للأغنياء من اليهود والنصارى والمشركين، فإن من وراء ذلك عقابا غليظا.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم- تعليم لأمته كما تقدم مثله كثيرا، يؤيد هذا ما روى أنه أنت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنّضير فى يوم واحد فيها أنواع من البزّ (الأقمشة) والطيب والجواهر، فقال المسلمون:
لو كانت لنا لتقوينا بها، ولأنفقناها فى سبيل الله.
وخلاصة ذلك- لقد أوتيت النعمة العظمى التي إذا قيست بها كل النعم كانت حقيرة، فقد أوتيت سبع آيات هى خير من السبع القوافل.(14/45)
(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إذ لم يؤمنوا، ليقوى بمكانهم الإسلام، وينتعش بهم المؤمنون:
وقد كان صلى الله عليه وسلّم يود أن يؤمن به كل من بعث إليه، ويتمنى لمزيد شفقته عدم إصرار الكفار على كفرهم.
وبعد أن نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال:
(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وألن جانبك، وارفق بمن آمن بك واتبعك، ولا تجف بهم، ولا تغلظ عليهم.
ونحو الآية قوله تعالى: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» وقوله فى صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم» ثم بين وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال:
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي أنا النذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تماديهم فى غيهم، كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، فانتقم الله منهم بإنزال العذاب بهم.
وفى الصحيحين عن أبى موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلى ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم: إنى رأيت الجيش بعيني وإنى أنا النذير العريان، فالنّجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به، ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق» .
(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي ولقد آتيناك سبعا من المثاني كما آتينا من قبلك من اليهود والنصارى التوراة والإنجيل، وهم الذين اقتسموا القرآن وجزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه الذي وافق كتابيهما، وكفروا ببعضه(14/46)
وهو ما خالقهما- أخرج ذلك البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس من طرق عدة.
وبعد أن بين وظيفة الرسول ذكر أن الحساب على الأعمال موكول إلى الله لا إليه فقال:
(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلنسألن الكفار جميعا سؤال تأنيب وتوبيخ لهم على ما كانوا يقولون ويفعلون فيما بعثناك به إليهم وفيما دعوناهم إليه من الإقرار بي وبتوحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان، روى أبو جعفر عن الربيع عن أبى العالية فى تفسير الآية قال: يسأل الله العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون، وعماذا أجابوا المرسلين.
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، فلا ألفينّك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» .
وبعد أن ذكر أن وظيفته التبليغ شدّد عليه فى الجهر به جهد المستطاع فقال:
(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي فاجهر بإبلاغ ما أمرت به من الشرائع وواجه به المشركين، ولا تلتفت إلى ما يقولون، ولا تبال بهم ولا تخفهم.
فإن الله كافيكهم، وحافظك منهم.
ولما كان هذا الصدع شديدا عليه لكثرة ما يلاقيه من أذى المشركين ذكر أنه حارسه وكالئه منهم فلا يخشى بأسهم فقال:
(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي إنا كفيناك شر المستهزئين الذين كانوا يسخرون منك ومن القرآن، وهم طائفة من المشركين لهم قوة وشوكة، كانوا كثيرى السفاهة والأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يرونه أو يمر بهم، أفناهم الله وأبادهم وأزال كيدهم وقد اختلف فى عدتهم، فقوم يقولون هم خمسة: الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وعدي بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب، وقد ماتوا(14/47)
جميعا بأهون الأسباب، فتعلق بثوب الوليد سهم فتكبر أن يبعده عنه فأصاب عرقا فى عقبه فمات، ومات العاص بشوكة فى أخمص قدمه، وأصاب عدى بن قيس مرض فى أنفه فمات، وأصيب الأسود بن عبد يغوث بداء وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (هذه أعراض حمى التيفوس فيغلب أن يكون قد أصيب بها) وعمى الأسود بن عبد المطلب.
وقوم يقولون هم سبعة من أشراف قريش ومشركيها.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال:
(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي هم الذين اتخذوا إلها آخر مع الله يعبدونه.
وفى وصفهم بهذا الوصف تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتهوين للخطب عليه، إذ أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء بمقام النبوة، بل تعدوه إلى الإشراك بربهم، المدبر لأمورهم والمحسن إليهم.
تم توعدهم على ما كانوا يصنعون فقال:
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم حين يحل بهم عذاب ربهم، يوم تجزى كل نفس بما عملت، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وبعد أن سلاه بكفاية شرهم ودفع مكرهم ذكر تسلية أخرى له فقال:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من كلمات الشرك والاستهزاء، كما هو دأب الطبيعة البشرية حين ينوب الإنسان ما يؤلمه ويحزنه، أن يرى فى نفسه انقباضا وضيقا فى الصدر وأسى وحسرة على ما حل به.
تم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله وحمده فقال:
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي إذا نزل بك الضيق ووجمت نفسك فافزع إلى ربك، ونزّهه عما يقولون، حامدا له(14/48)
على توفيقك للحق، وهدايتك إلى سبيل الرشاد، وصلّ آناء الليل وأطراف النهار، فإن فى مناجاة ربك ما يقرّبك إلى حضرة القدس، ويسمو بنفسك إلى الملإ الأعلى كما
ورد فى الحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
ودم على ما أنت عليه طالبا المزيد من فضله، حتى يأتيك الموت، فهناك الجزاء بلا عمل، وهنا العمل ولا جزاء.
وقصارى ذلك- إنه تعالى أرشده إلى كشف ما يجده فى نفسه من الغم بفعل الطاعات، والإكثار من العبادات، وقد كان صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر، واشتد عليه خطب، فزع إلى الصلاة،
روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» .
وقد حكى الله عن أهل النار أنهم يقولون: «لم نك من المصلّين. ولم نك نطعم المسكين. وكنّا نخوض مع الخائضين. وكنّا نكذّب بيوم الدّين.
حتّى أتانا اليقين» .
وفى هذا دلالة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على المرء ما دام ثابت العقل،
روى البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.(14/49)
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة
من الحكم والأحكام (1) وصف القرآن الكريم.
(2) الإعراض عن المشركين حتى يحل بهم ريب المنون.
(3) استهزاء المشركين وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وتكذيبهم لما يرونه من الآيات.
(4) إقامة الأدلة على وجود الله بما يرونه من الآيات فى خلق السموات والأرض وفى خلق الإنسان.
(5) عصيان إبليس أمر ربه فى السجود لآدم وذكر الحوار بينه وبين ربه، وطلبه الإنظار إلى يوم الدين.
(6) بيان حالى أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة.
(7) قصص بعض الأنبياء وذكر ما أهلك الله به كل أمة من الأمم المكذبة لرسلها.
(8) بيان أن الحكمة فى خلق السموات والأرض هى عبادة الله وحده وإقامة العدل والنظام فى المجتمع.
(9) ذكر ما أنعم الله به على نبيه من السبع المثاني والقرآن العظيم (10) نهى نبيه والمؤمنين عن تمنى زخرف الدنيا وزينتها.
(11) أمره صلى الله عليه وسلّم بخفض الجناح والرفق بمن اتبعه من المؤمنين.
(12) التذكير بنعمة الله عليه بإهلاك أعدائه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين.
(13) الأمر بالدعوة للدين جهرا والصدع بها وعدم المبالاة بالمشركين.
(14) أمره صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح والعبادة إذا ضاق صدره باستهزاء المشركين والطعن فيه وفى كتابه الكريم.(14/50)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
سورة النحل
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحد.
وآيها ثمان وعشرون ومائة.
ووجه ارتباطها بما قبلها أنه لما قال فى السورة السالفة: «فو ربّك لنسألنهم أجمعين» كان ذلك تنبيها إلى حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه فى الدنيا، فقيل: «أتى أمر الله» وأيضا فإن قوله فى آخرها: «واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين» شديد الالتئام بقوله أتى أمر الله.
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
تفسير المفردات
أتى أمر الله: أي قرب ودنا، ويقال فى مجرى العادة لما يجب وقوعه قد أتى وقد وقع، فيقال لمن طلب مساعدة حان مجيئها، جاءك الغوث، وأمر الله عذابه للكافرين، والروح: الوحى وهو قائم فى الدين مقام الروح من الجسد، فهو محيى القلوب التي أماتها الجهل، من أمره: أي بأمره ومن أجله، أنذروا: أي خوّفوا، فاتقون: أي خافوا عقابى، لمخالفة أمرى وعبادة غيرى.(14/51)
المعنى الجملي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوّف المشركين تارة بعذاب الدنيا من قتل وأسركما حدث يوم بدر، وتارة بعذاب الآخرة، ثم إنهم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب
روى أنه لما نزل قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» قال الكافرون حين خلوا إلى شياطينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون، حتى ينظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به، فنزل قوله تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» فأشفقوا وانتظروا، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل قوله: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ) فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع الناس رءوسهم فنزل قوله: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) .
الإيضاح
(أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي قرب عذاب المشركين وهلاكهم، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ، وقضائه الغالب على كل شىء، فهو يأتى فى الحين الذي قدّره وقضاه.
ونظم سبحانه المتوقع فى صورة المحقق إيذانا بأنه واجب الوقوع، والشيء إذا كان بهذه المثابة يسوغ فى عرف التخاطب أن يعدّ واقعا، ومعنى قوله فلا تستعجلوه لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى.
وفى هذا تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم، بقرب عذابهم وهلاكهم الذي لا بد منه.
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تبرأ الله تعالى عن الشريك والشفيع الذي يدفع الضر عنكم، وفى هذا رد لمقالهم حين قالوا: لئن حكم الله علينا بإنزال العذاب فى الدنيا أو فى الآخرة- لتشفعنّ لنا هذه الأصنام التي نعبدها من دونه.(14/52)
وخلاصة هذا- إن تلك الجمادات الخسيسة التي جعلتموها شركاء لله وعبدتموها، هى أحقر الموجودات، وأضعف المخلوقات، فكيف تجعلونها شريكة لله فى التدبير والشفاعة فى الأرض والسموات؟.
ثم أجاب عن شبهة لهم إذ قالوا: هب الله قضى على بعض عباده بالشر وعلى آخرين بالخير، فمن يعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا هو؟ فقال:
(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي ينزل سبحانه ملائكته بالوحى إلى من يريد من عباده المصطفين الأخيار، أن أنذروا عبادى أن إله الخلق واحد لا إله إلا هو، وأنه لا تنبغى الألوهية إلا له، ولا يصلح أن يعبد شىء سواه، فاحذروه وأخلصوا له العبادة، فإن فى ذلك نجاتكم من الهلكة، وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى فى قوله: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» وفى قوله:
«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» .
والمراد بقوله من أمره- بيان أن ذلك التنزيل والنزول لا يكونان إلا بأمره تعالى كما قال حكاية عن الملائكة: «وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك» وقال:
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» وقال: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» وقال: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» ففى كل ذلك دليل على أن الملائكة لا يقدمون على عمل إلا بأمره تعالى وإذنه.
وفى الآية إيماء إلى أن الوحى من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة، ويؤيد ذلك قوله: «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» فقد بدأ بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقّون الوحى من الله بلا وساطة، وذلك الوحى هو الكتب، وهم يوصلون هذا الوحى إلى الأنبياء- لاجرم جاء الترتيب على هذا الوضع(14/53)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 16]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)(14/54)
تفسير المفردات
أصل النطفة: الماء الصافي ويراد بها هنا مادة التلقيح، والخصيم: بمعنى المخاصم كالخليط بمعنى المخالط، والعشير: بمعنى المعاشر والمراد به المنطيق المجادل عن نفسه، المنازع للخصوم، والمبين: المظهر للحجة، والدفء: ما يستدفأ به من الأكسية، والمنافع: هى درّها وركوبها والحرث بها وحملها للماء ونحو ذلك، جمال: أي زينة فى أعين الناس وعظمة لديهم، تريحون: أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال أراح الماشية إذا ردها إلى المراح، تسرحون: أي تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها، والأثقال: واحدها ثقل وهو متاع المسافر، وشق الأنفس: مشقتها وتعبها، القصد: الاستقامة، يقال سبيل قصد وقاصد إذا أدّاك إلى مطلوبك، وجائر: أي مائل عن المحجة، منحرف عن الحق، وتسيمون: أي ترعون يقال أسام الماشية وسوّمها جعلها ترعى، وذرأ: خلق، ألوانه: أي أصنافه، مواخر واحدها ماخرة: أي جارية من مخر الماء الأرض أي شقها، والميد: الحركة والاضطراب يمينا وشمالا، وعلامات: أي معالم يستدلّ بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه منزّه عن الشريك والولد، وأنه لا إله إلا هو، وأمر بتقواه وإخلاص العبادة له- ذكر هنا أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام بأسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم، ونبّه بذلك إلى أن كل واحد من هذا كاف فى صرف المشركين عما هم عليه من الشرك، وكلما بصّرهم طائفة مما يرون ويشاهدون بكّتهم على ما يقولون ويفعلون، وبين لهم كفرانهم نعمتى الرعاية والهداية، فاحتج على وجوده بخلق الأجرام الفلكية،(14/55)
ثم ثنى بذكر أحوال الإنسان، ثم ثلّث بذكر أحوال الحيوان، ثم ربّع بذكر أحوال النبات، ثم اختتم القول بذكر أحوال العناصر الأربعة.
الإيضاح
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي خلق سبحانه العالم العلوي وهو السموات والعالم السفلى وهو الأرض بما حوت- بالحق أي على نهج تقتضيه الحكمة ولم يخلقهما عبثا، منفردا بخلقهما لم يشركه فى إنشائهما وإحداثهما شريك، ولم يعنه على ذلك معين، تعالى الله عن ذلك، إذ ليس فى قدرة أحد سواه أن ينشى السموات والأرض، فلا تليق العبادة إلا له.
وبعد أن ذكر أدلة الأكوان، ذكر خلق الإنسان، فقال:
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي خلق الإنسان من نطفة أي من ماء مهين- خلقا عجيبا فى أطوار مختلفة، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ماتم خلقه، ونفخ فيه الروح، فغذاه ونماه ورزقه القوت، حتى إذا استقل ودرج نسى الذي خلقه خلقا سويا من ماء مهين، بل خاصمه فقال: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» وعبد ما لا يضر ولا ينفع: «ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربّه ظهيرا» .
(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) امتن سبحانه على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهى الإبل والبقر والغنم كما تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأنعام، إذ عدها ثمانية أزواج، وبما جعل لهم فيها من المنافع من الأصواف والأوبار والأشعار، لباسا وفراشا، ومن الألبان شرابا، ومن الأولاد أكلا.
(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي ولكم فى هذه الأنعام زينة حين تردّونها بالعشي من مسارحها إلى منازلها التي تأوى إليها، وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها، وخصص هذين الوقتين بالذكر، لأن الأفنية تتزين بها(14/56)
ويتجاوب ثغاؤها ورغاؤها حين الذهاب والإياب، فيعظم أربابها فى أعين الناظرين إليها، وقدم الإراحة على السرح مع تأخرها فى الوجود، لأن الجمال فيها أظهر، وجلب السرور فيها أكمل، ففيها حضور بعد غيبة، وإقبال بعد إدبار، على أحسن ما يكون، إذ تكون ملأى البطون، حافلة الضروع.
(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي وهى أيضا تحمل أمتعتكم وأحمالكم من بلد إلى آخر لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بكلفة ومشقة وجهد شديد.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» وقوله: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ومن ثم أسبغ عليكم نعمه الجليلة، ويسّر لكم الأمور الشاقة العسيرة، ومن رأفته ورحمته بكم أن خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ؟» .
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) أي وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا لتركبوها، وجعلها لكم زينة تتزينون بها- إلى مالكم فيها من منافع أخرى.
(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) غير هذه الدواب مما يهدى إليه العلم وتستنبطه العقول كالقطر البرية والبحرية والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر، والمطاود الهوائية التي تسير فى الجو والغواصات التي تجرى تحت الماء إلى نحو أولئك مما تعجبون منه، ويقوم مقام الخليل والبغال والحمير فى الركوب والزينة.(14/57)
وبعد أن شرح سبحانه دلائل وحدانيته أرشد إلى أنه كفيل ببيان الطريق السوي لمن أراده فقال:
(وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي وعلى الله بيان الطريق المستقيم الموصّل من ملكه إلى الحق، بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضلّ عليها.
ونحو الآية قوله: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» وقوله «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» .
(وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة، معوج زائغ عن الحق فالسبيل القاصد هو الإسلام، والجائر منها هو غيره من الأديان الأخرى، سماوية كانت أو أرضية.
وخلاصة هذا- إن ثمة طرقا تسلك للوصول إلى الله، وليس يصل إليه منها إلا الطريق الحق، وهى الطريق التي شرعها ورضيها وأمر بها، وهى طريق الإسلام له والإخبات إليه وحده كما أرشد إلى ذلك بقوله: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» وما عداها فهو جائر، وعلى الله بيان ذلك، ليهتدى إليه الناس، ويبتعدوا عن سواه.
ثم أخبر سبحانه بأن الهداية والضلال بقدرته ومشيئته فقال:
(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي ولو شاء سبحانه لجعلكم كالنمل والنحل فى حياتكم الاجتماعية، أو جعلكم كالملائكة مفطورين على العبادة وتقوى الله، فلا تتجه نفوسكم إلى المعصية، ولا تسعى إلى الشر، ولكنه شاء أن يجعلكم تعملون أعمالكم باختياركم وتسعون إليها بعد بحثها وفحصها من سائر وجوهها، ثم ترجّحون منها ما تميل إليه نفوسكم، وما ترون فيه الفائدة لكم كما قال عزمن قائل: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ(14/58)
طريقى الخير والشر- إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» وقد تقدم إيضاح هذا عند قوله:
«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» وعند قوله: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .
وبعد أن ذكر نعمته عليهم بتسخير الدواب والأنعام- شرع يذكر نعمته عليهم فى إنزال المطر فقال:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) أي إن الذي خلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ومصالحكم- هو الذي أنزل المطر من السماء عذبا زلالا تشربون منه وتسقون أشجاركم ونباتكم التي تسيمون فيها أنعامكم وفيها ترعى.
(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ينبت لكم بالماء الذي أنزله من السماء زرعكم وزيتونكم ونخيلكم وأعنابكم ومن كل الثمرات غير ذلك- أرزاقا لكم وأقواتا نعمة منه عليكم وحجة على من كفر به.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من إنزال الماء وغيره.
لأدلة وحججا على أنه لا إله إلا هو، لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكرون فيها حتى تطمئن قلوبهم بها، وينبلج نور الإيمان فيها، فيضيء أفئدتهم ويزكّى نفوسهم، فمن فكّر فى أن الحبة والنواة تقع فى الأرض وتصل إليها نداوة منها تنفذ فيها، فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط فى الأرض ويخرج منها ساق ينمو وتخرج فيه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطباع- علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شىء فى صفات كماله فضلا عن أن يشاركه فى أخص صفاته وهى الألوهية واستحقاق العبادة.(14/59)
ولله در القائل:
تأمّل فى رياض الورد وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأنّ الله ليس له شريك
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) أي ومن نعمه تعالى عليكم مضافة إلى النعم التي سلف ذكرها- أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان، خلفة لمنامكم واستراحتكم، وتصرفكم فى معايشكم وسعيكم فى مصالحكم وسخر لكم الشمس والقمر يدأبان فى سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة، وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزرع وإنضاج الثمرات وتلوينها إلى نحو ذلك من الآثار والمنافع التي ربطها سبحانه بوجودهما، وبهما يعرف عدد السنين والشهور، وفى ذلك صلاح معايشكم، وسخر لكم النجوم بأمره تجرى فى أفلاكها بحركة مقدّرة لا تزيد ولا تنقص لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك التسخير لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون ما نبههم إليه بها.
وعبر هنا بالعقل وفى خاتمة الآية السالفة بالتفكر، من قبل أن الآثار العلوية متعددة، ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية ظاهرة لا تحتاج إلا إلى العقل من غير تفكر ولا تأمل، بل تدرك بالبديهة، بخلاف الآثار السفلية من الزرع والنخيل والأعناب فهى تحتاج فى دلالتها على وجود الصانع إلى فكر وتدبر ونظر شديد.
(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي وما خلق لكم فى الأرض من عجائب الأمور ومختلف الأشياء، من معادن ونبات وحيوان على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها وخواصها.(14/60)
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) آلاء الله ونعمه فيشكرونه على ما أنعم، ويخبتون إليه على ما تفضل به وأحسن.
وبعد أن ذكر أنواع النعم فى البر شرع يفصّل نعمه فى البحر فقال:
(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي وهو الذي سخر لكم البحر- الماء الملح والعذب- لتأكلوا منه سمكا تصطادونه.
وفى وصفه بالطراوة تنبيه إلى أنه ينبغى المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء، فسبحان الخبير بخلقه، ومعرفة ما يضر استعماله وما ينفع، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته تعالى فى خلقه الحلو الطري فى الماء الذي لا يشرب.
وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء، وهو الذي يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه،
لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وماطفا فلا تأكلوا»
فالمراد من ميتة البحر
فى الحديث «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
ما لفظه لا مامات فيه من غير آفة.
(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كاللؤلؤ المخلوق فى صدفه العائش فى البحار ولا سيما المحيط الهندي، والمرجان الذي ينبت فى قيعانها، وتوجد حقول من المرجان فى البحر الأبيض المتوسط أمام تونس والجزائر، متى تم ينعها حصدتها الدولة الفرنسية وباعتها للمسلمين وهم لا يعلمون شيئا من أمرها، وكأنهم لم يقرءوا القرآن وكأنهم لم يخلقوا فى هذه الأرض، وكأنهم يقولون: ربنا لا نستخرج، بل نشترى من المستخرجين من الأرض، وكأنهم ليسوا مخاطبين بالاستخراج المباح، وبذا حرّموا على أنفسهم ما أباحه الله لهم، وقد بلغ ما استخرج من المرجان سنة 1886 م 778 ألف كيلو جرام ثمنها خمسة ملايين وسبعمائة وخمسون ألف فرنك.
(وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي وترى السفن جوارى فيه، تشقّه بحيزومها ومقّدمها.
مقبلة مدبرة من قطر إلى قطر ومن بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا، وما هنا إلى هناك ومن ثم قال:(14/61)
(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بركوبه للتجارة.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم، إذ جعل ركوب البحر مع كونه مظنة للهلاك سببا للانتفاع وحصول المعاش مع عدم الحاجة إلى الحل والترحال والاستراحة والسكون، ولله در القائل:
وإنا لفى الدنيا كركب سفينة ... نظنّ وقوفا والزمان بنا يسرى
(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وألقى فى الأرض جبالا ثوابت لتقرّ ولا تضطرب بما عليها من الحيوان، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك كما قال: «وَالْجِبالَ أَرْساها» وما الأرض إلا كسفينة على وجه الماء، فإذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى الأسباب، وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة استقرت على حال واحدة، فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت، وقد تقدم إيضاح هذا وسيأتى بعد.
(وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا تجرى من مكان إلى آخر رزقا للعباد، فهى تنبع فى مواضع وهى رزق لأهل مواضع أخرى، فهى تقطع البقاع والبراري وتخترق الجبال والآكام حتى تصل إلى البلاد التي سخّر لأهلها أن تنتفع بها كما يشاهد فى نهر النيل، إذ ينبع من أواسط إفريقيّة، ويمر بجبال ووهاد فى السودان، ويستفيد منه الفائدة الكبرى أهل مصر دون سواها، وكل ذلك بتقدير اللطيف الخبير.
(وَسُبُلًا) أي وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا نسلك فيها من بلاد إلى أخرى، وقد تحدت ثلمة فى الجبل لتكون ممرا طريقا وكما قال تعالى فى وصف الجبال:
«وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا» الآية.
(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون.
(وَعَلاماتٍ) أي وجعل فيها علامات أي دلائل يهتدى بها الساري من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك، حتى إذا ضل الطريق كانت عونا له، وهدته إلى السبيل السوي فى البر والبحر.(14/62)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بالليل فى البراري أو فى البحار.
وفى الآية إيماء إلى أن مراعاة النجوم أصل فى معرفة الأوقات والطرق والقبلة، ويحسن أن نتعلم من علم الفلك ما يفيد تلك المعرفة.
قال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: لتكون زينة للسماء، ومعالم للطرق، ورجوما للشياطين، فمن قال غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به.
[سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
تفسير المفردات
المراد بمن يخلق: الله سبحانه وتعالى، ومن لا يخلق: الملائكة وعيسى والأصنام، وما يشعرون: أي لا يعلمون، وأيان: كمتى كلمتان تدلان على الزمن، لا جرم:
أي حقا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على وجود الإله القادر الحكيم على أحسن ترتيب وأكمل نظام، وكان فى ذلك تفصيل وإيضاح لأنواع النعم ووجوه الإحسان- قفىّ على ذلك بتبكيت الكفار وإبطال شركهم وعبادتهم غير الله من الأصنام والأوثان،(14/63)
لما يلزم ذلك من المشابهة بينه تعالى وبينها، ثم أردف ذلك بيان أن لهذا الخالق نعما لا تحصى على عباده، وأنهم مهما بالغوا فى الشكر، واجتهدوا فى العبادة، فليسوا ببالغين شيئا مما يجب عليهم نحوه، ولكنه يستر عليهم ما فرط من كفرانها، ويرحمهم بفيض النعم عليهم مع عدم استحقاقهم لها، ثم أعقب هذا بذكر خواص الألوهية وهى علم السر والنجوى والخلق وهذه الأصنام ليس لها شىء من ذلك، فهى مخلوقة لا خالقة، ولا شعور لها بحشر ولا نشر، ومن هذا كله يعلم أن الإله واحد لا شريك له، ثم ذكر الأسباب الداعية إلى الإشراك، وهى تحجّر القلوب وإنكار التوحيد، فهى لا ترغب فى الثواب، ولا ترهب العقاب، وتستكبر عن عبادة الواحد الديان- لا جرم بقيت مصرّة على ما كانت عليه من الجهل والضلال.
الإيضاح
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي أفمن يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم وينعم هذه النعم العظيمة- كمن لا يخلق شيئا ولا ينعم نعما صغيرة ولا كبيرة، أفلا تذكرون هذه النعم وهذا السلطان العظيم والقدرة على ما شاء من الحكمة، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعا، ولا تدفع ضرا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه من عبادتها، وإقراركم لها بالألوهية.
وخلاصة هذا- الإنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير وقلة الشكر لمن أنعم عليهم بما لا يحصى من النعم، مع وضوح ذلك وقلة احتياجه إلى تدبر وتفكر وإطالة نظر، بل يكفى فيه تنبه العقل، ليعلم أن العبادة لا تليق إلا للنعم بكل هذه النعم، أما هذه الأصنام التي لا فهم لها ولا قدرة ولا اختيار، فلا تنبغى عبادتها ولا الاشتغال بطاعتها.
قال قتادة فى الآية: الله هو الخالق الرازق، لا هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، لا تخلق شيئا ولا تملك لأهلها ضرا ولا نفعا اه.(14/64)
وبعد أن نبههم سبحانه إلى عظمته ذكّرهم بنعمه عليهم وإحسانه إليهم فقال:
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) أي وإن تعدوا نعم الله لا تضبطوا عددها فضلا عن أن تستطيعوا القيام بشكرها، فإن العبد مهما أتعب نفسه فى طاعته، وبالغ فى شكران نعمه، فإنه يكون مقصرا، فنعم الله كثيرة، وعقل المخلوق قاصر عن الإحاطة بها، ومن ثم فهو يتجاوز عن ذلك التقصير، وإلى ذلك أشار بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ) فيستر عليكم تقصيركم فى القيام بشكرها.
(رَحِيمٌ) بكم فيقيض عليكم نعمه مع استحقاقكم للقطع والحرمان، بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان، ومن أفظع ذلك وأعظمه جرما المساواة بين الخالق والمخلوق.
قال بعض الحكماء: إن أىّ جزء من البدن إذا اعتراه الألم نغّص على الإنسان النعم، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت فى ملكه حتى يزول عنه ذلك الألم، وهو سبحانه يدبّر جسم الإنسان على الوجه الملائم له، مع أنه لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر نعمه عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟.
ربنا هذه نواصينا بيدك، خاضعة لعظم نعمك، معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشىء منها، لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا، واغفر لنا، وأسبل ذيول سترك على عوراتنا، فإنك إلا تفعل نهلك، لتقصيرنا فى شكر نعمك، فكيف بما فرط منا من التساهل فى الائتمار بأوامرك، والانتهاء عن مناهيك؟
العفو يرجى من بنى آدم ... فكيف لا يرجى من الربّ اه
وبعد أن أبطل عبادة لأصنام، من قبل أنها لا قدرة لها على الخلق والإنعام، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو أن الإله يجب أن يكون عليما بالسر والعلانية، وهذه الأصنام جماد لا معرفة لها بشىء فكيف تجمل عبادتها؟ وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي والله يعلم ما تسرونه فى ضمائركم، وتخفونه عن غيركم، وما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، وهو محص ذلك كله عليكم(14/65)
فيجازيكم به يوم القيامة، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته، وهو سائلكم عما كان منكم من الشكر فى الدنيا على النعم التي أنعمها عليكم فيها، ما أحصيتم منها وما لم تحصوا.
ثم وصف سبحانه هذه الأصنام بصفات تجعلها بمعزل عن استحقاق العبادة تنبيها إلى كمال حماقة المشركين وأنهم لا يفهمون ذلك إلا بالتصريح دون التلويح فقال:
(1) (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي والأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تخلق شيئا بل هى مخلوقة، فكيف يكون إلها ما يكون مصنوعا، وغيره هو الذي دبّر وجوده ونحو الآية قوله: «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» .
(2) (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هى أموات ولا تعتريها الحياة بوجه، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، وفائدة قوله غير أحياء بيان أن بعض ما لا حياة فيه قد تدركه الحياة بعد كالنطفة التي ينشئها الله تعالى حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها، أما هذه الأصنام من الحجارة والأشجار فلا يعقب موتها حياة وذلك أتم فى نقصها.
(3) (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما تدرى هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله متى تبعث عبدتها.
ولا يخفى ما فى ذلك من التهكم بها، لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة لدى كل أحد، فكيف بما لا يعلمه إلا العيم الخبير كما أن فيه تهكما بالمشركين من قبل أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، وفيه تنبيه إلى أن البعث من لوازم التكليف، لأنه جزاء على العمل من خير أو شر، وأن معرفة وقته لا بد منه فى الألوهية.
ولما أبطل طريق عبدة الأصنام وبين فساد مذهبهم صرح بالمدّعى ولخص النتيجة بعد إقامة الحجة فقال:
(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبودكم الذي يستحق العبادة وإفراد الطاعة له دون(14/66)
سائر الأشياء- معبود واحد لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا معه شريكا سواه.
ثم ذكر الأسباب التي لأجلها أصر الكفار على الشرك وإنكار التوحيد فقال:
(فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي فالذين لا يصدقون بوعد الله ولا وعيده، ولا يقرون بالمعاد إليه بعد الممات- قلوبهم جاحدة لما قصصناه عليكم، من قدرة الله وعظمته، وجزيل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلا له، والألوهية ليست لشىء سواه، فلا يؤثر فيها وعظ، ولا ينجع فيها تذكير وهم مستكبرون عن قبول الحق، متعظّمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد، تقليدا لما مضى عليه آباؤهم من الشرك به كما حكى سبحانه عنهم قولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وقولهم: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» وقال: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .
ثم ذكر وعيدهم على أعمالهم فقال:
(لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي حقا إن الله يعلم ما يسر هؤلاء لمشركون من إنكارهم لما قصصته عليك واستكبارهم على الله، ويعلم ما يعلنون من كفرهم به، وافترائهم عليه.
ثم علل سوء صنيعهم بشدة استكبارهم فقال:
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي إن الله لا يحب المستكبرين عن توحيده، والاستجابة لأنبيائه ورسله، بل يبغضهم أشد البغض، وينتقم منهم أعظم الانتقام.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل(14/67)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق، وغمص الناس» .
وفى الصحيح «إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة، تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم» .
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
تفسير المفردات
الأساطير: واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح، وهى الترّهات والأباطيل، والأوزار: الآثام واحدها وزر، ساء ما يزرون: أي بئس شيئا يحملونه، والمكر:
صرف غيرك مما يريده بحيلة، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات، فأتى الله بنيانهم من القواعد: أي أهلكه وأفناه كما يقال أتى عليه الدهر، والقواعد:(14/68)
الدعائم والعمد: واحدها قاعدة، خرّ: سقط، يخزيهم: يذلهم ويهينهم، وتشاقون:
أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء وأتباعهم فى شأنهم، وأصله أن كلا من المتخاصمين فى شقّ وجانب غير شق الآخر، والذين أوتوا العلم: هم الأنبياء، والسلم: الاستسلام والخضوع، بلى بمعنى نعم، والمثوى: مكان الثواء والإقامة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل التوحيد ونصب البراهين الواضحة على بطلان عبادة الأصنام، أردف ذلك بذكر شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وبين أنهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة، فقد سبقتهم أمم قبلهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم فى الدنيا، وسيخزيهم يوم القيامة بما فعلوا، ثم ذكر أنهم حين يشاهدون العذاب يستسلمون، ويقولون ما كنا نعمل من سوء، ولكن الله عليم بهم وبما فعلوا، ولا مثوى لأمثال هؤلاء المتكبرين إلا جهنم وبئس المثوى هى:
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين: أي شىء أنزله ربكم؟ قالوا لم ينزل شيئا، انما الذي يتلى علينا أساطير الأولين أي هو مأخوذ من كتب المتقدمين.
ونحو الآية قوله: حكاية عنهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وكانوا يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلّم أقوالا مختلفة فتارة يقولون إنه ساحر، وأخرى إنه شاعر أو كاهن، وثالثة إنه مجنون، ثم قر قرارهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي كما حكى عنه الكتاب الكريم: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» أي ينقل ويحكى، فتفرقوا معتقدين(14/69)
صحة قوله، وصدق رأيه، قبّحهم الله، وكان المشركون يقتسمون مداخل مكة ينفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحاج، ويقولون هذه المقالة.
ثم بين عاقبة أمرهم فقال:
(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإنما قدّرنا عليهم أن يقولوا ذلك، لتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامهم وآثام الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم فى أنفسهم، وخطيئة إغوائهم وإضلالهم لغيرهم واقتدائهم بهم كما
جاء فى الحديث «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» .
ونحو الآية قوله تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» والمراد من قوله (كاملة) أنه لا ينقص منها شىء ولا يكفّر بنحو نكبة تصيبهم فى الدنيا، ولا طاعة مقبولة تكفّر بعض تلك الأوزار كما هو حال المؤمنين.
وفائدة قوله بغير علم- بيان أنهم يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال وأنهم على الباطل، وفى ذلك تنبيه إلى أن كيدهم لا يروج على ذى لب، وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء، وزيادة تعيير وذم لهم، إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم.
وقصارى القول- إن هؤلاء قد دنّسوا أنفسهم، واختاروا لها الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وللمسليمن، فكانوا السبب فيما احتملوه من الأوزار والآصار، كما كانوا واسطة فى تحمل من اتّبعوهم هذه الأوزار أيضا، والله تعالى لم يظلهم فيما جازاهم به، بل هم الذين قسطوا وجاروا على أنفسهم، فاستحقوا هذا الجزاء.
ثم هددهم وتوعدهم فقال:
(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس شيئا يرتكبونه من الإثم والذنب ما يفعلون.(14/70)
ثم بين لهم أن غائلة مكرهم عائدة إليهم، ووبال ذلك لاحق بهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيبهم لرسلهم فقال:
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي إن حال من قبلهم وقد دبروا الحيل ونصبوا الحبائل ليمكروا بها رسل الله فأبطلها الله وجعلها سبيلا لهلاكهم، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فضعضعت أساطينه، وسقط عليهم السقف، فهلكوا تحته من حيث لا يشعرون بسقوطه- فما نصبوه من الأساطين وظنوه سبب القوّة والتحصين فى البنيان صار سبب الهلاك، كذلك هؤلاء كانت عاقبة مكرهم وبالا عليهم.
ونحو الآية قولهم فى المثل: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا.
وخلاصة ذلك- إن الله أحبط أعمالهم وجعلها وبالا عليهم ونقمة لهم.
وبعد أن بين سبحانه ما حل بأصحاب المكر فى الدنيا من العذاب والهلاك، بين حالهم فى الآخرة فقال:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي ثم إن ربك يوم القيامة يخزيهم بعذاب أليم، ويقول لهم حين ورودهم عليه على سبيل الاستهزاء والسخرية: أين الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم فى الدنيا وتتولّونهم، والولىّ ينصر وليّه.
والمراد من المشاقة فيهم مخاصمة الأنبياء وأتباعهم فى شأنهم وزعمهم أنهم شركاء حقا حين بيّنوا لهم ذلك، والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والاحتقار لشأنهم، إذ كانوا يقولون: إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا.
والخلاصة- إنه لا شركاء ولا أماكن لهم.
ثم ذكر مقال الأنبياء والمرسلين فى شأنهم يوم القيامة.
(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قال الذين(14/71)
أوتوا العلم بدلائل التوحيد وهم الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنون الذين كانوا يدعونهم فى الدنيا إلى دينهم، فيجادلون وينكرون عليهم: إن الذل والهوان والعذاب يوم الفصل على الكافرين بالله وآياته ورسله- ومرادهم بهذه المقالة الشماتة وزيادة الإهانة للكافرين ثم بين أن الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم فقال:
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي الكافرين الذين تقبض ملائكة الموت أرواحهم وهم ظالموا أنفسهم ومعرّضوها للعذاب المخلّد بكفرهم، وأي ظلم للنفس أشد من الكفر؟
ثم ذكر حالهم حينئذ من الخضوع والمذلة فقال:
(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي فاستسلموا وانقادوا حين عاينوا العذاب قائلين: ما كنا نشرك بربنا أحدا، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» .
ثم أكذبهم سبحانه فيما قالوا فقال:
(بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بل كنتم تعملون أعظم السوء وأقبح الآثام والله عليم بذلك، فلا فائدة لكم فى الإنكار والله مجازيكم بأفعالكم.
ثم بين ما يترتب على قبيح أفعالهم فقال:
(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فادخلوا طبقات جهنم، وذوقوا ألوانا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي- خالدين فيها أبدا، وبئس المقيل والمقام دار الذل والهوان لمن كان متكبرا عن اتباع الرسل والاهتداء بالآيات التي أنزلت عليهم، وما أفظعها من دار، وصفها ربنا بقوله: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها»(14/72)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أحوال المكذبين بالله ورسوله الذين ينكرون وحيه ويقولون إن محمدا قد لفق أساطير الأولين وترّهاتهم ونقلها للناس، وادّعى أنها من رب الأرض والسموات، وذكر ما سينالهم من النكال والوبال، إذ يدخلون جهنم خالدين فيها كفاء ما اجترحت أيديهم من الآثام وكسبته من المعاصي- أردف ذلك وصف المؤمنين الذين إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا، وذكر ما أعدّه لهم من الخير والسعادة فى جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما أحسنوا من العمل وأتوا به من جميل الصنع.
الإيضاح
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا خَيْراً) أي وقيل للذين خافوا عقاب ربهم: أىّ شىء أنزله ربكم؟ قالوا أنزل خيرا وبركة ورحمة لمن اتبع دينه وآمن برسوله.
روى ابن أبى حاتم عن السّدّى قال: اجتمعت قريش فقالوا إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم فى كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه، فخرج ناس فى كل طريق، فكان إذا أقبل(14/73)
الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد، ووصل إليهم قال أحدهم أنا فلان بن فلان فيعرّفه نسبه ويقول له: أنا أخبرك عن محمد. إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له، فيرجع الوافد، فذلك قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد فقالوا له مثل ذلك، قال: بئس الوافد لقومى إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول، وآتى قومى ببيان أمره، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد؟
فيقولون خيرا.
ثم فضلوا هذا الخير فقالوا:
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فى هذه الدنيا، ودعوا عباده إلى الإيمان والعمل بما أمر به- مثوبة حسنة من عند ربهم، كفاء ما قدموا من عمل صالح وخير عميم.
ونحو الآية قوله: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
ثم ذكر جزاءهم فى الآخرة وما أعدّ لهم من جزيل النعم فقال:
(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتمّ من الجزاء فى تلك.
ونحو الآية قوله: «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» الآية، قوله: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» وقوله لرسوله:
«وللآخرة خير لك من الأولى» .
وفصل هذا الجزاء بقوله:
(وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي ولنعمت(14/74)
الدار للمتقين جنات إقامة تجرى من بين قصورها وأشجارها الأنهار، حسنت مستقرا ومقاما.
ثم بين أن نعمها غير ممنوعة ولا مقطوعة فقال:
(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي للذين أحسنوا فى هذه الدنيا فى جنات عدن ما يشاءون مما تشتهى أنفسهم وتقرّ به أعينهم كما قال: «وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» .
ثم ذكر أن هذا جزاء لهم على أعمال البر والتقوى فقال:
(كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) أي مثل ذلك الجزاء الأوفى يجزى الله الذين اتقوا الشرك والمعاصي.
وفى هذا حث للمؤمنين على الاستمرار على التقوى، وحث لغيرهم على تحصيلها.
ثم وصف الله المتقين بقوله:
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) قال الراغب: الطيب من الناس من تعرّى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الخصال، وتحلّى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال، وهذا إيضاح لقول مجاهد: الطيب من تزكو أقواله وأفعاله.
وقوله (طَيِّبِينَ) كلمة مختصرة جامعة لكثير من المعاني، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم كل ما نهوا عنه، واتصافهم بفضائل الأخلاق وجميل السجايا، وبراءتهم من ذميم الرذائل، وتوجههم إلى حضرة القدس، وعدم اشتغالهم بعالم الشهوات واللذات الجسمانية، ويتبع ذلك أنه يطيب لهم قبض أرواحهم، لأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى كأنهم مشاهدوها، ومن هذه حاله لا يألم بالموت كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» .(14/75)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
ثم حكى ما تقوله الملائكة بشرى لهم فقال:
(يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تقول لهم الملائكة:
سلام عليكم، لا يحيق بكم مكروه بعد، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم، ووعد كموها بما قدمتم من عمل، وبما دأبتم على تقواه وطاعته، والمراد من قوله (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) البشارة بالدخول فيها بعد البعث إذا أريد الدخول بالأرواح والأبدان، فإن أريد الدخول بالأرواح فحسب كان ذلك حين التوفى كما يشير إليه
قوله صلى الله عليه وسلّم «القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» .
أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولىّ الله، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة» اه.
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
تفسير المفردات
ينظرون: ينتظرون، وأمر ربك: هو الهلاك وعذاب الاستئصال، وحاق بهم أي أحاط بهم، وخص استعمالا بإحاطة الشر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر طعن المشركين فى القرآن بنحو قولهم: إنه أساطير الأولين، وإنه قول شاعر، ثم هددهم بضروب من التهديد والوعيد، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به- قفّى على ذلك ببيان أن الكفار لا يزدجرون عن أباطيلهم إلا إذا جاءتهم(14/76)
الملائكة قابضة أرواحهم، أو يأتيهم عذاب الاستئصال، فلا يبى منهم أحدا، ثم أتبعه ببيان أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الأمم، فقد فعل من قبلهم مثل فعلهم فأصابهم الهلاك جزاء ما فعلوا، وما ظلمهم الله ولكن هم قد ظلموا أنفسهم: «إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم» .
الإيضاح
َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)
أي ما ينتظر كفار مكة الذين قالوا إن القرآن أساطير الأولين، إلا أن تأتيهم الملائكة تقبض أرواحهم.
َوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
بالعذاب فى الدنيا كما فعل بأسلافهم من الكفار، فيرسل عليهم الصواعق، أو يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا تهديد لهم على تماديهم فى الباطل واغترارهم بالدنيا.
وخلاصة هذا- حثهم على الإيمان بالله ورسوله، والرجوع إلى الحق قبل أن بنزل بهم ما نزل بمن قبلهم من السالفين المكذبين لرسلهم.
ثم ذكر أنهم ليسوا بأول من كذب الرسل فقال:
َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
أي هكذا تمادى أسلافهم فى شركهم حتى ذاقوا بأسنا، وحل بهم عذابنا ونكالنا.
ثم ذكر أن ما يصيبهم جزاء لما كسبت أيديهم فقال:
َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
أي وما ظلمهم الله بإنزال العذاب بهم، لأنه أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم، بإرسال رسله، وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاءوا به.
ثم أعقبه بذكر ما ترتب على أعمالهم فقال:
(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلهذا أصابتهم(14/77)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
عقوبة الله على ما فعلوا، وأحاط بهم عذابه الأليم، جزاء ما كانوا يسخرون من الرسل حين توعدوهم بعقابه.
ونحو الآية قوله: «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» .
[سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
تفسير المفردات
الطاغوت: كل معبود دون الله، من شيطان وكاهن وصنم وكل من دعا إلى ضلال، ويقع على الواحد كقوله «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» وعلى الجمع كقوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» حقت: وجبت وثبتت بالقضاء السابق فى الأزل، لإصراره على الكفر والعناد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن هؤلاء المشركين لا يزدجرون إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد والوعيد، أو أتاهم عذاب الاستئصال، كما حدث لمن قبلهم من الأمم جزاء استهزائهم برسل الله- قفى على ذلك ببيان أنهم طعنوا فى إرسال الأنبياء جملة وقالوا(14/78)
إنا مجبورون على أعمالنا، فلا فائدة من إرسالهم، فلو شاء الله أن نؤمن به ولا نشرك به شيئا ونحل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا لكان الأمر كما أراد، لكنه لم يشأ إلا ما نحن عليه، فما يقوله الرسل إنما هو من تلقاء أنفسهم لا من عند الله.
وقد رد الله عليهم مقالهم بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم السالفة، وما على الرسل إلا التبليغ وليس عليهم الهداية، ولم يترك الله أمة دون أن يرسل إليها هاديا يأمر بعبادته، وينهاهم عن الضلال والشرك، فمنهم من استجاب دعوته، ومنهم من أضله الله على علم، فحقت عليهم كلمة ربك، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم أمرهم بالضرب فى الأرض ليروا آثار أولئك المكذبين الذين أخذوا بذنوبهم، ثم ذكّر رسوله بأن الحرص على إيمانهم لا ينفعك شيئا، فإن الله لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يختار الضلالة لنفسه، كما لا يجد أحدا يدفع عنه بأس الله ونقمته.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأصنام والأوثان من دونه تعالى معتذرين عما هم عليه من الشرك محتجين بالقدر: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأنه قد رضى عبادتنا لها، ولا حرّمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب والوصائل ونحو ذلك إلا لأنه قد رضى ذلك منا، ولو كان كارها لما فعلنا لهدانا إلى سواء السبيل، أو لعجّل لنا العقوبة وما مكننا من عبادتها.
وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله:
َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
أي ومثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم، واستن هؤلاء سنتهم وسلكوا سبيلهم فى تكذيب الرسول واتباع أفعال آبائهم الضلّال.
ثم بين خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال:(14/79)
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فهل على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم من أمره ونهيه إلا إبلاغ الرسالة وإيضاح طريق الحق وإظهار أحكام الوحى التي منها أن مشيئته تعالى تتعلق بهداية من وجّه همته إلى تحصيل الحق كما قال «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» وليس من وظيفتهم إلجاء الناس إلى الإيمان شاءوا أو أبوا، فإن ذلك ليس من شأنهم، ولا من الحكمة التي عليها مدار التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثارها على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئة الله بذلك وقصارى هذا- إن الثواب والعقاب لا بد فيهما من أمرين: تعلق مشيئته تعالى بوقوع أحدهما، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريا لا اختياريا، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي، أما العمل بها إلجاء وقسرا فليس من وظيفتهم لا فى كثير ولا قليل.
ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية فى الأمم كلها وجعلت سببا لهدى من أراد الله هدايته، وزيادة ضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السرىّ ويقويّه، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه فقال:
(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي ولقد أرسلنا فى كل أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم رسولا، فقال لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا.
ونحو الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» وقوله: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟» .
وإجمال القول- إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية، لأنه تعالى نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، والمشيئة الكونية وهى تمكين عباده من الكفر وتقديره لهم(14/80)
بحسب اختيارهم وصرف همتهم إلى تحصيل أسبابه، لا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وجعل أهلها من الشياطين وأهل الكفر، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله فى ذلك حجة ناصعة وحكمة بالغة.
ثم بين سبحانه أنه أنكر على عباده المكذبين كفرهم بإنزال العقوبة بهم فى الدنيا بعد إنذار الرسل فقال:
(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي فممن بعثنا فيهم رسلنا من هداه الله ووفقه لتصديقهم وقبول إرشادهم والعمل بما جاءوا به، ففازوا وأفلحوا ونجوا من عذابه، ومنهم من جاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذبوا رسله واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم بعقابه، وأنزل بهم شديد بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض التي كان يسكنها القوم الظالمون، والبلاد التي كانوا يعمرونها كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت عليه الضلالة، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم، لعلكم تعتبرون بما حل بهم.
ثم خاطب سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلّم مسلّيا له على ما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم ومبالغتهم فى عنادهم، مع حدبه عليهم وعظيم رغبته فى إيمانهم، ومبينا له أن الأمر بيد الله وليس له من الأمر شىء فقال:
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي إن تحرص أيها الرسول على هداية قومك- لا ينفعهم حرصك إذا كان الله يريد إضلالهم بسوء اختيارهم وتوجيه عزائمهم، إلى عمل المعاصي والإشراك بربهم.
ونحو الآية قوله: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله حكاية عن مقالة نوح لقومه: «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ» وقوله: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .(14/81)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
ومجمل القول- إن من اختار الضلالة ووجّه همته إلى تحصيل أسبابها فالله سبحانه لا يخلق فيه الهداية قسرا وإلجاء، لأن مدار الإيمان والكفر الاختيار لا الإلجاء والاضطرار.
(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وما لهم ناصر ينصرهم من الله إن أراد عقوبتهم كما قال: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» .
[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
تفسير المفردات
الجهد، بفتح الجيم: المشقة: وبضمها. الطاقة، وجهد أيمانهم: أي غاية اجتهادهم فيها، وبلى: كلمة جواب كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي فتثبت ما بعده، وعدا عليه حقا: أي وعد ذلك وعدا عليه حقا، أي ثابتا متحققا لا شك فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه حجتهم وقولهم إنه لا حاجة إلى الأنبياء جميعا، لأنا مجبورون فيما نفعل، وأنه لو شاء الله أن نهتدى لكان، دون حاجة إلى إرسال الأنبياء، وردّه عليهم بأن الحاجة إليهم إنما هى فى تبليغ ما أمر به وترك ما نهى عنه ولا يلزمون أحدا بإيمان ولا كفر- أردف هذا بشبهة أخرى لهم، إذ قالوا إنما نحتاج إلى الأنبياء لو كان لنا عودة إلى حياة جديدة بعد الموت فيها ثواب وعقاب، ولكن(14/82)
العودة إلى حياة أخرى غير ممكنة ولا معقولة- ذاك أن الجسم إذا تفرق وذهبت أجزاؤه كل مذهب امتنع أن يعود بعينه ليحاسب ويعاقب، فرد الله عليهم ما قالوا بأن هذا ممكن، وقد وعد عليه وعدا حقا، وأنه فعل ذلك ليميز الخبيث من الطيب والعاصي من المطيع، وأيضا فإيجاده تعالى للأشياء لا يتوقف على سبق مادة ولا آلة، بل يقع ذلك بمحض قدرته ومشيئته، وليس لقدرته دافع ولا مانع.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن أبى العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به، والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت، وأقسم جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية.
وأخرج هؤلاء عن أبى هريرة قال: «قال الله: سبّنى ابن آدم ولم يكن ينبغى له أن يسبنى، وكذّبنى ولم يكن ينبغى له أن يكذبنى، فأما تكذيبه إياى فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) وقلت: (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) وأما سبه إياى فقال: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وقلت: (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) » .
الإيضاح
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) أي إنهم اجتهدوا فى الحلف، وأغلظوا فى الأيمان، أنه لا يقع بعث بعد الموت، وهذا استبعاد منهم لحصوله، من جراء أن الميت يفنى ويعدم، والبعث إعادة له، وإعادة المعدوم مستحيلة.
وقد رد الله عليهم وكذبهم بقوله:
(بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي بلى سيبعثه الله بعد مماته، وقد وعد بذلك وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بشئون الله وصفات كماله من علم وقدرة وحكمة ونحوها، لا يعلمون أن وعد الله لا بد من نفاذه(14/83)
وأنه باعثهم بعد مماتهم يوم القيامة أحياء، ومن قبل هذا جرءوا على مخالفة الرسل، ووقعوا فى الكفر والمعاصي.
ثم ذكر سبحانه الحكمة فى المعاد، وقيام الأجساد يوم التناد فقال:
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي بل يبعثهم ليبين لهم وجه الحق فيما جاء به الرسل وخالفتهم فيه أممهم، فيمتاز الخبيث من الطيب، والمطيع من العاصي، والظالم من المظلوم، إلى نحو أولئك مما كان مدار دعوة أولئك الرسل وأنكرته الأمم الذين أرسلوا إليهم، ويجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي وليعلم الذين جحدوا وقوع البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين فى قولهم: لا يبعث الله من يموت، وسيدعون إلى نار جهنم دعّا، وتقول لهم الزبانية: «هذه النّار الّتى كنتم بها تكذّبون. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. أصلها فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون» .
ثم أخبر سبحانه عن كامل قدرته، وأنه لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء فقال:
(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب فى إحيائه ولا بعثه، لأنا إذا أردنا ذلك فإنما نقول له: كن فيكون، لا معاناة فيه، ولا كلفة علينا.
ونحو الآية قوله: «فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقوله:
«وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» وقوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» .
وخلاصة هذا- إنه تعالى مثّل حصول المقدورات وفق مشيئته، وسرعة حدوثها حين إرادته، بسرعة حصول المأمور حين أمر الآمر وقوله، دون هوادة ولا تراخ.(14/84)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه أن الكفار أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة، وتمادوا فى الغىّ والضلالة، (ومن هذه حاله فليس بالعسير عليه أن يقدم على إيذاء المؤمنين بألوان من الإيذاء، حتى يضطروهم إلى الهجرة عن الديار ومفارقة الأهل والأوطان) - ذكر هنا حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من حسنات فى الدنيا وأجر فى الآخرة، من جراء أنهم فارقوا أوطانهم وصبروا وتوكلوا على الله.
وفى هذا ترغيب لغيرهم فى الهجرة واحتمال كل أذى فى سبيل الله احتسابا للأجر.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة فى هذه الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد، ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم، وذهبوا إلى بلاد أخرى احتسابا لأجر الله ونيلا لمرضاته، من بعد ما نالهم من الكفار من أذى فى أنفسهم وأموالهم- لنسكننّهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها، إذ هم لما تركوا مساكنهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله عوضهم الله خيرا منها فى الدنيا، فمكّن لهم فى البلاد، وحكّمهم فى رقاب العباد، وصاروا أمراء وحكاما، وكان كل منهم للمتقين إماما.(14/85)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
ثم أخبر سبحانه أن ثوابه لهم فى الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم فى الدنيا فقال:
(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي ولثواب الله إياهم على هجرتهم من أجله فى الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي لا يفنى نعيمها، ولا يزول خيرها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله فى الدنيا، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل ثم تلا هذه الآية.
(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء هم الذين صبروا على ما نالهم من أذى قومهم ولم يرجعوا القهقرى، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وعلى احتمال الغربة بين ناس لم تجمعهم بهم ألفة نسب ولا جوار فى دار، وقد فوّضوا أمرهم إلى ربهم الذي أحسن لهم العاقبة فى الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن كل ما سواه.
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 50]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)(14/86)
تفسير المفردات
أهل الذكر: أهل الكتاب كما قال: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة، والبينة: هى المعجزات الدالة على صدق الرسول، والزبر:
واحدها زبور، وهى كتب الشرائع والتكاليف التي يبلغها الرسل إلى العباد، والذكر:
القرآن، لتبين للناس: أي لتوضح لهم ما خفى عليهم من أسرار التشريع، والمكر:
السعى بالفساد خفية، والسيئات: أي الأعمال التي تسوءهم عاقبتها، يخسف بهم الأرض:
أي يزيلها من الوجود وهم على سطحها، فى تقلبهم: أي فى أسفارهم وسيرهم فى البلاد البعيدة للسعى فى أرزاقهم كما قال: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ» بمعجزين: أي بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار، والتخوف: التنقص من قولهم تخوّفت الشيء وتخيفّته إذا تنقصته، والمراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلا قليلا حتى يأتى عليها الفناء جميعا، ويتفيأ: من الفيء يقال فاء الظل يفىء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما أزاله ضياء الشمس، والظلال: واحدها ظل وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس، قال رؤبة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فىء، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل، واليمين والشمائل: جانبا الشيء الكثيف من الجبال والأشجار وغيرها، والسجود: الانقياد والخضوع من قولهم سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، ومنه قوله: «واسجد لقرد السوء فى زمانه» أي اخضع له، داخرون: أي صاغرون منقادون واحدهم داخر وهو الذي يفعل ما تأمره به شاء أو أبى، يخافون ربهم: أي يخافون عقابه، من فوقهم: أي بالقهر والغلبة كما قال: «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» .(14/87)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته ما قاله المشركون من أنهم لا حاجة بهم إلى الأنبياء، لأن الحاجة إليهم إنما تدعو لو كانت هناك حياة أخرى يحاسبون فيها، وهم لا يصدقون بها، وليس من المعقول أن تكون- أردف ذلك بشبهة أخرى لهم إذ قالوا هب الله أرسل رسولا فليس من الجائز أن يكون بشرا فالله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، فلو بعث إلينا رسولا لبعثه ملكا، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله أن يبعث رسله من البشر، وإن كنتم فى شك من ذلك فاسألوا أهل الكتاب عن ذلك ثم هددهم أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون، أو يأتيهم بعذاب من السماء فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط، أو يأخذهم وهم يتقلبون فى أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى ثم أعقب هذا بما يدل على كمال قدرته فى تدبير أحوال العالم العلوي والسفلى على أتم نظام وأحكم تقدير.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي وما أرسلنا من قبلك رسلا إلى أممهم للدعوة إلى توحيدنا والانتهاء إلى أمرنا- إلا رجالا من بنى آدم نوحى إليهم لا ملائكة.
ومجمل القول- إنا لم نرسل إلى قومك إلا مثل الذين كنا نرسلهم إلى من قبلهم من الأمم أي رسلا من جنسهم وعلى منهاجهم.
روى الضحاك عن ابن عباس أن الله لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم أنكر العرب ذلك وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» الآية.
ونحو الآية قوله: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» وقوله: «ما هذا(14/88)
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ؟ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» وقوله: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» .
(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فاسألوا أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى: أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلّم رسولا.
(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) تقول العرب زبرت الكتاب: أي كتبته كما قال تعالى «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» أي وما أرسلنا رسلا إلا رجالا بالأدلة والحجج التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، والكتب التي تشمل التكاليف والشرائع التي يبلغونها من الله إلى العباد.
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي وأنزلنا إليك القرآن تذكيرا وعظة للناس، لتعرفهم ما أنزل إليهم من الأحكام والشرائع وأحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب جزاء عنادهم مع أنبيائهم، وتبين لهم ما أشكل عليهم من الأحكام وتفصل لهم ما أجمل بحسب مراتبهم فى الاستعداد والفهم لأسرار التشريع.
(وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وتوقعا منك، وانتظارا لتفكرهم فى هاتيك الأسرار والعبر، وإبعادا لهم عن سلوك سبيل الغابرين من المكذبين حتى لا يصيبهم مثل ما أصابهم.
ثم حذّرهم وخوّفهم مغبّة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال:
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي أفأمن الذين مكروا برسول الله من أهل مكة، وراموا صد أصحابه عن الإيمان بالله أن يصيبهم بعقوبة من عنده:
(1) إما بأن يخسف بهم الأرض ويبيدهم من صفحة الوجود كما فعل بقارون من قبل.(14/89)
(2) وإما بأن يأتيهم بعذاب من السماء فجأة من حيث لا يشعرون كما صنع بقوم لوط.
(3) وإما بأن يأخذهم بعقوبة وهم فى أسفارهم يكدحون فى الأرض ابتغاء الرزق، وما هم بممتنعين عليه فائتين له بالهرب والفرار كما قال: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ»
وقال صلى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» .
(4) وإما بأن يخيفهم أولا ثم يعذبهم بعد ذلك، بأن يهلك طائفة فتخاف التي تليها حتى يأتى عليهم جميعا، ويكون هذا أشد عليهم إيلاما ووحشة.
وختم الآية بما ختم به، لبيان أنه لم يأخذهم بعذاب معجّل، بل آخذهم بحالات يخاف منها كالرياح الشديدة، والصواعق والزلازل، وفى ذلك امتداد وقت، ومهلة يمكن فبها تلافى التقصير، وهذا من آثار رحمته بعباده.
ثم ذكر آثار قدرته على خلقه فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من الأجسام القائمة، كالأشجار والجبال التي تتفيأ ظلالها، وترجع من موضع إلى موضع عن اليمين والشمائل، فهى فى أول النهار على حال ثم تتقلص، ثم تعود إلى حال أخرى فى آخر النهار، مائلة من جانب إلى جانب ومن ناحية إلى أخرى، صاغرة منقادة لربها، خاضعة لقدرته.
ثم ذكر ما هو كالدليل لما سلف فقال:
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ولله يخضع ما فى السموات وما فى الأرض مما يدب عليها، وكذلك ملائكته الذين فى السماء وهم لا يستكبرون عن التذلل والخضوع له.
(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي يخاف هؤلاء الملائكة(14/90)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
والدواب التي فى الأرض ربهم الذي هو من فوقهم بالقوة والقهر- أن يعذبهم إن عصوه، ويفعلون ما أمرهم به، فيؤدون حقوقه ويجتنبون سخطه.
ونحو الآية قوله: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» ومجمل القول- إنه تعالى نبه إلى أنه لعظمته وكبريائه، تدين له المخلوقات بأسرها، جمادها ونباتها وحيوانها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة.
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
تفسير المفردات
الرهبة: الخوف، والدين: الطاعة، والواصب: الدائم كما قال: «لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» وتجأرون: أي تتضرعون لكشفه. وأصل الجؤار: صياح الوحش ثم استعمل فى رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
المعنى الجملي
لما بين سبحانه فى الآيات السالفة أن كل ما سواه من جماد وحيوان وإنس وجن وملك- منقاد به وخاضع لسلطانه- أتبع ذلك بالنهى عن الشرك به، وبين أن كل ما سواه فهو ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان يتضرع إليه إذا مسه(14/91)
الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد، ثم يعلم الكفار بعدئذ ما يحل بهم من النكال والوبال جزاء لهم على سيىء أعمالهم وقبيح أفعالهم.
الإيضاح
(وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي وقال الله لعباده: لا تتخذوا لى شريكا ولا تعبدوا سواى، فإنكم إذا عبدتم معى غيرى جعلتموه لى شريكا، ولا شريك لى، إنما هو إله واحد، ومعبود واحد، وأنا ذاك، فاتقونى وخافوا عقابى، بمعصيتكم إياى، بإشراككم بي غيرى، أو عبادتكم سواى.
وإنما ذكر العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عنه، للدلالة على أن المنهي عنه هى الاثنينية وأنها منافية للألوهية، كما أن وصف الإله بالوحدة فى قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية وأنها من لوازم الألوهية، أما الألوهية فغير منكرة ولا متنازع فيها.
والخلاصة- إنه تعالى أخبر أنه لا إله إلا هو، وأنه لا تنبغى العبادة إلا له وحده (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي ولله ملك ما فى السموات والأرض من شىء، لا شريك له فى شىء من ذلك، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وبيده حياتهم وموتهم، وله الطاعة والإخلاص على طريق الدوام والثبات.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لذلك فقال:
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) أي أفبعد أن علمتم هذا ترهبون غير الله، وتحذرون أن يسلبكم نعمة، أو يجلب لكم أذى، أو ينزل بكم نقمة إذا أنتم أخلصتم العبادة لربكم، وأفردتم الطاعة له، وما لكم نافع سواه.
وإجمال ذلك- إنكم بعد أن عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كل(14/92)
ما سواه فهو فى حاجة إليه فى وجوده وبقائه، كيف يعقل أن يكون لامرئ رغبة أو رهبة من غيره؟
ولما بين أن الواجب ألا يتقى غير الله- ذكر أنه يجب ألا يشكر إلا هو فقال:
(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) أي وما بكم من نعمة فى أبدانكم من عافية وصحة وسلامة، وفى أموالكم من نماء وزيادة، فالله هو المنعم بها عليكم، والمتفضّل بها لا سواه، فبيده الخير وهو على كل شىء قدير، فيجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم المتواصلة، وإحسانه الدائم الذي لا ينقطع.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي ثم إذا أصابكم فى أبدانكم سقم ومرض أو حاجة عارضة، أو شدة وجهد فى العيش ووسائل الحياة، فإليه تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ليكشف ذلك عنكم، علما منكم أنه لا يقدر على إزالة ذلك إلا هو.
(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من مرض فى أبدانكم، أو شدة فى معاشكم، بتفريج البلاء عنكم، إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا فى العبادة، فيعبدون الأوثان، ويذبحون لها الذبائح، شكرا لغير من أنعم بالفرج، وأزال من الضر.
ونحو الآية قوله: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) .
قال السيد الآلوسى فى تفسيره: وفى الآية ما يدل على أن صنيع العوام اليوم من الجؤار إلى غير الله تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا- عند إصابة الضر بهم وإعراضهم عن دعائه تعالى بالكلية- سفه عظيم وضلال جديد(14/93)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعرّ منه الجلود، لحصوله ممن يؤمن باليوم الموعود.
إن بعض المتشيخين قال لى وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله إذا خطب دهاك، فإن الله تعالى لا يعجّل فى إغاثتك، ولا يهمه سوء حالتك، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجّلون فى تفريج كربك، ويهمهم سوء ما حل بك، فمجّ ذلك سمعى، وهمي دمعى، وسألت الله تعالى أن يعصمى والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك اه.
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي قيضنا لهم ذلك لتكون عاقبة أمرهم أن يجحدوا نعم الله عليهم، وأنه هو المسدى لها، وأنه هو الكاشف للنقم عنهم. وقد فعلوا ذلك لسوء استعدادهم وخبث طويتهم، وبما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان، فجحدوا فضل الملك الديان، وإحسان صاحب الطّول والإحسان.
ثم توعدهم على سوء صنيعهم وأبان لهم عاقبة أمرهم فقال.
(فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي فتمتعوا فى هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقّت لحياتكم وتمتعكم فيها، وبعدئذ ستصيرون إلى ربكم، فتعلمون عند لقائه وبال ما كسبت أيديكم، وسوء مغبة أعمالكم، وتندمون حين لا ينفع الندم.
[سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 60]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)(14/94)
تفسير المفردات
تفترون: أي تكذبون، سبحانه: أي تنزيها له عن النقائص والبشارة فى أصل اللغة إلقاء الخبر الذي يؤثّر فى تغير بشرة الوجه، ويكون فى السرور والحزن فهو حقيقة فى كل منهما، وعلى هذا جاءت الآية، ثم خص فى عرف اللغة بالخبر السارّ، ويقال لمن لقى مكروها قد اسودّ وجهه غما وحزنا، ولمن ناله الفرح والسرور استنار وجهه وأشرق، والكظيم: الممتلئ غما وحزنا والكظم مخرج النفس يقال أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم غيظه أي حبسه عن الوصول إلى مخرج النفس، ويتوارى: أي يستخفى وقد كان من عادتهم فى الجاهلية أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته، فإن أخبر بذكر ابتهج، وإن أخبر بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبّر فيها ما يصنع، ويمسكه: أي يحبسه كقوله (أمسك عليك زوجك) والهون:
الهوان والذل، ويدسّه: أي يخفيه، ومثل السوء: أي الصفة السوء، وهى احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للبنات خوف الفقر والعار، ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهى أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه سخف أقوال أهل الشرك، أردف ذلك بذكر قبائح أفعالهم التي تمجها الأذواق السليمة.
الإيضاح
حكى سبحانه بعض قبائح المشركين الذين عبدوا الأوثان والأصنام وعدّ. منها:
(1) (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي ويجعل هؤلاء المشركون(14/95)
للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما مما خلق الله يتقربون به إليها، وهذا إشراك منهم لما لا يعلمون منه الفائدة بالذي يعلمون أنه الذي هو خلقهم وهو الذي رزقهم وهو الذي ينفعهم وهو الذي يضرهم دون غيره، وقد سبق تفصيل ذلك فيما حكى الله عنهم فى سورة الأنعام بقوله: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .
ثم توعدهم على ما فعلوا فقال:
(تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي أقسم لأسألنّكم عما افتر يتموه واختلقتموه من الباطل، ولأعاقبنكم على ذلك عقوبة تكون كفاء كفرانكم نعمى، وافترائكم علىّ.
ونحو الآية قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» .
وهذا السؤال سؤال تأنيب وتقريع لهم على ما اجترحوا من أقوال وأفعال.
(2) (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي ولقد بلغ من جهل هؤلاء المشركين وعظيم أباطيلهم أنهم يجهلون خلقهم، ودبّر شؤونهم، واستحق شكرهم على جزيل نعمائه- البنات، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله كما قال عز اسمه: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» وعبدوها مع الله وقد أخطئوا فى ذلك خطأ كبيرا، وضلوّا ضلالا بعيدا، إذ نسبوا إليه الأولاد ولا أولاد له، وأعطوه منها أخسها وهى البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم، بل لا يرضون إلا البنين كما قال تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» وقال:
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ» .
والمراد من قوله ولهم ما يشتهون: انهم يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.(14/96)
قال ابن عباس يقول: تجعلون لى البنات، ترتضونهن لى ولا ترتضونهنّ لأنفسكم.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى ظل وجهه مسودا كئيبا من الهم ممتلئا غيظا وحنقا من شدة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من الناس حجلا واستحياء: ولا يود أن يراه أحد من مساءته بما بشر بها، ويدور بخلده أحد أمرين: إما أن يمسكها ويبقيها بقاء ذلة وهوان فلا يورّثها ولا يعنى بها، بل يفضّل الذكور عليها، وإما أن يدسها فى التراب ويدفنها وهى حية، وذلك هو الوأد المذكور فى قوله تعالى «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» .
ومعنى قوله (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، فإنهم بالغوا فى الاستنكاف من البنت من وجوه:
(1) اسوداد الوجه.
(2) الاختفاء من القوم من شدة نقرتهم منها.
(3) إنهم يقدمون على قتلها ووأدها، خشية العار أو خوف الجوع والفقر.
ثم جعل تذييلا لما تقدم قوله:
(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين، صفة السوء التي هى كالمثل فى القبح، من حاجتهم إلى الولد، ليقوم مقامهم بعد موتهم، وتفضيلهم للذكور للاستظهار بهم، ووأدهم للبنات خشية العار أو الفقر، وذلك يومىء إلى العجز والقصور والشح البالغ أقصى غاية.
(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله تعالى الصفة العليا، وهى أنه الواحد المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو، وله صفات الكمال والجلال من القدرة والعلم والإرادة ونحو ذلك.(14/97)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو المنيع تكبرا وجلالا، لا يغلبه غالب، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
تفسير المفردات
المراد من الناس: العصاة، والأجل المسمى: يوم القيامة، ويجعلون: يثبتون وينسبون إليه، وما يكرهون: هى البنات، وتصف ألسنتهم الكذب: أي يكذبون كما يقال عينها تصف السحر أي هى ساحرة، وقدّها يصف الهيف أي هى هيفاء، لا جرم: أي حقا، مفرطون: أي مقدّمون معجّل بهم إليها من أفرطته إلى كذا أي قدّمته، ويقال لمن تقدم إلى الماء لإصلاح الدلاء والأرسان فارط وفرط، وليهم: ناصرهم ومساعدهم، اليوم: أي فى الدنيا.
المعنى الجملي
لما حكى سبحانه عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح أفعالهم- بين هنا حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه يمهلهم بالعقوبة إظهارا لفضله ورحمته، ولو آخذهم بما كسبت(14/98)
أيديهم ما ترك على ظهر الأرض دابة، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤمه كما قال سبحانه:
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» لكنه سبحانه يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى، ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلّم على ما كان يناله من أذى عشيرته بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم، فقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فكذبوهم فلك بهم أسوة، فلا يحزننّك تكذيبهم ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة.
الإيضاح
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يؤاخذ الله عصاة بنى آدم بمعاصيهم ما ترك على ظهر الأرض دابة.
أخرج البيهقي وغيره عن أبى هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال لا والله، بل إن الحبارى فى وكرها لتموت من ظلم الظالم.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه كاد الجعل (الجعران) يهلك فى جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية.
وأخرج أحمد عن أبى هريرة أنه قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل فى جحره، ثم قال إي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام.
(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي ولكن بحمله يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة إلى أجل سماه الله لعذابهم، فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا أعمارهم، وقد تقدم نظير هذا.
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي وينسب هؤلاء المشركون إلى الله سبحانه ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشركاء فى الرياسة.
(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي ويكذبون فيما يدعون إذ يزعمون(14/99)
أن لهم العاقبة الحسنى عند الله وهى الجنة على تقدير وجودها، فقد روى أنهم قالوا:
إن كان محمد صادقا فى البعث فلنا الجنة بما نحن عليه، فرد الله عليهم مقالهم بقوله:
(لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي حقا أن لهم النار وليس بعد عذابها عذاب، وأنه معجل بها إليهم وهم مقدمون لها.
ثم بين سبحانه أن هذا الصنيع الذي صدر من قريش قد حدث مثله من الأمم السالفة فى حق أنبيائهم فقال مسليا رسوله على ما كان يناله من الغم بسبب جهالانهم (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والله لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممهم بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك، من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وخلع الأنداد والأوثان، فحسّن لهم الشيطان ما كانوا عليه مقيمين من الكفر به وعبادة الأوثان، فكذبوا رسلهم وردوا عليهم ما جاءوا به من عند ربهم، وما كان ناصرهم فيما اختاروا إلا الشيطان، وبئس الناصر والمعين، ولهم فى الآخرة عذاب أليم حين ورودهم إلى ربهم، إذ لا تنفعهم إذ ذاك ولاية الشيطان كما لم تنفعهم فى الدنيا.
ثم ذكر سبحانه أنه ما أهلك من أهلك، إلا بعد أن أقام الحجة، وأزاح العلة فقال:
(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وما أنزلنا عليك كتابنا، وما بعثناك به إلى عبادنا، إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله، فيعرفوا الحق من الباطل، وتقيم عليهم حجة الله التي بعثك بها، وهو هدى للقلوب الضالة، ورحمة لقوم يؤمنون به فيصدقون بما فيه، ويقرّون بما تضمنه من أمر الله ونهيه ويعملون به.
وخلاصة ذلك- إن هذا الكتاب هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه وأنه الهادي لهم إلى سبيل الرشاد.(14/100)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
تفسير المفردات
المراد بحياة الأرض: إنباتها الزرع والشجر وإخراجها الثمر، يسمعون: أي يسمعون سماع تدبر وفهم. قال الفراء والزجاج: النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب هذه نعم وارد، ورجحه ابن العربي فقال إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة وقد جاء بالوجهين هنا وفى سورة المؤمنين، والعبرة:
الاعتبار والعظة، والفرث: كثيف ما يبقى من المأكول فى الكرش والمعى، خالصا:
أي مصفّى من كل ما يصحبه من مواد أخرى، سائغا: أي سهل المرور فى الحلق، يقال ساغ الشراب فى الحلق وأساغه صاحبه قال تعالى: «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» والسكر:
الخمر، والرزق الحسن: الخل والرّبّ والتمر والزبيب ونحو ذلك، وأوحى. ألهم وعلّم، وبيوتا: أي أوكارا وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا فى الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه، لما فيه من دقة الصنع وجميل الهندسة، ويعرشون: أي يرفعون من الكروم والسقوف، والسبل: الطرق واحدها سبيل، والذلل واحدها ذلول: أي(14/101)
منقادة طائعة، والشراب العسل، مختلف ألوانه من أبيض إلى أصفر إلى أسود بحسب اختلاف المرعى.
المعنى الجملي
بعد أن وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار، وأوعد الكافرين بنار تلظّى، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الإشراك بربهم ونسبة البنات إليه وافترائهم عليه ما لم ينزل به سلطانا- عاد إلى ذكر دلائل التوحيد من قبل أنه قطب الرحى فى الدين الإسلامى وكل دين سماوى، ويليه إثبات النبوات والبعث والجزاء، فبين أنه أنزل المطر من السماء لتحيا به الأرض بعد موتها، وثنىّ بإخراج اللبن من الأنعام، وثلث باتخاذ الخمر والخل والدّبس من الأعناب والنخيل، وربع بإخراج العسل من النحل وفيه شفاء للناس، وقد بين أثناء ذلك كيف ألهم النحل بناء البيوت والبحث عن أرزاقها من كل فجّ.
الإيضاح
(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) نبه سبحانه عباده إلى الحجج الدالة على توحيده، وأنه لا تنبغى الألوهية إلا له ولا تصلح العبادة لشىء سواه، فبين أن ذلك المعبود هو الذي أنزل من السماء مطرا، فأنبت به أنواعا مختلفة من النبات فى أرض ميتة يابسة، لا زرع فيها ولا عشب، إن فى ذلك الإحياء بعد الموت لدليلا واضحا، وحجة قاطعة على وحدانيته تعالى وعلمه وقدرته لمن يسمع هذا القول سماع تدبر وفهم لما يسمع، إذ لا عبرة بسماع الآذان، فهو أشبه بسماع الحيوان.
وبعد أن ذكر نزول الماء من السحاب ذكر خروج اللبن من الضّرع، وفيه أكبر الأدلة على قدرة القادر فقال:(14/102)
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي وإن لكم أيها الناس لعظة فى الأنعام دالة على باهر قدرتنا، وبديع صنعنا، وواسع فضلنا، ورحمتنا بعبادنا، فإننا نسقيكم مما فى بطونها من اللبن الخالص من شائبات المواد الغربية، السهل التناول، اللذيذ الطعم، وهو متولد من بين فرث ودم.
فإن الله جلت قدرته جعل الحيوان يتغذى بما يأكل من نبات ولحوم ونحوهما حتى إذا هضم المأكول تحول بإذنه تعالى إلى عصارة نافعة للجسم وفضلات تطرد إلى الخارج، ومن هذه العصارة يتكون الدم الذي يسرى فى عروق الجسم لحفظ الحياة، وبعض هذا الدم يذهب إلى الغدد التي فى الضرع فتحولها إلى لبن، فكأنّ الصانع الحكيم جعلها مصنعا ومعملا لتحويل الدم إلى لبن، وهكذا فى الجسم غدد أخرى كالغدد الأنفية للمخاط والغدد الدمعية للعين، والغدد المنويّة التي تحول الدم إلى مادة التلقيح.
وبعد أن ذكر اللبن وبين أنه جعله شرابا سائغا للناس، ثلّث بذكر ما يتخذ من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب فقال:
(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) أي ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب مما تتخذونه خمرا وخلا ودبا (عسل التمر) وتمرا.
روى عن ابن عباس أنه قال: السّكر ما حرّم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرتيهما كالخل والرّب (المربة) والتمر والزبيب ونحو ذلك.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك لآية باهرة لمن يستعملون عقولهم.
بالنظر والتأمل فى الآيات، ويعتبرون بما يستخلص من العبر.
(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي وألهم ربك النحل وألقى فى روعها، وعلّمها أعمالا يتخيل منها أنها ذوات عقول.(14/103)
وقد تتبع علماء المواليد أحوالها وكتبوا فيها المؤلفات بكل اللغات، وخصصوا لها مجلات تنشر أطوارها وأحوالها، وقد وصلوا من ذلك إلى أمور:
(1) إنها تعيش جماعات كبيرة قد يصل عدد بعضها نحو خمسين ألف نحلة، وتسكن كل جماعة منها فى بيت خاص يسمى خلية.
(2) إن كل خلية يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة أو اليعسوب، وهى أكبرهم جثة وأمرها نافذ فيهم، وعدد يتراوح بين أربعمائة نحلة وخمسمائة يسمى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفا إلى خمسين ألف نحلة، ويسمى الشغالات أو العاملات.
(3) تعيش هذه الفصائل الثلاث فى كل خلية عيشة تعاونية على أدق ما يكون نظاما، فعلى الملكة وحدها وضع البيض الذي يخرج منه نحل الخلية كلها، فهى أم النحل، وعلى الذكور تلقيح الملكات وليس لها عمل آخر وعلى الشغالة خدمة الخلية وخدمة الملكات وخدمة الذكور، فتنطلق فى المزارع طوال النهار لجمع رحيق الأزهار ثم تعود إلى الخلية فتفرز عسلا يتغذى به سكان الخلية صغارا وكبارا، وتفرز الشمع الذي تبنى به بيوتا سداسية الشكل تخزن فى بعضها العسل، وفى بعض آخر منها تربى صغار النحل، ولا يمكن المهندس الحاذق أن يبنى مثل هذه البيوت حتى يستعين بالآلات كالمسطرة والفرجار (البرجل) . قال الجوهري: ألهمها الله أن تبنى بيوتها على شكل سداسى حتى لا يحصل فيه خلل ولا فرجة ضائعة، كما عليها أن تنظف الخليّة وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها أيضا الدفاع عن المملكة وحراستها من الأعداء كالنمل والزنابير وبعض الطيور.
ثم فسر سبحانه ما أوحى به إليها بقوله:
(أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي اجعلي لك بيوتا فى الجبال تأوين إليها، أو فى الشجر أو فيما يعرش الناس ويبنون من البيوت والسقف والكروم ونحوها.(14/104)
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ثم كلى أيتها النحل من كل ثمرة تشتهيها، حلوة أو مزّة أو بين ذلك.
(فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) أي فاسلكى الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلى فيها لطلب الثمار، ولا تعسر عليك وإن توعّرت، ولا تضلّى عن العودة منها وإن بعدت.
وبعد أن خاطب النحل أخبر الناس بفوائدها لأن النعمة لأجلهم فقال:
(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي يخرج من بطونها عسل مختلف الألوان، فتارة يكون أبيض وأخرى أصفر، وحينا أحمر بحسب اختلاف المرعى.
(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) لأنه نافع لكثير من الأمراض، وكثيرا ما يدخل فى تركيب العقاقير والأدوية.
روى البخاري ومسلم عن أبى سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فقال: إن أخى استطلق بطنه فقال له رسول الله (اسقه عسلا) فسقاه عسلا، ثم جاء فقال يا رسول الله: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال (اذهب فاسقه عسلا (فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا) فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
وعلل هذا بعض الأطباء الماضين قال: كان لدى هذا الرجل فضلات فى المعدة، فلما سقاه عسلا تحللت فأسرعت إلى الخروج فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابى أن هذا يضره وهو فائدة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، وكلما سقاه حدث مثل هذا حتى اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده عليه السلام.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:(14/105)
«الشفاء فى ثلاثة فى شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وانهى أمتى عن الكىّ» .
وقد أثبت الطب الحديث ما للعسل من فوائد، أدع الكلام فيها ليتولى شرحها النطاسي الكبير المرحوم عبد العزيز إسماعيل باشا قال فى كتابه: [الإسلام والطب الحديث] .
ما أصدق الآية الكريمة! «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» إن التركيب الكيماوى للعسل كما يلى:
من 25- 40 دكستروز (جلوكوز) .
«30- 45 ليفيلوز.
«15- 25 ماء.
والجلوكوز الموجود فيه بنسبة أكثر من أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب فى أغلب الأمراض، واستعماله فى ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفى الوريد، ويعطى بصفته مقويا ومغذيا، وضد التسمم الناشئ من مواد خارجية كالزرنيخ والزئبق والذهب والكلوفرم والمورفين إلخ، وضد التسمم الناشئ من أمراض أعضاء الجسم مثل التسمم البولى والناشئ من أمراض الكبد، والاضطرابات المعدية والمعوية، وضد التسمم فى الحميات، مثل التيفويد والالتهاب الرئوي والسحائى المخى والحصبة، وفى حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبصفة خاصة فى الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلى الحادة وفى احتقان المخ وفى الأورام المخية إلخ وقد يقال: وما أهمية هذه الآية مع أن كل أنواع الغذاء لها فوائد، وقد ذكر العسل لأنه غذاء لذيذ الطعم وبطريق المصادفة.
فالحقيقة هى أن أنواع الغذاء الأخرى لا تستعمل كعلاج إلا فيما نذر من الأمراض ناشئة عن نقصها فى الغذاء فقط، وهذه الفواكه التي تشبه العسل فى الطعم فإن(14/106)
السكر الذي فيها هو سكر القصب أو أنواع أخرى، وليس فيها إلا نسبة ضئيلة من (الجلوكوز) الذي هو أهم عناصر العسل.
وإذا علمنا أن الجلوكوز يستعمل مع الأنسولين حتى فى حالة التسمم الناشئ عن مرض البول السكرى- علمنا مقدار فوائده، وأن القرآن الكريم لم يذكره بطريق المصادفة، ولكنه تنزيل ممن خلق الإنسان والنحل، وعلم كلا منهما علاقته بالآخر اه.
كيف يتكون العسل
تمتص الشغالة رحيق الأزهار، فينزل ويجتمع فى كيس فى بطنها، وهناك يمتزج بعصارة خاصة فيتحول إلى عسل، ولله در أبى العلاء إذ يقول:
والنحل يجنى المرّ من زهر الرّبا ... فيعود شهدا فى طريق رضابه
ثم تعود النحلة إلى الخلية فتفرز العسل من فمها فى البيوت الشمعية التي خصصت بتخزين العسل، وكلما امتلأ بيت منها غطاه النحل بطبقة من الشمع وانتقل إلى بيت آخر.
شمع النحل
تفرز الشغالة صفحات رقيقة صلبة من الشمع تخرجها من بين حلقات بطنها، ثم تمضغها بفيها حتى تلين، ويسهل تشكلها بحسب ما تريد، فتستعملها فى بناء بيوتها السداسية الشكل.
فوائد النحل
(1) نأخذ منها العسل الذي هو غذاء لذيذ الطعم يحوى مقدارا كبيرا من المواد المفيدة للجسم.
(2) نأخذ منها الشمع الذي تصنع منه شموع الإضاءة.(14/107)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
(3) تساعد على تلقيح الأزهار فتكون سببا فى زيادة الثمار وجودة نوعها.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فى إخراج الله من بطون النحل الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس- لدلالة واضحة على أن من سخر النحل، وهداها لأكل الثمرات التي تأكلها، واتخاذها البيوت فى الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج مما فيه شفاء للناس، هو الواحد القهار الذي ليس كمثله شىء، وأنه لا ينبغى أن يكون له شريك، ولا تصح الألوهة إلا له.
[سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
تفسير المفردات
أرذل العمر: أردؤه وأخسه يقال رذل الشيء يرذل رذالة وأرذله غيره قال تعالى حكاية عما قاله قوم شعيب له: «واتّبعك الأرذلون» والحفدة: أولاد الأولاد على ما روى عن الحسن والأزهرى وواحدهم حافد ككتبة وكاتب: من الحفد وهو الخفة فى الخدمة والعمل يقال منه حفد يحقد حفدا وحفودا وحفدانا: إذا أسرع كما جاء(14/108)
فى القنوت (وإليك نسعى ونحفد) والطيبات: اللذائذ، والمراد بالباطل: منفعة الأصنام وبركتها؟
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عجائب أحوال الحيوان، وما فيها من نعمة للإنسان كالأنعام التي يتخذ من ضرعها اللبن، والنحل التي يشتار منها العسل، ويؤخذ منها الشمع للاضاءة- أردف ذلك بيان أحوال الناس، فذكر مراتب أعمارهم، وأن منهم من يموت وهو صغير، ومنهم من يعمّر حتى يصل إلى أرذل العمر، ويصير نسّاء لا يحفظ شيئا، وفى ذلك دليل على كمال قدرة الله ووحدانيته، ثم ثنّى بذكر أعمال أخرى لهم وهى تفضيل بعضهم على بعض فى الرزق، فقد يرى أكيس الناس وأكثرهم عقلا وفهما يفنى عمره فى طلب القليل من الدنيا وقلّ أن يتيسر له، بينا يرى أقلّ الناس علما وفهما تتفتح له أبواب السماء، ويأتيه الرزق من كل صوب، وذلك دليل على أن الأرزاق قد قسمها الخلاق العليم كما قال: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وقال الشافعي رحمه الله:
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ثم ثلث بذكر نعمة ثالثة عليهم، إذ جعل لهم أزواجا من جنسهم، وجعل لهم من هذه الأزواج بنين وحفدة، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات كالثمار والحبوب والأشربة، أو من الحيوان على اختلاف أنواعها.
الإيضاح
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي والله أوجدكم ولم تكونوا شيئا أنتم ولا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ثم وقّت أعماركم بآجال مختلفة، فمنكم من تعجّل وفاته، ومنكم من يهرم ويصير إلى أرذل العمر وأخسه، فتنقص قواه(14/109)
وتفسد حواسه ويكون فى عقله وقوته كالطفل كما قال: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ» .
أخرج البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول فى دعائه: «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات»
وثبت أنه صلى الله عليه وسلّم كان يتعوّذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر،
ونقل عن على كرم الله وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة
، وهذا ليس بالمطرد ولا بالكثير.
(لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي إنما رده إلى أرذل العمر ليعود جاهلا كما كان حين طفولته وصباه، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه فى شبابه، لأن الكبر قد أضعف عقله وأنساه، فلا يعلم شيئا مما كان يعلم، وقد انسلخ من عقله بعد أن كان كامل العقل.
وخلاصة ذلك- إنه يكون نسّاء، فإذا كسب علما فى شىء لم يلبث أن ينساه ويزول من ساعته، فيقول لك من هذا؟ فتقول له هذا فلان، فلا يمكث إلا هنيهة ثم يسألك عنه مرة أخرى.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إن الله عليم بكل شىء، فيعلم وجه الحكمة فى الخلق والتوفى والرد إلى أرذل العمر، ولا ينسى شيئا من ذلك، وهو قدير على كل شىء فلا يعجزه شىء أراده.
ومجمل القول- إن ما يعرض فى الهرم من ضعف القوة والقدرة وانتفاء العلم يتنزه عن مثله المولى جل شأنه، فهو كامل العلم تام القدرة، لا يتغير شىء منهما بمرور الأزمنة كما يتغير علم البشر وقدرتهم.
ولما ذكر سبحانه تفاوت الناس فى الأعمار ذكر تفاوتهم فى الأرزاق فقال:
(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي والله تعالى جعلكم متفاوتين فى أرزاقكم، فمنكم الغنى ومنكم الفقير، ومنكم المملوك ومنكم المالك، وأعطاكم من الرزق أكثر مما أعطى مماليككم، ولم يجعل ذلك بحسن الحيلة وفضل العقل فحسب، فكثيرا(14/110)
ما نرى الحوّل القلّب لا يحصل إلا على الكفاف من الرزق بعد الجهد الجهيد، بينما نرى الأحمق يتقلب فى نعيم العيش وزخرف الدنيا، ولله درّ سفيان بن عيينة إذ يقول:
كم من قوىّ قوىّ فى تقلبه ... مهذّب الرأى عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف
(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فما الذين فضّلوا بالرزق وهم الموالى بجاعلى رزقهم من الأموال وغيرها- شركة بينهم وبين مماليكهم بحيث يساوونهم فى التصرف فيها ويشاركونهم فى تدبيرها.
والخلاصة- إن الله جعلكم متفاوتين فى الرزق، فرزقكم أكثر مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغى أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم وتتساووا وإياهم فى الملبس والمطعم والمسكن، لكنكم لم ترضوا بهذه المساواة مع أنهم أمثالكم فى البشرية والمخلوقية لله عزّ وجلّ، فما بالكم تشركون بالله فيما يليق إلا به من الألوهية والمعبودية بعض عباده، بل أخس مخلوقاته.
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لبيان قبح ما فعله المشركون من عبادة الأصنام والأوثان تقريعا لهم.
ونحو الآية قوله: «هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ؟» .
(أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ؟) إذا أضافوا بعض تلك النعم الفائضة عليهم من مولاهم إلى شركائهم، وجعلوها أندادا، وهى لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
ثم ذكر ضروبه أخرى من ضروب نعمه على عباده تنبيها إلى جليل إنعامه بها إذ هى زينة الحياة فقال:
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أي والله سبحانه جعل لكم أزواجا من جنسكم، تأنسون بهن، وتقوم بهن جميع مصالحكم(14/111)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
وعليهن تدبير معايشكم، وجعل لكم مهن بنين وحفدة أي أولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء.
(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقكم من لذيذ المطاعم والمشارب، وجميل الملابس والمساكن ما تنتفعون به إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات.
(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي أفهم بعد هذا البيان الواضح، والدليل الظاهر، يوقنون بأن الأصنام شركاء لربهم ينفعونهم ويضرونهم ويشفعون لهم عنده، وأن البحائر والسوائب والوصائل حرام عليهم كما حرمها لهم أولياء الشيطان؟.
وليس بعد هذا تأنيب وتوبيخ، إذ ساقه مساق ما فيه الشك وطلب منهم الجواب عنه.
(وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ؟) أي وهم بهذه النعم المتظاهرة عليهم من ربهم يكفرون فيضيفونها إلى غير الخالق، وينسبونها إلى غير موجدها من صنم أو وثن؟
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(14/112)
تفسير المفردات
رزق السماء: المطر، ورزق الأرض: النبات والثمار التي تخرج منها، فلا تضربوا لله الأمثال: أي لا تجعلوا له الأنداد والنظراء فهو كقوله: «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» وضرب المثل للشىء: ذكر الشبيه له، ليوضح حاله المبهمة ويزيل ما عرض من الشك فى أمره، والبكم: الخرس، وهو إما ناشىء من صمم خلقى وإما لسبب عارض ولا علة فى أذنيه، فهو يسمع لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم، لأن الكلام بعد السماع، ولا سماع له، وليس كل أبكم يكون أصم صمما طبيعيا، فإن بعض البكم لا يكونون صمّا، والكلّ: الغليظ الثقيل من قولهم كلّت السكين إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكلّ عن الأمر: ثقل عليه فلم يستطع عمله يوجهه:
أي يرسله فى وجه معين من الطريق، يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه، على صراط مستقيم: أي طريق عادل غير جائر.
المعنى الجملي
بعد أن بين عزت قدرته دلائل التوحيد البيان الشافي فيما سلف- أردف ذلك الرد على عابدى الأوثان والأصنام، فضرب لذلك مثلين يؤكد بهما إبطال عبادتها:
أولهما العبد المملوك الذي لا يقدر على شىء، والحر الكريم الغنى الكثير الإنفاق سرا وجهرا، ولفت النظر إلى أنهما هل يكونان فى نظر العقل سواء مع تساويهما فى الخلق والصورة البشرية؟ وإذا امتنع ذلك فكيف ينبغى أن يسوى بين القادر على الرزق والإفضال، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والثاني مثل رجلين أحدهما أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير وهو عبء ثقيل على سيده، وثانيهما حوّل قلّب ناطق كامل القدرة، أيستويان لدى أرباب الفكر مع استوائهما فى البشرية؟ وإذا فكيف يدور بخلد عاقل مساواة الجماد برب العالمين فى الألوهية والعبادة؟.(14/113)
قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد ابن أبى العاص: كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف.
الإيضاح
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانا لا تملك لهم رزقا من السموات، فلا تقدر على إنزال القطر منها لإحياء الميت من الأرضين، ولا تملك لهم رزقا منها، فلا تقدر على إخراج شىء من نباتها ولا ثمارها، ولا على شىء مما ذكر فى سالف الآيات مما أنعم الله به على عباده، ولا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم.
وفائدة قوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن من لا يملك شيئا قد يكون فى استطاعته أن يتملكه بوجه، فبين بذلك أن هذه الأصنام لا تملك وليس فى استطاعتها تحصيل الملك.
وبعد أن بين ضعفها وعجزها رتب على ذلك ما هو كالنتيجة له فقال:
(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي فلا تجعلوا لله مثلا ولا تشبّهوه بخلقه، فإنه لا مثل له ولا شبيه.
أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية: أي لا تجعلوا معى إلها غيرى، فإنه لا إله غيرى.
ثم هددهم على عظيم جرمهم، وكبير ما اجترحوا من الكفر والمعاصي فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن الله يعلم كنه ما تفعلون من الإجرام وعظيم الآثام، وهو معاقبكم عليه أشد العقاب، وأنتم لا تعلمون حقيقته ولا مقدار عقابه ومن ثم صدر ذلك منكم وتجاسرتم عليه ونسبتم إلى الأصنام ما لم يصدر منها ولا هى منه فى قليل ولا كثير.(14/114)
وبعد أن نهاهم سبحانه عن الإشراك أعقبه بمثل يكشف عن فسادما ارتكبوه من الحماقات والجهالات فقال:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) أي إن مثلكم فى إشراككم بالله الأوثان، مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وحرّ مالك ما لا ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كما يريد، والفطرة الأولى تشهد بأنهما ليسا سواء فى التجلة والاحترام، مع استوائهما فى الخلق والصورة- فكذلك لا ينبغى لعاقل أن يسوّى بين الإله القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شىء البتة.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي الحمد الكامل لله خالصا دون ما تدعون من دونه من الأوثان، فإياه فاحمدوا دونها، ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، فليس للأوثان عندكم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء الكفار الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلهم بما يأتون وما يذرون يجعلونها لله شركاء فى العبادة والحمد.
ثم ضرب مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح فقال:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي ضرب الله مثلا لنفسه والآلهة التي يعبدونها من دونه مثل رجلين أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم، فلا يقدر على شىء مما يتعلق بنفسه أو بغيره، وهو عيال على من يعوله ويلى أمره، حيثما يرسله مولاه فى أمر لا يأت بنجح ولا كفاية مهمّ- وثانيهما(14/115)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
رجل سليم الحواس عاقل ينفع نفسه وينفع غيره، يأمر الناس بالعدل وهو على سيرة صالحة ودين قويم- هل يستويان؟
كذلك الصم لا يسمع شيئا ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع من خدمه، ولا دفع ضر عنه، وهو كلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه، وهو لا يعقل ما يقال له فيأتمر بالأمر، ولا ينطق فيأمر وينهى، هل يستوى هو ومن يأمر بالحق ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته! وهو مع أمره بالعدل على طريق مستقيم لا يعوجّ عن الحق ولا يزول عنه.
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 79]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
تفسير المفردات
الساعة: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان فى ساعة ما فيموت الخلق بصيحة واحدة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، والأفئدة واحدها فؤاد: وهى القلوب التي هيأها الله للفهم وإصلاح البدن، والجو: الهواء بين الأرض والسماء.(14/116)
المعنى الجملي
بعد أن مثّل سبحانه نفسه بمن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومستحيل أن يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة- أردف ذلك ما يدل على كمال علمه، فأبان أن العلم بغيوب السموات والأرض ليس إلا له، وما يدل على كمال قدرته، فذكر أن قيام الساعة فى السرعة كلمح البصر أو أقرب، ثم عاد إلى ذكر الدلائل على توحيده، وأنه الفاعل المختار، فذكر منها خلق الإنسان فى أطواره المختلفة، ثم الطير المسخّر بين السماء والأرض، وكيف جعله يطير بجناحين فى جو السماء ما يمسكه إلا هو بكامل قدرته.
الإيضاح
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب عن أبصاركم فى السموات والأرض مما لا اطلاع لأحد عليه إلا أن يطلعه الله، والمراد به جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين التي لا سبيل إلى إدراكها حسا ولا إلى فهمها عقلا.
(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي وما شأنها فى سرعة المجيء إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأنه إنما يكون بقول (كُنْ فَيَكُونُ) .
ونحو الآية قوله «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» أي فيكون ما يريد كطرف العين.
وقريب من هذا قوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» .
والخلاصة- إن قيام القيامة ومجىء الساعة التي ينتشر فيها الخلق للوقوف فى موقف الحساب- كنظرة من البصر، وطرفة من العين فى السرعة.
وخص قيام الساعة من بين الغيوب، لأنه قد كثرت فيه المماراة فى جميع(14/117)
الأزمنة والعصور، ولدي كثير من الأمم، فأنكره كثير من البشر وجعلوه مما لا يدخل فى باب الممكنات.
ثم ذكر ما هو كالبرهان على إمكان حدوثها وسرعة وقوعها فقال:
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله قادر على ما يشاء، لا يمتنع عليه شىء أراده، فهو قادر على إقامتها فى أقرب من لمح البصر.
ثم ذكر سبحانه مننه على عباده بإخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم رزقهم السمع والأبصار والأفئدة فقال:
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله جعلكم تعلمون ما لا تعلمون بعد أن أخرجكم من بطون أمهاتكم، فرزقكم عقولا تفقهون بها، وتميزون الخير من الشر، والهدى من الضلال، والخطأ من الصواب، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به فيما بينكم، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها، وتميزون بعضها من بعض، والأشياء التي تحتاجون إليها فى هذه الحياة، فتعرفون السبل، وتسلكونها للسعى على الأرزاق والسلع لتختاروا الجيد وتتركوا الرديء، وهكذا جميع مرافق الحياة ووجوهها.
لعلكم تشكرون: أي رجاء أن تشكروه باستعمال نعمه فيما خلقت لأجله، وتتمكنوا بها من عبادته تعالى، وتستعينوا بكل جارحة وعضو على طاعته.
روى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تعالى: من عادى لى وليّا فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن دعانى لأجبته، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت(14/118)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
وأكره مساءته، ولا بد له منه»
أي إن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزّ وجلّ، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله أي لما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشى إلا فى طاعته عزّ وجلّ، مستعينا به فى ذلك كله.
ثم نبه عباده إلى دليل آخر على كمال قدرته فقال:
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) أي ألم ينظروا إلى الطير مذللات فى الهواء بين السماء والأرض ما يمسكهن فى الجو عن الوقوع إلا الله عزّ وجلّ بقدرته الواسعة، وقد كان فى ثقل أجسادها، ورقة الهواء ما يقتضى وقوعها، إذ لا علاقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها، ولو سلبها ما أعطاها من قوة الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا.
وقد كان العلماء قديما يعلمون تخلخل الهواء فى الطبقات العالية فى الجو وهى نظرية لم تدرس فى العلوم الطبيعية إلا حديثا، فقد أثر عن كعب الأحبار أنه قال: إن الطير يرتفع فى الجو اثنى عشر ميلا ولا يرتفع فوق ذلك.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك التسخير فى الجو والإمساك فيه- لدلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه لا حظ للأوثان والأصنام فى الألوهية- لمن يؤمن بالله، ويقر بوجدان ما تعاينه أبصارهم، وتحسه حواسهم.
وخصص هذه الآيات بالمؤمنين، لأنهم هم المنتفعون بها، وإن كانت هى آيات لجميع العقلاء.
[سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)(14/119)
تفسير المفردات
سكنا: أي مسكنا، والظعن (بالسكون والفتح) السير فى البادية لنجعة أو طلب ماء أو مرتع، والأصواف: للضأن، والأوبار: للإبل، والأشعار: للمعز، والأثاث: متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها، ولا واحد له من لفظه، والمتاع: ما يتمتع وينتفع به فى المتجر والمعاش، إلى حين: أي إلى انقضاء آجالكم، والظلال: ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها، والأكنان واحدها كنّ: وهو الغار ونحوه فى الجبل، والسرابيل واحدها سربال: وهو القميص من القطن والكتّان والصوف وغيرها، وسرابيل الحزب الجواشن والدروع، والبأس: الشدة، ويراد به هنا الحرب.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الأدلة على توحيده، قفى على ذلك بذكر ما أنعم به على عباده فجعل لهم بيوتا يأوون إليها وتكون سكنا لهم، وجعل لهم من جلود الأنعام بيوتا يستخفون حملها فى أسفارهم، ويجعلونها خياما فى السفر والحضر، وجعل لهم فى الجبال الحصون والمعاقل، وجعل لهم الثياب التي تقيهم الحر، والدروع والجواشن من الحديد لتقى بعضهم أذى بعض فى الحرب.
وقصارى هذا- إنه امتن على عباده، فبدأ بما يخص المقيمين بقوله: وجعل لكم من بيوتكم سكنا، ثم بما يخص المسافرين منهم ممن لهم قدرة على ضرب الخيام بقوله: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا، ثم بمن لا قدرة لهم على ذلك ولا يأويهم(14/120)
إلا الظلال بقوله، وجعل لكم مما خلق ظلالا، ثم بما لا بد منه لكل أحد بقوله:
وجعل لكم سرابيل إلخ، ثم بما لا غنى عنه فى الحروب بقوله: وسرابيل تقيكم بأسكم.
الإيضاح
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي والله الذي جعل لكم من بيوتكم التي هى من الحجر والمدر مسكنا تقيمون فيه وأنتم فى الحضر.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي وجعل لكم قبابا وفساطيط من شعر الأنعام وأصوافها وأوبارها، تستخفون حملها يوم ترحالكم من دوركم وبلادكم وحين إقامتكم بها.
(وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاثا لبيوتكم تكتسون به وتستعملونه فى الغطاء والفراش، ومتاعا من مال وتجارة إلى أجل مسمى، وهو حين نقضاء آجالكم.
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا) أي ومن نعمه تعالى عليكم أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شديد الحر.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي وجعل لكم من الجبال مواضع تستكنون فيها كالمغارات والكهوف ونحوها.
(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتان والصوف ونحوها، تقيكم الحر الشديد الذي فى بلادكم وهو مما يذيب دماغ الضبّ حين حمارّة القيظ.
(وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي وجعل لكم دروعا وجواشن تقيكم بأس السلاح وأذاه حين الحرب وحين يتقدم القرن إلى قرنه للمصاولة والطعن والضرب والرمي بالنبال.(14/121)
تنبيه- لما كانت بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل ألزم، ذكر هذا فى معرض النعم العظيمة، إلى أن ما يقى من الحريقى من البرد أيضا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر.
قال الشهاب الخفاجي فى الريحانة: فى الآية نكتة لطيفة لم ينبّهوا عليها، وهى أنه إنما اقتصر على الحر لأنه أهم هنا لما عرف من غلبة الحر على ديار العرب، ثم إن ما يقى الحر يحصل به برودة فى الهواء فى الجملة، فوقاية الحر إنما هى لتحصيل البرد، وهذا فيه من اللطف ما هو ألطف من النسيم، فلله در التنزيل فكم فيه من أسرار لا تتناهى اهـ.
(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي كما خلق هذه الأشياء لكم، وأنعم بها عليكم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ويجعلكم ملوكا وأمراء فيما تفتحون من البلاد والأصقاع، ويجعل رائدكم فيما تعملون وجه الله وإصلاح الأمم والشعوب كما قال: «وعد الله الّذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم فى الأرض» .
(لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي توقعا للنظر فيما أسبغ عليكم من النعم، فتعرفون حق المنعم بها، فتؤمنون به وحده، وتذرون ما أنتم به مشركون، فتسلمون من عذابه، فإن العاقل إذا أسدى إليه المعروف شكر من أنعم به عليه كما قال المتنبي:
وقيّدت نفسى فى دراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا
وبعد أن عدد ما أنعم به عليهم من النعم ذكر ما يتّبع معهم إذا هم أصروا على عنادهم واستكبارهم ولم تنفعهم الذكرى فقال:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فان استمروا على إعراضهم، ولم يقبلوا ما ألقى إليهم من البينات فلا يضيرك ذلك، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة، فإنك قد أديت رسالتك كاملة غير منقوصة، وما هى إلا البلاغ الموضّح لمقاصد الدين وبيان أسراره وحكمه، وقد فعلته بما لا مزيد عليه.
وجملة القول- إنهم إن أعرضوا وتولوا فلست بقادر على خلق الإيمان فى قلوبهم، فإنما عليك البلاغ فحسب(14/122)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
ثم بين أن سبب هذا التولي والإعراض لم يكن الجهل بهذه النعم بل كان العتوّ والاستكبار والإنكار لها فقال:
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي إنهم يعرفون أن هذه النعم كلها من الله، ثم هم ينكرونها بأفعالهم، إذ لم يخصّوا المنعم بها بالعبادة والشكر، بل شكروا غيره معه، إذ قالوا إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام.
(وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي إن أكثرهم جاحد معاند يعلم صدق الرسول ولا يؤمن به عتوا واستكبارا، وقليل منهم كان يجهل صدقه ولم يظهر له كونه نبيا حقا من عند الله، لأنه لم ينظر فى الأدلة النظر الصحيح الذي يؤدى إلى الغاية، أولم يعرف الحق لنقص فى العقل فهو لا يسلك سبيله، أو لم يصل إلى حد التكليف، فلا تقوم عليه حجة.
وهذا من صادق أحكام القرآن على الأمم والشعوب، فهو لا يرسل القول إرسالا، بل يزنه بميزان الحقيقة الواقعة التي لا تجانف الصواب، وليس فيها جور ولا ظلم.
[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)(14/123)
تفسير المفردات
الأمة: الجيل من الناس، وشهيد كل أمة نبيها، ثم لا يؤذن للذين كفروا: أي إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم، ويقال استعتبه وأعتبه: إذا رضى عنه، قال الخليل:
العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة وعاتبه معاتبة وعتابا وأعتبه: سره بعد ما ساءه، ينظرون: أي يمهلون ويؤخرون، والشركاء: الأصنام والأوثان والشياطين والملائكة، وندعو: نعبد، والسلم: الاستسلام والانقياد، وضل: ضاع وبطل والمراد بهؤلاء أمته الحاضر منهم عصر التنزيل ومن بعدهم إلى يوم القيامة، وتبيانا: أي بيانا لأمور الدين إما نصافيها أو ببيان الرسول واستنباط العلماء المجتهدين فى كل عصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال هؤلاء المشركين وأنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها- قفّى على ذلك بوعيدهم، فذكر حالهم يوم القيامة، وأنهم يكونون أذلاء لا يؤذن لهم فى الكلام لتبرئة أنفسهم ولا يمهلون، بل يؤخذون إلى العذاب بلا تأخير، وإذا رأوا معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين قالوا هؤلاء معبوداتنا، فكذبتهم تلك المعبودات، واستسلموا لربهم، وانقادوا له، وبطل ما كانوا يفترونه، ثم ذكر ذلك اليوم وهوله وما منح نبيه من الشرف العظيم وأنه أنزل عليه الكتاب، ليبين للناس ما أشكل عليهم من مصالح دينهم ودنياهم، ويهديهم سواء السبيل، وفيه البشرى للمؤمنين بجنات النعيم.(14/124)
الإيضاح
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وخوّف أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليها بما أجابت داعى الله وهو رسولها الذي أرسل إليها، إما بالإيمان وطاعة الله، وإما بالكفر والعصيان.
(ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي ثم لا يسمع كلام الكافرين بعد شهادة أنبيائهم ولا يلتفت إليه، إذ فى تلك الشهادة ما يكفى للفصل فى أمرهم والقضاء عليهم، والله عليم بما كانوا يفعلون، ولكن فى تلك الشهادة تأنيب لهم وتوبيخ على ما اجترحوا من الفسوق والعصيان والكفر بربهم الذي أنعم عليهم.
ونحو الآية قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» .
(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة وصالح العمل، فالآخرة دار جزاء لا دار عمل، والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون بحال.
(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي وإذا عاين هؤلاء الذين كذّبوا وجحدوا نبوّة الأنبياء وهم من كانوا على نهج قومك من المشركين- عذاب الله، فلا ينجيهم منه شىء، إذ لا يؤذن لهم بالاعتذار فيعتذرون، فيخفف عنهم بهذا العذر الذي يدّعون، ولا يرجئون بالعقاب، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات، وإنما ذاك وقت الجزاء على الأعمال: «فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره» .
ونحو الآية قوله: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» وقوله: «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» ، الثبور: الهلاك.(14/125)
ثم أخبر عن إلقاء المشركين تبعة أعمالهم على معبوداتهم فقال:
(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي وإذا رأى هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دونه من الأوثان والآلهة التي عبدوها- قالوا هؤلاء شركاؤنا فى الكفر بك، والذين كنا ندعوهم آلهة من دونك، وربما يكونون قد قالوا هذه المقالة طمعا فى توزيع العذاب بينهم، أو إحالة الذنب عليهم تعللا بذلك واسترواحا، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة. ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه.
ثم ذكر تبرأ آلهتهم منهم، وهم أحوج ما يكونون إلى نصرتهم لو كانوا ينصرون.
(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي قالت لهم الآلهة: كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا، ونحو الآية قوله: «ومن أضلّ ممّن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين» وقوله: «واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّا، كلّا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّا» .
(وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي واستسلم العابد والمعبود لله، فلا أحد إلا وهو سامع مطيع، ونحو الآية قوله: «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا» أي ما أسمعهم وأبصرهم حينئذ، وقوله: «ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا» وقوله: «وعنت الوجوه للحىّ القيّوم» أي خضعت واستسلمت.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وذهب عنهم ما كانوا يعبدونه افتراء على الله، فلا ناصر لهم ولا معين ولا شفيع ولا ولىّ مما كانوا يزعمونه فى الدنيا كما قال تعالى حكاية عنهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» .
وبعد أن ذكر عذاب المضادين بيّن عذاب الضالين المضلين فقال:
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)(14/126)
أي الذين جحدوا نبوّتك وكذبوك فيما جئتهم به من عند ربك، وصدوا عن الإيمان بالله ورسوله من أراده، زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بكفرهم، بسبب استمرارهم على الإفساد بالصد عن سبيل الله.
وخلاصة ذلك- إنهم يعذبون عذابين: عذابا على الكفر، وعذابا على الإضلال وصد الناس عن اتباع الحق.
ونحو الآية قوله: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي وهم ينهون الناس عن اتباعه، وهم يبتعدون منه أيضا،
روى الحاكم والبيهقي وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح فى النار فإذا أتوه تلقّاهم عقارب كأنهم البغال الدهم، وأفاع كأنهن البخاتىّ (ضخام الإبل) تضربهم فذلك الزيادة» .
وفى الآية دليل على تفاوت الكفّار فى عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون فى منازلهم فى الجنة ودرجاتهم فيها.
ثم خاطب سبحانه عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلّم فقال:
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي واذكر أيها الرسول ذلك اليوم وهوله يوم يبعث الله نبى كل أمة شاهدا عليهم، فيكون أقطع للمعذرة، وأظهر فى إتمام الحجة عليهم، وجئنا بك شهيدا على أمتك، بما أجابوك، وبما عملوا فيما أرسلتك به إليهم.
وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين
قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «حسبك» فقال ابن مسعود: فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان.
ثم ذكر ما تفضل به من الوحى على رسوله فقال:
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانا لكل ما بالناس إليه حاجة من معرفة(14/127)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
الحلال والحرام والثواب والعقاب، وهدى من الضلالة، رحمة لمن صدق به، وعمل بما فيه من حدود الله وأمره ونهيه، فأحل حلاله وحرم حرامه، وبشرى لمن أطاع الله وأناب إليه، بجزيل الثواب فى الآخرة وعظيم الكرامة.
ووجه ارتباط هذا بما قبله، بيان أن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك يوم القيامة عن ذلك كما قال: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» وقال: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» وقال: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، وسائلك عن أداء ما فرض عليك.
وتبيان القرآن لأمور الدين إما مباشرة وإما ببيان الرسول، وقد أمرنا سبحانه باتباع هذا البيان فى قوله «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وقوله «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»
ولقوله صلى الله عليه وسلّم: «إنى أوتيت القرآن ومثله معه»
وإما ببيان الصحابة والعلماء المجتهدين له،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ»
وقد كان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم فاجتهد الأئمة ووطّئوا طرق البحث فى أمور الدين لمن بعدهم، واستنبطوا من الكتاب والسنة مذاهب وآراء فى العبادات ومعاملات الناس بعضهم مع بعض، ودوّنوا تشريعا ينهل منه المسلمون فى كل جيل، ويرجع إليه القضاة ليحكموا بين الناس بالعدل، وكان أجلّ تشريع أخرج للناس كما اعترف بذلك أرباب الديانات الأخرى وكذلك من لم يتدين منهم بدين.
[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 93]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)(14/128)
تفسير المفردات
العدل لغة: المساواة فى كل شىء بلا زيادة ولا نقصان فيه، والمراد به هنا المكافأة فى الخير والشر. والإحسان: مقابلة الخير بأكثر منه، والشر بالعفو عنه، وإيتاء ذى القربى: أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر. والفحشاء: ما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وشرب الخمر والحرص والطمع والسرقة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال المذمومة، والمنكر: ما تنكره العقول من دواعى القوة الغضبية كالضرب الشديد والقتل والتطاول على الناس، والبغي: الاستعلاء على الناس والتجبر عليهم بالظلم والعدوان، والوعظ: التنبيه إلى الخير بالنصح والإرشاد، والعهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد، ونقض اليمين: الحنث فيها وأصله فك أجزاء الجسم بعضها من بعض، وتوكيدها: توثيقها والتشديد فيها، كفيلا: أي شاهدا ورقيبا، والغزل: ما غزل من صوف ونحوه، والقوة: الإبرام والإحكام، والأنكاث، واحدها نكث وهو ما ينكث فتله وينقض بعد غزله، والدخل: المكر والخديعة. وقال أبو عبيدة:
كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل، ويراد به أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض، أربى: أي أكثر وأوفر عددا.(14/129)
المعنى الجملي
بعد أن بالغ سبحانه فى الوعد للمتقين والوعيد للكافرين، وعاد وكرر فى الترغيب والترهيب إلى أقصى الغاية، أردف ذلك ذكر هذه الأوامر التي جمعت فضائل الأخلاق والآداب وضروب التكاليف التي رسمها الدين وحث عليها لما فيها من إصلاح حال النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب، ثم ضرب الأمثال لمن يحيد عنها وينفر من فعلها.
ثم أبان أن أمر الهداية والإضلال بيده وأنه قد قدّره بحسب استعداد النفوس للصلاح والغواية، وأنه سيجازى يوم القيامة كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم، إنه سريع الحساب.
أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «أعظم آية فى كتاب الله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وأجمع آية فى كتاب الله للخير والشر الآية التي فى النحل «إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان» وأكثر آية فى كتاب الله تفويضا «ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» وأشد آية فى كتاب الله رجاء «يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعا»
وعن عكرمة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخى أعد علىّ، فأعادها عليه، فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن الحسن رضى الله عنه «أنه قرأ هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» الآية ثم قال إن الله عزّ وجلّ جمع لكم الخير كله، والشر كله فى آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.(14/130)
قال الحافظ أبو يعلى فى كتاب معرفة الصحابة عن على بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال: «بلغ أكثم بن صيفى مخرج النبي صلى الله عليه وسلّم فأراد أن يأتيه فأتى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخفّ إليه، قال فليأته من يبلّغه عنى ويبلغنى عنه، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلّم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفى وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله، قال ثم تلا عليهم: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» الآية. قالوا ردّد علينا القول فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فوجدناه زاكى النسب وسطا فى مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا فى هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أوّلا، ولا تكونوا فيه آخرا» .
وقال سعيد بن جبير عن قتادة فى قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) أي إن الله يأمر فى هذا الكتاب الذي أنزله إليك أيها الرسول بالعدل والإنصاف، ولا نصفة أجمل من الاعتراف بمن أنعم علينا بنعمه، والشكر له على إفضاله وحمده وهو أهل للحمد، ومنع ذلك عمن ليس له بأهل، فالأوثان والأصنام لا تستحق شيئا منه، فمن الجهل عبادتها وحمدها(14/131)
وهى لا تنعم فتبشكر، ولا تنفع فتعبد، ومن ثم وجب أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده.
أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعانى عمر بن عبد العزيز فقال:
صف لى العدل، فقلت بخ سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين.
وأخرج البخاري فى تاريخه أن على بن أبى طالب مرّ بقوم يتحدثون، فقال: فيم أنتم؟
فقالوا نتذاكر المروءة فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك فى كتابه إذ يقول:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» فالعدل الإنصاف، والإحسان: التفضل، فما بقي بعد هذا؟
وأعلى مراتب الإحسان الإحسان إلى المسيء، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم،
وروى عن الشعبي أنه قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
وقد صح من
حديث ابن عمر فى الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي وإعطائهم ما تدعو إليه الحاجة، وفى الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام وترغيب فى التصدق عليهم، وهذا وإن دخل فيما سلف من الإحسان- فقد خصص للاهتمام به والعناية بشأنه.
وبعد أن ذكر الثلاثة التي أمر بها أتبعها بالثلاثة التي نهى عنها فقال:
(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) وهى الغلو فى الميل إلى القوة الشهوانية كالزنا وشرب الخمر والسرقة والطمع فى مال الناس.
(وَالْمُنْكَرِ) وهو ما تنكره العقول من المساوى الناشئة من الغضب كالضرب والقتل والتطاول على الناس.
(وَالْبَغْيِ) وهو ظلم الناس والتعدي على حقوقهم.(14/132)
وخلاصة ما سلف- إن الله يأمر بالعدل، وهو أداء القدر الواجب من الخير، وبالإحسان، وهو الزيادة فى الطاعة والتعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه، ومن أشرف ذلك صلة الرحم.
وينهى عن التغالى فى تحصيل اللذات الشهوانية التي يأباها الشرع والعقل، وعن الإفراط فى اتباع دواعى الغضب بإيصال الشر إلى الناس وإيذائهم وتوجيه البلاء إليهم، وعن التكبر على الناس والترفع عليهم وتصعير الخدّ لهم.
(يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي أمركم بثلاث ونهاكم عن ثلاث، كى تتعظوا فتعملوا بما فيه رضاه سبحانه وتعالى، وما فيه صلاحكم فى دنياكم وآخرتكم.
وبعد أن ذكر المأمورات والمنهيات بطريق الإجمال فى الآية الأولى- ذكر بعضها على سبيل التخصيص فقال:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ) أي وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه وواثقتموه عليه، ويدخل فى ذلك كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، ومن ثم قال ميمون بن مهران: من عاهدته وفّ بعهده، مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله تعالى.
(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) أي ولا تخالفوا ما عاقدتم فيه الأيمان وشدّدتم فيه على أنفسكم، فتحنثوا فيه وتكذبوا وتنقضوه بعد إبرامه، وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه راعيا يرعى الموفى منكم بالعهد والناقض له بالجزاء عليه.
ثم وعد وأوعد فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فى العهود التي تعاهدون الله الوفاء بها، والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبرّون فيها أم تنقضونها؟ وهو محص ذلك كله عليكم وسائلكم عنه وعما عملتم فيه، فاحذروا أن تلقوه وقد خالفتم أمره ونهيه، فتستوجبوا منه ما لا قبل لكم به من أليم عقابه.(14/133)
أخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر أن الآية نزلت فى بيعة النبي صلى الله عليه وسلّم كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فى المسلمين قلة وفى المشركين كثرة.
ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض مع ضرب المثل فقال:
(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) أي ولا تكونوا أيها القوم فى نقضكم أيمانكم بعد توكيدها، وإعطائكم ربكم العهود والمواثيق كمن تنقض غزلها بعد إبرامه، وتنفشه بعد أن جعلته طاقات، حماقة منها وجهلا.
قال السّدّى: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت غزلا نقضته بعد إبرامه.
والخلاصة- إنه تعالى شبه حال الناقض للعهد بحال من تنقض غزلها بعد قتله وإبرامه، تحذيرا للمخاطبين، وتنبيها إلى أن هذا ليس من فعل العقلاء، وصاحبه فى زمرة الحمق من النساء.
(تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم- خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد، والنّقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عددا وعددا وأعز نفرا، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة عليها فى كل حال.
قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز نفرا فينقضون.
حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز نفرا فنهوا عن ذلك، وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وسلّم.
(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ) أي إنما يعاملكم الله معاملة المختبر، بأمره إياكم بالوفاء بعهده(14/134)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
إذا عاهدتم، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهده وبيعة رسوله، أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال؟
ثم أنذر وحذر من خالف الحق وركن إلى الباطل فقال:
(وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي وليبيننّ لكم ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه، لمجازاة كل فريق منكم على عمله فى الدنيا، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته- ما كنتم تختلفون فيه من إقرار المؤمن بوحدانية ربه، ونبوة نبيه، والوحى إلى أنبيائه، والكافر بكذبه بذلك كله.
وبعد أن أبان أنه كلفهم الوفاء بالعهد، وتحريم نقضه أتبعه ببيان أنه قادر على جمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الإيمان فقال:
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة ولم يجعل لهم اختيارا فيما يفعلون، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة، مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق، وعدم الميل إلى الزّيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مفطورين، وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم، فللإنسان اختيار أوتيه بحسب استعداده الأزلى وهو مجبور فيه، والثواب والعقاب يترتبان على هذا الاختيار الذي يشاهد، وتكون عاقبته الجنة أو النار.
(وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ولتسألن يوم القيامة جميعا سؤال محاسبة ومجازاة، لا سؤال استفهام واستفسار، وقد تكرر ذكر هذا المعنى فى سور كثيرة.
[سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)(14/135)
تفسير المفردات
زلة القدم بعد ثبوتها: مثل يقال لمن وقع فى محنة بعد نعمة، وبلاء بعد عافية، والحياة الطيبة: هى القناعة وعدم الحرص على لذات الدنيا، لما فى ذلك من الكدّ والعناء.
المعنى الجملي
بعد أن حذر سبحانه من نقض العهود والأيمان على الإطلاق- حذّر فى هذه الآية من نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهى نقض عهد رسول الله على الإيمان به، واتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، وأبان لهم أن كل ذلك زائل، وما عند الله باق لا ينفد، ثم هو بعد يجزيهم الجزاء الأوفى.
الإيضاح
(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) أي ولا تجعلوا أيمانكم خديعة تغرون بها الناس، والمراد بذلك نهى المخاطبين بذلك الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها.
ذلك أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام، وحلفوا على ذلك أوكد الأيمان، ثم نقضوا ما فعلوا، لقلة أهله وكثرة أهل الشرك، فنهوا عن ذلك.(14/136)
(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنكم بعملكم هذا تكونون قد وقعتم فى محظورات ثلاثة.
(1) إنكم تضلّون وتبعدون عن محجة الحق والهدى بعد أن رسخت أقدامكم فيها (2) إنكم تكونون قدوة لسواكم وتستنّون سنة لغيركم، فيها صدّ عن سبيل الحق، ويكون لكم بها سوء العذاب فى الدنيا، بالقتل والأسر وسلب الأموال والجلاء عن الديار.
(3) إنكم ستعاقبون فى الآخرة أشد العقاب جزاء ما اجترحتم من مجانفة الحق والإعراض عن أهله، والدخول فى زمرة أهل الشقاء والضلال.
ثم أكد هذا التحذير بقوله:
(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي ولا تأخذوا فى مقابلة نقض العهد عوضا يسيرا من الدنيا، وقد كان هذا حال قوم ممن أسلموا بمكة، زين لهم الشيطان أن ينقضوا ما بايعوا رسول الله عليه، جزعا مما رأوا من غلبة قريش، واستضعافهم للمؤمنين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم به من البذل والعطاء إن هم رجعوا إلى دينهم، فنبههم الله بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا الخير العميم والنعيم المقيم فى الآخرة بما وعدوهم به من عرض الدنيا وزينتها.
ثم بين سبحانه قلة ما أخذوا، وعظيم ما تركوا بقوله:
(إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن ما خبأه الله لكم، وادّخره من جزيل الأجر والثواب، هو خير لكم من ذلك العرض القليل فى الدنيا، إن كنتم من دوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة التي تزن الأمور بميزان الفائدة وتقدّر الفرق بين العوضين.
ثم بين وجه خيريته ورجاحة شأنه بقوله:
(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) أي إن ما تتمتعون به من نعيم الدنيا، بل(14/137)
الدنيا وما فيها، تنفد وتنقضى، وإن طال الأمد وجلّ العدد، وما فى خزائن الله باق لا نفاد له، فلما عنده فاعملوا، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا.
ثم رغب سبحانه المؤمنين فى الصبر على ما التزموه من شرائع الإسلام فقال:
(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولنثيبن الذين صبروا على أذية المشركين وعلى مشاقّ الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود والمواثيق، الثواب العظيم الذي هم له أهل، كفاء صبرهم وهو أحسن أعمالهم، إذ كل التكاليف محتاجة إليه وهو أسّ الأعمال الصالحة.
وفى الآية عدة جميلة باغتفار ما عسى أن يكون قد فرط منهم أثناء ذلك من جزع يعتريهم بحسب الطبيعة البشرية.
ثم رغّبهم فى المثابرة على أداء الطاعات وعمل الواجبات الدينية فقال:
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من عمل صالح الأعمال، وأدى فرائض الله التي أوجبها عليه، وهو مصدّق بثوابه الذي وعد به أهل طاعته، وبعقاب أهل المعصية على عصيانهم، فلنحيينه حياة طيبة، تصحبها القناعة بما قسم الله له، والرضا بما قدّره وقضاه، إذ هو يعلم أن رزقه إنما حصل بتدبيره، والله محسن كريم لا يفعل إلا ما فيه المصلحة، ويعلم أن خيرات الدنيا سريعة الزوال، فلا يقيم لها فى نفسه وزنا، فلا يعظم فرحه بوجدانها، ولا غمه بفقدانها.
ثم هو بعد ذلك يجزى فى الآخرة أحسن الجزاء، ويثاب أجمل الثواب، جزاء ما قدّم من عمل صالح، وتحلى به من إيمان صادق.
أما من أعرض عن ذكر الله، فلم يؤمن ولم يعمل صالحا، فهو فى عناء ونكد، إذ يكون شديد الحرص والطمع فى الحصول على لذات الدنيا، فإن أصابته محنة أو بلاء استعظم أمره، وعظمت أحزانه، وكثر غمه وكدره، وإذا فاته شىء من خيراتها عبس وبسر، وامتلأ قلبه أسى وحسرة، لأنه يظن أن السعادة كل السعادة(14/138)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
فى الحصول على زخرف هذه الحياة والتمتع بمتاعها. فإذا هو لم ينل منه ما يريد، فقد حرم كل ما يحلم به، ويقدره من وافر السعادة وعظيم الخير، والإنسان بطبعه جزوع هلوع منوع «إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا إلّا المصلّين» .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو فيقول «اللهم قنّعنى بما رزقتنى، وبارك لى فيه، والخلف علىّ كل غائبة لى بخير» ،
وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «قد أفلح من هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به» .
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه» .
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
تفسير المفردات
قرأت القرآن: أي أردت قراءته كما تقول إذا أكلت فقل باسم الله، وإذا سافرت فتأهب، والرجيم: المرجوم المبعد من رحمة الله، والسلطان: التسلط والاستيلاء، والتولي: الطاعة يقال توليته أي أطعته، وتوليت عنه أي أعرضت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه يجزى المؤمنين بأحسن أعمالهم، أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعمالهم من وساوس الشيطان.(14/139)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
الإيضاح
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي إذا شرعت تقرأ القرآن فاسأل الله سبحانه أن يعيذك من وساوس الشيطان الرجيم، لئلا يلبس عليك قراءتك، ويمنعك من التدبر والتفكر كما قال «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلّم مع عصمته منه فما بالك بسائر أمته ثم بين أن الناس فريقان فريق لا تسلط له عليهم وهم الذين وصفهم الله بقوله:
(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنه لا تسلط للشيطان على الذين يصدقون بلقاء الله ويفوضون أمورهم إليه، وبه يعوذون وإليه يلتجئون، فلا يقبلون ما يوسوس به ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته.
وعن سفيان الثوري أنه قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم- يريد أنهم أمروا بالاستعاذة منه، ليحفظهم الله من وساوسه التي ربما جرّتهم إلى الوقوع فى صغائر الآثام إذا وقعت على سبيل الندرة أو الغفلة.
والفريق الثاني الذين عناهم بقوله:
(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي إنما تسلطه بالغواية والضلالة على الذين يجعلونه نصيرا لهم فيحبونه ويطيعونه، ويستجيبون دعوته، والذين هم بسبب إغوائه يشركون بربهم.
[سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 105]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)(14/140)
تفسير المفردات
التبديل: رفع شىء ووضع غيره مكانه، وتبديل الآية: نسخها بآية أخرى، وروح القدس: جبريل عليه السلام سمى بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس:
من القرآن والحكمة والفيض الإلهى، بالحق: أي بالحكمة المقتضية له، بشر: هو جبر الرومي غلام ابن الحضرمي كان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة، والإلحاد: الميل يقال لحد وألحد:
إذا مال عن القصد، ومنه سمى العادل عن الحق ملحدا، لسان: أي كلام ويقال رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان عن مرادهما، والأعجمى والأعجم: الذي فى لسانه عجمة، من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم كان عربيا فى لسانه لكنة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالاستعاذة من وسوسة الشيطان الرجيم حين قراءة القرآن، أردف ذلك ذكر باب من أبواب فتنته ووسوسته، بإلقاء الشبهات والشكوك لدى منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكر منها شبهتين:
(1) إنه قد تنزل آية من آيات الكتاب تنسخ شريعة ماضية فيعيّرون محمدا بذلك.(14/141)
(2) إنهم قالوا إن ما جاء به إنما هو تعليم من البشر من بعض أهل الكتاب لا من الله، فأبطل هذه الشبهة بأنه كلام عربى مبين، وما نسبتم إليه تعليمه أعجمى، فكيف به يعلمه الكلام العربي الفصيح الذي أعجز العرب قاطبة أن يأتوا بمثله؟.
الإيضاح
(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى، والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه- قال المشركون المكذبون لرسوله: إنما أنت متقوّل على الله تأمر بشىء ثم تنهى عنه، وأكثرهم لا يعلمون ما فى التبديل من حكم بالغة.
وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادا واستكبارا.
وفى قوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) توبيخ لهم وإيماء إلى أن التبديل لم يكن للهوى، بل كان لحكمة اقتضته ودعت إليه من تغير الأحوال والأزمان، ألا ترى أن الطبيب يأمر المريض بدواء بعينه، ثم إذا عاده مرة أخرى نهاه عن ذلك الدواء وأمره بضده أو بما لا يقرب منه بحسب ما يرى من حال المريض؟.
وهكذا الشرائع إنما توضع مشاكلة للزمان والمكان والأحوال الملابسة لها، وقد يطرأ ما يغيّرها ويستدعى وضع تشريع آخر يكون أصلح للأحوال المفاجئة، والمشاهدة تدل على صدق هذا، فإنا نرى القوانين الوضعية تغيّر آنا بعد آن إذا جدما يستدعى ذلك، وقد تقدم بسط هذا فى سورة البقرة.
ثم بين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله صلى الله عليه وسلّم قد افتراه فقال:
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي قل لهم: قد جاء جبريل من عند ربى بما أتلوه عليكم، واقتضته الحكمة البالغة، من تثبيت المؤمنين وتقوية إيمانهم بما فيه من أدلة قاطعة وبراهين ساطعة، على(14/142)
وحدانية خالق الكون وباهر قدرته وواسع علمه، وحث على النظر فى ملكوت السموات والأرض، وتشريع يرقى بالأمم فى أخلاقها وآدابها ومعارفها، إلى مستوى لا تدانيها فيه أمة أخرى.
والخلاصة- إنه نافع كل النفع لهم فى دينهم ودنياهم، فإذاهم رأوا ذلك رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم، كما أنّ فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات، ففيه ما يهذّب النفوس ويكبح جماح الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم.
وفى هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا، فهم متزلزلون ضالون لهم خزى ونكال فى الدنيا والآخرة.
ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي وإنا لنعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بنى آدم وليس بالوحى من عند الله.
فرد الله عليهم وكذبهم فى قيلهم فقال:
(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي إن لسان الذي تميلون إليه بأنه يعلم محمدا- أعجمى فهو عبد رومى فيما تزعمون، والقرآن لسان عربى مبين، فكيف يتعلّم من جاء بهذا القرآن فى فصاحته وبلاغته ومعانيه الشاملة من رجل أعجمى؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من عقل.
وخلاصة هذا- إن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمى لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن كلام عربى تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون هو ما تلقفه منه؟ هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه، فهو لم يلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمى وهذا عربى، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى هو معجز من حيث اللفظ- إلى أن العلوم الكثيرة(14/143)
التي فى القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددا متطاولة، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقى سمع منه أخبارا بلغة أعجمية لعله لم يكن يعرف معناها.
وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم: أنتم أفصح الناس بيانا، وأقواهم حجة وبرهانا، وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فكيف تنسبونه إلى أعجمى ألكن؟.
وفى التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة، والخرافات الساذجة، أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز، ونهاية السّخف.
فدعهم يزعمون الصبح ليلا ... أيعمى الناظرون عن الضياء
ثم توعدهم على ما قالوا بالعقاب فى الدنيا والآخرة فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين لا يصدّقون بأن هذه الآيات من عند الله، بل يقولون فيها ما يقولون، فيقولون تارة إنها مفتريات، ويقولون أخرى إنها من أساطير الأولين- لا يهديهم الله إلى معرفة الحق الذي ينجيهم من عذاب النار، لما يعلم من سوء استعدادهم بما اجترحوا من السيئات، ودنّسوا به أنفسهم من ارتكاب الموبقات ولهم فى الآخرة إذا وردوا إلى ربهم عذاب مؤلم موجع، كفاء ما نصبوا له أنفسهم من العداء لرسوله: والتكذيب لآيات الكتاب.
ولما نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الافتراء رد الله عليهم بقوله:
(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي إنما يتخرّص الكذب ويتقوّل الباطل، الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته التي نصبها فى الكون، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا، ولا يخشون على الكذب عقابا، وهذه صفاتكم أيها المشركون لا صفات النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ومن ثم حكم عليهم بالكذب حكما صريحا فقال:(14/144)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
(وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي وأولئك الذين كفروا من رجال قريش القائلين لك أيها الرسول: إنما أنت مفترهم الكاذبون لا أنت.
وهذا تصريح بنسبة الكذب إليهم بعد التعريض، ليكون ميسم خزى وعار لهم.
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
تفسير المفردات
أكره: أي على التلفظ بكلمة الكفر، والاطمئنان: سكون النفس بعد انزعاجها والمراد الثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه، شرح بالكفر صدرا: أي اعتقده وطاب به نفسا، استحبوا الحياة الدنيا: أي آثروها وقدّموها، لا جرم: أي حقا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة أن قريشا كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وتقوّلوا عليه الأقاويل فوصفوه بأنه مفتر وأن الكتاب الذي جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله، ثم هددهم على ذلك أعظم تهديد- قفى على ذلك ببيان حال من يكفر بلسانه وقلبه ملىء بالإيمان.(14/145)
أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي فى الدلائل «أن المشركين أخذوا عمّار ابن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول الله قال له ما وراءك؟ قال شر ما تركت، نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال إن عادوا فعد فنزلت: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ،
وروى «أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة فى موضع عفتها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين فى الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يبكى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح عينيه وقال: مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت» .
الإيضاح
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي إن من كفر بالله بعد الإيمان والتبصر فعليه غضب من الله إلا إذا أكره على ذلك وقلبه ملىء بالإيمان بالله والتصديق برسوله، فلا تثريب عليه كما فعل عمار بن ياسر.
(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولكن غضب الله وشديد عقابه لمن طابت أنفسهم بالكفر، واعتقدوه طائعين مختارين، لعظيم جرمهم، وكبير إثمهم.
ثم بين سبب هذا الغضب فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي ذلك الغضب من الله، والعذاب العظيم من أجل أنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة.
(وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي وأن الله لا يوفق من يجحد آياته(14/146)
ويصرّ على إنكارها، لأنه قد فقد الاستعداد لسبل الخير بما زينت له نفسه، وسولت له، من عظيم الجرم وكبير الإثم، فأصبح قلبه مليئا بما يشغله عن دواعى الإيمان، بما يمليه عليه الشيطان.
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما تقدم ذكره- هم الذين طبع الله على قلوبهم، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصم أسماعهم فلا يسمعون داعى الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر متعظ، وأولئك هم الساهون عما أعدّ لأمثالهم من أهل الكفر، وقد تقدم ذكر (الطبع) فى آي كثيرة.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي حقا إنهم فى الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها، وصرفوا أعمارهم فيما لا يفضى بهم إلا إلى العذاب المخلّد ولله در من قال:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق فى غير واجب
فما المرء فى هذه الحياة إلا كالتاجر، يشتر بطاعة ربه سعادة الآخرة، فإذا لم يفعل من ذلك شيئا خسرت تجارته، وعاد ذلك عليه بالوبال والنكال فى جهنم وبئس القرار.
وقد حكم الله على هؤلاء الكافرين بستة أشياء:
(1) إنهم استوجبوا غضب الله.
(2) إنهم استحقوا عقابه العظيم.
(3) إنهم استحبوا الحياة الدنيا.
(4) إن الله حرمهم من الهداية للطريق القويم.
(5) إنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
(6) إنه جعلهم سبحانه من الغافلين.
قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وخبّاب وصهيب وبلال وعمار وسمية.(14/147)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا فى الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبّخهم ويشتم سمية ثم طعنها بحربة فى ملمس العفة، وقال الآخرون ما نالوا به منهم، إلا بلالا فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول: أحد أحد حتى ملّوا، فكتفّوه وجعلوا فى عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به، حتى ملّوه فتركوه.
وقال عمار: كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فإن نفسه هانت عليه فتركوه، وقال خبّاب: لقد أوقدوا لى نارا ما أطفأها إلا ودك (دهن) ظهرى.
[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
تفسير المفردات
أصل الفتن: إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته، ثم استعمل فى المحنة والابتلاء يصيب الإنسان، تجادل: أي تدفع وتسعى فى خلاصها، والنفس الأولى الجثة والبدن، والنفس الثانية عينها وذاتها، وتوفى: تعطى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحكم بأنه استحق غضب الله وعذابه الأليم يوم القيامة، ثم ذكر حال من أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه وقلبه ملىء بالإيمان- أردف ذلك بذكر طائفة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة مهانين فى قومهم فوافقوا المشركين على الفتنة فى الدين والرجوع إلى دين آبائهم وأجدادهم ثم فرّوا وتركوا بلادهم وأهليهم ابتغاء رضوان الله وطلب(14/148)
غفرانه، وانتظموا فى سلك المسلمين وجاهدوا معهم الكافرين، فحكم ربهم بقبول توبتهم، ودخولهم فى زمرة الصالحين، وتمتعهم بجنات النعيم يوم العرض والحساب.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضى الله عنه (وكان أخا أبى جهل من الرضاعة) وأبا جندل بن سهل وسلمة بن هشام وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا فنزلت فيهم الآية.
الإيضاح
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك أيها الرسول للذين هاجروا من ديارهم وتركوا مساكنهم وعشائرهم من أهل الشرك، وانتقلوا عنهم إلى ديار الإسلام من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل هجرتهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف، وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم- إن ربك من بعد أفعالهم هذه لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم، وهم لغيرها مضمرون، وللإيمان معتقدون، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إليه، وجميل صنعهم من بعد.
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي إن ربك لغفور رحيم بهؤلاء يوم تأتى كل نفس تخاصم عن نفسها، وتحاجّ عنها، وتسعى فى خلاصها، بما أسلفت فى الدنيا من عمل، ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب.
(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت فى الدنيا من طاعة أو معصية، فيجزى المحسن بما قدم من إحسان، والمسيء بما أسلف من إساءة، ولا يعاقب محسن ولا يثاب مسىء.(14/149)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
والخلاصة- إن كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كما قال:
«لكلّ امرى منهم يومئذ شأن يغنيه» .
وجاء فى بعض الآثار: «إن جهنم لتزفر زفرة، لا يبقى ملك مقرب، ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول: رب نفسى نفسى حتى إن إبراهيم الخليل ليفعل ذلك» .
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
المعنى الجملي
بعد أن هدد سبحانه الكافرين بالعذاب الشديد فى الآخرة- أردف ذلك الوعيد بآفات الدنيا من جوع وفقر وخوف شديد بعد أمن واطمئنان وعيش رغد.
الإيضاح
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي بين الله صفة لقرية كان أهلها آمنين من العدو والقتال والجوع والسبي، يأتيها الرزق الكثير من سائر البلدان، فكفروا بنعم الله، فعمهم الجوع والخوف، وذاقوا مرارتهما بعد سعة العيش والطمأنينة، وقد جاءهم رسول من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه، فكذبوه فيما أخبرهم به من(14/150)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
وجوب الشكر على النعمة، فأخذهم العذاب واستأصل شأفتهم لا لتباسهم بالظلم، وهو الكفر وتكذيب الرسول.
وفى هذا إيماء إلى تماديهم فى الكفر والعناد، وإلى أن ترتيب العذاب على تكذيب الرسول جاء على سنة الله فى أنه لا يعذب أمة إلا إذا أنذرها، وبعث إليها رسولا يعظها ويرشدها كما يدل على ذلك قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وهكذا حال أهل مكة، فإنهم كانوا فى حرم آمن يتخطّف الناس من حولهم، ولا يمرّ بهم طيف من الخوف، ولا يزعج قلوبهم مزعج، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شىء، وقد جاءهم رسول من أنفسهم فأنذرهم وحذّرهم، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم لباس الجوع والخوف بدعاء رسوله إذا
قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف»
فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وغيرهم وقوافلهم، ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب، وقد جعل الله الجوع والخوف اللذين خالط أذاهما أجسامهم- لباسا لهم لأن أثرهما وضررهما قد أحاط بهم من كل جانب، فأشبها اللباس الذي يغطّى الجسم ويحيط به، وجعل إصابتهم بهما إذاقة دلالة على شدة تأثيرهما الشديد الذي حدث فيهم كما يكون ذلك حين ذوق شىء مرّ بشع كريه، إذ يجد الذائق تقززا واشمئزازا.
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)(14/151)
تفسير المفردات
يقولون: له وجه يصف الجمال، وعين تصف السحر، يريدون أنه جميل وأن عينه تفتن من رآها، لأنه لما كان وجهه منشأ للجمال وعينه منبعا للفتنة والسحر كان كل منهما كأنه إنسان عالم بكنههما محيط بحقيقتهما يصفهما للناس أجمل وصف ويعرفهما أتم تعريف وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب، إذ جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة، وكلامهم الكذب يشرح تلك الحقيقة ويوضحها، كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب هى حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه، وعليه قول أبى العلاء المعرّى:
سرى برق المعرّة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا
أي إن سرى ذلك البرق يصف الكلال والإعياء.
لتفتروا: أي لتكون العاقبة ذلك، والجهالة هنا: الطيش وعدم التدبر فى العواقب.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال من كفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله وأنه قد حل بهم العذاب من جوع وخوف بسبب ظلمهم لأنفسهم وصدهم عن سبيل الله- قفّى على(14/152)
ذلك بأمر المؤمنين بأكلهم من الحلال الطيب وشكرهم لنعمة الله عليهم وطاعتهم للرسول فيما به أمر وعنه نهى كيلا يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم، ثم ببيان ما حرمه من المآكل، وأن التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص من الدين لا بالهوى والتشهي، لأن ذلك افتراء على الله، ومن يفتر عليه لا يفلح. وأن ما حرّم على اليهود قد ذكره فيما نزل عليه من قبل فى سورة الأنعام، وأن من يعمل السوء لعدم تدبره فى العواقب كغلبة الشهوة عليه ثم يتوب من بعد ذلك ويصلح أعماله، فإن الله غفور لزلاته، رحيم له، فيثيبه على طاعته.
الإيضاح
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم، وذروا الخبائث وهى الميتة والدم، واشكروه على ما أنعم به عليكم، بتحليله ما أحل لكم، وبسائر نعمه المتظاهرة عليكم، إن كنتم تعبدونه، فتطيعونه فيما يأمركم به، وتنتهون عما ينهاكم عنه، والمراد بذلك الحث على اتباع أوامره والمداومة عليها.
وبعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات بين لهم ما حرّم عليهم فقال:
(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي إنما حرم عليكم ربكم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح للأنصاب فسمى عليه بغير اسمه تعالى، فإن ذلك من ذبائح من لا يحل أكل ذبيحته.
والخلاصة- إن ما سمى عليه غير الله عند الذبح سواء كان صنما أو وثنا أو روحا خبيثا من جن أو روحا طيبا من إنس كالنبى والولي حيا أو ميتا، فأكله حرام لما
جاء فى الحديث «ملعون من ذبح لغير الله»
سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم، لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى غيره تعالى، فمن ذبح للسيد البدوي أو لإبراهيم الدسوقى أو للسيدة زينب لا يجوز أكل هذا الذبيح.(14/153)
ثم ذكر الحال التي يسوغ فيها تناول شىء من هذه المحرمات فقال:
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى تناول شىء من هذه المحرمات لمجاعة حلت به، وضرورة دعته إلى أخذ شىء منها، غير باغ على مضطر آخر ولا متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق- فالله لا يؤاخذه على ذلك وهو الذي يستر ما يصدر منهم من الهفوات، وهو الرحيم بهم أن يعاقبهم على مثل ذلك، أما ما حرموه غير ذلك من البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما تقدم فى سورة الأنعام فهو محض افتراء على الله، وقد تقدم مثل هذه الآية فى سور البقرة والمائدة والأنعام وفيها حصر المحرمات فى هذه الأربع فحسب.
ثم أكد حصر المحرمات فى هذه الأربع ونهى عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال:
(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بالرأى والهوى، فلا تقولوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، ولا تحللوا الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ.
وخلاصة ذلك- لا تحللوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له دون استناد إلى دليل، وكأنّ ألسنتكم لأنها منشأ الكذب وينبوعه شخص عالم بحقيقته، ومحيط بكنهه، يصفه للناس ويوضحه لهم أتم إيضاح.
(لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله كذبا من غير أن يكون ذلك منه، فالله لم يحرم من ذلك ما تحرمون ولا أحل كثيرا مما تحللون.
وإجمال ذلك- لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ورسوله حلالا وحراما فتكونوا كاذبين عليه، لأن مدار الحل والحرمة عليه ليس إلا حكمة تعالى.
عن أبى نضرة قال: قرأت هذه الآية فى سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى(14/154)
يومى هذا- وقد صدق فكل من أفتى بخلاف ما فى كتاب الله وسنة رسوله لجهله بما فيهما فقد ضل وأضل من يفتيهم، ولله در القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر
أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: «عسى رجل يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا فيقول الله عزّ وجلّ كذبت، أو يقول إن الله حرم كذا أو أحل كذا فيقول الله له كذبت» .
ثم أوعد المفترين وهددهم أشد التهديد فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي إن الذين يتخرّصون الكذب على الله فى أمورهم صغيرها وكبيرها لا يفوزون بخير فى المطالب التي لأجلها كذبوا على ربهم، إذ هم متى عرفوا بالكذب مجّهم الناس وانصرفوا عنهم وعاشوا أذلة بينهم ممقوتين، ويكونون مضرب الأمثال فى الهوان والصغار- إلى ما يصيبهم من الخزي والوبال يوم القيامة.
ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئا مذكورا إذا قيس بالمضارّ التي تنجم منه فقال:
(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن المنافع التي قد تحصل لهم على ذلك فى الدنيا لا يعتدّ بها فى نظر العقلاء إذا ووزن بينها وبين المضارّ التي فى الآخرة، فما متاع الدنيا إلا ظل زائل ثم يفنى ويبقى لهم العذاب الأليم حين مصيرهم إلى ربهم بما اجترحوا من السيئات، ودنّسوا به أنفسهم من أو ضار الإثم والفجور والكذب على بارئهم الذي خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم.
ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .
وبعد أن بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص به اليهود من المحرمات فقال:
(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وحرمنا من قبلك(14/155)
أيها الرسول على اليهود ما أنبأناك به من قبل فى سورة الأنعام: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» .
ثم بين السبب فى ذلك التحريم عليهم فقال:
(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لربهم وتجاوزهم حدوده التي حدها لهم وانتهاك حرماته، فعوقبوا بهذا التحريم كما قال فى آية أخرى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» الآية.
وفى هذا إيماء لى أن ذلك التحريم إنما كان للظلم والبغي عقوبة وتشديدا، وبه يعلم الفرق فى التحريم بينهم وبين غيرهم، فإنه لهم عقوبة، ولنا للمضرّة فحسب.
ثم بيّن أن الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبّلها الله منهم، ويغفر لهم زلاتهم رحمة منه وفضلا فقال:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك للذين افتروا عليه وأشركوا به سواه وركبوا مالا يليق من المعاصي بسبب الجهالة التي تحملهم على انتهاك حرمات الدين كالقتل للغيرة أو للعصبية كما
جاء فى الخبر «اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علىّ» .
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إنه لغفور رحيم لهم إذ هم تابوا وندموا على ما فرط منهم، وأصلحوا أعمالهم ففعلوا ما يحب الله ورسوله.
وفى قوله: بجهالة، إيماء إلى أن من يأتى الذنوب قلّما يفكر فى العاقبة، لغلبة الشهوة عليه أو لجهالة الشباب والطيش.(14/156)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 128]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
تفسير المفردات
الأمة: الجماعة الكثيرة، وسمى إبراهيم أمة لأنه قد جمع من الفضائل والكمالات ما لو تفرّق لكفى أمة، ألا ترى أبا نواس إذ يقول لهرون الرشيد مادحا:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد
والقانت: المطيع لله القائم بأمره، والحنيف: المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق، واجتباه: اختاره واصطفاه، والحسنة: هى محبة أهل الأديان جميعا له إجابة لدعوته لربه «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» وجعل السبت لليهود: فرض تعظيمه والتخلي فيه للعبادة وترك الصيد، والحكمة: المقالة المحكمة المصحوبة بالداليا(14/157)
الموضّح للحق المزيل للشبهة، والموعظة الحسنة: الدلائل الظنية المقنعة للعامة، والجدل:
الحوار والمناظرة لإقناع المعاند، والعقاب فى أصل اللغة: المجازاة على أذى سابق ثم استعمل فى مطلق العقاب، والضيق (بفتح الضاد وكسرها) الغم وانقباض الصدر.
المعنى الجملي
بعد أن زيّف سبحانه مذاهب المشركين فى إثبات الشركاء والأنداد لله، وفى طعنهم فى نبوة الأنبياء والرسل بنحو قولهم: لو أرسل الله رسلا لأرسل ملائكة. وفى تحليلهم أشياء حرمها الله، وتحريم أشياء أحلها الله، وبالغ فى رد هذه المعتقدات. ختم السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرّون بوجوب الاقتداء به، ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك، ثم بأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم باتباعه، ثم يجعل الأسس التي يبنى عليها دعوته هى الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم بأمره باللين فى العقاب إن أراده، أو بترك العقاب، وهو أفضل للصابرين، ثم بأمره بجعل الصبر رائده فى جميع أعماله، ونهيه عن الحزن على كفر قومه، وأنهم لم يجيبوا دعوته، وأنهم يمكرون به، فالله ينصره عليهم ويكفيه أذاهم، فقد جرت سنته بأن العاقبة للمتقين، والخذلان للعاصين الخائنين.
الإيضاح
(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) مدح الله عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء بجملة صفات من صفات الكمال:
(1) إنه وحده كان أمّة، قال ابن عباس رضى الله عنهما: إنه كان عنده عليه الصلاة(14/158)
والسلام من الخير ما كان عند أمة، فهو رئيس الموحّدين، كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر فى النجوم، ودرس الطبيعة الكونية، ليطمئن قلبه بالإسلام.
(2) إنه كان قانتا أي مطيعا لله قائما بأمره.
(3) إنه كان حنيفا أي مائلا عن الباطل، متّبعا للحق، لا يفارقه ولا يحيد عنه.
(4) إنه ما كان من المشركين فى أمر من أمور دينهم، بل كان من الموحّدين فى الصغر والكبر، فهو الذي قال للملك فى عصره «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: «لا أحبّ الآفلين» وكسر الأصنام حتى ألقوه لأجلها فى النار فكانت عليه بردا وسلاما.
وعلى الجملة فقد كان غارقا فى بحار التوحيد مستغرقا فى حب الإله المعبود، وفى ذلك ردّ على كفار قريش إذ قالوا نحن على ملة إبراهيم، وعلى اليهود الذين أشركوا وقالوا عزيز ابن الله، مع زعمهم أن إبراهيم كان على مثل ما هم عليه.
ونحو الآية قوله: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
(5) إنه كان شاكرا لأنعم الله عليه كما قال: «وإبراهيم الّذى وفّى» أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به، وفى هذا تعريض بكفار قريش الذين جحدوا بأنعم الله فأصابهم الجوع والخوف كما تقدم ذكره فى المثل السابق.
(6) إنه اجتباه ربه واختاره للنبوة كما قال: «ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين» .
(7) إنه هداه إلى صراط مستقيم، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه.
(8) إن الله حبّبه إلى جميع الخلق، فجميع أهل الأديان، مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به، وكفار قريش لا فخر لهم إلا به، وقد أجاب الله دعاءه فى قوله «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» .(14/159)
(9) إنه فى الآخرة فى زمرة الصالحين، وهو معهم فى الدرجات العلى من الجنة، إجابة لدعوته قال: «ربّ هب لى حكما وألحقنى بالصّالحين» .
وبعد أن وصف إبراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغاية فى علوّ المرتبة أخبر أنه أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم باتباعه فقال:
(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ثم أوحينا إليك أيها الرسول وقلنا لك: اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة البريئة من عبادة الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما تبرأ إبراهيم من مثلها من قبل، فأنت متبع له وسائر على طريقه، وقومك ليسوا كذلك، لأنهم يحللون ويحرمون من عند أنفسهم.
ونحو الآية قوله فى سورة الأنعام: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
وخلاصة ذلك- إنه عليه الصلاة والسلام أمر باتباع ملة إبراهيم بنفي الشرك وإثبات التوحيد، وإن كان قد ثبت ذلك بالدليل العقلي، ليظاهر الدليل النقلى الدليل العقلي.
وقوله: (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تكرير لزيادة التوكيد وتقرير لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما هم عليه من عقيدة وعمل.
ثم نعى على اليهود ما اختلفوا فيه وهو يوم السبت فقال:
(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إنما جعل وبال يوم السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، فأحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى، وكان من الحتم عليهم أن يتفقوا فيه على كلمة واحدة بعد أن أمروا بالكف عن الصيد فيه. كما أن وبال التحريم والتحليل من المشركين من عند أنفسهم واقع عليهم لا محالة.
وإن ربك ليفصل بين الفريقين فى الخصومة والاختلاف، ويجازى كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.(14/160)
وإيراد هذه العبارة بين سابق الكلام ولاحقه- إنذار للمشركين وتهديد لهم بما فى مخالفة الأنبياء من عظيم الوبال والنكال، كما ذكر مثل القرية فيما سلف، إلى أن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها سابق الكلام وأمروا بها فى لا حقه، ثم فصل سبحانه ما أمر باتباع إبراهيم فيه فقال:
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادع أيها الرسول من أرسلك إليهم ربك بالدعاء إلى شريعته التي شرعها لخلقه بوحي الله الذي يوحيه إليك، وبالعبر والمواعظ التي جعلها فى كتابه حجة عليهم، وذكرهم بها فى تنزيله كالذى عدده فى هذه السورة. وخاصمهم بالخصومة التي هى أحسن من غيرها بأن تصفح عما نالوا به عرضك من أذى، وترفّق بهم بحسن الخطاب، كما قال فى آية أخرى «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» الآية، وقال آمرا موسى وهرون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون «فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكّر أو يخشى» .
ثم توعد سبحانه ووعد فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين فى السبت وغيره، وأعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومحجة الحق، وهو مجازيهم جميعا حين ورودهم إليه بحسب ما يستحقون.
وخلاصة ذلك- اسلك فى الدعوة والمناظرة الطريق المثلى، وهى الدعوة بالتي هى أحسن، وليس عليك غيرها.
أما الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه لا إلى غيره، إذ هو أعلم بحال من لا يرعوى عن الضلال لسوء اختياره، وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء، لما ينطوى بين جنبيه من الخير، فما شرعه لك فى الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة، وهو كاف فى هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين.(14/161)
ولما أمر الله رسوله بالدعوة وبين طريقها وكانت تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يحمل أكثرهم على إيذاء الداعي إما بقتله أو بضر به أو بشتمه، كما أن الداعي يدعوه طبعه إلى تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وأخرى بالضرب، لا جرم أمر سبحانه المحقين برعاية العدل والإنصاف فى العقاب وترك الزيادة فيه فقال:
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) أي وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم فلكم فى العقاب إحدى طريقين:
(1) أن تعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة.
(2) أن تصبروا وتتجاوزوا عما صدر منه من الذنب، وتصفحوا عنه، وتحتسبوا عند الله ما نالكم به من الظلم، وتكلوا أمركم إليه، والله يتولى عقوبته، والصبر خير للصابرين من الانتقام، لأن الله ينتقم من الظالم بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه.
والخلاصة- إنكم إن رغبتم فى القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به، وإن تجاوزتم عن العقوبة وصفحتم فذلك خير وأبقى، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم ويأخذ بناصر المظلوم.
ثم أمر رسوله بالصبر صراحة بعد أن ندب إليه غيره تعريضا، لأنه أولى الناس بعزائم الأمور، لزيادة علمه بشئونه تعلى فقال:
(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي واصبر على ما أصابك منهم من أذى فى الله، ومن إعراض عن الدعوة، وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله وحسن توفيقه، ومشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تنتهى إلى عواقب حميدة.
وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلّم وتهوين لمشاقّ الصبر عليه وتشريف له بما لا مزيد عليه.
(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي ولا تحزن على إعراض المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به.(14/162)
(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل بنسبتك إلى السحر والكهانة والشعر احتيالا وخديعة لمن أراد الإيمان بك، وصدّا عن سبيل الله.
وقصارى ذلك- إنه نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغهم وحي الله وتنزيله كما قال: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ» وقال: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .
فالله كافيك أذاهم، وناصرك عليهم، ومؤيدك ومظهرك عليهم، فمهما حاولوا إيصال الأذى بك، فإن الله مبعده عنك، ومحبط ما صنعوا وهم لا يشعرون.
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها خوفا من عقابه، والذين يحسنون رعاية فرائضه، والقيام بحقوقه، ولزوم طاعته فيما أمرهم به، وفى ترك ما نهاهم عنه.
ونحو الآية قوله لموسى وهرون: «لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» وقول النبي صلى الله عليه وسلّم للصدّيق وهما فى الغار فيما حكى الله عنه: «لا تحزن إنّ الله معنا» .
وقصارى ذلك- إن الله تعالى ولىّ الذين تبتّلوا إليه، وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم، فلم يحزنوا لفوت مطلوب، ولم يفرحوا لنيل محبوب، والذين هم محسنون أعمالهم برعاية فرائضه وأداء حقوقه على النحو اللائق بجلاله وكماله، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان
فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
والله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا للفقه فى دينه، ويفتح لنا خزائن أسراره، بحرمة كتابه، وكنوز شريعته التي أنزلها على رسوله النبي الأمى، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين:(14/163)
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الآداب والأحكام
(1) استعجال المشركين للساعة.
(2) ذكر الأدلة على التوحيد بخلق العالم العلوي والسفلى وخلق الإنسان.
(3) الامتنان على عباده بخلق الأنعام وما فيها من المنافع من أكل وحمل أثقال إلى البلاد البعيدة.
(4) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان.
(5) إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما آتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون.
(6) احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم، فلا فائدة فى إرسالهم، وقد ردّ الله عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار لا خلق الهداية والإيمان.
(7) إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت، ومن الناس من استجاب لدعوتهم ومنهم من حقت عليه الضلالة.
(8) إنكار المشركين للبعث والنشور وحلفهم على ذلك، وتكذيب الله لهم فيما يقولون.
(9) إنكارهم بعث محمد صلى الله عليه وسلّم بأنه رجل لا ملك، فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعا كانوا رجالا لا ملائكة.
(10) إنذار المشركين بعذاب الخسف.
(11) جعلهم الملائكة بنات مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى.
(12) رحمة الله بعباده وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم، وأنه لو آخذهم ما ترك على ظهر الأرض دابة.
(13) ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب والعسل من النحل.(14/164)
(14) تفاضل الناس فى الأعمار والأرزاق.
(15) ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون الله.
(16) الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر وتسخير الطير فى جو السماء وجعل البيوت سكنا، وجعله لنا سرابيل تقى الحر وسرابيل تقى بأس العدو.
(17) جعل الأنبياء شهداء على أممهم وعدم الإذن للكافرين فى الكلام وعدم قبول معذرتهم.
(18) الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، والأمر بالوفاء بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك.
(19) الأمر بالاستعاذة من الشيطان وبيان أن سلطانه على المشركين.
(20) تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن فى شريعة من قبله من الأنبياء وادعاؤهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومى ورد الله عليهم ذلك.
(21) إنه لا ضير على من كفر بالله وقلبه مطمئن بالإيمان دون من شرح بالكفر صدرا.
(22) دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة وجزاء كل نفس بما عملت.
(23) ذكر ما حرمه الله من المطاعم والنهى عن تقوّلهم على الله بغير علم.
(24) ذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم.
(25) مدح إبراهيم عليه السلام ووصفه بصفات لم يوصف بها نبى غيره، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلّم باتباعه وسلوك طريقته فى العقاب والصبر على الأذى.
وقد انتهى تصنيف. هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة عصر يوم الأربعاء الثلاثين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من هجرة سيد ولد عدنان.(14/165)
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 6 صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين يهلك آخرها بالبخل والأمل.
7 اتهامهم الرسول بالجنون.
9 الله نزل كتابه وتكفل بحفظه.
10 ما أرسل رسول إلا استهزأ به قومه.
12 أراد الشياطين أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب فأحرقتهم الشهب المشتعلة 14 الأدلة الكونية على وحدانية الله.
17 إرسال الرياح لواقح لم يعرف إلا حديثا.
22 حجاج إبليس عن امتناعه عن السجود، وفيه ضروب من الجهالة.
23 تهديده سبحانه لإبليس.
25 ما أعد للمتقين من جنات النعيم.
27 ضيف إبراهيم.
33 بشارة إبراهيم بإسحاق.
37 مقالة لوط لقومه.
38 أرسل الله على قوم لوط ثلاثة ألوان من العذاب.
39 ضروب الفراسة.
45 نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن تمنى زينة الحياة الدنيا.
47 أمره صلى الله عليه وسلّم بالجهر بالدعوة.
48 المستهزءون بالرسول والقرآن.(14/166)
الصفحة المبحث 55 دلالة المصنوع على الصانع.
56 فوائد الأنعام.
61 لله نعم فى البحر كما له نعم فى البر.
63 فوائد النجوم.
66 فى عبادة الأصنام ضروب من الحماقة.
69 ذكر شبهات من أنكروا النبوات.
71 من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبا.
77 المشركون ليسوا ببدع فى الأمم 80 الرسول مبلغ وليس بمسيطر.
88 قالوا هب الله أرسل رسولا فلن يكون بشرا.
90 آثار قدرته سبحانه.
93 العوام يفعلون اليوم ما تقشعر منه الأبدان.
96 قالت خزاعة: الملائكة بنات الله.
97 وأد البنات خوف الفقر والعار.
103 كيف يتكون اللبن فى الضرع.
104 معيشة النحل فى الخلايا.
106 ما أثبته الطب الحديث من الفوائد للعسل.
108 الأعمار والأرزاق.
113 ضرب الأمثال وفوائده.
121 منن الله على عباده.
125 الرسل شهداء على أممهم.
126 الأصنام تتبرأ من عبدتها يوم القيامة.(14/167)
الصفحة المبحث 130 الهداية والضلال على مقدار استعداد النفوس للصلاح والغواية.
131 ليس من خلق حسن إلا أمر به الله.
132 الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
133 الوفاء بالعهد.
134 ناقضة الغزل من بعد قوة.
138 المؤمن يحيا حياة طيبة تصحبها القناعة.
143 قالوا ما جاء به محمد هو من تعليم البشر.
145 من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
147 أول من أظهر الإسلام.
149 من هاجر وتاب من بعد ما فتن 150 مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة.
153 ما حرم من المآكل.
158 ما مدح به إبراهيم من صفات الكمال.
160 أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم.
162 شرع الدين إحدى طريقين فى العقاب.
164 مجمل ما حوته سورة النحل من الحكم والآداب.(14/168)
الجزء الخامس عشر
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الاسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الخامس عشر(15/1)
الجزء الخامس عشر
سورة الاسراء- سورة بنى إسرائيل
هى مكية كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وقال مقاتل إلا ثمانى آيات من قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلى آخر هنّ.
وآيها عشر ومائة.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم «عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزّمر»
وأخرج البخاري وابن مردويه «عن ابن مسعود أنه قال فى هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى» .
ووجه مناسبتها لسورة النحل وذكرها بعدها أمور:
(1) إنه سبحانه ذكر فى سورة النحل اختلاف اليهود فى السبت، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم فى التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: «إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من سورة بنى إسرائيل» .
(2) إنه لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بالصبر ونهاه عن الحزن وضيق الصدر من مكرهم فى السورة السالفة- ذكر هنا شرفه وعلو منزلته عند ربه.
(3) إنه ذكر فى السورة السالفة نعما كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم، ذكر هنا أيضا نعما خاصة وعامة.(15/3)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
(4)
ذكر هناك أن النحل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس- وهنا ذكر: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.
(5) إنه فى تلك أمر بإيتاء ذى القربى، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المسكين وابن السبيل.
[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
تفسير المفردات
سبحان الله: أي تنزيها له من كل ما لا يليق بجلاله وكماله، والإسراء كالسرى:
السير بالليل خاصة، والمسجد الحرام: مسجد مكة، والمسجد الأقصى: بيت المقدس وهو أقصى وأبعد بالنظر إلى من بالحجاز.
الإيضاح
(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي تنزيها للذى أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلّم، فى جزء من الليل من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ورجع فى ليلته، وتبرئة له مما يقوله المشركون من أن له من خلقه شريكا وأن له صاحبة وولدا.
(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي الذي جعلنا حوله البركة لسكانه فى معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم.(15/4)
(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي كى نرى عبدنا محمدا من عبرنا وأدلتنا، ما فيه البرهان الساطع والدليل القاطع، على وحدانيتنا وعظم قدرتنا.
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة فى سرى محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس، البصير بما يفعلون، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، ولا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، فهو محيط به علما، ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، وسيجزيهم بما هم له أهل.
تحقيق ما قيل فى الإسراء والمعراج
اعلم أن هاهنا أمرين:
(1) إسراء النبي صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وهذا هو الذي ذكر فى هذه السورة.
(2) العروج به والصعود إلى السماء الدنيا ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام بعد وصوله إلى بيت المقدس، ولم يذكر ذلك هنا، وسيأتى بيانه فى سورة النجم ونفصل فيه القول تفصيلا إن شاء الله.
آراء العلماء فى الاسراء
وهاهنا أمور- مكان الإسراء- زمانه- هل كان الإسراء بالروح والجسد أو بالروح فحسب؟:
(1) يرى جمع من العلماء أن الإسراء كان من المسجد الحرام- وقيل أسرى به من دار أم هانىء بنت أبى طالب.
(2) أما زمانه فقد كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وعن أنس والحسن البصري أنه كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم.(15/5)
(3)
أكثر العلماء على أن الإسراء كان بالروح والبدن يقظة لا مناما، ولهم على ذلك أدلة:
(ا) إن التسبيح والتعجب فى قوله: سبحان الذي أسرى بعبده- إنما يكون فى الأمور العظام- ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظما.
(ب) إنه لو كان مناما ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كانوا قد أسلموا، ولما قالت أم هانىء لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولما فضّل أبو بكر بالتصديق،
وجاء فى الحديث عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى، فسألتنى عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها (لم أعرفها حق المعرفة) فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لى أنظر إليه، فما سألونى عن شىء إلا أنبأتهم به» الحديث.
(ج) إن قوله (بعبده) يدل على مجموع الروح والجسد.
(د) إن ابن عباس قال فى قوله «وما جعلنا الرّؤيا الّتى أريناك إلّا فتنة للنّاس» هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به، ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا فى المشاهدة الحسية ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا:
وكبّر للرؤيا وهشّ فواده ... وبشّر قلبا كان جمّا بلابله
(هـ) إن الحركة بهذه السرعة ممكنة فى نفسها، فقد جاء فى القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة فى الأوقات القليلة، فقد قال تعالى فى صفة سير سليمان عليه السلام. «غدوّها شهر ورواحها شهر» وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام فى مقدار لمح البصر كما قال تعالى: «قال الّذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك» وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى جميعهم.(15/6)
ويرى آخرون أن الإسراء كان بالروح فحسب، ولهم على ذلك حجج:
(ا) إن معاوية بن أبى سفيان كان إذا سئل عن سرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: كان رؤيا من الله صادقة- وقد ضعّف هذا بأن معاوية يومئذ كان من المشركين فلا يقبل خبره في مثل هذا.
(ب) إن بعض آل أبى بكر قال: كانت عائشة تقول ما فقد جسد ورسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن أسرى بروحه، ونقدوا هذا بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة ولم تكن زوجا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
(ج) إن الحسن قال فى قوله (وما جعلنا الرؤيا) الآية إنها رؤيا منام رآها (والرؤيا تختص بالنوم) .
قال أبو جعفر الطبري: الصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن فى ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم ولا عند أحد من ذوى الفطرة الصحيحة من بنى آدم أن يرى الرائي منهم فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل- وبعد فإن الله إنما أخبر فى كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره- إلى أن الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد اه.(15/7)
والخلاصة- إن الذي عليه المعوّل عند جمهرة المسلمين أنه أسرى به عليه السلام يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله يصلى فى قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم ركب البراق وعاد إلى مكة بغلس.
المامة فى المعراج
يرى بعض العلماء أن عروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى السموات السبع كان بجسده وروحه يقظة لا مناما لدليلين:
(ا) آية الإسراء إذ صرح فيها بأنه أسرى بعبده، والعبد مجموع الروح والجسد، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بهما.
(ب) الحديث المروي فى الكتب الصحاح كالبخارى ومسلم وغيرهما، وهو يدل على أن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات العلى ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.
وأنكره آخرون وأثبتوا أن المعراج كان بالروح فحسب لوجوه:
(1) إن الحركة البالغة فى السرعة إلى هذا الحد غير معقوله.
(2) إنه لو صح ذلك لكان أعظم المعجزات وكان يجب أن يظهر حين اجتماع الناس حتى يستدلّ به على صدقه فى ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك فى وقت لا يراه فيه أحد، ولا يشاهده فيه مشاهد، فإن ذلك عبث لا يليق بحكمة الحكيم.
(3) إن الصعود بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة مستحيل، لأن الهواء معدوم، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم الحي أو يتنفس فيه.
(4) إن حديث المعراج اشتمل على أشياء فى غاية البعد:
(ا) شق بطنه وتطهيره بماء زمزم، والذي يغسل بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك فى تطهير القلب من العقائد الزائفة، والأخلاق المذمومة.(15/8)
(ب) ركوب البراق ولا حاجة له بذلك لأن العالم العلوي فى غنى عن ذلك.
(ج) إنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ولم يزل محمد صلى الله عليه وسلّم يتردد بين الله وموسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه السلام- وهذا غير جائز كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني لأنه يقتضى نسخ الحكم قبل العمل به، وهذا بداء محال على الله.
(د) لم يقل أحد من المسلمين بأن الأنبياء أحياء بأجسادهم فى العالم العلوي، وإنما الحياة هناك حياة روحية لا جسمانية، والتخاطب والكلام معهم والصلاة بهم من الأمور الروحية لا الجسمية، إذ لا يعقل غير هذا- وبهذا يثبت المعراج الرّوحى لا الجسماني.
ويمكن أن يجيب الأولون عن الاستبعادات العقلية بأن هذه معجزة، والله تعالى قادر على خرق سننه بسنة أخرى، ككل معجزات الأنبياء، من انقلاب العصا حية ثم عودتها فى مدة قصيرة عصا صغيرة كما كانت.
ويبقى أمر الحديث، واشتماله على أمور غريبة، لا حاجة إليها فى تصديق النبوة، والمحاورة فى فرض الصلوات وانتقالها من خمسين إلى خمس مما يستدعى رد الحديث وعدم النظر إليه لاضطراب متنه كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإن صححه رواة الحديث باعتبار سنده.
عظة وذكرى
إنا لنقف قليلا لدى هذين الحادثين الجليلين لنستخلص منهما أمورا هى الغاية فى العظة والاعتبار:
(1) إن هاتين الرحلتين الرحلة الأرضية (الإسراء) والرجلة السماوية (المعراج) حدثتا فى ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة، ليمحّص الله المؤمنين، ويبين منهم صادق الإيمان ومن في قلبه منهم مرض، فيكون الأول خليقا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار(15/9)
الهجرة والانضواء تحت لوائه، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام، وتكاليف شاقة، من حروب دينية، وقيام بدعوة عظيمة تستتبع همة قعساء، وإنشاء دولة تبتلع المعمور فى ذلك الحين شرقا وغربا.
(2) إن الله أطلع رسوله على ما فى هذا الكون أرضيّه وسماويّه من العظمة والجلال، ليكون ذلك درسا عمليا لتعليم رسوله بالمشاهدة والنظر، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التعليم، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة، أو يجلس إلى معلم، أو يسح فى أرجاء المعمورة، أو يصعد بالآلات العلمية إلى السماء- فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهما إلا بضرب من التخيل والتوهم، فأنّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنا الكثير من العلم ولم نؤت إلا قليله «وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا» .
(3) إن ما يجدّ كل يوم من ضروب المخترعات، والتوسل بها إلى طى المسافات، بوسائل الطيارات، وقطع المحيطات فى قليل الساعات، من قارة إلى قارة، ومن قطر إلى قطر، ليجعلنا نعتقد أن ما جاء فى وصف هاتين الرحلتين من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة.
(4) إن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم، فما يخيّل إلينا من العوائق العملية، من صعوبة الوصول إلى الملأ الأعلى، لتخلخل الهواء، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء، فهو إنما يكون بالنظر إلى الأجرام والأجساد المشاهدة فى عالم الحس، وإن لروحانية الأنبياء والملائكة أحكاما لم يصل العقل البشرى إلى تحديدها وإبداء الرأى فيها، وإنها لفوق مستوى إدراكه، فأجدر بنا ألا نطيل البحث فيها ولا التعمق فى استقصاء آثارها.
(5) إن ما جاء فى الحديث من أن الرسول صلى الله عليه وسلّم صلى إماما بالأنبياء فى عالم السموات ليرشد إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلّم جاء بشريعة ختمت الشرائع(15/10)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
السالفة كلها، وأئمتها ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه، وصاروا مؤتمين به.
(6) إن فى هذا مغزى جديرا بطويل التأمل والتفكير، وهو أن جميع الأنبياء كانوا فى وفاق ووثام فى الملكوت الأعلى بالقرب من ربهم الذي أرسلهم- أفلا يجدر بمتبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة، والقانون الذي جاءت، به هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس، كما هو المتبع فى القوانين الوضعية، فإن الذي يجب العمل به هو القانون الأخير، وهو يلغى جميع ما سبقه.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 8]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)(15/11)
تفسير المفردات
الكتاب: هو التوراة، وكيلا: أي كفيلا تكلون إليه أموركم، شكورا أي كثير الشكر، وقضينا: أي أعلمنا بالوحى، لتعلن: أي لتستكبرنّ عن طاعة الله، والوعد أي الموعد به وهو العقاب، والبؤس والبأس والبأساء: الشدة والمكروه كما قال الراغب إلا أن البؤس كثر استعماله فى الفقر والحرب، والبأس والبأساء فى النكاية بالعدو، جاسوا خلال الديار: توسطوها وترددوا بينها، والكرة: الدّولة والغلبة وأصل الكر العطف والرجوع، والنفير والنافر: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، والتتبير: الهلاك وهى كلمة نبطية كما روى عن سعيد بن جبير وكل شىء كسرته وفتته فقد تبرته، ما علوا: أي ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم، والحصير: السجن كما قال ابن عباس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية الأولى أنه أكرم عبده ورسوله بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس- أردف ذلك ذكر ما أكرم به موسى قبله من إعطائه التوراة وجعلها هدى لبنى إسرائيل، ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والهدى، ثم قفّى على ذلك ببيان أنهم ما عملوا بهديها، بل أفسدوا فى الأرض فسلط الله عليهم البابليين أثخنوا فيهم وقصدوهم بالقتل والنهب والسلب.
ولما تابوا أزال عنهم هذه المحنة، وأعاد لهم الدّولة، وأمدهم بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا، ثم عادوا إلى عصيانهم وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط الله عليهم من أدال دولتهم مرة أخرى، فأعمل فيهم السيف، وسلب ونهب، وجاس خلال ديارهم، فدخل بيت المقدس كرة أخرى بالقهر والغلبة والإذلال، وأهلك ما أهلك مما قد جمعوه وكنزوه، ثم أوعدهم على عصيانهم بالعقاب فى الآخرة بنار جهنم، وبئس السجن هى لمن عصى الله وخالف أوامر دينه.(15/12)
الإيضاح
(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي وأعطينا موسى التوراة وجعلنا فيها هداية لبنى إسرائيل، وقلنا لهم: لا تتخذوا من دونى وليا ولا نصيرا تكلون إليه أموركم، وهذه مقالة أوحى الله بها إلى كل نبى أرسله، أمرهم جميعا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وألا يعوّلوا فى أمر إلا عليه.
وقد جاءت هذه الآية عقب ذكر آية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلّم من قبل أن موسى أوتى التوراة بمسيره إلى الطور، كما أسرى بمحمد إلى بيت المقدس.
ثم نبّه إلى عظيم شرف بنى إسرائيل، وإتمام نعمته عليهم، ليكون فى ذلك تهييج لهم، وبيان لعظيم المنة عليهم فقال:
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي يا سلالة ذلك النبي الكريم الذي شمله الله بجميل رعايته، وأنجاه من غرق الطوفان، بما ألهمه من عمل السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أنتم من حفدة أبنائه، فتشبهوا بأبيكم، واقتدوا به، فإنه كان عبدا شكورا أي مبالغا فى الشكر، بصرفه كل ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، فاللسان لذكر الله، والعقل للفكر فيما خلق الله، والبصر للتأمل فيما صنع الله، وهكذا بقية الحواس وأعضاء الجسم.
أخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا كان إذا أمسى وأصبح قال سبحان (اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) .
وأخرج ابن جرير والبيهقي والحاكم عن سلمان الفارسي قال: «كان نوح إذا لبس ثوبا أو أطعم طعاما حمد الله تعالى فسمّى عبدا شكورا» .
وفى هذا إيماء إلى أن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره، وفيه حث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك الذي هو أفظع مراتب الكفر.(15/13)
ثم بين سبحانه أنه أنعم على بنى إسرائيل بالتوراة، وجعلها هدى لهم لكنهم لم يهتدوا بها فقال:
(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي وأوحينا إلى بنى إسرائيل فيما أنزلناه فى التوراة على موسى فأعلمهم به:
لتعصنّ الله ولتخالفنّ أمره مرتين: أولا هما تغيير التوراة وقتل شعيا عليه السلام وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله. والثانية قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام ولتستكبرنّ عن طاعة الله، ولتبغنّ على الناس، ولتظلمنهم ظلما شديدا، تفرطون فيه، وتبلغون أقصى الغاية.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود أرسلنا عليكم لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادا لنا أولى بطش شديد فى الحروب، هم سنحاريب ملك بابل وجنوده، أوغلوا فى البلاد، وترددوا بين الدور والمساكن، للقتل والسلب والنهب، وقتلوا علماءكم وكبراءكم، وأحرقوا التوراة وخرّبوا بيت المقدس، وسبوا منكم عددا كثيرا، وكان ذلك وعدا نافذا لا مردّ له.
(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي ثم رجعت لكم الدّولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا، حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلوّ، فغزوتم البابليين واستنقذتم الأسرى والأموال، ورجع الملك إليكم، وكثرت أموالكم بعد أن نهبت، وأولادكم بعد أن سبيت، وصرتم أكثر عددا، وأعظم قوة مما كنتم من قبل، وذلك بفضل طاعته تعالى والإخبات إليه ومن ثم قال:
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي إن أحسنتم فأطعتم الله ولزمتم أمره وتركتم نهيه- أحسنتم لأنفسكم، لأنكم تنفعونها بذلك فى دنياها وآخرتها أما فى الدنيا فإن الله يدفع عنكم أذى من أرادكم بسوء، ويرد كيده فى نحره، وينمّى(15/14)
لكم أموالكم، ويزيدكم قوة إلى قوتكم، وأما فى الآخرة فإن الله يثيبكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويرضى عنكم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) .
وإن عصيتم ربكم وفعلتم ما نهاكم عنه فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطونه، فيسلط عليكم فى الدنيا أعداءكم، ويمكّن منكم من يبغى بكم السوء، ويلحق بكم فى الآخرة العذاب المهين.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي فإذا جاء وقت حلول العقاب على المرة الآخرة من مرّتى إفسادكم فى الأرض، بعثنا أعداءكم، ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية فى وجوهكم (فإن الأعراض النفسية تظهر فى الوجوه فالفرح يظهر فيها النضارة والإشراق، والحزن والخوف يظهر فيها الغبرة والقترة) وليدخلوا المسجد قاهرين فاتحين مذلّين لكم كما دخلوه أول مرة، وليهلكوا ما ادخر تموه وخزنتموه تتبيرا شديدا، فلا يبقون منه شيئا.
قال البيضاوي: سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ويسمى بيردوس أو خردوس اه.
والذي أثبته اليهود فى تواريخهم أن الذي أغار عليهم أولا وخرّب بيت المقدس هو بختنصّر وكان ذلك فى زمن إرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام، فحبسوه فى بئر وجرحوه- وأن الذي أغار عليهم ثانيا هو أسبيانوس قيصر الروم، وكان بين الإغارتين نحو من خمسمائة سنة.
وعلى الجملة فمعرفة من بعث إليهم بأعيانهم وتواريخ البعوث مما لا يتعلق به غرض كبير، لأن المراد أنه كلما كثرت معاصيهم سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.
وظاهر الآية يدل على اتحاد المبعوثين أولا وثانيا.
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد البعث الثاني إن تبتم وازدجرتم عن المعاصي، وقد حقق الله لهم وعده، فكثر عددهم وأعزهم بعد الذلة وجعل منهم الملوك والأنبياء.(15/15)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي وإن عدتم لمعصيتى وخلاف أمرى وقتل رسلى- عدنا عليكم بالقتل والسّباء وإحلال الذل والصغار بكم، وقد عادوا فعاد الله عليهم بعقابه، فقد كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلّم وهمّوا بقتله فسلطه الله عليهم، فقتل قريظة وأجلى بنى النضير وضرب الجزية على الباقين، فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون، ولا ملك لهم ولا سلطان.
(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) قال الحسن: الحصير هو الذي يبسط ويفرش والعرب تسمى البساط الصغير حصيرا، أي إنه تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا كما قال: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» وقال ابن عباس وغيره:
جعلناها سجنا محيطا بهم حابسا لهم، لا رجاء لهم فى الخلاص منه.
وخلاصة ذلك- إن لهم فى الدنيا ما تقدم وصفه من العذاب، وفى الآخرة ما يكون محيطا بهم من عذاب جهنم فلا يتخلصون منه أبدا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 11]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به من اصطفاه من النبيين والمرسلين، فأكرم محمدا صلى الله عليه وسلّم بالإسراء، وأكرم موسى بالتوراة، وجعلها هدى لبنى إسرائيل، ثم بين أنهم لم يعملوا بها فحلّ بهم عذاب الدنيا والآخرة- قفّى على ذلك بالثناء على القرآن الكريم وبيان أنه يهدى للصراط المستقيم، ويبشر الصالحين بالأجر والثواب(15/16)
العظيم، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، ثم أردف ذلك بذكر طبيعة الإنسان وأنه حلق عجولا، قد يدعو على نفسه بالشر أي بالموت والهلاك، والدمار واللعنة كما يدعو لنفسه بالخير.
الإيضاح
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مدح الله سبحانه كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلّم ووصفه بصفات ثلاث:
(1) إنه يرشد من اهتدى به للسبيل التي هى أقوم السبل، وهى ذلك الدين القيم والملة الحنيفية السمحاء، التي أهم دعائمها الإخبات لله والإنابة إليه واعتقاد أنه واحد لا شريك له، وأنه صاحب الملك والملكوت، وهو الحي الذي لا يموت، وهو الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
(2) إنه يبشر المؤمنين بالله ورسوله الذين يعملون صالح الأعمال فيأتمرون بما أمر به، وينتهون عما نهاهم عنه، بالأجر العظيم يوم القيامة كفاء ما قدّموا لأنفسهم من عمل صالح.
(3) إنه ينذر الذين لا يصدّقون بالمعاد، ولا يقرون بالثواب والعقاب فى الدنيا، فلا يتحاشون ركوب المعاصي- بالعذاب الأليم الموجع جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من.
الكفر واجتراح الآثام، ويدخل فى هؤلاء أهل الكتاب، لأن بعضهم ينكر الثواب والعقاب الجسمانيين، وبعضهم يقول: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، وإطلاق البشارة على العقاب من قبيل التهكم كما فى قوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
وبعد أن بين حال الهادي وهو الكتاب الكريم بين حال المهدىّ وهو لإنسان فقال:(15/17)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر حين الغضب فيقول: اللهم العنّى اللهم أهلكنى، كدعائه ربه بالخير أي بأن يهب له العافية ويرزقه السلامة، ولو استجيب له فى دعائه بذاك كما يستجاب له فى هذا لهلك، ولكن الله بفضله ومنته لا يستجيب دعاءه كما قال «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ»
وفى الحديث «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» .
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئنّ بالليل، فقالت له مالك تئن فشكا ألم القدّ (سير من جلد غير مدبوغ تربط به يدا الأسير ورقبته) فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلّم دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام «اللهم اقطع يدها» فرفعت سودة يدها يتوقع أن يقطع الله يدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «إنى سألت الله أن يجعل دعائى على من لا يستحق عذابا من أهلى رحمة، لأنى بشر أغضب كما تغضبون، فلتردّ سودة يدها» .
وقد يكون المعنى فى الآية- إن الإنسان قد يبالغ فى الدعاء طلبا لشىء يعتقد أن فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وشره لجهله بحاله، وإنما يقدم على ذلك العمل لكونه عجولا مغترّا بظواهر الأمور، غير متفحص لحقائقها وأسرارها، ومن ثم قال:
(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره.
وفى الآية إيماء إلى أن القرآن يدعو للتى هى أقوم، ويأبون إلا التي هى ألوم.
[سورة الإسراء (17) : آية 12]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)(15/18)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الهداية والإرشاد بالقرآن الكريم- قفّى على ذلك بالاستدلال بالآيات والدلائل التي فى الآفاق، وهى برهان نير لا ريب فيه، وطريق بيّن لا يضلّ من ينتحيه.
الإيضاح
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي وجعلنا الليل والنهار دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أما فى الدين فلأن كلا منهما مضادّ للآخر ومخالف له، مع تعاقبهما على الدوام، وهذا من أقوى الأدلة على أنه لا بد لهما من فاعل مدبر يقدّرهما بمقادير مخصوصة، وأما فى الدنيا فلأن مصالحه لا تتم إلا بهما، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف فى وجوه المعاش.
(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي فمحونا آية هى الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلمة لا يستبين فيه شىء، كما لا يستبين ما فى اللوح الممحوّ، روى ذلك عن مجاهد.
(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي وجعلنا الآية التي هى النهار مضيئة ومبصرة أي يبصر أهلها فيها.
(لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي فعلنا ذلك، لتطلبوا لأنفسكم فيه رزقا من ربكم، إذ لا يتسنى ذلك فى الليل، وفى التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء، مع ذكر صفة الربوبية الدالة على الوصول إلى ذلك شيئا فشيئا- دلالة على أنه ليس للمرء فى تحصيل الرزق سوى الطلب بالأسباب العادية،
وفى الخبر «يطلبك رزقك، كما يطلبك أجلك»
وقيل:
ولقد علمت وما الإشراف من خلقى ... أن الذي هو رزقى سوف يأتينى
أسعى إليه فيعيينى تطلّبه ... ولو قعدت أتانى لا يعنّينى(15/19)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي ولتعلموا بمحو آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة، عدد السنين التي تتوقف عليها مصالحكم الدينية والدنيوية، ولتعلموا الحساب أي حساب الأشهر والليالى والأيام وغير ذلك مما نيط به شىء من تلك المصالح، إذ لو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف شىء من هذا كما قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» ولا شك أن فى ذكر منافعهما، وبيان ما فيهما من الدلالة على وجود الخالق تفصيلا لتلك الفوائد، لا جرم قال:
(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) أي وكل شىء لكم إليه حاجة فى مصالح دينكم ودنياكم قد فصلناه تفصيلا بينا، ونحو الآية قوله «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» وقوله «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 21]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)(15/20)
تفسير المفردات
طائره: أي عمله، سمى به إما لأنه طار إليه من عشّ الغيب، وإما لأنه سبب الخير والشر كما قالوا: طائر الله لا طائرك، أي قدر الله الغالب الذي يأتى بالخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطير ويسمونه زجرا، فإن مرّبهم من اليسار إلى اليمين تيمنوا به وسمّوه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه وسموه بارحا، كتابا: هو صحيفة عمله، منشورا: أي غير مطوى، حسيبا:
أي حاسبا أي عادّا له يعد عليه أعماله، والوزر: الإثم والذنب، يقال منه وزر يزر فهو وازر وهى وازرة، أي نفس وازرة، والمترفون: هم المنعّمون من الملوك والعظماء، أمرنا مترفيها، أي أمرناهم بالطاعة، ففسقوا: أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، فحق عليها القول: أي وجب لها العذاب، والتدمير: الإهلاك مع طمس الأثر، والقرن: القوم يجمعهم زمان واحد، وقد حدد بأر بعين سنة، وبثمانين، وبمائة، والعاجلة: الدار(15/21)
الدنيا، يصلاها: أي يقاسى حرها، مدحورا: أي مطرودا مبعدا من رحمة الله، محظورا:
أي ممنوعا عمن يريده.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف حال كتابه الذي يحوى النافع والضار من الأعمال، مما يكون به سعادة الإنسان وشقاؤه فى دينه ودنياه- قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلا أحصاها، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما فى الكتاب الأول أو تركه لذلك، فمن أخذ به اهتدى ومنفعة ذلك عائدة إليه، ومن أعرض عنه ضل وغوى، ووبال ذلك راجع عليه ثم أكد عنايته بعباده، وأنه لا يعاقب أحدا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلغون رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة، وأعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب المرء واختياره، وأن هذا واقع بتقدير الله وعلمه، وإذا وقعت المعصية حلت العقوبة بعذاب الاستئصال، كما فعل بكثير من الأمم التي من بعد نوح كعاد وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثم قسم العباد قسمين قسم يحب الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وهؤلاء وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه، إذ ليس عطاؤه بممنوع عن أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعض فى أرزاق الدنيا، ومراتب التفاوت فى الآخرة أكثر من درجات التفاوت فى الدنيا وأبعد مدى.
الإيضاح
(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي وألزمنا كل امرئ عمله الذي يصدر منه باختياره بحسب ما قدر له من خير أو شر،(15/22)
لا ينفك عنه بحال والعرب تضرب المثل للشىء الذي يلزم بالشيء الذي يوضع فى العنق، فيقولون جعلت هذا فى عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، وخصوا العنق لأنه يظهر عليه ما يزين المرء كالقلائد والأطواق، أو ما يشينه كالأغلال والأوهاق (الحبال تجرّ بها الدواب) .
وخلاصة هذا- إن كل إنسان منكم معشر بنى آدم ألزمناه نحسه وسعده، وشقاءه وسعادته، بما سبق فى علمنا أنه صائر إليه، ونحن نخرج له حين الحساب كتابا يراه منشورا وفيه أعماله التي كسبها فى الدنيا، وقد أحصى عليه ربه فيه كل ما أسلف فى تلك الحياة.
أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: قال الله يا بن آدم بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك فجعلت فى عنقك معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، قد عدل والله من جعلك حسيب نفسك.
(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي ونخرج له يوم القيامة حين البعث والحساب كتابا يلقاه منشورا، فيقال له اقرأ كتاب عملك الذي عملته فى الدنيا وكان الملكان يكتبانه ويحصيانه عليك، وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا تحسب عليك أعمالك فتحصيها، لا نبتغى عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب محصيا سواها.
وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للتى هى أقوم وأن الأعمال لازمة لأصحابها بين أن منفعة العمل ومضرته راجعة إلى عامله فقال:
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي من استقام على طريق الحق واتبعه، واتبع الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلّم، فنفسه قد نفع، ومن حاد عن قصد السبيل وسار على غير هدى وكفر بالله ورسوله وبما جاء به من(15/23)
عند ربه من الحق فلا يضرنّ إلا نفسه، لأنه جعلها مستحقة لغضب الله وأليم عذابه ثم زاد الجملة الثانية توكيدا بقوله:
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تأثم نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.
وفى هذا قطع لأطماعهم الفارغة، إذ كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى الوليد ابن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعلىّ أوزاركم.
ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله: «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» فإن الدعاة إلى الضّلال عليهم إثم ضلالتهم فى أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك ولا يرفع عنهم منها شيئا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده.
ثم ذكر عنايته ورحمته بهم فقال:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أي وما كنا مهلكى قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم، وبمعنى الآية قوله تعالى «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» وقوله:
«أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» إلى نحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.(15/24)
وخلاصة ذلك- إن سنتنا المبنية على الحكم العالية ألا نعذب أحدا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروى على فعل شىء أو تركه إلا إذا أرسلنا رسولا يهدى إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع وتبلغه دعوته.
قال الإمام الغزالي: الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة:
(ا) من لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا، وأولئك مقطوع لهم بالجنة.
(ب) من بلغتهم دعوته وظهور المعجزات على يديه، وما كان عليه صلى الله عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهر أنينا، وأولئك مقطوع لهم بالنار.
(ح) من بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلّم وسمعوا به ولكن كما يسمع أحدنا بالدجالين وحاشا قدره الشريف عن ذلك، وهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم فى الإيمان به اه.
يريد الغزالي بهذا أنهم سمعوا عنه أخبارا مكذوبة، وعن دينه أخبارا لا تنطبق على حقيقته، كما يفعل رجال الكنائس فى تشويه أخبار الرسول بأنه مزواج مطلاق، وأنه كان متهالكا فى حب النساء، وأن دينه دين وثنية، لأنه كان يسجد للكعبة، وأنه خالف جميع الأنبياء واتجه إليها ولم يتجه لبيت المقدس، وأن القرآن كثير المتناقضات كثير التكرار للقصص وفيه كذب، إلى نحو أولئك مما يقولون وهم لا يقولون إلا ترّهات وأباطيل.
ثم بين كيف يقع العذاب بعد بعثة الرسل فقال:
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)
أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال لما ظهر منها من المعاصي ودنست به أنفسها من الآثام- لم نعاجلها بالعقوبة، بل نأمر مترفيها بالطاعة فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاء وفاقا لاجتراحهم(15/25)
السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش، فدمرنا تلك القرية تدميرا ولم نبق منها ديّارا ولا نافخ نار.
وخص المترفين بالذكر لما جرت به العادة أن من سواهم يكون تبعا لهم، وأن العامة والدهماء يقلدونهم فيما يفعلون، ولأنهم أسرع إلى الفجور وأقدر على الوصول إلى سبله.
وقد يكون المراد من الأمر- أن الله يفيض عليهم نعمه التي تبطرهم وتجعلهم يقعون فى المعاصي، فكأنه تعالى يأمرهم بها، إذ مهد لهم الأسباب الموصلة إليها.
وحكى بعض أئمة اللغة أن المراد (بأمرنا) أكثرنا واستدل بما أخرجه أحمد والطبراني من
قوله صلى الله عليه وسلّم «خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة»
أي مهرة كثر نسلها وطريق مصطفة من النخل مأبورة (كثر فيها اللقاح) لتثمر الثمر الجنى.
ثم ذكر أن كثيرا من الأمم قد حق عليها العذاب بذنوبها فقال:
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي وقد أهلكنا أمما كثيرة قبلكم من بعد نوح حتى زمانكم حين جحدوا آيات الله وكذبوا رسله وكانوا على مثل ما أنتم عليه من الشرور والآثام، ولستم بأكرم على الله منهم، فاحذروا أن يحل بكم من العقاب مثل ما حل بهم وينزل بكم سخطه مثل ما نزل بهم.
وفى هذا من الوعيد لمكذبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مشركى قريش وتهديدهم بشديد العقاب إن لم ينتهوا عما هم عليه من تكذيب رسوله- ما لا يخفى.
(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي وحسبك أيها الرسول بالله خبيرا بذنوب خلقه، فلا يخفى عليه شىء من أفعال مشركى قومك ولا أفعال غيرهم، بل هو عليم بجميع أعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون.
ثم قسم سبحانه عباده قسمين محب للعاجلة ومحب لأعمال الآخرة:
(1) (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ(15/26)
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً)
أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى وإياها يبتغى، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا من ربه على ما يعمل، يعجل الله له فى الدنيا ما يشاء من بسط الرزق وسعة العيش ثم يصليه حين مقدمه عليه فى الآخرة جهنم مذموما على قلة شكره وسوء صنيعه فيما سلف، مبعدا من رحمته مطرودا من إنعامه.
وقد اشتمل هذا العقاب على أمور ثلاثة:
(ا) الدوام والخلود وإلى ذلك الإشارة بقوله: ثم جعلنا له جهنم يصلاها أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه.
(ب) الإهانة والاحتقار وإلى ذلك أشار بقوله مذموما.
(ح) البعد والطرد من رحمة الله دائما فلا يتخلل ذلك راحة ولا يعقبه خلاص وإلى هذا أشار بقوله: مدحورا، وفى قوله: لمن نريد، إشارة إلى أن الفوز بالدنيا لا يحصل لكل من يريدها، فكثير من الكفار الضلال يعرضون عن الدين فى طلب الدنيا ثم هم يبقون محرومين من الدين والدنيا.
وفى هذا تهديد وزجر عظيم لهؤلاء الكفار، فإنهم قد يتركون الدين لطلب الدنيا، وربما فاتتهم أيضا.
(2) (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي ومن أراد الآخرة ولها عمل وإياها طلب، فأطاع الله وطلب ما يرضيه، وهو مصدق بثوابه وعظيم جزائه على سعيه لها- شكر الله له جزيل سعيه وآتاه حسن المثوبة كفاء ما قدم من صالح العمل، وتجاوز عن سيئاته، وأدخله فراديس جناته.
وقد اشترط لهذا الجزاء أمورا ثلاثة:
(ا) أن يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، فإن لم تحصل هذه النية لم ينتفع بذلك العمل كما قال: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى»
وجاء فى الحديث:(15/27)
«إنما الأعمال بالنيات» -
إلى أن استنارة القلب بمعرفة الله ومحبته لا تحصل إلا إذا نوى العامل بعمله طاعة ربه والإخبات والخشوع له.
(ب) أن يعمل العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة، ولا يكون ذلك إلا إذا كان من القرب والطاعات، لا من الأعمال الباطلة كعبادة الأوثان والكواكب والملائكة.
(ح) أن يكون ذلك وهو مؤمن، فإن أعمال البر لا توجب الثواب إلا إذا وجد الإيمان.
ثم بين سبحانه أن عطاءه ورزقه الدنيوي لا يحظر على كل من الفريقين فقال:
(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي إن كلا من الفريقين مريدى العاجلة ومريدى الآجلة الساعي لها سعيها وهو مؤمن يمده ربه بعطائه ويوسع عليه الرزق ويكثر الأولاد وغيرهما من زينة الدنيا، فإن عطاءه ليس بالممنوع من أحد من خلقه مؤمنا كان أو كافرا، فكلهم مخلوق فى دار العمل، فوجب إزالة العذر ورفع العلة وإيصال متاع الدنيا إليهم على القدر الذي يقتضيه صلاحهم، ثم تختلف أحوال الفريقين، ففريق العاجلة إلى جهنم وبئس المهاد، وفريق الآجلة إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم عقبى الدار.
ثم وضح مامر من الإمداد وعدم محظورية العطاء على أحد فقال:
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي انظر إلى عطائنا للفريقين فى الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض، فأوصلنا رزقنا إلى مؤمن وقبضناه عن آخر، وأوصلناه إلى كافر ومنعناه من كافر آخر، ولهذا حكم وأسباب بيّنها سبحانه بقوله: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» وقوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .(15/28)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي ولتفاوتهم فى الدار الآخرة وتفاضلهم فيها أكبر من تفاضلهم فى الدار الدنيا، فإن منهم من يكون فى الدركات السفلى فى جهنم مصفّدا بالسلاسل والأغلال، ومنهم من يكون فى الدرجات العليا فى نعيم وحبور، وكل فريق يتفاوتون فيما بينهم
ففى الصحيحين «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر فى السماء»
وفيهما: «إن الله تعالى أعدّ لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وروى ابن عبد البر عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضى الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (وكان أحد الأشراف فى الجاهلية) وأبو سفيان ابن حرب ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم، فقال أبو سفيان ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم إنى والله قد أرى الذي فى وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا (يعنى إلى الإسلام) فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت فى الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم فى الجنة أكبر.
وعن بعضهم أنه قال: أيها المباهي بالرفع منك فى مجالس الدنيا، أما ترغب فى المباهاة بالرفع فى مجالس الآخرة، وهى أكبر وأفضل؟
[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 39]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)(15/29)
تفسير المفردات
فتقعد: أي فتصير، مذموما: أي ممن يستحق الذم من الملائكة والمؤمنين، مخذولا: أي من الله لأنك أشركت معه مالا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وقضى: أي حكم وأمر، وأفّ: اسم صوت ينبىء عن التضجر والتألم ويقولون لا تقل لفلان أف أي لا تتعرّض له بنوع من الأذى والمكروه، والنهر: الزجر بغلظة، كريما: أي جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شىء يشرف فى جنسه يقال إنه كريم. وخفض الجناح يراد به التواضع والتذلل، من الرحمة: أي من فرط رحمتك عليهما، والأوّاب:
الذي ديدنه الرجوع إلى الله والالتجاء إليه حين الشدة، والتبذير إنفاق: المال فى غير موضعه، وإخوان الشياطين: أي قرناؤهم، والابتغاء: الطلب، والرحمة الرزق، والميسور: السهل اللين، والمغلولة: المقيدة بالغلّ وهو القيد يوضع فى اليدين والعنق، وتبسطها: أي تتوسع فى الإنفاق، والمحسور: المنقطع عن السير إعياء وكلالا، ويقدر:
أي يقتر، والإملاق: الفقر قال:
وإنى على الإملاق ياقوم ماجد ... أعدّ لأضيافى الشّواء المضهّبا
والخطء: كالإثم لفظا ومعنى، والفاحشة: الفعلة الظاهرة القبح، والسلطان:
التسلط والاستيلاء، فلا يسرف: أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه، التي هى أحسن:
أي الطريق التي هى أحسن، والعهد: ما تعاهدون عليه غيركم من العباد لتوثيقه وتوكيده، والقسطاس: (بكسر القاف وضمها) الميزان، والمستقيم: العدل، والتأويل:
ما يئول إليه الشيء وهو عاقبته، ولا تقف من قفوت أثر فلان: أي اتبعته، والمرح:
الفخر والكبر، لن تخرق الأرض: أي لن تجعل فيها طرقا بدوسك وشدة وطأتك، والحكمة: معرفة الحق سبحانه ومعرفة الخير للعمل به، والمدحور: المبعد من رحمة الله(15/31)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته أن الناس فريقان فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة وأن يكونوا مؤمنين- لا جرم فصل الله فى هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم، ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنهما السبب الظاهر فى وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوى القربى حقوقهم، ثم بالأمر بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل، لأن فى إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفى على ذلك بالنهى عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء وعدم ارتباكه فى معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففى صلاحهم صلاحها، ثم علمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبين أن الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثم تلا هذا بالنهى عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب، وفقدان النسل أو قلته، ووقوع الشغب والقتال بين الناس دفاعا عن العرض ثم بالنهى عن القتل لهذا السبب عينه، ثم بالنهى عن إتلاف مال اليتيم، ثم بالأمر بالوفاء بالعهد وهو العقد الذي يعمل لتوكيد الأمر وتثبيته، ثم بإيفاء الكيل والميزان، لما فى حسن التعامل بين الناس من توافر المودة والمحبة بينهم، وهذا ما يرمى إليه الدين، لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع، ثم بالنهى عن تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، فلا تتّبع ما كان يعمله الآباء اقتداء بهم من عبادة الأصنام تقليدا لهم، ولا تشهد على شىء لم تره، ولا تكذب، فتقول فى شىء لم تسمعه إنك قد سمعته،(15/32)
ولا فى شىء لم تره، إنك قد رأيته، ثم بالنهى عن مشية الخيلاء والمرح لما فيهما من الصّلف الذي لا يرضاه الله ولا الناس، ثم ختم ذلك ببيان أن تلك الأوامر والنواهي هى من وحي الله وتبليغه، لا من عند نفسه، أمر بها ونهى عنها، لأنها أسس سعادة الدارين، وعليها تبنى العلاقات بين الأفراد والأمم على نظم صحيحة لا تكون عرضة للاضطراب وفقدان الثقة فى معاملاتهم.
الإيضاح
(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) أي لا تجعل أيها الإنسان مع الله شريكا فى ألوهيته وعبادته، ولكن أخلص له العبادة وأفرد له الألوهة، فإنه لا ربّ غيره، ولا معبود سواه، وإنك إن تجعل معه إلها غيره، وتعبد معه سواه، تصر ملوما على ما ضيعت من شكر الذي أنعم عليك بنعمه، وشكر من لم يولك نعمة، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يكلك إلى من عبدته معه، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
وبعد أن ذكر الركن الأعظم فى الإيمان أتبعه بذكر شعائره وهى الأمور الآتية فقال:
(1) (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وأمر ربك ألا تعبدوا غيره، إذ العبادة نهاية التعظيم، ولا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده، ولا منعم إلا هو.
(2) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبرّوهما، ليكون الله معكم «إنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون» .
وقد أمر سبحانه بالإحسان إليهما للأسباب الآتية:
(ا) شفقتهما على الولد، وبذل الجهد فى إيصال الخير إليه، وإبعاد الضر عنه، جهد المستطاع، فوجب مقابلة ذلك بالإحسان إليهما والشكر لهما.(15/33)
(ب) إن الولد قطعة من الوالدين كما
جاء فى الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «فاطمة بضعة منى» .
(ج) إنهما أنعما عليه، وهو فى غاية الضعف، ونهاية العجز، فوجب أن يقابل ذلك بالشكر حين كبرهما، كما قال الشاعر العربي يعدّد نعمه على ولده وقد عقّه فى كبره:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعلّ بما أجنى عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأنى أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دونى فعينىّ تهمل
تخاف الردى نفسى عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائى غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضّل
فليتك إذ لم ترع حق أبوّتى ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
والخلاصة- إنه لا نعمة تصل إلى الإنسان أكثر من نعمة الخالق عليه، ثم نعمة الوالدين، ومن ثم بدأ بشكر نعمته أوّلا بقوله: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ، ثم أردفها بشكر نعمة الوالدين بقوله: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .
ثم فصل ما يجب من الإحسان إليهما بقوله:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي إذا وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز وصارا عندك فى آخر العمر كما كنت عندهما فى أوله- وجب عليك أن تشفق عليهما، وتحنو لهما.
تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما الأمور الخمسة الآتية:(15/34)
(ا) ألا تتأفف من شىء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب الأجر عليه، كما صبرا عليك فى صغرك.
(ب) ألا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به، وفى هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، وفيما قبله منع من إظهار الضجر القليل أو الكثير.
(ج) أن تقول لهما قولا حسنا، وكلاما طيبا مقرونا بالاحترام والتعظيم، مما يقتضيه حسن الأدب، وترشد إليه المروءة، كأن تقول يا أبتاه ويا أماه، ولا تدعوهما بأسمائهما، ولا ترفع صوتك أمامهما، ولا تحدّق فيهما بنظرك.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبى الهدّاج قال: قلت لسعيد بن المسيّب:
كل ما ذكر الله تعالى فى القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيّب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ (د) أن تتواضع لهما وتتذلل، وتطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن معصية لله، رحمة منك بهما وشفقة عليهما، إذ هما قد احتاجا إلى من كان أفقر الخلق إليهما، وذلك منتهى ما يكون من الضراعة والمسكنة، ولله در الخفاجي إذ يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتى ... ما حال من يسأل من سائله
ماذلة السلطان إلا إذا ... أصبح محتاجا إلى عامله
وقوله: من الرحمة، أي أن يكون ذلك التذلل رحمة بهما، لا من أجل امتثال الأمر وخوف العار فقط، فتذكّر نفسك بما تقدّم لهما من الإحسان إليك، وبما أمرت به من الشفقة والحدب عليهما.
وقد مثل حاله معهما بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه لتربيته، فإنه يخفض له جناحه، فكأنه قال للولد: اكفل والديك، بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك حال صغرك.(15/35)
(هـ) أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك فى صغرك وجميل شفقتهما عليك.
وعلى الجملة فقد بالغ سبحانه فى التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاهما أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما فى سلك القضاء بهما معا.
وقد ورد فى بر الوالدين أحاديث كثيرة منها:
(1)
إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنه فى الجهاد معه فقال أحيّ والدك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد» .
(2) مارواه مسلم وغيره: «لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه» (3) ما
روى عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أىّ العمل أحب إلى الله ورسوله؟ قال الصلاة على وقتها، قلت ثم أىّ؟ قال بر الوالدين قلت ثم أىّ؟ قال الجهاد فى سبيل الله» .
وبر الأم مقدم على بر الأب، لما
روى الشيخان «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل من أحق الناس بحسن صحابتى؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟
قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك» .
ولا يختص برهما بحال الحياة، بل يكون بعد الموت أيضا،
فقد روى ابن ماجه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل: هل بقي من بر أبويّ شىء أبرّهما به بعد موتهما؟
قال نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» .
والخلاصة- إنه سبحانه بالغ فى التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ منها جلود أهل العقوق، وتقف عندها شعورهم، من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعهما بالإحسان إليهما ثم ضيّق الأمر فى مراعاتهما حتى لم يرخّص فى أدنى كلمة تنفلت من المتضجر، مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد الإنسان يصبر معها، وأن(15/36)
يذلّ ويخضع لهما، ثم ختمها بالدعاء لهما والترحم عليهما، وهذه الخمسة الأشياء جعلها سبحانه من رحمته بهما، مقرونة بوحدانيته، وعدم الشرك به.
ولما كان بر الوالدين عسيرا حذّر من التهاون فيه فقال:
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) أي ربكم أيها الناس أعلم منكم بما فى نفوسكم، من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم والبر بهم، ومن الاستخفاف بحقوقهم والعقوق بهم، وهو مجازيكم على حسن ذلك وسيئه، فاحذروا أن تضمروا لهم سوءا، وتعقدوا لهم فى نفوسكم عقوقا، فإن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم ربكم فيما أمركم من البر بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم أو زلة فى واجب لهم عليكم، فإنه تعالى يغفر لكم ما فرط منكم، فهو غفار لمن يتوب من ذنبه، ويرجع من معصيته إلى طاعته، ويعمل بما يحبه ويرضاه.
وفى هذا وعد لمن أضمر البر بهم، ووعيد لمن تهاون بحقوقهم، وعمل على عقوقهم.
وبعد أن أمر بالبر بالوالدين أمر بالبر بأصناف ثلاثة أخرى فقال:
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي وأعط أيها المكلّف القريب منك حقه، من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن العشرة، وإن كان محتاجا إلى النفقة فأنفق عليه ما يسد حاجته. والمسكين ذا الحاجة. وابن السبيل وهو المسافر لغرض دينى، فيجب إعانته ومساعدته على سفره حتى يصل إلى مقصده.
ولما رغب سبحانه فى البذل بيّن الطريق التي تتبع فى ذلك فقال:
(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي ولا تفرّق أيها الإنسان ما أعطاك الله من مال فى معصيته تفريقا، بإعطائه من لا يستحقه.
ونحو الآية قوله «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» .
قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه(15/37)
إلى أبى قبيس (جبل بمكة) وقال لو أن رجلا أنفق مثل هذا فى طاعة الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحدا فى معصية الله كان من المسرفين.
وأنفق بعضهم نفقة فى خير وأكثر فقيل له: لا خير فى السرف، فقال: لا سرف فى الخير.
وعن عبد الله بن عمر قال: «مر رسول الله بسعد وهو يتوضأ، فقال ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو فى الوضوء سرف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار» .
وروى أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنى ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرنى كيف أنفق، وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تخرج الزكاة من مالك إن كان، فإنها طهرة تطهّرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال: يا رسول الله أقلل لى، قال «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا» فقال حسبى يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم إذا أديتها إلى رسولى فقد برئت منها ولك أجرها، وإثمها على من بدّ لها» .
وعن على كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك فى غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.
ثم نبه سبحانه إلى قبح التبذير بإضافته إلى الشياطين فقال:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) تقول العرب لكل من لازم سنة قوم واتبع أثرهم هو أخوهم، أي إن المفرّقين أموالهم فى معاصى الله المنفقيها فى غير طاعته قرناء الشياطين فى الدنيا والآخرة كما قال «ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين» وقال: «احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم» أي قرناءهم من الشياطين.
(وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعم بها عليه(15/38)
جحودا لا يشكره عليها، بل يكفرها بترك طاعته، ور كوبه معصيته، وهكذا إخوانه المبذرون أموالهم فى معاصى الله، لا يشكرون الله على نعمه عليهم، بل يخالفون أمره، ولا يستنون سنته، ويتركون الشكران عليها ويتلقونها بالكفران.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله، لأنه موافق للشيطان فى الصفة والفعل اه.
وفى ذكر وصف الشيطان بالكفران دون ذكر سائر أوصافه، بيان لأن المبذر لما صرف نعم الله عليه فى غير موضعها فقد كفر بها ولم يشكرها، كما أن الشيطان كفر بهذه النعم.
وقد كان من عادة العرب أن يجمعوا أموالهم من السلب والنهب والغارة ثم ينفقونها فى التفاخر وحب الشهرة. وكان المشركون من قريش ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه، فجاءت الآية تبين قبح أعمالهم.
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) أي وإن أعرضت عن ذوى القربى والمسكين وابن السبيل وأنت تستحى أن تردّ عليهم، انتظار فرج من الله ترجو أن يأتيك، ورزق يفيض عليك، فقل لهم قولا لينا جميلا، وعدهم وعدا تطيب به قلوبهم، قال الحسن: أمر أن يقول لهم: نعم وكرامة، وليس عندنا اليوم شىء، فإن يأتنا نعرف حقكم.
وفى هذا تأديب من الله لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبم يردّون؟. ولقد أحسن من قال:
إلا يكن ورق يوما أجود به ... للسائلين فإنى ليّن العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقى ... إما نوال وإما حسن مردود
ثم بين سبحانه الطريق المثلى فى إنفاق المال فقال:
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(15/39)
أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطى أحدا شيئا، ولا تسرف فى الإنفاق فتعطى فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فإنك إن بخلت كنت ملوما مذموما عند الناس كما قال زهير:
ومن يك ذا مال فيبخل بماله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومذموما عند الله لحرمان الفقير والمسكين من فضل مالك، وقد أوجب الله عليك سد حاجتهما، بإعطاء زكاة أموالك.
وإن أسرفت فى أموالك فسرعان ما تفقدها، فتصبح معسرا بعد الغنى، ذليلا بعد العزة، محتاجا إلى معونة غيرك بعد أن كنت معينا له، وحينئذ تقع فى الحسرة التي تقطع نياط قلبك، ويبلغ منك الأسى كل مبلغ، ولكن أنّى يفيد ذلك؟ وقد فات ما فات، فلا ينفع الندم، ولا تجدى العظة والنصيحة.
وخلاصة ذلك- اقتصد فى عيشك، وتوسط فى الإنفاق، ولا تكن بخيلا ولا مسرفا.
روى أحمد وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة»
وروى عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» .
وقيل: حسن التدبير مع العفاف، خير من الغنى مع الإسراف.
وإجمال المعنى- لا تجعل يدك فى انقباضها كالمغلولة الممنوعة عن الانبساط، ولا تتوسّع فى الإنفاق فتصير نادما مغموما وعاجزا عن الإنفاق لا شىء عندك، فتكون كالدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا وإعياء.
ثم سلّى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي إن ربك أيها الرسول يبسط الرزق لمن يشاء ويوسع عليه، ويقتر على من يشاء ويضيق عليه، بحسب السنن(15/40)
التي وضعها لعباده فى كسب المال، وحسن تصرفهم فى جمعه، بالوسائل والنظم التي وضعها فى الكون.
(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي إن ربك ذو خبرة بعباده، فيعلم من الذي تصلحه السعة فى الرزق، ومن الذي تفسده؟ ومن الذي بصلحه الإقتار والضيق؟
ومن الذي يفسده؟ وهو البصير بتدبيرهم وسياستهم، فعليك أن تعمل بما أمرك به أو نهاك عنه، من بسط يدك فيما تبسط فيه وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه، فهو أعلم بمصالح العباد منك ومن جميع الخلق، وأبصرهم بتدبير شؤونهم.
وقصارى ذلك- إنكم إذا علمتم أن شأنه تعالى البسط والقبض، وأنعمتم فى النظر فى ذلك، وجدتم أن من سننه تعالى الاقتصاد، فاقتصدوا واستنّوا بسنته.
وبعد أن بين أنه تعالى الكفيل بالأرزاق وهو الذي يبسط ويقدر، نهاهم عن قتل الأولاد خشية الفقر فقال:
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي ولا تئدوا بناتكم خوف الفقر، فنحن نرزقهم لا أنتم، فلا تخافوا الفقر لعلكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم.
وقد كان العرب فى جاهليتهم يقتلون البنات، لعجزهن عن الكسب، وقدرة البنين عليه، بالغارات والسلب والنهب، ولأن فقرهن ينفّر الأكفاء عن الرغبة فيهن، فيحتاجون إلى تزويجهنّ لغير الأكفاء، وفى ذلك عار أيّما عار عليهم.
والخلاصة- إن الأرزاق بيد الله، فكما يفتح خزائنه للبنين يفتحها للبنات، فليس لكم سبب يدعو إلى قتلهن، ومن ثم قال:
(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي إن قتلهم كان إثما فظيعا لما فيه من انقطاع النسل وزوال هذا النوع من الوجود. وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: «قلت يا رسول الله أىّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو الذي خلقك، قلت ثم أىّ؟
قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزانى بحليلة جارك» -(15/41)
والخلاصة- إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو من سوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى فى تخريب العالم، والأول انتهاك لحرمة أوامر الله، والثاني ضد الشفقة على خلق الله، وكلاهما مذموم غاية الذم.
ولما كان فى قتل الأولاد حظ من البخل، وفى الزنا داع من دواعى الإسراف أتبعه به فقال:
(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) نهى الله عباده عن القرب من الزنا بمباشرة أسبابه ودواعيه، فضلا عن مباشرته هو، للمبالغة فى النهى عنه وبيان شدة قبحه، ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) أي إنه كان فعلة ظاهرة القبح مشتملة على مفاسد كثيرة أهمها:
(1) اختلاط الأنساب واشتباهها، وإذا اشتبه المرء فى الولد الذي أتت به الزانية، أمنه هو أم من غيره، لا يقوم بتربيته، ولا يستمر فى تعهده، وذلك مما يوجب إضاعة النسل وخراب العالم.
(2) فتح باب الهرج والمرج والاضطراب بين الناس دفاعا عن العرض، فكم سمعنا بحوادث قتل كان مبعثها الإقدام على الزنا، حتى إنه ليقال عند السماع بحادث قتل: (فتش عن المرأة) .
(3) إن المرأة إذا عرفت بالزنا وشهرت به استقذرها كل ذى طبع سليم، فلا تحدث ألفة بينها وبين زوجها، ولا يتم السكن والازدواج الذي جعله الله مودة ورحمة بين الناس بقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .
(4) إنه ليس المقصد من المرأة مجرد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل فى ترتيب المنزل وإعداد مهامه من مطعوم ومشروب وملبوس، وأن تكون حافظة له، قائمة بشؤون الأولاد والخدم، وهذه المهامّ لا تتم على وجه الكمال إلا إذا كانت مختصة يرجل واحد، منقطعة له دون غيره من الناس.(15/42)
وإجمال ذلك- إن الزنا فاحشة وأي فاحشة، لما فيه من اختلاط الأنساب والتقاتل والتناحر دفاعا عن العرض، وإنه سبيل سيء من قبل أنه يسوّى بين الإنسان والحيوان، فى عدم اختصاص الذكران بالإناث.
وبعد أن نهى عن قتل الأولاد للسبب المتقدم نهى عن القتل مطلقا فقال:
(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الإسلام قتلها إلا قتلا متلبسا بالحق، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدا كما جاء فى الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود:
«لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث:
النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» .
والسبب فى هذا التحريم وجوه:
(1) إنه إفساد فوجب حرمته لقوله «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» .
(2) إنه ضرر، والأصل فى المضارّة الحرمة لقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»
وقوله صلى الله عليه وسلّم «لا ضرر ولا ضرار» .
(3) إنه إذا أبيح القتل زال هذا النوع من الوجود ففتك القوى بالضعيف، وحدث الاضطراب فى المجتمع، فلا يستقيم للناس حال ولا ينتظم لهم معاش (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي ومن قتل مظلوما بغير حق يوجب قتله فقد جعلنا لمن يلى أمره من وارث أو سلطان عند عدم الوارث تسلطا واستيلاء على القاتل، بمؤاخذته بأحد أمرين: إما القصاص منه، وإما الدية لقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى» الآية
ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» .
(فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا بإزاء واحد، كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، إذ كانوا يقتلون القاتل ويقتلون معه غيره إذ كان رجلا شريفا، وأحيانا لا يرضون بقتل القاتل بل يقتلون بدله رجلا شريفا(15/43)
وفى الآية إيماء إلى أن الأولى للولى ألا يقدم على استيفاء القتل، وأن يكتفى بالدية أو يعفو.
(إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي إن الله نصر الولي بأن أوجب له القصاص أو الدية، وأمر الحكام أن يعينوه على استيفاء حقه، فلا يبغى ماوراءه ولا يطمع فى الزيادة على ذلك.
وقد يكون المعنى: إن المقتول ظلما منصور فى الدنيا بإيجاب القود له على قاتله، وفى الآخرة بتكفير خطاياه، وإيجاب النار لقاتله، وهذه الآية أول ما نزل من القرآن فى شأن القتل، لأنها مكية.
وبعد أن نهى عن إتلاف الأنفس نهى عن إتلاف الأموال، لأن المال أخو الروح، وأحق الناس بالنهى عن إتلاف ماله هو اليتيم لضعفه وكمال عجزه ولذلك قال:
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تتصرفوا فى مال اليتيم إلا بالطريق التي هى أحسن الطرق، وهى طريق حفظه وتثميره بما يزيد به، حتى تستحكم قوة عقله وشبابه، وإذ ذاك يمكنه القيام على ماله بما فيه المصلحة.
ولما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانوا لا يخالطون اليتامى فى طعام ولا غيره، فأنزل الله تعالى: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» فكانت لهم فيها رخصة.
ونظير الآية قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» .
وبعد أن نهى عن الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر فقال:
(1) (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي وأوفوا بما عاهدتم الله عليه من التزام ما كلفكم به، وما عاهدتم الناس عليه من العقود التي تتعاملون بها فى البيوع والإجارة ونحوها، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، ويدخل فى ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم وبعض.
والوفاء به القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضى.(15/44)
(إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) أي إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، فيقال للناكث له على سبيل التبكيت والتوبيخ لم نكثت عهدك؟ وهلا وفيت به، كما يقال لوائد الموءودة: بأى ذنب قتلت؟ وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: «أأنت قلت للنّاس اتّخذونى وأمّى إلهين؟» والمخاطبة لعيسى والإنكار على غيره.
(2) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي وأتموا الكيل للناس ولا تخسروهم إذا كلتم لهم حقوقهم قبلكم، فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا بالكيل (3) (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان العدل دون شىء من الجور أو الحيف، لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، ومن ثم بالع.
الشارع فى المنع من التطفيف والنقصان، سعيا فى إبقاء الأموال لأربابها.
ثم بين عاقبة هذه الأوامر وحسن مآلها فقال:
(ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيفاؤكم بالعهد، وإيفاؤكم من تكيلون له، ووزنكم بالعدل لمن توفون له، خير لكم فى الدنيا من نكثكم وبخسكم فى الكيل والوزن، لأن ذلك مما يرغّب الناس فى معاملتكم، وحب الثناء عليكم.
(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي وأجمل عاقبة، لما يترتب على ذلك من الثواب فى الآخرة، والخلاص من العقاب الأليم وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة والبعد عن الخيانة، أقبلت عليهم الدنيا، وحصل لهم الثروة والغنى، وكان ذلك سبب سعادتهم فيها.
وبعد أن ذكر سبحانه أوامر ثلاثة نهى عن مثلها فقال:
(1) (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي ولا تتّبع أيها المرء ما لا علم لك به من قول أو فعل، وذلك دستور شامل لكثير من شؤون الحياة، ومن ثم قال المفسرون فيه أقوالا كثيرة:
(ا) قال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك(15/45)
(ب) قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم.
(ج) وقيل المراد النهى عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم كما قال:
«اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»
وفى الحديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»
وفى سنن أبى داود «بئس مطية الرجل زعموا»
إلا ما قام الدليل على جواز العمل به إن لم يوجد دليل من كتاب أو سنة كما
رخص النبي صلى الله عليه وسلّم فى ذلك لمعاذ حين بعثه قاضيا فى اليمن إذ قال له «بم تقضى، قال:
بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى» .
(د) وقيل المراد نهى المشركين عن اعتقاداتهم تقليدا لأسلافهم واتباعا للهوى كما قال: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ،، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» .
ثم ذكر سبحانه تعليلا لذلك النهى فقال:
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) أي إن الله سائل هذه الأعضاء عما فعل صاحبها كما قال «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»
وفى الخبر عن شكل بن حميد قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت يا نبى الله علّمنى تعويذا أتعوذ به، فأخذ بيدي ثم قال: قل أعوذ بك من شر سمعى، وشر بصري، وشر قلبى، وشر منيىّ» (يريد الزنا) .
(2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش متبخترا متمايلا كمشى الجبارين، فتحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها بدوسك وشدة وطئك لها، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محوط بنوعين من الجماد أنت أضعف منهما، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر، ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ... فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت فى عز وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هم منك أمنع(15/46)
وخلاصة ذلك- تواضع ولا تتكبر، فإنك مخلوق ضعيف محصور بين حجارة وتراب، فلا تفعل فعل القوى المقتدر. ولا يخفى ما فى الآية من التقريع والتهكم والزجر لمن اعتاد ذلك.
ثم علل هذا النهى بقوله:
(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) أي لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك، ولن تبلغ الجبال التي هى بعض أجزاء الأرض فى الطول حتى يمكنك أن تتكبر عليها، فالتكبر إنما يكون بالقوة وعظم الجثة وكلاهما غير موجود لديك، فما الحامل لك على ما أنت فيه وأنت أحقر من كل من الجمادين؟ وكيف يليق بك الكبر؟
(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أي كل الذي ذكر من الخصال أثناء الأوامر والنواهي وهى الخمس والعشرون السالفة كان سيئه وهو ما نهى عنه منها، من الجعل مع الله إلها آخر وعبادة غيره، والتأفف والتبذير، وغل اليد، وقتل الأولاد خشية الإملاق- مكروها عند ربك أي مبغوضا عنده وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية كما
قال صلى الله عليه وسلّم «ما شاء الله كان، وما لم يشألم يكن»
وهذه الإرادة لا تستدعى الرضا منه سبحانه.
وفى وصف هذه الأشياء بالكراهة مع أن أكثرها من الكبائر- إيماء إلى أن الكراهة عنده تعالى تكفى في وجوب الكف عن ذلك.
ثم بين وجوب امتثال تلك الأوامر، وترك تلك النواهي فقال:
(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الرذائل، مما أوحينا إليك من فقه الدين ومعرفة أسراره، ومن الحكم فى تشريعه.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من بنى إسرائيل ثم تلا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.(15/47)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) كرر هذا مع ما سلف، للتنبيه إلى أن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة، وهو مبدأ الأمر ومنتهاه، وقد رتب عليه أولا آثار الشرك فى الدنيا فقال: فتقعد مذموما مخذولا، ورتب عليه هنا نتيجة فى العقبى فقال: فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا: أي ملوما من جهة نفسك ومن جهة غيرك، ومبعدا من رحمة الله تعالى.
وقد علمت فيما تقدم لك أن مثل هذا الخطاب إما موجه إلى الإنسان عامة، وإما إلى الرسول خاصة والمراد أمته والكلام من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
تفسير المفردات
الإصفاء بالشيء: جعله خالصا له، وصرفنا: أي بينا، ليذكروا: أي يتدبروا ويتعظوا، والنفور: البعد من الشيء، وابتغاء الشيء: طلبه، والسبيل: الطريق، والفقه: الفهم.(15/48)
المعنى الجملي
بعد أن نبه سبحانه إلى جهل من أثبتوا له شريكا واتخذوا له ندّا ونظيرا- ففى على ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من قحتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم مع علمهم بعجزهم ونقصهم، وأعطوا الله البنات، مع علمهم بأنه الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له- ثم أتبعه ببيان أنه قد ضرب فى القرآن الأمثال ليتدبروا ويتأملوا فيها، ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، ثم أردفه ببيان أنه لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها قربة إلى الله وسبيلا إليه، ولكنها لم تفعل ذلك، وكيف تقرّبكم إليه وكل ما فى السموات والأرض يسبح بحمده، بدلالة أحواله على توحيده، وتقديسه وكمال قدرته، ولكنكم لجهلكم وغفلتكم لا تدركون دلالة تلك الدلائل.
الإيضاح
(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟) أي أفخصّكم ربكم بالذكور من الأولاد، واتخذ من الملائكة إناثا وأنتم لا ترضونهنّ لأنفسكم، بل تئدونهن وتقتلونهن، فتجعلون له ما لا ترضون لأنفسكم.
وخلاصة ذلك- إنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادّعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، فأخطئوا فى الأمور الثلاثة خطأ عظيما، ومن ثم قال:
(إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً) فتفترون على الله الكذب، وتنسبون إليه ما تستحقون عليه الإثم والعذاب، وتخرقون قضايا العقول، فتجعلون أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على جعل عالى الأرض سافلها، إناثا غاية فى الرخاوة.
ونحو الآية قوله: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(15/49)
إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» .
ولما كان هذا الكلام غاية فى الوضوح والبيان، ولا يخفى فهمه على إنسان، ثم هم بعد ذلك أعرضوا عنه نبه إلى ذلك بقوله:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي ولقد بينا فى هذا القرآن الآيات والحجج، وضربنا لهم الأمثال، وحذرناهم وأنذرناهم، ليتذكروا ويتعظوا فيقفوا على بطلان ما يقولون- فإن التكرار يقتضى الإذعان واطمئنان النفس- وهم مع ذلك لا يعتبرون ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنذر بل ما يزيدهم التذكير إلا نفورا وبعدا عن الحق وهربا منه.
ثم رد على هؤلاء الذين يشركون بربهم، ويتخذون الشفعاء والأنداد وندد عليهم وسفه أحلامهم فقال:
(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرّب إليه وتشفع لديه- لكان أولئك المعبودون يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون لديه الوسيلة، فاعبدوه وحده كما يعبد من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه.
وقد نهى عن ذلك على ألسنة رسله وأنبيائه ونزه نفسه عن ذلك فقال:
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) أي تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم من الفرية والكذب، فهو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وفى الآية إيماء إلى وجود البون الشاسع بين ذاته وصفاته سبحانه، وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد، للمنافاة التي لا غاية وراءها، بين القديم والمحدث والغنى والمحتاج.(15/50)
ثم بين سبحانه عظمة ملكه، وكبير سلطانه فقال:
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات، تنزهه وتعظمه عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية فى ربوبيته وألوهيته كما قال أبو نواس:
وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد
والمكلف العاقل يسبّح ربه إما بالقول كقوله: سبحان الله، وإما بدلالة أحواله على توحيده وتقديسه، وغير العاقل لا يسبح إلا بالطريق الثاني، فهى تدل بحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدانيته، وقدرته وتنزهه عن الحدوث، فإن الأثر يدل على مؤثره.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي وما شىء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله أي يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى، ووحدته وقدرته، وتنزهه عن لوازم الحدوث.
والخلاصة- إن كل الأكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات فى صفاتها المحدثة.
(وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي ولكن لا تفهمون أيها المشركون تلك الدلالة، لأنكم لما جعلتم مع الله آلهة، فكأنكم لم تنظروا ولم تفكروا، إذ النظر الصحيح، والتفكير الحق، يؤدى إلى غير ما أنتم فيه، فأنتم إذا لم تفقهوا التسبيح، ولم تستوضحوا الدلالة على الخالق.
(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فمن حلمه أن أمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء جهلكم بهذا التسبيح بإشراككم به سواه، وعبادتكم معه غيره، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال. «إن(15/51)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شىء، وبها يرزق كل شىء» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
تفسير المفردات
الحجاب والحجب: المنع من الوصول إلى الشيء والمراد الحاجب، والمستور: أي الساتر كما جاء عكسه من نحو «ماء دافق» : أي مدفوق، أن يفقهوه أي لئلا يفقهوه ويفهموه، والأكنة: الأغطية واحدها كنان، والوقر: الصمم والثقل فى الآذان المانع من السماع، والنفور: الانزعاج، مسحورا: أي مخبول العقل، فهو كقولهم «إن هو إلا رجل به جنة» فضلوا أي جاروا عن قصد السبيل.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا فى مقام الألوهية وجدالهم بالتي هى أحسن، بضرب الأمثال لهم، وإقامة الحجة عليهم، وإيضاح السبيل لهم- والكلام هنا فى مقام النبوة والنعي عليهم فى عدم فهمهم للقرآن والنفور منه والهزء به، وضربهم الأمثال للنبى صلى الله عليه وسلّم وقولهم فيه تارة إنه ساحر وأخرى إنه مجنون، وحينا إنه شاعر.
روى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما ما أدرى ما يقول(15/52)
محمد، غير أنى أرى شفتيه تتحركان بشىء، وقال أبو سفيان: إنى لأرى بعض ما يقول حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حو يطب بن عبد العزّى: هو شاعر فنزلت هذه الآية
الإيضاح
(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) أي وإذا قرأت أيها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث، ولا يقرون بالثواب والعقاب- جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم عن أن تفهم ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منالهم على كفرهم وتدسيتهم لأنفسهم، واجتراحهم الجرائر والمعاصي التي تظلم القلوب، وتضع عليها الأغشية، وتستر عنها فهم حقائق القرآن ومراميه، وأسراره وأحكامه وحكمه، ومواعظه وعبره.
روى أنه عليه الصلاة والسلام الصلاة كان إذا قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصىّ يصفّقون ويصفرون ويخلّطون عليه بالأشعار.
ثم بين السبب فى عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال:
(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي إنه تعالى جعل فى قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفى آذانهم ما يمنع من سماع صوته.
وخلاصة ذلك- إنا منعناهم فقهه، والوقوف على كنهه، فنبت قلوبهم عن فهمه، ومجّته أسماعهم، فهم لا متناعهم عن قبول دلائله صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب ساتر.
ونسب جعل الحجاب إلى نفسه، لأنه خلّاهم وأنفسهم، فصارت تلك التخلية كأنها السبب فى وقوعهم فى تلك الحال ألا ترى أن السيد إذا لم يراقب أحوال مولاه حتى ساءت حاله، يقول أنا الذي أوصلك إلى هذا، إذ ألقيت حبلك على غاربك، ولم أراقبك عن كثب.
ونحو الآية قوله: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» .(15/53)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أي وإذا ذكرت ربك وحده فى القرآن وأنت تتلوه، ولم تقل واللات والعزّى انفضوا من حولك وهربوا نافرين استكبارا واستعظاما لأن يذكر الله وحده.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والسخرية والتكذيب حين استماعهم، وأعلم بما يتناجون به ويتسارّون، فبعضهم يقول مجنون، وبعضهم يقول كاهن، وبعضهم يقول: ما اتبعتم إلا رجلا قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء، وهل من خير لكم فى اتباع أمثاله المجانين؟
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي تأمل وانظر أيها الرسول، كيف مثلوا لك الأمثال وشبهوا لك الأشباه، فقالوا هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا فى كل ذلك عن سواء السبيل، ولم يهتدوا لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه.
وفى هذا من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
تفسير المفردات
الرفات: ما تكسر وبلى من كل شىء، يكبر فى صدوركم: أي يستبعد قبوله للحياة، فطركم: أي ذرأكم وأوجدكم، فسينغضون إليك رءوسهم: أي سيحركونها(15/54)
استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض نغضا إذا تحرك، وأنغض رأسه: حركه كالمتعجب من الشيء، فتستجيبون: أي تجيبون الداعي.
المعنى الجملي
اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث فى الكتاب الكريم الإلهيات، والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف فى الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم فى النبوات، وفنّدها بما لا مجال للرد عليه، ولا لدحضه وتكذيبه، ثم ذكر فى هذه الآيات شكوكهم فى المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف لأيقن بصدق ما يدّعى، وألزم نفسه تصديق ما يقال.
الإيضاح
(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟) أي وقال الذين لا يؤمنون باليوم الآخر من المشركين: أئذا كنا عظاما فى قبورنا، لم نتحطم ولم نتكسر بعد مماتنا، ورفاتا متكسرة مدقوقة، أئنا لمبعوثون بعد مصيرنا فيها، وقد بلينا فتكسرت عظامنا، وتقطعت أوصالنا- خلقا جديدا كما كنا قبل الممات.
ومثل الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» وقوله: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» .
وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم، ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بلاهم خلقا جديدا، على أي حال كانوا، عظاما أو رفاتا أو حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر فى صدورهم فقال:
(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي قل كونوا حجارة(15/55)
او حديدا أو خلقا مما يستبعد عندكم قبوله للحياة كالسموات والأرض والجبال، فإن الله لا يعجزه إحياؤكم لتساوى الأجسام فى قبولها الأعراض المختلفة، فكيف إذا كنتم عظاما بالية، وقد كانت قبل حيّة، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد؟.
وخلاصة هذا- إنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله عن الإعادة والإحياء، وهذا كما يقول القائل للرجل: أتطمع فىّ وأنا فلان فيقول: كن ابن من شئت، كن ابن الخليفة، فسأطلب منك حقى.
وجملة المعنى- إن فى هذا مبالغة أيّما مبالغة فى قدرة القادر العليم على الإعادة والإحياء، كما يقال: لو كنت عين الحياة فالله يميتك، ولو كنت عين الغنى فالله يفقرك.
وبعد أن استبعدوا الإعادة استبعدوا صدورها وهى على هذه الحال حجارة أو حديدا من أىّ معيد. كما حكى عنهم سبحانه بقوله:
(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فسيقولون لك من يعيدنا ونحن على هذه الحال؟ قل لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد، وإرشادا إلى طريق الاستدلال: الذي يفعل ذلك هو القادر العظيم، الذي ذرأكم أول مرة على غير مثال يحتذى، ولا منهاج معين ينتحى، وكنتم ترابا لم يشمّ رائحة الحياة، أليس الذي يقدر على ذلك، يقدر على أن يفيض الحياة على العظام البالية، ويعيدها إلى ما كانت عليه أولا؟ بلى إنه سبحانه على كل شىء قدير.
ثم بين جلّت قدرته ما يفعلون حين سماع هذه الإجابة فقال:
(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) قال أبو الهيثم يقال لمن أخبر بشىء فحرك رأسه إنكارا له: قد أنغض، أي إنك إذا قلت لهم ذلك يحركون رءوسهم استهزاء وتكذيبا، ثم يسألون.
(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟) أي متى هذا البعث، وفى أي وقت وحال يعيدنا خلقا جديدا كما كنا أول مرة، ومقصدهم من هذا السؤال استبعاد حصوله.(15/56)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
وفى معنى الآية قوله «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وقوله:
«يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» .
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي فاحذروا ذلك، فإنه قريب منكم سيأتيكم لا محالة، وكل آت قريب، وكل ما هو محقق الحصول قريب وإن طال زمانه، ولم يخبر به أحدا من خلقه، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لكن الخبر قد جاء بقرب حدوثه كما
قال «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وأشار بالسبابة والوسطى.
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي ذلك يوم يدعوكم، فتستجيبون له من قبوركم، بقدرته ودعائه إياكم، ولله الحمد فى كل حال، وهذا كما يقول القائل فعلت هذا بحمد الله أي ولله الحمد على كل ما فعلت.
وروى عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر، وكأنى بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب، يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» .
(وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي وتظنون حين تقومون من قبوركم أنكم ما أقمتم فى دار الدنيا إلا زمنا قليلا.
ونحو الآية قوله: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقوله:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وقوله: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .
قال الحسن: المراد تقريب وقت البعث، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)(15/57)
تفسير المفردات
ينزغ: يفسد ويهيج الشر، والوكيل: هو المفوض إليه الأمر، والزبور: اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجج على إبطال الشرك، فقال: قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا، وذكر الأدلة على صحة البعث والجزاء فقال: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أمر رسوله أن يأمر عباده المؤمنين بأن يحاجوا مخالفيهم، ويجادلوهم باللين، ولا يغلظوا لهم فى القول، ولا يشتموهم ولا يسبوهم، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس، وتميل بها إلى الاقتناع، كما يعلم ذلك الذين تولوا النصح والإرشاد، من الوعاظ والساسة والزعماء فى كل أمة.
ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم: ربكم العليم بكم، إن شاء عذبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرّح بأنهم من أهل النار، فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام، فما عليه إلا البلاغ والإنذار، والله هو العليم بمن فى السموات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء، ممن يراه أهلا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء فى مراتب الفضل والكمال، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته.(15/58)
الإيضاح
(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي وقل لعبادى يقولوا فى مخاطباتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم: الكلام الأحسن للإقناع، مع البعد عن الشتم والسب والأذى.
ونظير الآية قوله «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . روى أن الآية نزلت فى عمر ابن الخطاب، ذلك أن رجلا شتمه فسبّه عمر وهمّ بقتله فكادت تثير فتنة فأنزل الله الآية.
ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي إن الشيطان يفسد بين المؤمنين والمشركين ويهيج الشر بينهم، فينتقل الحال من الكلام إلى الفعال، ويقع الشر والمخاصمة، ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ فى يده فر بما أصابه بها.
روى أحمد عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ولا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدرى لعل الشيطان ينزغ فى يده، فيقع فى حفرة من النار»
وروى أيضا عن رجل من بنى سليط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وهو فى رفلة (جماعة) من الناس فسمعته يقول «والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا ووضع يده على صدره» .
ثم بين سبب نزغ الشيطان للإنسان بقوله:
(إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي إن بين الشيطان والإنسان عداوة قديمة مستحكمة كما قال تعالى حكاية عن الشيطان «ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» وقال «كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّى برىء منك إنّى أخاف الله ربّ العالمين» .(15/59)
ثم فسر سبحانه التي هى أحسن بما علّمهم النّصفة بقوله:
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) أي ربكم أيها القوم هو العليم بكم، إن يشأ رحمتكم بتوفيقكم للايمان والعمل الصالح يرحمكم، وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان فتموتوا على شرككم.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى للمؤمنين أن يحتقروا المشركين ولا أن يقطعوا بأنهم من أهل النار ويعيّروهم بذلك، فإن العاقبة مجهولة، ولا يعلم الغيب إلا الله- إلى أن ذلك مما يجرّ إلى توليد الضغينة فى النفوس، بلا فائدة ولا داع يدعو إليها.
ثم وجه خطابه إلى أعظم الخلق ليكون من دونه أسوة له فقال:
(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي وما أرسلناك أيها الرسول حفيظا ورقيبا، تقسر الناس على ما يرضى الله، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ولا تغلظ عليهم، ومر أصحابك بذلك، فإن ذلك هو الذي يؤثّر فى القلوب، ويستهوى الأفئدة، ثم انتقل من عامه تعالى بهم إلى علمه بجميع خلقه فقال:
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبأحوالهم الظاهرة والباطنة، فيختار منهم لنبوته والفقه فى دينه من يراه أهلا لذلك، ويفضل بعضهم على بعض، لإحاطة علمه وواسع قدرته. ونحو الآية قوله «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» .
وفى هذا رد عليهم حين قالوا: يبعد كل البعد أن يكون يتيم ابن أبى طالب نبيا، وأن يكون أولئك الجوع العراة كصهيب وبلال وخبّاب وغيرهم صحابة دون الأكابر والصناديد من قريش.
وفى ذكر من في السموات ردّ لمقالهم حين قالوا «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» وفى ذكر من فى الأرض رد لمقالهم حين قالوا «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» .
(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بما لهم من الفضائل النفسية، والمزايا القدسية، وإنزال الكتب السماوية، فخصصنا كلا منهم بفضيلة ومزية، ففضلنا(15/60)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
إبراهيم باتخاذه خليلا، وموسى بالتكليم، ومحمدا بالقرآن الذي أعجز البشر والإسراء والمعراج.
ونحو الآية قوله: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» ولا خلاف فى أن أولى العزم منهم وهم الخمسة الذين ذكروا فى سورة الشورى فى قوله «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» أفضل من بقيتهم، ولا خلاف فى أن محمدا صلى الله عليه وسلّم أفضلهم، ثم إبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام.
(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي إن تفضيل داود لم يكن بالملك، بل كان بما آتاه الله من الكتاب، وأفرده بالذكر، لأنه كتب فى الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم كما قال تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» وهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)(15/61)
تفسير المفردات
الزعم: (بتثليث الزاى) القول المشكوك فى صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس: كل موضع فى كتاب الله ورد فيه (زعم) فهو كذب، لا يملكون:
أي لا يستطيعون، كشف الضر: إزالته أو تحويله عنكم إلى غيركم، يدعون: أي ينادون، الوسيلة: القرب بالطاعة والعبادة، محذورا: أي يحذره ويحترس منه كل أحد، فى الكتاب: أي فى اللوح المحفوظ، والآيات: هى ما اقترحته قريش من جعل الصفا ذهبا، ومبصرة: أي ذات بصيرة لمن يتأملها ويتفكر فيها، فظلموا بها: أي فكفروا بها وجحدوا، أحاط بالناس: أي أحاطت بهم قدرته فلا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا، والرؤيا هى ما عاينه صلى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به من العجائب، والشجرة:
هى شجرة الزقوم، والطغيان: تجاوز الحد فى الفجور والضلال.
المعنى الجملي
هذه الآيات عود على بدء فى تسفيه آراء المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا، إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويخافون عذابه، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فادعونى وحدي، لأنى أنا المالك لنفعكم وضرهم دونهم ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي(15/62)
واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان أنه ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» إلخ إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أولم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة، ثم قفى على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينضره ويؤيده، ثم أتبع ذلك بأن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما كان ذكر شجرة الزقوم فى قوله: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» ثم تلا هذا بذكر تماديهم فى العناد، وأنه كلما خوّفهم وأنذرهم ازدادوا تماديا وطغيانا، فلو أنزل عليهم الآيات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها، ومن ثم أجّل عذابهم إلى يوم الوقت المعلوم.
الإيضاح
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه حين ينزل الضر بكم من فقر ومرض ونحوهما، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم؟ إنهم لا يقدرون على دفع شىء من ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
روى أنه لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنزل الله هذه الآية.
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا، وينادونهم لكشف الضر عنهم- يطلبون مجتهدين إلى ربهم ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والقربة.
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سلوا الله لى الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله؟ ثم قرأ هذه الآية» .(15/63)
(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه يبتغى إليه الوسيلة والقرب منه، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم، والافتقار إلى ربكم، شأن أعلاهم وأدناهم، فكيف تعبدونهم؟.
(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ويرجون بفعلهم للطاعة رحمته، ويخافون بمخالفة أمره عذابه.
ثم ذكر العلة فى خوفهم من العذاب فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي إن عذابه حقيق بأن يحذره كل أحد من الملائكة والأنبياء فضلا عن سواهما.
ثم ذكر مآل الدنيا وأهلها فقال:
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) أي وما من قرية من القرى التي ظلم أهلها بالكفر والمعاصي إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء ومبيدوهم بالاستئصال قبل يوم القيامة، أو معذبوها ببلاء من قتل بالسيف أو غير ذلك من صنوف العذاب، بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال سبحانه عن الأمم الماضية:
«وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وقال: «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» وقال: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ» الآية.
(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان ذلك مثبتا فى علم الله أو فى اللوح المحفوظ.
عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فقال ما أكتب؟ قال اكتب المقدر وما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي:
وكان كفار قريش يقولون يا محمد: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من كان يحيى الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا، فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله:(15/64)
(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي إنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هى سنتنا فى الأمم السالفة، لكن هذا العذاب على هذه الأمة لا يكون، لأن الله يعلم أن فيهم من سيؤمنون أو يؤمن أولادهم، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ولم يظهر لهم تلك المعجزات.
والخلاصة- إنه ما ما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله فى عباده.
روى أحمد عن ابن عباس قال: «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحّى الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له إن شئت أن نستأنى بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم، قال بل نستأنى بهم وأنزل الله (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الآية» .
وأخرج البيهقي فى الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم «لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم فقالوا لا نريدها» .
ثم بين أن الآيات التي التمسوها هى مثل آية ثمود وقد أوتوها واضحة بينة فكفروا بها فاستحقوا العذاب، فكيف يتمنى مثلها هؤلاء على سبيل الاقتراح كما قال:
(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي وقد سألت ثمود من قبل قومك الآيات فآتيناها ما سألت، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها، فكفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات، لعلهم يعتبرون ويذّكّرون فيرجعوا.(15/65)
ذكر المؤرخون أن الكوفة رجفت (زلزلت) فى عهد ابن مسعود فقال: أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وروى أن المدينة زلزلت فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ،
وفى الحديث الصحيح «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره- ثم قال: يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» .
ثم قال سبحانه محرّضا رسوله على إبلاغ رسالته، ومخبرا له بأنه قد عصمه من الناس.
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك هو القادر على عباده، وهم فى قبضته، وتحت قهره وغلبته، فلا يقدرون على أمر إلا بقضائه وقدره، وقد عصمك من أعدائك، فلا يقدرون على إيصال الأذى إليك كما قال: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .
وخلاصة ذلك- إن الله ناصرك ومؤيدك حتى تبلّغ رسالته، وتظهر دينه.
قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه، ويؤيد هذا قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .
(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي وما جعلنا الرؤيا التي أريتها ليلة الإسراء إلا امتحانا واختبارا للناس، فأنكرها قوم وكذبوا بها، وكفر كثير ممن كان قد آمن به، وازداد المخلصون إيمانا.
روى البخاري فى التفسير عن ابن عباس إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله الله عليه وسلّم ليلة الإسراء،
وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة، والعرب تقول رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) أي وما جعلنا الشجرة الملعونة فى القرآن إلا فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا: «إنّ شجرة الزّقوم، طعام الأثيم» اختلفوا، فقوم ازدادوا(15/66)
إيمانا، وقوم ازدادوا كفرا كأبى جهل إذ قال: إن ابن أبى كبشة (يعنى النبي صلى الله الله عليه وسلّم) توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت شجرة وتعلمون أن النار نحرق الشجر، وقال عبد الله بن الزّبعرى: إن محمدا يخوّفنا بالزقوم، وما الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا منه، وجعل يأكل من هذا بهذا.
وقد فات هؤلاء أن فى الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخرى لا تؤثر فيه النار، بل هو يزداد إذا لا مسها نظافة، ومن ثم يلبسه جال المطافى فى الدول المتدينة.
وكم فى الأرض من عجائب، وكم فى العوالم الأخرى من مثلها، فالأرض مملوءة نارا، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها، وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار، والماء نفسه مادة نارية فنحو 8/ 9 منه اكسوجين وهو مادة تشتعل سريعا، والتسع أدروجين، فأرضنا نار، وماؤنا نار، وأشجارنا وأحجارنا مليئة بالنار، وهذا العالم لذى نسكنه تتخلله النار.
والخلاصة- إن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا، وفتنوا بالشجرة.
وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها، للعن الكفار الذين يأكلونها، توسعا فى الاستعمال وهو كثير فى كلام العرب.
(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا فى الطغيان والضلال، فلو أننا أنزلنا عليهم الآيات التي اقترحوها، لم يزدادوا بها إلا تمردا وعنادا واستكبارا فى الأرض وفعل بهم ما فعل بأمثالهم من الأمم الغابرة من عذاب الاستئصال، لكن قد سبقت كلمتنا بتأخير العذاب عنهم إلى حلول الطامة الكبرى.
والكلام مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلّم على ما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة، من الحزن لطعن الكفار، إذ ربما يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بمثل هذه المعجزات التي أتى بها من قبلك من الأنبياء.(15/67)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
تفسير المفردات
أرأيتك: أي أخبرنى، هذا الذي كرّمت على: أي أهذا الذي كرمته علىّ قاله احتقارا واستصغارا لشأنه، لأحتنكنّ، من قولهم حنك الدابة واحتنكها: إذا جعل فى حنكها الأسفل حبلا يقودها به، كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه، اذهب: أي امص لشأنك فقد خلّيتك وما سوّلت لك نفسك، وموفورا: أي مكملا لا يدّخر منه شىء من قولهم فر لصاحبك عرضه فرة: أي أكمله له قال:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم
ويقال أفزّه الخوف واستفزه: أي أزعجه واستخفه، بصوتك: أي بدعائك إلى معصية الله، وأجلب عليهم: أي صح عليهم من الجلبة وهى الصياح، ويقال أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول (والخيل هنا الفرسان) كما
جاء فى قوله صلى الله عليه وسلّم فى بعض غزواته لأصحابه «يا خيل الله اركبي»
والرّجل: واحده راجل كركب وراكب، والغرور: تزيين الباطل بما يظن أنه حق، والوكيل: الحافظ والرقيب(15/68)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان فى محنة من قومه إذ كذبوه وتوعدوه حين حدثهم بالإسراء وشجرة الزقوم، وأنهم نازعوه وعاندوه واقترحوا عليه الآيات حسدا على ما آتاه الله من النبوة، وكبرا عن أن ينقادوا إلى الحق- بين أن هذا ليس ببدع من قومك، فقد لاقى كثير من الأنبياء من أهل زمانهم مثل ما لاقيت ألا ترى أن آدم عليه السلام كان فى محنة شديدة من إبليس، وأن الكبر والحسد هما اللذان حملاه على الخروج من الإيمان والدخول فى الكفر والحسد بليّة قديمة، ومحنة عظيمة للخلق
الإيضاح
ذكر سبحانه قصص آدم فى سبع سور: البقرة. الأعراف. الحجر. الإسراء.
الكهف، طه. ص. وقد تقدم الكلام فيها فيما سلف من تلك السور وها نحن أولاء نفسرها فى هذه السورة.
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له، وقال أأسجد لمن خلقته من الطين، وأنا مخلوق من النار كما جاء فى الآية الأخرى: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» فكفر بنسبة ربه إلى الجور بتخيله أنه أفضل من آدم من قبل أن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هى أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم، وقد فاته أن الطين أنفع من النار ولئن سلم غير هذا فالأجسام كلها من جنس واحد، والله هو الذي أوجدها من العدم، ويفضّل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض.(15/69)
وقال أيضا لربه جرأة وكفرا، والرب يحلم وينظر:
(أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟) أي أخبرنى أهذا الذي كرّمته علىّ؟ وهل يوجد ما يدعو إلى تفضيله علىّ، وهذا كلام قاله على وجه التعجب والإنكار.
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن أنظرتنى لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهذا القليل هم الذين عناهم الله بقوله: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .
ولعل إبليس حكم هذا الحكم على ذرية آدم إما بالسماع من الملائكة حين قالوا «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك» أو بالقياس على ما رأى من آدم حين وسوس إليه، فلم يجد له عزما.
ثم ذكر سبحانه أنه أجابه إلى النّظرة، وأخره إلى يوم الوقت المعلوم.
(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي قال له سبحانه:
امض لشأنك الذي اخترته، ولما سوّلته لك نفسك، وقد أخرتك، وهذا كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد.
فمن أطاعك من ذرية آدم وضلّ عن الحق، فإن جزاءك على دعائك إياهم، وجزاءهم على اتباعهم لك وخلافهم أمرى جزاء موفور، لا ينقص لكم منه شىء، بما تستحقون من سيىء الأعمال، وما دنستم به أنفسكم من قبيح الأفعال.
ونحو الآية قوله: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» .
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي قال تعالى مهددا له: استخفّ وأزعج بدعائك إلى معصية الله ووسوستك من استطعت من ذرية آدم.
(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي واجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من تجلب بالدعاء إلى طاعتك والصرف عن طاعتى، ومثل هذا الأسلوب يراد به التشمير فى الأمر والجد فيه، والتسلط على من يغويه، وكأن فارسا مغوارا وقع(15/70)
على قوم، فصوت بهم صوتا مزعجا من أماكنهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى استأصلهم.
قال مجاهد: ما كان من راكب يقاتل فى معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل فى معصية الله فهو من رجّالة إبليس. وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة، وإنما يراد بهما الأتباع والأعوان من غير ملاحظة لكون بعضهم ما شيا وبعضهم راكبا.
(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بحثهم على كسبها من غير السبل المشروعة، وإنفاقها فى غير الطرق التي أباحها الدين، ويشمل ذلك الربا والغصب والسرقة وسائر المعاملات الفاسدة.
وقال الحسن: مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها فى حرام.
(وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضى الله.
وإجمال القول فيه- إن كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه، بإدخاله فى غير الدين الذي ارتضاه، أو بالزنا بأمه، أو بوأده، أو بقتله، أو غير ذلك فقد شارك إبليس فيه من ولد له أو منه.
(وَعِدْهُمْ) بما يستخفهم ويغرّهم من المواعيد الباطلة، كوعدهم بأن لا جنة ولا نار، أو بأن الآلهة تشفع لهم، أو بالكرامة على الله بالأنساب الشريفة، مع ما ثبت من
قوله صلى الله عليه وسلّم «يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا»
أو بالتسويف فى التوبة، أو بإيثار العاجل على الآجل أو نحو ذلك.
وخلاصة ذلك- إنه يغويهم بأن لا ضرر من فعل هذه المعاصي، فإنه لا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، وإنها سبيل اللذة والسرور، ولا حياة للإنسان إلا بها فتفويتها غبن وخسران.
خذوا بنصيب من سرور ولذة ... فكلّ وإن طال المدى يتصرّم(15/71)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
وينفّرهم من الطاعة بأن لا فائدة فيها، إذ لا رجعة بعد هذه الحياة، فهى عبث محض، فهذه بعض تلبيسات الشيطان وهذه خدعة.
(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) لأنه لا يغنى عنهم من عقاب الله شيئا إذا نزل بهم، فمواعيده خدعة يزينها لهم ويلبسها ثوب الحق، كما قال إبليس إذ حصحص الحق يوم يقضى ربك بالحق: «إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلّا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم» .
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي إن عبادى الذين أطاعونى فاتبعوا أمرى وعصوك، ليس لك عليهم تسلط، فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإنى قد وفقتهم بالتوكل علىّ، فكفيتهم أمرك.
(وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) فهم يتوكلون عليه، ويستمدون منه العون فى الخلاص من إغوائك ووسوستك.
وفى الآية إيماء إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه من مواقع الضلال، وإنما المعصوم من عصمه الله.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)(15/72)
تفسير المفردات
يزجى: أي يسوق حينا بعد حين والمراد أنه يجريه، وفضله: هو رزقه، والمراد بالضر: خوف الغرق بتقاذف الأمواج، وضل: غاب عن ذكركم، والخسف والخسوف:
دخول الشيء فى الشيء يقال عين خاسفة إذا غابت حدقتها فى الرأس، وعين من الماء خاسفة: أي غائرة الماء وخسفت الشمس: أي احتجبت، وكأنها غارت فى السحاب، والحاصب: الريح التي ترمى بالحصباء والحجارة، والقاصف: الريح تقصف الشجر وتكسره، والتبيع: النصير والمعين، وحملته على فرس: أي أعطيته إياها ليركبها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآية السالفة أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، وأنه لا يستطيع أن يمسه بسوء- قفى على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى على الإنسان التي كان يجب عليه أن يقابلها بالشكران لا بالكفران، وهو الذي يرى دلائل قدرته فى البر والبحر، فهو الذي يزجى له الفلك فى البحر لتنقل له أرزاقه وأقواته من بعيد المسافات، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يأمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح فى البر، أو قاصفا من الريح فى البحر فيغرقه بكفره، وهل نسى أنه ضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم طاهرة عليه؟(15/73)
الإيضاح
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إن ربكم أيها القوم هو القادر الحكيم الذي يجرى لكم لنفعكم السفن فى البحر بالريح اللينة أو بالآلات البخارية أو الكهربائية، لتسهيل نقل أقواتكم وحاجكم من إقليم إلى آخر من أقصى المعمورة إلى أدناها، والعكس بالعكس، ونقل أشخاصكم من قطر إلى قطر ابتغاء للرزق أو للسياحة ورؤية مظاهر الكون على اختلاف الأصقاع مما يرشد إلى باهر القدرة، ووافر النعمة عليكم، إنه كان بكم رحيما، إذ سهل ما فيه الفوائد المرجوة لكم فى هذه الحياة.
ثم خاطب الكفار بقوله:
(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي وإذا نالتكم شدة جهد فى البحر ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه، من صنم أو جن أو ملك أو بشر أو حجر، فلا تذكرون إلا الله، ولا يخطر على بالكم سواه لكشف ما حل بكم.
وخلاصة ذلك- إنكم إذا مسكم الضر دعوتم الله منيبين إليه مخلصين له الدين.
(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي ومن عجيب أمركم أنكم حين دعوتموه وأغاثكم وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه فى البحر أعرضتم عن الإخلاص ورجعتم إلى الإشراك به كفرا منكم بنعمته.
ثم علل هذا الإعراض بقوله:
(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي وكانت سجية الإنسان وطبيعته أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.
وخلاصة ما سلف- إنكم حين الشدائد تجأرون طالبين رحمته، وحين الرخاء تعرضون عنه.(15/74)
ثم حذر من كفران نعمته فقال:
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا؟) أي أفحسبتم أنكم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقام الله وعذابه، فهو إن شاء خسف بكم جانب البر وغيّبه فى أعماق الأرض وأنتم عليها، وإن شاء أمطر عليكم حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط، ثم لا تجدون من تكلون إليه أموركم، فيحفظكم من ذلك، أو يصرفه عنكم غيره، جل وعلا.
وخلاصة ذلك- إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم من فوقكم بريح يرسلها عليكم، فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشد عليكم من الغرق فى البحر.
(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفتم بتوحيدنا فى البحر حتى خرجتم إلى البر- أن يعيدكم فيه مرة أخرى فيرسل عليكم ريحا تقصف السواري، وتغرق المراكب بسبب كفركم وإعراضكم عن الله، ثم لا تجدوا لكم نصيرا يعينكم ويأخذ بثأركم.
قال قتادة: فى تفسيرها أي لا نخاف أحدا يتبعنا بشىء مما فعلنا. يريد: إنكم لا تجدون ثائرا يطلبنا بما فعلنا، انتصارا منا، أو دركا للثأر من جهتنا.
وفى معنى الآية قوله: «فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها» .
وفى الآية وعيد أيما وعيد فكأنه قيل: ننتقم منكم من غير أن يكون لكم نصير يدفع عنكم شديد بأسنا.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا) أي ولقد كرمنا بنى آدم بحسن الصورة واعتدال القامة والعقل، فاهتدى إلى الصناعات ومعرفة اللغات، وحسن التفكير فى وسائل المعاش، والتسلط على ما فى الأرض، وتسخير ما فى العالم العلوي والسفلى، وحملناهم على الدواب والقطر والطائرات والمطاود (واحدها منطاد) والسفن، ورزقناهم من الأغذية النباتية والحيوانية، وفضلناهم على كثير من الخلق بالغلبة والشرف والكرامة، فعليهم(15/75)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
ألا يشركوا بربهم شيئا، ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره من الأصنام والأوثان.
والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام.
والخلاصة- إن فى الآية حثا للإنسان على الشكر، وألا يشرك بربه أحدا، لأنه سخّر له ما فى البر والبحر، وكلأه بحسن رعايته، وهداه إلى صنعة الفلك لتجرى فى البحر، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير من المخلوقات.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
تفسير المفردات
إمامهم: هو كتابهم فهو كقوله «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» والفتيل:
الخيط المستطيل فى شقّ النواة، وبه يضرب المثل فى الشيء الحقير التافه، ومثله النقير والقطمير، أعمى: أي أعمى البصيرة عن حجة الله وبيناته، والركون إلى الشيء: الميل إلى ركن منه، ضعف الحياة: أي عذابا مضاعفا فى الحياة الدنيا، وضعف الممات: أي(15/76)
عذابا مضاعفا فى الممات فى القبر وبعد البعث، ونصيرا: أي معينا يدفع عنك العذاب، لا يلبثون: أي لا يبقون، خلافك: أي بعدك، سنة من قد أرسلنا: أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، تحويلا: أي تغييرا
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جل ثناؤه أحوال بنى آدم فى الدنيا، وذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه، وفضلهم عليهم تفضيلا- فصّل فى هذه الآيات تفاوت أحوالهم فى الآخرة مع شرح أحوال السعداء، ثم أردفه ما يجرى مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال، والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبيس، ثم قفى على ذلك ببيان أن سنته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
الإيضاح
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي اذكر لهم ذلك اليوم، يوم ندعو كل أناس بكتابهم الذي فيه أعمالهم التي قدّموها، ولا ذكر للأنساب حينئذ لأنها مقطوعة، فلا يقال يا ابن فلان، وإنما يقال يا صاحب كذا كما قال تعالى «فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون» .
والخلاصة: إن المعوّل عليه يومئذ الأعمال والأخلاق، والآراء والعقائد النفسية التي تغرس فى النفوس لا الأنساب، لأن الأولى باقية والثانية فانية.
(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي فمن أعطى كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح.
ونحو الآية قوله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» .
(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا ينقصون شيئا من أجور أعمالهم، وقد ثبت(15/77)
فى علم الكيمياء أن وزن الذرات التي تدخل فى كل جسم بنسب معينة، فلو أن ذرة واحدة فى عنصر من العناصر الداخلة فى تركيب أي جسم من النبات أو الحيوان أو الجماد نقصت عن النسبة المقدرة لتكوينه لم يتكون ذلك المخلوق.
وخالق الدنيا هو خالق الآخرة، فالظلم مستحيل هناك كما استحال هنا فى نظم الطبيعة، فما أجلّ قدرة الله وما أعظم حكمته فى خلقه!.
(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي ومن كان فى دار الدنيا أعمى القلب لا يبصر سبل الرشد، ولا يتأمل حجج الله وبيناته التي وضعها فى صحيفة الكون وأمر بالتأمل فيها- فهو فى الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه فى الدنيا، لأن الروح الباقي بعد الموت هو الروح الذي كان فى هذه الحياة الدنيا، وقد خرج من الجسم وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبى، وكما يثمر النخل الثمر، والأشجار الفواكه، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة، فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه قد خرج بجميع صفاته وأخلاقه وأعماله، فهو ينظر إلى نفسه وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى، وما الثمر إلا بحسب الشجر، فإذا كان هنا ساهيا لا هيا فهناك يكون أكثر سهوا ولهوا وأبعد مدى فى الضلال، لأن آلات العلم والعمل قد عطّلت، وبقي فيه مناقبه ومثالبه، ولا قدرة على الزيادة فى الأولى ولا النقص فى الثانية.
وبعد أن ذكر سبحانه درجات الخلق فى الآخرة وشرح أحوال السعداء، أردفه بتحذيرهم من وساوس أرباب الضلال والخديعة بمكرهم فقال:
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي وإن المشركين قاربوا بخداعهم أن يوقعوك فى الفتنة بصرفك عما أوحيناه إليك من الأحكام، لتتقوّل علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك.
أخرج ابن اسحق وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس «أن أمية بن حنف وأبا جهل ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا تعال فتمسّح بآلهتنا، وندخا(15/78)
معك فى دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه، ويجب إسلامهم، فرقّ لهم، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله نصيرا.
وعن سعيد بن جبير قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلّم يستلم الحجر الأسود فى طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا فحدّث نفسه وقال:
ما على أن ألمّ بها بعد أن يدعونى أستلم الحجر والله يعلم إنى لها كاره، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية» .
(وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) أي ولو اتبعت ما يريدون لا تخذوك خليلا ووليّا لهم، وخرجت من ولايتي.
(وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) أي ولولا تثبيتنا إياك، وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يرومون.
وخلاصة ذلك- إنك كنت على أهبة الركون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم فى التحيل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم.
وفى هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلّم لم يهمّ بإجابتهم ولم يقرب من ذلك.
ثم توعده على ذلك أشد الوعيد فقال:
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي ولو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات: أي ضاعفنا لك العذاب فى الدنيا والآخرة، فهو صلى الله عليه وسلّم لو ركن إليهم يكون عذابه ضعف عذاب غيره، لأن الذنب من العظيم يكون عقابه أعظم، ومن ثم يعاقب العلماء على زلاتهم أشد من عقاب العامة لأنهم يتبعونهم.
ونظير ذلك من وجه ما جاء فى نسائه صلى الله عليه وسلّم من قوله «يا نساء النبىّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينّة يضاعف لها العذاب ضعفين» .
وخلاصة ذلك- إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على(15/79)
الركون همّك، لا ستحققت تضعيف العذاب عليك فى الدنيا والآخرة، ولصار عذابك مثلى عذاب المشرك فى الدنيا ومثلى عذابه فى الآخرة.
وقد ذكروا فى حكمة هذا- أن الخطير إذا ارتكب جرما وخطا خطيئة يكون سببا فى ارتكاب غيره مثله والاحتجاج به، فكأنه سن ذلك،
وقد جاء فى الأثر- «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي ثم لا تجد من يدفع العذاب أو يرفعه عنك.
روى عن قتادة أنه قال: «لما نزل قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلخ قال صلى الله عليه وسلّم: اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين»
فينبغى للمؤمن أن يتدبّرها حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بأهداب دينه، ويقول كما
قال النبي صلى الله عليه وسلّم «اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» .
(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي ولقد كاد أهل مكة يزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، بما فعلوه من حصرك والتضييق عليك وقد وقع ذلك بعد نزول الآية وصار ذلك سببا لخروجه صلى الله عليه وسلّم.
(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو استفزوك فخرجت لا يبقون بعدك إلا زمانا قليلا.
وفى هذا وعيد لهم بإهلاكهم بعد خروجه بقليل، وقد تحقق ذلك بإفناء صناديد قريش فى وقعة بدر لثمانية عشر شهرا من ذلك التاريخ.
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي هكذا عادتنا فى الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم أن يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله عليه وسلّم رسول الرحمة لجاءهم من النقم ما لا قبل لهم به، ومن ثم قال تعالى: «وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم» الآية.(15/80)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
(وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا) أي إن ما أجرى الله به العادة لا يتسنى لأحد سواه أن يغيّره ولا أن يحوّله.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 84]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
تفسير المفردات
دلوك الشمس: زوالها عن دائرة نصف النهار، والغسق: شدة الظلمة، وقرآن الفجر: أي صلاة الصبح، كان مشهودا: أي تشهده شواهد القدرة، وبدائع الحكمة، وبهجة العالم العلوي والسفلى فمن ظلام حالك، أزاله ضوء ساطع، ونور باهر، ومن نوم وخمود، إلى يقظة وحركة، وسعى إلى الأرزاق، فسبحان الواحد الخلاق، وهل هناك منظر أجمل فى نظر الرائي من ظهور ذلك النور ينفلت من خلال الظلام الدامس يدفعه بقوة، ليضىء العالم بجماله، ويقظة النّوّام وحركتهم على ظهر البسيطة، وقد كانوا فى سكون، فهى حياة متجددة بعد موت وغيبوبة للحواس، والتهجد:(15/81)
الاستيقاظ من النوم للصلاة، نافلة: أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة عليك، والمقام المحمود: مقام الشفاعة العظمى حين فصل القضاء، حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلّم، والسلطان: الحجة البينة، والنصير: الناصر والمعين، زهق: أي زال واضمحل، نأى بجانبه: أي لوى عطفه عن الطاعة وولاها ظهره، وشاكلته: أي مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله فى الهدى والضلال، ويئوسا: أي شديد اليأس والقنوط من رحمة الله، وأهدى سبيلا: أي أسدّ طريقا، وأقوم منهجا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسوله صلى الله عليه وسلّم ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به- أمره بالإقبال على ربه بعبادته لينصره عليهم، ولا يبالى بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم ويجعل يده فوق أيديهم، ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدواء النفسية، والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرين خسارة وضلالا، لأنه كلما نزلت عليه آية ازدادوا بها كفرا وعتوّا.
الإيضاح
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي أدّ الصلاة المفروضة عليك بعد دلوك الشمس وزوالها إلى ظلمة الليل، ويشمل ذلك الصلوات الأربعة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصبح، وقد بينت السنة المتواترة من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلّم تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه عنه خلفا عن سلف قرنا بعد قرن.(15/82)
وقد تقدم فى سورة البقرة أن المراد بإقامة الصلاة أداؤها على الوجه الذي سنه الدين، والنّهج الذي شرطه، من توجيه القلب إلى مناجاة الرب، والخشية منه فى السر والعلن، مع اشتمالها على الشرائط والأركان التي أوضحها الأئمة المجتهدون والصلاة لبّ العبادة، لما فيها من مناجات الخالق، والإعراض عن كل ما سواه، ودعائه وحده، وهذا هو مخّ كل عبادة، وفى الحديث «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) أي ففى الفجر تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار وتشهده جميعا، ثم يصعد أولئك ويقيم هؤلاء،
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح، وفى صلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم، كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون»
وروى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم فى قوله: « (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار»
وقد يكون المراد كما قال الرازي- إن الإنسان يشهد فيه آثار القدرة وبدائع الحكمة، فى السموات والأرض، فهناك الظلام الحالك الذي يزيله النور الساطع، وهناك يقظة النوم بعد الخمود والغيبوبة عن الحس إلى نحو ذلك من مظاهر القدرة فى الملك والملكوت، فكل العالم يقول بلسان حاله أو مقاله «سبّوح قدّوس، رب الملائكة والروح» .
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي واسهر بعض الليل وتهجد به، وهو أول أمر له صلى الله عليه وسلّم بقيام الليل زيادة على الصلوات المفروضة.
روى مسلم عن أبى هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل: أىّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال صلاة الصبح»
وقد ثبت في صحيح الأحاديث عن عائشة وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتهجد بعد نومه.
(نافِلَةً لَكَ) أي إنها مخصوصة بك وحدك دون الأمة، فهى فريضة عليك ومندوبة فى حق أمتك.(15/83)
(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي افعل هذا الذي أمرتك، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى.
قال ابن جرير: قال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة فى ذلك اليوم.
أخرج النسائي والحاكم وجماعة عن حذيفة رضى الله عنه قال: «يجمع الله الناس فى صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه، فينادى يا محمد، فيقول (لبّيك وسعديك، والخير فى يديك، والشر ليس إليك، والمهدىّ من هديت وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت) فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله» اه.
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتى» .
وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» الحديث.
وسر هذا- أن الهداة فى الأرض، وهم الأنبياء ومن سلك نهجهم من الأئمة والعلماء، لا تشرق قلوبهم إلا بتوجههم إلى الله فى أوقات الصلوات، فإذا قاموا للخلق داعين أشرقت مرايا نفوسهم الصافية على من يدعونهم من العباد، فتضىء نفوسهم، فيستجيبون لدعوتهم، ويكون لهم المقام المحمود بينهم، والثناء العظيم الذي هم له أهل:
إلى أنهم يحسون فى أنفسهم سرورا ولذة، وبهجة ورضا، فيحمدون مقامهم كما حمدهم الناس من حولهم، والله والملائكة من فوقهم.(15/84)
لا جرم أن هذا المقام المحمود بالرشد والإرشاد يتبعه مقام الشفاعة، إذ لا شفاعة فى الآخرة إلا على مقدار ما أوتى المشفوع له فى الدنيا من علم وخلق، ولله فى الشفاعة ما يشاء من غفران وإعلاء درجات.
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي وقل داعيا رب أدخلنى فى كل مقام تريد إدخالى فيه فى الدنيا وفى الآخرة مدخلا صادقا أي يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق فى قولك، فعلك، وأخرجنى من كل ما تخرجنى منه مخرج صدق أي يستحق الخارج منه أن يقال له أنت صادق.
وخلاصة ذلك- أدخلنى إدخالا مرضيا كإدخالى للمدينة مهاجرا، وإدخالى مكة فاتحا، وإدخالى فى القبر حين الموت، وأخرجنى إخراجا محفوظا بالكرامة والرضا، كإخراجى من مكة مهاجرا، وإخراجى من القبر للبعث.
ثم سأل الله القوة بالحجة والتسلط على الأعداء فقال:
(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي واجعل لى تسلطا بالحجة والملك، فأقنع المستمعين للدعوة بالحجة، ويكون للإسلام الغلبة بالاستيلاء على أهل الكفر.
وقد أجاب الله دعاءه، وأعلمه أنه يعصمه من الناس كما قال: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» وقال: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» وقال: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» .
ثم أمره أن يخبر بالإجابة بقوله:
(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي وقل للمشركين مهددا لهم: إنه قد جاءهم الحق الذي لا مرية فيه، ولا قبل لهم به. وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع، واضمحل باطلهم وهلك، إذ لا ثبات له مع الحق كما قال: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» .
(إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي مضمحلا لا ثبات له فى كل آن.
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلّم(15/85)
مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدى الباطل وما يعيد.
وفى رواية للطبرانى والبيهقي عن ابن عباس «أنه صلى الله عليه وسلّم جاء ومعه قضيب، فجعل يهوى به إلى كل صم منها فيخرّ لوجهه فيقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- حتى مر عليها كلّها» .
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وننزل عليك أيها الرسول من القرآن ما به يستشفى من الجهل والضلالة، وتزول أمراض الشدة والنفاق، والزيغ والإلحاد، وهو أيضا رحمة للمؤمنين الذين يعملون بما فيه من الفرائض، ويحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه، فيدخلون الجنة، وينجون من العذاب،
وفى الخبر «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» .
(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لأنهم كلما سمعوا آية منه ازدادوا بعدا عن الإيمان وازدادوا كفرا بالله، لأنه قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون كما قال:
«قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» وقال: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» .
قال قتادة فى قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا ينتفعون به، ولا يحفظونه، ولا يعونه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين اه.(15/86)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا أنعمنا على الإنسان بمال وعافية، وفتح ونصر وفعل ما يريد- أعرض عن طاعتنا وعبادتنا، ونأى بجانبه، وهذا كقوله «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» وقوله:
«فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» .
(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أي وإذا أصابته الجوائح، وانتابته النوائب، كان يئوسا قنوطا من حصول الخير بعد ذلك.
ونحو الآية قوله «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ» وقوله: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» .
ولما ذكر حالى العمى والمهتدين ختم القول ببيان أن كلا يسير على مذهبه فقال:
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي قل إن كلا من الشاكر والكافر يعمل على طريقته وحاله فى الهدى والضلال، وما طبع عليه من الخير والشر.
(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) أي فربكم أعلم من كل أحد، بمن منكم أوضح طريقا واتباعا للحق، فيؤتيه أجره موفورا، ومن هو أضل سبيلا فيعاقبه بما يستحق، لأنه يعلم ما طبع عليه الناس فى أصل الخلقة وما استعدوا له، وغيره يعلم أمورهم بالتجربة، وبمعنى الآية قوله «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» ولا يخفى ما فى الآية من تهديد شديد ووعيد للمشركين.
[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)(15/87)
تفسير المفردات
فى المراد من الروح فى هذه الآية ثلاثة آراء:
(1) القرآن وهو المناسب لما تقدمه من قوله: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ» ولما بعده من قوله «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ولأنه سمى به فى مواضع متعددة من القرآن كقوله «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» وقوله «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ» ولأن به تحصل حياة الأرواح والعقول، إذ به تحصل معرفة الله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، ولا حياة للأرواح إلا بمثل هذه المعارف.
(2) جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وقد سمى جبريل فى مواضع عدة من القرآن كقوله «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» وقوله «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا»
ويؤيد هذا أنه قال فى هذه الآية «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» وقال جبريل «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» فهم قد سألوا الرسول كيف جبريل فى نفسه وكيف يقوم بتبليغ الوحى.
(3) الروح الذي يحيا به بدن الإنسان- وهذا قول الجمهور- ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضا للدلالة على خسارة الظالمين وضلالهم، وأنهم مشتغلون عن تدّبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سد الطريق على معرفته، ويؤيد هذا ما
روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه وقالوا يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، ثم قال: ويسألونك عن الروح الآية» .
الإيضاح
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الذي يحيا به البدن، أقديم هو أم حادث؟(15/88)
(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الأمر واحد الأمور: أي الروح شأن من شؤونه تعالى، حدث بتكوينه وإبداعه من غير مادة، وقد استأثر بعلمه، لا يعلمه إلا هو، لأنكم لا تعملون إلا ما تراه، حواسكم وتتصرف فيه عقولكم، ولا تعلمون من المادة إلا بعض أوصافها كالألوان والحركات للبصر، والأصوات للسمع، والطعوم للذوق، والمشمومات للشم، والحرارة والبرودة للمس، فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادى كالروح.
وللعلماء فى حقيقة الروح أقوال كثيرة أولاها بالاعتبار قولان:
(1) إن الروح جسم نورانى حىّ متحرك من العالم العلوي، مخالف بطبعه لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء فى الورد، والدّهن فى الزيتون، والنار فى الفحم، لا يقبل التبدل والتفرق والتمزق، يفيد الجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض وعدم حدوث ما يمنع السريان، وإلا حدث الموت، واختاره الرازي وابن القيم فى كتاب الرّوح.
(2) إنه ليس بجسم ولا جسمانى، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وإلى هذا ذهب حجة الإسلام الغزالي وأبو القاسم الراغب الأصفهانى.
ثم أكد عدم علم أحد بها بقوله:
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي وما أوتيتم من العلم إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحس. فعلومنا ومعارفنا النظرية طريق حصولها الحواس، ومن ثم قالوا:
من فقد حسا فقد علما.
روى أنه لما نزلت الآية قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا، فنزل قوله «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» .
وخلاصة ذلك- إنه ما أطلعكم من علمه إلا على القليل، والذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر بعلمه تبارك وتعالى ولم يطلعكم عليه.(15/89)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
تفسير المفردات
وكيلا: أي ملتزما استرداده بعد الذهاب به، كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه، وظهيرا: أي معينا فى تحقيق ما يتوخّونه من الإتيان بمثله، وصرفنا: كررنا وردّدنا، والكفور: الجحود.
المعنى الجملي
بعد أن امتن سبحانه على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب، وذكر أنه شفاء للناس، وأنه ثبّته عليه حين كادوا يفتنونه عنه، ثم أردفه بمسألة الروح اعتراضا، لأن اليهود والمشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب والانتفاع به، وسألوا تعنتا عن شىء لم يأذن الله بالعلم به لعباده- امتن عليه ببقاء ذلك الكتاب وحذّره من فتنة الضالين، وإرجاف المرجفين، وهو المعصوم من الفتنة، فإنه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه ولكن رحمة بالناس تركه فى الصدور.
وفى هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء وهم غير معصومين من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به اتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم على الناس.
ثم ذكر أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام والآداب التي يحتاج إليها البشر فى معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.(15/90)
الإيضاح
لما ذكر سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا، بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال:
(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي والله لئن شئنا لنمحونّ القرآن من الصدور والمصاحف ولا نترك له أثرا، وتصيرنّ كما كنت لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي فى جماعة آخرين، عن ابن مسعود قال: «إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله فى قلوبنا وأثبتناه فى المصاحف؟ قال يسرى عليه فى ليلة واحدة فلا تترك منه آية فى قلب ولا مصحف إلا رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شىء ثم قرأ هذه الآية» .
وعنه أنه قال: ذهاب القرآن رفعه من صدور قارئيه.
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) أي ثم لا تجد ناصرا ينصرك، فيحول بيننا وبين ما نريد بك، ولا قيّما لك يمنعنا من فعل ذلك بك.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، وفى هذا امتنان من الله ببقاء القرآن. قال الرازي إنه تعالى امتن على جميع العلماء بنوعين من المنة، أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. ثانيهما: إبقاء حفظه (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) إذ أرسلك للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليك الكتاب، وأبقاه فى حفظك ومصاحفك، وفى حفظ أتباعك ومصاحفهم، وصيّرك سيد ولد آدم، وختم بك النبيين، وأعطاك المقام المحمود.
ثم نبه إلى شرف القرآن العظيم وكبير خطره فقال:
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي قل لهم متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة وحسن معنى وتصرفا وأحكاما ونحو ذلك، لا يأتون بمثله وفيهم العرب الفصحاء وأرباب البيان، ولو تعاونوا وتظاهروا،(15/91)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
فإن هذا غير ميسور لهم، فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟
ثم ذكر بعض محاسن هذا القرآن فقال:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد رددنا القول فيه بوجوه مختلفة، وكررنا الآيات والعبر، والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين، والجنة والنار، ليدبّروا آياته، ويتعظوا بها.
(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي فأبى أكثر الناس إلا الجحود والإنكار، والثبات على الكفر، والإعراض عن الحق.
ولما تم الإقناع بالحجة وقطعت ألسنتهم وأفحموا ولم يجدوا وسيلة للرد، أرادوا المراوغة باقتراح الآيات وذكروا من ذلك ستة أنواع ذكرها سبحانه بقوله:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 100]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)(15/92)
تفسير المفردات
الينبوع: العين التي لا ينضب ماؤها، جنة: أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من الأرض، كسفا: واحدها كسفة كقطع وقطعة لفظا ومعنى، وقبيلا: أي مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر والمراد رؤيتهم عيانا، والزخرف: هنا الذهب، وأصله الزينة، وأجملها ما كان بالذهب، ترقى: أي تصعد، مطمئنين: أي ساكنين مقيمين فيها، وخبت: أي سكن لهبها، والسعير: اللهب، وكفورا أي جحودا للحق، خشية الإنفاق: أي خوف الفقر، والقتور: الشديد البخل.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم- أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات، ويتعثرون فى أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها، آمنوا به، وصدقوا برسالته.(15/93)
روى عن ابن عباس «أن أشراف مكة أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهم جلوس عند الكعبة، فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيّقة، فسيّر جبالها لننتفع بأرضها، وفجرّ لنا فيها نهرا وعيونا نزرع فيها، فقال لا أقدر عليه، فقال قائل: أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، فقال لا أقدر عليه، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف (ذهب) فيغنيك عنا، فقال لا أقدر عليه، فقيل له أما تستطيع أن تأتى قومك بما يسألونك؟ فقال لا أستطيع، قالوا إن كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر، فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا بالعذاب، فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا والذي يحلف به، لا أومن بك حتى تشدّ سلما فتصعد فيه ونحن ننظر إليك، فتأتى بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدرى أنؤمن بك أم لا؟.
فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل، وإنما وظيفتهم البلاغ للناس.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهى استبعادهم أن يرسل الله بشرا رسولا، فأجابهم بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة، لأن الجنس أميل إلى جنسه.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلّم على ما يلاقى من قومه، بأن الهداية والإيمان بيد الله ولا قدرة له على شىء من ذلك، ومن يظلل الله فلا هادى له، وسيلقون جزاءهم نار جهنم بما كسبت أيديهم ودسّوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي، وإنكار البعث والحساب، وهم يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة أخرى ثم بين أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا من إجراء الأنهار والعيون وتكثير الأموال واتساع المعيشة لما كان هناك من فائدة، ولما أوصلوا النفع إلى أحد، فالإنسان بطبعه شحيح كزّ بخيل.(15/94)
الإيضاح
علمت مما سلف أنهم طلبوا منه آية من ست، وها هى ذى:
(1) (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبى سفيان والنضر بن الحرث قول المبهوت المحجوج المتحير: لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا تدفق بالماء أو تفور، وذلك سهل يسير على الله لو شاء فعله وأجابهم إلى ما يطلبون، ولكن الله علم أنهم لا يهتدون كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» الآية.
(2) (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أي أو يكون لك بستان فيه نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلاله تفجيرا لسقيه.
(3) (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) تقول العرب: جاءنا بثريد كسف أي قطع من الخبز: أي أو تسقط علينا جرم السماء إسقاطا مماثلا لما زعمت فى قولك: «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» .
وخلاصة ذلك- أو تسقط السماء علينا متقطعة قطعا قطعا، ونحو الآية قوله:
«اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا: «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
(4) (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) أي أو تأتى بالله والملائكة نقابلهم معاينة ومواجهة قاله مجاهد وعطاء، ونحو الآية قولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» .
(5) (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي أو يكون لك بيت من ذهب، روى ذلك عن ابن عباس وقتادة وغيرهما.(15/95)
(6)
(أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) أي أو تصعد فى سلم إلى السماء ونحن ننظر إليك، ولن نصدّقك من أجل رقيك وحده، بل لا بد أن تنزل علينا كتابا نقرؤه بلغتنا على نهج كلامنا، وفيه تصديقك.
(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا) أي قل لهم متعجّبا من مقترحاتهم، ومنزّها ربك من أن يقترح عليه أحد أو يشاركه فى القدرة: ما أنا إلا كسائر الرسل، وليس للرسل أن يأتوا إلا بما يظهره الله على أيديهم بحسب ما تقتضيه المصلحة، من غير تفويض إليهم فيه، ولا تحكم منهم عليه.
وخلاصة ذلك- سبحانه أن يتقدم أحد بين يديه فى أمر من أمور سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عزّ وجلّ.
ثم أعقب ذلك بشبهة أخرى وهى استبعادهم أن يكون من البشر رسول فقال:
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟) أي وما منع مشركى قريش وهم من حكيت أباطيلهم- من الإيمان بك حين مجىء الوحى المقرون بالمعجزات التي تستدعى الإيمان بنبوتك وبما نزل عليك من الكتاب إلا قولهم: أبعث الله بشرا رسولا، إنكارا منهم أن يكون الرسول من جنس البشر، واعتقادا منهم بأن الله لو بعث رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة.
ونحو الآية قوله: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» وقوله: «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟» الآية. وقال فرعون وملؤه: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟» وكذلك قالت الأمم لرسلهم: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» .(15/96)
فأجابهم الله عن هذه الشبهة ذاكرا وجه الحق منبّها إلى المصلحة بقوله:
(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) أي لو وجد فى الأرض ملائكة يمشون كما يمشى البشر، ويقيمون فيها كما يقيمون، ويسهل الاجتماع بهم، وتتلقى الشرائع منهم- لنزلنا عليهم من السماء رسلا من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثم لم نبعث ملائكة إليهم، بل بعثنا خواصّ البشر، لأن الله قد وهبهم نفوسا زكية، وأيدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية، بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية، بها يبلغون رسالات ربهم إلى عباده.
وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة، وجليل تلك النعمة بقوله: «لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم» وقوله: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» وقوله: «كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيّكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم مالم تكونوا تعلمون» .
وإجمال القول فى ذلك- إنه لو جعل الرسل ملائكة لما استطاع الناس التخاطب معهم، ولما تمكّنوا من الفهم منهم، فلزم أن يجعلوا بشرا حتى يستطيعوا أداء الرسالة كما قال تعالى جدّه: «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون» .
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام جاء فى صورة دحية الكلبي مرارا عدة، فقد صح أن أعرابيا جاء وعليه وعثاء السفر فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإسلام والإيمان، فأجابه عليه السلام بما أجابه ثم انصرف، ولم يعرفه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فقال عليه السلام: هذا جبريل جاء يعلّمكم دينكم.(15/97)
ثم أجابهم سبحانه بجواب آخر بقوله:
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل لهم: إن الله لما أظهر المعجزة وفق دعواى كان ذلك شهادة منه على صدقى، ومن شهد له الله فهو صادق، فادّعاؤكم أن الرسول يجب أن يكون ملكا تحكّم منكم وتعنت.
وخلاصة ذلك- إن الله شاهد علىّ وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى أشد الانتقام كما قال سبحانه: «ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل.
لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين» .
ثم ذكر سبحانه ما هو كالتهديد والوعيد بقوله:
(إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي إنه محيط بأحوال عباده الظاهر منها والباطن، وأعلم بمن يستحق الإحسان والرعاية، ومن هو أهل للشقاء والضلال.
وفى هذا إيماء إلى أنه ما دعاهم إلى إنكار نبوته صلى الله عليه وسلّم إلا الحسد وحب الرياسة والتكبر عن قبول الحق، كما أن فيه تسلية له صلى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من الإصرار والعناد والإمعان فى إيذائه.
ثم أخبر سبحانه بأنه لا معقّب لحكمه، ولا سلطان لأحد من خلقه فى شىء فقال:
(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي ومن يهد الله للإيمان به وتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فهو المهتدى إلى الحق، المصيب سبيل الرشد، ومن يضلله لسوء اختياره وتدسيته نفسه، وركوبه رأسه فى الغواية والعصيان كهؤلاء المعاندين، فلن تجد لهم أنصارا ينصرونهم من دونه يهدونهم إلى الحق، ويمنعون عنهم العذاب الذي يقتضيه ضلالهم.
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) أي ونجمعهم فى موقف الحساب بعد تفرقهم فى القبور- عميا وبكما وصما كما كانوا فى الدنيا، لا يستبصرون(15/98)
ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه، فهم فى الآخرة لا يبصرون ما تقر به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذّ لمسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم كما قال: «ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا» .
روى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه أنه قال: «قيل يا رسول الله، كيف يمشى الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» .
وروى الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف فى الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم» .
وإنا نرى فى الدنيا من الحيوان ما هو طائر، ومنه ما هو ماش، ومنه ما هو زاحف كالحيات وهوامّ الأرض.
والقسم الأخير من الأقسام الثلاثة فى الحديث أقرب إلى هيئة الزواحف بحيث يبقى الوجه فى الأرض وتحيط به زوائد كالأرجل الصغيرة الحيوانية، وهو يهيم على وجهه.
والخلاصة- إنهم يبعثون فى أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم كما يفعل فى الدنيا بمن يبالغ فى إهانته وتعذيبه، ويؤيده قوله تعالى: «يوم يسبحون فى النّار على وجوههم» .
(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي ثم بعد أن يتم حسابهم يكون منقلبهم ومصيرهم جهنم، كلما سكن لهيبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به وتحرقه، زدناها لهبا وتوقدا بأن نعيدهم إلى ما كانوا عليه فتستعر وتتوقد.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:
إن الكفار وقود النار، فإذا أحرقتهم ولم يبق شىء صارت جمرا تتوهّج، فذلك خبوها، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم اه.(15/99)
وكأن هذا عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكرارها مرة بعد أخرى، ليروها عيانا، حيث أنكروها برهانا.
ثم بين علة تعذيبهم، لعله يرجع منهم من قضى بسعادته فقال:
(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي ذلك العذاب الذي جاز يناهم به من البعث على العمى والبكم والصّمم هو جزاؤهم الذي يستحقونه على تكذيبهم بالبينات والحجج التي جاءتهم، وعلى استبعادهم وقوع البعث، وقولهم: أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق فى أرجاء الأرض نعاد مرة أخرى- استنكارا منهم وتعجبا من أن يحصل ذلك.
ثم استدل على البعث فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي خلق السموات والأرض ابتداعا على غير مثال سابق وأقامهما بقدرته- قادر على أن يخلق أمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وكيف لا يقدر على إعادتهم، والإعادة أهون من الابتداء؟.
وبعد أن أثبت أن البعث أمر ممكن الوجود فى نفسه، أردف ذلك أن لحصوله وقتا معلوما عنده فقال.
(وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ) أي وجعل لإعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، لا يعلمها إلا هو كما قال: «وما نؤخّره إلّا لأجل معدود» .
وخلاصة ذلك- إنهم قد علموا بالبرهان العقلي أن الله قادر على إعادتهم، وقد جعل لميقات إعادتهم أجلا وهو يوم القيامة الذي لا شك فيه، فلا وجه لإنكاره.
(فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي وبعد إقامة الحجة عليهم أبوا إلا تماديا فى ضلالهم وكفرهم مع وضوح الحجة وظهور المحجّة.(15/100)
ثم بين السبب فى عدم إجابتهم إلى ما طلبوا من الجنات والعيون بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبقوا على شحّهم فقال:
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) المراد من الإنفاق هنا الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وروى نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب فقال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى، أي قل لهم أيها الرسول: لو أنكم تملكون التصرّف فى خزائن الله لأمسكتم خشية الفقر: أي خشية أن تزول وتذهب مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا.
وقصارى ذلك- إنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على والشح والبخل، وفى هذا إيماء إلى أن الله لا يجيبكم إلى ما طلبتم من نبيه صلى الله عليه وسلّم من بساتين وعيون تنبع، لا بخلا منه، ولكن اقتضت الحكمة أن يكون نظام الدنيا هكذا، ولا رقىّ للإنسان إلا على هذا المنوال، فهو يوسّع الرزق على قوم ويضيّقه على آخرين على مقتضى الحكمة والمصلحة، ومن ثم لم ينزل ما اقترحتموه.
(وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي وكان الإنسان بخيلا منوعا بطبعه كما قال «أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون النّاس نقيرا» أي لو أن لهم نصيبا فى ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير.
وقد روى البخاري ومسلم «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء (أخذ) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما فى يمينه» .
وإجمال المعنى- إن الله لم يجب محمدا إلى ما طلبتم، لا هوانا لنبيه، ولا لأنه ليس بنبي، ولا بخلا منه (حاشاه) بل لحكمة منه، فر بما كانت وفرة العطاء إذا نزلت على غير وجهها مصايب على الناس، فأما أنتم فمنعكم يجرى على طريق البخل، فلو سلم لكم السموات والأرض وادّارستموها لم تفهموا إلا الإمساك، ومن ثم لا يسلمكم مفاتيح خزائنه، لئلا تمسكوا المال لأنفسكم ولا تنفعوا خلقه.(15/101)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
تفسير المفردات
مسحورا: أي مخبول العقل، بصائر: أي حججا وبينات واحدها بصيرة أي مبصرة بينة، مثبورا: أي هالكا كما روى عن الحسن ومجاهد، قال الزجاج: يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك، ويقال فلان يدعو بالويل والثبور حين تصيبه المصيبة، كما قال تعالى: «دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا» أن يستفزهم: أي أن يخرجهم بالقتل أو أن يزيلهم عنها، واللفيف:
الجمع العظيم من أخلاط شتى، من شريف ودنىء، ومطيع وعاص، وقوى وضعيف، وكل شىء خلطته بغيره فقد لففته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقترحوا على الله شيئا- ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تجد فرعون وقومه شيئا، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج أهلككم كما أهلك(15/102)
فرعون بالغرق، وفى ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون، وما جوزى به فرعون وقومه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ولقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على صحة نبوته وصدقه حين أرسل إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها كما قال تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) وقال (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) .
وقد ذكر سبحانه فى كتابه العزيز ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام.
(1) إنه أزال العقدة من لسانه، أي أذهب العجمة عن لسانه وصار فضيحا.
(2) انقلاب العصا حية.
(3) تلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها.
(4) اليد البيضاء.
(5، 6، 7، 8، 9) الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم.
(10) شق البحر.
(11) انفلاق الحجر فى قوله (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) .
(12) إظلال الجبل فى قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) .
(13) إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه.
(14، 15) الجدب ونقص الثمرات فى قوله (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) .
(16) الطمس على أموالهم من الحنطة والدقيق والأطعمة.
وقد اختلفوا فى المراد من هذه التسع. أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور(15/103)
وابن جرير وابن المنذر من طرق عدة عن ابن عباس إنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص الثمرات.
وقيل المراد بالآيات الأحكام،
فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه صلى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله تعالى «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» فقال عليه الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا مخصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا فى السبت، فقبّلا يده ورجله وقالا نشهد إنك نبى، قال فما يمنعكا أن تسلما؟ قالا إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبى، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود» .
قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل فى الآية.
ثم خاطب نبيه فقال:
(فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فاسأل بنى إسرائيل الذين كانوا فى عصرك وآمنوا بك كعبد الله بن سلام وأصحابه سؤال استشهاد، لتزيد طمأنينتك ويقينك، ولتعلم أن ذلك محقق ثابت عندهم فى كتابهم.
(إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي فاسألهم يخبروك، لأنه جاءهم أي جاء آباءهم بهذه الآيات وأبلغها فرعون، فقال له فرعون: إنى لأظنك يا موسى مخلّط العقل، ومن ثم ادّعيت ما ادعيت، مما لا يقول مثله كامل العقل، حصيف الرأى.
(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي قال موسى لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل الله هذه الآيات التسع التي أريتكها إلا حجة لى على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لى على صدقى وصحة قولى إنى رسول الله، بعثني بها رب السموات والأرض، لأنه هو الذي يقدر عليها وعلى أمثالها، وهى بصائر لمن(15/104)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
استبصر بها، وهدى لمن اهتدى بها، يعرف من رآها أن من جاء بها فهو محق، وأنها من عند الله لا من عند غيره، إذ كانت معجزة لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي وإنى لأظنك يا فرعون مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر.
(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وبنى إسرائيل من أرض مصر بقتلهم واستئصالهم بحيث لا يبقى منهم أحدا، فعكسنا عليه مكره وأغرقناه فى البحر ومن معه من جنده جميعا، فأخرجناه من أرضه أفظع إخراج.
(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي ونجينا موسى وبنى إسرائيل وقلنا لهم من بعد هلاك فرعون: اسكنوا أرض الشام وهى الأرض المقدسة التي وعدتهم بها.
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي فإذا جاءت الساعة الآخرة حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم، ونميز سعداءكم من أشقيائكم.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)(15/105)
تفسير المفردات
الحق: هو الثابت الذي لا يزول، والقرآن مشتمل على كثير من ذلك كدلائل التوحيد وتعظيم الملائكة ونبوة الأنبياء وإثبات البعث والقيامة، وفرقناه: أي أنزلناه مفرقا منجما، والمكث (بالضم والفتح) : التؤدة والتأنى، والخرور: السقوط بسرعة، والأذقان واحدها ذقن: وهو مجتمع اللحيين، ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أي سموه بهذين الاسمين، خفت الرجل بقراءته: إذا لم يبينها برفع الصوت، وتخافت: القوم تسارّوا فيما بينهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن القرآن معجز دالّ على صدق الرسول بقوله «قل لئن اجتمعت الإنس والجن» الآية، ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا معجزات أخرى، وأجابهم ربهم بأنه لا حاجة إلى شىء سواه، وبأن موسى أتى فرعون وقومه بتسع آيات فجحدوا بها فأهلكوا، فلو أتاكم محمد صلى الله عليه وسلّم بتلك المعجزات التي اقترحتموها ثم كفرتم بها أنزل عليكم عذاب الاستئصال ولم يكن ذلك من الحكمة التي أرادها، لعلمه أن منكم من يؤمن ومنكم من لا يؤمن، ولكن سيظهر من نسله من يكون مؤمنا- عاد هنا إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره، وبيان أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه أنزله على نبيه مفرّقا ليسهل حفظه وتعرف دقائق أسراره، وأنكم سيان آمنتم به أولم تؤمنوا، فإن من قبلكم من أهل الكتاب إذا تلى(15/106)
عليهم خروا له سجّدا وبكيّا ثم أردف ذلك ببيان أنكم إن ناديتم الله أو ناديتم الرحمن فالأمران سواء ثم قفّى على ذلك بطلب التوسط فى القراءة فى الصلاة بين الجهر والخفوت، ثم أمر نبيه أن يقول حين الدعاء: الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: «صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى فقال فى دعائه: يا الله يا رحمن، فقال المشركون:
انظروا إلى هذا الصابىء، ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزل (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية.
وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله فى التوراة هذا الاسم فنزلت.
الإيضاح
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي وأنزلنا عليك القرآن متضمنا للحق، ففيه أمر بالعدل والإنصاف ومكارم الأخلاق، ونهى عن الظلم والأفعال الذميمة، وذكر براهين الوحدانية وحاجة الناس إلى الرسل، لتبشيرهم وإنذارهم وحثهم على صالح الأعمال، انتظار ليوم الحساب والجزاء.
(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل إليك محفوظا محروسا لم يشب بغيره، فلم يزد فيه ولم ينقص، وقد يكون المراد ونزل إليك مع الحق وهو شديد القوى الأمين المطاع فى الملأ الأعلى جبريل عليه السلام.
وبعد أن مدح الكتاب مدح من أنزل عليه فقال:
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك أيها الرسول إلى من أرسلناك إليهم من عبادنا إلا مبشرا بالجنة من أطاعنا فانتهى إلى أمرنا، ومنذرا لمن عصانا فخالف ذلك.(15/107)
(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) أي وآتيناك قرآنا فرقناه أي نزلناه مفرّقا منجّما، وقد بدىء بإنزاله ليلة القدر فى رمضان، ثم أنزل نجوما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع.
وسر نزوله هكذا بعضه إثر بعض أن تقرأه على الناس بتؤدة وتأنّ ليسهل عليهم حفظه ويكون ذلك أعون على تفهم معناه.
أخرج البيهقي فى الشّعب عن عمر رضى الله عنه أنه قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا، وكذلك أخرج ابن عساكر عن أبى سعيد الخدري،
والمراد أن الغالب كذلك، فقد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.
وفائدة قوله: ونزلناه تنزيلا بعد قوله فرقناه- بيان أن ذلك التنزيل لمقتض وهو التنزيل بحسب الحوادث.
ثم هددهم سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم بقوله:
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل لهؤلاء الضالين القائلين لك: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا- آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يأتوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا- أو لا تؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد فى خزائن رحمة الله، ولا ترككم للايمان به ينقص ذلك.
ثم علل عدم المبالاة بهم، واحتقار شأنهم، بقوله:
(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا) أي وإن تكفروا به فإن العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل نزول القرآن، وعرفوا أن الله سيبعث نبيا- يخرون لله سجّدا، شكرا له على إنجاز وعده بإرسالك، حين يتلى عليهم هذا القرآن، ويقولون فى سجودهم، تنزه ربنا عن خلف الوعد إنه كان وعده آتيا لا محالة.
والخلاصة- إنكم إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، وفيه تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وازدراء لشأنهم.(15/108)
(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) أي ويخرّون للأذقان باكين من خشية الله إذا يتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعظ خشوعا وخضوعا لأمره وطاعته.
وقد جاء فى مدح البكاء من خشية الله أخبار كثيرة
فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «عبنان لا تمسّنهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس فى سبيل الله تعالى» .
وأخرج مسلم والنسائي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار فى سبيل الله ودخان جهنم» .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التميمي أنه قال إن من أوتى من العلم مالم يبكه لخليق أن قد أوتى من العلم مالا ينفعه، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال (ويخرون للأذقان يبكون) .
ثم رد على المشركين المنكرين إطلاق اسم الرحمن عليه عزّ وجلّ فقال:
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين أنكروا اسم الرحمن سمّوا الله أيها القوم أو سموا الرحمن، فبأى أسمائه جل جلاله تسمونه فهو حسن، لأن كل أسمائه حسنى، إذ فيها التعظيم والتقديس لأعظم موجود، وهو خالق السموات والأرض وهذان الاسمان منها.
روى مكحول «أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقول فى سجوده: يا رحمن يا رحيم، فقال إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين فأنزل الله الآية» .
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالتوسط فى القراءة، فلا يجهر بصوته ولا يخافت به فقال:
(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) أي ولا تجهر بقراءتك(15/109)
فيسمع المشركون فيسبّوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، بل ابتغ طريقا بين الجهر والمخافتة.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: «نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مختف بمكة (يصلى خفية) فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به» .
وروى أن أبا بكر رضى الله عنه كان يخفت فى قراءته ويقول أناجى ربى وقد علم حاجتى، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا.
ولما أمر سبحانه رسوله ألا يناديه إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد بقوله:
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) أي وقل لله ذى الجلال والكمال: لك الحمد والشكر على ما أنعمت على عبادك من واسع النعم.
وقد وصف سبحانه نفسه بثلاث صفات:
(1) إنه لم يتخذ ولدا، فإن من يتخذ الولد يمسك جميع النعم لولده، ولأن الولد يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله وفنائه- تنزه ربنا عن ذلك- ومن كان كذلك لم يستطع الإنعام فى كل الحالات، فلا يستحق الحمد على الإطلاق.
وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولونه علوا كبيرا.
(2) إنه ليس له شريك فى الملك، إذ لو كان له ذلك لم يعرف أيهما المستحق للحمد والشكر، ولكان عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره، ولم يكن منفردا بالملك والسلطان.(15/110)
(3)
إنه لم يكن له ولىّ من الذل أي لم يوال أحدا من أجل مذلة به يدفعها بموالاته.
والخلاصة- إنه ليس له ولد يحبس نعمه عليه، وليس له شريك يقف أعماله فى الملك، ولا ناصر يدفع العدو المذلّ له، وإذا تنزه ربنا عن ذلك فقد أمن الناس نضوب موارده، وأصبحت أبوابه مفتّحة لكل قاصد، فلتغترف أيها العبد من مناهله، ولتعلم أنه لا يحابيك لأجل أهلك ولا نسلك ولا دينك، ولو كنت ابن نبى من الأنبياء أو عظيم من العظماء.
(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي وعظّم ربك أيها الرسول بما أمرناك أن تعظمه به من قول أو فعل، وأطعه فيما أمرك به ونهاك عنه.
وتكبيره تعالى وتنزيهه يكون:
(1) بتكبيره فى ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غنى عن كل موجود.
(2) بتكبيره فى صفاته باعتقاد أنه مستحق لكل صفات الكمال منزه عن صفات النقص.
(3) بتكبيره فى أفعاله، فتعتقد أنه لا يجرى شىء فى ملكه إلا وفق حكمته وإرادته.
(4) بتكبيره فى أحكامه، بأن تعتقد أنه ملك مطاع، له الأمر والنهى، والرفع والخفض، وأنه لا اعتراض لأحد عليه فى شىء من أحكامه، يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء.
(5) تكبيره فى أسمائه، فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة.
روى أحمد فى مسنده عن معاذ الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول «آية العز (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية»
وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله فى السراء والضراء» .
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبى أمية قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلم الغلام من بنى هاشم إذا أفصح، الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات» .(15/111)
مجمل ما حوته السورة من الأغراض
(1) الإسراء من مكة إلى بيت المقدس.
(2) تاريخ بنى إسرائيل فى حالى الارتقاء والانحطاط.
(3) حكم وعظات للأمة الإسلامية يجب أن تراعيها حتى لا تذهب دولها كما ذهبت دولة بنى إسرائيل.
(4) بيان أن كل ما فى السموات والأرض مسبّح لله.
(5) الكلام فى البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه.
(6) الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة من الأوثان والأصنام.
(7) الحكمة فى عدم إنزال الآيات التي التي اقترحوها على محمد صلى الله عليه وسلّم.
(8) قصص سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس من ذلك.
(9) تعداد بعض نعم الله على عباده.
(10) طلب المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يوافقهم فى بعض معتقداتهم وإلحافهم فى ذلك.
(11) أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بإقامة الصلاة والتهجد فى الليل.
(12) بيان إعجاز القرآن وأن البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله.
(13) قصص موسى مع فرعون.
(14) الحكمة فى إنزال القرآن منجما.
(15) تنزيه الله عن الولد والشريك والناصر والمعين.(15/112)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
سورة الكهف
هى مكية كلها فى المشهور واختاره جمع من العلماء، وآيها مائة وإحدى عشرة.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه.
(1) إن سورة الإسراء افتتحت بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان فى سائر الكلام فى نحو «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» ونحو سبحان الله وبحمده.
(2) تشابه ختام السالفة وافتتاح هذه، فإنّ كلا منهما حمد.
(3) إنه ذكر فى السابقة قوله: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» والخطاب فيها لليهود، وذكر هنا قصة موسى نبىّ بنى إسرائيل مع الخضر عليهما السلام وهى تدل على كثرة معلومات الله التي لا تحصى، فكانت كالدليل على ما تقدم.
(4) إنه جاء فى السورة السابقة: «فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا» ثم فصل ذلك هنا بقوله: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» إلى قوله: «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)(15/113)
تفسير المفردات
العوج: (بالكسر والفتح) : الانحراف والميل عن الاستقامة، فلا خلل فى لفظه ولا فى معناه، قيما: أي معتدلا لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد، ولا تفريط فيه بإهمال ما تمس الحاجة إليه، والبأس: العذاب الشديد فى الآخرة، من لدنه: أي من عنده، كبرت: (بضم الباء) كلمة: أي ما أعظمها مقالة قيلت، وهذا أسلوب فى الكلام يدل على التعجب والاستغراب مما حدث من قول أو فعل، باخع: أي قاتل (منتحر) قاله ابن عباس وأنشد قول لبيد:
لعلك يوما إن فقدت مزارها ... على بعده يوما لنفسك باخع
على آثارهم: أي من بعدهم أي من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه، والحديث: هو القرآن، والأسف: المبالغة فى الحزن والغضب، وصعيدا: أي ترابا، وجرزا: أي لا نبات فيه.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) حمد الله نفسه على إنزاله كتابه العزيز إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأنه أعظم نعمة أنزلها على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وجعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
وخلاصة ذلك- إنه تعالى أنزل الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلّم(15/114)
مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدّق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، ولا اعوجاج فيه، ولا ميل عن الحق.
(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي ليخوّف الذين كفروا به عذابا شديدا صادرا من عنده أي نكالا فى الدنيا ونار جهنم فى الآخرة.
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أي ويبشر المصدقين الله ورسوله الذين يمتثلون أوامره ونواهيه- بأن لهم ثوابا جزيلا منه على إيمانهم به وعملهم الصالح فى الدنيا، وذلك الثواب الجزيل هو الجنة التي وعدها الله المتقين خالدين فيها أبدا لا ينتقلون منها ولا ينقلون.
(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) أي وليحذّر من بين هؤلاء الكفار من قالوا هذه المقالة الشنعاء- إن الله اتخذ ولدا، وهؤلاء ثلاث طوائف.
(1) المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله.
(2) اليهود القائلون عزيز ابن الله.
(3) النصارى القائلون المسيح ابن الله.
وإنما خص هؤلاء مع دخولهم فى الإنذار السابق لفظاعة حالهم، وشناعة كفرهم وضلالهم.
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم باتخاذ الولد برهان، بل هو قول لم يصدر عن علم يؤيده، ولا عقل يظاهره.
(وَلا لِآبائِهِمْ) أي وكذلك ليس لآبائهم الذين قالوا مثل هذه المقالة وهم القدوة لهم- به علم.
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي عظمت مقالتهم هذه فى الكفر، وليتهم اكتفوا بخطورها بالبال، وترددها فى الصدور، بل تلفظوا بها على مرأى من الناس ومسمع، وكثير مما يوسوس به الشيطان وتحدّث به النفس لا يتلفّظ به، بل يكتفى(15/115)
بما يعتقده القلب، فكيف ساغ لهم أن يجرءوا على التلفظ بهذا المنكر الذي لا مستند له من عقل ولا نقل؟.
ثم أكد هذا الإنكار وبين أنه كما لا علم لهم ولآبائهم به- لا علم لأحد به، لأنه لا وجود له، وما هو إلا محض اختلاق بقوله:
(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا قولا لا حقيقة له بحال.
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) لعل هنا للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى- أي لا تبخع نفسك من بعد توليهم عن الإيمان وإعراضهم عنه أسفا وحسرة عليهم.
أي إنك قد اشتد وجدك عليهم، وبلغت حالا من الأسى والحسرة صرت فيها أشبه بحال من يحدّث نفسه أن يبخعها أسى وحسرة عليهم، وما كان من حقك أن تفعل ذلك، إن عليك إلا البلاغ، وليس عليك الهداية «ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدى من يشاء» .
وقد جاء مثل هذا النهى فى آيات كثيرة كقوله «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وقوله «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» وقوله «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» .
وخلاصة ذلك- أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم أسى وحسرة، فإنما أنت منذر، ولست عليهم بمسيطر، إن عليك إلا البلاغ ثم ذكر سبحانه سبب إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ بالبشارة والنذارة، وهو أنه تعالى جعل ما على الأرض زينة لها، ليختبر المحسن والمسيء، ويجازى كلا بما يستحق فقال:
(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات ومعادن زينة لها ولأهلها، لنختبر حالهم فى فهم(15/116)
مقاصد تلك الزينة والاستدلال بها على وجود خالقها، والإخبات إليه، والطاعة له، فيما أمر به، والبعد عما نهى عنه، فتقوم عليهم الحجة، فمن اعتبر بتلك الزينة، وفهم حكمتها، حاز المثوبة، ومن اجترأ على مخالفة أمره، ولم يفهم أسرارها ومقاصدها، استحق العقوبة.
وخلاصة ذلك- إنا جعلنا ما على الأرض زينة، لنعاملهم معاملة من يختبرون فنجازى المحسنين بالثواب، والمسيئين بالعقاب، ويمتاز أفراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب امتياز درجات أعمالهم.
روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الدنيا نضرة حلوة، والله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون»
،
وقال «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل وما زهرة الدنيا؟ قال بركات الأرض» ،
وروى البخاري أن عمر كان يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللهم إنى أسألك أن ننفقه فى حقه.
(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإن الأرض وما عليها بائد فإن، وإن المرجع إلى الله، فلا تأس ولا تحزن لما تسمع وترى، ونحو الآية قوله «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» وقوله «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» .
وإجمال المعنى- إن ما على الأرض سيصير ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجّب من بهجته النظّارة، وتسرّ برؤيته العيون، فلا تحزن لما عاينت من تكذيب هؤلاء لما أنزل عليك من الكتاب، فإنا جعلنا ما على الأرض من مختلف الأشياء زينة لها، لنختبر أعمال أهلها، فنجازيهم بحسب ما هم له أهل، وإنا لمفنون ذلك بعد حين.
وفى هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم، وكأنه قيل: لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم.(15/117)
ملخص قصة أهل الكهف كما أثر عن العرب
روى أن النصارى عظمت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام، وأكرهوا الناس على عبادتها، وأصدر (الملك دقيانوس) الأوامر المشدّدة فى ذلك، ومعاقبة من يخالفه، وأراد أن يلزم فتية من أشراف قومه عبادتها، وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على دينهم، فنزع ثيابهم وحليهم، ولكنه رحم شبابهم فأمهلهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم، وهكذا ذهب الملك إلى مدن أخرى ليحثّ أهلها على عبادتها، وإلا قتلوا.
أما الفتية فإنهم انطلقوا إلى كهف قريب من مدينتهم (أفسوس أوطرسوس) فى جبل يدعى (نيخايوس) وأخذوا يعبدون الله فيه حتى إذا هجم عليهم دقيانوس وقتلهم ماتوا طائعين، وقد كانوا سبعة، فلما مروا فى الطريق إلى الكهف تبعهم راع ومعه كلبه، فجلسوا هناك يعبدون الله، وكان من بينهم امرؤ يدعى (تمليخا) يبتاع لهم طعامهم وشرابهم، ويبلغهم أخبار دقيانوس الذي لا يزال مجدّا فى طلبهم، حتى إذا عاد من مطافه، ووصل إلى مدينتهم، بحث عن هؤلاء العبّاد والنساك ليذبحهم أو يسجدوا للأصنام، فسمع بذلك تمليخا بينما كان يشترى لهم الطعام خفية فأخبرهم فبكوا، ثم ضرب الله على آذانهم فناموا، وتذكّرهم دقيانوس، فهدّد آباءهم إن لم يحضروهم، فدلّوه عليهم، وقالوا إنهم فى الكهف، فتوجه إليهم وسدّه عليهم ليموتوا هناك وينتهى الأمر على ذلك.
وقد كان فى حاشية الملك رجلان يكتمان إيمانهما وهما بيدروس، وروناس، فكتبا قصة هؤلاء الفتية سرا فى لوحين من حجر وجعلاهما فى تابوت من نحاس، وجعلا التابوت فى البنيان ليكون ذلك عظة وذكرى لمن سيجيئ من بعد.
ثم مضت قرون يتلو بعضها بعضا، ولم يبق لدقيانوس ذكر ولا أثر.
وبعدئذ ملك البلاد ملك صالح يسمى بيدروس دام ملكه 68 سنة، وانقسم(15/118)
الناس فى شأن البعث والقيامة فرقتين: فرقة به وأخرى كافرة، فحزن الملك لذلك حزنا شديدا، وضرع إلى الله أن يرى الناس آية يرشدهم بها إلى أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد خطر إذ ذاك ببال راع يسمى (أولياس) أن يهدم باب الكهف ويبنى به حظيرة لغنمه، فلما هدمه استيقظوا جميعا فجلسوا مستبشرين، وقاموا يصلون، ثم قال بعضهم لبعض: كم لبثتم نياما؟ قال بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم، وقال آخرون ربكم أعلم بما لبثتم، فابعثوا أحدكم بورقكم (الورق الفضة) هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاما وليحضر لنا جانبا منه، فذهب تمليخا كما اعتاد من قبل، ليشترى لهم الطعام وهو متلطّف فى السؤال مختف حذرا من دقيانوس.
وبينما هو ماش سمع اسم المسيح ينادى به فى كل مكان، فحدّث نفسه وقال:
عجبا لم لم يذبح دقيانوس هؤلاء المؤمنين؟ وبقي حائرا دهشا وقال: ربما أكون فى حلم أو لعل هذه ليست مدينتنا، فسأل رجلا ما اسم هذه المدينة، قال (أفسوس) وفى آخر مطافه تقدم إلى رجل فأعطاه ورقا ليشترى به طعامه، فدهش الرجل من نوع هذا النقد الذي لم يره من قبل، وأخذ يقلّبه ويعطيه إلى جبرته، وهم يعجبون منه ويقولون له: أهذا من كنز عثرت عليه، فإن هذه الدراهم من عهد دقيانوس، وقد مضت عليه حقبة طويلة ثم أخذوه وقادوه إلى حاكمى المدينة، فظن فى بادىء الأمر أنهم ساقوه إلى دقيانوس، ولكن لما عرف أنه لم يؤت به إليه زال عنه الكرب، وجفت مدامعه، ثم سأله حاكما المدينة وهما أريوس وطنطيوس: أين الكنز الذي وجدت يافتى؟ وبعد حوار بينه وبينهما ذكر لهما خبر الفتية ودقيانوس وأن حديثهما كان أمس وإن كان لديكما ريب من أمرى فها هو ذا الكهف فاذهبا معى لتريا صدق ما أقول، فسارا معه حتى وصلا إلى باب الكهف، وتقدمهما تمليخا فأخبرهما بالحديث كله، فداخلهما العجب حين علما أنهم ناموا تسعا وثلاثمائة سنة، وأنهم أوقظوا ليكونوا آية للناس.(15/119)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
ثم دخل أريوس فرأى تابوتا من نحاس مخترما بخاتم. وبداخله لوحان مكتوب عليهما قصة هؤلاء الفتية، وكيف هربوا من دقيانوس حرصا على عقيدتهم ودينهم، فسدّ عليهم بالحجارة.
ولما رأى أريوس ومن معه هذا القصص خرّوا لله سجدا وأرسلوا بريدا إلى ملكهم أن عجّل واحضر لترى آية الله فى أمر فتية بعثوا بعد أن ناموا ثلاثمائة سنة.
ثم سار الملك ومعه ركب من حاشيته وأهل مدينته حتى أتوا مدينة أفسوس وكان يوما مشهودا، وحين رأى الفتية خر ساجدا لله ثم اعتنقهم وبكى وهم لا يزالون يسبّحون، ثم قال الفتية له: أيها الملك نستودعك الله ونعيذك من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم وقبضت أرواحهم، فأمر الملك أن يجعل كل منهم فى تابوت من ذهب، وحين جنّ الليل ونام رآهم فى منامه يقولون له: اتركنا كما كنا فى الكهف ننام على التراب حتى يوم البعث، فأمر الملك أن يوضعوا فى تابوت من ساج وألا يدخل عليهم أجد بعد ذلك، وأن يبنى على باب الكهف مسجد يصلى فيه الناس، وجعل لهم ذلك اليوم عيدا عظيما. ذلك هو القصص الذي جعله النصارى دليلا على البعث أما القرآن الكريم فإنه يقول إن آياتي على البعث وإعادة الأرواح بعد الموت ليست مقصورة على هذا القصص وحده، فآياتى عليه لا تعدّ ولا تحصى، فاقرءوا صحائف هذا الوجود ولا تقصروا أمركم على صحائف أهل الكهف والرقيم، واجعلوا أنظاركم تتجه إلى ما حواه الكون لا إلى ما كتب فى القصص والحكايات، وإن كانت فيها الدلائل والآيات.
إجمال القرآن لقصص أهل الكهف
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)(15/120)
تفسير المفردات
أم: حرف يدل على الانتقال من كلام إلى آخر، وهو بمعنى بل وهمزة الاستفهام أي بل أحسبت، والخطاب فى الظاهر للنبى عليه الصلاة والسلام، والمراد غيره كما سبق نظيره، والكهف: النقب المتسع فى الجبل، فإن لم يكن متسعا فهو غار، والرقيم: لوح حجرى رقمت فيه أسماؤهم كالألواح الحجرية المصرية التي يذكر فيها تاريخ الحوادث وتراجم العظماء، أوى إلى المكان: اتخذه مأوى ومكانا له، والفتية واحدهم فتى وهو الشاب الحدث، وقد كانوا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم، لهم أطواق وأسورة من الذهب، وهيىء: أي يسر، والرشد (بفتحتين وضم فسكون) الهداية إلى الطريق الموصل للمطلوب، فضربنا على آذانهم أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع، كما يقال بنى على امرأته، يريدون بنى عليها قبة، والمراد أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة.
عددا: أي ذوات عدد والمراد التكثير، لأن القليل لا يحتاج إلى العدّ غالبا، بعثناهم:
أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم، والحزبين: هما الحزب القائل لبثنا يوما أو بعض يوم، والحزب القائل ربكم أعلم بما لبثتم، وأحصى: أي أضبط لاوقات لبثهم، والأمد:
مدة لها حد وغاية.
الإيضاح
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم المذكورة فى الكتب السالفة حين استمروا أحياء أمدا طويلا- عجيبة بالإضافة إلى ما جعلناه على ظهر الأرض من الزينة فليست هى بالعجب وحدها من بين آياتنا بل زينة الأرض وعجائبها أبدع وأعجب من قصة(15/121)
أصحاب الكهف فإذا وقف علماء الأديان الأخرى لدى أمثالها دهشين حائرين، فأنا أدعوك وأمتك إلى ما هو أعظم منها وهو النظر فى الكون وعجائبه، من خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، إلى نحو أولئك من الآيات الدالة على قدرة الله، وأنه يفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه.
أما القصص وغرائبها فلا تكفى للوصول إلى أبواب الخير والسعادة التي يطمح إليها الإنسان، ويجعلها مثله العليا، ليفوز بخيرى الدنيا والآخرة، فابحث عما نقش فى صحائف الأكوان، لا فى صحائف الكهوف والغيران.
قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم.
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي اذكر أيها الرسول حين أوى أولئك الفتية إلى الكهف هربا بدينهم من أن يفتنهم عباد الأصنام والأوثان، وقالوا إذ ذاك: ربنا يسر لنا بما نبتغى من رضاك وطاعتك رشدا من أمرنا، وسدادا إلى العمل الذي نحب، وارزقنا المغفرة والأمن من الأعداء.
(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي فضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم السماع، وأنمناهم نوما لا ينبههم فيه مختلف الأصوات فى الكهف سنين كثيرة معدودة.
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي ثم أيقظناهم من رقدتهم لنعلم أي الطائفتين المتنازعتين فى مدة لبثهم، أضبط فى الإحصاء والعد لمدة هذا اللبث فى الكهف.
وخلاصة ذلك- إنا بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبر حالهم، لنرى أيهم أحصى لما لبعثوا أمدا، فيظهر لهم عجزهم، ويفوّضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرّفوا ما صنع الله(15/122)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
بهم من حفظ أبدانهم، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه، ويستبصروا به فى أمر البعث، ويكون ذلك لطفا لمؤمنى زمانهم، وآية بينة لكفارهم.
تفصيل ذلك القصص وبسطه
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 18]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
تفسير المفردات
النبأ: الخبر العظيم، وبالحق: أي بالصدق، والربط: الشد، وربطت الدابة:
شددتها بالرباط، والمربط: الحبل، وربط الله على قلبه، أي قوّى عزيمته، قاموا:(15/123)
أي وقفوا بين يدى ملكهم الجبار دقيانوس، إلها: أي معبود آخرا لا استقلالا ولا اشتراكا، اتخذوا من دونه آلهة: أي نحتوا أصناما وعبدوها، والسلطان: الحجة، والبيّن: الظاهر، والاعتزال والتعزل: تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب كما قال:
يا بيت عاتكة التي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل
فأووا إلى الكهف: أي التجئوا إليه، وينشر لكم: أي يبسط لكم، والمرفق:
ما يرتفق وينتفع به، وتزاور: تتنحى، وذات اليمين: أي جهة يمين الكهف، وتقرضهم: أي تعدل عنهم، قال الكسائي: يقال: قرضت المكان: إذا عدلت عنه ولم تقربه، فجوة: أي متسع، والأيقاظ، واحدهم يقظ (بضم القاف وكسرها) والرقود:
واحدهم راقد، أي نائم، وباسط ذراعيه: أي مادّهما، والوصيد: فناء الكهف، والرعب: الخوف يملأ الصدر.
الإيضاح
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) أي نحن ننبئك نبأ هؤلاء الفتية الذين آووا إلى الكهف، نبأ حقا لا محل للريبة فيه.
وفى هذا إيماء إلى أن نبأهم كان معروفا لدى العرب على وجه ليس بالصدق، ويدل على ذلك قول أمية بن أبى الصّلت:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهمو والقوم فى الكهف هجّد
ثم فصّل ذلك بقوله:
(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي إنهم شباب آمنوا بربهم، وزدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان، والتوفيق للعمل الصالح، والانقطاع إلى الله، والزهد فى الدنيا.
وقد جرت العادة أن الفتيان أقبل للحق، وأهدى للسبل من الشيوخ الذين(15/124)
قد عتوا وانغمسوا فى الأديان الباطلة، ومن ثم كان أكثر الذين استجابوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم شبّانا، وبقي الشيوخ على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» وقوله:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وقوله: «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» .
فى أي زمن كان قصص أهل الكهف
؟ رجح ابن كثير أن قصص أهل الكهف كان قبل مجىء النصرانية، لا بعدها كما رواه كثير من المفسرين متّبعين ما أثر عن العرب، والدليل على ذلك أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها،
فقد روى عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء الفتية، وعن خبر ذى القرنين، وعن الرّوح،
وفى هذا أعظم الأدلة على أن ذلك كان محفوظا عند أهل الكتاب، وأنه مقدّم على النصرانية.
(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وألهمناهم قوة العزيمة، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان، حتى عزفت نفوسهم عما كانوا عليه من خفض العيش والرغبة عنه، وقالوا حين قاموا بين يدى الجبار دقيانوس إذ عاتبهم على تركهم عبادة الأصنام- ربنا رب السموات والأرض ورب كل مخلوق.
ثم أردفوا تلك المقالة البراءة من إله غيره فقالوا:
(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن ندعو من دون رب السموات والأرض إلها، لا على طريق الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك، إذ لا رب غيره ولا معبود سواه.
وقد أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الألوهية والخلق، وبالجملة الثانية إلى توحيد الربوبية والعبادة، وعبدة الأصنام يقرون بتوحيد الأولى، ولا يقرون بتوحيد(15/125)
الثانية، بدليل قوله. «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وقوله سبحانه حكاية عنهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» وكانوا يقولون فى تلبيتهم فى الحج: لبيك لا شريك لك: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
ثم عللوا عدم دعوتهم لغيره بقولهم:
(لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي إنا إذا دعونا غير الله، لقد أبعدنا عن الحق، وتجاوزنا الصواب.
وفى هذا إيماء إلى أنهم دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها.
ثم حكى سبحانه عن أهل الكهف مقالة بعضهم لبعض فقال:
(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي إن قومنا هؤلاء وإن كانوا أكبر منا سنّا وأكثر تجربة قد أشركوا مع الله غيره، فهلا أتوا بحجة بينة على صدق ما يقولون، كما أتينا على صدق ما ندّعى بالأدلة الظاهرة، وإنهم لأظلم الظالمين فيما فعلوا، افتروا، ومن ثم قال:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟) أي لا أظلم ممن افترى على الله الكذب ونسب إليه الشريك، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم فى عبادتهم غير الله ففارقوهم بأبدانكم والجئوا إلى الكهف، وأخلصوا لله العبادة فى مكان تتمكنون منها بلا رقيب ولا حسيب، وإنكم إن فعلتم ذلك فالله تعالى يبسط لكم الخير من رحمته فى الدارين، ويسهل لكم من أمر الفرار بدينكم، والتوجه إليه فى عبادتكم، ما ترتفقون وتنتفعون به.
وقد قالوا ذلك ثقة بفضل الله تعالى ورجاء منه، لتوكلهم عليه وكمال إيمانهم به، أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب،(15/126)
وقرأ: «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ» .
ثم بيّن سبحانه حالهم بعد أن أووا إلى الكهف فقال:
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي إنك أيها المخاطب لو رأيت الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهة اليمين، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدل عنهم جهة الشمال، والحال أنهم فى وسطه ومتسعه، فيصيبهم نسيم الهواء وبرده.
وخلاصة ذلك- إنهم طوال نهارهم لا تصيبهم الشمس فى طلوعها ولا فى غروبها، إذ كان باب الكهف فى مقابلة بنات نعش، فهو إلى الجهة الشمالية، والشمس لا تسامت ذلك أبدا، لأنها لا تصل إلى أبعد من خط السرطان، وكل بلاد بعده إلى جهة الشمال تكون الشمس من ورائها لا أمامها فيكون الظل مائلا جهة الشمال طول السنة، كما يعلم ذلك من علم الفلك.
وإيضاح ذلك أنه لو كان باب الكهف فى ناحية الشرق لما دخل إليه شىء منها حين الغروب، ولو كان من ناحية الجنوب لما دخل منها شىء حين الطلوع ولا الغروب وما تزاور الفيء لا يمينا ولا شمالا، ولو كان جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولا تزال فيه إلى الغروب.
مكان الكهف
وللمفسرين فى تعيين مكان الكهف أقوال: فقيل هو قريب من إيلياء (بيت المقدس) ببلاد الشام، وقال ابن إسحاق: عند نينوى ببلاد الموصل، وقيل ببلاد الروم، ولم يقم إلى الآن الدليل على شىء من ذلك، ولو كان لنا فى معرفة ذلك فائدة دينية لأرشدنا الله إليه كما
قال صلى الله عليه وسلّم: «ما تركت شيئا يقرّبكم إلى الجنة، ويباعدكم عن النار، إلا وقد أعلمتكم به» .(15/127)
(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أي إن هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم، وإيواءهم إلى كهف تلك صفته بحيث تزاور الشمس عنهم طالعة، وتقرضهم غاربة، وإخبارك بقصصهم- كل ذلك من آيات الله الكثيرة فى الكون، الدالة على كمال قدرته، وعلى أن التوحيد هو الدين الحق، وعلى أن الله يكرم أهله.
ثم بين أن هدايتهم إلى التوحيد كانت بعناية الله ولطفه فقال:
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي من يوفّقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحق كأصحاب الكهف، فهو المهتدى الذي أصاب سبيل الحق، وفاز بالحظ الأوفر فى الدارين.
وفى هذا إيماء إلى أن أصحاب الكهف أصابوا الصواب، ووفّقوا لتحقيق ما أنيلوا من نشر الرحمة عليهم وتهيئة المرفق.
(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي ومن يضلله الله لسوء استعداده، وصرف اختياره، إلى غير سبل الهدى والرشاد، فلن تجد له أبدا خليلا ولا حليفا يرشده لإصابة سبل الهداية، ويخلّصه من الضلال، لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفّق من يشاء من عباده، ويخذل من يشاء.
وفى هذا تسلية لرسوله وإرشاد له إلى أنه لا ينبغى له أن يحزن على إدبار قومه عنه، وتكذيبهم إياه، فإن الله لو شاء لهداهم وآمنوا.
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي ولو رأيتهم لظنتهم فى حال يقظة لانفتاح أعينهم وهم نيام، كأنهم ينظرون إلى من أمامهم، ولما للنوم من الحال الخاصة به التي يستبينها الناظر بادىء ذى بداء كاسترخاء المفاصل والأعضاء ولا سيما العينان والوجه.
(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ونقلّب هؤلاء الفتية فى رقدتهم مرة للجنب الأيمن، ومرة للجنب الأيسر، كى ينال روح النسيم جميع أبدانهم، ولا يتأثر ما يلى الأرض منها بطول المكث.(15/128)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي وكلبهم ملق يديه على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين بفناء الكهف كما روى عن ابن عباس، وقيل المراد بالوصيد الباب وأنشدوا:
بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لو شاهدتهم فى رقدتهم التي رقدوها فى الكهف، لأدبرت عنهم هاربا فارا منهم.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي ولملئت نفسك حين اطلاعك عليهم خوفا وفزعا، لأن الله قد ألبسهم هيبة ووقارا كى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه فى الحين الذي أراد أن يجعلهم فيه عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج عليهم من عباده، وليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 22]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)(15/129)
تفسير المفردات
بعثناهم: أي أيقظناهم، لبثتم: أي أقمتم، والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، وأزكى: أجود وأطيب، وليتلطف: أي يتكلف اللطف فى المعاملة، كى لا تقع خصومة تجرّ إلى معرفته، ولا يشعرنّ: أي لا يفعلنّ ما يؤدى إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم، إن يظهروا عليكم: أي إن يطّلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم وأصل العثور السقوط للوجه، يقال عثر عثورا وعثارا: إذا سقط لوجهه، ويقال فى المثل «من سلك الجدد أمن العثار» ، ثم استعمل فى الاطلاع على أمر من غير طلب له، والساعة: يوم القيامة حين يبعث الله الخلائق جميعا للحساب والجزاء، والتنازع: التخاصم، والذين غلبوا على أمرهم: هم رؤساء البلد، لأنهم هم الذين لهم الرأى فى مثل هذا، والمسجد:
معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا نصارى على المشهور، والرجم: القول بالظن ويقال لكل ما يخرص: رجم فيه وحديث مرجوم ومرجّم كما قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم
والغيب: ما غاب عن الإنسان فالمراد أن يرمى الإنسان ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة، كما يقال فلان يرمى بالكلام رميا: أي يتكلم من غير تدبر، والمراد هنا القول بالظن والتخمين، والمراء: المحاجة فيما فيه مرية وتردد، والمراد الظاهر: ما لا تعمّق فيه بألا يكذّبهم فى تعيين العدد، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه، فيجب عدم الجزم به ولا تستفت: أي لا تطلب الفتيا منهم.(15/130)
الإيضاح
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي كما أرقدنا هؤلاء الفتية فى الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا- بعثناهم من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا فى خلقنا.
وليزدادوا بصيرة فى أمرهم الذي هم عليه، من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم العبادة لله الواحد القهار، إذا تبينوا طول الزمان عليهم وهم بهيئتهم حين رقدوا.
(لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟) أي ولتكون عاقبة أمرهم أن يسأل بعضهم بعضا، فيقول قائل منهم لأصحابه: كم لبثتم؟ ذاك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم.
(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي فأجابه الآخرون، فقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ظنا منهم أن ذلك كذلك كان.
وإيضاح هذا أنهم لم يتحققوا مقدار لبثهم، فهم لا يدرون مقدار ذلك اللّبث، أيوم هو أو بعض يوم، لأن لوثة النوم وظواهره لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم، فلم ينظروا إلى الأمارات التي تدل على ذلك المقدار الذي يظنّ، أنه قد كان.
وأكثر المفسرين على أن دخولهم فى الكهف كان أول النهار واستيقاظهم كان آخر النهار.
(قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، بل الله هو الذي يعلمها، وهذا من الأدب البارع فى الرد على الأولين بأحسن أسلوب وأجمل تعبير.
وحين علموا أن الأمر ملتبس عليهم عدلوا إلى الأهم فى أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا:
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي فابعثوا بدراهمكم هذه إلى المدينة وهى طرسوس كما جزم بذلك فخر الدين الرازي.(15/131)
وفى قولهم (هذه) إشارة إلى أن القائل كان قد أحضرها ليناولها بعض أصحابه، وإلى أن التأهب لأسباب المعاش بحمل الدراهم ونحوها لمن خرج من منزله، لا ينافى التوكل على الله كما
جاء فى الحديث «اعقلها وتوكل» .
(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فليبصر أىّ الأطعمة أجود وألذّ فليأتكم بمقدار منه.
(وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي وليترفق فى دخول المدينة، وفى شرائه، وفى إيابه منها، ولا يخبرنّ بمكانكم أحدا من أهلها.
ثم ذكروا تعليل الأمر والنهى السالفين بقولهم:
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي إن الكفار إن علموا بمكانكم ولم تفعلوا ما يريدون منكم، بل ثبتم على إيمانكم، إما أن يقتلوكم رميا بالحجارة، وكان ذلك هو المتبع فى الأزمنة الغابرة فيمن يعلن خلاف ما عليه الجماهير فى الأمور الدينية والسياسية التي لها شأن فى الدولة، وإما أن يعيدوكم إلى ملة آبائكم التي هم مستمسكون بها.
(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي وإن دخلتم فى ملتهم ولو بالإكراه والقسر لن تفوزوا بخير لا فى دنياكم ولا فى آخرتكم، إذ ربما استدرجكم الشيطان إلى أن تستحسنوا ما ستعتنقونه من ذلك الدين الجديد، وتستمرئوه فتستمروا عليه فيكون قد كتب عليكم الشقاء عند ربكم، والخذلان الذي لا خذلان بعده.
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) أي وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم حين رقدوا، ليتساءلوا بينهم فيزدادوا بصيرة بعظيم سلطانه تعالى، ومعرفة حسن دفاع الله عن أوليائه- أعثرنا الفريق الآخر الذين كانوا فى شك من قدرة الله على إحياء الموتى، وفى مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى، ليعلموا أن وعد الله حق، ويوقنوا أن الساعة آتيا لا ريب فيها، إذ لا حجة لمن أنكرها إلا الاستبعاد، ولكن وقوع ذلك الأمر العظيم(15/132)
وعلمهم به، مما يخفف من غلوائهم، ويكبح جماح إنكارهم ويردهم إلى رشدهم.
ذاك أن حال هؤلاء الفتية فى تلك الحقبة الطويلة، وقد حبست عن التصرف نفوسهم، وعطّلت مشاعرهم وحواسهم، وحفظت من التحلل والتفتّت أبدانهم، وبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب، ثم رجعت بعدئذ تلك المشاعر والحواس إلى حالها، وأطلقت النفوس من عقالها، وأرسلت إلى تدبير أبدانها، فرأت الأمور كما كانت، والأعوان هم الأعوان، ولم تنكر شيئا عهدته فى مدينتها، ولم تتذكر حبسها المدى الطويل عن التصرف فى شؤونها- وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم- من واد واحد فى الغرابة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب فى إمكان وقوع الثاني، ولا يبقى بعد ذلك شك فى أن وعد الله حق، وأن الله سيبعث من فى القبور، فيردّ عليهم أرواحهم، ويجازيهم جزاء وفاقا بحسب أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو الحكم العدل، اللطيف الخبير.
(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي وكذلك أطلعنا عليهم بيدروس وقومه حين ينازع بعضهم بعضا فى أمر البعث، فمن مقرّ به، وجاحد له، وقائل تبعث الأرواح دون الأجساد- ففرح الملك وفرحوا بآية الله على البعث، وزال ما بينهم من الخلاف فى أمر القيامة، وحمدوا الله إذا رأوا ما رأوا مما يثبتها، ويزيل كل ريب فيها.
ثم حكى آراء القوم فى شأنهم بعد اطلاعهم عليهم فقال:
(فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي إنهم انقسموا فى شأنهم فريقين، فريق يقول: نسد عليهم باب الكهف ونذرهم حيث هم، وفريق يقول: نبنى عليهم مسجدا يصلى فيه الناس، وقد غلب هذا الفريق الفريق الأول فى الرأى.
وقوله (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة من كلامه تعالى ردا للخائضين فى أمرهم(15/133)
ممن أعثروا عليهم، أو ممن كان فى عهده صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب، فى بيان أنسابهم وأسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم.
وقد ذكر العلماء أن اتخاذ القبور مساجد منهىّ عنه أشد النهى حتى ذكر ابن حجر فى كتابه الزواجر أنه من الكبائر، لما روى فى صحيح الأخبار من النهى عن ذلك،
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسّرج» وزاد مسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فإنى أنها كم عن ذلك»
وروى الشيخان والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله تعالى اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
وروى أحمد والشيخان والنسائي قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق يوم القيامة» .
وروى أحمد والطبراني: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد» .
إلى نحو ذلك من الآثار الصحيحة، فليعتبر المسلمون اليوم بهذه الأخبار التي لا مرية فى صحتها، وليقلعوا عما هم عليه من اتخاذ المساجد فى أضرحة الأولياء والصالحين والتبرك بها، والتمسح بأعتابها، وليعلموا أن هذه وثنية مقنّعة، وعود إلى عبادة الأوثان والأصنام على صور مختلفة، والعبرة بالجوهر واللب، لا بالعرض الظاهر، فذلك إشراك بالله فى ربوبيته وعبادته، وقد حاربه الدين أشد المحاربة، ونعى على المشركين ما كانوا يفعلون.
اللهم ألهم المسلمين رشدهم، وثبتهم فى أمر دينهم، ولا تجعلهم يحذون حذو من قبلهم حذو القذّة بالقذة، وأرجعهم إلى مثل ما كان يفعله المسلمون فى الصدر الأول(15/134)
وما بعده، فرجاله هم الأسوة، وقد صح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما وجد قبر دانيال فى عهده بالعراق أمر أن يسوّى بالأرض، وأن تدفن تلك الرّقعة التي وجدوها عنده وفيها شىء من الملاحم وغيرها من الأخبار.
ولما ذكر سبحانه القصة ونزاع المتخاصمين فيما بينهم- شرع يقص علينا ما دار فى عهد النبي صلى الله عليه وسلّم من الخلاف فى عدد أصحاب الكهف فقال:
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي سيقول بعض الخائضين من أهل الكتاب ذلك، فقد روى أن نصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى عدد أهل الكهف، فقالت الملكانية (أصحاب الملك) : هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وروى هذا عن ابن عباس، وهو الحق بدليل أنه تعالى حكم على القولين السابقين بأنهما رجم بالغيب، فأرشد ذلك إلى أن الحال فى الأخير بخلافه، وأنهم إنما قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فى هذا إرشاد لنا إلى أن الأحسن فى مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض فى مثل ذلك بلا علم، فإن اطلعنا على أمر قلنا به، وإلا توقّفنا ولم نجزم بشىء.
(ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس. روى قتادة عن ابن عباس أنه قال: أنا من القليل الذي استثنى الله عزّ وجلّ، كانوا سبعة سوى الكلب، ولم يرد فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم شىء فى ذلك.
وفى هذا دلالة على أن المهمّ ليس هو معرفة العدد، بل المهمّ الاعتبار بذلك القصص، وبما يكون نافعا لعقولنا وتطهير أخلاقنا ورقينا فى حياتينا الدنيوية والأخروية.(15/135)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وبعد أن ذكر سبحانه هذا القصص، نهى رسوله صلى الله عليه وسلّم عن شيئين:
المراء فى أمرهم، والاستفتاء فى شأنهم فقال:
(فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي فلا تجادل فى شأن الفتية إلا جدلا سهلا ليّنا، وقص عليهم ما جاء فى الكتاب الكريم دون تكذيب لهم فى تعيين العدد، ولا تجهيل لهم فى الحديث، إذ لا يترتب على ذلك كبير فائدة، لأن المقصد من القصة هو العظة والاعتبار، ومعرفة أن البعث حاصل لا محالة، وهذا لا يتوقف على عدد معين، إلى أن ذلك مما يخلّ بمكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها.
ونحو الآية قوله: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» .
(وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي ولا تستفت النصارى فى شأنهم، فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب من غير استناد إلى دليل قاطع، ولا نص صريح، وقد جاءك ربك بالحق الذي لا مرية فيه، فهو الحاكم المقدّم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال السالفة.
وفى الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب فى شىء من العلم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
المعنى الجملي
جاءت هاتان الآيتان إرشادا وتأديبا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلّم، يعلمه بأنه إذا أراد أن يخبر عن شىء سيفعله فى مستأنف الأيام، أن يقرن قوله بمشيئة علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون.
وجاءتا معترضتين أثناء القصة لما تضمنتاه من تعليم عباده تفويض الأمور كلها إليه، وبيان أنه لا يحدث فى ملكه إلا ما يشاء.(15/136)
روى «أنهما نزلتا حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين، فقال عليه الصلاة والسلام: غدا أخبركم، ولم يستن (لم يقل إن شاء الله) فأبطأ عليه الوحى خمسة عشر يوما، فشق ذلك عليه وكذبته قريش.
الإيضاح
(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي ولا تقولن أيها الرسول لشىء إنى سأفعل ذلك غدا إلا أن تقول: إن شاء الله، ذاك أنه ربما مات المرء قبل مجىء الغد، أو ربما عاقه عائق عن فعله، فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذبا فى ذلك الوعد ونفر الناس منه.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي واذكر مشيئة ربك إذا فرط منك نسيان ثم نذكرت ذلك، وهذا أمر بالتدارك حين التذكر، سواء أطال الفصل أم قصر.
(وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي وقل عسى أن يوفّقنى ربى لشىء أقرب إرشادا للناس، وأظهر حجة من نبأ أهل الكهف.
وقد حقق الله له ذلك، فآتاه من الآيات ما هو أعظم من ذلك، كقصص الأنبياء مع أممهم على توإلى العصور ومر الأيام.
وخلاصة ذلك- أطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدك إليه خيرا ومنفعة فى ضمن ما ألقى إليك من الأوامر والنواهي، وقد استجاب الله دعاءه، فهداه فيما أنزل عليه إلى ما هو خير منفعة، وأجدى فائدة للمسلمين فى دنياهم وآخرتهم، وآتاهم من الخير العميم ما جعلهم به خير أمة أخرجت للناس.
ثم بين سبحانه ما أجمل فى قوله: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» فقال:(15/137)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
[سورة الكهف (18) : الآيات 25 الى 26]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
الإيضاح
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي ولبثوا فى الكهف حين ضربنا على آذانهم ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علّموا قومك السؤال عن شأنهم، وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك.
ولا شك أن فى هذا البيان معجزة لرسوله النبي الأمى الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يدرس الحساب ولا الهندسة ولا الفلك، فمن أين له أن كل مائة سنة شمسية تزيد ثلاث سنين قمرية، وكل ثلاث وثلاثين سنة شمسية تزيد سنة قمرية، وكل سنة شمسية تزيد نحو أحد عشر يوما على السنة القمرية؟
لا شك أنه قد أعلمه اللطيف الخبير بما أوحاه إليه، وهداه لأقرب من هذا رشدا، وهو الذي جعله يلفت الأنظار إلى علم ما على الأرض زينة لها كضوء الشمس والقمر على وجهها، وما نتج عن ذلك الضوء من بهجة الأرض وزينتها فلولا اختلاف الفصول لم يكن للأرض زينة، ولا اختلاف للفصول إلا بتقلب أحوال الشمس وطلوعها من حيث لا تمسى، فما من حيوان ولا نبات إلا أسّ حياته ضوء الشمس الذي أرسله الله إلى الأرض، كما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلّم ليهدينا إلى نور العلم ويقول لنا: إن النظر فيما على الأرض من زينة أقرب رشدا من قصص الأولين، وحكايات الغابرين.
فكم فى العوالم المحيطة بكم من خوارق، فإياكم أن تذروها ابتغاء ما يقع على أيدى أنبيائكم وأوليائكم. فإنى قد أرسلت الأنبياء ليرشدوكم إلى ملكى وما فى خلقى(15/138)
من عجائب، وما الأنبياء والأولياء إلا بعض خلقى «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
ثم أكد أن المدة المضروبة على آذانهم هى هذه المدة فقال:
(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي قل الله أعلم منكم بهم، وقد أخبر بمدة لبثهم، فهو الحق الذي لا يحوم حوله شك.
وفائدة تأخير بيانها الدلالة على أنهم تنازعوا فيها أيضا كما تنازعوا فى العدد، وعلى أن هذا البيان من الغيب الذي أخبر الله به نبيه ليكون معجزة له، وجاء قوله «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» تذييلا لسابقه، ليكون محاكيا قوله حكاية عددهم «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ» .
ثم أشار إلى اختصاصه بعلم ما لبثوا دون غيره فقال:
(لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب فيهما، وخفى من أحوال أهلهما، لا يعزب عنه علم شىء منه، فسلّموا له علم ما لبثت الفتية فى الكهف، وإذا علم الخفي فيهما فهو بعلم غيره أدرى.
ومن ذلك العلم الغائب على كثير من العقول حساب السنة الشمسية والقمرية، فقد غيّبه الله عن بعض الناس، ولم يطلع عليه إلا العارفين بحساب الأفلاك، ومن ثم يعجبون من أمر نبيهم، ويعلمون أن هذا مبدأ زينة الأرض وزخرفها.
(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هذا أسلوب فى اللغة يدل على التعجب والمبالغة فى الأمر الذي تتحدث بشأنه، أي ما أبصر الله تعالى بكل موجود، وأسمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى عليه شىء من ذلك، وهذا أمر عظيم من شأنه أن يتعجّب منه.
وقد ورد مثل هذا
فى الحديث: «ما أحلمك عمن عصاك، وأقربك ممن دعاك، وأعطفك على من سألك» .
(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ) أي ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم- ولىّ يلى تدبير أمورهم وتصريفهم فيما هم فيه مصرّفون.(15/139)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
(وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) اى إنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك، تعالى الله وتقدست أسماؤه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
تفسير المفردات
لا مبدل: أي لا مغيّر، لكلماته أي لأحكامها، فلا يستطيع أحد نسخ أحكام ما جاء فى كتابه، ملتحدا: أي ملجأ تعدل إليه إذا ألمّت بك ملمّة، واصبر نفسك:
أي احبسها وثبّتها، بالغداة والعشى: أي فى طرفى النهار، وخصهما بالذكر، لأنهما محل الغفلة، وفيهما يشتغل الناس بأمور دنياهم، وجهه: أي رضاه وطاعته لأن من رضى(15/140)
عن شخص يقبل عليه، ومن غضب عليه يعرض عنه، ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا والمراد لا تحتقرهم وتصرف النظر عنهم إلى غيرهم لرثاثة منظرهم، تريد زينة الحياة الدنيا: أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الثراء، أغفلنا قلبه: أي جعلناه غافلا، فرطا: أي تقريطا وتضييعا لما يجب عليه أن يتّبعه من أمر الدين، وأعتدنا: أي أعددنا وهيأنا، والسرادق:
لفظ فارسى معرّب يزاد به الفسطاط (الخيمة) شبه به ما يحيط بهم من لهب النار المنتشر منها فى سائر الجهات، المهل: دردىّ الزيت أو ما أذيب من المعادن كالرّصاص والنّحاس، يشوى الوجوه: أي ينضجها إذا قدّم ليشرب، لشدة حره، ومرتفقا: أي متكأ يقال بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرق يده، وجنات عدن: أي جنات إقامة واستقرار يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه واستقر، ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه، والأساور: واحدها سوار، والسندس: رقيق الديباج واحده سندسة وهو فارسى معرّب، والإستبرق: ما غلظ منه وهو رومى معرب، والأرائك واحدها أريكة- سرير عليه حجلة (ناموسية) .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص أهل الكهف ودل اشتمال القرآن عليه على أنه وحي من علام الغيوب- أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه وتلاوته، وألا يكترث بقول القائلين له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ثم ذكر ما يلحق الكافرين من النكال والوبال يوم القيامة، وما ينال المتقين من النعيم المقيم كفاء ما عملوا من صالح الأعمال.
الإيضاح
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي واتل الكتاب الذي أوحى إليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من أمر ونهى، وإن أحدا لا يستطيع أن يغيّر ما فيه من وعيد لأهل معاصيه، ومن وعد لأهل(15/141)
طاعته، فإن أنت لم تتبعه ولم تأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد به المخالفين حدوده- فلن تجد موئلا من دونه، ولا ملجأ تلجأ إليه، إذ قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد على الهرب من أمر أراده به.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي احبس نفسك وثبّتها مع فقراء الصحابة كعمار بن ياسر وصهيب وبلال وابن مسعود وأضرابهم ممن يدعون ربهم بالغداة والعشى بالتسبيح وصالح الأعمال ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون عرضا من أعراض الدنيا ولا شيئا من لذاتها ونعيمها.
روى «أن عيينة بن حصن الفزاري أنى النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سامان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقّه ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتّبعك، أو اجعل لهم مجلسا، ولنا مجلسا، فنزلت الآية» .
وعن أبى سعيد وأبى هريرة قالا: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسى معهم» .
ونحو الآية قوله: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» .
ومقال هؤلاء شبيه بمقالة قوم نوح: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» :
ثم أمره سبحانه بمراقبة أحوالهم فقال:
(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا تصرف بصرك ونفسك عنهم، رغبة فى مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون.
وخلاصة ذلك- النهى عن احتقارهم، وصرف النظر عنهم إلى غيرهم، لسوء(15/142)
حالهم وقبح يزّتهم،
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لما نزلت الآية: الحمد لله الذي جعل فى أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معه.
ثم أكد هذا النهى بقوله:
(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي ولا تطع فى تنحية الفقراء عن مجلسك من جعلنا قلبه غافلا عن ذكر الله، لسوء استعداده، واتباع شهواته، وإسرافه فى ذلك غاية الإسراف، وتدسيته نفسه، حتى ران الكفر والفسوق والعصيان على قلبه، وتمادى فى اجتراح الآثام والأوزار.
وفى ذلك تنبيه إلى أن الباعث لهم على استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله، والعمل على ما يقرّب منه، وشغلهم بالأمور الحسية حتى خفى عليهم أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد وزخرف الحياة من اللباس والطعام والشرف.
وبعد أن أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن لا يلتفت إلى قول أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت أولئك الفقراء آمنا بك- أمره أن يقول لهم ولغيرهم على طريق التهديد والوعيد: هذا هو الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وقد أشار إلى ذلك بقوله:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي قل أيها الرسول لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر، واتبعوا أهواءهم: هذا الذي أوحى إلىّ هو الحق من عند ربكم، وهو الذي يجب عليكم اتباعه والعمل به، فمن شاء أن يؤمن به ويدخل فى غمار المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يصلح أن يكون معذرة له فليفعل، ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فأمره إلى الله، ولست بطارد لأجل أهوائكم من كان للحق متّبعا، وبالله وبما أنزل علىّ مؤمنا.
وخلاصة ذلك- إننى فى غنى عن متابعتكم، وإننى لا أبالى بكم ولا بإيمانكم، وأمر ذلك إليكم، وبيد الله التوفيق والخذلان، والهوى والضلال، وهو لا ينتفع بإيمان(15/143)
المؤمنين، ولا يضره كفر الكافرين كما قال: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» .
ولما هدد السامعين بأن يختاروا لأنفسهم ما يجدونه غدا عند الله- أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والمعاصي، والوعد على الأعمال الصالحة، وبدأ بالأول فقال:
(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي إنا قد أعددنا لمن ظلم نفسه وأنف من قبول الحق، ولم يؤمن بما جاء به الرسول- نارا يحيط بهم لهيبها المستعرة من كل جانب كما يحيط السرادق بمن حل فيه، فلا مخلص منه، ولا ملجأ إلى غيره (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة وهم فى النار، فيطلبوا الماء لشدة ما هم فيه من العطش لحر جهنم كما قال فى سورة الأعراف حكاية عنهم: «أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله» يؤت لهم بماء غليظ كدردىّ الزيت، وإذا قرب إليهم للشرب سقطت جلود وجوههم ونضجت من شدة حره.
روى أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال «المهل: كعكر الزيت، فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» ،
وعن ابن عباس قال: أسود كعكر الزيت (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي ما أقبح هذا الشراب الذي هو كالمهل، فهو لا يطفىء غلّة، ولا يسكّن حرارة الفؤاد، بل يزيد فيها إلى أقصى غاية، وما أسوا هذه النار منزلا ومرتفقا، وجاء فى الآية الأخرى: «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» ثم ثنّى بذكر السعداء فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فالله لا يضيع أجرهم على ما أحسنوا من الأعمال، ولا يظلمهم على ذلك نفيرا ولا قطميرا.(15/144)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
ثم بين ما أعد لهم من النعيم بقوله:
(1) (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي إنه لهم جنات يقيمون فيها تجرى من تحت غرفها الأنهار.
(2) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أي يلبسون فيها أساور من ذهب تكون حلية لهم،
وعن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما،
وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، وجاء فى آية أخرى من فضة، وفى أخرى من ذهب ولؤلؤ فيعلم من هذا أنهم يحلون بالأساور الثلاثة، فيكون فى يد الواحد منهم سوار من ذهب وآخر من فضة وآخر من لؤلؤ.
(3) (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ويلبسون رقيق الحرير وغليظه مما نسج من سلوك الذهب، وهذا لباس المترفين فى الدنيا، ومنتهى ما يكون لأهل النعيم.
واختير اللون الأخضر، لأنه أرفق بالأبصار، ومن ثم جعله الله لون النبات والأشجار، وجعل لون السماء الزرقة، لأنه نافع لأبصار الحيوان أيضا، وقد قالوا:
ثلاثة مذهبة للحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن.
(4) (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي يتكئون فيها على سرر مزدانة بالستور، وفى هذا دليل على منتهى الراحة والنعيم، كما يكون ذلك فى الدنيا.
(نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة لهم جزاء وفاقا على جميل أعمالهم، وحسنت منزلا ومقيلا.
ونحو الآية قوله: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً. خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(15/145)
تفسير المفردات
الجنة: البستان، سميت بذلك لا جتنان أرضها واستتارها بظل الشجر، وكل مادة (ج ن ن) تفيد الخفاء والاستتار كالجنين والجن والمجنون لاستتار عقله وجن الليل: أي أظلم إلى نحو ذلك، أعناب: أي كروم منوعة، وحففناهما بنخل: أي جعلنا النخل محيطا بهما مطبقا بحفافيهما: أي جانبيهما، يقال حفّه القوم: أي(15/146)
طافوا به، ومنه قوله «حافّين من حول العرش» وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله، أكلها: أي ثمرها، ولم تظلم: أي لم تنقص، والنهر لغة فى النهر: وهو مجرى الماء العذب، ثمر: أي أنواع من المال يقال ثمر فلان ماله وأثمره: إذا نماه. قال الحرث ابن كلدة:
ولقد رأيت معاشرا ... قد أثمروا مالا وولدا
والصاحب: المصاحب لك، يحاوره: أي يجادله ويراجعه الكلام بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله والبعث، والمراد من النفر الخدم والحشم والأعوان، أن تبيد: أي تفنى وتهلك، قائمة: أي كائنة متحققة، ومنقلبا: أي مرجعا وعاقبة، سواك: أي عدلك وكملك إنسانا، لكنا هو الله، أصل التركيب لكن أنا هو الله ربى (دخله نقل وحذف) لولا: حرف يفيد الحث على الشيء والتوبيخ على تركه، ما شاء الله: أي ماشاء الله كائن، حسبانا من السماء: أي مطرا عظيما يقلع زرعها وأشجارها، والصعيد: وجه الأرض وزلقا: أي تصير بحيث تزلق عليها الرجل والمراد أنها تصير ترابا أملس لا تثبت فيه قدم، والغور: الغائر فى الأرض الغائص فيها، طلبا: أي عملا وحركة لرده، وأحيط بثمره: أي أهلكت أمواله، يقال أحاط به العدو: إذا استولى عليه وغلبه، ثم استعمل فى كل إهلاك، ويقلب كفيه، هذا أسلوب فى اللغة يفيد الندامة والحسرة، فإن من تعظم حسرته يصفق بإحدى يديه على الأخرى متأسفا متلهفا، خاوية: أي ساقطة، يقال خوت الدار وخوت وخويت خيا وخويا: تهدمت وخلت من أهلها، والعروش: واحدها عرش وهى الأعمدة التي توضع عليها الكروم، منتصرا:
أي ممتنعا بقوة عن انتقام الله، عقبا: أي عاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله نبيه بصبر نفسه مع فقراء المؤمنين، وعدم طاعة أولئك الأغنياء من المشركين الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلّم طرد هؤلاء الصعاليك، وأن(15/147)
يعين لهم مجلسا وللسادة مجلسا آخر حتى لا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة، وحتى لا يقال إن السادة ومواليهم يجتمعون فى صعيد واحد، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند، وفى ذلك امتهان لكبريائهم وخفض من عزتهم- قفى على ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغى أن يكون موضع فخار، لأنه ظل زائل، وأنه كثيرا ما يصير الفقير غنيا والغنى فقيرا، وإنما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر، وعمدة التفاضل، هو طاعة الله وعبادته والعمل على ما يرضيه فى دار الكرامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإيضاح
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أي واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى- مثلا هو مثل رجلين جعلنا لأحدهما بستانين من كروم العنب، وأحطناهما بنخل، وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا.
وخلاصة ذلك- إن أرضه جمعت القوت والفواكه، وهى متواصلة متشابكة، فلها منظر ورواء حسن ووضع أنيق يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر.
روى أن أخوين من بنى إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا، وأنفق المؤمن ما ورثه فى وجوه الخير وطاعة الله وآل أمرهما إلى ما قصه الله علينا فى كتابه.
وسواء أصحت الرواية أم لم تصح، فإن ضرب المثل لا يتوقف على صحتها.
وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، من قبل أن الكفار مع تقلبهم فى النعيم قد عصوا ربهم، وأن المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه.
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي كلتا الجنتين أخرجت ثمرها(15/148)
ولم تنقص منه شيئا فى سائر الأعوام على خلاف ما يعهد فى الكروم والأشجار من أنها تكثر غلتها أعواما وتقل أعواما أخرى.
(وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي وشققنا وسط الجنتين نهرا كبيرا تتفرع منه عدة جداول، ليدوم سقيهما، ويزيد بهاؤهما وتكثر غلتهما.
(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي وكان لصاحب الجنتين أموال أخرى غيرهما من ذهب وفضة ثمرها بما ادخره من غلات الجنتين ومن تجارات أخرى.
وخلاصة ذلك- إنه سبحانه أنعم عليه بخيرات الدنيا صامتها وناطقها، ثاغيها وراغيها، وكان له مزارع يستخدم فيها أعوانه وخدمه ولا يستعصى عليه شىء من مسرات الدنيا ومباهجها، ولذاتها ونعيمها.
وبعد أن تم له الأمر وقعد على سنام العز والكبرياء، داخله الزّهو والخيلاء.
(فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) أي فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره وراجعه الحديث، مذكرا له بالإيمان بالله والبعث والقيامة: أنا أكثر منك مالا كما ترى من جناتى وزروعى المختلفة، وأعز عشيرة ورهطا تقوم بالذبّ عنى ودفع خصومتى، وتنفر معى عند الحاجة إلى ذلك.
ثم زاد فخرا على صاحبه المسلم وأراه عيانا ما يتمتع به من المناظر البهيجة فى تلك الجنان التي لا تفنى، وذلك ما أخبر عنه سبحانه بقوله:
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي ودخل هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب وأشجار ونخيل، ومعه صاحبه، هاتين الجنتين وطاف به فيهما مفاخرا وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ولا تخرب- كما قال (وهو شاك فى المعاد إلى الله والبعث والنشور) ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان فى كل ذلك ظالما لنفسه، إذ وضع الشيء فى غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرا لتلك(15/149)
النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرا به، منكرا لما جاء به الوحى، وأقرته جميع الشرائع.
وخلاصة ذلك- إنه لحقه الخسار من وجهين.
(1) ظنه أن تلك الجنة لا تهلك ولا تبيد مدى الحياة.
(2) ظنه أن يوم القيامة لن يكون.
ثم تمنى أمنية أخرى كان فى شك منها فقال:
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي ولئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لى هناك أحسن من هذا الحظ عند ربى، والذي جرّأه على هذا الطمع وعلى تلك اليمين الفاجرة- اعتقاده أن الله إنما حباه بما حباه به فى الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن الكافر «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» .
وخلاصة ذلك- إنه لم يعطنى الجنة فى الدنيا إلا ليعطينى فى الآخرة ما هو أفضل منها قال ذلك طمعا وتمنيا على الله، وادعاء للكرامة عنده.
ثم ذكر سبحانه جواب المؤمن له فقال:
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟) أي قال له صاحبه المؤمن واعظا وزاجرا عما هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب؟ إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثم يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرا سويا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة- فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرة أخرى.
والخلاصة- كيف تجحدون ربكم، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جلية(15/150)
يعلمها كل أحد من نفسه، فما من أحد إلا يعلم أنه كان معدوما ثم وجد، وليس وجوده من نفسه. ولا مستندا إلى شىء من المخلوقات، لأنها مثله، وقد أشار إلى ذلك بقوله:
(لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بالوحدانية والربوبية وأقول هو الله ربى.
(وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) فهو المعبود وحده لا شريك له.
وفى هذا تعريض بأن صاحبه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه فى هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك.
ثم زاد فى عظة صاحبه فقال له:
(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي وهلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها- حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز، وبأن كل خير بمشيئة الله وفضله، وهلا قلت: لا قوة إلا بالله، إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده.
وبعد أن نصح الكافر بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله وكبير سلطانه- أجابه عن افتخاره بالمال والنفس ورد على قوله: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا فقال:
(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي إن ترنى أيها الرجل أفقر منك فإنى أرجو الله أن يقلب الآية، ويجعل ما بي بك، ويرزقنى الغنى، ويرزقنى لإيمانى جنة خيرا من جنتك، ويسلبك بكفرك نعمته، ويخرب جنتك، بأن يرسل عليها مطرا من السماء يقلع زروعها وأشجارها، أو يجعل ماءها يغور فى الأرض، فلن تطيق أن تدركه بعد غوره بطلبك إياه.(15/151)
وخلاصة ذلك- إن المؤمن رجا هلاك جنة صاحبه الكافر إما باقة سماوية أو بآفة أرضية وهى غور مائها، وكلناهما تتلف الشجر والزرع والكرم.
ثم أخبر سبحانه بأنه قد حقق ما قدره هذا المؤمن فقال:
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) أي وأحاطت الجوائح بثمار جنته التي كان يقول فيها: ما أظن أن تبيد هذه أبدا- فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ضياع نفقته التي أنفقها فى عمارتها حين رآها ساقطة على عروشها، ويتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا.
ولخلاصة- إنه لما أنفق عمره فى تحصيل الدنيا وأعرض عن الدين، ثم ضاعت منه الدنيا حرم الدين والدنيا معا، ومن ثم عظمت حسرته وقال: ليتنى لم أشرك بربي أحدا.
(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولم تكن له عشيرة ممن افتخر بهم واستعز ينصرونه ويقدرون على دفع الجوائح عنه أو رد المهلك له، من دون الله، فإن الله هو الذي يقدر وحده على نصره، وما كان منتصرا بقوته عن انتقام الله منه بإهلاك جنته.
وخلاصته- إنه لا يقدر على نصره إلا الله، ولا ينصره غيره من عشيرة وولد، وخدم وحشم وأعوان، كما لا يقدر أن ينتصر لنفسه.
ثم أكد الجملة السالفة وقرر المراد منها بقوله:
(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي فى مثل هذه الشدائد والمحن- النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره.
(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي هو خير جزاء وخير عاقبة لأوليائه، فينتقم لهم منهم، ويفوض أمرهم إليهم.
وبعد أن ضرب المثل لدنيا هؤلاء الكافرين التي أبطرتهم، وكانت سبب(15/152)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
شقائهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا- ضرب مثلا لدار الدنيا عامة فى سرعة فنائها وعدم دوام نعيمها فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
تفسير المفردات
المثل: الصفة، وهشيما: أي يابسا متفتتا، تذروه: أي تنثره وتفرقه، ومقتدرا: أي كامل القدرة، والباقيات الصالحات: هى الأعمال الصالحة كلها، وثوابا: أي جزاء.
المعنى الجملي
أخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل وما هى يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة» .
وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا «خذوا جنّتكم، قيل يا رسول الله من أىّ عدو قد حضر، قال بل جنّتكم من النار قول سبحان الله، والحمد لله،(15/153)
ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنبّات، وهن الباقيات الصالحات» .
الإيضاح
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) شبّهت الدنيا فى نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال بحال نبات اخضرّ والتف وأزهر، ثم صار هشيما متفتّتا تنثره الرياح ذات اليمين وذات الشمال ومن ثم لا يغترّنّ أهلها بها، ولا يفخرنّ ذو الأموال الكثيرة بأمواله، ولا يستكبرنّ بها على غيره، فإنما هى ظل زائل،
وفى الحديث «الدنيا كسوق قام ثم انفضّ» .
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي وكان الله ذو الكمال والجلال قادرا على كل شىء إنشاء وإفناء وإعادة، فهو يوجد الأشياء ثم ينمّيها ثم يفنيها، وما حال الدنيا إلا هذه الحال، فهى تظهر أولا ناضرة زاهرة ثم تتزايد قليلا قليلا، ثم تأخذ فى الانحطاط إلى أن تصير إلى الهلاك والفناء، فلا ينبغى للعاقل أن يبتهج بما يحوزه منها أو يفخر به أو يصعّر خذه استكبارا.
ثم بين سبحانه ما كانوا يفتخرون به من محسّنات الدنيا إثر بيان حالها بما مرّ من المثل فقال:
(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الأموال والبنين التي يفخر بها عيينة والأقرع وأضرابهم هى من زينة هذه الحياة، وليسا من زاد الآخرة، وقد علمت أن الدنيا سريعة الفناء، فلا ينبغى التفاخر بها.
وقدم المال على البنين مع كونهم أعز منه لدى جميع الناس- من قبل أن الزينة به أتم، ولأنه يمد الآباء والأبناء فى كل حين، ولأنه مناط بقاء النفس والأولاد، وبذا يبقى النوع الإنسانى، ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم، ولأنه زينة بدونهم، دون العكس، فإن من له بنون ولا مال له فهو فى بؤس وشقاء.(15/154)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
روى عن على كرم الله وجهه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام.
ثم بين ما ينبغى التفاخر به فقال.
(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا) أي وأعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وهى أفعال الطاعات كالصلات والصدقات والجهاد فى سبيل الله ومساعدة البائسين وذوى الحاجات- خير عند ربك من المال والبنين جزاء، وخير أملا، إذ ينال بها صاحبها فى الآخرة ما كان يؤمله فى الدنيا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
تفسير المفردات
بارزة أي ظاهرة، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا من الجبال والأشجار، وحشرناهم: أي سقناهم إلى الموقف من كل أوب، فلم نغادر: أي لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر وهو ترك الوفاء، وعرضوا: أي أحضروا لفصل القضاء، صفا: أي مصطفين، موعدا: أي وقتا ننجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه، ووضع الكتاب: أي جعل كتاب كل عامل فى يد صاحبه حين الحساب، مشفقين: أي خائفين، والويل: الهلاك، ويا ويلتنا: أي يا هلاك أقبل فهذا أوانك، أحصاها: أي(15/155)
عدّها، حاضرا، أي مسطورا فى كتاب كل منهم، ولا يظلم ربك: أي لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن الدنيا ظل زائل، وأنه لا ينبغى أن يغتر أحد بزخرفها ونعيمها، بل يجب أن يكون موضع التفاخر العمل الصالح الذي فيه رضا الله وانتظار مثوبته فى جنات تجرى من تحتها الأنهار- أردف ذلك ذكر أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من أخطار وأهوال، وأنه لا ينجى منها إلا اتباع ما أمر به الدين وترك ما نهى عنه مما جاء على لسان الأنبياء والمرسلين، لا الأموال التي يفتخر بها المشركون على المؤمنين.
الإيضاح
ذكر سبحانه من أحوال يوم القيامة أمورا:
(1) (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر أيها الرسول يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيّرها فى الجو كالسحاب ونجعلها هباء منثورا كما قال «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّى نسفا. فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» أي تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض سطحا مستويا لا عوج فيه ولا وادي ولا جبل، وقال: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» .
(2) (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي وترى أيها الرائي جميع جوانب الأرض بادية ظاهرة، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا شىء من الجبال ولا شىء من الأشجار فليس عليها ما يسترها، فيكون جميع الخلق ضاحين لربهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم وهذا هو المراد من قوله: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.(15/156)
(3)
(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب بعد أن أقمناهم من قبورهم، فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا كما قال: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» وقال: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «يحشر الناس حفاة عراة غرلا (الغرلة القلفة) فقلت: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال الأمر أشد من أن يهمّهم ذلك» زاد النسائي فى رواية «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .
ولما ذكر سبحانه حشر الخلق بين كيفية عرضهم على ربهم فقال:
(4) َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
أي يعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا كما قال: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» ويقال لهم على طريق التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة فرادى حفاة عراة لا شىء معكم من المال والولد.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» .
وفى هذا زجر لأولئك المشركين المنكرين للبعث الذين يفخرون فى الدنيا على الفقراء من المؤمنين بالأموال والأنصار.
أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى ينادى يوم القيامة: يا عبادى أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين، أحضروا حجتكم. ويسّروا جوابكم، فإنكم مسئولون محاسبون، يا ملائكتى أقيموا عبادى صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» .
وفى الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين فى صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر»
والحديث له بقية.(15/157)
َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)
أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ولا هو كائن، وكنتم مع الافتخار على المؤمنين بالأموال تنكرونه، فالآن قد استبان لكم أنه حق، وأنه لا مال ولا ولد بين أيديكم.
(5) (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي ووضع كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير فى يد صاحب اليمين والشمال، فترى المجرمين جميعا نادمين على ما فيه من قبائح أعمالهم، وسىء أفعالهم وأقوالهم، وظهور ذلك لأهل الموقف، خائفين من عقاب الحق، والفضيحة عند الخلق.
(وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟) أي ويقولون حين وقوفهم على ما فى تضاعيفه: يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله، ما لهذا الكتاب لا يترك هنة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعدّها، فهو محيط بجميع ما كسبته يد الإنسان.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» وقوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وما مثل النفس إلا مثل الزجاجة التي يضعها المصور فى صندوق آلة التصوير، فكل صورة تقع عليها تلتقطها وتحفظها من ضار ونافع، فإذا كشف الغطاء أبصرنا كل ما عملنا ورأينا صوره كما هى من حسن وسىء، وفضيلة ورذيلة، فتفعل فى عقولنا فعلها دون كلام ولا كتابة، وكل امرئ يراها يقرؤها والناس فيها سواء.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مثبتا فى كتابهم، خيرا كان أو شرا كما قال:
«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» الآية. وقال: «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» .
(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) من خلقه، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب(15/158)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
من يشاء بحكمته وعدله، فإنه سبحانه وعد بإثابة المطيع، وتعذيب العاصي، بمقدار جرمه من غير زيادة، وإنه قد يغفر له ما سوى الكفر، ومن ثم لا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه، ولا يزيد فى عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه ولم يرتضه.
ونحو الآية قوله «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» وقوله «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» .
وخلاصة ذلك- إن الجزاء نتيجة العمل، والعمل مرسوم فى قوالب حافظة له، فليس يمكن رفعه ولا دفعه، ولا يكون الجزاء عليه ظلما، كما لا تعد التّخمة بعد الأكل الكثير ظلما، ولا المرض بعد الشرب من الماء الآسن المملوء بالجراثيم والأدران ظلما، وإنما تلك مسببات لأسباب كل عاقل يعلم أنها نتيجة حتمية لها.
[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)(15/159)
تفسير المفردات
فسق: خرج يقال فسق الرطب إذا خرج عن قشره، أفتتخذونه، الهمزة فى مثل هذا تفيد الإنكار والتعجب ممن يفعل مثل ذلك، والذرية: الأولاد وبذلك قال جمع من العلماء، منهم الضحاك والأعمش والشعبي، وقيل المراد بهم الأتباع من الشياطين، والعدو يطلق على الواحد والكثير كما قال: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» وقال: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» والعضد: أصله ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين كاليد ونحوها وهو المراد هنا، فدعوهم. أي فاستغاثوا بهم، فلم يستجيبوا لهم: أي فلم يغيثوهم، والموبق: مكان الوبوق: أي الهلاك وهو النار يقال وبق وبوقا كوثب وثوبا: إذا هلك، مواقعوها: أي داخلوها وواقعون فيها، ومصرفا: أي مكانا ينصرفون إليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه رده على أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بأموالهم وأعوانهم وقالوا كيف نجلس مع هؤلاء ونحن من أنساب شريفة وهم من أنساب وضيعة، ونحن أغنياء وهم فقراء؟ - قفّى على ذلك بذكر عصيان إبليس لأمره تعالى بالسجود لآدم، لأن الذي حداه إلى ذلك هو كبره وافتخاره عليه بأصله ونسبه إذ قال «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ، فأنا أشرف منه أصلا ونسبا فكيف أسجد له؟ تنبيها إلى أن هذه الطريقة السالفة هى بعينها طريقة إبليس، ثم حذر سبحانه منها فى قوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقد تكرر ذكر هذه القصة فى مواضع من الكتاب الكريم، وهى فى كل موضع سيقت لفائدة غير ما جاءت له فى المواضع الأخرى، على اختلاف أساليبها وعباراتها، ولا غرو فهى من نسج العليم الخبير.(15/160)
الإيضاح
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) تقدم أن قلنا فى سورة البقرة: إن الملائكة عالم من العوالم الغيبية لا نعرف حقيقتهم، والقرآن الكريم يرشد إلى أنهم أصناف، لكل صنف عمل، وقد جاء على لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إليهم، كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين كما
ورد فى الحديث «إن للشيطان امّة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإبعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإبعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، وليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثم قرأ: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» .
الملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس على وجه لا نعرف حقيقته، بل نؤمن به كما ورد، ولا نزيد عليه شيئا. وكلنا نشعر بأنا إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو الخير، ووجه للباطل أو الشر- بأن فى نفوسنا تنازعا وكأن هاجسا يقول افعل، وآخر يقول: لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع فى النفوس ونسميه قوة وفكرا- لا يبعد أن نسميه ملكا إن كان يميل إلى الخير، وشيطانا إن كان يميل إلى الشر.
والسجود: الخضوع والانقياد، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما جاء من سجود يعقوب وأولاده ليوسف، والسجود قسمان: سجود العقلاء تعبدا على الوجه المخصوص، وسجود سائر المخلوقات لمقتضى إرادته تعالى كما قال «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ» .
والمعنى- واذكر أيها الرسول لقومك وقت قولنا للملائكة: اسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام اعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوه فى شأنه من نحو قولهم:
«أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» فسجدوا كلهم أجمعون امتثالا إلا إبليس أبى واستكبر.(15/161)
ثم بين السبب فى عصيانه ومخالفته للأمر فقال:
(كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي إن الذي منعه من السجود أنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة، مغمورا بينهم، متصفا بصفاتهم، بدليل أنه قال:
«أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ولأنه تعالى أثبت له فى هذه الآية ذرية ونسلا والملائكة لا ينسلون، ولأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر.
ويرى قوم أنه كان من الملائكة بدليل أن خطاب السجود كان معهم، ولأن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، دليل على أنه يتصور منهم العصيان، ولولا ذلك ما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع، وعصيانهم تكلف، وطاعة البشر تكلف، ومتابعة الهوى منهم طبع، ولأنه تعالى ذكر من هاروت وماروت ما ذكر، وهما ملكان.
على أنه لا دليل على أن هناك فروقا جوهرية بين الملائكة والجن، بها يمتاز أحدهما من الآخر، بل هى فروق فى الصفات فحسب، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقيقتهم ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم.
(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله للملائكة المعدود هو فى عدادهم، إذ لولا الأمر ما تحقق إباء.
وفى الآية إيماء إلى أن فسقه قد نتج عن كونه من الجن، إذ أن من شأنهم التمرد والعصيان لكدورة مادتهم، وخباثة ذاتهم (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) وإن كان منهم من أطاع وآمن.
ثم حذر سبحانه من اتباعه بعد أن استبان من حاله ما استبان فقال:
(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟) أي وبعد العلم بما صدر منه من القبائح لا ينبغى لكم أن تتخذوه وأولاده وأعوانه أولياء لكم من دونى تطيعونهم بدل طاعتى وهم لكم أعداء.
وجملة المعنى- كيف تصنعون هذا الصنيع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم(15/162)
بجميع ما أنتم فيه من النعم، من لم يكن لكم منه منفعة قط بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم فى كل حين.
(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) أي بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دونه، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم، المتفضل عليهم بما لا يحصى من الفواضل.
ثم بين السبب فى عدم استحقاق إبليس وذريته هذه الولاية فى أنفسهم بعد بيان خباثة أصلهم فقال:
(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فكيف تطيعونهم وتعبدون الأصنام من دونى وهم عبيد أمثالكم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟.
وقصارى ذلك- ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما خصصتهم بخصائص لا تكون لسواهم، حتى يقتدى الناس بهم، فأنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ليس لى فى ذلك شريك ولا وزير.
(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي وما كنت متخذ من لا يهدون إلى الحق أعوانا وأنصارا، لأنهم يضلون فمتبعهم يجور عن قصد السبيل، ولا يصل إلى هدى، فكيف اتبعوهم وعبدوا الأصنام على مقتضى وسوستهم؟.
ثم أخبر سبحانه عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا فقال:
(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي واذكر أيها الرسول يوم الجمع حين يقول الله تعالى للكافرين على سبيل التأنيب والزجر: نادوا للشفاعة لكم من زعمتم فى الدنيا أنهم شركائى، لينقذوكم مما أنتم فيه، والمراد بهم كل ما عبد من دون الله، فدعوهم ليستغيثوا بهم، ويشفعوا لهم، فلم يغيثوهم.(15/163)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
ونحو الآية قوله: «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» وقوله «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» وقوله «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» .
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أي وجعلنا بين المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء فى الدنيا- موضعا للهلاك وهو النار حسما لأطماعهم أن يصل إليهم من دعوه للشفاعة.
(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي وعاين المشركون النار يومئذ فعلموا أنهم داخلوها ولم يجدوا بدّا من الوقوع فيها، لأن الله قد حتّم عليهم ذلك، فلا معدل لهم عنها، ولا مكان لهم ينصرفون إليه ويزايلونها، إذ قد أحاطت بهم من كل جانب.
[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)(15/164)
تفسير المفردات
صرّفنا: أي ردّدنا وكررنا، والمثل: الصفة الغريبة، والجدل: المنازعة بالقول ويراد به هنا المماراة والخصومة بالباطل، وسنة الأولين: الإهلاك بعذاب الاستئصال، والقبل (بضمتين) الأنواع والألوان واحدها قبيل، ليدحضوا به الحق: أي ليبطلوه ويزيلوه من قولهم دحضت رجله أي زلقت ودحضت حجته بطلت، وما أنذروا:
أي ما خوفوه من أنواع العقاب، ونسى ما قدمت يداه، أي لم يتدبر عواقبه، أكنة:
أي أغطية واحدها كنان، أن يفقهوه: أي أن يفهموه. وقرا: أي ثقلا فى السمع، الموعد: يوم القيامة، موئلا: أي ملجأ يقال وأل فلان إلى كذا وألا ووءولا: إذا لجأ إليه، القرى: أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه شبهات المبطلين ورد عليها بأدلة لا تدحض، وبرهانات لاتردّ- قفى على ذلك ببيان أن فى القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكر وتدبر وألقى السمع وهو شهيد، لكنها القلوب قد تحجرت، والأفئدة قد قست، فلا تنفع فيها الذكرى، ولا تستجيب لوعظ الواعظ، ونصيحة المذكر، ولو آخذهم ربهم بما كسبوا لأرسل عليهم العذاب معجّلا، ولم يبق منهم على ظهر الأرض أحدا، ولكنه الغفور ذو الرحمة، فجعل لهلا كهم موعدا، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويرعوون عن غيهم.
أخرج الشيخان وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على كرم الله وجهه «أن النبي(15/165)
صلى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال (ألا تصلّيان) فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلىّ شيئا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» .
الإيضاح
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد وضّحنا للناس كل ما هم فى حاجة إليه من أمور دينهم ودنياهم، ليتذكروا فينيبوا ويعتبروا ويزدجروا عماهم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان، لكنهم لم يقبلوا ذلك، ولم يرعووا عن غيهم وعنادهم، واستكبارهم وعتوهم.
ثم بين سبب هذا العتو وتلك المماراة فقال:
(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) أي وكان الإنسان بمقتضى جبلّته أكثر شىء مراء وخصومة، لا ينيب إلى حق، ولا يزدجر لموعظة، والمراد بذلك خصومة الأمم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاءوا به، كما حكى الله عنهم من قولهم «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» وقولهم «يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» وشديد تعنتهم كما حكى عنهم بنحو قولهم «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» .
وخلاصة ذلك- إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل، لما أوتيه من سعة الحيلة، وقوة المعارضة، واختلاف النزعات والأهواء، وقوة العزيمة إلى غير حد فلو اتجه إلى سبل الخير، وتاقت نفسه إلى سلوك طريقه، ارتقى إلى حظيرة الملائكة، ولو نزعت نفسه إلى اتباع وساوس الشيطان، انحط إلى الدرك الأسفل ولحق بأنواع الحيوان، يفعل ما يشاء، غير مقيد بوازع من الدين، ولازمام من العقل وصادق العريمة.(15/166)
ولما بين سبحانه وتعالى إعراضهم ذكر علة ذلك فقال:
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا) أي وما منع هؤلاء المشركين من أن يؤمنوا بالله، حين جاءتهم البينات الواضحة، والدلالات الظاهرة، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه، وأن يستغفروا ربهم بالتوبة عما فرط منهم من الذنوب- إلا تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم يطلبون أحد أمرين:
(1) إما عذاب الاستئصال بنحو قولهم «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (2) وإما أن تأتيهم بأنواع من العذاب والبلاء يتلو بعضها بعضا حين وجودهم فى الدنيا كقولهم «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . وقولهم «ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
ولما كان مجىء ذلك بيد الله، وأمره مفوض إليه، لا إلى الرسول نبه إلى ذلك بقوله:
(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله ورسله بجزيل ثوابه فى الآخرة، وينذروا أهل الكفر به وتكذيب رسله بعظيم عقابه وأليم عذابه، ولم نرسلهم ليقترح عليهم الظالمون من أممهم الآيات بعد ظهور المعجزات، ويطلبوا منهم ما لا قبل لهم به.
ثم ذكر أن من شأن المشركين كثرة الجدل للرسول صلى الله عليه وسلّم فقال:
(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي ويجادل أولئك المشركون بالباطل كقولهم للنبى صلى الله عليه وسلّم: أخبرنا عن فتية ذهبوا أول الدهر، ما شأنهم؟
وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك مما يقصد منه التعنت وإزالة الحق الذي جاء به الرسل عليهم، لا كشف حقيقة تفيد فى دين أو دنيا.(15/167)
وخلاصة ذلك- إن الرسل ما أرسلوا للجدل والشغب بالباطل، بل بعثوا للبشارة والإنذار، وأنتم تجادلون بالباطل لتدحضوا الحق الذي جاءكم به رسولى.
(وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أي واتخذوا الحجج التي احتج بها عليهم، وكتابه الذي أنزل إليهم، والنذر التي أنذرهم بها العقاب والعذاب- استهزاء وسخرية كقولهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وقولهم: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» .
ولما حكى عنهم خبيث أحوالهم وصفهم بما يوجب الخزي والنكال فقال:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ؟) أي لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله، ودلّ بها على سبيل الرشاد، وهدى بها إلى طريق النجاة، فأعرض عنها ولم يتدبرها ولم يتعظ بها، ونسى ما عمله من الكفر والمعاصي أي لم يتفكر فى عواقبه، ومن ثم لم يتب منها ولم ينب إلى ربه.
ثم علل ذلك الإعراض والنسيان بقوله:
(إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي إن ذلك الإعراض منهم بسبب أن جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا ما ذكّروا به، وجعلنا فى آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه، والمراد أنه لا يدع شيئا من الخير يصل إليها، فهى لا تعى شيئا من الآيات إذا تليت عليها.
ذاك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد، بما دنسوا به أنفسهم من قبيح الافعال والأقوال، وبما اجترحوا من الكفر والفسوق والعصيان، فأصبح بينهم وبين سماع الحق حجاب غليظ، فلا ينفذ إلى السمع شىء مما يسمع سماع تدبر واتعاظ، ولا إلى القلب شىء مما يقال فيعيه وينتفع به كما قال: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» وقال: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .(15/168)
وقد تكرر هذا المعنى فى غير موضع من الكتاب الكريم: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .
ثم ذكر سبحانه أثر هذا الختم على القلوب فقال:
(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أي ومهما كررت أيها الرسول من الدعوة إلى الحق، حرصا منك على نجاتهم وخشية نزول البلاء بهم، فلن يستجيبوا لك، ولن يهتدوا بهداك، لأن الله قد كتب عليهم الضلال، بسوء أعمالهم وقبح طواياهم، فأنّى يفيد النصح، وتجدى العظة، ويرقّ القلب؟.
وخلاصة المعنى- كأنه صلى الله عليه وسلّم حرصا منه على هداهم قال: مالى لا أدعوهم رجاء أن تنكشف تلك الأكنة، وتمزّق بيد الدعوة، فقيل له- وأنى لك ذلك؟ فإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا أبدا.
وقد جاءت هذه الآية فى قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركى مكة.
ثم بين أنه سبحانه لا يعجّل العقوبة لعباده على ما يجترحون من الفسوق والآثام رجاء أن ينيبوا إليه فقال:
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) أي وربك أيها الرسول غفور لذنوب عباده، ذو رحمة واسعة بهم، إذا هم أنابوا إليه ورجعوا إلى رحاب عفوه وجوده وكرمه، فيرحمهم واسع الرحمات، ويتجاوز لهم عن عظيم الخطيئات، ولو شاء أن يؤاخذهم بما اجترحوا من المعاصي كإعراضهم عن آياته، ومناصبتهم العداء لرسله، ومجادلتهم بالباطل- لعجل لهم العذاب فى الدنيا وأنزل بهم عذاب الاستئصال جزاء وفاقا لقبيح أعمالهم.
ونحو الآية قوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقوله: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» إلى نحو ذلك من الآيات الكثيرة فى هذا الباب.(15/169)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
ثم أبان أن هذا إمهال لا إهمال فقال:
(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) أي بل لهم موعد ليس لهم منه محيص ولا ملجأ يلجئون إليه من عذابه.
ثم ذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال:
(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكناهم لما ظلموا فكفروا بآياتنا، وجعلنا لهلا كهم ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذابنا فأهلكناهم به، وهكذا جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك الذين لا يؤمنون بك موعدا لهلاكهم إذا جاء أهلكناهم كما هى سنتنا فى الذين خلوا من قبلهم من أضرابهم من سالفى الأمم.
قصة موسى والخضر
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 74]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)(15/170)
مقدمات تشرح هذا القصص
(1) من موسى؟
أكثر العلماء على أن موسى الذي ذكر فى هذه الآية هو موسى بن عمران نبىّ بنى إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة والشريعة الباهرة، ولهم على ذلك أدلة:
(ا) إنه ما ذكر الله موسى فى كتابه إلا أراد صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان شخصا آخر سمّى بهذا الاسم لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وتزيل الشبهة.
(ب) ما أخرجه البخاري ومسلم فى جماعة آخرين عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضى الله عنهما: إن نوفا البكالي بن فضالة ابن امرأة كعب من أصحاب أمير المؤمنين على كرم الله وجهه، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بنى إسرائيل، فقال كذب عدو الله.
وذهب أهل الكتاب وتبعهم بعض المحدّثين والمؤرخين أن موسى هنا هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران ولهم على ذلك أدلة:(15/171)
(ا) إن موسى بعد أن أنزلت عليه التوراة وكلمه الله بلا واسطة، وحجّ خصمه بالمعجزات العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر الأنبياء- يبعد أن يبعثه الله بعد ذلك ليستفيد علما من غيره- وردّ هذا بأنه لا يبعد بأن العالم الكامل فى أكثر العلوم يجهل بعد أشياء، فيحتاج فى تعلمها إلى من دونه، وهذا مشاهد معلوم.
(ب) إن موسى عليه السلام بعد خروجه من مصر وذهابه إلى التيه توفّى ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته، ولو كانت هذه القصة معه لا قتضت خروجه من التيه، لأنها لم تكن وهو فى مصر بالاتفاق.
(ح) إنها لو كانت معه لا قتضت غيبته أياما، ولو كان كذلك لعلمها الكثير من بنى إسرائيل الذين كانوا معه ونقلت لتوافر الدواعي على نقلها، ولم يكن شىء من ذلك، فإذا لم تكن معه- وردّ هذا بأنه قد يكون موسى عليه السلام خرج وغاب أياما، لكن لم يعلموا أنه ذهب لهذا الغرض، بل ذهب ليناجى ربه، ولم يقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع، لعلمه بقصور فهمهم، فخاف من حط قدره عندهم، فأوصى فتاه بكتمان ذلك.
وعلى الجملة فإنكارهم لا يؤبه به، وهو جائز عقلا وقد أخبر به سبحانه رسوله (2) من فتاه؟
فتى موسى- هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان يخدمه ويتعلم منه، والعرب تسمى الخادم فتى، لأن الخدم أكثر ما يكونون فى سن الفتوّة كما يطلقون على العبد فتى،
وفى الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاى وفتاتى، ولا يقل عبدى وأمتى»
وهذا من محاسن الآداب الشرعية.
(3) من الخضر؟
الخضر (بفتح الخاء وكسرها وكسر الضاد وسكونها) لقب لصاحب موسى، واسمه بليا (بفتح الباء وسكون اللام) ابن ملكان، والأكثرون على أنه كان نبيا، ولهم على ذلك أدلة:(15/172)
(ا) قوله: «آتيناه رحمة من عندنا» والرحمة: النبوة بدليل قوله:
«أهم يقسمون رحمة ربّك» .
(ب) قوله «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» وهذا يقتضى أنه علّمه بلا واسطة معلم ولا إرشاد مرشد، وكل من كان كذلك كان نبيا.
(ح) إنه قال له موسى: «هل أتبعك على أن تعلّمن» والنبي لا يتعلم من غير النبي.
(د) إنه قال: «وما فعلته عن أمرى» أي بل قد فعلته بوحي من الله وهذا دليل النبوة.
(4) أين كان مجمع البحرين؟
مجمع البحرين- هو المكان الذي يجتمع فيه البحران ويصيران بحرا واحدا، وفيه رأيان:
(ا) إنه ملتقى بحرى فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند باب المندب) .
(ب) إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطى عند طنجة قاله محمد بن كعب القرظي (البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسى عند مضيق جبل طارق أمام طنجة) .
وسيأتى رأى آخر للبقاعى.
وليس فى الكتاب الكريم ما يدل على تعيين هذين البحرين، فإن جاء فى الخبر الصحيح شىء فذاك، وإلا فيجمل السكوت عنه.
تفسير المفردات
لا أبرح: أي لا أزال سائرا، والحقب (بضمتين وبضم فسكون) الدهر، وقيل ثمانون سنة، وعن الحسن سبعون، مجمع بينهما، أي مكان اجتماعهما، سربا:(15/173)
أي مسلكا كالسرب: وهو النفق فصار الماء عليه كالقنطرة، والغداء: الطعام الذي يؤكل أول النهار والمراد به هنا الحوت، نصبا: أي تعبا وإعياء، أوينا: أي التجأنا نبغى: نطلب، ارتد: رجع، على آثارهما: أي على طريقهما الذي جاءا منه، قصصا:
أي اتباعا من قولهم أثره إذا اتبعه، رحمة: هى النبوة هنا، الرشد (بضم فسكون وبفتحتين) إصابة الخير، والإحاطة بالشيء: معرفته معرفة تامة، والخبر: المعرفة، وذكرا: أي بيانا، إمرا: (بكسر الهمزة) أي منكرا: من أمر الأمر بمعنى كثر، والعرب تصف الدواهي بالكثرة، لا ترهقنى: أي لا تحملني، والعسر: ضد اليسر وهو المشقة، زكية: أي طاهرة من الذنوب، بغير نفس: أي بغير حق قصاص لك عليها، والنكر: المنكر الذي تنكره العقول وتنفر منه النفوس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأنصار، وامتنعوا عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم، لئلا يشتركوا مع أولئك الصعاليك فى مجلس واحد، ولئلا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة- قفّى على ذلك بذكر قصص موسى عليه السلام مع الخضر، ليبيّن بها أن موسى مع كونه نبيا صادقا أرسله الله إلى بنى إسرائيل بشيرا ونذيرا وهو كليم الله- أمر أن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه مالم يعلمه، وفى ذلك دليل على أن التواضع خير من التكبر.
روى البخاري ما خلاصته- إن موسى عليه السلام قام فى بنى إسرائيل خطيبا فسئل: أىّ الناس أعلم؟ فقال أنا، فعتب عليه ربه، إذ لم يردّ العلم إليه تعالى فأوحى إليه: إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، وأمره أن يأخذ حوتا فى مكتل، فحيثما فقد الحوت فهو ثمّة، ففعل ذلك، وسافر مع فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا صخرة فناما فاضطرب الحوت وسقط فى البحر- فاتخذ سبيله فى البحر(15/174)
سربا- وصار الماء كالطاق عليه وهو يجرى، فلما استيقظ موسى نسى صاحبه أن يخبره بالحوت، وانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كان الغد طلب موسى الغداء ووجد النّصب، ولم ذلك إلا بعد أن جاوزا المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: إنى نسيت الحوت وذكر ما كان من أمره عند الصخرة، فارتدا على آثارهما قصصا، حتى انتهيا إلى الصخرة فوجدا رجلا مسجّى بثوب أبيض، وكان من أمر هما ما سترى من مسألة السفينة والغلام والجدار.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي واذكر أيها الرسول حين قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أزال أمشى حتى أبلغ مكان اجتماع البحرين أو أسير دهرا.
وسبب قوله هذا: أن الله أوحى إليه أن عبدا من عبادى بمجمع البحرين عنده من العلم مالم تحط به، فأحبّ أن يرحل إليه.
وخلاصة ذلك- إن الله أعلم موسى حال هذا العالم وما أعامه موضعه بعينه، فقال لا أزل أمشى حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضى دهرا طويلا حتى أجده.
ومجمل الأمر أنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم فى السفر مهما طال به الزمان.
(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي فانطلقا يمشيان، فلما بلغا مجمع بينهما وهو المكان الذي وعده الله بلقائه عنده- نسيا حوتهما فاتخذ الحوت طريقه فى البحر مسلكا وصار الماء كالقنطرة عليه، فكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا.
ولا شك أن حياة الحوت بعد موته كانت لموسى معجزة، وأما كون ماء البحر(15/175)
صار كالقنطرة عليه أو كأى وضع آخر، فليس بالواجب علينا أن نعتقده إلا إذا ثبت بالنص القاطع.
روى أن موسى عليه السلام أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، فأخذ حوتا وجعله فى مكتل (قفة) ثم انطلق ومعه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين ناما واضطرب الحوت فى المكتل وخرج منه وسقط فى البحر.
روى البخاري ومسلم أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا (حوتا) ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ ذلك فجعله فى مكتل، وقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فبينما هما فى ظل صخرة إذ تسرّب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره.
وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة.
وحدث محمد بن إسحاق عن الزهري عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين ذكر حديث ذلك: «ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير الحوت الذي فيه، فانجاب كالكوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه، فقال ذلك ما كنا نبغ» .
(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي فلما جاوزا ذلك المكان المقصود من مجمع البحرين، وسارا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى بالجوع، حينئذ قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا تعبا ونصبا من ذلك السفر.
وقد كان من الحكمة فى حصول الجوع والتعب له حين جاوز المكان أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمن يريد.(15/176)
(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي قال له فتاه: أرأيت ما حدث لى حين التجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين؟ إنى نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حىّ واضطرب ووقع فى البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا. وذاك أن مسلكه كان كالطاق والسّرب- وما أنسانى ذكره إلا الشيطان.
(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي قال موسى: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت ما كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المقصود بالذات.
(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي فرجعا فى الطريق الذي جاءا فيه يتبعان أثرهما اتباعا حتى أتيا الصخرة.
قال البقاعي- إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة فيها، فالظاهر والله أعلم أنها مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور فى البحر الذي ركب فيه سفينته للتعدية كما ورد فى الحديث، فإن الطير لا يشرب من الماء الملح اه.
وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى بيّن لموسى عليه السلام أن موضع هذا العالم مجمع البحرين، وأن علامة وجوده فى المكان المعين انقلاب الحوت الميت الذي فى المكتل حيا، فلما بلغا مجمع بينهما اضطرب الحوت فيه ووثب فى الماء وقد أمسك الله إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق أو الكوّة حتى سرى الحوت فيه، فلما جاوز موسى وفتاه المكان المعين وهو الصخرة بسبب النسيان، وسارا كثيرا وتعبا وجاعا قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال الفتى: أرأيت ما وقع لى من الحوت حين لجأنا إلى الصخرة فاتخذ سبيله فى البحر اتخاذا عجبا إذا انقلب من المكتل وصار حيا وألقى نفسه فى البحر على غفلة منى، وإنى نسيت أن أبلغك خبره، وما أنسانى ذكره إلا الشيطان، قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه، لأنه أمارة الظفر(15/177)
بالمطلوب وهو لقاء الخضر، فرجعا فى طريقهما الأولى، إذ علما أنهما تجاوزا الموضع الذي يقيم فيه ذلك العالم.
(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟) أي فوجد موسى وفتاه عند الصخرة حين رجعا إليها عبدا من عبادنا وهو الخضر مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟ فقال أنا موسى. قال موسى بنى إسرائيل؟ قال نعم. قال هل أصحبك لتعلمنى مما علمك الله شيئا أسترشد به فى أمرى من علم نافع وعمل صالح؟.
(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يا موسى، فإنى على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علّمكه لا أعلمه.
ثم أكد ذلك مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة فقال:
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟) أي وكيف تصبر وأنت نبى على ما أتولى من أمور ظواهرها منكرة، وبواطنها مجهولة، والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك، بل يبادر بالإنكار.
(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً) معك غير منكر عليك.
(وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) تأمرنى به غير مخالف لظاهر أمر الله.
(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي قال له الخضر: إن سرت معى فلا تفاتحنى فى شىء أنكرته علىّ حتى أبتدى بذكره فأبين لك وجه صوابه، فإنى لا أقدم على شىء إلا وهو صواب جائز فى نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي فانطلقا يمشيان على الساحل يطلبان سفينة فوجداها، فعرف أهلها الخصر من بينهم فحملوهم بغير أجر، حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها حين توسطوا لجّة البحر، إذ أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من ألواح السفينة.(15/178)
(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً؟) أي قال موسى للخضر: لقد جئت عظيما منكرا، ثم أخذ موسى ثوبه فحشا به الخرق.
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر: ألم أقل لك يا موسى إنك لن تستطيع صبرا معى فيما ترى مما أفعل.
(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي قال موسى للخضر لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، ولا تكلفنى مشقة، ولا تضيق علىّ أمرى، ولا تعسّر علىّ متابعتك، بل يسرها بالإغضاء وترك المناقشة.
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) أي فانطلقا بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب، يمشيان على الساحل فأبصر الخضر غلاما يلعب مع لداته وأترابه فقتله، ولم يبين القرآن كيف قتله: أحزّ رأسه أم ضرب رأسه بالجدار، أم بطريق آخر؟ وعلينا ألا نهتم بذلك، إذ لو علم الله فيه خيرا لنا لذكره.
(قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟) أي قال موسى عليه السلام للخضر:
أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب بغير قتل نفس محرمة؟ وخص هذا من بين مبيحات القتل كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، لأنه أقرب إلى الوقوع نظرا إلى حال الغلام.
(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي لقد جئت شيئا تنكره العقول وتنفر منه النفوس.
وأتى هنا بقوله (نكرا) وهناك بقوله (إمرا) لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة، لأن هذا لم يكن إهلاكا لنفس، إذ ربما لا يحصل الغرق، وفى هذا إتلاف النفس قطعا، فكان أنكر.
وإلى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر فى الليلة السادسة عشرة من شعبان المعظم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.(15/179)
فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 آراء العلماء فى الإسراء 8 إلمامة فى المعراج 9 عظة وذكرى فيما يستخلص من الإسراء والمعراج 15 سلط الفرس على بنى إسرائيل مرتين 17 صفات القرآن 23 لكل امرئ كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة 25 الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة 33 شعائر الإيمان 36 ما جاء فى بر الوالدين من الأحاديث 40 «ما عال من اقتصد» 42 مفاسد الزنا 43 الحكمة فى تحريم قتل النفس 46 فى الحديث: «أعوذ بك من شر سمعى وشر بصرى وشر قلبى وشر منى» 54 إنكار المشركين للبعث وشبهاتهم على ذلك 57 ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر 59 «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» 63 فى الحديث «سلوا الله لى الوسيلة» 66 كان الإسراء فتنة للناس واختبارا لإيمانهم(15/180)
الصفحة المبحث 71 الشيطان يغرى الناس بأن لا ضرر من فعل المعاصي 74 المشركون يدعون الله حين الشدة، ويعرضون عنه حين الرخاء 77 المعول عليه يوم القيامة الأعمال لا الأنساب 81 أمره صلى الله عليه وسلّم بإقامة الصلاة لأوقاتها 83 «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» 84 المقام المحمود للنبى صلى الله عليه وسلّم 84 الهداة تشرق قلوبهم حين توجههم إلى الله فى أوقات الصلاة 85 طلب الرسول صلى الله عليه وسلّم من ربه التسلط بالحجة والملك 86 القرآن شفاء ورحمة 88 آراء العلماء فى الروح 90 تحذير الهداة من تركهم العمل بالقرآن مرضاة للرؤساء والعامة 91 لو اجتمع الإنس والجن لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن 93 اقتراح المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلّم إنزال الآيات الكونية 97 لو أرسل الله تعالى ملكا لجعله بشرا 97 جاء جبريل فى صورة دحية الكلبي 98 الكفار يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما.
100 الدليل على إثبات البعث 101 «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة» 103 آيات موسى التسع 105 سكنى بنى إسرائيل أرض الشام 107 محمد صلى الله عليه وسلّم مبشر ونذير(15/181)
الصفحة المبحث 108 أهل الكتاب يخرون للأذقان سجدا إذا سمعوا القرآن 110 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال 111 تنزيه الله سبحانه على ضروب 115 الذين قالوا: اتخذ الله ولدا ثلاث طوائف 118 قصص أهل الكهف كما أثر عن العرب 120 إجمال القرآن لقصص أهل الكهف 123 تفصيل قصص أهل الكهف وبسطه 125 فى أي زمن كان حادث أهل الكهف؟
134 نهينا عن اتخاذ القبور مساجد 135 عدد أهل الكهف 137 أمرنا أن نقدم المشيئة إذا عزمنا على فعل شىء 138 الثلاثمائة السنة الأفرنجية هى الثلاثمائة والتسع العربية 142 كان صناديد قريش يأبون أن يجلسوا مع الفقراء فى مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم 145 ما أعد الله لأهل الجنة من النعيم 148 مثل الجنتين 150 حوار بين المؤمن والكافر 152 ندم الكافر على ما فعل 153 مثل الحياة الدنيا 154 المال والبنون زينة الحياة الدنيا 156 أحوال يوم القيامة 156 كيفية عرض الخلائق يوم القيامة(15/182)
الصفحة المبحث 158 المجرمون يشفقون مما فى كتابهم 162 هل إبليس من الجن أو الملائكة؟
163 تدعى الأصنام للشفاعة فلا تستجيب 165 فى القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكر وتدبر 168 قال المشركون القرآن أساطير الأولين 170 قصص موسى والخضر 171 من موسى؟ ومن الخضر؟
173 أين كان مجمع البحرين؟(15/183)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
الجزء السادس عشر
[تتمة سورة الكهف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (18) : الآيات 75 الى 78]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
تفسير المفردات
فلا تصاحبنى: أي فلا تجعلنى صاحبا لك. بلغت من لدنى عذرا: أي وجدت عذرا من قبلى، قرية: هى أنطاكية كما روى عن ابن عباس أو الأبّلة أو الناصرة، ولا يوثق بصحة شىء من هذا، استطعما أهلها: أي طلبا منهم أن يطعموهما، أن يصيفوهما:
أي ينزلوهما أضيافا: يقال، ضافه إذا كان له ضيفا، وأضافه وضيّفه: أنزله لديه ضيفا وأصل ضاف: مال، من قولهم ضاف السهم عن الهدف: أي مال، جدارا: أي حائط(16/3)
أن ينقض: أي يسقط بسرعة، وقد كثر فى كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم كما قال:
يريد الرمح صدر أبى براء ... ويعدل عن دماء بنى عقيل
أقامه: أي مسحه بيده فقام كما روى عن ابن عباس، والتأويل: من آل الأمر إلى كذا: أي صار إليه، فإذا قيل ما تأويله: أي ما مصيره.
المعنى الجملي
لا يزال الكلام متصلا فى قصص موسى والخضر عليهما السلام، ولكن لوحظ فى تقسيم القرآن الكريم إلى أجزائه الثلاثين جانب اللفظ لا جانب المعنى، ولذا تجد نهاية جزء وبداءة آخر حيث لا يزال الكلام فى معنى واحد لم يتم بعد كما هنا.
الإيضاح
(قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا) زاد كلمة (لك) على سابقه لتشديد العتاب على رفض الوصية، ووسمه بقلة الصبر والثبات حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة.
قال البغوي: روى أن يوشع كان يقول لموسى: اذكر العهد الذي أنت عليه.
(قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى) أي قال موسى عليه السلام للخضر:
إن سألتك عن شىء بعدها من عجيب أفعالك التي أشاهدها وطلبت منك بيان حكمته، فضلا عن المناقشة والاعتراض عليه، فلا تجعلنى لك صاحبا.
(قد بلغت من لدنى عذرا) أي قد بلغت الغاية التي تعذر بسببها فى فراقى، إذ خالفتك مرة بعد أخرى، وهذا كلام نادم أشد الندم قد اضطر، الحال إلى الاعتراف، وسلوك سبيل الإنصاف.
وقد روى فى الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، لكن أخذته من صاحبه ذمامة (حياء(16/4)
وإشفاق من الذم) فقال (إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا) » .
(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) أي فانطلق الخضر وموسى بعد المرتين الأوليين حتى وصلا إلى قرية طلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا أن يضيفوهما،
وفى الحديث «كانوا أهل قرية لئاما بخلاء»
وفى قوله (فأبوا أن يضيفوهما) دون أن يقول فأبوا أن يطعموهما- زيادة تشنيع عليهم، ووصفهم بالدناءة والشح، فإن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب، ولكن لا يرد الغريب المستضيف إلا لئيم، ألا تراهم يقولون فى أهاجيهم. فلان يطرد الضيف.
وعن قتادة: شر القرى التي لا يضاف فيها، ولا يعرف لا بن السبيل حقه (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) أي فوجدا فى القرية حائطا مائلا مشرفا على السقوط فمسحه بيده فقام واستوى، وكان ذلك من معجزاته.
(قال لو شئت لأتخذت عليه أجرا) أي قال موسى ذلك تحريضا للخضر وحثا له على أخذ الجعل (الأجر) على فعله، لإنفاقه فى ثمن الطعام والشراب وسائر مهامّ المعيشة.
(قال هذا فراق بينى وبينك) أي قال الخضر عليه السلام لموسى: هذا الاعتراض المتوالى منك هو سبب الفراق بينى وبينك بحسب ما شرطت على نفسك، وإنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين، لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا دون هذا، إذ لا ينكر الإحسان إلى المسيء بل يحمد.
(سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) أي سأخبرك بعاقبة هذه الأفعال التي صدرت منى، وهى: خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة، وخلاص أبوى الغلام من شره مع الفوز ببدل حسن، واستخراج اليتيمين للكنز.
وفى قوله: (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) دون أن يقول بتأويل ما فعلت، أو بتأويل ما رأيت ونحوهما- تعريض به عليه السلام وعتاب له:(16/5)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
تفسير المفردات
المساكين: واحدهم مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب، لأمر فى نفسه وفى بدنه، يعملون فى البحر، أي يؤاجرون ويكتسبون، أعيبها: أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها، وراءهم: أي أمامهم وهو لفظ يستعمل فى الشيء وضده كما قال:
أليس ورائي أن أدبّ على العصا ... فيأمن أعدائى ويسأمنى أهلى؟
وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ: أمامهم.
خشينا: أي خفنا، أن يرهقهما: أي يحملهما، طغيانا: أي مجاوزة للحدود الإلهية، زكاة: أي طهارة من الذنوب، رحما: أي رحمة كالكثر والكثرة، عن أمرى:
أي عن رأيى واجتهادي، ما لم تسطع: أي تستطع ماضيه اسطاع، الذي أصله استطاع.(16/6)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأمور التي رآها موسى عليه السلام حين صاحب الخضر، وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه مرة بعد أخرى، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرا، وكان من جراء ذلك أنه فارقه ولم يستطع صحبته- أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره، مما ينكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنة، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم يحكمون بناء على الظواهر كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر» .
وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقة الواقعة فى نفس الأمر، وهذه لا يطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده، ومن ثمّ اعترض موسى على ما رأى ولم يعلم ما آتاه الله الخضر من قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور، ويطلع على حقائق الأشياء، فكانت مرتبة موسى فى معرفة الشرائع والأحكام بناء على الظواهر، ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء، والاطلاع على أسرارها الكامنة.
وخلاصة المسائل الثلاث- إنه حين يتعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فلو لم يغب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك وفاتت منافعها بتاتا، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه فى دينهم ودنياهم، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررا من سقوطه، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام.
ومجمل الأمر فى ذلك- إن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها فى أنفسها، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسمية، ومن ثمّ قال فى صفة علمه: «وعلمناه من لدنا علما» وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته فى علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم، ليعلمه أن كمال المعرفة فى أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هى عليها فى الواقع(16/7)
الإيضاح
(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) أي أما فعلى ما فعلت بالسفينة، فلأنها كانت لقوم ضعفاء، لا يقدرون على دفع الظّلمة، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها، فأردت أن أعيبها بالخرق الذي خرقته، وكان قدامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة للاستعمال غصبا، ويدع كل معيبة، فعبتها لأرده عنها.
وخلاصة ذلك- إن السفينة كانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ويعجزون عن دفعه من غصب ملك قدامهم، من عادته غصب السفن الصالحة.
(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) أي وأما الغلام فإنه كان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخفنا أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ،
وفى الحديث «لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له»
، وقال تعالى. «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم» .
وخلاصة ذلك- إنا قد علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فأجاباه ودخلا معه فى دينه لفرط حبهما له.
(فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما) أي قال هذا العالم:
أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين ولدا يكون خيرا من هذا الولد دينا وصلاحا وأقرب عطفا ورحمة بأبويه، وبرّا بهما وشفقة عليهما.(16/8)
(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) أي إن الداعي إلى إقامة الجدار أنه كان تحته كنز، وكان ليتيمين فى المدينة، وكان أبوهما امرأ صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ولصلاح أبيهما، فأمرنى بإقامة الجدار لتلك المصالح إذ لو سقط الجدار لضاع الكنز وقد كان مشرفا على السقوط.
(وما فعلته عن أمرى) أي وما فعلت الذي رأيتنى أفعله عن رأيى، ومن تلقاء نفسى، بل فعلته عن أمر الله إياى به، لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا تجوز إلا بالوحى والنص القاطع.
(ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) أي هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها، هو بيان ما تئول إليه الأفعال التي ضقت بها ذرعا، ولم تصبر حتى أخبرك بها ابتداء.
تنبيه
لذكر هذه القصة فى الكتاب الكريم فوائد:
(1) ألا يعجب المرء بعلمه، وأ لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعل فيه سرا لا يعرفه.
(2) إن فيها تأديبا لنبيه بترك طلب الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه واستهزءوا به وبكتابه، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف فى الدنيا، واستحقاقهم من الله فى الآخرة الخزي والعذاب الدائم.
(3) إن ما حدث فيها يجرى مثله كل يوم فى هذه الحياة، ألا ترى أن قتل الغلام وهو صغير لا ذنب له يشبه الطاعون الذي يهلك الأمم ويفتك بها فتكا ذريعا، والبهائم التي تفتك بها السباع أو تأكلها الناس- ولو تأمل الناس حكمة ذلك لعلموا(16/9)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
أنهم لو بقوا على الأرض مائة عام أو نحوها ولم يمت منهم أحد لضاقت بهم الأرض، ولماتوا جوعا، ولأكل الابن أباه، ولأصبحت الأرض منتنة قذرة، ولهلك الناس جميعا، وأن أكل كواسر الطير لصغارها ليخلوا الجو والأرض من الحيوان المزدحمة، ولولا ذلك لأصبحت الأرض مضرة بالناس والحيوان، فاقتناصها رحمة ونعمة على الناس.
وأن خرق السفينة التي هى لمساكين أشبه بموت بقرة فلاح فقير بجانبه رجل غنى لم تصب بقرته بسوء، وذلك إنما يكون لحكم لا يعلمها إلا الله، وقد يكون منها أن الفقير حين موته يخرج من هذا العالم خفيفا لا يحزنه شىء، وأن الغنى إذا لم يهذب نفسه تكون روحه مجذوبة إلى هذا العالم متطلعة إلى ما فيه، فيصير فى حسرة حين موته.
وأن ذكر الجدار وإقامته تشيران إلى كل من نرى أنه ليس أهلا للنعمة ظاهرا وقد أغدقت عليه، فأهل هذه القرية اللؤماء الأشحاء ليسوا أهلا للإكرام.
وخلاصة ما قاله الخضر: إن هذه الأعمال ليست من جنس أعمال الناس، بل هى من أعمال الله، وإنما كنت واسطة فيها، فهى نماذج لفعل ربكم فى هذه الحياة.
قصص ذى القرنين، ويأجوج ومأجوج وسدهما
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 99]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)(16/10)
تفسير المفردات
ذكرا: أي نبأ مذكورا وهو القرآن. ومكنه ومكن له، كنصحه ونصح له:
أي مهد له الأسباب وجعله قادرا على التصرف فى الأرض من حيث التدبير والرأى، سببا: أي طريقا يوصله إليه من علم أو قدرة أو آلة، حمئة: أي ذات حمأة وهى الطين الأسود، حسنا: أي أمرا ذا حسن، نكرا: أي منكرا فظيعا، الحسنى: أي المثوبة الحسنى، يسرا: أي سهلا ميسرا غير شلقّ، سترا: أي بناء وكانوا إذا طلعت الشمس تغوّروا(16/11)
فى المياه، وإذا غربت خرجوا، خبرا أي علما يتعلق بظواهره وخفاياه. السدين أي الجبلين، يفقهون: يفهمون، خرجا أي جعلا من أموالنا على سبيل التبرع، والخراج:
ما لزمك أداؤه. بقوة أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس، ردما أي حاجزا حصينا، والردم: أكبر من السد وأوثق، يقال ثوب مردّم: أي فيه زقاع فوق رقاع، وزبر: واحدها زبرة (بضم فسكون) كغرفة: وهى القطعة العظيمة، والصدفين: واحدها صدف، وهو جانب الجبل، قطرا: أي نحاسا مذابا، وقيل رصاصا مذابا، أن يظهروه أي أن يعلوه ويرقوا فوقه لارتفاعه وملاسته. رحمة أي أثر رحمة:
دكاء أي مثل دكاء وهى الناقة لا سنام لها والمراد بها الأرض المستوية، حقا أي ثابتا واقعا لا محالة، يموج أي يضطرب اضطراب البحر، والصور: قرن ينفخ فيه.
المعنى الجملي
هذه القصة رابعة ثلاثة من القصص التي ذكرت فى هذه السورة، وقد قدمنا أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يطلبون إليهم ما يمتحنون به النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن رجل طوّاف فى الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح؟
فنزلت سورة الكهف.
وقبل الشروع فى تفسير هذه الآيات الكريمة لا بد من بيان أمور تمس الحاجة إليها:
من ذو القرنين؟ من يأجوج ومأجوج؟ أين سد ذى القرنين؟
ذو القرنين
يرى كثير من العلماء والمؤرخين أنه هو إسكندر بن فيلبس الرومي تلميذ أرسطاطاليس الفيلسوف المسمى بالمعلّم الاول الذي انتشرت فلسفته فى الأمة الإسلامية، وقد كان قبل الميلاد بنحو 330 سنة، وكان من أهل مقدونيا، وحارب الفرس واستولى(16/12)
على ملك دارا وتزوج ابنته، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك، ثم حكم مصر وبنى الاسكندرية والدليل على ذلك: أنه لم يعرف التاريخ أن أحدا من الملوك دوّخ العالم وسار شرقا وغربا وغلب أكثر المعمور غيره.
ويرى أبو الرّيحان البيروني المنجّم فى كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) أنه من حمير واسمه أبو بكر بن إفريقش، وقد رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمر بتونس ومرّاكش وغيرهما، وبنى مدينة إفريقيّة فسميت القارة كلها باسمه، وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول:
قد كان ذو القرنين جدّى مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغى ... أسباب ملك من كريم مرشد
فرأى مآب الشمس عند غروبها ... فى عين ذى خلب وثأط حرمد «1»
وسمى ذا القرنين لأنه بلغ قرنى الشمس.
والدليل على أنه حميرىّ أن الأذواء إنما يعرفون فى بلاد حمير دون بلاد اليونان، وهو من الدولة الحميرية التي حكمت من سنة 115 ق م إلى 552 ب م من الطبقة الثانية منها، وملوكها يسمون التبابعة واحدهم تبّع (بضم التاء وتشديد الباء) .
يأجوج ومأجوج
يأجوج: هم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما من أب واحد يسمى (ترك) وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وتنتهى غربا بما يلى بلاد التركستان وقد ذكر مؤرخو العرب والإفرنج أن هذه الأمم كانت تغير فى أزمنة مختلفة على الأمم المجاورة لها، فكثيرا ما أفسدوا فى الأرض، ودمّروا كثيرا من الأمم، فمنهم الأمم المتوحشة التي انحدرت من الهضبات المرتفعة من آسيا الوسطى وذهبت إلى أوربا فى العهد القديم
__________
(1) الخلب: الطين: والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود.(16/13)
كأمة التحيت والسّمريان والهون، وكثيرا ما أغاروا على بلاد الصين وآسيا الغربية التي كانت مقر الأنبياء.
ثم لم يزالوا فى حدود بلادهم لا يتجاوزونها بعد زمن النبوة، إلى أن ظهر فيهم الداهية الرحالة (تموجين) الذي لقب نفسه (جنكيزخان- ملك العالم) بلغة المغول فخرج فى أوائل القرن السابع من الهجرة من الهضبات المرتفعة والجبال الشاهقة التي فى آسيا الوسطى، فأخضع الصين الشمالية أولا، ثم ذهب إلى البلاد الإسلامية فأخضع السلطان قطب الدين بن أرميلان من الملوك السلجوقية ملك خوارزم، وفعل بهذه الدولة من الفظائع ما لم يسمع بمثله فى التاريخ.
ولما مات جنكيزخان قام مقامه ابنه (أقطاى) وأغار ابن أخيه (باتو) على بلاد الروس سنة 723 هـ ودمر بولنيا وبلاد المجر وأحرق وخرّب.
وبعد أن مات أقطاى قام مقامه (جالوك) فحارب الروم وألزم ملكها دفع الجزية ثم مات (جالوك) فقام مقامه ابن أخيه (منجو) فكلّف أخويه (كيلاى) و (هولاكو) أن يستمرا فى طريق الفتح، فأخضع كيلاى بلاد الصين، وزحف هولاكو على الممالك الإسلامية ومقر الخلافة العباسية، وكان الخليفة إذ ذاك المستعصم بالله، فأخذ بغداد عنوة فى أواسط القرن السابع من الهجرة، وأسلمت للسلب والنهب سبعة أيام سالت فيها الدماء أنهارا، وطرحوا كتب العلم فى دجلة وجعلوها جسرا يمرون عليه بخيولهم وبذلك انتهت الخلافة العباسية ببغداد.
ولما استولت ذرية جنكيزخان على آسيا كلها وأوربا الشرقية، اقتسموا بينهم ما فتحوه، وأنشئوا أربع ممالك، فاختصت أسرة كيلاى بالصين والمغول، وملك جافاقاى أخو أقطاى تركستان، وملكت ذرية باطرخان البلاد التي على شواطىء نهر فلجا، وصارت الروسيا تدفع لها الجزية زمنا طويلا، وأخذ هولاكو بلاد الفرس وبغداد حتى بلاد الشام- وقد لخصنا ذلك من دائرة المعارف وابن خلدون وابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا.(16/14)
سد ذى القرنين
كانت البلاد التي شرقى البحر الأسود يسكنها قوم من الصقالبة (السلاف) وكان هناك سد منيع بالقرب من مدينة (باب الأبواب) أو (دربت) بجبل قوقاف وقد كشفوه فى القرن الحاضر وهو غير السدّ الشهير الذي بناه ذو القرنين، فإن هذا وراء جيحون فى عمالة (بلخ) واسمه (باب الحديد) بمقربة من مدينة (ترمذ) وقد اجتازه تيمور لنك بجيشه، ومر به أيضا (شاه روخ) وكان فى بطانته العالم الألمانى (سيلدبرجر) وذكر السد فى كتابه وكان ذلك فى أوائل القرن الخامس عشر، وكذلك ذكره المؤرخ الأسبانى (كلافيجو) فى رحلته سنة 1403 وكان رسولا من ملك كستيل (قشتاله) بالأندلس إلى تيمور لنك، وقال إن سد مدينة (باب الحديد) على الطريق الموصل بين سمرقند والهند انتهى ملخصا من مقتطف سنة 1888 م.
وبذلك تعلم أن السد موجود فعلا، وأن هذا معجزة للقرآن الكريم حقا، وهى إحدى المعجزات التي أيدها التاريخ وعلم تقويم البلدان،
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «ويل للعرب، من شرّ قد اقترب»
وقد صدق رسوله، فأزال هؤلاء المغول دولة العرب وانتهت بقتل المستعصم آخر ملوكها، وبقي خليفة رسمى فى مصر، وزال ملكهم بتاتا فى حدود الألف، وتفرق ملك الإسلام شذر مذر، ولم تحفظه إلا الدولة العثمانية بعد العرب وقد كوّن أولئك التتار أغلب المسلمين فى الهند والصّين وأغلب آسيا، فهم كما ورثوا بلادهم ورثوا دينهم.
الإيضاح
(ويسئلونك عن ذى القرنين) أي تسألك قريش بتلقين اليهود سؤال اختبار وامتحان.
(قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) أي قل لهؤلاء المتعنتين: سأقص عليكم قصصا وافيا جامعا لما تريدون، أعلمنيه ربى وأخبرنى به.(16/15)
ثم فصّل ذلك فقال:
(إنا مكنا له فى الأرض، وآتيناه من كل شىء سببا) أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء، بحيث يصل إلى جميع مسالكها، ويظهر على سائر ملوكها، وآتيناه من كل شىء أراده من مهامّ ملكه وبسطة سلطانه طريقا يوصله إليه، فآتيناه العلم والقدرة والآلات التي توصله إلى ذلك.
(فاتبع سببا. حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة) أي فأراد بلوغ المغرب فاتّبع طريقا يوصله إليه، حتى إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن تجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الاطلانطى (المحيط الأطلسى) وجد الشمس تغرب فى عين ذات حمأة وطين أسود.
وخلاصة ذلك- إنه بلغ بلادا لا بلاد بعدها تغرب عليها الشمس، إذ لم يكن عمران إلا ما عرفوه عند بحر الظلمات، فهو قد سار إلى بلاد تونس ثم مرّاكش ووصل إلى البحر فوجد الشمس كأنها تغيب فيه، وهو أزرق اللون كأنه طين وماء.
(ووجد عندها قوما) أي ووجد عند تلك العين قوما كفارا فخيّره الله بين أن يعذبهم بالقتل، وأن يدعوهم إلى الإيمان، وهذا تفصيل قوله:
(قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) أي قلنا له بطريق الإلهام: إما أن تقتلهم إن هم لم يقرّوا بوحدانيتى ويذعنوا لك فيما تدعوهم إليه من طاعتى، وإما أن تأمر بتعليمهم طريق الهدى والرشاد، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام.
(قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) أي قال ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته: أما من ظلم نفسه فأصرّ على الشرك بربه فسنعذبه بالقتل، ثم يرجع إلى ربه فى الآخرة فيعذبه عذابا منكرا فى نار جهنم (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا) أي وأما من صدّق بالله ووحدانيته وعمل عملا صالحا فى الدارين فله المثوبة الحسنى جزاء وفاقا على تلك الخلال الجميلة التي عملها فى دنياه، وسنعلّمه فى الدنيا ما يتيسر لنا(16/16)
تعليمه مما يقرّبه إلى ربه، ويلين له قلبه، ولا يشق عليه فعله مشقة كبيرة كالصلاة والزكاة والجهاد ونحوها.
(ثم أتبع سببا. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) أي ثم قفل راجعا من مغرب الشمس وسلك طريقا موصلا إلى مشرقها، حتى إذا بلغ الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلا من المعمور، وجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم عن حر الشمس، فليس لهم سقوف ولا جبال تمنع من وقوع أشعة الشمس عليهم، لأن أرضهم لا تحمل بنيانا، بل لهم سروب يغيبون فيها حين طلوع الشمس، ويظهرون حين غروبها، فهم حين طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف فى المعاش، وحين غروبها يشتغلون بتحصيل مهماتهم، وأحوالهم على الضد من أحوال الناس.
وخلاصة ذلك- إنه بلغ غاية المعمور من الأرض جهة المشرق ووجد قوما لا لباس لهم ولا بناء، فهم عراة فى العراء أو فى سراديب فى الأرض.
(كذلك) أي إن أمر ذى القرنين كما وصفنا من قبل من بلوغه طرفى المشرق والمغرب، ومن فعله الأفاعيل التي ذكرت، فهو قد بلغ الغاية فى رفعة الشأن وبسطة الملك مما لم يتح لكثير غيره.
(وقد أحطنا بما لديه خبرا) أي ونحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا شىء منها وإن تفرّقت أممهم وتقطعت بهم الأرض كما قال «لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء» .
وخلاصة ذلك- إنه كما وصف، وفوق ما وصف، بما لا يحيط بعلمه إلا اللطيف الخبير.
(ثم أتبع سببا) أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال.
(حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا)(16/17)
أي حتى إذا وصل بين الجبلين، (وقد تقدم وصف مكانهما بالتحديد كما رآه السائحون فى القرن الخامس عشر الميلادى) وجد من دونهما أمة من الناس لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم، لبعد لغتهم عن لغات غيرهم، مع قلة فطنتهم، إذ لو كان لهم فطنة لفهموا ما يراد من القول بالقرائن وفحوى الحال.
(قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض) أي قال مترجموهم إن يأجوج ومأجوج يفسدون أرضنا بالقتل والتخريب وأخذ الأقوات وسائر ضروب الإفساد (تقدم تحقيق القوم فى ذلك) .
(فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟) أي فهل تحب أن تجعل لك جعلا من أموالنا فتجعل بيننا وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا؟.
وخلاصة ذلك- إنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سدا.
(قال ما مكنى فيه ربى خير) أي قال ذو القرنين: إن ما مكننى فيه ربى من بسطة الملك والسلطان ووفرة المال- خير مما تبذلونه لى من الخراج، فلا حاجة بي إليه، وهذا نحو ما قاله سليمان عليه السلام «أتمدونن بمال فما آتانى الله خير مما آتاكم» .
والدول القوية يجب أن تحافظ على الدول الضعيفة، ولا تأخذ منها مالا مادامت قادرة على إغاثتها.
وخلاصة ذلك- ما أنا فيه خير مما تبذلونه.
(فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) أي ولكن ساعدونى بفعلة وصنّاع يحسنون العمل والبناء، أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج سدا منيعا، وحاجزا حصينا أمنع مما تريدون.
ثم بين تلك القوة التي طلبها فقال:
(آتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله(16/18)
نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا)
أي جيئونى بقطع الحديد، فلما جاءوه بها أخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبى الجبلين من البنيان مساويا لهما فى العلو، قال للعملة: انفخوا بالكيران فى زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين ففعلوا، ومازالوا كذلك حتى صارت كالنار اشتعالا وتوهجا، فصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض، وسدّ الفجوات التي بين الحديد وصار جبلا صلدا.
(فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) أي إن يأجوج ومأجوج ما قدروا أن يصعدوا من فوق السد لارتفاعه وملاسته، ولا استطاعوا نقبه لصلابته وثخانته.
(قال هذا رحمة من ربى) أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة من الله ورحمة بعباده، إذ صار حاجزا بينكم وبين يأجوج ومأجوج يمنعهم من أن يعيثوا فى الأرض فسادا.
(فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء) اى فإذا دنا وقت خروجهم من وراء السد جعله ربى بقدرته وسلطانه أرضا مستوية، فسلط عليهم منهم أو من غيرهم من يهدمه ويسوى به الأرض.
(وكان وعد ربى حقا) أي وكان كل ما وعد به سبحانه حقا ثابتا لا ريب فى تحققه، وقد جاء وعده تعالى بخروج جنكيزخان وسلائله فعاثوا فى الأرض فسادا من الشرق والغرب وفعلوا الأفاعيل بالدولة الإسلامية، وأزالوا معالم الخلافة من بغداد كما علمت ذلك فيما سلف.
وقد ذكر المؤرخون أن سبب خروج جنكيز خان أن سلطان خوارزم السلجوقي قتل رسله وتجاره المرسلين من بلاده، وسلب أموالهم، وأغار على أطراف بلاده، فاغتاظ، وكتب إلى السلطان كتابا قال فيه: كيف تجرأتم على أصحابى ورجالى، وأخذتم تجارتى ومالى ... اتحركون الفتنة النائمة. وتنبهون الشرور الكامنة ...(16/19)
أو ما جاءكم عن نبيكم (وعليكم أن تمنعوا من السفاهة غنيّكم، وعن ظلم الضعيف غويّكم) أو ما بلّغكم عنه مرشدوكم (اتركوا الترك ما تركوكم) وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار. ونبيكم قد أوصى به ... ألا إن الفتنة نائمة فلا توقظوها، وهذه وصاياي إليكم فعوها واحفظوها، وتلافئوا التلف قبل أن ينهض داعى الانتقام، وينفتح عليكم سد يأجوج ومأجوج، وسينصر الله المظلوم ولينسلنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كل حدب اه ملخصا.
روى البخاري عن أم حبيبة بنت أبى سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا يقول «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون فقال: نعم إذا كثر الخبث» .
ولقد اتسع ذلك الفتح من هذا التاريخ شيئا فشيئا حتى فتح عن آخره فى القرن السابع الهجري، وخرج هؤلاء القوم كما قدمنا، وقد عثر على آثاره كما علمت فيما سلف.
(وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض) أي ويوم يدك السد يخرج هؤلاء من ورائه يموجون فى الناس، ويفسدون عليهم زروعهم ويتلفون أموالهم، وهذا بمعنى قوله فى سورة الأنبياء: «حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون» أي وهم من كل مرتفع من الأرض يسرعون فى النزول من الآكام والمرتفعات، وتلك حال تنطبق على قوم جنكيزخان، فقد كان خروجهم من هضبات آسيا الوسطى، كما تقدم نقلا عن مؤرخى العرب والإفرنج.
كل هذا قبل النفخ فى الصور بزمن مجهول غير معلوم.
(ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا) أي فإذا دنا ميقات الساعة نفخ فى الصور وجمعنا الناس جمعا، وأحضرناهم للحساب كما قال: «قل إن الأولين والآخرين. لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» وقوله: «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا» .(16/20)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
[سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 106]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
تفسير المفردات
عرضنا: أي أظهرنا وأبرزنا، غطاء: أي غشاوة محيطة بها، عن ذكرى: أي عن الآيات الموصلة إلى ذكرى بتوحيدي وتمجيدى، أولياء: أي معبودات يقونهم بأسى، أعتدنا: أي هيأنا، نزلا: أي طعاما يتمتعون به حين ورودهم إلى ربهم، ولقائه: أي حين البعث والحشر وما يتبع ذلك، الهزؤ: السخرية والاحتقار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة ينفخ فى الصور لقيام الخلق من قبورهم بعد أن تقطعت أوصالهم وتمزقت أجسامهم، وجمعهم فى صعيد واحد للحساب والجزاء- قفّى على ذلك ببيان أنه إذ ذاك يبرز النار للكافرين بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا، وفى ذلك تعجيل الهم والحزن لهم، من قبل أنهم تعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق وحسبوا أن اتخاذهم أولياء من دون الله ينجيهم من عذابه، وأن ما عملوه من(16/21)
تلك الأعمال الباطلة نافع لهم، وكل ذلك وهم وخيال، فلا فائدة منه فى ذلك اليوم، ولا نقيم له إذ ذاك وزنا.
روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى الجبهة وأصغى الأذن. متى يؤمر أن ينفخ؟
ولو أن أهل منّى اجتمعوا على القرن أن يقلّوه من الأرض ما قدروا عليه، قال: فأبلس (بئس وتحير) أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشق عليهم، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا»
والحديث يشير إلى قرب الساعة وأنها أوشكت تجىء.
الإيضاح
(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) أي وأبرزنا جهنم يوم ينفخ فى الصور، وأظهرناها للكافرين بالله، حتى يروا أهوالها وشديد نكالها، ويسمعوا لها تغيظا وزفيرا، وفى هذا تعجيل للهمّ والحزن، ومعرفة أنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا.
ثم بين أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال:
(الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) أي إن هذا العذاب إنما بالهم من جراء أنهم كانوا لا ينظرون فى آيات الله فيتفكروا فيها، ولا يتأملون حججه فيعتبروا بها، وينيبوا إلى ربهم، وينقادوا لآمره ونهيه، وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكرهم به، وبيانه الذي بيّنه لهم فى آي كتابه، فتغافلوا، وتعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق كما قال: «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين» .
ذاك أنهم لما دنّسوا أنفسهم باجتراح المعاصي والآثام، وأطاعوا وساوس الشيطان، وما نصبه لهم من الحبائل، طبع الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.(16/22)
ثم بيّن أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات الأخرى لا يجديهم نفعا فقال:
(أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء) أي أفظن الذين كفروا بي، واتخذوا عبادى الذين هم فى قبضتى وتحت سلطانى كالملائكة وعيسى- معبودات من دونى- أظنوا أن ذلك يجديهم نفعا، أو يرفع عنهم ما يحل بهم من النكال والوبال؟.
وخلاصة هذا- أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم، وأنه لا يغضبنى؟ - كلّا.
ثم أكد هذا الإنكار بقوله:
(إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) أي إنا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عوضا مما أعدوه لأنفسهم من الأولياء الذين اتخذوهم زادا ليوم المعاد.
والخلاصة- إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدّة والذّخر- عدّة هى جهنم وبئس المصير.
وفى ذلك تهكم بهم، وتخطئة لهم فى حسبانهم ذلك، وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم ألوانا أخرى من العذاب، وما جهنم إلا أنموذج منه.
ثم ذكر سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم فقال:
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل من أهل الكتابين اليهود والنصارى: هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم فى عمل يبغون به ثوابا وفضلا، فنالوا به هلاكا وبوارا كالمشترى سلعة يرجو بها ربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس فى الذي رجا فضله؟
وخلاصة ذلك- إنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له، وأنهم يحسنون صنعا، ثم استبان لهم أنهم كانوا مخطئين، وفى ضلال مبين، وأن سعيهم الذي سعوه فى الدنيا ذهب هباء، فلم يجدهم نقيرا ولا قطميرا.
ثم بين السبب فى بطلان سعيهم فقال:(16/23)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) أي إن هؤلاء الأخسرين أعمالا هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة فى الآفاق والأنفس التي تدعو إلى توحيده، وكفروا بالبعث والحساب وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، ومن ثمّ حبطت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها، بل لهم منها عذاب وخزى طويل، ولا تثقل بها موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة وليس لهم منها شىء.
ثم بيّن مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك الكفر فقال:
(ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتى ورسلى هزوا) أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم رسل الله ومعجزاتهم التي أظهرها على أيديهم هزؤا وسخرية، فلم يكتفوا بالكفر بها، بل ارتكبوا هذه الحماقة التي هى أعظم أنواع الاحتقار.
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
تفسير المفردات
الفردوس: البستان بالرومية. وقال السدى: إنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، حولا: أي تحولا، والمداد: ما يمد به الشيء واختصّ بما تمد به الدواة من الحبر،(16/24)
كلمات ربى: معلوماته غير المتناهية، والرجاء: طمع حصول ما فيه مسرة مستقبلة، ولقاء ربه: هو البعث وما يتبعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكفار من العذاب فى جهنم، جزاء كفرهم بربهم، واستهزائهم برسله وآياته- أردف ذلك بما يرغّب المؤمنين فى العمل الصالح من جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا على إنابتهم إليه وإخباتهم له، ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي ذكر فيه الدلائل والبينات على وحدانيته وإرساله الرسل والبعث والجزاء للدلالة على عظيم فضله، ومزيد إنعامه ثم أعقب ذلك ببيان أن العمل لا يتقبّل إلا إذا صاحبه أمران: أن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن يكون مبرأ من الشرك الخفىّ والجلىّ.
روى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من سمّع سمّع الله به، ومن يرائى يرائى الله به»
أي من عمل عملا مراءاة للناس، وليشتهر به شهّره الله يوم القيامة
وروى مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن الله تبارك وتعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى تركته وشركه» .
الإيضاح
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) أي إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، وعملوا صالح الأعمال ابتغاء المثوبة من ربهم- لهم بساتين الفردوس فى أعلى الجنة وأوسطها منزلا.
أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:(16/25)
«إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر الأنهار» .
(خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) أي لابثين فيها أبدا لا يبغون عنها تحولا إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى.
وخلاصة هذا- إنه لا مكان أعز منها عندهم، ولا أرفع شأنا حتى تنازعهم إليه أنفسهم، وتطمح إليه أبصارهم.
ثم نبّه إلى عظيم شأن القرآن بقوله:
(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) أي قل لهم أيها الرسول: لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وعلومه لنفد ماء البحر قبل أن تنفد تلك الكلمات، ولو مددنا ماء البحر بمثل ما فيه من الماء مددا وعونا، لأن مجموع المتناهيين متناه، وعلوم الله وحكمته لا نهاية لها، والمتناهي لا يفى البتة بغير المتناهي.
ونحو الآية قوله «ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» .
روى أن اليهود قالوا: يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة، وفى كتابك «ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا» ثم تقول «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» يريدون بذلك الاعتراض بوجود التناقض فأنزل الله الآية ردا عليهم.
وقد أثبت العلم الحديث ما يتبين منه أن فى كل عالم من العوالم الأرضية والسماوية ما لا يحصى من النعم على عباده، وعليك أن تلقى سمعك إلى آخر الآراء التي اهتدى إليها العلماء فى العصر الحاضر.
قال الأستاذ جينس الإنكليزى المدرس لعلوم الرياضيات التطبيقية فى جامعة (بنسلفانيا) بأمريقا فى 7 من مارث 1928 وهى أحدث الآراء فى منشأ الكائنات وعدم التناهى فى الزمان والمكان. ما خلاصته:(16/26)
(1) إن عمر الأرض نحو ألفى مليون سنة.
(2) إن الإنسان لم يعش على الأرض إلا منذ ثلاثمائة ألف سنة فحسب.
(3) إن الشمس ستظل بعد ألف ألف مليون سنة كما هى الآن تقريبا، وتدور الأرض حولها كما هى الآن.
(4) الإنسان فى المستقبل يكون أحكم من الإنسان الحاضر بثلاثة ملايين مرة على الأقل، فسينظم معيشته وفق حال الكرة الأرضية إذ ذاك.
(5) مما تقدم نعلم أن الإنسان حديث العهد بالولادة على الأرض، فهو طفل فى علومه ومعارفه، وكل همّ هذا الطفل كان موجها إلى غذائه ومسكنه، وهو يجهل العوالم الأخرى، ولكنه الآن عرف أن هناك عوالم أخرى لا نهاية لها، وأن معرفته بها تافهة جد التفاهة، وربما عاش بعد الآن ألفى مليون سنة على الأرض، وبعبارة أخرى إنه يعيش مدة تعادل عمر الأرض فى الماضي.
(6) الأجرام التي حولنا لها نهاية، أما الفضاء الذي بعدها فلا نهاية له، فالشمس والكواكب والمجرّات لها نهاية، ولكن وراءها فضاء لا نهاية له.
(7) الأجرام العلويّة التي نراها والتي لا نراها كرية الشكل كقطرة الماء وكرة الأرض والشمس.
(8) الإشارات اللاسلكية التي تنبعث من جهاز لا سلكى كبير تدور حول الكرة الأرضية فى أقل من سبع ثانية، وتعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهكذا نحن لو اخترقنا هذه العوالم رجعنا إلى مبدإ سفرنا.
(9) إننا لو صنعنا منظارا قويا (تلسكوبا) لنرى الأجرام السماوية، لرأينا النجوم بهيئتها التي كانت عليها حينما أرسلت إلينا النور قبل ملايين السنين.
(10) إن الإنسان اليوم طفل فى العلوم، وربما علم فى المستقبل ما لا يتخيله الآن.
(11) إن سرعة النور فى الثانية الواحدة 186 ألف ميل، ومثله فى ذلك الكهرباء اللاسلكية، لأنهما شىء واحد فى جوهرهما، ويرجح أن النور يسير(16/27)
حول الفضاء الكروي مائة ألف مليون سنة، أي إن النور يدور فى هذا العالم المملوء بالأجرام العلوية الذي مجموعه كرة واحدة مدة مائة ألف مليون سنة مع العلم بأنه يدور حول الأرض فى سبع ثانية، فما أبعد النسبة بين سبع ثانية، وبين مائة ألف مليون سنة.
إلا أن الأرقام لا تقدر أن تحصى المسافة المحصورة بين أىّ نقطتين كانتا على محيط الفضاء الكروي.
(12) الشمس أكبر من الأرض حجما بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وما هى إلا حبة رمل على شاطىء هذا الفضاء الكروي، وهى واحدة من أسرة من أسر الكائنات التي فى الفضاء الكروي التي قدرها العلامة (سيرز) بثلاثين ألف مليون مجموعة، وشمسنا وتوابعها حبة رمل فى مجموعة واحدة من هذه الثلاثين ألف مليون مجموعة.
(13) إن هناك سدما لولبية فى خارج المجرة، وهى مجموعة من النجوم التي تمّ نشوءها أولا تزال فى طور التكوين، وفى بعضها من المادة ما يكفى لخلق ألف مليون شمس كشمسنا.
(14) يقول (هويل) إن مرقب (تلسكوب) مونت ويلسون بأمريقا يريك نحو مليونين من تلك السدم، وإذا تمكن الإنسان من صنع مرقب أكبر من هذا فإنه يرى بلا شك ملايين كثيرة أخرى منها، وفيها من المادة ما يكفى لخلق ملايين الشموس والأجرام الفلكية، ويقول: إذا أردت أن تعرف عدد النجوم التي تسبح فى الفضاء على وجه التقريب، فضع رقم 2 وعلى يمينه 24 صفرا، وهذا العدد يغطى الجزائر البريطانية إلى عمق مئات من الأمتار.(16/28)
(15) أضعف النجوم المعروفة هى نجم (وولف) ونوره جزء من عشرين جزءا من نور الشمس، ونور النجم (دورادوس) يساوى ثلاثمائة ألف ضعف بالنسبة للنور المنبثق من الشمس.
وأصغر النجوم هو نجم (فان مانن) وحجمه كحجم الأرض، وأكبر النجوم الجوزاء، وهى أكبر من الشمس خمسا وعشرين مليون مرة، ونسبة نورها إلى نور الشمس كنسبة نور المصابيح الكهربائية إلى نور حشرة (الحباحب) .
(16) إن الشمس تخرج أشعة تعادل قوتها خمسين حصانا من كل بوصة مربعة، وبعض النجوم التي هى أعظم من الشمس تشعّ نورا من البوصة المربعة يساوى قوة ثلاثين ألف حصان لكل بوصة مربعة.
(17) إن الشمس تفقد كل يوم من المادة بسبب خروج الأشعة منها ما يساوى 250 مليون طن فى الدقيقة، ففى اليوم تفقد 360 ألف مليون طن.
(18) يظن أن عمر الشمس الآن عشرة آلاف مليون سنة، ويمكن أن تعيش ملايين ملايين السنين دون أن تنطفىء.
(19) عمر الأجرام الفلكية يختلف من خمسة آلاف مليون سنة إلى عشرة آلاف مليون سنة اه.
هذه آراء علماء الفلك فى العصر الحاضر استنبطوها بالحساب تارة، وبوجه التقريب تارة أخرى، مما يرشد إلى تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى) الآية.
فهذه هى الكلمات الإلهية التي أدهشت الألباب، وضاعت الأعمار فى البحث عن علم شىء منها، ولا يزال الناس فى عماية من أمرها، ولم يصلوا إلا إلى معرفة القليل كما قال: «والله يعلم وأنتم لا تعلمون» .
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد) أي قل لهم أيها الرسول: إنما أنا بشر مثل ما أنتم كذلك، ولا ادّعى الإحاطة بكلمات الله جلت(16/29)
قدرته، ولا علم لى إلا ما علمنى ربى، وأن الله أوحى إلىّ أن معبودكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا هو معبود واحد لا ثانى له ولا شريك.
(فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) أي فمن كان يطمع فى ثواب الله على طاعته فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية، ولا يشرك به سواه، لا إشراكا جليّا كما فعل الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، ولا إشراكا خفيّا كما فعل أهل الرياء ممن يطلب بعمله الدنيا، وهذا هو الشرك الأصغر كما صح فى الحديث، وروى مستفيضا فى الأخبار من أن كل عمل أريد به الدنيا لا يقبل
فقد أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا برىء منه وهو الذي أشرك»
نسأل المولى القدير أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، لا يراد به رضا أحد من خلقه
إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد
(1) وصف الكتاب الكريم بأنه قيم لا عوج فيه، جاء للتبشير والإنذار.
(2) ما جاء على ظهر الأرض هو زينة لها، وقد خلقه الله ابتلاء للإنسان ليرى كيف ينتفع به.
(3) ما جاء من قصص أهل الكهف ليس بالعظيم إذا قيس بما فى ملكوت السموات والأرض.
(4) وصف الكهف وأهله، مدة لبثهم فيه، عدد أهله.
(5) أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجلوس مع فقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابة لدعوتهم.
(6) ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة.
(7) ضرب مثل يبين حال فقراء المؤمنين وأغنياء المشركين.(16/30)
(8) ضرب المثل لحال الدنيا.
(9) عرض كتاب المرء عليه فى الآخرة وخوف المجرمين منه.
(10) عداوة إبليس لآدم وبنيه.
(11) قصص موسى والخضر.
(12) قصص ذى القرنين وسد يأجوج ومأجوج، وكيف صنعه ذو القرنين (13) وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة فى الآخرة.
(14) ما يلقاه المؤمنون من النعيم فى الآخرة.
(15) علوم الله تعالى لا نهاية لها.(16/31)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
سورة مريم
هى مكية إلا آيتي 58، 71 فمد نيتان، وآيها ثمان وتسعون.
ومناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص كقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام.
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
تفسير المفردات
زكريا (يمد ويقصر) من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وكان نجارا، نادى ربه:
أي دعاه، خفيا: أي مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم، وهن العظم:(16/32)
ضعف ورقّ من الكبر إذ قد بلغ خمسا وسبعين سنة أو ثمانين، واشتعل الرأس شيبا: أي صار الشيب كالنار والشعر كأنه الحطب، ولقوتها وشدّتها أحرقت الرأس نفسه، شقيا. يقال شقى بكذا: أي تعب فيه ولم يحصّل مقصوده منه، والمراد أنه خائب غير مستجاب الدعوة، الموالي: هم عصبة الرجل، من ورائي: أي من بعدي، ويقال رجل عاقر وامرأة عاقر إذا كانا عقيمين، وليا: أي ولدا من صلبى، ويعقوب:
هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان عليه السلام، رضيا: أي مرضيا عندك قولا وفعلا، سميا: أي شريكا له فى الاسم فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله، وهذا دليل على أن الأسماء السّنع- الشريفة- جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنتحى فى التسمية كما قال قائلهم فى المدح:
سنع الأسامى مسبلى أزر ... حمر تمسّ الأرض بالهدب
أنى: أي كيف، عتيا من عتا يعتو: أي يبست مفاصله وعظامه، شيئا: أي موجودا، آية: علامة، سويا: أي سوىّ الخلق سليم الجوارح ليس به بكم ولا خرس، المحراب: المصلّى، أوحى: أي أومأ وأشار، سبّحوا: أي صلوا، بكرة وعشيا أي صلاة الفجر وصلاة العصر.
المعنى الجملي
روى محمد بن إسحاق فى السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود فى قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة- أن جعفر بن أبى طالب قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
الإيضاح
(كهيعص) تقدم الكلام فى المراد من أوائل السور، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام نحو ألا ويا وغيرهما، وتقرأ بأسمائها فيقال (كاف. ها. يا عيّين. صاد) .(16/33)
(ذكر رحمت ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا) أي مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا حين دعا ربه دعاء خفيا مستورا عن أعين الناس.
وإنما أخفى دعاءه، لأنه أدل على الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة.
وقصارى ذلك- إن فى هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا حين أسرّ بدعائه إليه.
ثم فصّل كيفية دعائه بقوله:
(قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإنى خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقرا) أورد زكريا عليه السلام قبل سؤاله أمورا ثلاثة، كل منها يستحق الرحمة والشفقة:
(1) ضعفه ظاهرا وباطنا، وأثر الأول قد ظهر فى العظام التي هى حاملة سائر الأعضاء، ومتى وصل إليها الضعف كان ضعف ما عداها أولى وأجدر، وأثر الثاني واضح باستيلاء الشيب على الرأس واضطرامه فى السواد كما قال ابن دريد:
إما ترى رأسى حاكى لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيضّ فى مسودّه ... مثل اشتعال النار فى جمر الغضا
(2) إنه ما ردّ دعاؤه ولا خاب استعطافه حينا من الدهر، بل كان كلما دعا استجيب له، وهو فى هذه الحال أجدر بالإجابة لضعفه وشيخوخته، وفى هذا إشارة إلى لطف الله به، وعظيم فضله عليه، مدى حياته.
وقد روى التاريخ أن معن بن زائدة أتاه سائل فقال من أنت؟ قال أنا الذي أحسنت إليه حين كذا، قال مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
(3) إن فى إجابة الطلب منفعة دينية، إذ أنه خاف أن الموالي أي الورثة الذين يخلفونه فى إقامة الشعائر الدينية- لا يؤدون ما يجب عليهم نحو الدين من نشره وتبليغه الناس وعبادة الله كما أمر، والذبّ عنه إذا جد الجدّ، ووجب الدفاع عنه، فقد أثر عنهم(16/34)
أنهم كانوا من شرار بنى إسرائيل، فخافهم ألا يحسنوا خلافته فى أمته، لا فى الدين ولا فى المال، ولا فى السياسة التي تتبع فى إدارة شؤونها.
وقد عرف زكريا عليه السلام ببعض الأمارات أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم فى الشر والفساد فخافهم على الدين أن يغيّروه، وألا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه يقتدى به فى إحيائه، وينهج نهجه فيه فقال:
(فهب لى من لدنك وليا. يرثنى ويرث من آل يعقوب «1» واجعله رب رضيا) أي أعطني من واسع فضلك، وعظيم جودك وعطائك، لا بطريق الأسباب العادية ولدا من صلبى، يرث الحبورة منى، ويرث من بنى ماثان ملكهم (قال الكلبي كان بنو ماثان رؤس بنى إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ) ويكون برا تقيا مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمه.
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران حكاية عنه «قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة» وقوله فى سورة الأنبياء «وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين» .
ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسه فقال:
(يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) أي فاستجاب دعاءه وقال: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى (معرّب يوحنا، ففى إنجيل متى أنه يدعى يوحنا المعمدانى لأنه كان يعمّد الناس فى زمانه) لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه.
ثم ذكر جواب زكريا عند هذه البشرى مظهرا التعجب مما سمع:
(قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا؟) أي ومن أي وجه يكون لى ذلك وامرأتى عاقر لا تحبل، وقد ضعفت من الكبر
__________
(1) هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان والد مريم.(16/35)
عن مباضعة النساء، أبأن تقوّينى على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجى ولودا وأنت القادر على ما تشاء، أم بأن أتزوج زوجا غير تلك العاقر؟
وخلاصة ذلك- إنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبله الولد الذي بشره به، لا إنكار منه لذلك وكيف يكون منه الإنكار لذلك وهو المبتدئ مسألة ربه به بقوله: فهب لى من لدنك وليا.
وإجمال المعنى- إنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشّر بالولد، وفرح فرحا شديدا وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته عاقر لم تلد من أول عمرها، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا: أي يبس عظمه ونحل ولم يبق له قدرة على قربان النساء، وكأنّه يقول: إنى حين كنت شابا وكهلا لم أرزق الولد لاختلال أحد السببين وهو عقم المرأة، أفحين اختل السببان أرزقه؟
(قال كذلك) أي قال الله تعالى: الأمر كما قلت، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة.
ثم علل هذا بقوله:
(قال ربك هو على هين) أي قال ربك الذي عوّدك الإحسان: خلق ولد منكما على هذه الحال هيّن، فإنى إذا أردت شيئا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة.
ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال:
(وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) أي وليس خلق الغلام الذي وعدتك أن أهبه لك مع كبر سنك وعقم زوجك بأعجب من خلق البشر جملة من العدم، فإن خلق آدم ما هو إلا أنموذج لسائر أفراد الجنس، مستتبع لجريان آثاره عليه، فإبداعه عليه السلام على هذا النمط إبداع لجميع أفراد ذريته، والقادر على خلق الذوات والصفات من العدم المحض يكون أجدر بالقدرة على تبديل الصفات بخلق الولد من الشيخ والشيخة.(16/36)
وخلاصة ذلك- أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم، أجدر به أن يكون قادرا على تبديل الصفات، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد كما قال «فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه» .
ثم أخبر سبحانه أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشّر به، ليطمئن قلبه بما وعد به كما قال إبراهيم من قبله «رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبى» فقال حاكيا عنه:
(قال رب اجعل لى آية) أي قال رب اجعل لى علامة تدلنى على تحقق المسئول فى زمن معين، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت، والحمل خفى فى مبدئه ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها- إلى أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها.
ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال:
(قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي علامتك على وجود المبشر به وحصول الحمل، ألا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف فى محاوراتهم وثلاث ليال وأنت صحيح، سوىّ الخلق، سليم الجوارح، ليس بك علة ولا مرض؟.
وجاء فى سورة آل عمران «قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا» .
(فخرج على قومه من المحراب) أي فخرج غبّ إعلام الله له بهذه الآية على قومه من المحراب (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة فى مقدّم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن فى المعبد) ممتقع اللون منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس (وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب، إذ كان من عادتهم أن يصلوا معه صلاتى الغداة والعشى فى محرابه) فقالوا مالك يا نبى الله؟.(16/37)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
(فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) أي فأومأ إليهم وأشار كما جاء فى الآية الأخرى «إلا رمزا» أي سبحوا الله ونزهوه عن الشريك والولد، وعن كل نقص طرفى النهار.
وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية، فلما تعذّر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشّر به من ذلك الأمر العجيب فى مجرى العادة فسرّوا به.
فلما ولد وبلغ سنا يؤمر فيه مثله قلنا:
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
تفسير المفردات
الكتاب: هو التوراة، والقوة: الجد والاجتهاد، والحكم والحكمة: الفقه فى الدين، وحنانا: أي عطفا على الناس، وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام، تقيا: أي مطيعا لأمر ربه، منتهيا عما نهى عنه، وبرا بوالديه: أي كثير البر والإحسان إليهما، جبارا:
أي متعاليا عن قبول الحق والإذعان له، عصيا: أي مخالفا أمر مولاه، سلام: أي أمان من الله عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دعاء زكريا ربه أن يهبه غلاما سريا، وذكر أنه أجاب طلبه وجعل لذلك أمارة يعلم منها وقت الحمل به- ذكر هنا أنه بعد أن ظهر ذلك المولود إلى عالم الوجود وترعرع ونما، أمره بالجد والعمل لطاعته، وجعله برّا بوالديه، لا يعصى أوامر ربه، ولا يتعالى عن قبول الحق.(16/38)
الإيضاح
(يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أي خذ التوراة التي هى نعمة الله على بنى إسرائيل بجدّ واجتهاد، وحرص على العمل بها.
ثم وصفه الله بصفات كلها مناهج للخير ووسائل للطاعة فقال:
(1) (وآتيناه الحكم صبيا) أي وأعطيناه الحكمة والفقه فى الدين والإقبال على الخير وهو صغير لم يتم سبع سنين، روى أن الغلمان قالوا له يوما: هيّا بنا نلعب، قال:
ما للّعب خلقنا اذهبوا بنا نصلى.
(2) (وحنانا من لدنا) أي وجعلناه ذا حنان وشفقة على الناس وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم، وقد وصف الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا فى قوله «فبما رحمة من الله لنت لهم» وقوله «حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم» (3) (وزكاة) أي طهارة من الدنس وبعدا من اجتراح الذنوب والآثام.
(4) (وكان تقيا) أي مطيعا لما به أمر وعنه نهى، فلم يفعل معصية ولا همّ بها.
(5) (وبرا بوالديه)
أي كثير البر بهما والإحسان إليهما والحدب عليهما بعيدا عن عقوقهما قولا وفعلا، وقد جعل الله طاعة الوالدين فى المرتبة التي تلى مرتبة طاعته فقال: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» .
(6) (ولم يكن جبارا)
أي لم يكن متكبرا على الناس، بل كان ليّن الجانب متواضعا لهم، وقد أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا فى قوله: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين» ووصفه بقوله: «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعدا من رحمة ربه.
(7) (عصيا) أي مخالفا لما أمره ربه.
ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح وأسلف من طاعة ربه فقال:
(وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)
أي وتحية من الله عليه أول ما يرى الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار.(16/39)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
وإنما خص هذه المواضع الثلاثة، لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيها لضعفه وحاجته وقلة حيلته، وافتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به.
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)
تفسير المفردات
انتبذت: أي اعتزلت وتنحّت، مكانا شرقيا: أي شرقى بيت المقدس، حجابا:
أي ساترا تورات به منهم، روحنا: هو جبريل عليه السلام، سويا: أي سويّ الخلق كامل البنية، أعوذ: أي أعتصم وألتجئ، تقيا: أي مطيعا، لأهب لك: أي لأكون سببا فى هبته، غلاما: أي ولدا ذكرا، زكيا: أي طاهرا من الأدناس والأرجاس، أنى: أي كيف يكون ذلك؟ آية: أي علامة على قدرة خالقكم، مقضيا: أي محتوما قد تعلق به قضاؤنا الأزلى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجه ولدا زكيا مباركا- أردف ذلك بذكر قصص مريم وأنه أنجب منها ولدا من غير أب،(16/40)
وبين القصصين مناسبة ظاهرة، ومن ثم ذكرهما مقترنين فى سورة آل عمران وهنا وفى الأنبياء، وبدأ بقصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد بلا أب، ثم ثنّى بقصة عيسى لأنها أغرب من تلك.
ومن حسن طرق التعليم والتفهيم التدرج بالانتقال من الأقرب منالا إلى أصعب منه، وهكذا صعدا.
الإيضاح
(واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا)
أي واتل أيها الرسول فى كتاب الله الذي أنزله إليك بالحق، قصص مريم بنة عمران حين اعتزلت من أهلها وانفردت عنهم إلى مكان شرقى بيت المقدس لتتخلى للعبادة.
وعن ابن عباس أنه قال: إنى لأعلم خلق الله لأى شىء اتخذ النصارى المشرق قبلة، لقول الله عز وجل: «إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا»
فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؟.
(فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا)
أي فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام فجاءها بصورة رجل معتدل الخلق ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، إذ ربما يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها أسى وغما، وإنما مثّل لها بهذا المثال، لتأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته، ولأنّه لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع محاورته.
ثم حكى عنها سبحانه ما قالته حينئذ فقال:
(قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا)
أي فلما رأته فزعت منه وقالت:(16/41)
إنى أستجير بالرحمن منك أن تنال منى ما حرّم الله عليك إن كنت ذا تقوى له، تتقى محارمه، وتجتنب معاصيه، فمن يتق الله يجتنب ذلك.
وإجمال المعنى- إنه لما تبدى لها فى صورة البشر وهى فى مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت: إنى أعوذ بالله منك إن كنت تخافه- وقد فعلت المشروع فى الدفع وهو أن يكون بالهوينى والأسهل فالأسهل.
وخلاصة ذلك- إن الاستعاذة لا تؤثر إلا فى التقى، لأن الله تعالى يخشى فى حال، دون حال، فهو كقوله: «وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين» أي إن الإيمان يوجب ذلك.
فلما علم جبريل خوفها:
(قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا)
أي فقال الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست ممن تظنين، ولا يقع منى ما تتوهمين من الشر، ولكنى رسول ربك بعثني إليك، لأهب لك غلاما طاهرا مبرّأ من العيوب، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده بأن نفخ فى جيبها بأمر الله.
ولما عجبت مريم مما سمعت:
(قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) أي قالت لجبريل:
من أي وجه يكون لى غلام، ولست بذات زوج، ولا يتصور منى الفجور؟.
(قال كذلك قال ربك هو على هين) أي قال الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام وإن لم تكونى ذات بعل، ولا تقترفين فاحشة، فإنه تعالى على ما يشاء قدير، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده، ولا يحتاج فى إنشائه إلى الموادّ والآلات.(16/42)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» .
(ولنجعله آية للناس) أي وفعلنا ذلك لنجعل خلقه برهانا على قدرتنا، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلقنا عيسى من أنثى فحسب، وخلقنا بقية الذرية من ذكر وأنثى، وإلى الأولين أشار القائل:
ألا رب مولود وليس له أب ... وذى ولد لم يلده أبوان
(ورحمة منا) أي ورحمة من الله لعباده، إذ بعثه نبيا يدعوا إلى عبادته وتوحيده.
(وكان أمرا مقضيا) أي قد قضاه الله فى سابق علمه، ومضى به حكمه، فلا يغير.
ولا يبدّل: «ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد» .
[سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 26]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
تفسير المفردات
فانتبذت: أي فاعتزلت، قصيا: أي بعيدا من أهلها وراء الجبل، فأجاءها المخاض:
أي فألجأها واضطرها، والمخاض: الطلق حين تحرك الولد للخروج من البطن والنسى:
(بفتح النون وكسرها) الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، والمنسى: ما لا يخطر بالبال لتفاهته، والسرىّ: السيد الشريف،(16/43)
والهز: تحريك الشيء بعنف أو بدونه، تساقط: أي تسقط، ورطبا: أي بسرا ناضجا جنيا: أي صالحا للاجتناء، فقولى: أي أشيرى إليهم. قال الفرّاء: العرب تسمى كل ما أفهم الإنسان شيئا- كلاما بأى طريق كان، إلا إذا أكد بالمصدر فيكون حقيقة فى الكلام كقوله: «وكلم الله موسى تكليما» صوما: أي صمتا.
الإيضاح
(فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) أي فلما قال لها جبريل ما قال: استسلمت لقضاء الله، فنفخ جبريل فى جيب درعها (الفتحة التي من الأمام فى القميص) فدخلت النفخة فى جوفها فحملته قاله ابن عباس، وقال غيره: نفخ فى كمها، والقرآن قد أثبت النفخ فقال: فنفخنا فيها من روحنا» ولم يعين موضع النفخ فلا نجزم بشىء من ذلك إلا بالدليل القاطع، وحينئذ اعتزلت بالذي حملت وهو عيسى عليه السلام مكانا قاصيا عن الناس.
والقرآن الكريم لم يعين مدة الحمل (ولا حاجة إليها فى العبرة) فنقول إنها كانت كما يكون غيرها من النساء إلا إذا ثبت غيره، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة.
وإنما اتخذت المكان البعيد حياء من قومها وهى من سلائل بيت النبوة، ولأنها استشعرت منهم اتهامها بالريبة، فرأت أن لا تراهم وأن لا يروها.
(فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) أي فألجأها وجع الولادة وألم الطلق أن تستند إلى جذع النخلة للتشبث به، لسهولة الولادة، وتمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت، حياء من الناس وخوفا من لأئمتهم، أو كانت شيئا لا يعتد به ولا يخطر ببال أحد من الناس.(16/44)
(فناداها من تحتها: ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) أي فناداها عيسى عليه السلام كما قال الحسن البصري وسعيد بن جبير، (وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد بادى ذى بدء علوّ شأن ذلك المولود الذي بشرها به جبريل عليه السلام) ألا تحزنى فقد جعل ربك المحسن إليك، تحتك غلاما رفيع الشأن، سامى القدر ذا سخاء في مروءة.
(وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) أي أميلى إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه، يسقط عليك رطبا جنيا تأكلين منه ما تشائين.
وتلك آية أخرى لها إذ روى أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء، فأنزل الله لها رزقا فجعل للنخلة رأسا وخوصا وجعل لها ثمرا رطبا- وهذه رواية يعوزها الدليل.
وفى هذا إيماء وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة فى الشتاء يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية، وإلى أن السعى فى الرزق مطلوب ولا ينافى التوكل، ولله در القائل:
ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزّى إليك الجذع يسّاقط الرّطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه ... إليها ولكن كل شىء له سبب
(فكلى واشربى وقرى عينا) أي فكلى من ذلك الرطب، واشربى من عصيره، وطيبى نفسا، وأبعدى عنك الأحزان، فإن الله قدير أن ينزّه ساحتك ويبعد عنك تخرّصات المبطلين الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله الطريق للولادة فى البشر، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر.
(فإما ترين من البشر أحدا فقولى إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) أي فإن رأيت أحدا من بنى آدم يسألك عن أمرك، وأمر ولدك وكيف ولدته، فأشيرى إليهم- إنى أوجبت على نفسى لله صمتا ألّا أكلم اليوم أحدا، فإن كلامى يقبل الرد والجدل، ولكن يتكلم عنى ذلك المولود الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد، وإنى أنزّه نفسى عن مجادلة السفهاء، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجى الخالق.(16/45)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإسلام، فقد روى أن أبا بكر دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم، فقال: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمى، وروى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود أنه جاءه رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا، فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلّم؟ قال إنه نذر صوما، لا يكلم اليوم إنسيا، فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا- فتكلّم، وأمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فإنه خير لك.
[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
تفسير المفردات
فريّا: أي عظيما خارقا للعادة، وهى الولادة بلا أب، من فرى الجلد أي قطعه على وجه الإفساد أو الإصلاح، ومنه فى وصف عمر «فلم أر عبقريا يفرى فريّه» وفى المثل:
جاء يفرى الفرىّ، وهارون هو أخو موسى عليه السلام، وقيل هو رجل صالح من بنى إسرائيل، والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكما، أو لما رأوا من(16/46)
قبل من صلاحها، والمهد: الموضع يهيّأ للصبى ويوطّأ له والجمع مهود، والكتاب:
الإنجيل، مباركا: نفّاعا للناس، أو ثابتا فى دين الله، الجبار: المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والشقي: العاصي لربه.
الإيضاح
(فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا) أي إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها، ولا تكلم أحدا من البشر، وأنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها- سلمت أمرها إلى الله، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا ما رأوا، واستنكروا وقالوا يا مريم، لقد جئت أمرا عظيما منكرا.
ثم زادوا تأكيدا فى توبيخها وتعييرها فقالوا:
(يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا) أي يا من أنت من نسل هارون أخى موسى، كما يقال للتميمى يا أخا تميم، وللمصرى يا أخا مصر، أو يا من أنت شبيهة بذلك الرجل المسمى بهذا الاسم الذي كنت تتأسّين به فى العبادة والزهد- ما كان أبوك بالفاجر وما كانت أمك بالبغىّ، فمن أين لك هذا الولد؟!.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبى شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا أخبرتم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم»
وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى عن السلف فى ذلك.
(فأشارت إليه) أي فأشارت إلى عيسى أن كلّموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، أو اقتصرت على ذلك(16/47)
للمبالغة فى إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة، ويقدر على العبارة.
(قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) أي قالوا لها، متهكمين بها، ظانين أنها تزدرى بهم وتهزأ: كيف نكلم من هو صبى فى المهد، ولم يعهد فى مثله وهو لم يدرج بعد من حجر أمه أن يكلم أحدا؟.
روى أن عيسى لما سمع كلامهم أقبل عليهم وترك الرضاع وأشار بيمينه، ثم بدأ يتكلم فوصف نفسه بجملة صفات:
(1) (قال إنى عبد الله) أي إنى عبد الله الذي له صفات الكمال لا أعبد غيره، وفى هذا إيماء إلى أن من كان لا يتخذ إلها من دونه، ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
(2) (آتانى الكتاب) أي سينزل علىّ الإنجيل.
(3) (وجعلنى نبيا) أي وسيجعلنى نبيا، وفى هذا براءة لأمه، لأن الله لا يصطفى لنبوته أولاد سفاح.
(4) (وجعلنى مباركا أين ما كنت) أي سيجعلنى نفاعا للناس هاديا لهم إلى سبيل الرشاد فى أىّ مكان كنت، وقد جعل هذه الصفات كأنها حدثت له فعلا وهى لم تحصل بعد، من قبل أنها لما كانت واقعة حتما نزّلت منزلة ما قد حصل.
(5) (وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) أي وأمرنى بالصلاة، إذ فى إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين- تطهير النفوس من الأرجاس ومنع لها عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمرنى بالزكاة بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج، لما في ذلك من تطهير المال- ما دمت حيا فى الدنيا.
(6) (وبرا بوالدتى) أي وجعلنى برا بوالدتي، مطيعا لها محسنا، وفى هذا رمز إلى نفى الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها.(16/48)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
(7) (ولم يجعلنى جبارا شقيا) أي ولم يجعلنى جبارا مستكبرا عن عبادته، ولا شقيا بعقوق والدتي وعدم البر بها.
(8) (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) أي والأمنة من الله علىّ، فلا يقدر أحد على ضرّى فى هذه المواطن الثلاثة التي هى أشق ما تكون على العباد.
واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم فى المهد، واحتج النصارى على ذلك بأن هذا من الأحداث التي لو وجدت لتوافرت الدواعي على نقلها تواترا، لأنه من المناقب السامية، والفضائل التي لها الميزة العظمى بين الناس، ولما لم يعرف ذلك لدينا مع تتبعنا لفضائله، وشدة بحثنا عن الجليل والحقير من أحواله- علمنا أنه لم يوجد وأيضا فاليهود أظهروا عداوته حين ادعى النبوة، فلو أنه تكلم إذ ذاك لكانت عداوتهم له أشد، ولكان تحيلهم فى قتله أعظم، ومن حيث لم يحصل شىء من هذا علمنا أنه لم يتكلم.
والمسلمون يقولون: كفى إثباتا لذلك نص القرآن القاطع- إلى أن العقل يرشد إليه، إذ لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا الحد عليها، وربما كان الحاضرون حين كلامه عددا قليلا ومن ثم لم يشتهر بينهم، وربما لم يحضر اليهود كلامه، ولم يسمعوا به.
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)(16/49)
تفسير المفردات
قول الحق: أي قول الصدق الذي لا شبهة فيه، يمترون: أي يشكّون ويتنازعون، ما كان لله أن يتخذ من ولد. أي ما ينبغى ولا يصح أن يجعل له ولدا، صراط مستقيم: أي طريق لا يضل سالكه، الأحزاب: فرق النصارى الثلاث، مشهد:
أي شهود وحضور، يوم عظيم: هو يوم القيامة، اليوم: أي فى الدنيا، يوم الحسرة، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا فى جنب الله، قضى الأمر: أي فرغ من الحساب.
الإيضاح
(ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون) أي ذلك الذي فصّلت نبوّته، وذكرت مناقبه وأوصافه، هو عيسى بن مريم، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء.
ثم أكد ما دل عليه سابق الكلام من كونه ابنا لمريم لا لغيرها بقوله:
(ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته أن يتخذ الولد لأنه لو أراده لخلقه بقول «كن» فلا حمل ولا ولادة، ولأن الولد إنما يرغب فيه، ليكون حافظا لأبيه يعوله وهو حىّ، وذكرا له بعد الموت، والله تعالى لا يحتاج إلى شىء من ذلك لعالم كله خاضع له، لا حاجة له إلى ولد ينفعه، وهو حى أبدا.(16/50)
ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى تنزيهه تعالى عن ذلك فقال:
(سبحانه) أي تنزه ربنا عن كل نقص من اتخاذ الولد أو غيره.
ثم ذكر علة هذا التنزيه وبيان الوجه فيه فقال:
(إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» ومن كان هذا شأنه فكيف يتوهم أن يكون له ولد، لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج؟.
(وإن الله ربى وربكم فاعبدوه) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو فى مهده أن أخبرهم بقوله- إن الله ربى وربكم، وأمرهم بعبادته.
(هذا صراط مستقيم) أي هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرنى به هو الطريق المستقيم فمن سلكه نجا، ومن اتبعه اهتدى، لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه، من خالفه ضل وغوى، وسلك سبيل الردى.
ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر فى شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه- اختلفوا فيه كما قال:
(فاختلف الأحزاب من بينهم) أي فاختلف قوم عيسى فى شأنه فرقا ثلاثا.
فقالت اليعقوبية: (نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب) هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت النسطورية (نسبة إلى عالم يسمى نسطور) . هو ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه. وقالت الملكانية (نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفا عالما) إنه عبد الله كسائر خلقه. وهذا الرأى هو الذي نصره الملك ونصره غيره من شيعته.
ثم توعد من كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا فقال:
(فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) أي فعذاب شديد للكافرين من شهود ذلك اليوم وهو يوم القيامة، لشدة بأسه وعذابه، فالأيدى والأرجل والألسن(16/51)
تشهد على أصحابها، وقد أجل الله عقابهم إلى هذا اليوم حلما منه وثقة بقدرته عليهم، فهو لا يعجّل عقوبة من عصاه كما
جاء فى الصحيحين «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد)
وفى الصحيحين أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله- إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» .
ثم عجب ربنا من قوة سمع الكفار وحذّة أبصارهم يوم القيامة وقد كانوا على الضد من هذا فى الدنيا فقال:
(أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين) أي لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادا وزعموا أن له ولدا- عميا فى الدنيا عن إبصار الحق والنظر إلى حجج الله التي أودعها فى الكون دالة على وحدانيته وعظيم قدرته وبديع حكمته، صما عن سماع آي كتبه وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم فى دينهم ودنياهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم- فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم فى الآخرة، وما أبصرهم حينئذ، حيث لا يجدى السماع والإبصار شيئا، ويعضّون على أناملهم حسرة وأسفا، ويتمنون على الله الأمانى، فيودون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات هيهات فقد فات الأوان.
صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب
ومن ثم لا يجاب لهم طلب، بل يقال لكل أفاك أثيم «خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه. ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم» .
ثم أمر سبحانه نبيه أن ينذر قومه والمشركين جميعا فقال:
(وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون) أي وأنذر الناس جميعا يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا فى جنب الله حين فرغ من الحساب، وذهب(16/52)
أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، ونودى كل من الفريقين لا خروج من هنا بعد اليوم، ولا موت بعد اليوم.
روى الشيخان والترمذي عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح (يخالط بياضه سواد) فينادى مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون.
نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، ثم ينادى مناد يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ «وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون» .
وقوله إذ قضى الأمر أي إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها بذبح الموت.
وذبحه تصوير لأن كلّا من الفريقين يفهم فهما لا لبس فيه أنه لا موت بعد ذلك.
وقوله: وهم فى غفلة: أي عن ذلك اليوم، وعن حسراته وأهواله، وقوله: وهم لا يؤمنون: أي وهم لا يصدّقون بالقيامة والبعث ومجازاة الله لهم على سييء أعمالهم بما أخبر أنه مجازيهم به.
ثم سلى رسوله وتوعد المشركين فقال:
(إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم، ثم نجازى كل نفس بما عملت حينئذ، فنجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب.(16/53)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
تفسير المفردات
واذكر فى الكتاب: أي اتل فى هذه السورة، صدّيقا: أي مبالغا فى الصدق لم يكذب قط، صراطا سويا: أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل السعادة، وليا: أي قرينا تليه ويليك فى العذاب، أراغب أنت عن آلهتي: أي أكاره لها، لأرجمنك: أي لأشتمنك باللسان أو لأرجمنك بالحجارة، مليّا: أي دهرا طويلا. قال مهلهل:
فتصدعت صمّ الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات مليّا(16/54)
حفيا: أي مبالغا فى برّى وإكرامى يقال: حفى به إذا اعتنى بإكرامه، شقيا: أي خائب المسعى، لسان صدق: أي ثناء حسنا.
المعنى الجملي
اعلم أن المقصد من هذه السورة إثبات الوحدانية والنبوة والبعث، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبتوا معبودا سوى الله حيا عاقلا وهم النصارى. وفريق أثبتوا معبودا هو جماد ليس بحي ولا عاقل وهم عبدة الأصنام. والفريقان وإن اشتركا فى الضلال، فضلال الفريق الثاني أشد، ومن ثم قدم الكلام فى النصارى على الكلام فى عبدة الأصنام. وذكر قصص إبراهيم أوّلا لأنه أبو العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه، معترفين بدينه كما قال «ملة أبيكم إبراهيم» إلى أنه تعالى نبههم إلى أن الطريق التي جروا عليها وهى التقليد بنحو قولهم «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون» تخالف طريق الاستدلال التي سار عليها أبوهم إبراهيم فى حجاجه مع أبيه آزر.
الإيضاح
(واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبية يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا؟)
أي واتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدّعون أنهم على ملته (وهو الصّدّيق النبي) . حين نهى قومه عن عبادتها وقال لأبيه: ما الذي حبّب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرا إذا استنصرت به؟.
وقد سلك عليه السلام فى دعوته أجمل الآداب فى الحجاج، واحتج بأروع البرهانات ليرده عن غيه، ويقفه على طريق الهدى والرشاد، فاستهجن منه أن يعبد(16/55)
ما يستخفّ به كل ذى لبّ، ويأبى الركون إليه كل ذى عقل، فالعبادة هى الغاية القصوى فى التعظيم، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات، ولا تنظر الأشياء، وتعجز عن جلب المنافع، ودفع المضار.
وقصارى ما قال- إن الإنسان السميع البصير يأنف أن يعبد نظيره، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه، وعن الإنسانية بفقد العقل، وعن الحيوانية بفقد الحواس.
أما كان لك عبرة فى حاجته وفقده السمع والبصر؟.
(يا أبت إنى قد جاءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا) أي يا أبى إنى وإن كنت من صلبك، وترانى أصغر منك لأنى ولدك، فاعلم أنى قد اطّلعت من العلم على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، فاتبعنى أهدك طريقا مستقيما لا زيغ فيه، يوصلك إلى نيل المطلوب، وينجيك من كل مرهوب.
وفى قوله: قد جاءنى إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبّىء، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصّله إلى الجنة ونعيمها، ويبعد به عن النار وعذابها.
(يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطع الشيطان فى عبادة هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها.
ونحو الآية قوله: «ألم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين» وقوله: «إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا» .
ثم بين سبب النهى عن طاعته بقوله:
(إن الشيطان كان للرحمن عصيا) أي إن الشيطان عاص مستكبر عمن شملته(16/56)
رحمتك، وعمّته نعمتك، ولا ريب فى أن من أطاع العاصي يكون عاصيا وجديرا بأن تسترد منه النعم، وحقيقا بأن تنزل عليه النقم.
ثم حذره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال:
(يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) أي يا أبى إنى أخاف لمحبتى لك، وغيرتى عليك، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك.
(فتكون للشيطان وليا) أي قرينا وتابعا له فى النار.
وقصارى ذلك- إنى أخاف أن تكون تابعا للشيطان فى الدنيا، فيمسّك عذاب من الرحمن فى العقبى.
ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ واللطف، قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك.
(قال أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم؟) أي أتكره آلهتي، ولا ترغب فى عبادتها يا إبراهيم؟.
(لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من النهى عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتنى إليه، لأرجمنك بالحجارة، فاحذرنى وابعد عنى بالمفارقة من الدار والبلد دهرا طويلا.
وقد قابل الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل يا بنى كما قال الابن يا أبت، وقابل وعظه بالسفاهة، إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: لئن لم تنته لأرجمنك.
وفى ذلك تسلية للنبى صلّى الله عليه وسلّم وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه ويقاسيه منهم ومن عمه أبى لهب من العنت والمكروه.
ولما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين:
(1) (قال سلام عليك) أي سلمت منى لا أصيبك بمكروه ما لم أومر فيك بشىء، وهذا جواب الحليم للسفيه، وفيه توديع ومتاركة ومقابلة للسيئه بالحسنة، وزاد على ذلك أن قال:(16/57)
(2) (سأستغفر لك ربى) أي سأطلب لك من ربى الغفران، بأن يوفقك للهداية، وينير بصيرتك لقبول الحق، ويرشدك إلى ما فيه الخير.
ونحو الآية قوله: «واغفر لابى إنه كان من الضالين» .
وقصارى دعائه- رب اهد أبى، وأخرجه من الضلال.
وإنما استغفر له، لأنه كان قد وعده أن يؤمن كما قال: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه» .
ثم ذكر أنه محبب إلى ربه فإذا هو استغفر له أجاب طلبه فقال:
(إنه كان بى حفيا) أي إنه سبحانه للطفه بي، وإنعامه علىّ، عوّدنى الإجابة، فإذا أنا استغفرت لك أغاثك بجوده وكرمه، وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت ثم بين ما بيّت النية عليه، وعزم على إنفاذه فقال:
(وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي وأتباعد عنك وعن قومك وعما تعبدون من الأوثان والأصنام، وأفر بديني وأتشاغل بعبادة ربى الذي ينفعنى ويضرنى، إذ لم تؤثر فيكم نصائحى.
وقد روى أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام، وفى هجرته هذه تزوج سارّة.
(وادعوا ربى) أي وأعبده سبحانه وحده، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات.
(عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) أي لعلى لا أكون بدعاء ربى المنعم علىّ خائب المسعى، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم.
وقد حقق ما عزم عليه، فحقق الله رجاءه، وأجاب دعاءه فقال:
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب، وكلا جعلنا نبيا) أي فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه لم يضره ذلك لا فى دين ولا دنيا، بل نفعه إذ أبدله بهم من هم خير منهم ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بنى إسرائيل(16/58)
ولهم الشأن الخطير، والقدر العظيم، فقد وهبه إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة. أما إسماعيل فتولى الله تربيته بعد نقله رضيعا إلى المسجد الحرام فأحيا تلك المشاعر العظام، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله: «واذكر فى الكتاب إسماعيل» الآية.
ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته بقوله:
(وكلا جعلنا نبيا) أي وجعلنا لكل منهما نسلا وعقبا من الأنبياء أقر الله بهم عينيه فى حياته.
(ووهبنا لهم من رحمتنا) أي وآتينا هم من فضلنا الديني والدنيوي ما لم نؤته أحدا من العالمين، فآتيناهم النسل الطاهر، والذرية المباركة، وإجابة الدعاء، واللطف فى القضاء، والبركة فى المال والأولاد إلى نحو أولئك من خيرى الدنيا والآخرة.
(وجعلنا لهم لسان صدق عليا) فمحامدهم مذكورة فى جميع الأزمان، سطّرها الدهر على صفحاته، استجابة لدعوته عليه السلام بقوله: «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» قال ابن جرير وإنما قال عليّا، لأن جميع الملل والأديان تثنى عليهم وتمدحهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد اجتمعت لإبراهيم خلال لم تجتمع لسواه:
(1) إنه اعتزل قومه حبا فى الله، فآتاه الله من هم خير منهم، فوهب له إسماعيل وإسحاق ويعقوب.
(2) إنه تبرأ من أبيه حين تبين منه أنه عدو لله، لا جرم سماه الله أبا المسلمين بقوله: «ملة أبيكم إبراهيم» .
(3) إنه تلّ ولده للجبين، ليذبحه إطاعة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم.
(4) إنه أسلم نفسه للنار ابتغاء رضوان الله فكانت عليه بردا وسلاما.
(5) إنه أشفق على هذه الأمة فقال: «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم»(16/59)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
فأشركه الله فى الدعاء وفى الصلوات الخمس- وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
(6) إنه عادى كل الخلق فى الله فقال: «فإنهم عدو لى إلا رب العالمين» فاتخذه الله خليلا كما أخبر بذلك الكتاب: «واتخذ الله إبراهيم خليلا» .
(7) إن الله مدحه بقوله: «وإبراهيم الذى وفى» لا جرم جعل موطىء قدميه مباركا كما قال: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» .
قصص موسى عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
تفسير المفردات
مخلصا: أي مختارا مصطفى، وقربناه: أي تقريب تشريف وتكريم، والطور:
هو الجبل الذي بين مصر ومدين، ونجيا: أي مناجيا مكلّما لله بلا واسطة.
الإيضاح
(واذكر فى الكتاب موسى) أي واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى عليه السلام من صفات الجلال والكمال التي سأقصها عليك، ليستبين لك علو قدره وعظيم شأنه، وتلك هى:
(1) (إنه كان مخلصا) أي إن الله أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس، وطهّره من الذنوب والآثام كما جاء فى الآية الأخرى: «إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى» .(16/60)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
(2) (وكان رسولا نبيا) أي إن الله أرسله إلى الخلق داعيا ومبشرا ونذيرا، والرسول هو من أرسله الله إلى الناس ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها كموسى عليه السلام، والنبىّ هو الذي ينبىء عن الله ويخبر قومه عنه، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام.
(3) (وناديناه من جانب الطور الأيمن) أي وكلمناه من الجانب الأيمن للطور أي الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجها إلى مصر، وأنبأناه بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، ورحمنا بنى إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم.
(4) (وقربناه نجيا) أي وقربناه تقريب تشريف وإجلال حين مناجاته لنا وقد مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته، واصطفاه لمصاحبته، ورفع الوسائط بينه وبينه.
وقصارى ذلك- إنه تجاوز العالم المادي، وانغمس فى العالم الرّوحى، فقرب من ربه وارتقت نفسه حتى بلغت أقصى مناها، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت، ورؤية ما غاب عن عالم المادة.
(5) (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) أي ووهبنا له من رحمتنا معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته عليه السلام بقوله: «واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى» وحققنا ما طلبه له، وجعلناه نبيا: «قال قد أوتيت سؤلك يا موسى» قال بعض السلف: ما شفع أحد فى أحد فى الدنيا أعظم من شفاعة موسى فى هرون أن يكون نبيا، قال ابن عباس: كان هرون أكبر من موسى بأربع سنين.
قصص إسماعيل عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)(16/61)
المعنى الجملي
قدم الكلام فى موسى على الكلام فى إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه فى نسق واحد دون فاصل بينهما، وإسماعيل هو إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفات هى مفخرة البشر ومنتهى السموّ والفضل فى هذه الدنيا.
الإيضاح
(واذكر فى الكتاب إسماعيل) أي اتل أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل، علّهم يهتدون بهديه، ويحتذون حذوه، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها:
(1) (إنه كان صادق الوعد) فما وعد عدة إلا وفّى بها، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال: «ستجدنى إن شاء الله من الصابرين» فصدق فى ذلك ووفّى بما قال وامتثل حتى جاءه الفداء.
وصدق الوعد من الصفات التي حث عليها الدين، وشدد فيها أيّما تشديد فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟»
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان»
وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين، فلا تجد عالما ولا جاهلا إلا وهو بمنأى عنها ولا سيما التجار والصناع والعمال.
(2) (وكان رسولا نبيا) أي وكان رسولا إلى جرهم الذين حلّوا بمكة معه ومع أمه، وكان مرسلا من الله بتبليغ شريعة إبراهيم، فنبأ بها قومه وأنذرهم وخوفهم ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل.(16/62)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
(3) (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) أي إنه بعد أن كمل نفسه اشتغل بتكميل أمته وأقرب الناس إليه، على نحو ما قاله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم: «وأنذر عشيرتك الأقربين» وقال: «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها» وقال:
«قوا أنفسكم وأهليكم نارا» .
(4) (وكان عند ربه مرضيا) عمله، محمودا فيما كلفه به، غير مقصّر فى طاعته، فاقتد أيها الرسول به، لأنه من أجلّ آبائك.
قصص إدريس عليه السلام
[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
الإيضاح
(واذكر فى الكتاب إدريس) بالثناء عليه، والنسابون يقولون: إنه جد أبى نوح عليه السلام، ويقولون: إنه أول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من نظر فى النجوم وتعلم الحساب. وجعل الله ذلك من معجزاته.
وإن تقادم العهد، وطول الزمن، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوّل عليه فى الرواية، يجعلنا فى شك من كل هذا، فعلينا أن نكتفى بما جاء به الكتاب الكريم فى شأنه، وقد وصفه الله بجملة صفات كلها مفاخر ومناقب إعظام وإجلال:
(1) (إنه كان صديقا) تقدم القول فى هذا.
(2) (نبيا) (3) (ورفعناه مكانا عليا) أي أعلينا قدره ورفعنا ذكره فى الملأ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: «ورفعنا لك ذكرك»(16/63)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
ويرى بعض الباحثين فى الآثار المصرية أن إدريس تعريب لكلمة (أوزريس- أموريس) وهو الذي ألف له المصريون القدماء رواية خلّدت فى بطون تواريخهم، ومنها أنه حصل بينه وبين أخيه تحاسد وشقاق أدى إلى قتله وتقطيعه إربا إربا، فجمعت امرأته تلك القطع وحفظتها وحنطتها، واتخذوه إلها بعد أن كان مصلحا عظيما.
وهذا القصص الخرافى جعل المصريين يعنون بتحنيط الموتى، وقد أفاد هذا العمل صناعة التحنيط ورقّاها حتى صارت مضرب الأمثال فى الخافقين.
وقد كان الملك والدين فى عهد تلك الدولة أمرا واحدا، فالملك يجمع بين شئون الدين والدنيا، فمن عصى الملك فقد عصى الله.
ويعتقدون أن أوزريس صعد إلى السماء وصار إلى العالم العلوي وله عرش عظيم فى السماء، ويتمتع بأعظم الخيرات، وكل من حفظ جسمه ووزنت أعماله بعد الموت وحكم القضاة وهم اثنان وأربعون قاضيا بأن حسناته غلبت سيئاته- يلحق بأوزريس وهذا النبي الذي جعلوه إلها بعد ذلك هو الذي علمهم العلوم والمعارف وينسبون الفضل فى ذلك إليه.
وقد ارتقت الأمة المصرية فى العلوم والمعارف إلى حد لم تصل إليه أمة أخرى لا فى القديم ولا فى الحديث، وخدمت النوع البشرى خدمة جليلة، فارتفاع إدريس إلى السماء راجع إلى رقى تعاليمه وانتفاع أمته بها، فالنبى بأمته، ومن ثم تجد آثار أمته بادية للعيان، بعد أن كانت خافية عن الأنظار.
وبعد أن ذكّر الله أولئك المرسلين أخذ يعدد مناقبهم ويذكر صفاتهم فقال:
[سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)(16/64)
تفسير المفردات
إسرائيل: يعقوب عليه السلام، واجتباه. اصطفاه واختاره، والسجّد، واحدهم ساجد، والبكىّ: وأحدهم باك، يقال: بكى يبكى بكاء، وبكيا: قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الجزن: أي لا صوت معه كما قال الشاعر:
بكت عينى وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل
المعنى الجملي
بعد أن أفرد الله كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به- أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.
الإيضاح
(اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي هؤلاء النبيون الذين قصصت أنباءهم عليك أيها الرسول هم الذين أنعم الله عليهم بما خصصهم به من مزيد القرب منه، وعظيم المنزلة لديه، وهداهم إلى سبيل الرشاد، ورفع ذكرهم بين العباد.
(من ذرية آدم) أبى البشر الأول.
(وممن حملنا مع نوح) أي ومن ذرية من حملنا مع نوح أبى البشر الثاني فى الفلك كإبراهيم خليل الرحمن.
(ومن ذرية إبراهيم) وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل.
(وإسرائيل) أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام، وهم: موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريم.
(وممن هدينا واجتبينا) أي ومن جملة من هديناهم إلى سبيل الحق، واجتبيناهم للنبوة والكرامة.(16/65)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) أي إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم فى كتبه- خروا لله سجدا استكانة له وتذللا، وخضوعا لأمره وانقيادا له، وهم باكون خشية منه وحذرا من عقابه.
قال صالح المرّى: قرأت القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام فقال:
يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟
وفى الحديث «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»
وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه» .
وقصارى ذلك- إنه سبحانه أبان علوّ أمرهم فى الدين والنسب والقرب منه.
جزاء خلف هؤلاء ممن ضل وغوى
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 60]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)
تفسير المفردات
الخلف: (بسكون اللام) عقب السوء، ويقال لعقب الخير والصدق خلف (بفتح اللام) ، أضاعوا الصلاة: أي تركوها بتاتا، اتبعوا الشهوات: أي انهمكوا فى المعاصي واللذات، غيّا: أي ضلالا، والمراد يلقون جزاءه فى نار جهنم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حزب السعداء وهم الأنبياء ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين فاتبعوا أوامره وأدّوا فرائضه وتركوا نواهيه- أردف هذا ذكر من(16/66)
خلفهم ممن أضاعوا واجباته، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال فى الآخرة إلا من تاب وأناب، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولا ينقصه شيئا من جزاء أعماله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية فى قوم من هذه الأمة يتراكبون فى الطرق كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله فى السماء.
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم فى جماعة آخرين عن أبى سعيد الخدري قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا هذه الآية قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر» .
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيهلك من أمتى أهل الكتاب وأهل اللبن قلت يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا. قلت وما أهل اللبن؟ قال: قوم يتبعون الشهوات، ويضيعون الصلوات» .
الإيضاح
(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أي فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا- خلف سوء خلفوهم فى الأرض كاليهود والنصارى ومن على شاكلتهم من أهل الضلال، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم على طاعة الله، فانكبوا على شرب الخمور، وشهادة الزور، ولعب الميسر، وإتيان الفاحشة خفيّة وعلانية.
ثم ذكر عاقبة أعمالهم، وسوء مآلهم فقال:
(فسوف يلقون غيّا) أي شرا وخسرانا، لإهما لهم أداء واجبات الدين، وانهما كهم فى المعاصي والآثام.(16/67)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
(إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة) أي لكن من أنابوا إلى ربهم، وأقلعوا عن ذنبهم، وآمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمر به وأدّوا فرائضه، فأولئك يدخلهم ربهم جناته، ويغفر لهم حوباتهم، فالتوبة تجبّ ما قبلها كما
جاء فى الحديث «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» .
(ولا يظلمون شيئا) أي ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباء، وصارت نسيا منسيا بكرم اللطيف الخبير، وعظيم حلمه على عباده.
ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة وصف هذه الجنة بأمور فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 61 الى 63]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
تفسير المفردات
جنات عدن: أي جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام، بالغيب: أي وهى غائبة عنهم، وعده، أي ما وعد به من الجنات: مأتيا، أي يأتيه من وعد به لا محالة، لغوا أي فضولا من الكلام لا طائل تحته، سلاما: أي سلاما من الله أو من الملائكة.
المعنى الجملي
لما ذكر أنه سبحانه يدخل التائبين الجنة- وصف هذه الجنة بجملة أوصاف كلها غاية فى تعظيم أمرها، وشريف قدرها، وجليل خطرها.
الإيضاح
أوصاف هذه الجنة:
(1) (جنات عدن التى وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا) أي هذه الجنات هى جنات إقامة دائمة لا كجنات الدنيا، وقد وعد بها المتقين وهى غائبة عنهم لم يشاهدوها، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة.(16/68)
(2) (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) أي لا يسمع المتقون فيها فضول القول وما لا طائل تحته، ولكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم بما يشعرهم بالأمان والاطمئنان، وهما منتهى السعادة، والدنيا لا طمأنينة فيها ولا استقرار، فلا سعادة فيها ولا نعيم، ومن ثم طلب إلينا أن ندعو فى الصلاة بالأمان ونقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ولا شك أن تكرار هذه العبارة فى الصلوات يحدث فى النفس أثرا إذا أدركت مغزاها، ويشعر بأن الله لم يخلق العالم إلا لغاية واحدة وهى الطمأنينة، ولا تكون إلا إذا أمن المرء الفقر والمرض والشيخوخة، وأنى لنا بذلك فى الدنيا؟ وإنما تكون الطمأنينة لعباده المتقين فى الآخرة، وهذا المعنى هو الذي تترجم عنه الجملة (السلام عليكم) أي إن الأمان سيحققه الله لكم، بأن يأمن يعضكم بعضا فى الدنيا وفى الآخرة بالخروج من جميع المآزق.
وهذا الدعاء أمنية من أمانى النفوس، لا تتحقق إلا إذا أمن الإنسان العذاب والعقاب، وانتهى الحساب، وارتفع السوء كالمرض والموت والفقر والذل يوم القيامة.
(3) (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي ولهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب فى قدر وقت البكرة ووقت العشى من نهار أيام الدنيا: أي إن الذي بين غدائهم وعشائهم فى الجنة قدر ما بين غداء أحدنا فى الدنيا وعشائه.
وخلاصة ذلك- إنه لا بكرة فى الجنة ولا عشى، إذ لا ليل ولا نهار، وإنما يؤتون بأرزاقهم فى مقدار طرفى النهار كما كانوا فى الدنيا ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا- ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال:
(تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) أي هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها عبادنا المتقين الذين يطيعون الله فى السر والعلن،(16/69)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
ويحمدونه على السراء والضراء، والمراد أننا نجعلها ملكا لهم كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك.
وجاء بمعنى الآية قوله: «قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون» إلى أن قال: «أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون»
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
تفسير المفردات
التنزل: النزول وقتا غب وقت، ما بين أيدينا: أي ما قدامنا من الزمان المستقبل، وما خلفنا: أي من الزمان الماضي، وما بين ذلك: هو الزمان الحاضر، نسيّا: أي تاركا لك، واصطبر عليها: أي اثبت لشدائد العبادة وما فيها من المشاق كما تقول للمبارز:
اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من حملاته، سميّا: أي مثلا ونظيرا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له صلّى الله عليه وسلّم وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم، وذكر جزاء الفريقين، أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلم إذا زعم المشركون أن الله ودّعه وقلاه، وقد رد عليهم زعمهم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا.
روى «أن جبريل عليه السلام احتبس عنه صلّى الله عليه وسلّم أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟(16/70)
فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون إن ربه ودّعه وقلاه، فلما نزل قال له عليه السلام يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى، واشتقت إليك، فقال إنى إليك لأشوق، ولكنى عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية»
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية إلى آخرها» .
الإيضاح
(وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي وما تنزل الملائكة بالوحى على الرسل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وتدعو إليه مصلحة عباده، ويكون فيه الخير لهم فى دينهم ودنياهم.
ثم علل الملك ذلك بقوله:
(له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي إنه تعالى هو المدبر لنا فى جميع الأزمنة مستقبلها وماضيها وحاضرها.
وقصارى ذلك- إن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته لا اعتراض لأحد عليه، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل فى زمان دون زمان إلا بإذنه عزّ وجل.
(وما كان ربك نسيا) أي إنه تعالى لإحاطة علمه بملكه، لا يطرأ عليه غفلة ولا نسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك، وإنما كان تأخير الوحى لحكمة علمها جل شأنه.
أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني فى جماعة آخرين عن أبى الدرداء مرفوعا قال «ما أحل الله فى كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا:
وما كان ربك نسيا» .
ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله:(16/71)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
(رب السماوات والأرض وما بينهما) فلا يجوز عليه النسيان، فإن من بيده ملكوت كل شىء، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان.
ثم بين ما ينبغى لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا فقال:
(فاعبده واصطبر لعبادته) أي وإذ قد علمت أنه الرب المسيطر على ما فى السموات والأرض وما بينهما، القابض على أعنّتهما، فاعبده ودم على مشاقّ العبادة وشدائدها، وإياك أن يصدّك عنها ما يحدث من إبطاء الوحى وتقوّل المشركين الخرّاصين عن سببه:
ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله:
(هل تعلم له سميا؟) أي هل تعلم له شبيها ومثلا يقتضى العبادة لكونه منعما متفضلا بجليل النعم وحقيرها، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم بالاعتراف بربوبيته، والخضوع لسلطانه؟.
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
تفسير المفردات
يذكر: أي يتذكر ويتفكر، لنحشرنهم: أي لنجمعنهم، جثيا: واحدهم جاث وهو البارك على ركبتيه، شيعة: أي جماعة تعاونت على الباطل وتشايعت عليه(16/72)
عتيا: أي تكبرا ومجاوزة للحد، صليّا: أي دخولا فيها من صلّى بالنار إذا قاسى حرها، واردها: أي مارّ عليها، حتما: أي واجبا، مقضيا: أي قضى بوقوعه البتة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها على ما فيها من مشاق وشدائد- أبان فائدة ذلك وهى أنها تنجيهم يوم الحشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو يوم لا ريب فيه ولا وجه لإنكاره، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذ من الذل والهوان، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص فى عمله.
روى الكلبي أنها نزلت فى أبىّ بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه فى الريح ويقول: زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا، إن هذا لن يكون أبدا.
الإيضاح
(ويقول الإنسان ااذا ما مت لسوف أخرج حيا) أي ويقول الكافر الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّبا مستبعدا: أأخرج حيا مرة أخرى فأبعث بعد الموت والبلى؟ وأسند القول إلى الكفرة جميعا وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم، من حيث رضاهم عن هذا المقال وسكوتهم عن إنكاره كما سلف لك من قبل.
ثم أقام الدليل على صحة ذلك بقوله:
(أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا؟) أي أولا يتفكر الإنسان المجترئ على ربه، المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء، وللإحياء بعد الممات، أن الله خلقه من قبل مماته، فأنشأه بشرا سويا من غير شىء، فليعتبر بذلك وليعلم أن من أنشأه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه.(16/73)
ونحو الآية قوله تعالى: «وإن تعجب فعجب قولهم: ااذا كنا ترابا اانا لفى خلق جديد» وقوله: «وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم؟ قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم» وقوله:
«وهو الذى يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه»
وفى الحديث القدسي: يقول الله تعالى: كذّبنى ابن آدم ولم يكن له أن يكذبنى، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذينى، أما تكذيبه إياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علىّ من آخره، وأما أذاه إياى فقوله: إن لى ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» .
ولما قرر القضية وأقام عليها الدليل أردفها بالتهديد من وجوه فقال:
(1) (فو ربك لنحشرنهم والشياطين) أقسم الرب بذاته الكريمة أنه حاشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله.
وفى قسمه على جمعهم وسوقهم إلى المحشر دون القسم على بعثهم، تنبيه إلى أن ذلك غنىّ عن الإثبات بعد أن أقام البرهان على إمكانه، وإنما الذي يحتاج إلى ذلك ما بعده من الشدائد والأهوال.
روى أن الكافرين يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم، كلّ منهم مع شيطانه.
(2) (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) أي ثم لنحضرنهم بعد طول الوقوف حول جهنم من خارجها- جاثين على ركبهم إهانة لهم، أو لعجزهم عن القيام لما حل بهم من المكاره والأهوال.
(3) (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) أي لنأخذن من(16/74)
كل جماعة منهم من هو أشد على الرحمن الذي غمر هم بإحسانه- تكبرا ومجاوزة للحدود التي سهّا لخلقه وقصارى ذلك- إن الله تعالى يحضرهم أولا حول جهنم، ثم يميز بعضهم عن بعض، فمن كان أشدهم تمردا فى كفره، خص بعذاب أعظم، فعذاب الضالّ المضلّ فوق عذاب من يضلّ بالتبع لغيره.
(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) أي ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها، وبما اجترحوا من السيئات، وبما دسّوا به أنفسهم من الموبقات، من هم أولى بجهنم دخولا واحتراقا، فنبدأ بهم أولا ثم بمن يليهم.
وخلاصة هذا- إنهم جميعا يستحقون العذاب، لكنا ندخلهم فى جهنم بحسب عتيّهم وتجبرهم فى كفرهم.
ثم خاطب سبحانه الناس جميعا فقال:
(وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) أي وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم ويصير حولها، قد قضى ربك بذلك وجعله أمرا محتوما مفروغا منه.
روى السدى عن ابن مسعود قال: «يرد الناس جميعا الصراط، ويقومون حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل ... »
فى حديث طويل، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم»
. (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب- نجى الله المتقين منها بحسب أعمالهم، وترك الكافرين جاثين على الركب كما جاءوا.(16/75)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
تفسير المفردات
بينات: أي ظاهرات الإعجاز، مقاما: أي مكانا ومنزلا، نديّا: أي مجلسا ومجتمعا، ومثله النادي وقيل هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها فى أمورهم، والقرن: أهل كل عصر، والأثاث: متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها ولا واحد له، والرئى المنظر والمراد به النضارة والحسن، فليمدد: أي فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات، جندا: أي أنصارا، والباقيات الصالحات: أي الطاعات التي تبقى آثارها، مردّا:
أي مرجعا وعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على مشركى قريش المنكرين للبعث بعد الفناء، وللعودة إلى حياة أخرى- أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل.
تلك أنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم فى الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، من قبل أن الحكيم لا يجدر به أن يوقع المخلصين من(16/76)
أوليائه فى الذل والمهانة، وأعداءه فى العز والراحة، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيش والرخاء والنعيم، وأنتم فى ضنك وفقر وخوف وذل، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل.
وقد رد الله عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالا، وأكثر مالا، قد أبادهم الله وأهلكهم بعذاب الاستئصال، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه.
روى أن قائل هذه المقالة النضر بن الحرث ومن على شاكلته من قريش، للمؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا فى خشونة من العيش وفى رثاثة من الثياب، وهم كانوا يرجّلون شعورهم ويلبسون فاخر الثياب.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ببيان مآل الفريقين يوم القيامة، وأن ما كان للمشركين فى الدنيا من المال وسعة الرزق فإنما ذلك استدراج وإمهال من الله لهم، ثم يلقون النكال والوبال فى جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟) أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة قالوا مفتخرين على المؤمنين، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل، أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بالا، وأفضل مسكنا، وأحسن مجلسا، وأجمع عددا؟ أنحن أم أنتم؟
فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك المستخفّون المستترون فى دار الأرقم ابن أبى الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟
ونحو الآية قوله تعالى «وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه» .(16/77)
وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) أي وكم من أمة من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم وقد كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأثاثا ومناظر ذات جمال وزخرف.
وخلاصة هذا- إن كثيرا ممن كانوا أعظم منكم نعمة فى الدنيا كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله، فلو صدق ما تدّعون من أن النعمة فى الدنيا تدل على الكرامة عند الله، ما أهلك أحدا من المتنعمين بها.
وفى هذا تهديد ووعيد لا يخفى، وكأنه قد قيل: فليرتقب هؤلاء، فسيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات.
ثم أمر عز اسمه نبيه أن يجيب هؤلاء المفتخرين بقوله:
(قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمن مدا. حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها لا يدل على حسن الحال فى الآخرة، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين فى الضلالة، مرخين لأنفسهم الأعنّة، فى سلوك المعاصي والآثام، يبسط لهم نعيم الدنيا، ويطيب عيشهم فيها، ويمتعهم بأنواع اللذات، ولا يزال يمهلهم استدراجا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأى العين، إما عذابا فى الدنيا كما حصل يوم بدر، وإما مجىء الساعة وهم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها مفرّطون، وإذ ذاك يعلمون من هو شر من الفريقين مكانا، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون، وسيرون أنهم شر مكانا وأضعف جندا وأقل ناصرا من المؤمنين، وهذا رد على قولهم (أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) .
وقصارى ذلك- إن من كان فى الضلالة فسنة الله أن يمدّ له ويستدرجه ليزداد(16/78)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
إثما، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، إما بعذاب فى الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب، وإما بعذاب فى الآخرة لا قبل له بدفعه، وحينئذ يعلم أنه كان فى ضلال مبين، ويندم، ولات ساعة مندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ولا يجد عن النار محيصا ولا مهربا.
(ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) أي ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدى بما ينزل عليهم من الآيات، عوضا مما منعوا من زينة الدنيا كرامة لهم من ربهم، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه.
ومجمل هذا- إن من كان فى الضلالة من الفريقين يمهله الله وينفّس له فى حياته ليزداد فى الإثم والغىّ ويجمع له عذاب الدارين، ومن كان فى الهداية منهما يزيد الله فى هدايته ويجمع له خيرى السعادتين.
(والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) أي والطاعات التي بها تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، وتصل إلى القرب من الله، ونيل رضوان- خير عند ربك منفعة وعاقبة مما منع به أولئك الكفرة من النعم الفانية التي يفخرون بها من مال وولد وجاه ومنافع تحصل منها، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة والعذاب المقيم.
وخلاصة هذا- إن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاء وخير عاقبة من مقامات هؤلاء المشركين بالله وأنديتهم التي بها يفخرون على أهل الإيمان فى الدنيا.
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)(16/79)
تفسير المفردات
أطلع الغيب؟ من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه: أي أظهر له علم الغيب؟ عهدا: أي عملا صالحا، كلا: كلمة زجر وتنبيه إلى الخطأ، سنكتب ما يقول:
أي سنظهر له أنا كتبنا، ونمد له من العذاب: أي سنطيل له العذاب الذي يستحقه ونرثه ما يقول: أي نسلب ذلك منه بموته ونأخذه أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مدلوله ومصداقه، وهو ما أوتيه فى الدنيا من المال والولد، فردا: أي لا يصحبه مال ولا ولد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذى لب- قفّى على ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاء وطعنا فى القول بالحشر والبعث.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان عن خبّاب بن الأرت قال: «كنت رجلا قينا (حدادا) وكان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث، قال فإنى إذ متّ ثم بعثت جئتنى ولى ثمّ مال وولد فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أفرأيت الآية» .
الإيضاح
(أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) أي انظر إلى حال هذا الكافر، وأعجب من مقالته الشنيعة، وجرأته على الله، إذ قال لأعطينّ فى الآخرة مالا وولدا.
ولما كان ما ادعاه لا يحصل له العلم له إلا بأحد أمرين- الاطلاع على الغيب أو اتخاذ العهد- ولم يحصل له واحد منهما، فتكون دعوى لا برهان عليها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:(16/80)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
(أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا؟) أي إن ما ادعى أنه سيكون، لا يعلم إلا بأحد الأمرين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما هو قد وصل إليه؟.
وقصارى ذلك- أو قد بلغ من عظم شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار، أم أعطاه الله عهدا موثقا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة؟.
ثم زاد فى تأكيد خطئه وهدده بقوله:
(كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) أي ليس الأمر كذلك، ما اطلع على الغيب، فعلم صدق ما يقول وحقيقة ما يذكر، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا موثّقا بذلك، بل كذب وكفر بربه، وسنظهر له أننا كتبنا قوله، ونزيده من العذاب فى جهنم بقيله الكذب والباطل فى الدنيا زيادة على كفره بالله وتكذيبه برسوله.
(ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) أي ونسلبه ما عنده من المال والولد ونأخذه منه أخذ الوارث ما يرث، ويأتينا إذ ذاك فردا لا يصحبه مال ولا ولد مما كان له فى الدنيا.
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
تفسير المفردات
العز: المنعة والقوة، سيكفرون: أي سيجحدون، ضدّا: أي أعداء وأعوانا(16/81)
عليهم والأزّ والهز والاستفزاز: شدة الإزعاج والمراد الإغراء على المعاصي والتهييج لها بالتسويلات، وتحبيب الشهوات، فلا تعجل عليهم: أي فلا تطلب الاستعجال بهلاكهم، الوفد والوفود والأوفاد: واحدهم وافد، وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج، والمراد يقدمون مكرمين مبجلين ركبانا إلى الرحمن: أي إلى دار كرامته وهى الجنة، وردا: أي مشاة مهانين باستخفاف واحتقار كأنهم نعم تساق إلى الماء، والمراد بالعهد شهادة أن لا إله إلا الله، والتبري من الحول والقوة، وعدم رجاء أحد إلا الله
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما يشاهد من أمر الخلق فى النشأة الأولى- أردف ذلك الرد على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم، ويكونوا شفعاء لهم لديه، فبيّن أنهم سيكونون لهم أعداء، وأنه ما جرّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم، ثم طلب إلى رسوله ألا يستعجل المشركين فإنما هى أنفاس معدودات ثم يهلكون، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم. وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يردون عليه.
الإيضاح
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) أي واتخذ المشركون من قومك أيها الرسول- آلهة يعبدونهم من دون الله، ليعتزوا بهم ويجعلوهم شفعاء عند ربهم يقربونهم إليه (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) أي ليس الأمر كما ظنوا وأمّلوا فى أنها تنقذهم من عذاب الله وتنجيهم منه، بل ستجحد الآلهة عبادتهم إياهم وينطق الله من لم يكن ناطقا منهم، فيقولون ما عبدتمونا كما قال سبحانه: «وإذا رأى(16/82)
الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون»
وقال: «إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا» وقال حاكيا عنهم: «ما كانوا إيانا يعبدون» ويكونون أعداء لهم وأعوانا عليهم إذ يلعنونهم ويتبرءون منهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم فى الآخرة، ذكر ما لهم مع الشياطين فى الدنيا، وأنهم يتولّونهم وينقادون لهم فقال:
(الم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) أي ألم تعلم أنا سلطنا الشياطين على الكافرين ومكناهم من إضلالهم، فهم يغرونهم بالمعاصي، ويهيجونهم على الوقوع فيها.
وخلاصة ما سلف- تعجيب رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة من تماديهم فى الغى، وانهما كهم فى الضلال، وتصميمهم على الكفر بدون رادع ولا زاجر، ومدافعتهم للحق مع وضوحه، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا لقصور فى التبليغ.
وفى هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهوين للأمر على نفسه.
(فلا تعجل عليهم) بأن تطلب إهلاكهم وإبادتهم بعذاب الاستئصال حتى تطهر الأرض من خبائث أعمالهم.
ثم علل هذا النهى بأن حين هلاكهم قريب فقال:
(إنما نعد لهم عدا) أي إنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قليلة نعدّها عدا، وعن ابن عباس أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك. آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك- وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأ الآية ثم قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفذ:
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس(16/83)
وقد أفصح عن هذا شاعر مصر أحمد بك شوقى فقال:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوانى
ثم بين سبحانه ما سيظهر فى ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين فى كيفية الحشر فقال:
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم نحشر المتقين إلى دار الكرامة ركبانا، كما يفد الوافدون على أبواب الملوك، ينتظرون إكرامهم وإنعامهم.
وقد أثر عن علىّ أنه قال: والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها. وعليها رحال الذهب. وأزمّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة- وهذا تمثيل لحالهم فى عزهم وعظمتهم وإكرام ربهم لهم.
(ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) أي ونسوق الكافرين بالله إلى جهنم مشاة قد تقطعت أعناقهم من العطش، فهم كالدواب التي ترد الماء.
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) أي لا يملك العباد الشفاعة إلا من اتخذ عهدا عند الله، بأن أعد لها عدّتها فكان فى الدنيا هاديا مصلحا، فيكون فى الآخرة شافعا مشفّعا، لا جرم أن ينالها فى الآخرة على مقدار هدايته فى الدنيا، فالشفاعة حينئذ لا تكون إلا للأنبياء والعلماء والشهداء على مقدار أتباعهم.
روى أن ابن مسعود قرأ هذه الآية ثم قال: أتّخذ عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا يا أبا عبد الرحمن فعلّمنا، قال: قولوا «اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إنى أعهد إليك فى هذه الحياة الدنيا ألا تكلنى إلى عمل يقربنى من الشر ويباعدنى من الخير، وإنى لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لى عندك عهدا تؤديه إلىّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد» .(16/84)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّنى، ومن سرنى فقد اتخذ عند الرحمن عهدا، فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد»
،
وأخرج الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منها شيئا فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه» .
[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
تفسير المفردات
جئتم: أي فعلتم والإدّ: (بالكسر والفتح) المنكر العظيم، والإدة: الشدة يقال أدّنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علىّ، والتفطر: التشقق، وتخر: تسقط وتنهدم، دعوا: أي نسبوا وأثبتوا، قال شاعرهم:
إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
عبدا: أي منقادا خاضعا كما يفعل العبيد، أحصاهم: عدّهم وأحاط بهم، وعدهم عدّا: أي عد أشخاصهم، فردا: أي منفردا لا شىء معه من الأنصار والأتباع.(16/85)
المعنى الجملي
بعد أن ردّ على عبدة الأوثان، وأثبت لهم بقاطع الأدلة أنهم فى ضلالهم يعمهون، وأنهم عن الحق معرضون- أردف ذلك الرد على من أثبت له الولد كاليهود الذين قالوا عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الإيضاح
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا.) أي وقال الكافرون بالله: إن للرحمن ولدا، لقد جئتم أيها القائلون بمقالكم هذا شيئا منكرا عظيما يدل على الجرأة على الله وكمال القحة عليه سبحانه، وإنه ليغضبه أشد الغضب، ويسخطه أعظم السخط.
(تكاد السماوات يتفطرن منه) أي إن السموات، تكاد تتشقق منه لشدة هوله، وعظم شأنه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك. نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين.
(وتنشق الأرض) أي تخسف بهم.
(وتخر الجبال هدا) أي تسقط وتنهد هدا، فتنطبق عليهم، روى عن ابن عباس أنه قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه، لعظمة الله وكماله.
وقصارى ذلك- إن هذه الكلمة الشنعاء لو صوّرت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفرقت أجزاؤها من شدتها.
وفى ذلك تنبيه إلى غضب الله تعالى على قائل هذه الكلمة، وأنه لولا حلمه سبحانه لهلك.(16/86)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
ثم بين علة ذلك فقال:
(أن دعوا للرحمن ولدا) أي من أجل أنهم نسبوا إلى الله اتخاذ الولد.
ثم نفى ذلك عن نفسه بقوله:
(وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا) أي وما يليق به اتخاذ الولد، لأن ذلك يقتضى التجانس بينهما وأن يكون كل منهما حادثا، ولأن الولد إنما يكون للسرور به، والاستعانة به حين الحاجة، وللذكر الجميل، إلى نحو أولئك من المقاصد التي يتنزه عنها ربنا جل وعلا.
ثم زاد الإنكار توكيدا فقال:
(إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا) أي ما من أحد من الملائكة والإنس والجن إلا وهو مملوك له سبحانه، ينقاد لحكمه، ويلتجىء إليه حين الحاجة، ويخضع له خضوع العبد لسيده.
(لقد أحصاهم) أي لقد حصرهم وأحاط بهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خفى من أحوالهم وما ظهر، لا يفوته شىء منها.
(وعدهم عدا) أي وعدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأقوالهم، فكل شىء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة.
(وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي وكل امرئ منهم يأتيه يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والأنصار، منقطعا إليه تعالى، محتاجا إلى معونته ورحمته.
[سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)(16/87)
تفسير المفردات
الود: المودة والمحبة، بلسانك: أي بلغتك، واللّدّ: واحدهم ألد، وهو الشديد الخصومة، وركزا: أي صوتا خفيّا.
المعنى الجملي
بعد أن فصّل سبحانه أحوال الكافرين فى الدنيا والآخرة، وبالغ فى الرد عليهم- ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وبين أنه سبحانه سيغرس محبتهم فى قلوب عباده، وبعد أن استقصى فى السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر ورد فيها على فرق المبطلين بين أنه يسر ذلك بلسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليبشر به المتقين، وينذر به قوما من المشركين ذوى الجدل والمماراة.
الإيضاح
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي إن الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسله وبما جاءوهم به من عنده وعملوا به فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، سيجعل لهم الله محبة فى قلوب عباده المؤمنين.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي فى جمع كثير عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله تعالى عبدا يقول لجبريل: إنى قد أحببت فلا نا فأحبه، فينادى فى السماء، ثم تنزل له المحبة فى الأرض، فذلك قول الله تعالى (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الآية» .
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه: «قل اللهم اجعل لى عندك عهدا، واجعل لى فى صدور المؤمنين ودا، فأنزل الله سبحانه الآية» .(16/88)
وكان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وخلاصة ذلك- سيجعل الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات مودة فى القلوب يزرعها لهم من غير تودد منهم، ولا تعرّض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف.
وقد خصهم الله بهذه الكرامة كما: قذف الرعب فى قلوب أعدائهم منهم إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم.
ثم ذكر الحكمة فى إنزال القرآن بلغة العرب فقال:
(فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية لتقرأه على الناس وتبشر به من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه، بأن له الجنة، وتنذر به من عصاه من قريش، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى ممن لا يقبل حقا، ولا يحيد عن باطل.
وقصارى ذلك- بلّغ هذا المنزّل وبشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين، ليسهل على الناس فهمه ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟) أي وقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبل هولاء المعاندين، حين سلكوا فى خلافى مسلك هؤلاء، وركبوا معاصىّ، فهل تحس منهم أحدا فتراه وتعاينه أو تسمع له صوتا؟ لا- إنهم بادوا وخلت منهم الديار، وأقفرت المنازل، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.(16/89)
وفى هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين، وحث له على التبشير والإنذار.
وقصارى ذلك- إنا أهلكنا هم، فلم نبق منهم أحدا تراه، ولا تسمع له صوتا خفيا ولا ظاهرا.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين.
خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد
(1) دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدا سريا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك (2) استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى يحيى لم يسمّ أحد من قبله بمثل اسمه.
(3) تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين: أمّ عاقر وأب شيخ هرم.
(4) طلبه العلامة على أن امرأته حامل.
(5) إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيا.
(6) ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها، وتمثل جبريل لها بشرا سويا، والتجائها إلى الله أن يدفع عنها شر هذا الرجل، وإخباره لها أنه ملك لا بشر.
(7) حملها بعيسى عليه السلام وانتباذها مكانا قصيا حتى لا يراها الناس وهى على تلك الحال.
(8) نداء عيسى لها حين الولادة، وأمرها بهزّ النخلة حتى تساقط عليها رطبا جنيا.
(9) مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهى على تلك الحال وقد انهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.(16/90)
(10) كلام عيسى وهو فى المهد تبرئة لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال من النبوة والبركة والبر بوالديه وأنه لم يكن جبارا متكبرا على خالقه.
(11) اختلاف النصارى فى شأنه.
(12) قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل فى المعبودات التي يعبدها من دون الله ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله، وردّ أبيه عليه مهددا متوعدا (13) هبة الله له إسحاق ويعقوب، وإيتاؤهما الحكم والنبوة.
(14) قصص موسى ومناجاته ربه فى الطور، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرا ونبيا.
(15) قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
(16) قصص إدريس عليه السلام ووصف الله له بأنه صديق نبى رفيع القدر، عظيم المنزلة عند ربه.
(17) مجىء خلف من بعد هؤلاء الأنبياء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
(18) وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم.
(19) إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه.
(20) إنكار المشركين للبعث استبعادا له، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
(21) الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيا، ثم بدئه بمن هو أشد جرما والله أعلم بهم.
(22) الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.
(23) بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا وأكرم منهم مكانا.(16/91)
(24) تهديدهم بأنه أهلك كثيرا ممن كان مثلهم فى العتو والاستكبار، وأكثر أثاثا ورياشا.
(25) بيان أن الله يمد للظالم ويمهله، ليجترح من السيئات ما شاء ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
(26) النعي على المشركين باتخاذ الشركاء، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء.
(27) نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طلب تعجيل هلاك المشركين، إذ أن حياتهم مهما طالت فهى محدودة معدودة.
(28) التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان.
(29) النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدا.
(30) بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربى مبين، ليبشر به المتقين، وينذر به الكافرين ذوى اللدد والخصومة(16/92)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
سورة طه
هى مكية إلا آيتي 130، 131 فمدنيتان، وآيها خمس وثلاثون بعد المائة، نزلت بعد سورة مريم.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه لما ذكر فى سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين، بعضها بطريق البسط والإطناب كقصص زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وبعضها بين البسط والإيجاز كقصص إبراهيم عليه السلام، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال- ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف، واستوعبها غاية الاستيعاب، ثم فصّل قصة آدم عليه السلام، ولم يذكر فى سورة مريم إلا اسمه فحسب.
(2) إنه روى عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها.
(3) إن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة ومناسب له فى المعنى، إذ ذكر فى آخر تلك أنه إنما يسّر القرآن بلسانه العربي المبين، ليكون تبشيرا للمتقين وإنذارا للمعاندين، وفى أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)(16/93)
تفسير المفردات
لتشقى: أي لتتعب وتنصب، تذكرة: أي تذكيرا وعظة، يخشى: أي يخاف الله، العلى: واحدها العليا مؤنثة الأعلى كالكبرى مؤنثة الأكبر، والعرش: فى اللغة سرير الملك، ويراد به فى لسان الشرع مركز تدبير العالم، واستوى: استولى عليه قال شاعرهم:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
والثرى: التراب الندىّ والمراد هنا مطلق التراب، وأخفى: أي من السر وهو ما أخطرته ببالك دون أن تتفوّه به بحال، والأسماء: أي الصفات كما جاء فى قوله:
«وجعلوا لله شركاء قل سموهم» أي صفوهم، والحسنى: مؤنثة الأحسن.
المعنى الجملي
روى مقاتل أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدىّ والنضر بن الحرث قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال عليه السلام: بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، بأن دين الإسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز، وسبب إدراك كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.
الإيضاح
(طه) تقدم أن قلنا إن أصح الآراء فى الحروف المقطّعة التي فى أوائل السور أنها حروف تنبيه كألا ويا ونحوهما مما يذكر فى أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها لأهميته وإرادة إصغائه إليه نحو ما جاء فى قوله تعالى. «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» وينطق بأسمائها حين القراءة فيقال (طا. ها)(16/94)
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب وتغلو فى مكابدة الشدائد حين تحاور أولئك القوم الطغاة، وتقاول أولئك العتاة، وتفرط فى الأسى على كفرهم، وتتحسر على عدم إيمانهم، بل أنزلناه عليك لتبلّغ وتذكّر وقد فعلت، فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد هذا.
ونحو الآية قوله: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» .
وقصارى ذلك- إنا أنزلناه عليك لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، إن عليك إلا البلاغ، ولست عليهم بمسيطر.
وفى هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم على ما كان يعتريه من التعب والنّصب حين كان يدعو أولئك القوم ذوى اللدد والخصومة، ولا عجب فالكلام صنعتهم، وبه يتفاخرون، وعليه يعتمدون، إذ يقرعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وهو لديهم أمضى من السّنان.
(إلا تذكرة لمن يخشى) أي ما أنزلناه عليك لشقائك، ولكن أنزلناه تذكيرا لمن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه، وحسن استعداده، وقد كان عليه السلام يعظهم به بتلاوته وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم فى دنياهم وآخرتهم.
وخص الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم، من قبل أن غيرهم كأنه لا وجود له لعدم انتفاعه به.
وخلاصة ذلك- حسبك ما حمّلته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك، وبيدنا لا بيدك.
(تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) أي نزّل عليك تنزيلا من ربك الذي خلق الأرض والسموات العلى، والمراد بهما ما فى جهة السفل والعلو، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما.(16/95)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
(الرحمن على العرش استوى) أي هو الرحمن الذي على عرشه ارتفع وعلا، وقد تقدم إيضاح هذا فى سورة الأعراف ببسط وإطناب.
(له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) أي له ما فى السموات والأرض وما بينهما ملكا وتدبيرا وتصرفا، وله ما واراه التراب وأخفاه من المعادن والفلزّات وغيرها.
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) أي وإن تجهر بدعاء الله وذكره، فاعلم أنه تعالى غنىّ عن جهرك، لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع به صوتك، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تنفوّه به.
والدعاء والذكر باللسان إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى فى نفسه، لا ليسمع صوته، ولا فضل للنطق والجهر به إلا فى منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني فى القلوب كما قال تعالى: «وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور» ونحو الآية قوله: «واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول» .
(الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه، وله الصفات الحسنى الدالة على التقديس والتمجيد، والأفعال التي هى غاية فى الحكمة والسداد.
قصص موسى عليه السلام
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)(16/96)
تفسير المفردات
الحديث: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحى فى يقظته أو فى منامه، والمكث: الإقامة، آنست: أي أبصرت، آتيكم: أجيئكم، بقبس: أي بشعلة مقتبسة على رأس عود ونحوه، هدى: أي هاديا يدلنى على الطريق، طوى: (بالضم) منونا:
اسم لذلك الوادي، اخترتك: أي اصطفيتك، لذكرى: أي لتكون ذاكرا لى، أكاد أخفيها: أي أبالغ فى إخفائها ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية، هواه: أي ما تهواه نفسه، فتردى: أي فتهلك.
المعنى الجملي
بعد أن عظم سبحانه كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ بالإنذار والتبشير- أتبع ذلك بما يقوى قلبه من قصص الأنبياء وما فعلته أممهم معهم وكيف كانت العاقبة لهم والنصر حليفهم، ففى هذا سلوى له وتأسّ بهم فيما قاموا به من الذّود عن الحق مهما أصابهم من العنت والأذى من جراء الدعوة إليه، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: «وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك» .
وبدأ بقصص موسى، لأن محنته كانت أشد، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال، وقابل ذلك بعزم لا يفتر، وبقوة تفلّ الحديد.(16/97)
الإيضاح
(وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا) أي وهل بلغك كيف كان ابتداء الوحى إلى موسى وتكليم الله إياه.
ومن سنن العربية أنه إذا أريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب فى نفس المخاطب، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام، فيقول المرء لصاحبه: هل بلغك كذا وكذا، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر، ويصغى إليه أتم الإصغاء.
روى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا فى الرجوع إلى والدته، فإذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره فى رعاية الغنم، فخرج وسار قاصدا مصر بعد أن طالت غيبته عنها، فقد زادت على عشر سنين ومعه زوجه، فولد له ابن فى الطريق فى ليلة شاتية ذات ثلج وبرد وسحاب وضباب وظلام، ونزل منزلا بين شعاب وجبال، وجعل يقدح بزند كان معه ليورى نارا، فلم تور المقدحة شيئا، وبينا هو يزال ذلك ويعالجه، إذ رأى نارا من بعد عن يسار الطريق.
(فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) أي فقال لامرأته وولدها وخادمها مبشرا لهم: أقيموا مكانكم إنى أبصرت نارا وسأذهب إليها لعلنى أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه، أو أجد هاديا يدلنى على الطريق، وجاء فى سورة القصص: «لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون» .
وقصارى ذلك- إنه قال لأهله أقيموا مكانكم- وإنى قد رأيت نارا فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارا تصطلون بها، وإما أن أجد دليلا يرشدنى إلى الطريق المسلوك وكان قد ضل عنه.(16/98)
(فلما أتاها نودى يا موسى إنى أنا ربك) أي فلما خرج موسى نحوها وجد نارا بيضاء تتقد كأضو إما يكون فى شجرة خضراء، فلا ضوء النار يغير خضرتها، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار- وهناك نودى يا موسى، قال من المتكلم؟ قال إنى أنا ربك.
ثم أمره أن يخلع نعليه احتراما للبقعة المقدسة فقال:
(فاخلع نعليك) إذ أن الحفوة أقرب إلى التواضع وحسن الأدب، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين.
ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله:
(إنك بالواد المقدس طوى) أي لأنك بالوادي المطهّر المسمى بطوى، فاخلعها ليحصل للقدمين بركته.
(وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) أي وأنا اصطفيتك من قومك بالنبوة والرسالة، فعليك أن تسمع لما أوحيه إليك.
ونحو الآية قوله: «إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى» .
وقصارى ذلك- لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه، وقد قالوا: إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم على العمل.
وقد بين سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله:
(إننى أنا الله لا إله إلا أنا) أي إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
(فاعبدنى) أي وإذ كنت أنا الإله حقا ولا معبود سواى، فخصنى بالعبادة والتذلل والانقياد فى جميع ما كلفتك به.
(وأقم الصلاة لذكرى) أي وأدّ الصلاة على الوجه الذي أمرتك به مقوّمة الأركان مستوفاة الشرائط، لتذكرنى فيها وتدعونى دعاء خالصا لا يشو به إشراك ولا توجه إلى سواى.(16/99)
وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، لما لها من الفضل على سواها، إذ فيها ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذلك، ومن ثم تنهى عن الفحشاء والمنكر
أخرج الترمذي وابن ماجه فى جماعة آخرين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال:
أقم الصلاة لذكرى»
ثم بين السبب فى وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال:
(إن الساعة آتية أكاد أخفيها) أي إن الساعة آتية لا محالة، وإنى أكاد أخفيها من نفسى، فكيف يعلمها غيرى من الخلق، وقد جاء هذا على سنن العرب فى تخاطبهم يقول أحدهم إذا بالغ فى كتمان السر: كتمت سرى من نفسى، يريد أنه أخفاه غاية الإخفاء.
وفائدة إخفائها التهويل والتخويف، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة يكونوا منها على حذر، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت، لأن المرء إذا علم وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين فيتوب ويصلح عمله، وقد وعد الله بقبول توبته، وهذا يكون كالإغراء على المعصية، لكنه إن لم يعلم حين منيّته كان منها على حذر، ولا يزال على قدم الخوف والوجل، فيترك المعاصي ويتوب منها فى كل حين خوف معاجلة الموت.
(لتجزى كل نفس بما تسعى) أي إن الساعة آتية لا محالة، ليجزى كل عامل بعمله كما قال: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» وقال: «إنما تجزون ما كنتم تعملون» .
ثم خاطب سبحانه موسى محذّرا له فقال:
(فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) أي فلا يردنّك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقرّ بقيامها ولا يصدّق بالبعث، ولا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، بل يركب رأسه ويخالف أمر ربه ونهيه، فإنك إن فعلت ذلك وقعت(16/100)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
فى هاوية الخذلان والعصيان، وهذا الخطاب من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد بمثل هذا الخطاب جميع المكلفين كما تقدم غير مرة.
وخلاصة ذلك- لا تتّبعوا سبل من كذّب بالساعة، وأقبل على لذاته فى دنياه، وعصى أمر ربه واتبع هواه، فإن من سلك سبيلهم خاب وخسر كما قال: «وما يغنى عنه ماله إذا تردى» .
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 21]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
تفسير المفردات
أتوكأ عليها: أعتمد عليها فى المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك، وأهش بها: أي أخبط بها ورق الشجر، مآرب: أي منافع واحدها مأربة (مثلثة الراء) والحية: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى من هذا النوع، والثعبان: العظيم من الحيات، والجانّ: الصغير منها، سيرتها الأولى: أي حالها الأولى وهى كونها عصا، يقال لكل من كان على أمر فتركه وتحول عنه ثم راجعه: عاد فلان سيرته الأولى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مناجاته لموسى حين رأى النار التي فى الشجرة واختياره نبيا وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو، وأمره بإقامة الصلاة لما فيها من ذكره، وتخصيصه(16/101)
بالعبادة دون سواه، ثم إخباره بأن الساعة آتية لا محالة ليجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بما دسّى به نفسه جزاء وفاقا.
قفّى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى، دلالة على نبوته، وتصديقا له على رسالته، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حية تسعى حين ألقاها من يده، وكان قد سأله عنها استجماعا لقلبه، وتهدئة لروعه فى هذا المقام الرهيب، وإعلاما بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن وجليل المنافع والمزايا التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام.
الإيضاح
(وما تلك بيمينك يا موسى) سأله سبحانه عما فى يده وهو العليم به، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير، ولا منفعة عظيمة- جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال، كانقلابها حية تسعى، وضرب البحر بها حتى ينفلق، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته، وبالغ عظمته، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة- على سنن الناس فى تخاطبهم، إذا أراد أحدهم أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا، أن يأخذه ويعرضه على النظّارة ويقول لهم: ما هذا؟ فيقولون هو كذا، فيفيض فى شرح ما له من فائق المزايا، وجليل المنافع، التي لم تكن تدور بخلدهم، ولم تخطر ببالهم.
فأجابه موسى معدّدا ما لها من فوائد ومزايا بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر.
(قال هى عصاى) وبهذا تم الجواب، ولكن موسى ذكر ما لها من فوائد، إذ أحب مكالمة ربه، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل، وواحدة على سبيل الإجمال فقال:
(1) (أتوكؤا عليها) أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت أو وقفت على رأس القطيع من الغنم.
(2) (وأهش بها على غنمى) أي أخبط ورق الشجر بها، ليسقط على غنمى فتأكله.(16/102)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
(3) (ولى فيها مآرب أخرى) أي ولى فيها مصالح ومنافع أخرى غير ذلك كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت ألقيتها على عاتقى، فعلّقت بها قوسى وكنانتى ومخلاتى وثوبى، وإذا وردت ماء قصر عنه رشائى وصلته بها.
وقد أجمل عليه السلام فى المآرب رجاء أن يسأله ربه عنها، فيسمع كلامه مرة أخرى ويطول الحديث بهذا.
وبعد أن ذكر هذه الجوابات أمره بإلقائها، لتتبين لها فوائد لم يعرفها من قبل.
(قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هى حيه تسعى) أي قال له ربه: ألقها يا موسى لترى من شأنها ما ترى، فألقاها فإذا هى ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعا، وجاء تشبيهها بالجان وهو الصغير من الحيات فى قوله (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها.
ثم أمره بأخذها وهى على تلك الحال دون خوف ولا ذعر.
(قال خذها ولا تخف) أي قال له ربه: خذها بيمينك ولا تخف منها.
وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير، ولا يدرك له سبب، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره عليه السلام.
ثم علل النهى عن الخوف بقوله:
(سنعيدها سيرتها الأولى) أي سنرجعها إلى الحال التي كانت عليها من قبل وهى العصوية فأقدم على ذلك برباطة جأش دون تردد ولا ذعر.
[سورة طه (20) : الآيات 22 الى 35]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)(16/103)
تفسير المفردات
الضم: الجمع، وأصل الجناح للطائر ثم أطلق على اليد والعضد والجنب وهو المراد هنا، والسوء: القبح فى كل شىء، ويراد به هنا البرص والطباع تنفر منه، وآية أخرى: أي معجزة ثانية غير العصا، طغى: أي تجاوز الحد فى عتوّه وتجبره، اشرح لى صدرى: أي وسّعه لتحمّل أعباء الرسالة، ويسر لى أمرى: أي سهّل لى ما أمرتنى به من تبليغ الرسالة. واحلل عقدة من لسانى: أي أزل ذلك التعقد والحبسة التي فى لسانى، لئلا يستخف بي الناس وينفروا منى ولا يستمعوا لكلامى، يفقهوا قولى:
أي يفهموه، وزيرا: أي معينا، والأزر: القوة، يقال آزره أي قوّاه وأعانه، وأشركه فى أمرى: أي اجعله شريكا لى فى النبوة والرسالة، إنك كنت بنا بصيرا: أي عالما بأحوالنا، لا نريد بالطاعة إلا رضاك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المعجزة الأولى الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وعلى صدق رسالته وهى العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض- قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاها إياه وهى معجزة اليد، فإنه كان إذا وضع يده اليمينى إلى جنبه الأيسر تحت العضد ثم أخرجها أضاءت كشعاع الشمس تعشى البصر، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره ويسهل له أمره، وأن يجعل له أخاه هارون نبيا كى يشد أزره ويقوى على تبليغ الرسالة، ويتعاونا على ذكر الله وعبادته(16/104)
الإيضاح
(واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) أي أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك (قميصك) واجعلها تحت الإبط اليسرى تخرج بيضاء لامعة من غير برص ولا عيب.
روى أن موسى كان إذا أدخل يده فى جيبه ثم أخرجها- تتلالأ كأنها فلقة قمر،
قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح فعلم أنه قد لقى ربه.
(آية أخرى) أي وهذه علامة أخرى غير الآية التي أرينا كها من قبل من تحويل العصا حية تسعى- تدل على صدقك فيما بعثناك به من الرسالة لمن بعثناك إليهم.
(لنريك من آياتنا الكبرى) أي افعل ذلك، كى نريك بعض أدلتنا، على عظيم سلطاننا، وكامل قدرتنا، وبديع تصرفنا، فى ملكوت السموات والأرض.
وبعد أن أظهر له هذه الآيات أمره بالذهاب إلى فرعون المتكبر الجبار فقال:
(اذهب إلى فرعون إنه طغى) أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، فإنه قد تجاوز قدره، وتمرد على ربه، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى.
قال وهب بن منبّه: قال الله لموسى: اسمع كلامى، واحفظ وصيتي، وانطلق برسالتى، فإنك بعيني وسمعى، وإن معك يدى ونصرى، وإنى ألبستك جبّة من سلطانى تستكمل بها القوة فى أمرك، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقى، بطر نعمتى، وأمن مكرى، وغرّته الدنيا حتى جحد حقى، وأنكر ربوبيتى أقسم بعزّتى، لولا الحجة التي وضعت بينى وبين خلقى لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علىّ، وسقط من عينى، فبلّغه رسالتى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، وقل له قولا لينا، لا يغتر(16/105)
بلباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، قال: فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم حتى جاءه ملك فقال: أجب ربك فيما أمرك، فحينئذ.
(قال رب أشرح لى صدرى) أي رب وسّع لى صدرى، لأعى عنك ما تودعه فيه من وحيك، وأجترى به على خطاب فرعون، فإنك قد كلفتنى أمرا عظيما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض، وأجبرهم وأشدهم كفرا، وأكثر هم جندا، وأعمر هم ملكا، وأطغاهم وأبلغهم تمردا، وقد بلغ من تمرده أنه لا يعلم إلها غيره.
وخلاصة ذلك- اجعلنى رابط الجأش حتى لا أخاف سواك، ولا أرهب غيرك، حين تبليغ رسالتك، وكن عونى ونصيرى، وإلا فلا طاقة لى بذلك.
(ويسر لى أمرى) أي سهّل علىّ القيام بما تكلفنى به من تبليغ الرسالة، وتحمّلنى من الطاعة، وأفض علىّ من القوة ما يفى بالعمل على نشر الدين، وإصلاح حال الخلق.
(واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى) أي وأطلق لسانى بالنطق ليفهموا قولى حين تبليغ الرسالة، وكان فى لسانه حبسة تمنعه من كثير من الكلام.
وقد روى أن الحسين رضى الله عنه كان فى لسانه رتّة (حبسة) فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن هذه ورثها من عمه موسى.
ولما كان التعاون على نشر الدين مع خلوص الود قربة عظيمة لله- طلب موسى المعاونة على ذلك فقال:
(واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى) أي واجعل لى عونا من أهل بيتي هرون أخى، ليحمل معى أعباء الرسالة، ويكون ظهيرا لى عند الشدائد، وحلول المكاره، ولمثل هذا قال عيسى عليه السلام «من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن لى فى السماء وزيرين وفى الأرض وزيرين، فاللذان فى السماء جبريل وميكائيل، واللذان فى الأرض أبو بكر وعمر»
.(16/106)
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا، إن نسى ذكّره، وإن نوى خيرا أعانه، وإن أراد شرا كفّه»
. وقال أنو شروان: لا يستثنى أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير.
وقد اختصّ هرون بأمور منها:
(1) الفصاحة لقول موسى هو أفصح منى لسانا.
(2) الرفق لقول هرون: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى.
(3) الوسامة والجمال وبياض اللون، وكان موسى آدم اللون أقنى جعدا.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول: أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا لا ندرى. قال: أنا والله أدرى، قالت فقلت فى نفسى، فى حلفه لا يستثنى إنه ليعلم أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قال موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت صدق والله.
ثم طلب موسى من ربه أن يشدّ به أزره فقال:
(اشدد به أزرى وأشركه فى أمرى) أي أحكم به قوتى، واجعله شريكى فى أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها على الوجه الذي يؤدى إلى أحسن الغايات، ويوصل إلى الغرض على أجمل السبل.
ثم حكى عنه سبحانه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال:
(كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) أي لكى ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من بينها ما يدّعيه فرعون الطاغية، وفئته الباغية من الألوهية له، ونذكرك وحدك ابتغاء مرضاتك، دون أن نشرك معك غيرك أثناء أداء الرسالة، ودعوة المردة الطّغاة إلى الحق.
ولا شك أن التعاون فى الدعوة أنجع فى الوصول إلى المقصد من الانفراد، فكل(16/107)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
من النبيّين يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يصدر عنه مثله فى حال الانفراد.
(إنك كنت بنا بصيرا) أي عليما بأحوالنا، وأن ما طلبناه مما يفيدنا فى تحقيق ما كلفتنا به من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكلها، فإن هرون نعم العون على أداء ما أمرت به من نشر معالم الدين، وكبح جماح المضلين، وإرشادهم إلى حق اليقين.
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
تفسير المفردات
السؤل: بمعنى المسئول: أي المطلوب كالخبز بمعنى المخبوز، منّنا: أي أنعمنا، مرة أخرى: أي فى وقت آخر غير هذا الوقت، أوحينا: أي ألهمنا كما جاء فى قوله «وأوحى ربك إلى النحل»
وقوله: «وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى» اقذفيه: أي ألقيه واطرحيه، واليمّ: البحر. والمراد به هنا نهر النيل، والساحل: الشاطئ، ولتصنع على عينى: أي ولتربّى وتغذّى بمرأى منى وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء بعينيه دلالة على عنايته به، يكفله: أي يضمه إلى نفسه، تقر عينها: أي تسر، والغم: الكدر الناشئ من خوف شىء أو فوات مقصود، والفتون:
الابتلاء والاختبار بالوقوع فى المحن ثم تخليصه منها، لبثت: أي أقمت، مدين: بلد بالشام.(16/108)
المعنى الجملي
اعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه أمورا ثمانية وكان قيامه بما كلّف به لا يتم على الطريق المرضىّ إلا إذا أجابه إليها- لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلّف به، ثم ذكّره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتا وتضعه فيه وتلقيه فى النيل ففعلت، فألقاه النيل فى الساحل، فالتقطه آل فرعون وربّوه فى منزلهم، وألقى الله محبة فى قلوبهم له وصار كأنه ابنهم، ثم ذكّره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين.
الإيضاح
(قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي قال الله تعالى لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتنى عنه من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرا لك، وشد أزرك به، وإشراكه فى الرسالة معك.
(ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجو، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك؟
ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك فى أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة. ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تؤمّل مما أنت فى شديد الحاجة إليه لتبليغ رسالته؟.
وفى التعبير عن تلك النعم بالمنن إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه بمحض التفضل والإحسان.
وقد عد سبحانه من تلك النعم ثمانيا فقال:
(1) (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه(16/109)
اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له)
أي واذكر حين ألهمنا أمك وأوقعنا فى قلبها عزيمة صادقة، أنّ أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك فى تابوت- صندوق- ثم تطرح هذا التابوت فى نهر النيل، ففعلت فألقاك النهر فى الساحل، فأخذك فرعون عدو الله ورباك فى بيته، وسيصير عدوا لك بعد ذلك كما هو عدو لى.
روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار ثم ألقته فى اليم، وكان يشرع منه (يتفرع) نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركة مع زوجه إذا بتابوت يجرى به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه ففعلوا، وفتحوا رأسه فإذا صبى من أصبح الناس وجها فأحبه فرعون حبا شديدا لم يتمالك أن يصبر عنه.
(2) (وألقيت عليك محبة منى) أي وألقيت عليك محبة خالصة منى قد ركزتها فى القلوب وزرعتها فيها، ومن ثم أحبك فرعون وزوجه حتى قالت «قرت عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» .
(3) (ولتصنع على عينى) أي ولتربّى برعايتى، فأنا مراقبك وحافظك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا أراد شدة العناية به، يقول الرجل للصانع: اصنع هذا على عيني، أنظر إليه حتى يأتى وفق ما أحبّ وأبغى.
(4) (إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) أي وألقيت عليك محبة منى حين تمشى أختك تتبعك متعرّفة حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعا تقبل ثديها، حتى اضطروا إلى تتبع النساء، فلما رأت ذلك منهم جاءت إليهم متنكرة وقالت: هل أدلّكم على من يضمّه إليه ويحفظه ويربيه؟ فجاءت بالأم فقبل ثديها ورجع إليها بما لطف الله له من التدبير، وقرت عينها بسلامته، وزال عنها الحزن والغم الذي كان قد ألمّ بها.(16/110)
(5) (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) أي وقتلت بعد كبرك القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلى فنجّيناك من الغم الذي نزل بك من وجهين:
(ا) عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون كما جاء فى الآية «فأصبح فى المدينة خائفا يترقب» .
(ب) عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت: «رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى» ووفقناك للهجرة إلى مدين.
(6) (وفتناك فتونا) أي وأوقعناك فى محنة بعد محنة وتفضلنا عليك بالخلاص منها، فمن ذلك:
(ا) إن أمك حملت بك فى السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح.
(ب) إن أمك ألقتك فى البحر بعد وضعك فى التابوت فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك.
(ح) إنك امتنعت عن الرضاع إلا من ثدى أمك وكان ذلك وسيلة إلى إرجاعك إليها.
(د) إنك أخذت بلحية فرعون فغضب من ذلك وأراد قتلك لولا أن قالت له زوجه: إنه صغير لا يفرق بين الجمرة والتمرة وأتى لك بهما فأخذت الجمرة.
(هـ) قتلك القبطي وخروجك إلى مدين هاربا.
(7) (فلبثت سنين فى أهل مدين) قاسيت أثناءها من المحن ما قاسيت، وتحمّلت بسبب الفقر والغربة آلاما كثيرة حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب وترعى غنمه.
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي ثم جئت وفق الوقت الذي سبق فى قضائى وقدرى أن أكملك فيه، وأن أجعلك رسولا دون تقدم ولا تأخر عنه، ولولا توفيق الله لما تهيأ لك شىء من ذلك.(16/111)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
(8) (واصطنعتك لنفسى) أي اخترتك لإقامة حجتى، وجعلتك واسطة بينى وبين خلقى فى تبليغ الدين وهدايتهم إلى التوحيد والشرع القويم الذي به صلاح البشر فى دينهم ودنياهم.
وخلاصة ذلك- إنى جعلتك من خواصى، واصطفيتك برسالاتى وبكلامي، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة وجليل النعمة بالمكالمة، أشبه بمن يراه الملك أهلا لكرامته، فيقر به إليه ويجعله من خواصه وندمائه، ويصطنعه بالإحسان إليه فى الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة.
[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
تفسير المفردات
الآيات: هى المعجزات، والمراد بها العصا واليد البيضاء، فإن فرعون حين قال له:
فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد وقال فذانك برهانان من ربك، ولا تنيا: أي لا تفترا ولا تقصّرا، فى ذكرى: أي فى تبليغ رسالتى، فالذكر يطلق على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، طغى: أي تجاوز الحد، قولا لينا: أي لا عنف فيه ولا غلظة: يتذكر: أي يتأمل فيذعن للحق ويؤمن، يخشى: أي يخاف من بطش الله وعذابه، يفرط: أي يعجّل بالعقوبة، من قولهم فرس فارط إذا كان سباقا للخيل،(16/112)
يطغى: أي يزداد طغيانا، أسمع وأرى: أي أسمع وأرى ما يجرى بينكما من قول أو فعل، فأتياه: أي فقابلاه وجها لوجه، فأرسل معنا بنى إسرائيل: أي فأطلقهم من الأسر، ولا تعذبهم: أي ولا تبقهم على ما هم عليه من العذاب والتسخير فى شاقّ الأعمال، والسلام على من اتبع الهدى: أي والسلامة من العذاب فى الدارين لمن صدّق بآيات الله الهادية إلى الحق، تولى: أي أعرض.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب الثمان- شرع يذكر الأوامر والنواهي التي طلب إليه أن يقوم بتنفيذها ويؤدى الرسالة على النهج الذي أمره به.
الإيضاح
(اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى) أي اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه، وإنى ممدّ كما بحججي وبرهاناتى الدالة على صدق نبوتكما، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل والمعاذير، ولا تفترا فى دعوتهم وتبليغ الرسالة إليهم، فبيّنا لهم أن الله أرسلكما إليهم مبشرين بثوابه ومنذرين بعقابه.
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى) أي اذهبا معا إلى فرعون، وناضلاه الحجة بالحجة، وقارعاه البرهان بالبرهان، لأنه طغى وتجبر وتمرّد حتى ادعى الربوبية فقال «أنا ربكم الأعلى» .
وتخصيص فرعون بالدعوة آخرا بعد أن كانت الدعوة عامة أوّلا، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنا صاغية، واستجاب لدعوتهما وآمن بهما تبعه المصريون قاطبة كما قيل: الناس على دين ملوكهم.
ثم بين لهما سبيل الدعوة فقال:(16/113)
(فقولا له قولا لينا) أي فكلماه بكلام رقيق لين، ليكون أوقع فى نفسه، وأنجع فى استجابته للدعوة، فبرقيق القول تلين قلوب العصاة، وتنكسر سورة الطغاة، ومن ثم جاء الأمر به لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فى قوله: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هى أحسن» .
ومن هذا ما حكى الله بعضه عن موسى فى قوله لفرعون: «هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى» وقوله تعالى له: «والسلام على من اتبع الهدى» .
ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله:
(لعله يتذكر أو يخشى) تقدم أن قلنا إن (لعل) فى مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها: أي أدّيا الرسالة، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه، واسعيا إلى إنجازه سعى من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد قدر استطاعته، ويحتشد بأقصى وسعه آملا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح.
وقصارى ذلك- اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل وقد جرت العادة أن من رجا شيئا طلبه، ومن يئس انقطع عمله، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة، وقطع المعذرة، وإن لم يفد هدايته.
(قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أي قال موسى وهارون:
ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه، أن يعجّل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة، وإظهار المعجزة، أو يزداد طغيانا فيقول فى شأنك ما لا ينبغى، لعظيم جرأته، وقساوة قلبه، وفجوره وشديد عصيانه.
(قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى) أي قال الله لهما: لا تخافا فرعون إننى معكما بالنصرة والتأييد، والحفظ من غوائله، وإننى أسمع وأرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، وأحدث فى كل حال ما يصرف شره عنكما.
والخلاصة- لست بغافل عنكما، وإنى سأفعل ما يؤدى إلى حفظكما ونصركما عليه، فلا تأبها به، ولا تهتمّا بأمره.(16/114)
(فأتياه فقولا إنا رسولا ربك) أي فقابلاه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك- وقد أمرا بتبليغه ذلك من أول وهلة، ليعرف لهما حقهما، ويفكر فيما يقابلهما به من الرد على ما ادّعيا.
وفى التعبير بقولهما (ربك) إيماء إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك، مما لا ينبغى أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه نظرة الاعتبار والصدق.
(فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم) أي فأطلق بنى إسرائيل من الأسر، ولا تعذبهم بتسخيرك إياهم فى شاقّ الأعمال كالحفر والبناء ونقل الأحجار، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساء هم فى تلك الأعمال.
وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان، لأنه أخف وأسهل من ذلك، لما فيه من تبديل الاعتقاد وهو عسر شاقّ على النفس.
ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما.
(قد جئناك بآية من ربك) أي قد جئناك بالحجة البالغة، والبرهان الساطع، على أنه أرسلنا إليك، وإن لم تصدقنا فيما نقول أريناكها.
(والسلام على من اتبع الهدى) أي والسلامة والأمن من العذاب فى الدنيا والآخرة على من اتبع رسل ربه، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق، وتنيل البغية، وتبعد عن الغى والضلال.
قال الزّجّاج: أي من اتبع الهدى سلّم من سخط الله وعذابه، وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب اه.
ويمثل هذا كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل ملك الروم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، فاسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
وفى هذا ترغيب فى التصديق على أتم وجوهه، وتنفير من مخالفته، وصد عنها على أقصى غاية كما لا يخفى.(16/115)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
ثم ذكرا علة لما سبق لهما من النصح والإرشاد بقولهما.
(إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي إنا قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن عذابه الذي لا نفاد له ولا انقطاع فى الدنيا والآخرة، على من كذّب بما ندعو إليه من توحيده وطاعته وإجابة رسله، وأدبر معرضا عما جئناه به من الحق.
وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: «فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هى المأوى» وقوله: «فأنذرتكم نارا تلظى. لا يصلاها إلا الأشقى. الذى كذب وتولى» وقوله: «فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى» .
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
تفسير المفردات
أعطى كل شىء خلقه: أي أعطى كل نوع صورته وشكله الذي يشاكل ما نيط به من الخواص والمنافع، ثم هدى: أي ثم عرّفه كيف يرتفق بما أعطى له، البال: الفكر يقال خطر ببالي كذا، ثم أطلق على الحال التي يعتنى بها وهو المراد هنا(16/116)
فى كتاب: أي دفتر مقيّد فيه والمراد بذلك كمال علمه الذي لا يضيع منه شىء، ضل الشيء: أخطأه ولم يهتد إليه، ونسيه: ذهب عنه ولم يخطر بباله، والمهد. ما يمهّد للصبى ويفرش له: أي جعل الأرض كالمهد، وسلك: أي سهّل، والسبل: واحد ها سبيل:
أي طريق، أزواجا: أي أصنافا، شتى: واحدها شتيت كمريض ومرضى: أي مختلفة النفع والطعم واللون والشكل، لآيات: أي لدلالات، والنهى: واحدها نهية (بالضم) وهى العقل سمى بها لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.
المعنى الجملي
اعلم أن موسى وهارون عليهما السلام سارعا إلى الامتثال وجاءا فرعون وأبلغاه ما أمرا به، فسألهما سؤال الإنكار والجحد للصانع الخالق لكل شىء وربه ومليكه، ودار بينهما من الحوار ما قصه الله علينا.
روى عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى بابه أقاما حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فدخلا وكان من الحوار ما أخبرنا الله به.
الإيضاح
(قال فمن ربكما يا موسى) أي إذا كنتما رسولى ربكما الذي أرسلكما فأخبرانى، من ربكما الذي أرسلكما؟.
وإنما خص موسى بالنداء مع توجيه الخطاب إليهما، لما ظهر له أنه هو الأصل وهارون وزيره.
فأجاب موسى عن سؤاله:
(قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه) أي ربنا الذي أعطى كل شىء ما يليق به مما قدر له من الخواص والمزايا، فأعطى العين الوضع الذي يطابق ما يراد بها من الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وهكذا الأنف واليد والرجل وجميع أعضاء الجسم.(16/117)
(ثم هدى) أي ثم أرشده كيف ينتفع بما أعطاه ويرتفق به، وكيف يصل بذلك إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما فى الحيوان وإما طبعا كما فى النبات والجماد.
وخلاصة هذا- ربنا الذي خلق كل شىء على الوجه الذي يليق بما قدّر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله.
وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر- شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذا الإله، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(قال فما بال القرون الأولى؟) أي فما حال القرون الماضية كعاد وثمود الذين لم يعبدوا الله بل عبدوا غيره؟.
فأجاب موسى:
(قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) أي إن ذلك من علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله، فهو الذي ضبط أعمالهم وأحصاها فى كتاب لا يشذّ عنه شىء، ولا يفوته شىء، لا كبير ولا صغير، ولا ينسى شيئا، وسيجزيهم بما عملوا جزاء وفاقا.
وقصارى ذلك- إن علمه تعالى محيط بكل شىء، وأنه لا ينسى شيئا، تبارك وتعالى، فعلمه ليس كعلم المخلوقين الذي يعتريه النقص من وجهين: عدم الإحاطة بالأشياء، ونسيانها بعد علمها.
وإنما سأل فرعون هذا السؤال لخوفه أن يزيد موسى فى إظهار تلك الحجة فيستبين للناس صدقه، فأراد صرفه عن ذلك، وشغله بالقصص والحكايات التي لا تعلق لها بشئون رسالته، لكن موسى كان أحرص من أن يهتم بمثل هذا، ومن ثم أوجز فى رده. ووكل أمر ذلك إلى ربه.(16/118)
وإجمال سؤاله- إنه إذا كان الأمر كما ذكرت ففضّل لنا حال الماضين من سعادة وشقاء، فرد عليه السلام عليه بأن علم ذلك إلى الله ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول بإبراز الدلائل على الوحدانية فقال:
(الذى جعل لكم الأرض مهدا) أي ربى الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد، تتمهّدونها وتستقرون عليها، فتقومون وتنامون وتسافرون على ظهرها.
(وسلك لكم فيها سبلا) أي وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية تمشون فى مناكبها وتسلكونها من قطر إلى قطر، لتقضوا مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها.
ونحو الآية قوله: «وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون» .
(وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) أي وأنزل من السماء مطرا فأخرج به مختلف أنواع النبات من زروع وثمار حامضة وحلوة وهى أيضا مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للإنسان، وبعضها يصلح للحيوان وفى هذا بيان لنعمه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي يولد تلك المنافع.
(كلوا وارعوا أنعامكم) أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم كلوا وارعوا أنعامكم إلخ. فشىء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم، وشىء أعد لأنعامكم قوتا لها أخضر ويابسا.
(إن فى ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم وعظيم سلطانه- لأدلة على وحدانيته وأنه لا إله غيره إذا كنتم من ذوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة.
ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء بين أنها غير مقصودة لذاتها، بل هى وسائل إلى منافع الآخرة فقال:
(منها خلقناكم) أي من الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية التي تكونت(16/119)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
منها بوسائط، إذ الغذاء إما حيوانى وإما نباتى، والحيواني ينتهى إلى نباتى، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء بالتراب.
(وفيها نعيدكم) أي وفى الأرض نعيدكم بعد مماتكم فتصيرون ترابا كما كنتم قبل نشأتكم (ومنها نخرجكم تارة أخرى) أي وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرة أخرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة، ثم نرد الأرواح من مقرّها إليها.
وجاء بمعنى الآية قوله: «فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون» وقوله:
«يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا» .
وفى الحديث «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها فى القبر وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال وفيها نعيدكم، ثم أخذ أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وأخرج أحمد والحاكم عن أبى أمامة قال: «لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى القبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى، بسم الله، وفى سبيل الله، وعلى ملة رسول الله» .
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
تفسير المفردات
أبى: امتنع، موعد: أي ميعادا معيّنا، سوى: مستويا لا جبال فيه ولا وهاد بحيث يستر النظارة، يوم الزينة: يوم عيد كان لهم، يحشر الناس: أي يجمعون، والضحى:
وقت ارتفاع النهار.(16/120)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سؤال فرعون عن رب موسى- قفى على ذلك ببيان أنه بصّره بالآيات الدالة على توحيد الله كقوله: ربنا الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، وقوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا، والدالة على نبوته كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانا ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء، فعلم كل هذا وكذّب به كفرا وعنادا كما قال «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا» الآية.
الإيضاح
(ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) أي ولقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وعلى نبوة موسى فكذب بها وأبى أن يذعن للحق.
وقد يكون المراد بها الآيات التسع المذكورة فى قوله: «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» .
ثم فصل سبحانه صفة تكذيبه وإبائه فقال:
(قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟) أي قال منكرا مستقبحا لما فعل موسى: أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا، لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر؟ إذ تستولى على عقول الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم.
وخلاصة ما قال- أجئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبى يجب عليهم اتباعك والإيمان بما جئت به إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها ويكون لك الملك فيها، وإنما قال تلك المقالة، ليحمل قومه على السخط على موسى والغضب منه، بإظهار أن مراده ليس مجرد إنجاء بنى إسرائيل من أيديهم، بل مقصوده إخراج القبط من أوطانهم، وحيازة أموالهم وأملاكهم جملة، وبذا يسدّ عليه الباب فلا يتوجه أحد إلى اتباع دعوته، مبالغة فى المدافعة عن بلادهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا ينظرون إلى معجزاته، ولا يلتفتون إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم ادّعى أنه سيعارضه بمثل عمله فقال:(16/121)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
(فلنأتينك بسحر مثله) أي فو الله لنأتينك بسحر مثل سحرك، فإن عندنا مثل ما عندك، فلا يغرنّك ما أنت فاعل.
(فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت) أي فاجعل بيننا وبينك ميقاتا وموعدا نجتمع نحن وأنتم فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر.
وإنما قال تلك المقالة، ليبين أنه قوى القلب، جلد متمكن من تهيئة وسائل المعارضة، وترتيب أسباب المغالبة، طال الأمد أو قصر.
(مكانا سوى) أي ويكون الاجتماع فى مكان مستو من الأرض لا انخفاض فيه ولا ارتفاع، فلا جبال ولا وهاد تستر بعض الحاضرين عن بعض.
وقصارى ذلك- عيّن لنا زمان المقابلة ومكانها على ألا يكون فيه ما يستر أحدا من الناس عن أحد ليروا ما يصدر منك ومن السحرة.
وغير خاف ما فى ذلك من إظهار الجلد، وقوة الوثوق بالغلبة.
ثم ذكر رد موسى على ما طلب فقال:
(قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) أي قال موسى: ميعادكم للاجتماع يوم عيد النيروز وكان على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم ويجتمعون، ليكون الحفل عاما، ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب فى القرى والأمصار، فتعلو كلمة الله ويظهر دينه، ويزهق الباطل وينتصر الحق على رءوس الأشهاد.
وفى ذلك من وضوح الحجة ما لا خفاء فيه، ومن وثوقه بفلجه على خصمه، وعدم مبالاته به.
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 64]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)(16/122)