وإنك لن تجد بخيلا أبدا يدعو إلى الإحسان، لأن كلمة الإحسان تفزعه، حتى لو نطق بها زورا ويهتانا.. فإذا دعا داع إلى الإحسان كان معنى هذا أنه يمكن أن يكون فى المحسنين يوما ما.. وهذا هو السرّ فى احتفاء القرآن الكريم بالحضّ على فعل المكارم، فمن حضّ على مكرمة، وجعلها دعوة له، كان قمينا بأن يكون من أهلها عملا، بعد أن كان من دعاتها قولا..
وإذا جاز لإنسان أن يدعّ اليتيم، ويزعج أمنه، أو يضن على جائع بلقمة يتبلغ بها- وهو غير جائز، ولا مقبول على أي حال- فإنه لا يجوز ولا يقبل أن يكون ذلك من أحد من قريش، الذين أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، من بين العرب جميعا..
إنهم يشهدون ذلك فى كل لحظة من لحظات حياتهم: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (67: العنكبوت) .
وقوله تعالى:
«فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» .
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الصلاة فى حقيقتها نور يضىء ظلام القلوب، ويجلّى غشاوة النفوس، لأنها أوثق الصلات التي تصل العبد بربه، وتقرّبه منه، وتعرضه لنفحات الرحمة، فتشيع فى كيانه الحب والحنان، حيث يضفيهما على عباد الله، وخاصة الضعفاء والفقراء، الذين وصّى الله سبحانه وتعالى يهم الأقوياء والأغنياء، واسترعاهم إياهم.
والصلاة لاتثمر هذا الثمر الطيب، ولا تؤتى هذا الأكل الكريم، إلا إذا كانت خالصة لله، يشهد فيها المصلّى جلال خالقه، وعظمة ربه.. وذلك(16/1686)
لا يكون حتى تصدق النية، وتخلص الرغبة، ويعظم اليقين فى لقاء الله، والثقة فى أنّ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
والذين يسهون عن الصلاة، أي يغفلون عنها، ولا يشغلون أنفسهم بها، وبانتظار أوقاتها ليهيئوا أنفسهم لها، ويعدوها للقاء الله فى محرابها- هؤلاء ليسوا مصلين فى الحقيقة، وإن ركعوا، وسجدوا، لأن صلاتهم تلك إنما تقع عفوا، وتجىء حسب ما اتفق، كأن يكونوا فى جماعة، وقد أذّن المؤذن للصلاة، فيمنعهم الحياء، أو الخوف من قالة السوء فيهم أن تصلى الجماعة ولا يصلون، أو أنهم يصلون فى الأوقات التي لا يشغلهم فيها شىء، ولو كان تافها.
أما إذا شغلهم عمل، أو لهو، فلا يذكرون الصلاة، ولا يؤثرونها على ما بين أيديهم من عمل، أو لهو، حتى لكأن الصلاة نافلة من نوافل الحياة، لا قدر لها ولا وزن! فهذا هو السهو، وهؤلاء هم الساهون عن الصلاة الذين توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل، لأنهم يراءون الناس، وينافقونهم أو ينافقون أنفسهم بها، وهم لهذا لا ينتفعون بالصلاة، فلا يأتمرون منها بمعروف، ولا ينتهون بها عن منكر..
وقوله تعالى: «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» .
الماعون: من العون، وهو ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز..
والمراد بالماعون هنا الزكاة، لأنها أوسع الأبواب، وأجداها فى إسداء العون، للفقير، والمسكين، وابن السبيل..
فالويل إنما يتجه الوعيد به هنا، إلى الذين لا يقيمون الصلاة على وجهها، ولا يؤدّون الزكاة على تمامها وكمالها، طيبة بها أنفسهم، منشرحة بها صدورهم..(16/1687)
فهم يمنعون الزكاة ما استطاعوا منعها، ويؤدونها إذا قام عليهم سلطان قاهر، يرصد أموالهم، ويستخرج منها زكاتهم، كما يستخرج رجال الأمن المال المسروق من جيب السارق!! وفى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» - وفى جعل هاتين الكلمتين آية ذات دلالة مستقلة، مستوفية أركان الجملة المفيدة من مبتدأ وخبر- فى هذا إعجاز من إعجاز البلاغة القرآنية، حيث تهزّ هاتين الكلمتين أقطار النفس، وتستثير دواعى الفكر، حين يجد المرء نفسه بين يدى هذه الحقيقة الغريبة المذهلة:
«ويل للمصلين» !! وكيف يكون الويل للمصلين، والصلاة عماد الدين، وركنه المتين، وعليها يقوم بناؤه، وبها تشتد أركانه، وتثبت دعائمة؟ أهذا ممكن أن يكون؟ ويجىء الجواب نعم! وكيف؟ إنها صلاة الساهين عنها، المستخفين بها، الذين يأتونها رياء ونفاقا.. وإن الذين لا يؤدون الصلاة أصلا، ممن يؤمنون بالله، لهم أحسن حالا، من هؤلاء المصلين المرائين، لأن الذين لا يؤدونها أصلا، لم يتعاملوا بالصلاة بعد، ولم يزنوها بهذا الميزان البخس، ولو أنهم صلّوا فقد يقيمونها على ميزان يعرف قدرها، ويبين عن جلالها، وعظمة شأنها.. أما الذي يصلى ساهيا عن الصلاة متغافلا عنها، مستخفّا بها- فقد بان قدر الصلاة عنده ووزنها فى مشاعره.. وهو قدر هزبل، ووزن لا وزن له، ومن هنا كان جزاؤه هذا الوعيد بالويل والعذاب الشديد..(16/1688)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
(108) سورة الكوثر
نزولها: مكية نزلت بعد سورة العاديات عدد آياتها: ثلاث آيات عدد كلماتها: عشر كلمات عدد حروفها: اثنان وأربعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
فى سورة «الماعون» ، توعد الله الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤدّون الزكاة لأنهم مكذبون بالدين، غير مؤمنين بالبعث والحساب، والجزاء- توعد الله سبحانه هؤلاء، بالويل والهلاك، والعذاب الشديد فى نار جهنم..
وفى مقابل هذا، جاءت سورة الكوثر تزفّ إلى سيد المؤمنين بالله واليوم الآخر، هذا العطاء الجزيل، وذلك الفضل الكبير من ربه.. ومن هذا العطاء، وذلك الفضل، ينال كلّ مؤمن ومؤمنة نصيبه من فضل الله، وعطائه على قدر ما عمل..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 3) [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)(16/1689)
التفسير:
الكوثر: مبالغة فى الكثرة، والمراد بالكثرة هنا، الكثرة فى العطاء من الخير والإحسان، والخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه.
والمراد بهذا الخبر هو التنويه بمقام النبىّ الكريم عند ربه جلّ وعلا، وبرضاه عنه، ذلك الرضا الذي لا حدود له، والذي تملأ القطرة منه وجوه الوجود، بشاشة، ومسرّة، وإسعادا..
وفى إطلاق لفظ الكوثر، دون قيده بنوع، أو قدر- إشارة إلى تناوله كل ما هو خير، وبلوغه إلى ما لا يعرف له نهاية أو حدّ، كما أنه إشارة أخرى إلى أنه خير، وخير مطلق، مصفّى من كل شائبة، خالص من كل كدر.. ذلك أنه عطاء، والعطاء لا يكون إلا مما هو خير، وإحسان، فكيف إذا كان عطاء من يد الله سبحانه وتعالى؟ .. إن صفة هذا العطاء هى من صفات المعطى جلّ وعلا.. فلا تسل بعد هذا ما يكون هذا العطاء! «هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .. وإنه لحسب المؤمن إذا دعا ربه أن يقول: «اللهم أعطنى، ولا تحرمنى» .. فإذا الله دعاءه، فليسعد السعادة كلها بما أعطى من عطاء ربه! فاللهم أعطنا ولا تحرمنا، واللهم استجب لنا ولا تردنا، فأنت خير من أعطى، وأكرم من سئل..
ولعلك تسأل: وماذا أعطى النبي الكريم؟.
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى النبي الكريم خير ما أعطى عبدا من عباده..
وحسبه أنه خاتم النبيين، وحسبه القرآن الذي كمل به دين الله، وتمت به شريعته، وحسبه الدعوة التي قام عليها، وبلغ بها غايتها، وأقام بها دين الله فى الأرض، وغرس مغارسه فى مشارقها ومغاربها.. وحسبه أن رفع الله(16/1690)
تعالى ذكره فى العالمين إلى يوم الدين. وحسبه أن أسرى به مولاه إلى السموات العلا، واستضافه فى الملأ الأعلى، وأراه من آيات ربه الكبرى.. «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» ..
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» ..
«وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
(113: النساء) .. «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» ..
هذا بعض ما أعطى الله سبحانه نبيّه الكريم، وإنّ عطية واحدة من هذه العطايا لنملأ الدنيا كلها خيرا وبركة، وتسع الناس جميعا سعادة ورضا! وهذا هو ميزان الرسول الكريم عند ربه، دون الناس جميعا.. وإنه ميزان ليرجح كل ما أعطى الناس من جزيل عطايا الله سبحانه وتعالى ومننه..
فكل ما أعطى الناس بعد هذا، أو قبل هذا، من مال وبنين، ومن علم ومعرفة، ومن هدى ونور، وكل ما أصابوا من خير مادى أو معنوى- هو من بعض هذا الذي أعطى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. فما أعظم هذا الغنى وما أطيبه، وما أبقاه وأخلده.. «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» (131: طه) وهل يلتفت رسول الله بعد هذا إلى ما عند الناس مما رزقهم الله من مال وبنين؟ وهل يرى شيئا من حطام الدّنيا يجرى مع هذا الذي أعطاه الله، ويأخذ له مكانا فيه؟ وهل تشتهى نفس بين يديها مائدة حافلة بطيب الطعام، وصنوف المآكل، إلى فتات فى مزبلة يتداعى عليها الذباب؟
وقوله تعالى:
«فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» .
الفاء هنا للسببية، والتعقيب على هذه البشرى المسعدة التي شرح سبحانه(16/1691)
وتعالى بها صدر النبي الكريم، وملأ قلبه بها سعادة ورضا.. وإذن فليشكر ربّه، وليسبح بحمده، عرفانا بهذا العطاء الجزيل، وتقديرا لقدره..
والصلاة، هى أفضل القربات إلى الله، وأعظم وسائل الزّلفى إليه، والولاء له.. واللام فى قوله تعالى: «لربك» لام الملكية، أي صل الصلاة لله وحده، واجعلها خالصة له سبحانه، لا يدخل عليها شىء من الغفلة، أو الاشتغال بغير الله..
وقوله تعالى: «وانحر» أي أطعم الفقراء والمساكين.. فهذا من الزكاة التي هى أخت الصلاة..
وقد اختلف المفسرون فى هذه الصلاة: أهي صلاة عيد الأضحى، أم هى الصلاة على إطلاقها.. وكذلك اختلفوا فى النحر، وهل هو ما ينحر من الأضاحى، يوم عيد النحر، بعد الصلاة، أم هو النحر إطلاقا؟ والأولى عندنا أن تكون الصلاة مطلقة، لا يراد بها صلاة عيد الأضحى، بل المراد بالأمر بها المداومة عليها ولو كانت صلاة عيد الأضحى، لخفّ فى مقابلها وزن هذا العطاء الجزيل الذي أعطاه الله نبيه، فى قوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» .. فصلاة عيد الأضحى ركعتان لا غير فى كل عام.. ثم إن صلاة العيد هذه ليست فرضا، وإنما هى سنة!! فهل هاتان الركعتان تتوازنان مع هذا العطاء الجزيل، وهل يقومان بواجب الشكر عليه؟
فالمراد بالصلاة إذن هى الصلاة مطلقة فى فرائضها، وسننها.. ونوافلها..
وهى صلاة تكاد تكون مستغرقة معظم الأيام والليالى مدى العمر.. وهذا ما يمكن أن يكون فى مقام الحمد والشكر على ما أعطى النبي الكريم من ربه، هذا العطاء الجليل الكثير، الذي لا حدود له..
وعلى هذا، فالقول بأن المراد بالنحر، هو نحر الأضحية بعد صلاة العيد،(16/1692)
قول متهافت، وأولى منه أن يراد به مطلق النحر، وأن يراد بمطلق النحر، إطعام الفقراء والمساكين، وأن يراد بإطعام الفقراء والمساكين الزكاة، إذ كان من بعضها ما يطعم منه الفقراء والمساكين.. وعبّر عن إطعامهم بما ينحر من ذبائح، لأن ذلك خير ما يطعمونه إذ كان اللحم هو الطعام الذي يتشهاه الفقراء والمحرمون، ولا يجدون سبيلا إليه، وإن وجدوا السبيل إلى لقمة العيش!! وقوله تعالى:
«إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» .
الشانئ: هو المبغض، والمعادى، والمتجنب لمن يبغضه ويعاديه..
والأبتر: المنقطع عن كل خير، المحروم من كل ما فيه غناء ونقع..
وشانىء النبىّ، هو المكذّب له، الكافر بما يدعو إليه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرضى الله، ويقرّب العبد من رحمته، فيخلص بهذا من عذاب الآخرة، وينجو من أهوالها وشدائدها..
وشانىء النبي، محروم من كل خير، منقطع عن موارد الهدى والنور، فهو إلى ضياع وهلاك، وإلى عذاب جهنم خالدا فيها أبدا.. إن شانىء النبي ومبغضه مصروف عن الإيمان بالله، واليوم الآخر.. وحسبه بهذا هلاكا وضياعا، وحرمانا من كل خير..
هذا هو حظ شانىء النبي ومبغضه، فى كل زمان ومكان.. إنه البعد عن كل خير، والحرمان من كل طيّب، ثم العذاب الأليم فى نار جهنم..
والروايات التي تحدّث عن أن هذه السورة نزلت فى العاص بن وائل، أو عقبة بن أبى معيط، أو أبى جهل، أو أبى لهب، وأنهم كانوا يعيّرون النبي صلى الله عليه وسلم بموت ولديه، القاسم، وعبد الله، وأنه لا نسل له غير هما من(16/1693)
الذكور، وأن عقبه قد بتر وانقطع- هذه الروايات إن دلت على شىء، فإنما تدل على أن نزول هذه السورة الكريمة، كان فى هذا الوقت الذي تتحدث به قريش بهذا الحديث المنكر، وأن ذلك كان مناسبة جاءت فى وقتها، لا أن هذا الحديث كان سببا باعثا لنزولها، إذ كانت محامل السورة أعظم قدرا، وأكبر شأنا، من أن تلتقى مع هذا الحديث عن الولد، وحفظ النسل به، وإن كان ذلك مما تعنزّ به قريش، وتحرص عليه.
(109) سورة الكافرون
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الماعون..
عدد آياتها: ست آيات..
عدد كلماتها: ثمان وعشرون كلمة..
عدد حروفها: أربعة وتسعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
الكوثر الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- كان فى مقابله البتر والحرمان من كل خير لمن يشنأ هذا النبي، الذي وضع الله سبحانه وتعالى، الخير كله فى يده.. وهذا مجمل ما تحدثت عنه سورة «الكوثر» وفى سورة «الكافرون» التي تأتى بعد هذه السورة، موقف بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وما أعطاه الله سبحانه من خير كثير، يفيض من النبع الأعظم، وهو الإيمان بالله- وبين المشركين الذين عزلوا أنفسهم عن هذا الخير، وحرموا أن ينالوا شيئا منه.. وفى هذا الموقف يعلن النبي عن هذا الخير الذي من الله به عليه، وأنه ممسك به، مقيم عليه، لا يصرفه عنه شىء من هذه الدنيا..
فهو لا يعبد غير الله سبحانه وتعالى، ولا يتحول عن عبادته أبدا، ولا ينظر إلى شىء وراءه من مال وبنين!!(16/1694)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
التفسير:
كان مما يلقى به المشركون النبىّ لصرفه عن دعوته- أن يجمعوا له مالا، إن كان يريد مالا، حتى يكون أكثرهم مالا، وأوسعهم غنى، أو يقيموه رئيسا عليهم، إن كان يطمع فى الرياسة، أو يزوجوه أجمل بناتهم، وأكرمهم نسبا، إن كان يرغب فى ذلك.. فلما لم يلقوا من النبي الكريم إلا تساميا عن هذه المطالب الرخيصة، وإلا إعراضا عنها، وأنه لا يتحول عن الدّين الذي يدعو إليه، ولو وضعوا الشمس فى يمينه، والقمر فى يساره! - لمّا لم يجدوا استجابة من النبىّ فى ترك دعوته، جاءوه يعرضون عليه أن يخلطوا دينهم بدينه، وأن يجمعوا بينهما، فيعبدون هم ما يعبده النبىّ إلى جانب ما يعبدون ويعبد هو ما يعبد المشركون إلى جانب معبوده الذي يعبده فإن كان الذي جاء به خيرا مما معهم شاركوه فيه، وأخذوا حظهم منه، وإن كان الذي هم عليه خيرا مما جاء به شاركهم فيه، وأخذ حظه منه.. وبهذا تنقطع أسباب الشقاق، والعداوة، بينهم وبينه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» (64: الزمر) ..(16/1695)
وهذا من ضلال القوم وسفه أحلامهم، وسوء معتقدهم.. فإن الحق كلّ لا يتجزأ، ولا يتبعّض.. فإما أن يكون ما يعبدون حقا، وإذن فإنّ خلطه بشىء دخيل عليه يغيّر من صورته، ويفسد حقيقته، فلا يكون حقا، ولا يكون باطلا، وإنما هو حق وباطل معا.. وإما أن يكون باطلا، وإذن فلم يمسكون به، ويحرصون عليه؟ .. وإن فى تفريطهم فى معتقدهم على هذا الوجه لدليلا على أنه معتقد فاسد، وأنهم هم أنفسهم لا يجدون فيه ما يقيمهم منه على يقين به، واطمئنان إليه، وأنه من السهل الميسور عندهم أن يبيعوه بالثمن البخس لأول عارض يعرض لهم.
فالمخاطبون من قريش هنا هم الكافرون الذين حكم عليهم بالكفر حكما مؤبّدا، وأنهم لن يؤمنوا أبدا، ولهذا أخذوا هذا الوضع فى سورة خاصة بهم..
قوله تعالى:
«قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» ..
الكافرون هنا، هم المشركون من قريش..
وقوله تعالى: «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» أي أنا لا أعبد المعبودات التي تعبدونها. إن لى معبودا لا أعبد سواه..
وقوله تعالى: «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» أي وأنتم لا تعبدون الإله الذي أعبده أنا.. إن لكم آلهة تعبدونها، غير الإله الذي أعبده..
فهناك إذن اختلاف بعيد بينى وبينكم، فى ذات المعبود الذي أعبده، وذوات المعبودات التي تعبدونها. هذا هو حالى وحالكم الآن.. وهذا هو الحكم فيما أعبد، وفيما تعبدون.. وتلك حقيقة لا خلاف بيننا عليها.. أنا لا أعبد(16/1696)
معبوداتكم، وأنتم لا تعبدون معبودى..
وقوله تعالى:
«وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» ..
هو تعقيب على هذا الحكم العام المطلق، وينبنى عليه: أننى لا أنا عابد ما عبدتم، فى أي حال من أحوالى، لا حاضرا ولا مستقبلا.. ولا أنتم عابدون فى المستقبل الإله الذي أعبده.. فأنا على ما أنا عليه من عبادة الإله الذي أعبده، لا أتحول عن عبادته، وأنتم على ما أنتم عليه من عبادة ما تعبدون من معبودات لا تتحولون عن عبادتها..
وهذا يعنى أن الذين خوطبوا بهذا الخطاب من المشركين، لم يدخلوا فى الإسلام، ولم يؤمنوا بالله، بل ماتوا على شركهم.. وهذا ما يفهم من قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ففى وصف المشركين بالكفر إشارة إلى أنهم من الذين استبدّ بهم العناد، وركبهم الضلال، فانتقلوا- بدعوة النبىّ لهم إلى الإيمان بالله- انتقلوا من الشرك إلى الكفر الصريح..
يقول الطّبرسى فى تفسيره: يريد (أي بالكافرين) قوما معينين، لأن الألف واللام للعهد..
والقرآن الكريم، حين يلقى رءوس المشركين، ومن غلبت عليه الشّقوة منهم ممن لا يدخلون فى دين الله أبدا- كان يخاطبهم بوصف الكافرين لا المشركين، ومن ذلك قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» (15- 17 الطارق) .. ويقول سبحانه فى أحد رءوس هؤلاء المشركين: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا» (77- 79 مريم) ..
(م 107 التفسير القرآنى- ج 30)(16/1697)
فهؤلاء المخاطبون بوصف الكفر من المشركين، قد ماتوا على الكفر، وسيلقون جزاء الكافرين فى الآخرة.. إنهم قبل دعوتهم إلى الإسلام كانوا مشركين، فلما لم يستجيبوا لهذه الدعوة انتقلوا من الشرك إلى الكفر.. وكذلك أهل الكتاب، كانوا قبل دعوة النبىّ لهم ضلّالا، فلما دعاهم وأبوا أن يؤمنوا، صاروا كفارا.
وقوله تعالى:
«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» .
هو فصل الخطاب، ومقطع الأمر فيما بين النبىّ، وهؤلاء الكافرين..
إن لهم دينهم الذي يدينون به ويحاسبون عليه، وهو له دينه الذي يدين به، ويلقى ربه عليه.
«وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» (41: يونس) .
(110) سورة النصر
نزولها: مدنية.. اختلف فى ترتيب نزولها، والرأى عندنا أنها نزلت قبل فتح مكة عدد آياتها: ثلاث آيات عدد كلماتها: ست وعشرون كلمة عدد حروفها: أربعة وسبعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
آذن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- المشركين فى سورة «الكافرون» التي سبقت هذه السورة- آذانهم بكلمة الفصل بينه وبينهم «لَكُمْ دِينُكُمْ(16/1698)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
وَلِيَ دِينِ»
.. ووراء هذه الكلمة الحاسمة القاطعة، التي أخذ بها النبي طريقه إلى ربه ومعبوده، واتخذ بها المشركون طريقهم إلى آلهتهم ومعبوداتهم- وراء هذه الكلمة تشخص الأبصار إلى مسيرة كلّ من النبي والمشركين الذين أخذوا طريقا غير طريقه، لترى ماذا ينتهى إليه الطريق بكل منهما..
وتختفى عن الأبصار طريق أهل الشرك، وتبتلعهم رمال العواصف الهابّة عليهم من صحراء ضلالهم..
أما الطريق الذي أخذه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فها هو ذا النصر العظيم يلقاه عليه، وها هو ذا الفتح المبين ترفرف أعلامه بين يديه، وها هو ذا دين الله الذي يدعو إليه، قد فتحت أبوابه، ودخل الناس فيه أفواجا..
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 3) [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» .
إذا ظرف، شرطىّ، لما يستقبل من الزمان.. وهذا يعنى أن ما بعدها(16/1699)
لم يتحقق بعد، وهو إذا كان وعدا من الله سبحانه وتعالى، فإن تحققه أمر لا شك فيه، وهو واقع موقع اليقين من المؤمنين قبل أن يتحقق.
ونصر الله والفتح، هو نصر دين الله، بنصر النبي والمؤمنين على المشركين، ومن اجتمعوا معهم على حرب النبىّ والمؤمنين، والوقوف فى وجه دين الله، الذي يدعو إليه رسول الله.. والفتح، هو فتح مكة، التي كان مشركوها هم القوة المحركة لكل عدوان على النبىّ والمؤمنين.. فإذا فتحت كان فتحها هو النصر المبين، والفتح العظيم..
وهذا يعنى أن هذه السورة، نزلت قبل فتح مكة، فكانت من أنباء الغيب، ومن البشريات التي بشر بها النبي والمسلمون، فى وسط هذا الصراع الدائر بينه وبين المشركين..
وتكاد الأخبار التي يرويها المفسرون- تجمع على أن هذه السورة كانت من أواخر ما نزل من القرآن، وأنها نزلت بعد سورة الفتح، وقبيل وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه بأيام، قيل عنها فى أكثر الروايات إنها كانت ثمانين يوما!! وهذا ما نخالفهم فيه.
فالقرآن الكريم صريح فى أن قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» هو وعد، يتحقق فى زمن مستقبل.. فهذا ما ينطق به صريح النظم القرآنى.. ولن يعدل بنا شىء عن الأخذ بمنطوق الآية الكريمة. ولهذا فإنا نقول- فى ثقة واطمئنان، وفى قطع ويقين: إن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وفى أشد مواقف النبي حرجا وضيقا، وهو فى مواجهة أهل الشرك والضلال- فكانت مددا من أمداد السماء، وزادا من عند الله، يتزود به النبي وأصحابه، فيما امتحنوا به فى أنفسهم(16/1700)
وأموالهم.. إنها طاقة من النور السماوي، فى وسط هذا الظلام الكثيف، يرى المؤمنون على ضوئها وجه المستقبل المشرق، الذي وعدهم الله فيه بالنصر، والفتح! وقوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» .
والتسبيح أولا، لأنه المطلوب فى مقام الشكر، على هذه النعمة العظيمة، بالنصر والفتح.. ثم الاستغفار ثانيا، مما وقع من تقصير فى حق الله على مسيرة الجهاد، حتى جاء يوم النصر، والفتح..
فعلى مسيرة الجهاد، وفى أوقات الشدة والضيق، وفى مواقع الهزيمة، وفقد الأحباب والأعزاء، تتغير مواقف المجاهدين، وتحوم حول مشاعرهم خواطر تهز إيمانهم، على درجات مختلفة، حسب ما فى النفوس من إيمان، وما فى القلوب من يقين..
فالنفس البشرية- أيا كانت من وثاقة الإيمان بالله- تعرض لها فى الشدائد والمحن، عوارض، من الخواطر، والتصورات، لا ترضاها لدينها، وإيمانها بربها فى ساعة اليسر، وفى أوقات السلام والأمن.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا» (110: يوسف) وقوله تعالى عن النبي وأصحابه: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (214: البقرة) ويقول سبحانه عن المؤمنين فى غزوة الأحزاب: «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» (10: الأحزاب) - وقد صرح المنافقون والذين فى قلوبهم مرض من المؤمنين- صرحوا عن ظنونهم بالله يومئذ، فقالوا ما ذكره الله تعالى عنهم من قولهم: «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» (12: الأحزاب) .(16/1701)
فدعوة النبي إلى الاستغفار، هى دعوة له، وللمؤمنين معه- من باب أولى- إلى لقاء الله تعالى تائبين مستغفرين، بعد أن يتم الله عليهم نعمة النصر والفتح، ويبلغ بهم منزل السلامة والأمن.. وإنه ليس فى هذا الاستغفار إلا مراجعة لما وقع فى النفوس من ظنون بالله عند بعض المؤمنين، أو ضجر من الصبر على البلاء عند بعض آخر، أو شعور بشىء من الأسى والحزن عند فريق ثالث..
وهكذا وذلك فى مسيرتهم على طريق الضرّ والأذى، إلى أن لقيهم نصر الله والفتح.
وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» أي كثير التوبة على عباده، واسع المغفرة لذنوبهم.. وفى المبالغة فى التوبة دلالة على كثرتها، والدلالة على كثرتها، دلالة على كثرة ذنوب العباد، وما وقع لهم فى مسيرتهم على الجهاد، مما ينبغى أن يتطهر منه المجاهدون، وأن يصفّو حسابهم معه بالتوبة والاستغفار، بعد أن رأوا ما رأوا من قدرة الله، ومن إحسانه وفضله عليهم.. وهذا مثل قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (117: التوبة)
(111) سورة المسد
نزولها: نزلت بمكة.. بعد الفاتحة..
عدد آياتها: خمس آيات..
عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة..
عدد حروفها: سبعة وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «النصر» - كما قلنا- مددا من أمداد السماء، تحمل بين يديها هذه البشريات المسعدة للنبىّ وللمؤمنين، وتريهم رأى العين عزّة(16/1702)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
الإسلام، وغلبته، وتخلع عليهم حلل النصر، وتعقد على جبينهم إكليل الفوز والظفر.
وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر، والتي هى على وعد من الله به- حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم، ويجمع فى كيانه وحده، سفههم، وعنادهم، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين..
إنه أبو لهب.. وامرأته حمالة الحطب..
[سورة اللهب.. ونظمها] بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
التفسير:
«أبو لهب» - كما أشرنا من قبل، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية، التي واجهتها الدعوة الإسلامية، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ، وضلال مبين..
ومع أنه كان عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب، ظالما أو مظلوما، كما كان ذلك شأنهم-(16/1703)
فإن هذا الشقي كان من أسفه السفهاء على النبي، وأشدهم عدوانا عليه، وأكثرهم أذى له، حتى إنه- وعلى غير تقاليد الجاهلية- يدخل معه امرأته فى هذه العداوة، ويجرها جرّا إلى تلك المعركة التي يخوضها ضد النبىّ، ولهذا كان لرجل الوحيد من قريش الذي ذكره القرآن باسمه، وأعلن فى العالمين عداوته لله، وغضب الله عليه، ووقوع بأسه وعذابه به، وذلك ليكون لعنة على كل لسان إلى يوم الدين، لا يذكر اسمه إلا ذكر مدموغا باللعنة، مرجوما بالشماتة والازدراء، تتبعه امرأته مشدودة إليه بحبل من مسد، كما كانت مشدودة إليه فى الدنيا بحبل عداوتهما للنبى، وحسدهما له..
وقوله تعالى:
«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .
التب: القطع للشىء.. وهو كالبت.. ولفظه يدل على القطع والحسم، ويحكى الصوت الذي يحدث عند فصل الشيء عن الشيء..
والمفسرون مجمعون على أن هذا دعاء على أبى لهب من الله سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكّنة له من الشر والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كان اليد دائما هى مظهر آثار الإنسان، بها يأخذ، وبها يعطى.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسرى مقامها، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزا عن أن يحصّل خيرا، أو يتناول خيرا، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وتب» أي هلك هو، بعد أن قطعت يداه..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن هذا الخبر على حقيقته، وأنه خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال..(16/1704)
لقد ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه، ولا سلامة لسائر فيه، وكذلك امرأته التي ركبت معه هذا الطريق، وعلقت فيه حبالها بحباله..
والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة تحقق وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو فى حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم.. وفى هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس.. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه!! وقوله تعالى:
«ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» .
هو تعقيب على هذا الخبر، فقد هلك أبو لهب، ونزل به ما نزل من هوان وخسران، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه، واعتز به، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم.. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه.. إنه فى قيد الهلاك وهو بين أيديهم.. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته؟ إنه بين مخالب عقاب محلق به فى السماء.. إن سقط من بين مخالبه هلك، وإن مضى به هلك!! وما كسبه أبو لهب، هو أولاده، لأن الولد من كسب أبيه، ومن تثميره، كما يقول النابغة الذبياني.
مهلا فداء لك الأقوام كلّهم ... وما أثمر من مال ومن ولد
قيل إن أبا لهب قد أصيب بداء يسمى العدسة- ولعله الطاعون- وكانت العرب تخشى هذا الداء، وتتحاشى المصاب به، وكان ذلك بعد غزوة بدر ببضعة أيام، فلما مات بدائه هذا، لم يقترب أحد من أبنائه لمواراته فى التراب، خوفا من(16/1705)
هذا الداء، بل ألقوا عليه الحجارة من بعيد حتى أخفوا جثته، وكأنهم يرجمونه، ويشيعونه بهذه الرجوم، وهم يذرفون الدمع الحزين عليه!! وقوله تعالى:
«سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» ..
هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب فى الآخرة، بعد أن عرف مصيره فى الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبى، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه فى الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر، وكيف قتل صناديدها، وأسر زعماؤها..
وفى وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنّى بها «أبو لهب» .. فقد ولد، وهو يلبس هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقودا يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها فى الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب..
وقوله تعالى:
«وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» ..
معطوف على فاعل «سيصلى» أي سيصلى هو نارا ذات لهب، وستصلى امرأته معه هذا النار، ذات اللهب..
وقوله تعالى: «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» منصوب على الذّم، بفعل محذوف قصد به التخصيص للصفة الغالبة عليها، وتقديره: أعنى، أو أقصد.. حمالة الحطب.
و «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» أي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة، وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي، وتهيج عداوة المشركين له.. فقد كانت(16/1706)
امرأة أبى لهب- واسمها أم جميل بنت حرب، أخت أبى سفيان- كانت أشدّ نساء قريش عداوة للنبى، وسلاطة لسان، وسوء قالة فيه، كما كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشركى قريش كلهم.. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة، وتنزاوج، وتتوافق، وتتجاذب! وقيل حمالة الحطب: أي حمالة الذنوب، التي أشبه بالحطب الذي يتخذ وقودا، والذي يتعرض لأية شرارة تعلق به فتأنى على كل ما اتصل من أثاث وغيره، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» (31: الأنعام) .
وانظر إلى الإعجاز القرآنى فى وصف امرأة أبى لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على النبي- بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله، لا بد أن يشتعل يوما، وقد كان..
فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم..
وانظر مرة أخرى إلى هذا الإعجاز فى التفرقة بين «أبى لهب» وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطبا، وحسب.. وهذا الحطب- وإن كان من وقود النار- إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها، ويعلق بها.. وأما وقد خالطها «أبو لهب» فلا بد أن تشتعل، وتحترق! وقوله تعالى: «فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» .
الجيد: العنق، والجيد من محاسن المرأة، وسمى جيدا من الجودة، وفيه تضع المرأة أجمل ما تنزين به من حلى وجواهر..
والمسد: الليف، أو ما يشبهه، مما تتخذ منه الحبال..
وفى تعليق هذا الحبل فى جيد أم جميل، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفى تشويه خلقها.. فما أبشع «جيد» امرأة كان من شأنه أن يتحلى(16/1707)
بعقد من كريم الجواهر، يشدّ إليه حبل من ليف.. إنه إهانة لعزيز، وإذلال لكريم.. وإن الإهانة للعزيز، والإذلال للكريم، لأقتل للنفس، وأنكى للقلب، من إهانة المهين، وإذلال الذليل! فكلمة «جيد» هنا مقصودة لذاتها، إنه يراد بها ما لا يراد بلفظ رقبة، أو عنق.. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش، ومن بيوتاتها المعدودة فيها، لتلقى بها فى عرض الطريق، وهى تحمل على ظهرها حزم الحطب، وتشدها إلى جيدها بحبل من ليف!! ولهذا فزعت المرأة، وولولت حين سمعت هذا الوصف الذي وصفها القرآن الكريم به، فخرجت- كما يقول الرواة- فى جنون مسعور، تستعدى قريشا على النبي الذي هجاها- كما تزعم- هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ! وحق للمرأة أن تفزع وأن نجنّ، فلقد كانت هذه الصورة التي رسمها القرآن لها، وعرضها هذا العرض المذل المهين لها، حديث قريش- نسائها ورجالها- ومادة تندرها، ومعابثها، زمنا طويلا..
وأكثر من هذا..
فإن النظم الذي جاءت عليه السورة الكريمة، قد جاء فى صورة تغرى بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة..
إنها تصلح أن تكون- فى نظمها- غناء، أو نشيدا، أو حداء.. ولا نحسب إلا أنها كانت، بعد أيام قليلة من نزولها، نشيدا مرددا فى طرقات مكة، على ألسنة الصبيان، وفى البوادي على أفواه الرعاة، والحداة، وأنها قد أخذت صورا وأشكالا من الأوزان، والأنغام، التي تولدت من نظمها العجيب المعجز..(16/1708)
أنظر..
ألا يمكن أن تنشد هكذا:
تبت يدا أبى لهب/ وتبّا ما أغنى عنه ماله/ وما كسبا سيصلى نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة الحطب فى جيدها/ حبل من مسد ثم ألا يمكن أن تكون صوت حداء.. هكذا..
تبت يدا أبى لهب وتب ... ما أغنى عنه ماله وما كسب
سيصلى نارا ذات لهب ... وامرأته حمالة الحطب
فى جيدها حبل من مسد؟
ثم ألا يمكن أن تكون نشيد رعاة.. هكذا:
تبّت يدا/ أبى لهب/ وتب ما أغنى عنه/ ماله/ وما كسب سيصلى/ نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة/ الحطب فى جيدها/ حبل/ من مسد؟
وهكذا، يمكن أن تتوالد منها الصور، وتتعدد! وفى الإخبار عن أبى لهب وامرأته بأنهم من أهل النار، وفى مواجهتهم بهذا الخبر، ثم موتهم بعد هذا على الكفر- فى هذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي ساق أبا لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان.. ولو أن أبا لهب آمن بالله- ولو حتى عن نفاق- لأقام حجة قاطعة على كذب النبي، وافتراء ما جاء(16/1709)
به، لأن النار التي توعدها الله إنما هى لكفره، فلو أعلن الإيمان لما كان لهذا الوعيد حجة عليه، بل كان حجة على القرآن بأنه مفترى. ولكن أنّى يكون هذا، وقد قضى الله بعذابه فى جهنم، ونزل القرآن بالخبر القاطع بهذا؟
إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبى لهب أو امرأته، بإعلان إسلامهما، فيقضى بها على محمد ودعوته.. وهذه معجزة متحدية من معجزات القرآن، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه الكلمة، بكلمة الإسلام، فى أوضح صورة، وأكملها وأصرحها، كما جاءت بها سورة «الإخلاص» .
وتلك شهادة قائمة على الدهر، بأن هذا القرآن كلام الله، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(112) سورة الإخلاص
«وتسمى سورة التوحيد» نزولها: نزلت بمكة.. بعد الناس.
عدد آياتها: أربع آيات.
عدد كلماتها: إحدى عشرة كلمة.
عدد حروفها: سبعة وأربعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ، ممثلة فى عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبىّ، صلوات الله وسلامه عليه، وكلمته الأولى إلى قومه..(16/1710)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
وقد ساقت هذه الكلمة أبا لهب وزوجه، ومن تبعهما فى جحود هذه الكلمة، والتنكر لها- ساقتهم إلى هذا البلاء الذي لقياه فى الدنيا، وإلى هذا العذاب الأليم فى جهنم المرصودة لهما فى الآخرة..
وسورة «الإخلاص» وما تحمل من إقرار بإخلاص وحدانية الله من كل شرك- هى مركب النجاة لمن أراد أن ينجو بنفسه من هذا البلاء، وأن يخرج من تلك السفينة الغارقة التي ركبها أبو لهب وزوجه، ومن اتخذ سبيله معهما من مشركى قريش ومشركاتها.. وها هوذ النبي الكريم، يؤذّن فى القوم، بسورة الإخلاص، ومركب الخلاص.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 4) [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ» أمر من الله سبحانه وتعالى للنبى بالقول، قولا مطلقا..
وماذا يقول؟.
يقول «هُوَ» ! ومن هو هذا الطلق أيضا، الذي لا تحدّه حدود، ولا تقيده قيود؟
- «اللَّهُ أَحَدٌ» !.(16/1711)
ولفظ الجلالة- «الله» - من الألوهة، وهو اسم الذات، الجامع لأسماء الله تعالى وصفاته كلّها..
و «أحد» صفة لله سبحانه، بمعنى الأحد معرفا بأل، لأنه فى مقابل:
«اللَّهُ الصَّمَدُ» فأحد، وأن كان نكرة لفظا، هو معرفة دلالة ومعنى، لأنه إذ قيل «أحد» لم ينصرف الذهن إلى غيره، فإذا قيل «أحد» كان معناه الأحد، الذي ليس وراءه ثان أو ثالث، أو رابع..
فاستغنى بهذا عن التعريف، لأن التعريف إنما يراد به الدلالة على المعرّف دون أفراد جنسه المشاركة له، فإذا انحصر الجنس كله فى فرد واحد، لم يكن ثمة داعية إلى تعريفه، إذ كان أعرف من أن يعرّف.
فالله، هو الأحد، الذي لا يشاركه فى هذا الوصف موصوف.. فالأحدية هى الصفة التي لا يشارك الله سبحانه فيها أحد، كما أن «الله» هو اسم الذات الذي لا يسمّى به أحد سواه.
والأحديّة هى الصفة التي تناسب الألوهة، وهى الصفة التي تناسب كل صفة من صفات الله سبحانه..
فالله- سبحانه- واحد فى ذاته، واحد فى صفاته..
فالكريم، هو الله وحده، والرحيم هو الله وحده، والرحمن هو الله وحده، والغفور هو الله وحده، والشّكور هو الله وحده، والعليم هو الله وحده.. وهكذا، كل صفة من صفات الكمال، قد تفردّ بها الله- سبحانه- وحده، لا ينازعه فيها أحد..
وفى وصف الله سبحانه وتعالى بأحد، دون واحد، تحقيق لمعنى التفرّد، لأن الأحد لا يتعدد، على حين أن الواحد يتعدد، باثنين، وثلاثة، وأربعة، إلى ما لا نهاية من الأعداد..(16/1712)
يقول الإمام «الطبرسي» فى تفسيره [مجمع البيان فى تفسير القرآن] :
«قيل إنما قال «أحد» ولم يقل «واحد» لأن الواحد يدخل فى الحساب، ويضمّ إليه آخر.. وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ، ولا ينقسم فى ذاته، ولا فى معنى صفاته، ويجوز أن يجعل للواحد ثان، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثان..
لأن الأحد يستوعب جنسه، بخلاف الواحد.. ألا ترى أنك لو قلت فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان، وإذا قلت: لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان، ولا أكثر.. فهو أبلغ..»
ويقول الطبرسي:
قال الإمام الباقر: «الله» : معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته، والإحاطة بكيفيته، وتقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر فى الشيء فلم يحط به علما، ودله، إذا فزع..» فمعنى قوله «الله أحد» أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه، والإحاطة بكيفيته.. وهو فرد بألوهيته، متعال عن صفات خلقه..
وقوله تعالى:
«اللَّهُ الصَّمَدُ» ..
اختلف فى معنى الصمد، وكل ما قيل فى معناه يرجع إلى تمجيد الله سبحانه وتعظيمه، وتفرده بالخلق والأمر..
وفى تعريف طرفى الجملة، إفادة لمعنى الحصر، أي حصر الصمدية فى الله سبحانه وتعالى وحده..
قيل إن أهل البصرة، كتبوا إلى الإمام الحسين، رضى الله عنه يسألون عن معنى «الصمد» ، فكتب إليهم بقول:
(م 108- التفسير القرآنى ج 30)(16/1713)
«أما بعد، فلا تخوضوا فى القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وإن الله قد فسر سبحانه الصمد، فقال: «لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» ..
وقوله تعالى:
«لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ» .
أي أنه سبحانه منزه عن أن يكون له ولد، لأن الولد يدلّ على والد، والوالد هو مولود لوالد. وهكذا فى سلسلة لا تنتهى. ثم إن الولد يماثل الوالد، وقد يفوقه، ويربى عليه، فى قوته، وعلمه..
يقول الإمام الطبرسي فى معنى «لم يلد» : أي لم يخرج منه شىء كثيف، كالولد، ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شىء لطيف كالنّفس، ولا تنبعث منه البدوات، كالسّنة والنوم، والخطرة والغم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسآمة، والجوع والشّبع، تعالى أن يخرج منه شىء، وأن يتولد منه شىء.. كثيف أو لطيف» .
وفى قوله تعالى: «وَلَمْ يُولَدْ» يقول الطبرسي أيضا: «أي ولم يتولد هو من شىء، ولم يخرج من شىء، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشىء من الشيء، والدابة، والنبات من النبات، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار.. ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، والنار من الحجر.. لا، بل هو الله «الصمد» الذي لا من شىء، ولا فى شىء، ولا على شىء.. مبدع الأشياء وخالقها، ومنشىء(16/1714)
الأشياء بقدرته.. فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ..»
ويروى أن الإمام عليا- كرم الله وجهه- سئل عن تفسير هذه السورة، فقال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» بلا تأويل عدد.. «الصمد» بلا تبعيض بدد..
«لم يلد» فيكون موروثا هالكا «ولم يولد» فيكون إلها مشاركا «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» من خلقه.
وقوله تعالى:
«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» .
كفء الشيء: عديله، ومماثله، قيمة، ووزنا، وقدرا.
فالله سبحانه وتعالى، متعال عن الشبيه، والنظير، والكفء والمثيل.. وهذا ما ينفى عن الله سبحانه وتعالى أن يلد، وأن يولد، لأن التوالد إنما يكون بين الأشباه والنظائر، وإذ قد انتفى عن أن يكون لله سبحانه شبيه أو نظير، فقد انتفى عنه أن يكون والدا، وأن يكون مولودا.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..(16/1715)
(113) سورة الفلق
نزولها: مكية، وفى بعض الأقوال أنها مدنية..
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة.
عدد حروفها: أربعة وسبعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
تقرر فى سورة «الإخلاص» ما ينبغى أن يكون عليه مفهوم المخلوقين للخالق سبحانه وتعالى، من تفرده بالألوهية، وتنزيهه أن يكون والدا أو مولودا، وعن أن تكون له نسبة إلى المخلوقات، إلا نسبة الدلالة على قدرته وحكمته، وعلمه، وأنها جميعها مفتقرة إليه فى وجودها، وفى بقائها، وأنه سبحانه لا مثيل له، ولا شبيه، ولا كفء ولا ندّ..
هذا ما أمر الله سبحانه النبي أن يؤمن به أولا، ثم أن يؤذن به فى الناس..
ثم جاءت بعد هذا سورتا المعوذتين، «الفلق» و «الناس» تقرران هذه الحقيقة، وتؤكدانها فى مجال التطبيق العملي لآثارها، وذلك بدعوة النبىّ والناس جميعا أن يعوذوا بربهم، وأن يستظلوا بحمى ربوبيته من كل ما يسوءهم، أو ما يتوقع أن يعرض له بسوء، فذلك هو الإيمان بالله سبحانه، والإقرار بسلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي تتجه الوجوه كلها إليه فى السراء والضراء.. فهو سبحانه القادر على كل شىء، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد كل شىء.. أما المخلوقون فهم جميعا على سواء فى الحاجة إلى الله، وفى الافتقار إليه، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ(16/1716)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»
«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
وقد صدّرت سورة الإخلاص، والمعوذتين بعدها، بقوله تعالى: «قل» وهذا الأمر بالقول داخل فى مقول القول الذي يقوله النبي، ويقوله كل من يتأسّون به، فمطلوب من النبي، ومن المؤمنين أن يقولوا: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ..
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» .. فهذا الأمر بالقول، هو قرآن متعبد به، وهو يعنى أن القرآن كلمات الله، وأنه لا تبديل لكلمات الله، وأن هذه الكلمات قد انطبعت فى قلب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه، دون تبديل فيها.. فإذا قيل له- صلوات الله وسلامه عليه: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي» .. قال: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي» ..
وإذا قيل له «قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» قال: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» وإذا قيل له: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» ؟
قال: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ..» وهكذا.
وقد عرضنا هذا الموضوع فى مبحث خاص، عند تفسير سورة «الجن» .
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 5) [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)(16/1717)
التفسير:
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ... ) .
الفلق: جميع الخلق، لأن كل مخلوق يتولد من غيره، وينفلق عنه، كما تنفلق الحبّة عن الشجرة، والكمّ عن الزّهرة، والزّهرة عن الثمرة، والرّحم عن الجنين.. وهكذا مما نعلم من المخلوقات.. ومنه قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» وقوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ» لأن الإصباح يخرج من أحشاء الظلام، كما يخرج الجنين من رحم الأمّ.
والاستعاذة: التعوذ، واللّجأ إلى من يستعاذ به طلبا للحماية، ودفعا للسوء، والمكروه.
والغاسق: اللّيل وظلامه المائج فيه.. والغسق ظلمة الليل..
وأصل الغسق، السّيلان، والتدفق، يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها وتدفق، ومنه «الغسّاق» وهو صديد أهل النار.
والوقوب، والوقب: الدخول، ومنه النّقرة، لأنه يدخل فيها غيرها من الأشياء، والغاسق إذا وقب، أي الليل إذا هجم، ودخل على النهار فأجلاه عن مكانه.
والنفاثات: من النّفث، وهو النّفخ بالفم فى الشيء.. وهو جمع نفّاثة مبالغة فى النّفث، أي كثير النّفث، مثل علّامة، وفهّامة.. ويجوز أن يكون جمع مؤنث..
والعقد: جمع عقدة، وهى ما يعقد بها على الشيء، لربطه، وإحكامه، ومنه اليمين المنعقدة، وهى التي تقع عن نية وقصد، ومنه عقد البيع الذي يتم بين المتبايعين، وعقدة النكاح التي تتمّ بين الزوجين.
وقوله تعالى:
«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» .(16/1718)
الخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، ولكل متابع له، مستجيب لدعوته..
أي اجعل- أيها النبىّ- عيادك، ولجأك متعلّقا بربّ المخلوقات، مقصورا عليه وحده.
والعياذ، إنما يكون من الشرور، والمكاره، التي يلقاها الإنسان على طريق حياته، وهى تتوارد على الإنسان من المخلوقات، سواء أكانت من عالم الأحياء أو غير الأحياء،، وسواء أكانت منظورة، معلومة، أو خفية مجهولة.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» .
فهذا هو المستعاذ بالله من شرّه، وهو المخلوقات على إطلاقها.
والمخلوقات كلها لله سبحانه، وهى من صنعة يده، وهو وحده سبحانه القادر على دفع شرّها، وردّ بأسها، سواء أكانت من قوى الطبيعة، أو من الحيوان أو الإنسان..
وليست المخلوقات شرّا. وإنما هى خير فى ذاتها، وفى نظام الوجود العام، الذي يأخذ فيه كل مخلوق مكانه من بنائه، ولو أخلى مكانه لاختلّ نظام الوجود واضطربت مسيرته.
ومن جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات، فإنه ليس كل المخلوقات شرّا، بل إن معظمها هو خير، يعيش فيه، وبنعم به، وحتى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرّا خالصا، ليس بالشرّ الخالص، وأنه لو أنعم النظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشر.. فالمخلوقات خيرها كثير، وشرها بالإضافة إلى الإنسان فى ذاته، قليل.
فالمستعاذ منه هو هذا الشر القليل إلى جانب الخير الكثير، والمراد(16/1719)
بالاستعاذة من هذا الشر، هو أن يلقى الإنسان المخلوقات فى خيرها الخالص، دون شرها، الذي يستعيذ بالله منه.
وقد يكون للإنسان، أو الحيوان حيلة فى دفع بعض الشرّ، فليحتل حيلته، وليبذل وسعه، ولكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو الله سبحانه، كما أن معاذه بالله، لا يحمله على تعطيل ملكانه وقواه، فنلك وسائل أودعها الخالق جلّ وعلا فيه، وهى داخلة فى الاستعاذة بالله، واللّجأ إليه.. فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور، ومكاره، هى أسلحة من عند الله سلّحه بها، فلا يعظلها، وليذكر فضل المنعم بها عليه، فإنها عند المؤمن استعاذة بالله.
وليس الشرّ المستعاذ بالله منه، هو شرّ فى ذاته، لأن الله سبحانه ما خلق شرّا، وإنما هو شرّ إضافىّ، أو نسبىّ، وذلك بالإضافة إلى من وقع عليه، والذي يعدّه شرّا بالنسبة له هو، ولكنه فى النظام العام للوجود، هو خير مطلق، كما قلنا.
وأما الشر المستعاذ به، فهو شر يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض، أشبه بالشرر المتطاير من احتكاك الزناد بالصّوان، بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجددة فى الحياة! فالإنسان فى ذاته يشعر بآلام المرض، والجوع، ويجد لذعة الحرمان والفقر، ومرارة فقد الأحباب والأعزاء، وخيبة الآمال، وضياع الفرص- إلى غير ذلك مما يساء به الإنسان، ويألم منه، ويعده شرا مقيسا بمقياس ذاته. مضبوطا على تلقيات مشاعره له، وإحساسه به.. وهذا كله غير منكور، ومن حقّ الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربه، وأن يستعيذ به، وأن يطلب منه اللطف والعافية..(16/1720)
والمستعيذ بالله اللّاجئ إلى حماه، عن إيمان وثيق، وعن معرفة تامة، بما لله سبحانه وتعالى، من علم، وحكمة، وقدرة، وسلطان- يجد نفسه دائما فى هذا الحمى العزيز الذي لا ينال، وتحت ظل هذا السلطان القوى الذي لا يغلب، وأن هذه الشرور التي استعاذ بربه منها، قد انصرفت عنه جملة، أو خفّت وطأتها، وذلك حين يعيد النظر فى هذه الشرور على ضوء هذه المشاعر الجديدة التي لقى بها ربه، وفوض إليه فهيا أمره- فيرى كثيرا من هذه الشرور أوهاما وتخيلات، كما يرى كثير منها أقرب إلى الخير منها إلى الشر، ثم ما كان منها شرّا خالصا- فى تقديره- يصبح فى ظل التفويض لله، والتسليم لحكمه، مستساغ الطعم، خفيف الحمل، لما يرى من حسن المثوبة عند الله، على ما أصابه، وصبر عليه، محتسبا عند الله أجره «1» ..
قوله تعالى:
«وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» .
فى لآية السابقة كانت الاستعاذة بالله، استعاذة عامة من جميع الشرور التي ترد على الإنسان من المخلوقات كلها..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» - وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة، استعاذة من شرور بعض المخلوقات، البادي شرها..
فالليل حين يهجم على الكائنات، ويحتوى الإنسان، يثير فيه كثيرا من المخاوف، التي تطل عليه من وراء هذا العالم المجهول، المحجب بهذا الستار
__________
(1) وقد عرضنا لهذا الموضوع فى مبحث خاص من كتابنا: «قضية الألوهية» - لجزء الثاني، وفيه تفصيل لهذا الإجمال.(16/1721)
الكثيف من الظلام.. من عدوّ متربص، أو حيوان مفترس، أو حشرة سامة، ونحو هذا..
وفى الليل، وفى وحشة الظلام، والسكون، والوحدة- تطرق الإنسان همومه ووساوسه، وتتوارد عليه آلامه وأشجانه، فيبيت مؤرقا يئن تحت وطأة هذه الهموم، وتلك الوساوس.. ومن هنا كثرت مناجاة الناس لليل، وشكايتهم له، وبثهم إياه ما توارد عليهم فيه من هموم، وما طرقهم من غائبات الذكريات الموجعة..
يقول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى
ويقول النابغة الذبياني:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب
فالليل، هو الليل، بوحشته، وتوارد الهموم على صدور الناس فيه، ولن يتغير هذا الوجه من الليل، ولن يتحول إلى نهار بما أطلع الإنسان فيه من شموس وأقمار، من مولدات الكهرباء.. إن لظلامه سلطانا، يتسلل من هذه الثياب المصطنعة من النور، إلى داخل الإنسان، فيجتم على صدره، وينسكب فى مشاعره.
وقوله تعالى:
«وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» ..
النفث فى العقد: هو السعى بين الناس بالوشاية والنميمة، فتنحل بذلك عقد الإخاء، والمودة بينهم..
وأصل النفث فى الشيء النفخ فيه.. ومنه يقال للحية نفثت سمومها أي(16/1722)
ألقت بها من فمها فى جسد الضحية التي وقعت لها..
وهذه استعاذة بالله من شر جزئى، من شرور المخلوقات، وهو الشر الذي الذي ينجم من مثيرى الفتن والفلاقل، ومن مهيجى النفوس وإيقاد نار العداوة بين الناس، فتنحلّ بذلك روابط الإخاء بينهم، وتنفك عقد التواصل والتراحم بين المتواصلين والمتراحمين.. وإن أكثر ما يقع بين الناس من شر، وما يقوم بينهم من صراع، هو من حصاد هؤلاء النفاثين فى العقد، من الرجال والنفاثات فيها من النساء، ابتغاء الفتنة، وتمزيق الوحدة، وتشتيت الشمل..
وإذ كانت الكلمة هنا هى الأداة العاملة فى هذا المجال، فى إيغار الصدور، وإثارة النفوس، وبلبلة المشاعر، وتعكير صفو العواطف، بالحديث الكاذب والقلة المفتراة، والشائعة المضللة- فقد نصح الله سبحانه وتعالى لنا، بالاستفادة من شر تلك الأفواه الآثمة التي تنفث سمومها فى العقد الموثّقة بيننا وبين أهلنا، وأصدقائنا، أبناء مجتمعنا الذي نعيش فيه..
والنصيحة هنا ذات شقين: أن نأخذ حذرنا من هؤلاء الساعين بالنميمة، المتنقلين بين الناس بالفتنة، فنحذرهم كما نحذر الحيات والأفاعى، ونعوذ بالله من شرهم، ونستعين به سبحانه على ردّ كيدهم، ودفع أذاهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (6: الحجرات) .. ومن جهة أخرى، نحذر من أنفسنا أن توردنا هذا المورد، وأن تدفع بنا إلى هذا الطريق الذي يلبسنا ثوب الشر الذي يستعاذ بالله منه..
وفى الاستعاذة بالله من النفاثات، استعاذة ضمنية أيضا من النفاثين، إذ(16/1723)
كانت النساء فى هذا المجال أكثر من الرجال عددا، وأثرا، وإذ كان غالبا وراء كل رجل يثير فتنة، امرأة تغريه بها، وتدفع به إليها، وحسبنا أن نذكر هنا امرأة أبى لهب حمالة الحطب، والعهد بها قريب..
وقيل النفاثات: النفوس الخبيثة، والأرواح الفاسدة. سواء تعلقت بالرجال أو بالنساء..
هذا، وفى هذا التعبير عن إفساد ما بين الناس من روابط، بكلمة «النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» - إعجاز من إعجاز النظم القرآنى..
والذي يتأمل هذا اللفظ المعجز يجد:
أولا: أن كلمة النّفث تشير إلى هذا الشبه بين فم هذا الذي يسعى بين الناس بالكلمة الآثمة الفاجرة، وبين الحية التي تنفث سمومها فتصيب بها من الناس مقتلا..
وثانيا: أن هذا النفث المنطلق من فم هذا الإنسان، يصدر عن صدر ملىء بالعداوة والبغضاء للناس جميعا.. أشبه بتلك العداوة المتوارثة بين الحية والناس.
وثالثا: أن كلمة «العقد» وهى الروابط القائمة بين الناس، هى حياة لهم أشبه بتلك الحياة السارية فى أبدانهم، وأن حلها يفسد هذه الحياة، كما يفسد حياتهم نفث الأفاعى فيهم..
ورابعا: ان النفث فى العقد المادية، من حبال ونحوها، من شأنه أن يلين من صلابتها، وأن يعين على حلها، وكذلك الشأن فى العقد المعنوية، من روابط الأخوة والمودة بين الناس، فإن النفث فيها بالنميمة موهن لها، وممهد لحلّها..(16/1724)
وقوله تعالى:
«وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» والحسد، فى الأعمّ الأغلب هو الدافع إلى كل عداوة، الموقد لكل فتنة، المغرى بالكذب والافتراء على الناس، لحلّ عقد الوئام والوفاق بينهم، ولنزع هذه البسمة التي تعلو الشفاه بين المتحابّين، ولإطفاء إشراقة البشاشة والرضا التي تفيض من وجوه أهل النعمة والرضا..
فالحسد- وهو ما يجده الحاسد فى قلبه ضيق وحسرة، حين يرى فى يد أحد خيرا ليس فى يده، ثم لا يهدأ له بال، ولا تستريح له نفس، حتى يغرب وجه هذا الخير- هو داء يغتال كل معانى الإنسانية فى الإنسان، فيصبح عداوة متحركة فى الناس، ترميهم برجوم من العداوة والبغضاء، وتنفث فيهم سموم الحقد والضغينة، حتى يميت أو يموت.
كالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله..
والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرى أهل الكتاب- وخاصة اليهود- بهذا الموقف الضال الآثم، من رسالة رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وكتمانهم الحق عن علم بأنه رسول الله، وأنه الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71: آل عمران) ويقول سبحانه وتعالى عنهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (146: البقرة) ويقول جل شأنه فيهم أيضا: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ(16/1725)
إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ»
(109: البقرة) .
وفى نار الحسد التي تأججت فى صدور اليهود، ذابت كلّ معالم الحق الذي كان معهم من أمر النبي، فكفروا به، واتخذوا طريق الضلال مركبا إلى عذاب الجحيم..
والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرق مشركى قريش فى الضلال، وأغراهم بهذا الموقف اللئيم الآئم الذي وقفوه من النبي، حتى كان عمه أبو لهب هو وامرأته من أشدّ الناس حسدا له، وتصديا لدعوته، وتشنيعا عليه، وكان من مقولات المشركين ما ذكره الله عنهم من قولهم: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا» ؟
(25: القمر) .. «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31:
الزخرف) «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (24: القمر) وقوله تعالى: «إِذا حَسَدَ» - هو قيد للاستعاذة بالله من الشر الذي ينقدح من صدر الحاسد، فتشتعل ناره، وتعلق بمن حسده..
أما الحسد الساكن، الذي لم ينضبح بعد، ولم يتحرك من صدر صاحبه، ولم يبلغ من القوة بحيث يأخذ صورة عملية، أبعد من دائرة الخواطر والمشاعر- أما هذا الحسد، فهو طبيعة غالبة فى الناس، قلّ أن يسلم منه قلب، أو تخلو منه نفس.. فما أكثر ما يمد الإنسان بصره إلى ما عند الناس، مما ليس فى يده، من مال، أو علم، أو صحة، أو شباب، أو جمال، أو بنين، أو نحو هذا، مما ترغب فيه النفوس، وتتداعى عليه الآمال، وما أكثر ما تتولد مشاعر الحسد من المحروم إلى حيث مواطن هذه المحبّبات إلى النفوس، ثم يجد من دينه، أو عقله، أو مروءته ما يردّه عن موقف الحسد، ثم لا تلبث هذه المشاعر أن(16/1726)
تزول وتختفى.. فهذا الحسد الذي لا يجد من صاحبه قلبا مفتوحا له، أو نفسا راضية عنه، هو حسد قد تولى صاحبه دفعه عن الناس، وأطفأ ناره قبل أن تمتد إلى أحد، ومن هنا لم يكن وراءه شر يستعاذ به منه..
هذا، وقد تكرر لفظ «شر» أربع مرات، مضافا فى كل مرة إلى جهة خاصة غير الجهات الثلاث، وذلك لأن الشر الناجم من كل جهة منها مختلف عن غيرها..
[النبي.. وحديث السحر] هذا ما يفهم من منطوق آيات الله فى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» .. وهو فهم يتفق مع سياق السورة، ومع سورة الإخلاص التي سبقتها، وسورة الناس التي جاءت بعدها، والتي كان من ثلاثتها خاتمة كتاب الله على ترتيبه فى المصحف، الذي رتبت سورة بتوقيف من الله تعالى، على ما وقع فى يقيننا.
ولكن بعض المفسرين قد ذهب فى فهم هاتين الآيتين فهما آخر، إذ زعم أن سورتى الفلق، والناس نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسترقى بهما من السحر الذي أصابه، والذي كان قد صنعه به رجل يهودى، يدعى لبيد بن الأعصم.. وقد استند هؤلاء المفسرون فى هذا على ما جاء فى صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث، من حديث هذا السحر الذي يقال إنه أصاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
روى البخاري، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه.، عن عائشة- رضى الله عنها- قالت:(16/1727)
«سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجل من بنى زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله.. حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، وهو عندى، دعا الله، ودعاه، ثم قال: يا عائشة.. أشعرت أن الله أفتانى فيما أستفتيه فيه؟
أتانى رجلان، فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب! قال من طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، من بنى زريق! قال فى أي شىء؟ قال فى مشط ومشاطة، وجفّ طلع تخلة ذكر! «1» قال: فأين هو؟ قال فى بئر ذروان! .. فأتاها رسول الله صلى الله عليه فى ناس من أصحابه، فنظر إليها، وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال:
والله لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ رءوس، نخلها الشياطين» قلت يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: لا.. أما أنا فقد عافانى الله وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرا.. فأمر بها- أي البئر- فدفنت» . أي ردمت هذا حديث يرويه البخاري عن السيدة عائشة.
ويروى البخاري، أيضا عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن- وهذا أشدّ ما يكون من السحر، إذا كان كذا- فقال يا عائشة: أعلمت أن الله أفتانى فيما أستفتيه فيه؟ أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى فقال الذي عند رأسى للآخر:
ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟
__________
(1) المطبوب: الذي يطلب له من يطبه، أي يعالجه.. والمشط: ما يمشط به الشعر.. والمشاطة: الشعر الذي يسقط من الرأس عند مشطه.. والجف: الغلاف الذي يحتوى طلع النخلة عند ظهوره (الجراب) .(16/1728)
قال لبيد بن الأعصم، رجل من بنى زريق، حليف ليهود، كان منافقا.
قال: وفيم؟ قال فى مشط ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: فى جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة «1» فى بئر ذى أروان.. قالت: فأنى النبي- صلى الله عليه وسلم- البئر حتى استخرجه، فقال هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأن نحلها رءوس الشياطين..»
وفى حديث ثالث يرويه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله، عنها.. قالت: «سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندى، دعا الله ودعاه، ثم قال: «أشعرت يا عائشة أن الله قد أفنانى فيما أستفتيه فيه؟» قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جاءنى رجلان..
فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه:
ما وجع الرجل؟ قال مطبوب؟ قال: ومن طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بنى زريق! قال: فى ماذا؟ قال: فى مشط ومشاطة وجف لطلعة ذكر. قال فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أروان «2» . قالت: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فى ناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها، وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقّاعة الحنّاء «3» ، ولكأن نخلها رءوس الشياطين.. قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: لا..
أمّا أنا فقد عافانى الله، وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرّا..
وأمر بها فدفنت» .
__________
(1) الراعوفة: الحجر الذي يغطى به البئر.
(2) بئر ذى أروان: عين فى بستان بنى زريق بالمدينة.
(3) نقاعة الحناء: نقيعها، والحناء: صبغ معروف. [.....]
م 109 التفسير القرآنى ج 30(16/1729)
هذا ما رواه البخاري من حديث السّحر، ومثله ما رواه مسلم- والروايات الثلاث للحديث متقاربة اللفظ والمعنى.. وهى تشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع تحت تأثير السّحر من رجل يهودىّ، وأن هذا التأثير قد بلغ به حدّا يخيّل إليه فيه أنه يفعل الشيء وما فعله، وأنه يأتى النساء ولا يأتيهن.
وفى مسند الإمام أحمد عن إبراهيم بن خالد عن معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتى النساء ولا يأتى، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه..
الحديث» وفى تفسير الثعلبي عن ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما، أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبّت «1» إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدّة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولّى ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم، ثم دسّها فى بئر لبنى زريق، يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر، يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوى، ولا يدرى ما عراه، فبينما هو نائم أتاه ملكان، فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذى عند رجليه: ما بال الرجل؟ قال: طبّ، قال:
وما طبّ، قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي! قال: وبم طبّه؟ قال: بمشط ومشاطة.. قال: وأين هو؟ قال: فى جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة فى بئر ذروان.. فانتبه النبىّ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) دبت إليه: أي سعت إليه.(16/1730)
مذعورا، وقال يا عائشة: أما شعرت أن الله أخبرنى بدائى؟ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحنّاء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجفّ، فإذا فيه مشاطة رأسه، وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه اثنتا عشرة عقدة، مغروزة بالإبر، فأنزل الله تعالى السورتين (أي المعوذتين) فجعل كلما قرأ آية انحلّت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفّة حين انحلّت العقدة الأخيرة، فقام كأنما أنشط من عقال، ونام ليس به بأس..»
والذي ينظر فى هذه الأحاديث، وتلك الأخبار يتردّد كثيرا فى قبولها، أو الوقوف عندها، إذ كانت تضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموضع الذي يجور على كماله، وينتقص من عصمته..
وقد كان ذلك مثار بحث وخلاف بين العلماء، فردّ كثير منهم هذه الأحاديث وأبى أن يقبلها، جاعلا عصمة النبىّ فوق كل اعتبار، رافعا مقام النبوّة فوق كلّ مقام.. على حين نجد كثيرا من العلماء، قد انبرى للدفاع عن كتب السنة الصحاح، وما ورد فيها من أحاديث، محاولا سدّ باب الطعن فيها، بتخريج مثل هذه الأحاديث على وجه يمكن قبولها عليه، ولو ركب فى هذا مركب التعسّف فى التأويل والتخريج.. والانتصار للسنّة، ولكتب الصحاح الحاملة لها، أمر يحرص عليه كلّ مسلم، ويلتقى عنده المسلمون جميعا بلا خلاف.. ولكن حين يكون الموقف كهذا الذي نحن بين يديه، تختلف وجهات النظر، ويكون فى المسلمين من يؤثر الجمع بين قبول الحديث وبين الجهة التي يتعلق بها هذا الحديث، محاولا تعليل ذلك وتبريره، على حين يكون فى المسلمين من يؤثر مقام النبوّة وتنزيهها عن عوارض النقص، على كل خبر يساق، أو حديث يروى..(16/1731)
وممن ردّ حديث السّحر، والأخبار المتصلة، به من المفسّرين، الإمام الطبرسي، فنراه يقول تعقيبا على هذا الحديث المروىّ عن السيدة عائشة- رضى الله عنها-: «وهذا لا يجوز، لأن من وصف بأنه مسحور، فكأنه قد خبل عقله، وقد أبى الله سبحانه وتعالى ذلك فى قوله تعالى: «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» (47- 48: الإسراء) .
«ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن «اليهودىّ» أو بناته، قد اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان ذلك دلالة على صدقه..
«ثم كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه- أي النبىّ- وقتلوا كثيرا من المؤمنين» ؟.
وهذا الذي يتلمّسه الإمام الطبرسي لقبول الخبر بقوله: «ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن اليهودىّ أو بناته اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيّه على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان بذلك دلالة على صدقه..» .. نقول هذا القول لا تقوم منه حجة على صحة الحديث وقبوله، وذلك:
أولا: أن الخبر المروي يقول: إن لبيد بن الأعصم هو الذي سحر النبي صل الله عليه وسلم، ولم يجر لبناته ذكر فى الحديث على تعدد الروايات التي روى بها..
والخبر وحدة واحدة، فإما أن يقبل كله، أو يردّ كله..
وثانيا: إذا كان ما فعله لبيد هذا، هو من قبيل التمويه.. فما الحكمة فى أن(16/1732)
يطلع الله نبيه عليه؟ ولم يحرص النبي على استخراجه من البئر إذا لم يكن له أثر؟
وأي دلالة على صدق النبي فى استخراج شىء لا أثر له فى واقع الحياة؟
ويقول الإمام محمد عبده، تعقيبا على حديث السحر:
«وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب لها:
«إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة- يقصدون نفس النبي- قد صحّ، فيلزم الاعتقاد به.. وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من ضروب السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر» !.
ويعلق الإمام محمد عبده على هذه المقولة بقوله:
«فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح فى نظر المقلد- بدعة؟ نعوذ بالله! «يحتج بالقرآن على ثبوت السحر «1» ، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه صلى الله عليه وسلم، وعدّه من افتراء المشركين «2» عليه ويؤول القرآن فى هذا، ولا يؤول فى تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه- عليه السلام- وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد بن الأعصم.. فإنه- أي السحر الذي سحره بن الأعصم- قد خالط عقله (أي عقل النبي) وإدراكه فى زعمهم..
__________
(1) أي بما جاء فى سورة البقرة، عن الملكين اللذين يعلمان الناس السحر.
(2) وهو ما رد الله به على المشركين قولهم: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» فرماهم الله سبحانه بقوله: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» .(16/1733)
ثم يقول الإمام محمد عبده:
«والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه.
«وقد جاء- أي القرآن- بنفي السحر عنه، عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له، إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا.. فإذن ليس هو بمسحور قطعا.
«وأما الحديث- على فرض صحته- فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد.. وعصمة النبي من تأثير السحر فى عقله، عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون..
ثم يقول الإمام..
«على أن الحديث الذي يصل إلينا عن طريق الآحاد، إنما يحصّل الظنّ عند من صحّ عنده.. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة..
ثم يقول الإمام:
«وعلى أي حال، فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكّمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل.. فإنه إذا خولط النبي فى عقله- كما زعموا- جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه.. والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان..»
والإمامان الجليلان- الطبرسي، ومحمد عبده- يقفان هذا الموقف من حديث السحر، وبين يديهما هذه المقولات الكثيرة التي تنتصر لهذا الحديث وتدفع يد المعارضين له، بل وترميهم بالكفر، والإلحاد..(16/1734)
يقول القاضي عياض فى كتابه: «الشفا، بتعريف حقوق المصطفى» فى التعليق على حديث السحر: «اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة، وتندّرت به، لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك فى الشرع، وقد نزه الله الشرع والنبىّ، عما يدخل فى أمره لبسا. وإنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه- أي على النبي- كأنواع الأمراض، مما لا ينكر، ولا يقدح فى نبوته..
«وأما ما ورد من أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة فى شىء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح فى صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما طروّه عليه فى أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل له من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلى عنه كما كان!! ثم يقول القاضي عياض: «فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات، أنه إنما تسلط على ظاهره، وجوارحه، لا على قلبه، واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثّر فى بصره، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه..
ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه أنى أهله ولا يأتيهن» أي يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن، كما يعترى من أخذ وامترض.»
وينقل الآلوسى فى تفسيره روح المعاني عن الإمام المازري قوله تعليقا على هذا الحديث:
«قد أنكر هذا الحديث المبتدعة، من حيث أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع.(16/1735)
«وأجيب، بأن الحديث صحيح، وهو غير مراغم للنص «1» ، ولا يلزم عليه حطّ منصب النبوة والتشكيك فيها، لأن الكفار أرادوا بقولهم «مسحور» أنه مجنون، وحاشاه.. ولو سلّم إرادة ظاهره، فهو من قبيل هذه القصة، أو مرادهم أن السحر أثّر فيه، وأن ما يأتيه من الوحى، من تخيلات السحر، وهو كذب أيضا، لأن الله تعالى، عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها، وهى مما يعرض للبشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له.. وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطىء زوجاته وليس بواطىء.. وقد يخيل لإنسان مثل هذا فى المنام، فلا يبعد تخيله فى اليقظة» .
وهذا- كما ترى- دفاع متهافت، فإن التسلط على البدن والجوارح، من شأنه أن يجوز على التفكير، وأن يفسد الرؤية الصحيحة للأمور، كما حدث ذلك فيما دخل على النبي، وعلى تصوراته، كما يقول الحديث!! وأما ابن قيم الجوزية، فيعلق على حديث السحر بقوله:
«هذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقّى منهم بالقبول..
لا يختلفون فى صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغير هم، وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف فيه بعضهم مصنفا منفردا، حمل فيه على هشام- ابن عروة بن الزبير- راوى الحديث عن السيدة
__________
(1) مراغم أي مخالف، والمراد بالنص: النص القرآنى فى نفى السحر عن الرسول فى رده سبحانه وتعالى على الكافرين قولهم فى الرسول: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً»(16/1736)
عائشة- وكان غاية من أحسن القول فيه (أي فى هشام) ، أن قال: «غلط، واشتبه عليه الأمر» ولم يكن من هذا شىء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسحر، فإنه- أي لو سحر- يكون تصديقا لقول الكفار: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» قالوا- أي الذين يردون هذا الحديث-: وهذا كما قال فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» وكما قال قوم صالح له: «إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» « (153: الشعراء) وكما قال قوم شعيب له: «إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» (185: الشعراء) «قالوا- أي الذين يردّون هذا الحديث: «فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإن ذلك ينافى حماية الله لهم، وعصمتهم من الشياطين» .
ثم يقول ابن القيم:
«وهذا الذي قاله هؤلاء، مردود عند أهل العلم.. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب ردّ حديثه..
«فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة.. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة..؟
ويقول ابن القيم:
«والسحر الذي أصابه (صلوات الله وسلامه عليه) كان مرضا عارضا، شفاه الله منه. ولا نقص فى ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمى عليه صلى الله عليه وسلم فى مرضه، ووقع حين انفكت قدمه،(16/1737)
وجحش شقّه «1» ، وهذا من البلاء، الذي يزيده الله به رفعة فى درجاته، ونيل كرامته.. وأشد الناس بلاء الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به، من القتل والضرب، والشتم، والحبس.. فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلى بالذي رماه فشجّه، وابتلى بالذي ألقى عليه السلام السّلا «2» وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقص عليهم- أي الأنبياء- ولا عار فى ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله ثم يقول:
«وأما قولكم: إن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم.. فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم، ويحفظهم ويتولاهم، فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسّى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ماجرى على الرسل والأنبياء- صبروا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبوا ما أعد لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم الله بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم.. فهذا من بعض حكمته تعالى فى ابتلاء أنبيائه ورسله، بإيذائهم من أقوامهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه» .
وهذا- كما ترى- دفاع متهافت أيضا، فإن ما يبتلى الله سبحانه أنبياءه به من صنوف الابتلاء من أقوامهم، إنما هو فى عناد هؤلاء الأقوام، وفى ضلالهم وتأبيهم على قبول الخير، وهذا ما لا يمسّ الأنبياء شىء منه.. وأما ما عرض للرسول
__________
(1) جحش شقه: أي انخدش جنبه، وذلك فى غزوة أحد، حين أحاط المشركون بالنبي.
(2) السلا: ما يخرج من بطن الناقة ونحوها مع الولد عند ولادته.(16/1738)
من إغماء ونحوه، فقد كان أمرا عارضا لا يتجاوز لحظة من عمر يوم أو ليلة..
أما أن يمتد هذا المعارض ستة أشهر أو سنة، فهذا ما يقطع النبىّ عن رسالته، ويعزله من مقام النبوة.
ويقول ابن حزم فى كتابه المحلّى تعقيبا على حديث السحر:
«فهذا خبر صحيح.. وقد عرّف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من سحره، فلم يقتله» !! ومن عجب أن عالما فقيها مجتهدا، واسع الأفق كابن القيم، وأن عالما كبيرا عرف بنفاذ البصيرة، واحترام العقل كابن حزم- من عجب أن يكون هذا موقف هذين العالمين الجليلين من حديث السحر، يغلب عليهما فيه ما تواردت عليه مقولات العلماء، من قبوله، والاحتجاج إليه.. ولا أدلّ على ذلك من أن ابن القيم يتحدث فى موقف آخر عن السحر، فيقول- فيما ينقله عنه ابن حجر فى شرح هذا الحديث من البخاري- يقول: «قال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة- أي استخراج السحر، وإبطال عمله- مقاومة السحر- الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة- بالأدوية الإلهية، من الذّكر والدعاء، لا يخل به «1» - كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له.. قال (أي ابن القيم) :
«وسلطان تأثير السحر، هو فى القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثّر، فى النساء، والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة، إنما تنشط على أرواح من تلقاه مستعدة لما يناسبها» هذا ما يقرره ابن القيم هنا من تمكن الأرواح الخبيثة، التي يقع من آثارها
__________
(1) أي لا ينقطع عنه.(16/1739)
ما يسعى السحر، حسب رأيه.. وهو يرى أن هذه الأرواح الخبيثة لا سلطان لها إلا على الأرواح النازلة، الضعيفة، كأرواح الصبيان والجهال.. فكيف يقبل- مع هذا- قول، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد سحر؟ وكيف يكون هذا قولا لابن القيم نفسه؟ ينزل هذا بالنبيّ وبمقامه العظيم إلى مستوى الصبيان والجهال؟
ويردّ ابن حجر على ما نقله- ملخصا- من قول ابن القيم، فيقول:
«ويعكّر عليه- أي يؤخذ على قوله هذا- حديث الباب (أي الباب الذي ورد فيه حديث السحر) . وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم- مع عظيم مقامه، وصدق توجهه، وملازمة ورده (أي ذكر الله) ثم يقول ابن حجر: «ولكن يمكن الانفصال عن ذلك- أي الرد على قول ابن القيم- بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم- لبيان تجويز ذلك» ..
هذا هو جانب من موقف المنكرين لهذا الحديث، والمدافعين عنه.
وهناك كثير من العلماء، آثروا العافية، وأعفوا أنفسهم من أن يكونوا طرفا فى هذه القضية، وهؤلاء هم جماعة من أئمة المفسرين، لم يشاؤا أن يعرضوا لحديث السحر، عند تفسير هم لسورة «الفلق» بل نظروا فى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» - نظروا فيه نظرا مجانبا لحديث السحر، فلم يشيروا إلى هذا الحديث من قريب أو بعيد، مع أن هذا هو موضعه الذي يشار إليه فيه.. وهذا يعنى أنهم فى موقف توقّف إزاء هذا الحديث، وأنهم يميلون إلى ردّه، أكثر من ميلهم إلى قبوله.. ومن هؤلاء الأئمة المفسرين الذين وقفوا هذا الموقف من حديث السحر: الزمخشري، والطبري، والقرطبي، والنّسفى..(16/1740)
هناك إذن ثلاثة مواقف للعلماء من هذا الحديث، حديث السحر..
موقف من يردّه، ويأبى التسليم به، تنزيها لمقام النبوة، وتأكيدا لعصمة النبي..
وموقف من ينصر هذا الحديث، ويحاول تخريجه على ما يحفظ للنبوة مقامها، ويبقى على النبي عصمته..
وموقف من تجنب الخوض فى هذه المعركة، مهاجما أو مدافعا، فلم يعرض لهذا الحديث بإشارة من قريب أو من بعيد..
وإنى إذ أسأل نفسى أىّ موقف من هذه المواقف أنحاز إليه، وآخذ مكانى فيه، ما دمت قد أقحمت نفسى فى زمرة العلماء الدارسين لكتاب الله- لأجدنى محمولا حملا لا شعوريا على التوقف فى هذا الحديث، ثم على تركه وعدم الأخذ به.. وذلك لأمور:
أولهما: أنه ليس حديثا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يريد به أمرا من أوامر الدين، أو نهيا من نواهيه، أو يبغى به نصحا أو إرشادا مما يتصل بالشريعة وأحكامها وآدابها..
فهذا الحديث- إن صح- لا يعدو أن يكون خبرا عن حال من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخاصة به، والتي لا يطلع عليها غير خاصة أهله كالسيدة عائشة رضى الله عنها.. فهذا الحديث- إن صح- لم يرد إلا عن السيدة عائشة، وهذا يعنى أن هذا العارض الذي عرض للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن له أي أثر خارج بيت الرسول، وخارج صلته بالسيدة عائشة بالذات، والتي قيل إن رسول الله حبس عنها ستة أشهر، وفى بعض الروايات سنة.. ولو كان هذا العارض الذي عرض للنبىّ ذا أثر فى غير هذه(16/1741)
الدائرة الضيقة المحدودة، لا شهر أمره، ولكان حدثا من الأحداث التي يهتز لها كيان المجتمع الإسلامى كله، بل ولطارت أنباؤه خارج الجزيرة العربية، ولكان حديثا جاريا على ألسنة المسلمين وأعداء المسلمين فى كل مكان، ولعاش فى أجيال الأمة المسلمين زمنا ممتدا، لا ينقطع الحديث عنه..
أما أن يكون حديث آحاد، لا يمسك به إلا آل الزبير عن السيدة عائشة، فهذا ما لا يتسع منطق الحياة لقبوله، إلا أن يكون مما يتصل بالعلاقة الزوجية بين النبي، وبين السيدة عائشة وحدها..، فلا تطلع عليه إلّا هى ومن كان قريبا منها كأبناء أختها صفية، من زوجها الزبير بن العوام.
وثانيها: أن القرآن الكريم يقول للنبى الكريم: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» ..
وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بحفظ النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مما يكيد له به أعداؤه، سواء أكان ذلك فيما يتصل بجسده، أو عقله، أو مشاعره..
فالله سبحانه قد تولى حراسة النبي حراسة مطلقة، بحيث لا يخلص إليه من الناس أذى، أو يصل إليه منهم سوء..
ولهذا قال النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حين تلقى هذه الآية- قال لمن كان يتولى حراسته من أصحابه تطوعا: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله عزّ وجلّ» فهل يعقل بعد هذا، أن يتولى الله سبحانه وتعالى حراسة النبي، وأن يخبره بهذا، ثم لا يدفع عنه هذا الكيد الذي يقال إن لبيد بن الأعصم كاده له، وأصابه به فى أقتل مقاتله، وهو عقله؟ .. وكم امتدت هذه البلوى؟ لقد قيل إنها ستة أشهر، وقيل سنة كاملة!! ..(16/1742)
وماذا يبقى من النبي- بل من أي إنسان- إذا أصيب فى عقله، واختلط فى تفكيره، حتى ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، ويأتى أزواجه وهو لا يأتيهن؟
أما كان من الجائز، بل من الواقع الذي لا يمكن توقيه- أن يحدث النبي- وحاشاه- فى شرع الله حدثا، فيقول- وهو لا يدرى- ما يحسبه المؤمنون المتلقون عنه- أنه قرآن أو سنة، وهو ليس بقرآن ولا سنة، فيأخذون به ويقيمون دينهم عليه؟ أم ترى أن المسلمين- وقد عرفوا ما بالنبي- عزلوه عن النبوة خلال تلك المدة، فلم يسمعوا ما يقول، ولم يقبلوه منه؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ؟
(7: الحشر) أمسلمون بلا نبىّ، والنبي فيهم؟ أم نبى ولا مسلمون، والمسلمون ألوف، وألوف بين يديه..؟
وثالثها: المعروف المؤكد من سيرة الرسول أنه كان إمام المسلمين فى الصلوات الخمس، فى الحضر، وفى السفر- فهل كان النبىّ خلال هذا العارض الذي عرض له- وقد امتدّ أشهرا- هل كان يقيم للمسلمين صلاتهم دون أن يختلط عليه أمر الصلاة، فى أقوالها، وأفعالها؟ وكيف كان يمكن أن يتحقق من أنه جالس، أو قائم، أو راكع، أو ساجد.. وهو فى حال يحيّل إليه فيها أنه يفعل الشيء ولا يفعله؟
لقد كان الرسول صلوات الله عليه حريصا على أن يقيم للمسلمين صلاتهم حتى فى مرض موته، فكان يتحامل على نفسه، ويمضى إلى المسجد- لا تكاد تحمله قدماه- مستندا من جانبيه على صاحبين من صحابته، حتى ثقل عليه المرض فى اليومين الأخيرين من حياته فى هذه الدنيا، فأمر أبا بكر بأن يصلّى بالناس..(16/1743)
وإذن فالمقطوع به، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطعه عارض أبدا عن الصلاة بأصحابه غير عارض مرض الموت فى يوميه الأخيرين.. وإذن فأين، ومتى، كان هذا العارض الذي دخل على النبىّ من السّحر، والذي أدار تفكيره، وقلب موازين الأمور بين يديه؟ وهل كان هذا العارض، ولم يشهد المسلمون أثرا له فى أقوال النبىّ وأفعاله فى الصلاة؟ ولم إذن يأخذ هذا الوصف؟ ولم إذن يكون له فى حياة النبىّ ذكر؟.
فإذا قلنا إن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم يسحر، ولم يمسسه سوء، فى جسده، أو عقله، قام بين أيدينا أكثر من شاهد يصدّق هذا القول ويؤكده..
فأولا: عصمة النبوّة، تلك العصمة التي لا تتحقق إلا بالسلامة المطلقة فى العقل أولا، وفى الجسد ثانيا.
وثانيا: ما وعد الله به نبيّه الكريم فى قوله سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .
وثالثا: الواقع المحسوس الذي قامت عليه حياة الرسول فى أصحابه، وأنه كان يقيم لهم صلاتهم، فى الحضر والسفر، فى السلم والحرب، لم يتخلف عن هذا يوما واحدا، أو فريضة واحدة، إلا فى اليومين الأخيرين من حياته..
هذا ما ينبغى أن يتقرر ويتأكد، وما يجب أن نقيم عليه إيماننا بالله، وبرسول الله..
هذا وقد يلقانا من يقول: كيف تتصدى لخبر ورد فى البخاري، وفى مسلم وفى كتب السنة الصحاح؟ وكيف تشك فيه وتتردد فى قبوله؟ إن ذلك إن سلّم لك به كان معناه إهدار السنة، ووضع مصادرها الموثّقة موضع الاتهام!! ونقول: كلا: إننا نحترم كتب السنة، وننزل أصحابها من نفوسنا منزلة(16/1744)
الإعزاز والإجلال، ونكبر جهادهم المبرور فى جمع السنّة المطهرة وحفظها..
ولكن هذه قضية، ورفع مقام هذه الكتب فوق مقام القرآن الكريم، وإنزاله على حكمها، مما يخالف صريح محكم آياته- قضية أخرى..
ولقد صحّ منا العزم، ونحن نكتب هذه السطور الأخيرة من تفسير كتاب الله، أن نلتقى بكتب السنّة فى دراسة، نرجو أن يوفقنا الله فيها، وأن يعيننا عليها، وأن يسدد خطانا على طريق الحق إلى سنة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، التي هى وحي من عند الله، وبيان شارح لكتاب الله.. «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ..»
(114) سورة الناس
نزولها: مدنية، وقيل مكية.. نزلت بعد سورة الفلق..
عدد آياتها: ست آيات..
عدد كلماتها: عشرون كلمة.
عدد حروفها: تسعة وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
هى امتداد لسورة «الفلق» قبلها، ومتممة لما يستعاذ بالله منه..
و «المعوذتان» أشبه بسورة واحدة، ولهذا فقد جمعهما اسم واحد:
«المعوذتان» .
(م 110 التفسير القرآنى- ج 30(16/1745)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
التفسير:
كان العياذ فى سورة «الفلق» بربّ «الفلق» ، أي رب المخلوقات جميعها..
وهنا فى سورة الناس، يأتى الأمر بالاستعاذة، بربّ الناس، من الناس، وهم بعض ما خلق الله سبحانه وتعالى.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى فى هذه السورة، بثلاث صفات: أنه سبحانه «رب الناس» أي مربيهم، والقائم عليهم بعد خلقهم.. وأنه جلّ شأنه: «مَلِكِ النَّاسِ» أي مالك أمرهم، وباسط سلطانه عليهم، وأنه سبحانه «إِلهِ النَّاسِ» أي سيدهم، وهم عبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، بماله من سلطان عليهم..
وقد يقال: إن صفة الألوهية يقوم لها السلطان المطلق على المألوهين من غير داعية إلى ربوبية، أو ملك.. فما داعية ذكر الربوبية والملك هنا؟
والجواب- والله أعلم- أن ذكر الربوبية بيان لفضل الله وإحسانه على عباده، وأنه لم يملكهم إلا وقد خلع عليهم خلع الربوبية، فرباهم، ونشّأهم،(16/1746)
وأمدّهم بكل ما هم فى حاجة إليه.. فملكهم بإحسانه وفضله، قبل أن يملكهم بجبروته وقهره.. وفى ذكر الملك، إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يربّى ما يملك، ويتصرف فيما هو له..
فإذا قامت الألوهية على الناس بعد هذا بسلطانها، لم يكن هذا السلطان سلطان قهر وجبريّة، وإنما هو سلطان فضل وإحسان، سلطان المالك فيما ملك.
وقد جاءت هذه الصفات الثلاث لله سبحانه على هذا الترتيب: الربوبية فالملك، فالألوهية، لتكشف عما لله سبحانه فى الناس من سلطان متمكن، قائم على العدل والإحسان.. فهو سبحانه المربّى والمنشئ لهم.. وقد يربّى المربّى، وينشّىء المنشئ ولا يملك ما ربّاه ونشّأه.. ولكن الله سبحانه، هو المربى، وهو المالك لما يربى.. ثم إنه قد يربى المربى، ويملك ما يرّبيه، ولكن لا يقوم له سلطان متمكن على ما يربيه ويملكه، فقد يخرج عن يده لسبب أو لآخر.. ولكن الله سبحانه هو المربى والمالك لما يربى، والإله القائم بسلطانه المطلق على ما ربّى وما ملك! وفى تخصيص الناس بالاستعاذة منهم، وفى جعل هذا فى سورة خاصة بهم تسمى سورة «الناس» - فى هذا إشارة إلى أن الناس، من بين المخلوقات التي يعرفونها، هم الذين يفعلون الشر، بما ركب فيهم من إرادة عاملة، قادرة على أن تتجه نحو الخير، أو الشر..
فكل مخلوق- فيما يرى الإنسان ويعلم- قائم على فطرة، لا يتحول عنها، ولا يأخذ طريقا غير طريقها الذي أقامها الله سبحانه وتعالى عليه.
ومن هنا، ترى جميع المخلوقات، التي تعايشنا على هذه الأرض تحكمها طبيعة واحدة، فى كل جنس من أجناسها، أو نوع من أنواعها(16/1747)
فأفراد الجنس الواحد، أو النوع الواحد، كلها على طريق سواء، فى حياتها، لا يختلف فرد عن فرد، ولا تشذّ جماعة عن جماعة، فى أي مكان وأي زمان..
فالنملة الواحدة، هى النمل جميعه، والنحلة الواحدة، هى النحل كله، والغراب الواحد، هو الغربان جميعها، والذئب الواحد، هو الذئاب كلها..
وهكذا، كل فرد فى جنسه، يحمل تاريخ الجنس كله، لا تحتاج فى التعرف على هذا الجنس إلى أكثر من التعرف على فرد منه.. فى أي مكان وفى أي زمان.
ومن هنا كان من الممكن رصد الشرور الناجمة من بعض الحيوان، والعمل على توقّيها، وأخذ الحذر منها.. فإنه إذا عرف الشرّ أمكن توقّيه، وسدّ المنافذ التي ينفذ منها..
وليس كذلك الإنسان.. فكل إنسان عالم وحده، له وجوده الذاتي، وله عقله، وإدراكه، وتصوراته، ومنازعه، وخيره، وشرّه.. وهيهات أن يلتقى إنسان مع إنسان لقاء مطابقا فى جميع الوجوه، ظاهرا وباطنا..
ولهذا فإنه لا يمكن رصد شرور الناس، بل إنه لا يمكن رصد شرّ إنسان واحد، ولا رسم الحدود التي يقف عندها.. ومن هنا كانت الاستعاذة من الناس، على هذا الوجه الخاص، لأن الشرور التي تقع منهم، بل من أىّ واحد منهم، كثيرة لا تحصى، متعددة متنوعة، لا تحصر.. ولعل هذا هو بعض السر فى تكرار لفظ «الناس» ثلاث مرات فى مطلع السورة، فهم ليسوا ناسا وحسب، بل هم ناس، وناس، وناس.. إنهم فى مجموعهم، أخيار، وأشرار، وخليط من أخيار وأشرار.. وهم فى أفرادهم: خير، وشر، وخليط من الخير والشر..
فالإنسان يحسن، ويسىء، ويقف موقفا بين الإساءة والإحسان.(16/1748)
قوله تعالى:
«مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» هو بيان للمستعاذ منه، برب الناس، ملك الناس، إله الناس..
والوسواس الخناس: هو ما يطرق الإنسان من وساوس وظنون، مما تسوّل له به نفسه، من منكرات، وما يزين له به إخوان السوء، وما يغريه به أهل الضلال من مفاسد، وآثام..
وتسمية هذه الطوارق المنكرة، وتلك الواردات المضلّة، بالوسواس، لأنها تدخل على الإنسان فى مسارّة ومخافتة، وتلقاه من وراء عقله، وفى غفلة من ضميره.. إنها توسوس له، وتهمس فى صدره، دون أن يحضرها عقله، أو تشهدها حواسه..
وهذا واضح إذا كان هذا الوسواس من ذات الإنسان نفسه، ومن نزغات شيطانه.
أما إذا كان هذا الوسواس من شيطان من شياطين الإنس، فإن الوسوسة تكون بينه وبين من يوسوس له، بمعزل عن أعين الناس، وعن أسماعهم، حتى لا يروا ولا يسمعوا هذا السوء الذي يوسوس به، ولا هذا المنكر الذي يدعو إليه..
وهكذا المنكرات والآثام، لا يدعى إليها علانية، كما لا يأتيها مقترفوها علانية.. إنها لا تتمشّى إلا فى الظلام، ولا يلتقى بها أصحابها المتعاملون بها- من داعين بها ومدعوين إليها- إلا فى تلصص ومسارقة..(16/1749)
وفى وصف الوسواس «بالخناس» إشارة إلى أنه يخنس، أي يغيب شخصه ويتلاشى وجوده، وهو يؤدى مهمته بما يوسوس به، فلا يرى المستمع له ظلا لشخصه، ولا يحسّ وجودا لذاته، وإنما الذي يتمثل له فى تلك الحال هو شخوص ما يوسوس له به، ووجوه ما يدعو إليه.. فالموسوس- لكى يؤدى دوره على أتمّ وجه- ينبغى أن يغيب شخصه، وأن يختفى وجوده، حتى يخلى المكان لما يوسوس به، فلا يشغل الموسوس إليه بشىء عنه، ولا يتمشى فى صدره شىء غير تلك الوسوسة..
وفى قوله تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» وفى جعل الوسوسة فى الصدور، مع أنها تكون فى الآذان- إشارة إلى أن هذه الوسوسة إنما تتدسس إلى الصدور، دون أن تشعر بها الآذان، وأنها لا تحدث أثرها السيّء إلا إذا أخذت مكانها من الصدور، أي القلوب، ووقعت منها موقعا.. على خلاف الآذان، فإن كثيرا من وساوس السوء تطرقها، ثم لا تجد لها من أصحابها أذنا صاغية، فتسقط ميتة، وتدرج فى أكفان الريح! وقوله تعالى: «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» «من» هنا بيانية، تكشف عن وجه الوسواس الخناس، وهو أنه إما أن يكون إنسانا، أو شيطانا.. من عالم الإنس، أو عالم الجن..
والوسواس الخناس- كما قلنا- كائن لا يكاد يرى شخصه، حين يوسوس، حيث يتدسس إلى من يوسوس إليه خفية، ويدخل عليه من حيث لا يشعر..
ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الوسواس من عالم الإنس، والوسواس من عالم الجن.. فالإنسان الذي يوسوس للناس بالسوء، ويغريهم به.
هو شيطان، فى خفاء شخصه، وفى عداوته للإنسان، وفيما يحمل إليه(16/1750)
من شر، وإن على الإنسان أن يحذر هذا الوسواس من الناس كما يحذر الشيطان..
وعبّر عن الشيطان هنا بلفظ الجن، للدلالة على خفائه، وعدم إمكان وقوع العين عليه، وإن كان له لمة يعرفها المؤمن، ونخسة يشعر بها، ويعلم أنها من وارداته..
وعالم الجن، أو الشيطان، وإن يكن غير منظور لنا، فإن علينا الإيمان به، وأنه يعيش معنا على هذه الأرض، ويرانا من حيث لا تراه، كما يقول تعالى عن الشيطان: «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» (27: الأعراف) وهذا العالم غير المرئي، هو عدوّ لنا، متربص بنا، أشبه بجراثيم الأمراض التي لا ترى بالعين المجردة، وإن كان يمكن رؤيتها بأجهزة خاصة، كما يمكن أن يرى الشيطان لكثير من المؤمنين بعين البصيرة لا الإبصار، فلنحذر هذا العدو الراصد، كما نحذر الوباء، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» (6: فاطر) وإنه ليس علينا أن نبحث عن كنه الشيطان، ولا عن حياته الخاصة فى عالمه، ولا عن طعامه، شرابه، ونزاوجه، وتوالده.. وإنما الذي علينا أن نعلمه، هو أنه عدوّ غير مرئىّ لنا، وأنه يتدسس إلى مشاعرنا، ومدركاتنا، وعواطفنا، ويحاول جاهدا أن يؤثر فيها، وأن يخرج بها عن جادّة الحق والخير، إلى طريق الغواية والضلال، فيزين لنا الشر، فنراه خيرا، والضلال، فتراه هدى! والشيطان، ليس هو النفس الأمارة بالسوء، كما يرى ذلك بعض الناس، وإنما هو كائن له وجوده المستقل خارج العالم الإنسانى، وله حياته الخاصة، شأنه فى هذا شأن الكائنات والعوالم غير المرئية التي تعيش معنا، كالجراثيم، والهواء، بل والإنسان الذي يلبس ثوب الوسواس.. فإنه شيطان غير مرئى.(16/1751)
وهو- أي الشيطان- مخاطب خطابا مستقلا من الله سبحانه وتعالى، كما هو شأن الإنسان، وهو محاسب، ومجازى على ما يعمل، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» (64- 65 الإسراء) ويقول سبحانه: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» 112:
الأنعام) .. ويقول جل شأنه: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» (6: الجن) .. وقد سخر الله بعض الجن لسليمان- عليه السلام- كما سخر له الريح.. فقال تعالى: «وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» (82 الأنبياء) وقال سبحانه: «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» (13: سبأ) .
فالشيطان أو الجن، عالم غير منظور، يقابل عالم الإنسان المنظور، وبين العالمين احتكاك أشبه بالاحتكاك الذي يقع بين الإنسان والإنسان، وفى احتكاك الإنسان بالإنسان يتولد خير وشر.. أما احتكاك الشيطان بالإنسان، فلا يتولد منه إلا شر محض.. كما يتولد الشر من احتكاك الإنسان بالإنسان فى مجال العداوة والبغضاء.. وليس بين الشيطان والإنسان إلا عداوة دائمة متصلة، وليس يرد على الإنسان من الشيطان إلا السوء الخالص، والشر الصريح، كما يقول سبحانه.. «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» . (6: فاطر) فاللهم احفظنا من وساوس النفس وأهوائها، ومن كيد الشيطان وزغانه، واجعل لنا من لدنك وليّا، واجعل لنا من لدنك نصيرا، حتى نستقيم على(16/1752)
طريقك القويم، ونبلغ بعونك وتوفيقك ما يرضيك عنّا، ويدخلنا فى عبادك الصالحين فى الدنيا والآخرة.. «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. «رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» وصلّ اللهم وسلم على محمد، نبيك ورسولك، الرحمة المهداة، والنور المبين، الذي اهتدينا به، وبما تلاه علينا من كتابك الكريم، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، فاتحة بدء، وحسن ختام.
هذا، وكان غاية هذه الرحلة المباركة فى رياض كتاب الله، وفى صحبته، تلك الصحبة المسعدة المتصلة مع آياته، آية آية، ومع كلماته، كلمة كلمة، حتى استوفت القرآن الكريم كله- كان ذلك صباح يوم الخميس المبارك، لتسعة عشر يوما خلت من جمادى الأولى سنة تسعين وثلاثمائة وألف، من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموافق لليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة ألف وتسعمائة وسبعين ميلادية..
وعلى زاد هذه الرحلة المباركة، نعيش ما بقي لنا من أجل، ومن جنى ثمارها الطيبة المباركة، نعطى مما فى وسعنا، وننفق مما فى أيدينا.. نبتغى بذلك وجه الله، وحسن المثوبة، وكريم الشفاعة من كتاب الله، ومن رسول الله، فهما وسيلتي إلى الله، أرجو بهما خير الدنيا، وحسن ثواب الآخرة: «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» كما أسأله- سبحانه- أن يبارك لى فى زوجى التي هيأت لى أسباب التوفر على هذا العمل، وكانت لى رفيق سفر فى هذه الهجرة المباركة إلى كتاب(16/1753)
الله.. فجزاها الله عنّى خيرا، وأقرّ عينها وعينى بوحيدتنا «هناء» وبارك لنا فيها، وتولّاها برعايته وتوفيقه، وجعلها من أحبابه وأهل ودّه، فى الدنيا والآخرة. إنه سميع مجيب.
هذا، وقد كنا على نية أن نلحق بخاتمة هذا التفسير، تعريفا بالمؤلف، يتناول حياته، وثقافته، وظروف الحياة التي تلبست به وهو بين يدى هذا التفسير، وأحداث عصره التي أثّرت فيه.. فذلك- فى رأينا- مما يرفع لعينى الدارس لهذا التفسير صورة للمؤلف، توثق الصلة به، وتجعل حديثه إليه بظهر الغيب، حديث مشاهدة ومشافهة، وبهذا يتسع بينهما مجال المحاورة والمجادلة، وتكثر فى طريقهما مواقف المراجعة والحساب، الأمر الذي من شأنه أن يبعث نشاط الدارس، ويستثير ملكاته، ويشعره دائما أنه فى مواجهة من يحاسبه ويراجعه، ويحصى عليه غفلاته، وشرود خواطره، كما يحاسب هو المؤلّف ويراجعه، ويأخذ عليه غفلاته وهفواته! نعم، كنت على هذه النية، حتى إذا كتب القلم آخر كلمات فى تفسير سورة الناس، وأردته على أن يمضى معى فيما انتويته من كتابة التعريف بالمؤلف، أبى إلا جماحا وشرودا، وبدا لى أن يد القدر تمسك بالقلم عن أن يمضى لما قصدت إليه، وأن من الخير أن يخرج هذا التفسير خالصا من كل ما ليس من صميمه!! لهذا عوّلت على أن يكون التعريف بالمؤلف، وما اتصل به فى عصره من أشخاص وأحداث- فى كتاب خاص، يلحق به ما يسفر عنه ظهور هذا التفسير وتداوله فى محيط العلماء والدارسين، وما لهم فيه من آراء.. فإلى لقاء مع المؤلف فى هذا الملحق.. إن شاء الله.(16/1754)
[كلمة شكر] على أنه لا يفوتنى هنا أن أسبق هذا الكتاب المرتقب، فأبادر بتقديم خالص الشكر للسادة العلماء فى آفاق العالم الإسلامى، الذين استقبلوا هذا التفسير بكثير من الحمد والرضا، سواء منهم من تابع الاطلاع، والدراسة، والتعقيب، على كل جزء تم طبعه من هذا التفسير، أو من أقام رأيه فيه على أول جزء ظهر منه، مقدّرا أن مبادئ الأمور تدل على خواتيمها، وأن مطالع الزهر، ينبىء عن وجوه الثمر.. وسواء من هؤلاء السادة العلماء من كان ثناؤه خالصا، ومن جاء حديثه موجّها ناصحا.. فلهؤلاء وهؤلاء جميعا أوجّه عظيم الشكر ومزيد الحمد.
وإنى لأذكر هنا بالحمد والثناء ما لقى هذا التفسير وصاحبه من أسرة مجلة «قافلة الزيت» بالمملكة العربية السعودية من احتفاء وتنويه.. فمنذ صدر الكتاب الأول من «التفسير القرآنى» والمجلة ترصد حركاته، وتعلن عن مولد كل جديد منه.. حتى إذا كاد يكتمل ويبلغ الغاية تفضلت أسرة المجلة بتقديم هدية كتابية ثمينة طىّ رسالة رقيقة من رئيس تحريرها الأستاذ الجليل «منصور مدنى» فكان ذلك خير جزاء معجل فى الدنيا لهذا الجهد الذي بذلته ابتغاء وجه الله، والذي أرجو أن يكون لكل من ساعد فى هذا الجهد، بقول أو عمل، جزاؤه من واسع فضل الله، وعظيم إحسانه، فإنه لا يشكر الله، من لا يشكر الناس..
فجزى الله أسرة مجلة «قافلة الزيت» عنّى خيرا، وأجزل المثوبة لمديرها العام الأستاذ الكبير «مصطفى حسن الخان» ومديرها المسئول الأستاذ الفاضل «على حسن قناديلى» ورئيس تحريرها الأستاذ النبيل «منصور مدنى» ومحررها المساعد الأستاذ الفاضل «عونى أبو كشك» .(16/1755)
أما الأستاذ- محمد محمود الخضرى- صاحب- دار الفكر العربي، وناشر هذا التفسير، والذي وقف إلى جانبى بكل ما يملك من جهد، وواصل المسيرة معى خطوة خطوة، من بدء هذه الهجرة إلى كتاب الله حتى نهايتها- غير ضنين بجهد أو مال فى سبيل تحقيق هذه الرسالة، ابتغاء خدمة كتاب الله، وتيسير آياته للذكر، وتعميم النفع به- فهو قسيمى فيما نرجو من حسن المثوبة، وكريم العطاء من رب العالمين، فجزاه الله خيرا، وبارك عليه فى ولده، وأهله، وماله، ورعى الله هذه الدار العربية الإسلامية، ورعى العاملين بها، السادة: فهمى حامد على مدير الدار، وأمين محمد محمود الخضرى، وبدوي بدوي مصطفى.. والأين العزيز محمد عبد الغنى السيد، الذي شارك مع أخى وزميلى الأستاذ الجليل سيد طلبه القصّاص، فى عملية المراجعة والتصحيح أثناء عملية الطبع،. وكان لهما فضل كبير فى تجنب كثير من الأخطاء.
فلقد كان هؤلاء جميعا يتعبدون لله فى محراب العمل معى، لإخراج هذا التفسير، ودفع العوائق التي تعترض سبيله، أو تعوّق مسيرته.
هذا، ومن توفيق الله، ومن تيسيره لهذا العمل، أن تتولى طبعه وإخراجه مطبعة «السنة المحمدية» التي أسسها العالم الحافظ الإمام المجتهد، محيى السنة، المرحوم «الشيخ محمد حامد الفقى» . فقد أقام هذه المطبعة على أساس من تقوى الله ورضوانه، فطابت فيها مغارسه من رجال، وأعمال، حتى لقد خرجت هذه المطبعة عن أن تكون عملا تجاريّا، إلى دار عبادة، ومحراب صلاة.. ولهذا تجدنى إذ أذكر صاحب هذه المطبعة، وأدعو له بالرحمة والرضوان، أذكر أبناءه وتلاميذه الذين ربّاهم فيها على يديه، ونشّأهم على الأمانة والتقوى، وعلى رأسهم ابنه الفاضل(16/1756)
الأستاذ محمد الطيب، وتلميذه الوفى البار الحاج أحمد إبراهيم القائم على إدارة المطبعة، وتصريف شئونها، فى مراقبة الله، وإخلاص فى العمل، وحفيده محمد سيد احمد، ومريدوه: الشيخ محمد محمد نصر الدين، وعبد الرازق محمد الكاشف، وجميع عمال المطبعة، الذين حملوا الأمانة، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه.
ولو أنى ذهبت أذكر جميع الذين لهم فضل المشاركة والمعاونة فى هذا الكتاب لا تسع مجال القول، وجاوز الحدّ الذي عزمت على التزامه، والوقوف عنده فى المقام.
فشكرا شكرا، لكل من شارك فى هذا التفسير من قريب أو بعيد، فى سرّ أو علن.
«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى..
«سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
القاهرة فى/ 27 رمضان 1390 هـ يو الخميس/ 26 نوفمبر 1970 م أحمد إبراهيم رئيس مطبعة السنة المحمدية(16/1757)
فهرس الموضوعات
(جزء.. عمّ) الموضوع/ الصفحة. الليالى العشر.. ما تأويلها؟ / 1546. وهديناه النجدين.. ما تأويله؟ / 1573. مسيرة الإنسان، إلى أمام أم وراء؟ / 1615. سورة الهب، ونظمها/ 1703. النبىّ.. وحديث السّحر!! / 1727(16/1758)
تصويب الأخطاء
نعتذر عن بعض الأخطاء التي وقعت فى هذا التفسير، على الرغم من اجتهادنا فى تجنبها وتوقىّ الوقوع فيها.
ولكن كيف لا نخطىء ونحن بشر؟ إن الخطأ منّا شهادة ناطقة على أن الكمال لله وحده، وأن العصمة لأنبيائه ورسله، وقد وقع معظم هذه الأخطاء فى الكتب الأربعة الأولى، قبل أن تتمهد الطريق بين المؤلف وللطبعة..
والمرجو أن يتفضل القارئ مشكورا فيجرى بالقلم هذه التصويبات:
الكتاب الأول الصفحة/ السطر/ الخطأ/ الصواب 20/ 9/ الطاغوت/ الطاغوت 63/ 11/ ولقد خلقنا/ لقد خلقنا 83/ 19/ والمساكين وابن السبيل وقولوا/ والمساكين وقولوا 137/ 1/ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل/ ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة 146/ 14/ وهو ربنا وربكم ونحن له مخلصون/ وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون 171/ 7/ أرأيت من اتخذ/ أفرأيت من اتخذ 173/ 18/ أمواتا/ أموات 185/ 7/ وأن الله شديد العقاب/ وأن الله شديد العذاب 188/ 5/ ما وجدنا عليه/ ما ألفينا عليه 202/ 10/ ولتكبروا الله مع/ ولتكبروا الله على 232/ 7/ فإن الله سريع الحساب/ فإن الله شديد العقاب 243/ 15/ آياته/ الآيات 247/ 11/ آياته/ الآيات 305/ 14/ وقالوا لنبى لهم/ إذ قالوا لنبىّ لهم(16/1759)
الكتاب الثاني الصفحة/ السطر/ الخطأ/ الصواب 386/ 13/ والله بكل شىء عليم/ والله بما تعملون عليم 435/ 4/ إذ قالت رب/ إذ قالت امرأة عمران رب 475/ 15/ فاما الذين آمنوا/ وأما الذين آمنوا 538/ 4/ إن تطيعوا الذين/ إن تطيعوا فريقا من الذين 587/ 7/ أولئك يؤتونه/ أولئك يؤتون 612/ 6/ الآخرة/ الآخرة 615/ 19/ لكيلا تأسوا/ لكيلا تحزنوا 623/ 18/ مما تعملون خبير/ بما تعملون بصير 629/ 9/ فليتوكل المؤمنين/ فليتوكل المؤمنون 642/ 4/ لم يلحقوا به/ لم يلحقوا بهم 651/ 4/ حتى يميز الله الخبيث/ حتى يميز الخبيث 654/ 8/ من بين يديه خلفه/ من بين يديه ومن خلفه الكتاب الثالث 773/ 16/ والذين يحتنبون/ الذين يجتنبون 837/ 14/ هم الغالبون/ هم المفلحون 877/ 15/ وكان الله غفورا رحيما/ وكان الله عفوا غفورا 936/ 11/ جامع الكافرين والمنافقين/ جامع المنافقين والكافرين 938/ 18/ جامع الكافرين والمنافقين/ جامع المنافقين والكافرين 955/ 10/ سميعا بصيرا/ سميعا عليما 963/ 7/ طبع الله عليها فلا/ طبع الله عليها بكفرهم فلا 1061/ 6/ المسيح عيسى بن مريم/ المسيح ابن مريم 1143/ 17/ وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا/ وعمل صالحا فلا خوف عليهم(16/1760)
الكتاب الرابع الصفحة/ السطر/ الخطأ/ الصواب 15/ 14/ ومن قتل خطأ/ ومن قتل مؤمنا خطأ 29/ 10/ إلا ذكيتم/ إلا ما ذكيتم 68/ 10/ إنا إذن من الآثمين/ إنا إذا من لمن الآثمين 74/ 6/ إذا أيدتك/ إذ أيدتك 216/ 6/ قل إن الهدى هدى الله/ قل إن هدى الله هو الهدى 218/ 8/ والشهادة الحكيم الخبير/ والشهادة وهو الحكيم الخبير 247/ 18/ قد فصلنا الآية/ قد فصلنا الآيات.
الكتاب الخامس 589/ 18/ واعلموا أن الله مع المتقين/ واعملوا أن الله شديد العقاب 823/ 8/ قل هو أذن خير لكم/ قل أذن خير لكم 823/ 10/ قل هو أذن خير لكم/ قل أذن خير لكم هذا، وهناك بعض أخطاء لا يخفى وجه الصواب فيها على فطنة القارئ.
م 111- التفسير القرآنى ج 30(16/1761)
فهرس الموضوعات، والمباحث، والقضايا التي عالجها هذا التفسير
الكتاب الأول (المجلد الأول)
الموضوع/ الصفحة/ السورة الجن.. الشيطان.. إبليس/ 54/ «البقرة» آدم.. مادة خلقه.. وجنته/ 59/ «البقرة» النسخ.. معناه، ومتعلقه/ 120 «البقرة» النفقة للمتوفىّ عنها زوجها/ 288 «البقرة» الطلاق.. وحكمه/ 295/ «البقرة»
الكتاب الثاني
الربا.. أنواعه.. أحكامه/ 363/ «البقرة» الدّين.. توثيقه.. والإشهاد عليه/ 377/ «البقرة» المحكم والمتشابه فى القرآن/ 398/ آل عمران كلام المسيح فى المهد.. على أية صورة وقع؟ / 449/ «آل عمران الخير فى خير أمة أخرجت للناس/ 546/ «آل عمران المسلمون واليهود.. فى مسيرة الحياة/ 553/ «آل عمران تعدد الزوجات.. حكمته، وضوابطه/ 689/ «النساء
الكتاب الثالث
زواج المتعة.. والرأى فيه/ 741/ «النساء الصلاة.. وشارب الخمر/ 793/ «النساء القتل الخطأ.. والقتل العمد/ 861/ «النساء القرآن.. والمسيح المصلوب/ 868/ «النساء الوسيلة.. والتوسل بأصحاب القبور/ 1085/ «المائدة(16/1762)
الموضوع/ الصفحة/ السورة
الكتاب الرابع (المجلد الثاني)
الخمر.. مادتها.. حكم شاربها/ 22/ «المائدة المسيح الإله.. والمسيح الإنسان/ 87/ «المائدة مشيئة الله ومشيئة العباد/ 263/ «الأنعام
الكتاب الخامس
رسالة الإسلام.. ونسخها للرسالات السابقة/ 495/ «الأعراف الحرب والسلام.. فى الإسلام/ 652/ «الأنفال المسلم.. وكم حسابه فى ميدان القتال؟ / 666/ «الأنفال الإسلام.. دين المستقبل/ 740/ «التوبة التكافل الاجتماعى.. فى الإسلام/ 806/ «التوبة
الكتاب السادس
الجزاء الدنيوي.. وجزاء الآخرة/ 937/ «يونس الإنسان، وما ينزل من السماء/ 987/ «يونس السمع والبصر، ومكانهما فى الإنسان/ 999/ «يونس العلم، وأسلوب تحصيله/ 1075/ «يونس الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة/ 1214/ «هود يوسف، والفتنة المتحدية/ 1251/ «هود
(الكتاب السابع) المجلد الثالث
لمحة من القضاء والقدر/ 21/ «يوسف قميص يوسف.. ما هو/ 43/ «يوسف الحق والباطل.. دولة ودولة/ 93/ «الرعد ذكر الله.. واطمئنان القلوب به/ 110/ «الرعد(16/1763)
الموضوع/ الصفحة/ السورة الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة/ 170/ إبراهيم إبليس.. ومن له سلطان عليهم/ 234/ الحجر القرآن الكريم.. والحقائق الكونية/ 341/ النحل مع النسخ.. مرة أخرى/ 361/ النحل
الكتاب الثامن
وقفة مع الإسراء والمعراج/ 412/ الإسراء الحقيقة المحمدية.. وما يقال فيها/ 434/ الإسراء بنو إسرائيل ووعد الآخرة/ 442/ الإسراء العرب وقتل الأبناء ووأد البنات/ 478/ الإسراء الشجرة الملعونة فى القرآن.. ما هى؟ / 512/ الإسراء أصحاب الكهف.. من هم؟ / 585/ الكهف القضاء والقدر/ 672/ الكهف قصة موسى والعبد الصالح/ 640/ الكهف ذو القرنين.. من هو وما شأنه؟ / 696/ الكهف يأجوج ومأجوج.. من هم؟ / 706/ الكهف جهنم.. وهل يردها الناس جميعا؟ / 756/ مريم
الكتاب التاسع
الخير والشر/ 874/ الأنبياء أولياء الله، وما يبتلون به/ 932/ الأنبياء الحياة، وخالق الحياة/ 975/ الحج مناسك الحج.. ومشاهد القيامة/ 1014/ الحج(16/1764)
الموضوع/ الصفحة/ السورة الغرانقة العلى.. وقصتها ومن أين جاءت؟ / 1061/ الحج الجلد والرجم.. وجريمة الزنا/ 1201/ النور
الكتاب العاشر (المجلد الرابع)
الماء والماء.. والناس والناس/ 43/ الفرقان التكرار.. والقصص القرآنى/ 96/ الشعراء كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي؟ / 156/ الشعراء الشعر.. ونظرة الإسلام إليه/ 195/ الشعراء سليمان.. والملة.. والهدهد/ 224/ النمل الدابة التي تكلّم الناس.. ما هى؟ / 288/ النمل موسى.. والقتيل الذي قتله/ 327/ القصص
الكتاب الحادي عشر
من انباء الغيب/ 475/ الروم الليل وما وسق/ 499/ الروم فتنة الترتيب النزولى للقرآن/ 632/ الأحزاب المرأة والرجل فى بيت النبوة/ 688/ سبأ زينب.. وزواج النبي منها/ 715/ صبأ الأمانة التي حملها الإنسان.. ما هى؟ / 761/ سبأ الرسول.. وعموم الرسالة الإسلامية/ 812/ سبأ الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة/ 871/ فاطر القرية، والمرسلون إليها/ 913/ يس(16/1765)
الموضوع/ الصفحة/ السورة
الكتاب الثاني عشر
داود، ما خطيئته؟ / 1065/ ص سليمان والشمس.. والجسد الملقى على الكرسي/ 1079/ ص بين النفس.. والروح.. والجسد/ 1161/ الزمر مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟ / 1225/ غافر
الكتاب الثالث عشر (المجلد الخامس)
قل لا أسألكم عليه أجرا.. ما تأويله؟ / 44/ الشورى الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا/ 67/ الشورى مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور/ 89/ الشورى بيعة العقبة وليلة الجن/ 290/ الأحقاف الحرب والسلام فى الإسلام/ 311/ محمد النبىّ.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟ / 341/ محمد الجهاد.. والحرب النفسية/ 378/ محمد
الكتاب الرابع عشر
هذا الانقلاب فى عوالم الوجود يوم القيامة، ما تأويله؟ / 545/ الطور البعث، وعلى أية صورة يقع؟ / 549/ الطور المعراج، وما يقال فيه/ 594/ النجم سورة الرحمن.. ونظمها/ 650/ الرحمن الأقسام المنفية فى القرآن، ودلالتها/ 732/ الواقعة المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟ / 792/ الحديد(16/1766)
الموضوع/ الصفحة/ السورة الحروف التي يقال بزيادتها.. ما تأويلها؟ / 802/ الحديد القرآن، وما يتجلى على الوجود منه/ 879/ الحشر المسيح، وتبشيره بالنبي/ 922/ الصف «فاتقوا الله ما استطعتم.. ما تأويله؟ / 992/ التغابن
الكتاب الخامس عشر (تبارك)
الموت، والحياة/ 1046/ الملك بين أصحاب الجنة، ومشركى قريش/ 1090/ القلم النبي.. وصاحب الحوت/ 1114/ القلم الإسلام، وشهوة الجنس/ 1181/ المعارج مخاطبات القرآن.. ما سر حكايتها كما هى؟ / 1312/ القيامة وحي القرآن.. ووحي السنة/ 1319/ القيامة
الكتاب الخامس عشر (عم)
الليالى العشر.. ما تأويلها؟ / 1546/ الفجر وهديناه النجدين.. ما تأويله؟ / 1573/ البلد مسيرة الإنسان، إلى أمام أم وراء؟ / 1615/ العصر سورة اللهب، ونظمها/ 1703/ اللهب النبي.. وحديث السحر/ 1727/ الفلق «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .
«وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .(16/1767)
للمؤلف فى العقيدة- قضية الألوهية.. جزءان.
- القضاء والقدر.
- المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل.
- نشأة التصوف.
- التعريف بالإسلام.
فى الشريعة- إعجاز القرآن.. جزءان.
- التفسير القرآنى للقرآن.. خمسة عشر جزءا.
- النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم.
- القصص القرآنى.
- السياسة المالية فى الإسلام.
- فى طريق الإسلام.
- من الحقل الإسلامى.
- الخلافة والإمامة.
- الدعاء المستجاب.
فى السّير. عمر بن الخطاب. على بن أبى طالب. محمد بن عبد الوهاب (الدعوة الوهابية) فى الأدب الأدب الصوفي فى مفهوم جديد(16/1768)