62- سورة الجمعة
نزولها: مدنية..
عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية..
عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وعشرون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة «الصف» السابقة على هذه السورة، قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .. ثم جاء فى سورة «الجمعة» : هذه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. فكان ذلك تصديقا لهذه البشرى، وتحقيقا لما أخبر به المسيح، من مجىء رسول من بعده اسمه أحمد.. فهذا الرسول، هو هذا النبي الذي بعثه الله فى الأميين، وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه- فناسب ذلك أن تجىء سورة «الجمعة» على هذا الترتيب فى المصحف، آخذة مكانها بعد سورة «الصف» .. وفى هذا شاهد من شواهد كثيرة، تقطع بأن ترتيب السور فى المصحف، توفيقى من عند الله، أشبه بترتيب الآيات فى السور..(14/940)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
التفسير قوله تعالى:
«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .
أي يسجد لله- تعظيما، وولاء، وتمجيدا- كل من فى السموات والأرض، وإن أبى هؤلاء الكافرون والمشركون أن يكونوا فى الساجدين..
فإنهم- إن ظنوا أنهم يملكون من أنفسهم أن يخرجوا عن هذا المقام الذي ينتظم الوجود كله فى محراب التسبيح بحمد الله- فهم واهمون، لأنهم فى قبضة الله، وفى محيط سلطانه، وهم بهذا خاضعون لله كرها، وإن لم يخضعوا له طوعا..
«وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (15: الرعد) .
والملك: هو صاحب الملك، المتصرف فيه كيف يشاء.
والقدوس: الطاهر، المبرأ من كل نقص.(14/941)
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
هذا التسبيح الذي تسبح به السموات والأرض لله رب العالمين، هو وإن كان دائما لا ينقطع، إلا أنه هنا تسبيح خاص فى مواجهة هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على أهل الأرض، وهى بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق.
والأميون هم العرب، وسمّوا أميين، لأنه لم يكن لهم كتاب سماوى، وكان اليهود يطلقون على جميع الأمم لفظ الأميين بالإضافة إليهم هم.. يريدون بهذا أن يمتازوا على الناس، بأنهم هم الذين خاطبتهم السماء، وبعثت فيهم الرسل، وأنزلت عليهم الكتب.. أما غيرهم من سائر الأمم فلم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا من الله، وأن يتلقوا رسالاته.. وبهذا صحّ فى زعمهم أن يدّعوا هذه الدعوة الضالة، وهى أنهم شعب الله المختار.. فلقد كانت هذه الدعوى شؤما وبلاء عليهم، إذ عزلتهم عن المجتمع الإنسانى، وأقامتهم فى الحياة الإنسانية مقاما مضطربا، لا يلقاهم الناس، ولا يلقون هم الناس، إلّا على عداوة وجفاء.
ففى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» امتنان على الأمة العربية، بهذا الفضل الذي ساقه الله سبحانه وتعالى إليهم، وردّ على اليهود، وإبطال لدعواهم بأن الله اختارهم على العالمين.. واختصهم بفضله وإحسانه..
فالأمية التي وصف بها العرب هنا هى أمية من نوع خاص، وهى أمية من لا كتاب لهم من عند الله. وإن كان هذا لا يمنع من تفشّى الأمية فيهم، وهى أمية الجهل بالكتابة والقراءة. وذلك أن الدّين كان هو الباعث الأول على العلم، وعلى تعلم القراءة والكتابة، وأن أصحاب الكتب السماوية هم الذين كانوا(14/942)
يقبلون على العلم، وعلى مدارسة الكتب السماوية وما يتصل بها..
وفى قوله تعالى: «رَسُولًا مِنْهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الرسول الذي بعثه الله سبحانه وتعالى إلى العرب، كان واحدا منهم، أي من هؤلاء الأميين، وليس من أهل الكتاب.. وهذا يعنى أن هؤلاء الأميين هم أهل لأن تختار منهم رسل الله، كما هم أهل لأن يتلقوا رسالات الله، وتنزل إليهم كتب الله..
وقوله تعالى: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ-» هو صفة للرسول صلوات الله وسلامه عليه، تبيّن محامل رسالته إلى العرب، ومنهج دعوته لهم.. فهو يتلو عليهم آيات الله، أي يسمعهم إياها، ويلقيها على أسماعهم مشافهة منه.. إنه هو الذي يتولى تبليغ رسالة ربه بنفسه، لا بوساطة كتب، أو رسل.. فما دام هو بين قومه، فهو الذي يلقى الناس برسالة ربه، وينقلها إليهم كما تلقاها وحيا من السماء، وهو بهذه التلاوة لآيات الله، إنما يريد أن يزكّى قومه، أي يطهرهم من الشرك، ومن ضلالات الجاهلية وأرجاسها.
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- «يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» أي أي يبين لهم ما فى كتاب الله من شرائع وأحكام، كما يقول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» ويعلمهم كذلك «الحكمة» وهى السنّة التي يبين بها الرسول ما فى كتاب الله.. وسميت السّنة حكمة، لأنها مستفادة من كتاب الله، ومن النظر الملهم فى آياته وكلماته.. فليس كل ناظر فى كتاب الله قادرا على أن يتلقى الحكمة عنه.. وإنما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخذ الحكمة كلّها من كتاب الله، بما أراه الله..
وفى هذا دعوة للعرب وللمؤمنين بهذا الدين، أن يتعلموا للكتاب والحكمة، وذلك بمدراسة كتاب الله، إذ كان هو الكتاب الجامع لكل ما فى الكتب، من سماوية وغير سماوية، فمن جعل همّه له، ووجه عقله وقلبه إليه، أصاب العلم(14/943)
الجامع، والحكمة المشرقة، وهذا من شأنه أن يجعل من أمة الإسلام- لو أنهم استجابوا لدعوة الله هذه- موطن العلم، ومعدن الحكمة، وأن تكون لهم أستاذية الإنسانية فى العلم وفى الحكمة.
وقوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» - هو بيان لحال العرب، حين جاءهم الرسول الكريم، يعلمهم الكتاب والحكمة. فقد كانوا قبله فى ضلال غليظ، وفى عمى مطبق، ومع ذلك استطاع هذا النور السماوي الذي حمله الرسول إليهم- أن يفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأبصروا من عمّى، وسمعوا من صمم، وفقهوا من جهل، وأصبحوا علماء حكماء.. وهذا يعنى أن الاتصال بكتاب الله، من شأنه أن يفيد منه كل إنسان، ولو كان أبعد الناس عن العلم والحكمة، شأنه فى هذا شأن الغيث، يبعث الحياة حيث كان موقعه، فى خصب أو جدب.
قوله تعالى:
«وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
هو معطوف على «الْأُمِّيِّينَ» أي هو الذي بعث فى الأميين رسولا منهم، أي من العرب، وفى آخرين من الأميين، من غير العرب، وهم سائر الأمم الأخرى.
وهذا يعنى أن رسالة الرسول صلوات الله وسلامه عليه- وإن كانت للعرب أولا، فإن لغيرهم فيها نصيبهم منها، فهى رسالة عامة شاملة لكل الناس..
ثم إن هذا يشير من جهة أخرى إلى أن اليهود لا نصيب لهم فى هذه الرسالة لأنهم ليسوا من الأميين.. وهذا ما كشفت عنه الأيام، فقد دخل الناس الإسلام من كل أمة وجنس، وأما اليهود فلم يدخله منهم إلا نفر قليل.. على نفاق، وعلى كيد للإسلام.. فا آمن أحد منهم بالإسلام- مذ كان إلى اليوم- إيمانا خالصا من هوى، أو مبرّأ من غرض.(14/944)
وفى قوله تعالى: «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» .. إشارة بظهر الغيب إلى هؤلاء الآخرين الذين سيلحقون بالعرب فى الدخول فى الإسلام، والذين لم يكونوا قد دخلوا بعد، عند نزول هذه الآية..
وقد روى أن بعض صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سألوه عن هؤلاء الآخرين، وكان فيهم سلمان الفارسىّ، فوضع صلوات الله وسلامه عليه، يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء» ..
والإشارة هنا هى للفرس، قوم سلمان الفارسي، والمراد بكون الإيمان عند الثريّا وتناول الفرس له، أن الإسلام سيدخل فيه من كان بعيدا عن موطن الدعوة بعد الثريّا، وهذا يعنى امتداد رقعة الإسلام، وامتداد سلطانه فى أطراف الدنيا..
وهذا من أنباء الغيب، التي أوحاها الله إلى النبي، فقد دخلت فى الإسلام طوائف وجماعات من جميع الأمم.
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. إشارة إلى سلطان الله الغالب، وأنه سينصر هذا الدين، ويعزّه، باجتماع الناس إليه من جميع الأمم والأجناس، وأن ذلك إنما يكون عن حكمة الحكيم العليم، فيدخل فى هذا الدين من شاء له الهدى والنجاة..
قوله تعالى:
«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
«ذلك» إشارة إلى بعث الرسول الكريم إلى الأميين من العرب، وهذا من فضل الله، الذي يؤتيه من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم، الذي يسع فضله الناس جميعا، وأنه إذا أصاب فضله قوما، فليس بالمحجوز عن غيرهم..(14/945)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
الآيات: (5- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة أشارت إلى الأميين الذين يتعالى عليهم اليهود، الّذين رأوا فيما أنزل الله عليهم من كتب، وبما بعث فيهم من رسل- أنهم قد اختصّوا بفضل الله، من دون الناس جميعا، وقد جاءت الآيات لتبطل زعمهم هذا، فقد بعث الله فى الأميين رسولا، وأنزل عليه كتابا يتلوه عليهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم إنه سبحانه، لم يجعل هذا الفضل، وتلك الرحمة إلى العرب وحدهم، بل جعل ذلك للأميين جميعا من العرب وغير العرب- ثم جاء قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ(14/946)
الآية» - جاء مخزيا اليهود، ومبطلا ادعاءهم، بأنهم قد استأثروا بفضل الله..
ونعم، إن الله قد ساق إليهم فضلا، وأنزل إليهم التوراة فيها هدى ونور.. ولكن ليس كلّ من كانت بين يديه نعمة، مستفيدا منها، بل إنه كثيرا ما تكون النعمة نقمه حين لا تجد من يحفظها، ويرعاها حقّ رعايتها..
إنها تكون حينئذ أشبه بالغيث يقع على الأرض السبخة فلا تستجيب له، ولا تتفاعل معه، وسرعان ما يفسد، ويتحول إلى ماء آسن، ينبث فى أحشائها الهوامّ والديدان..
وهؤلاء اليهود، قد حمّلوا التوراة، وكلّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحسنوا العمل، بل اختلفوا فيها، وتأولوها تأويلا فاسدا.. فكان مثلهم فى هذا كمثل الحمار، يحمل كتبا، تثقل ظهره، وتصبح علة ملتصقة به، دون أن يفيد منها شيئا..
وفى تشبيه اليهود- حملة التوراة- بالحمار الذي يحمل أسفارا، ما يكشف عن طباع هؤلاء القوم، وعن بلادة حسّهم، وعن قبولهم الهوان والذلّة، وأنهم فى هذه الدنيا أشبه بالحمر، يسخرها الناس للحمل والركوب.. فالحمار من بين حيوانات الركوب جميعا، أكثرها هوانا على الناس، وأخسّها مطية للركوب..
لا يتخذه كرام الناس مركبا لهم.. وفى هذا يقول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلّا الأذلّان عير الحىّ والوتد
هذا الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد
ولا يفترنّ أحد بما يبدو فى ظاهر الأمر من أحوال اليهود، ومن ظهور بعض العلماء فيهم، ومن تمكنهم من كثير من المرافق العاملة فى الحياة فهذا كلّه ثمن للهوان الذي استساغوا طعامه، تماما كما يزيّن بعض الحمير أحيانا(14/947)
بألوان من الزينة، بما يصطنع له من سرج القطيفة، ولجم الفضة، فلا يرفع ذلك من قدره، ولا يخرجه من بنى جنسه.. فهو «الحمار» أيّا كانت الحلية التي يتحلّى بها..
وإنه لو وضع أعلم اليهود، علمه تحت نظر فاحص دارس، لما رأى منه الناظر إليه إلّا غباء وجهلا، وإن هذا العلم مهما بلغ لا يعدو أن يكون ثوبا اختطفه، أو سرقه، أو ألقى به عليه غيره، ممن لا يريد أن يظهر فى الناس بهذا العلم، الذي كثيرا ما يكون منحرفا، مصادما للعقائد، والأخلاق.
وقوله تعالى: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» - أي بئس هذا المثل، وهو الحمار، مثلا لهؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله.
وقد وقع الذّمّ على المثل، ولم يقع على المماثل، وفى هذا مبالغة فى الذمّ للماثل، لأن الذي وقع عليه الذم إنما استحق الذّم فى هذا المقام بسبب من مثل به.. فكأن هذا الشيء المذموم لم يكن مذموما حتى اقترن بهذا الممثّل به، فأصابه منه هذا البلاء الذي استوجب ذمّه.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» - إشارة إلى أن هؤلاء القوم إنما تخبطوا فى الضلال، وعموا عن الانتفاع بما فى التوراة التي يحملونها، لأنهم كانوا ظالمين، معتدّين حدود الله، فتركهم الله فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى:
«قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
الذين هادوا، هم اليهود، وأصله من الهود، وهو الرجوع برفق، وسمى(14/948)
اليهود يهودا، لأنهم رجعوا إلى الله تائبين، بعد أن عبدوا العجل، كما جاء فى فى قوله تعالى على لسان موسى «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» (156: الأعراف) ..
ثم لزمهم هذا الاسم، ولعنهم الله وهم معروفون به..
فالخطاب فى الآية الكريمة موجّه من النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى اليهود، بأمر ربه، ليقول لهم: إن صحّ ما زعمتموه، من أنكم أولياء لله من دون الناس، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختصكم بالفضل والإحسان، حتى لقد قلتم إنكم أبناء الله وأحباؤه- إن صحّ زعمكم هذا، فتمنّوا الموت واطلبوه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون.. فإن هذا الموت سيصير بكم إلى الله الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأبناؤه وأحباؤه.. والولىّ إنما يشتاق إلى لقاء وليّه، والابن إنما يسعى إلى لقاء أبيه، والحبيب إنما يشوقه لقاء من أحب.. فلم لا تتمنون الموت، ولا تطلبونه، وهو السبب الذي يصلكم اتصالا مباشرا بالله، الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأحباؤه من دون الناس! إن هذا ادعاء كاذب منكم، ونفاق تنافقون به أنفسكم، إذ لو كنتم مؤمنين بما تزعمون، لما فزعتم من الموت، ولما حرصتم على الحياة هذا الحرص الذي جعل منكم أجبن الناس، وأشدهم فرارا من لقاء العدو..
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (96: البقرة) ..
وهذا لا يكون إلا من إنسان يرى الموت نهاية لوجوده، أو يرى أن وراء الموت أهوالا تنتظره، بما قدمت يداه من آثام..(14/949)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله تعالى:
«وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» .
هو بيان للعلّة التي من أجلها يحرص اليهود على الحياة، ويفزعون من الموت، وأنهم لا يتمنون الموت أبدا، لما يعلمون من أنفسهم أنهم على ضلال، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة إلا البلاء والهوان.. شأنهم فى هذا شأن إبليس الذي يعلم أن مصيره إلى عذاب الله، وأنه إنما سأل الله أن ينظره، وأن يؤخر عنه العذاب الذي توعده به، فرارا من هذا العذاب، ودفعا له من يومه إلى غده.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
أي أن هذا الموت الذي تحذرونه، وتفرون من ملاقاته، هو ملاقيكم حتما، ولن تفروا منه أبدا.. ثم إنّ وراء هذا الموت رجعة إلى الله، وحسابا، وعقابا، وسترون أعمالكم المنكرة حاضرة بين أيديكم، وسينزل بكم العذاب الذي أنتم أهل له..
الآيات: (9- 11) [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)(14/950)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .
مناسبة هذة الآية لما قبلها، هى أن السورة قد بدأت بذكر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آيات الله، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وهذه النعمة العظيمة لا تثمر الثمر الطيب الذي تحمله إلا إذا صادفت من يرعاها، ويعرف قدرها، وإلّا انقلبت هذه النعمة نقمة على أهلها، فحوسبوا على تضييعها، ووقعوا تحت طائلة العقاب الأليم، كما وقع ذلك لليهود الذي حمّلوا التوراة، ثم لم يحملوها، فكان مثلهم مثل الحمار يحمل أسفارا، وقد أوعدهم الله سبحانه بما توّعد به الظالمين- فناسب أن يجىء بعد هذا، أن ينبّه المسلمون إلى ما ينبغى أن يكون منهم لرعاية هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم، وكان أول ما نبهوا إليه، هو الصّلاة، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وكانت الركن الأول من أركانه، بعد الإيمان بالله.. وإذ كانت صلاة الجمعة أظهر صلاة فى أيام الأسبوع، لأنها الصلاة الجامعة، التي لا تصحّ إلا فى جماعة- فقد كان الإلفات إليها إلفاتا إلى الصلوات المفروضة كلّها.
وقوله تعالى: «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ» أي إذا جاء وقتها، وأذّن المؤذن بها.(14/951)
وقوله تعالى: «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» أي بادروا وأسرعوا إلى ذكر الله، أي الصلاة، لأنها تذكّر بالله، وتصل العبد بربه.. ومن ذكر الله فى صلاة الجمعة، «الخطبة» وما فيها من عظات تذكر بالله.
وقوله تعالى: «وَذَرُوا الْبَيْعَ» أي اتركوا البيع، والشراء، وكلّ ما يشغلكم من عمل.. حتى تفرغوا للصلاة، جسدا، وروحا.
وقوله تعالى: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» الإشارة إلى السعى للصلاة، وترك كل ما بين يدى الإنسان من عمل.. فذلك السعى خير من كلّ ما كان يحصّله الإنسان من عمله الذي بين يديه، وذلك مما لا يعلمه، ويعلم قدره إلا أهل العلم، من المؤمنين، المستيقنين من واسع الفضل، وعظيم الإحسان، عند الله..
قوله تعالى.
«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
هو دعوة إلى العمل، وإلى السعى إليه، كما سعى المؤمنون إلى الصلاة..
فالسعى إلى العمل، أداء لحقّ النفس، وحقّ الأهل والولد، كما أن السعى إلى الصلاة أداء لحق الله سبحانه وتعالى، وكلا الحقّين واجب الأداء، فمن قصّر فى أحدهما، حوسب عليه حساب المقصّرين.
وفى قوله تعالى: «فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» دعوة إلى أن يملأ المسلمون وجوه الأرض، سعيا وعملا، وأن يأخذوا بكلّ ما يمكّن لهم منها، ويقيم لهم فيها المقام الكريم، وألا يقصروا جهدهم على جانب منها،(14/952)
أو فى ميدان من ميادينها، بل ينبغى أن يكون لهم فى كل ميدان مجال، وفى كل موقع عمل..
وفى الدعوة إلى الانتشار فى الأرض بعد الاجتماع بين يدى الله فى الصلاة- فى هذا جمع بين العبادة والعمل، وبين ذكر الله والسعى فى الأرض.. فقد جاءت الدعوة من الله سبحانه لصلاة الجمعة، موجهة إلى من هم مشغولون بالعمل، ساعون لطلب الرزق، وإن كانت الدعوة عامة إلى كل من تجب عليه صلاة الجمعة.. ثم جاء الأمر إلى هؤلاء الذين حضروا الصلاة- أن ينتشروا فى الأرض، ويبتغوا من فضل الله، بعد أن تزودوا بهذا الزاد الطيب من ذكر الله، وبذلك يستقيم لهم الطريق، وتفتح لهم أبواب الرزق الطيب المبارك.
وفى قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» - إشارة إلى هؤلاء المنطلقين للعمل، الساعين إلى الابتغاء من فضل الله، أن يذكروا الله دائما، وأن يستحضروا جلاله وعظمته، فى كل حال، لا فى وقت الصلاة.. ففى ذلك فلاح أي فلاح، حيث يجد الذاكر لله سبحانه وتعالى، حارسا يحرسه من وساوس الشيطان، وأهواء النفس، فلا يتعثر، ولا ينحرف، ولا يزلّ.
قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» .
اللهو: ما يشغل الإنسان من هزل الأمور عن جدّها.. والانفضاض:
التفرّق فى عجلة، وفى غير نظام.(14/953)
63- سورة «المنافقون»
نزولها: مدنية عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة عدد حروفها: سبعمائة وستة وسبعون.. حرفا
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة «الجمعة» كاشفا عن وجه من وجوه المنافقين، الذين كانوا يشهدون صلاة الجمعة مع النبىّ، حتى إذا سمعوا لهوا، أو أحسّوا قدوم تجارة، أسرعوا إلى هذا اللهو، أو تلك التجارة، دون أن يشعروا بأنهم بين يدى النبىّ، وفى مقام ذكر الله.. لأن قلوبهم خالية من هذه المشاعر التي تصلهم بالله، وبرسول الله.. إنهم ما جاءوا رغبة فى مرضاة الله، ولا شهودا لذكر الله، وإنما جاءوا حتى يراهم المؤمنون أنهم على الإيمان بالله، مداراة لنفاقهم، وسترا لكفرهم.. ثم إنهم ما إن تهبّ عليهم سحابة ريح من أي اتجاه، حتى تعرّبهم من هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، ودخلوا به فى زمرة المؤمنين- وقد ناسب ذلك أن تجىء سورة المنافقين، فى أعقاب سورة الجمعة لتكشف عن أكثر من وجه من وجوه النفاق.. كما سترى ذلك، فيما حدّثت به السورة عن النفاق والمنافقين.
هذا، ويلاحظ أن ما جاء فى ختام سورة «الجمعة» عن المنافقين قد جاء تلميحا.. وأن ما جاءت به سورة «المنافقين» عنهم- كان تصريحا يكشف عن هذا التلميح.. وهذا من أروع وأعجب ما يرى من إعجاز القرآن، حيث يمسك ختام سورة «الجمعة» ، وبدء سورة «المنافقين» بالصورة الكاملة للمنافقين، فى ظاهرهم وباطنهم جميعا.. فهم فى الظاهر مؤمنون، يشهدون مشاهد المؤمنين فى الصلاة وغيرها، وهم فى الباطن منافقون، كاذبون!(14/954)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 6) [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» ..
أي أن المنافقين، إذا جاءوا إلى النبي، وحضروا مجلسه، نطقت ألسنتهم بغير ما فى قلوبهم، وقالوا للنبى من غير أن يطلب منهم قول، وشهدوا من غير(14/955)
أن يستدعوا للشهادة- «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» - مؤكدين هذا القول بأكثر من مؤكّد.. وفى هذا كله ما ينطق عن أنهم كاذبون منافقون.. فالمؤمن إيمانا حقّا، لا يجد فى نفسه ما يحمله على أن يعلن فى كل وقت، عن إيمانه.. فهو منذ آمن عرف فى الناس بأنه من المؤمنين، فلا يحتاج بعد هذا إلى أن يردّد على الأسماع، مبادئا كلّ من يلقاه، بأنه مؤمن.. ثم إن الصادق فى قوله لا يحتاج إلى أن يبرر صدقه بالحلف، أو توكيد ما يخبر به، وإنما يفعل ذلك من هو متهم- فيما يخبر به- عند نفسه، متّهم عند الناس، وأنهم يرون منه حقيقة ما يراه فى نفسه.
والمنافقون، لا يؤمنون بأن الرسول هو رسول الله، ولو كانوا على الإيمان بأنه رسول الله لما وقع النفاق فى قلوبهم.. ولهذا- فهم لكى يبرئوا أنفسهم من تهمة النفاق- التي يتهمون بها أنفسهم قبل أن يتهمهم أحد- يبادرون إلى لقاء النبي، مؤكدين له بأنهم يشهدون أنه رسول الله: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» !! وقد ردّ الله سبحانه عليهم شهادتهم تلك- وإن كانت تقول الصدق- لأنها خرجت من أفواه لا تقول إلا الزور من القول، وأن كلّ قول تقوله، إذا كشف عن حقيقته، وأزيل عنه هذا الطلاء الزائف- كان سرابا خادعا..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» ليقيم مكان قولهم الزائف قولة الحق، من الحق سبحانه وتعالى فى رسوله.. ولهذا أيضا وقع التطابق اللفظي بين قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» وقوله تعالى: «إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» .. «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» ..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» - هو فى مقابل قولهم: «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» .. فقد شهد الله عليهم بأنهم كاذبون فى(14/956)
حقيقة ما يقولون، إذ كان ما يقولونه على خلاف ما يعتقدون، وكان ما يجرى على ألسنتهم مكذّبا لما فى قلوبهم..
قوله تعالى:
«اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
الجنة: السّنر الذي يجنّ، أي يستر من يستجنّ به.. وبه سمى الدرع مجنّا، لأنه يحمى لابسه من أن تناله الطعنات فى الحرب..
ومنه الجنون، لأنه يستر عقل صاحبه من أن يرى حقائق الأمور..
أي أن المنافقين- لما يشعرون به من أنهم كاذبون فيما يقولون- يحاولون دائما أن يبرروا أقوالهم ويزكوها بالحلف، كى تقع من النفوس موقعا، ولو أنهم كانوا صادقين فيما يقولون، لما لزمهم أن يحلفوا، لأن الصدق مستغن بذاته عن أي مبرر يبرره، وينزله منزلته من العقول والقلوب..
وقوله تعالى: «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» - هو تعقيب على قوله تعالى:
«اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» والفاء للسببية، أي أنهم بسبب ما نسجوا للكذب من أيمان فاجرة، بدا لهم أن هذا النسيج يستر نفاقهم، ولهذا صدّوا عن سبيل الله، واتخذوا سبيلا غير سبيل المؤمنين، وهم على ظنّ بأن أحدا لن يراهم، على غير طريق الإيمان، وهم مستجنّون بهذه الأيمان التي بذلوا لها بسخاء، فى معرض الإخبار عن أنهم مؤمنون بالله ورسوله..(14/957)
وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» - هو حكم من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم، بأنها أعمال سيئة، لا تعقب إلا سوءا، ولا تجرّ على أصحابها إلا الحسرة والندامة..
وقد وقع الوصف بالسوء على الأعمال، لأن الأعمال هى التي تظهر على محكّها الأقوال.. أما الأقوال، فما أكثر ما تخالفها الأعمال.. فقد يكون القول فى ظاهره حسنا جميلا، على حين يكون العمل من ورائه سيئا خبيثا.. وإنه لن يكون عمل طيب، إلا وكان معه القول الطيب! لأن القول أخفّ مئونة من العمل، ولهذا كانت الأعمال، هى مناط الحساب والجزاء..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» .
أي ذلك النفاق الذي فيه هؤلاء المنافقون، هو بسبب أنهم آمنوا، ودخلوا فى تجربة مع الإيمان، فلم يجد له مكانا فى قلوبهم، فلفظوه كما تلفظ المعدة المريضة الطعام الطيب، وبهذا رجعوا إلى الكفر الذي لم تبعد الشّقة بينهم وبينه.
وقوله تعالى: «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» أي ختم على قلوبهم بأنها لا تقبل الإيمان، ولا تستجيب له، فقد امتحنت من قبل بالإيمان امتحانا كشف عن معدنها، وأنها لا تلتقى بالإيمان، ولا تسكن إليه..
إن من يلتقى بالإيمان يوما، ويعيش معه زمنا، ثم يفارقه- لن يكون بينه وبين الإيمان لقاء على مودة أبدا.. ذلك أن القلب الذي يدخله الإيمان، ثم يخرج منه- لن يعود إليه بحال، إنه فراق إلى غير لقاء.. وهذا يعنى أن الإيمان سهل المورد لمن هو من أهله، أما من لم يكن من أهل الإيمان فلن يقبله، وإن قبله فإنه سرعان ما يرفضه، لأنهما على طبيعتين مختلفتين. وهيهات أن يقع ائتلاف بين ما اختلف من الطبائع أصلا..(14/958)
وأما ما جاء فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» (137: النساء) - فإنه يشير إلى هذا التردّد بين الإيمان والكفر من بعض النفوس، التي تكون على طبيعة ليست على الإيمان، ولا على الكفر، وإنما هى خليط منهما، يتنازعها الإيمان مرة، والكفر مرة، حتى تستقر على أىّ منهما.. وهؤلاء الذي آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا- إنما هم الذين غلب جانب الكفر فيهم جانب الإيمان، ورجحت فيهم كفته، فانتهى أمرهم إلى كفر غليظ، بعد هذه المعاناة، وتلك التجربة المتعددة.. وأما من ينتهى بهم هذا التردد إلى الإيمان، فإنهم ينتهون إلى إيمان ثابت راسخ، كما انتهى المترددون قبلهم إلى كفر غليظ.
وقوله تعالى: «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» أي أنهم بسبب هذا الطبع الذي طبع به على قلوبهم بعد خروج الإيمان منها بعد أن دخلها- إنهم بسبب هذا الطبع، لا يفقهون حقيقة الإيمان بعد هذا، ولا تنفتح له مغالق قلوبهم..
قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» .
هذه صورة للمنافق تمثل ظاهره، وباطنه جميعا..
فالمنافق متجمل فى ظاهره، مجتهد فى تزويق هذا الظاهر، وفى طلائه بالألوان الزاهية، حتى يخدع الناس عن باطنه الذي يعلم هو فساده أكثر مما يعلم الناس منه.. ولهذا فهو يبالغ فى تسوية مظهره، وفى تجميله حتى يستر بهذا الزيف ما يخفى باطنه، وحتى يغطّى بهذا البخور الذي يطلقه على هذا العفن الذي يفوح منه..
فقوله تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» .. بيان لما تقع عليه العين(14/959)
من ظاهر المنافقين، فيما يبدو من تسوية هندامهم، وحسن زيّهم..
وقوله تعالى: «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» - بيان لما يتجمّل به حديثهم، من طلاوة الأسلوب، وتأنق العبارة، ورقة اللفظ.. وهذا ضرب من الخداع والتزييف، حيث يدسّ السمّ فى العسل، وحيث تروج العملة الزائفة بلمعانها وبريقها..
وقوله تعالى: «كأنهم خشب مسندة» - إشارة إلى أن هذا الذي يبدو من المنافقين من حسن المظهر، ورقة الكلام، ونعومة اللفظ- لا يعدو هذا الظاهر من القوم.. إنهم أشبه بالخشب المسندة، لا حياة فيها، ولا وزن لها، وإن زينت بالحلى، وكسيت بالحرير.. ثم إن المنافقين، وإن بدوا فى ظاهرهم على صورة واحدة، فإنهم فى حقيقتهم، أشتات متفرقون، لا تجمعهم مشاعر الودّ، ولا تؤلف بينهم صلات هذا المعتقد الفاسد الذي يدينون به.. تماما كالخشب المسندة، كل كتلة منها قائمة إلى جوار غيرها، لا تشعر بها، ولا تحس بوجودها.
وقوله تعالى: «يحسبون كل صيحة عليهم» - هو وصف كاشف لما يموج به باطن المنافقين من وساوس، وتصورات، لا تقيمهم أبدا إلا على فزع، وتخوف، لأنهم دائما متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان، فهم لهذا مطاردون من أنفسهم، يريدون الإفلات من قبضة هذه المشاعر المستولية عليهم، ولهذا أيضا تراهم على حذر، وتوقّع لتلك الأيدى الكثيرة الممتدة إليهم، تحاول أن تدهمهم فى أية لحظة.. «يحسبون كل صيحة عليهم» .. سواء اتجهت إليهم أو لم تتجه، وسواء أكانوا هم المقصودين بها أم غيرهم.. وهكذا المجرم، لا يفارقه أبدا وجه جريمته، فى يقظة أو منام..(14/960)
كأن فجاج الأرض وهى عريضة ... على الخائف المكروب كفّة حابل
وقوله تعالى: «هُمُ الْعَدُوُّ» خبر كاشف عن حقيقة هؤلاء المنافقين، وأنهم على ما يبدو منهم، من ظاهر مغلّف بالتلطف والتودّد- هم العدوّ، الذي تتجسم فيه العداوة كلها، حتى لكأنهم العدوّ وحدهم للنبىّ، دون الناس جميعا..
وقوله تعالى: «فَاحْذَرْهُمْ» هو تعقيب على هذا الخبر عن المنافقين، وأنه إذ علم أنهم هم العدوّ الذي يخفى وراء ظاهره، كيدا، ويضمر فى باطنه سوءا- فيجب الحذر منهم، والحيطة من الأمان لهم، والاتهام لكل قول يقولونه، أو ودّ يظهرونه..
وقوله تعالى: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» .. هو دعاء عليهم، يحمل التهديد لهم من الله سبحانه وتعالى، بأنهم فى معرض النقمة من الله، وأن حربا من الله أعلنت عليهم، وأنه ليس وراء حرب الله لهم إلّا الهلاك المبير، والخسران المبين..
وقوله تعالى: «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» استفهام يراد به الإنكار عليهم لهذا الطريق الذي أخذوه إلى مواقع الضلال.. أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» .
أي أن من أمارات هؤلاء المنافقين، أنهم إذا دعوا إلى طريق الحقّ نفروا، وإذا نصح لهم ناصح بأن- يعرضوا أنفسهم على رسول الله ليستغفر لهم- «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» .. أي أداروا رءوسهم، يمينا وشمالا، فى حركة مجنونة، حتى(14/961)
لكأنهم إنما يتعاطون شرابا مرّا لا يجدون له مساغا.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا الذي كان من لىّ رءوسهم عند سماعهم لدعوة من يدعوهم إلى رسول الله ليستغفر لهم.. بل إنهم بعد أن تذهب عنهم آثار هذه الصدمة، يأخذون طريقا غير الطريق المتجه إلى الرسول، ويمعنون فى الصدود والخلاف، عنادا واستكبارا.
وقد يبدو من العجب أن يجتمع الكبر، والجبن، فى كيان المنافقين..
ولكن مع قليل من النظر، يتضح أن هذا هو التركيب الطبيعي للمنافق، الذي لا يكون محققا لصفة النفاق حتى يجمع بين المتضادات.. الإيمان، والكفر..
الصدق باللسان، والكذب بالقلب.. الظاهر الحسن، والباطن الخبيث..
وهكذا.. فالمنافق شخصان، بعيش أحدهما مع الناس، ويعيش الآخر فى كيان صاحبه.. أو هو شخصية مزدوجة، يكاد ينفصل ظاهرها عن باطنها..
قوله تعالى:
«سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
هو تيئيس للمنافقين من أن ينالوا مغفرة الله، سواء أجاءوا إلى النبىّ يطلبون أن يستغفر لهم، فاستغفر لهم، أو لم يستغفر لهم.. فإن الله سبحانه لا يغفر لهم، لأنهم لم يجيئوا إلى النبىّ إلا على طريق من نفاق، ولم يتحدثوا إليه إلا بألسنة منافقة، ومن هنا لم يقبل استغفار رسول الله لهم، كما لم تقبل توبتهم..
إنهم تابوا إلى الله بألسنتهم دون قلوبهم.. إنهم فاسقون، قد خرجوا من الإيمان بعد أن دخلوا فيه.. «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» .(14/962)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
الآيات: (7- 11) [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
«هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» .
الضمير «هم» يعود إلى هؤلاء المنافقين، الذي تحدثت عنهم الآيات السابقة، من أول السورة، والذين سميت هذه السورة باسمهم.. فهى كلها حديث متصل عنهم، يفضح مخازيهم، ويكشف سوءاتهم على أعين الناس..(14/963)
وإذا كانت الآيات السابقة، قد تحدثت عن المنافقين فى عمومهم، وعن الصفات النفسية والجسدية التي يستدل بها عليهم، دون أن تشير إلى معيّن منهم بالذات، أو الاسم- فقد جاءت هذه الآية والآية التي بعدها لتواجه وجها منكرا من وجوه المنافقين، ولتقرع رأسا عفنا من رءوسهم، هو عبد الله بن أبىّ بن سلول..
فلقد نزلت هاتان الآيتان فى أعقاب حادثة استعلن فيها نفاق هذا المنافق على الملأ، ولم يبق إلا أن تجىء آيات الله لتسجل عليه هذا النفاق، وتدمغه به إلى يوم الدين..
قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد بلغه أن بنى المصطلق (من اليهود) كانوا يجمعون لحرب المسلمين، فخرج إليهم رسول الله فى أصحابه، ولقيهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى ساحل البحر، وهزم الله أعداء الله، ونفل أبناءهم، ونساءهم وأموالهم.. قالوا: وبينما الناس على الماء، وقع شجار بين غلام لعمر بن الخطاب يقال له الجهجاه بن سعيد، ورجل من الأنصار يقال له سنان الجهني، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وهتف الجهجاه: يا معشر المهاجرين.. وكادت تكون فتنة، وجعل عبد الله بن أبى يقول لمن يلقاه من الأنصار: قد نافرونا وكائرونا فى بلادنا.. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. هذا يا معشر الأنصار ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم، ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم..!!»
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدّث به عبد الله بن أبىّ فى(14/964)
الناس، أمر الناس بالرحيل، وسار بالناس يومهم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما.. وإنما فعل الرسول ذلك، ليشغل الناس عن الحديث، الذي كان يحدّث به عبد الله بن أبىّ! قالوا: وتحدث كثير من المسلمين إلى رسول الله يستأذنون فى قتل عبد الله بن أبىّ.، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردهم قائلا:
«فكيف إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، لا تقتلوه! ..
وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبى إلى رسول الله، فقال يا رسول الله: قد بلغني أنك تريد قتل أبى، فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرنى به، فأنا أحمل إليك رأسه، وإنى أخشى أن تأمر بهذا غيرى فيقتله، فلا تدعنى نفسى أن أنظر إلى قاتل أبى يمشى فى الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار..!!
فقال صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به، وتحسن صحبة، ما بقي معنا..
وهكذا، إطفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفتنة، بحكمته ورفقه، وبعد نظره.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..(14/965)
هو لقاء لآيات الله مع المؤمنين، بعد أن استمعوا إلى ما تنزّل فى المنافقين من آيات..
وكان من حكمة الحكيم العليم، أن يلفت المؤمنين إلى أنفسهم، بعد أن أراهم الصورة المنكرة للإنسان الضال المنحرف، ليكون لهم فيه عبرة وعظة.. وحتى لا يشغل المؤمن كثيرا بأمر هؤلاء المنافقين، وحتى لا يقف كثير من المؤمنين عند حد النظر إلى هذه الصور المتحركة بين عينيه، التلهي والتسلية.. جاءت هذه اللفتة السماوية إليهم، ليخرجوا بمشاعرهم وتصوراتهم عن هذا الموقف، ولينظروا فى أنفسهم هم، وليراجعوا حسابهم مع ذواتهم، فقد يكون فيهم من هو على صورة هؤلاء المنافقين، أو على شبه قريب منها، وهذا يقتضيه أن يصحح وضعه، إن أراد أن يكون فى المؤمنين..
أما كيف يقيم ميزانه السليم على طريق الإيمان، فهو أن يكون كما دعا الله المؤمنين إليه فى هاتين الآيتين: وهو ألا يشغل عن ذكر الله بالأموال والأولاد، وألا يكون ذلك همه فى الحياة الدنيا، فيستغرقه متاع هذه الحياة، ويقطعه عن ذكر الله، وعن النظر إلى الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء.. فإن من يفعل ذلك فقد خسر نفسه، وأوردها موارد الهلاك فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة..
فإذا انخلع الإنسان عن سلطان الاشتغال بالأهل والولد، وعن الغفلة عن ذكر الله- كان طلب البذل منه للإنفاق فى وجوه الخير، أمرا مقبولا، يمكن أن يمتثله ويستجيب له، حيث خرج من هذا السلطان المتحكم فيه، الآخذ على يده، وهذا هو السر- والله أعلم- فى تقديم النهى على الأمر.. فإن الانتهاء عن المنكر والقبيح، مدخل إلى إتيان المعروف والحسن من الأمور..
إن الانتهاء عن القبيح أشبه بالشفاء من داء يغتال عافية الجسد، فإذا عوفى(14/966)
الجسد من هذا الداء، كان من الطبيعي بعد ذلك، أن تقوم ملكات الإنسان وحواسه بوظائفها كاملة.. فكما لا يدعى إلى حمل التكاليف والأعباء مريض، كذلك لا يدعى إلى القربات والحسنات من هو مقيم على المعاصي، ملازم للمنكرات..
وإن التربية الحكيمة لمثل هذا، هو أن يطبّ له من هذا الداء المتمكن منه، فإن هو أقلع عنه، كان من الممكن الانتقال به من جانب المعاصي إلى حيث البر والإحسان.. ولهذا كان من مقررات الشريعة: أن دفع المضار مقدّم على جلب المصالح!! وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» - هو حثّ على المبادرة بطاعة الله، والإعداد اليوم الآخر، قبل فوات الأوان، حين يهجم الموت على غرة أو دون إنذار سابق، فيجد المرء نفسه وقد حضره الموت، وفاته ما كان يراود به نفسه من طاعة الله، ومن فعل الخير، وعندئذ يود أن لو استأنى به الموت قليلا، وترك له فرصة من الوقت، يتدارك فيه ما فات، ويصلح ما أفسد.. ولكن هيهات، هيهات! «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (34: الأعراف) وقوله تعالى: «فأصدق» منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية، الواقعة بعد الطلب، وهو الرجاء المفهوم من قوله تعالى: «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟ فَأَصَّدَّقَ» .. فلولا هنا بمعنى «هلا» . وأصدق: أصله أتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت فى الصاد..
وأما قوله تعالى: «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» فهو مجزوم، لأنه واقع فى حيّز جواب الشرط، المفهوم كذلك من قوله تعالى «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» فهو بمعنى «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» ! ..(14/967)
وهذا الأسلوب من النظم لا يكون فى غير القرآن، ونظمه المعجز، الذي يملك بسلطانه التصريف فى الكلمات، كما يملك سبحانه وتعالى بقدرته التصريف فى كل شىء.. فلقد تسلط أسلوب الطلب: «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» تسلط على الفعلين: أصدق، وأكون.. جاعلا الفعل الأول مسببا عنه، وجاعلا الفعل الثاني جوابا له..
والسؤال هنا: ما الحكمة من مجىء النظم فى الآية على هذا الأسلوب؟
ولماذا لم يجىء الفعلان الواقعان فى حيز الطلب، منصوبين معا، أو مجزومين معا؟
وما سر هذه التفرقة بين الفعلين، فيكون أحدهما مسبّبا، على حين يكون الآخر جوابا؟
نقول- والله أعلم-: إن هذا الاختلاف بين الفعلين، هو اختلاف فى أحوال النفس، وتنقلها من حال إلى حال، فى هذا الموقف المشحون بالانفعالات والأزمات..
فالموت حين يحضر هذا الإنسان الذي يدافع الأيام بالتسويف والمماطلة فى الرجوع إلى الله، وعمل الصالحات- هذا الموت المطل على هذا الإنسان، يردّه إلى صوابه، ويوقظه من غفلته، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وقد بلغت الروح الحلقوم، فلا يجد هذا الإنسان بين يديه إلا الأمانىّ، وإلا الرجاء فيقول: «رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ!» .. إن ذلك هو أقصى أمانيه، وهو غاية مطلوبه.. ثم يخيل إليه من لهفته، وشدة حرصه على هذا المطلوب، أنه- وقد تمناه- أصبح دانيا قريبا، وأنه قد استجيب له فعلا، وأن يد الموت قد تراخت عنه قليلا إلى أجل.. وهنا ينطلق مع هذا الأمل فرحا مستبشرا..
إنه الآن يستطيع أن يتصدق.. وإنه إن يتصدق يكن من الصالحين، الذين يفوزون برضا الله ورضوانه.. ولهذا يخرج من باب الأمانىّ، ليدخل فى باب(14/968)
العرض والطلب.. إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين.. ولكن هذه الفرحة سرعان ما تختفى، وتغرب شمسها من نفسه، إذ يجىء قوله تعالى:
«وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» فيردّه هذا إلى مواجهة الموت، الذي خيّل إليه أنه فرّ من بين يديه! إنه حلم لحظة، فى صحوة الموت أو غيبوبته، سرعان ما يذهب كما تذهب الأحلام..
وتحرير معنى الآية- على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه، هو: هلّا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق.. وإن أصدق أكن من الصالحين، الناجين، من هذا الهول العظيم. الذي يطلّ بوجهه من قريب.(14/969)
64- سورة التغابن
نزولها: مدنية عدد آياتها: ثمانى عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وإحدى وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة المنافقين حديثا متصلا عن النفاق وأهله، وأن هذا الفريق من الناس لن يقبل خيرا، ولن يهتدى من ضلال، أو يستقيم على هدى..
هكذا المنافقون، هم على هذه الطبيعة النكدة، التي لا يصلح من اعوجاجها شىء أبدا..
وقد كان من بد، سورة التغابن هذه، قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» - ليقرر هذه الحقيقة العاملة فى الناس، والمفرقة بينهم فى مقام الكفر والإيمان، والضلال والهدى. فهكذا خلقهم الله.. كافرين، ومؤمنين.
فالله سبحانه يخلق ما يشاء، كما يشاء.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) فكما فرق سبحانه بين عوالم المخلوقات، من حيوان، ونبات، وجماد- فرّق سبحانه كذلك فى صور هذه العوالم، فجعل من كل عالم أنواعا، وأشكالا لا حصر لها..
«وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45: النور) .. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ»(14/970)
(4: الرعد) .. «وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» (27، 28: فاطر) فهذا الاختلاف والتنوع بين المخلوقات، هو من دلائل قدرة الله، وإنه ليس لمخلوق أن يعترض على الخلق الذي أقامه الله سبحانه وتعالى فيه: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» : (23: الأنبياء) فهذا البدء الذي بدئت به سورة «التغابن» هو إلفات للمؤمنين الذين رأوا فى صور المنافقين ما يكره وبذمّ.. إلفات لهم إلى فضل الله عليهم، وأنه سبحانه.. خلقهم للإيمان، وهداهم إليه، ولو شاء سبحانه لجعلهم فى هؤلاء المنافقين، وألبسهم ثوب النفاق وهم فى عالم الخلق والتكوين.
وإنه لمطلوب من المؤمنين إزاء هذا الإحسان، أن يستجيبوا لما دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، من الإنفاق مما رزقهم الله، بعد أن يتخففوا من سلطان الأثرة والشح الذي يمسك الأيدى عن الإنفاق، وهو الحب الشديد للمال والولد ذلك الحب الذي يلهى عن ذكر الله، ويشغل عن طاعته.
وإنه لمطلوب منهم كذلك أن يسبّحوا بحمد الله، وأن ينتظموا فى موكب الوجود كله فى هذه الصلوات الخاشعة الضارعة لله سبحانه، وفى هذا الولاء لجلاله وعظمته.(14/971)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 4) [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
التفسير:
قوله تعالى:
«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
هذا هو دأب الوجود كلّه فى السموات والأرض، إنه فى صلاة دائمة مستغرقة، وعلى وجه واحد، قائم بين يدى الله فى ولاء وخشوع.
وتسبيح هذه العوالم التي يضمها الوجود، هو فى خضوعها السلطان لله سبحانه، وفى جريانها على ما أقامها عليه خالقها، دون أن يكون من أىّ ذرّة منها خروج على الحدود التي ألزمها الله إياها وأجراها فيها: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» :
(40: يس) .
وفى قوله تعالى: «لَهُ الْمُلْكُ» إشارة إلى هذا السلطان القائم على الوجود(14/972)
من قدرة الله.. فهو المالك لكلّ شىء، لا شريك له.. وإذ كان هذا شأنه فهو- سبحانه- الذي يصرف مخلوقاته كيف يشاء، ويقيمها حيث أراد..
وفى قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ» إشارة أخرى، إلى أنه سبحانه وحده، هو المستحق الحمد من كلّ مخلوق، فى أية صورة كان خلقه، وعلى أي حال كان وضعه.. فالخلق إيجاد، ووجود الكائن المخلوق، والوجود نعمة، بالإضافة إلى العدم، الذي هو ضلال فى عالم التيه والضياع.
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
وهذا هو تدبير الله فى خلقه، وحكمه فى عباده.. وهكذا خلقهم.. منهم الكافر ومنهم المؤمن.. كما أن منهم الذكر والأنثى، والذكىّ والغبىّ، والغنىّ، والفقير.. إلى غير ذلك من أنماط الناس، وأشكالهم..
ثم هو سبحانه «بصير» أي عالم علما متمكنا، من كل ما يعمل العاملون، من مؤمنين، وكافرين.
وقدّم الكافرون هنا على المؤمنين، لأن الكافرين كثرة فى العدد، حتى لكأنهم يشبهون الجسد الإنسانىّ، على حين يمثل المؤمنون الرأس فى هذا الجسد..
وقيل إن المعنى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» كلام تام، ثم كان بعد هذا الخلق أن ظهر فى الناس ما هم عليه من كفر وإيمان، كما يقول سبحانه بعد هذا:
«فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» .. وهذا مثل قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ(14/973)
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ»
(45: النور) .
وهذا المعنى، لا ينفى أن الله سبحانه خلق المؤمن مهيأ للإيمان مستعدّا له، وخلق الكافر مهيأ للكفر ومتقبّلا له، كما خلق الدواب، فكان لكل نوع، الخلق الذي هو عليه بين المخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. أي أعطى كل مخلوق ما قدّر له، ثم هداه إلى هذا الذي قدّره له.
وليس ببعيد عن هذا ما يقول به جمهور علماء السنة من أن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان..
قوله تعالى:
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» ..
أي أنه سبحانه خلق هذا الوجود- فى أرضه وسمائه- بالحقّ، الذي عدل بين المخلوقات، وأقام كل مخلوق بالمكان المناسب له فى هذا الوجود..
«وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» ..
«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) ..
«لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (17: الأنبياء) .
وقوله تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» - هو خطاب للناس جميعا، حيث كان وضعهم بين المخلوقات أحسن وضع، وكانت صورتهم أحسن صورة.. «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ(14/974)
فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ»
.. (6- 8: الانفطار) .. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (4: التين) ..
فهذا الخلق السوىّ الذي أقام الله عليه الإنسان، هو نعمة جليلة تستحق من كل إنسان أن يقوم فيها بحمد الله، والشكر له..
والسؤال هنا: أيحسب الكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، ممن هم من أصحاب النار- أيحسبون من هذا الخلق الذي صوره الله فأحسن صوره؟ ..
والجواب- بلا تردد- نعم!! فكل مخلوق خلقه الله، هو مخلوق فى أحسن صورة وأعدلها، إذا هو أخذ مكانه فى الوجود العام، ولم يخرج على وضعه الذي هو فيه..
فأىّ مخلوق أيّا كان قدره من الضالة، والضمور، هو بعض من الصورة العامة للوجود، وحيث كان من هذه الصورة، هو ذو شأن فيها، لا تكمل إلا به.. إنه أشبه بالنغم فى اللحن الموسيقى الكبير، أو ما يعرف «بالسمفونية» ..
والصوت الذي يخرج عن هذا اللحن، ولا يتّسق معه، هو صوت ضائع، لا حساب له، ومن الخير للحن ألا يكون فيه لهذا الصوت وجود أصلا..
والكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، هم أصوات ضالة فى هذا اللحن الكبير، الذي يسبّح به الوجود لله، وينشد على أنعامه نشيد الولاء لله رب العالمين..
ومع هذا، فإن هؤلاء الضالين، كانوا قبل أن يفسدوا ويضلوا- كانوا على فطرة سليمة، وخلق سوىّ.. ولكنهم أفسدوا هذه الفطرة، وغيّروا(14/975)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
هذا الخلق، إذ أسلموا أمرهم للشيطان، الذي قادهم إلى الضلال فانقادوا، ودعاهم إلى الخروج عن أمر الله فأجابوا.. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» (4- 6 التين) ..
وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» إنذار باليوم الآخر، وتحذير منه، حيث يصير الناس جميعا إلى الله يوم القيامة، ويحاسبون على ما قدموا من خير، أو سوء..
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .. أي أن مصيركم أيها الناس، إلى من يعلم ما فى السموات والأرض، ويعلم سركم وجهركم، بل إنه يعلم ما يدور فى الصدر من خلجات ومشاعر، قبل أن تتخلق هذه الخلجات وتلك المشاعر فى صورة كلمات لها مدلول ومفهوم عندكم.. فعلم الله علم شامل، قديم، يعلم ما كان قبل أن يكون، ويعلم ما سيكون على ما يكون..
الآيات: (5- 10) [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)(14/976)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
الخطاب هنا للناس جميعا، مؤمنين، وكافرين.. فهو للمؤمنين عبرة، وعظة، وتثبيت على الإيمان.. وهو للكافرين، وعيد، وزجر، وتهديد..
وقوله تعالى: «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» .. الفاء للسببية، أي أن كفر الذين كفروا، كان سببا فى هذا البلاء الذي حلّ بهم فى الدنيا، بما أخذهم الله به من نكال، وما أرسل عليهم من مهلكات، كما أنه سيسكون سببا فى العذاب الأليم الذي سيلقونه يوم القيامة..
والوبال: أصله من الوبل، والوابل، وهو المطر الشديد الثقيل، ولهذا قيل للأمر الثقيل الذي يخاف ضرره: وبال، ووبيل.(14/977)
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» ..
الإشارة هنا إلى كفر الكافرين، وإلى المنزلق الذي دفع بهم إلى الكفر..
فلقد جاءتهم رسلهم بالبينات، أي بالآيات البينة الواضحة، والمعجزات الناطقة التي تشهد بأنهم رسل الله.. ومع هذا فقد أبى القوم إلا ركوب رءوسهم، ثم نظروا إلى تلك الآيات فرأوها وهم فى هذا الوضع المنكوس..
رأوا حقها باطلا، ونورها ظلاما، وهداها ضلالا.. ثم عجبوا أن يكون بشر مثلهم، ورجل منهم، هو الذي يدلّهم على الخير، ويقودهم إلى الحق!! فكفروا به، وبالآيات التي معه، وبالله الذي أرسله..
وقوله تعالى: «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا» أي أنهم لم يكفروا ويكذبوا بالرسول وحسب، بل تولوا معرضين عن الحق، الذي كان من شأنه- لو تمهلوا قليلا، ولم يستبد بهم العناد- أن يهتدوا إليه بأنفسهم، ولرأوا أن ما يدعوهم الرسول إليه، هو دعوة موجهة إليهم من عقولهم، قبل أن يوجهها الرسول إليهم..
وقوله تعالى: «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» أي أنهم بكفرهم وتولّيهم هذا كأنهم قد استغنوا عن الله، وقطعوا كل صلة تصلهم به، سواء أكان ذلك عن دعوة رسول من عند الله، أو عن دعوة من عقولهم، ولهذا فإن الله قد استغنى عنهم، وطردهم من مواقع الإيمان به..
وفى التعبير عن إعراض الله عنهم، وطرده إياهم- بالاستغناء، إنما هو من باب الردّ عليهم بمثل منطفهم وأنهم إذ قد استغنوا عن الله، فالله قد استغنى عنهم..(14/978)
وهذا يعنى أن الله سبحانه لا يخذل من عباده، إلا من يخذل نفسه ولا يطرد من رحمته إلا من يعمل على طرد نفسه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» (19: الحشر) .. وكما يكون هذا فى حال الردع والعقاب، يكون فى مقام الفضل والإحسان، كما يقول سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (152: البقرة) .. ومنه قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60: غافر) ..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» أي أنه سبحانه غنىّ غنى مطلقا، لا حاجة به إلى شىء من خلقه: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (57: الذاريات) .. وهو سبحانه «حميد» أي المستحق الحمد وحده، المحمود من جميع خلقه، لأنه هو الخالق الرازق المنعم، المتفضل، من غير سابقة إحسان من مخلوق، أو ابتغاء نفع يرجى منه.
قوله تعالى:
«زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ..
الزعم هنا، بمعنى الادعاء الكاذب، الذي يقع من صاحبه موقع اليقين..
أي ادعى الذين كفروا- افتراء وكذبا- أنهم لن يبعثوا.. وعلى هذا الزعم الباطل، والادعاء الكاذب، قطعوا كل ما يصلهم بالحياة الآخرة، وما يذكّرهم بها..
وقد كذّب الله سبحانه هذا الزعم، وردّه على زاعميه بقوله سبحانه: «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» .. والأمر «قل» هنا متوجه إلى النبي صلوات الله وسلامه(14/979)
عليه، لينذر به الكافرين، وليوقظهم به من غفلتهم، وليزعج به اطمئنانهم إلى هذا الزعم الذي زعموه!! وقوله تعالى: «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» أي ليس الأمر مجرد بعث ونشور، وإنما وراء هذا البعث والنشور، حساب وجزاء، حيث تعرض عليه- جلّ شأنه- أعمالكم، وتلقون الجزاء عليها.. «وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» لا يحتاج إلى معاناة ومراجعة.. كما أن بعثكم لا يحتاج إلى جهد ونصب..
قوله تعالى:
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ..
هو تعقيب على قوله تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.. الآية» ..
أي أنه إذا كان البعث أمرا لا مفرّ منه، والحساب والجزاء لا معدى عنه- فبادروا إلى الإيمان بالله، وأسرعوا بالخروج مما أنتم فيه أيها الكافرون، من أوهام وضلالات.. والإيمان بالله لا يتم، إلا بالإيمان برسوله.. والإيمان برسوله، لا يقع إلا مع الإيمان بالنور الذي أنزله الله إليه..
والنور الذي أنزله الله إلى النبي، هو القرآن الكريم، لأنه من نور الله، الذي يجلو عمى البصائر، ويبدد ظلام العقول..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - هو تعقيب على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والقرآن الذي بين يديه، وأن حصيلة هذا الإيمان واقعة فى علم الله.. ذلك العلم المحيط بكل شىء، الخبير بالحسن والسيء من الأعمال(14/980)
وسيجزى المؤمنين على حسب إيمانهم، وعلى حسب ما عملوا بمقتضى هذا الإيمان.
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
هو جواب لسؤال يتردد على الخاطر ممن سمع قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - وهو: ما وراء هذا العلم الذي يعلمه الله من أعمالنا؟
فكان الجواب: ستعلمون ماوراء هذا العلم يوم تردّون إلى الله، يوم يجمعكم ليوم الجمع، وهو يوم القيامة، حيث يجزى المحسنون الجزاء الحسن، ويلقى المسيئون ما يسوءهم وما يخزيهم من عذاب وهوان..
وسمّى يوم القيامة يوم الجمع، لأن الناس جميعا يحضرونه، ويحشرون إليه من قبورهم، لا يغيب عنه أحد منهم.
وسمّى يوم القيامة كذلك يوم التغابن، لأنه اليوم الذي يرى الناس فيه أنهم غبنوا من جهة أنفسهم، وأن غبنا أصابهم فى حياتهم الدنيا، فلم يأخذوا حقهم كاملا فيها، ولم يستوفوا المطلوب منهم للحياة الآخرة..
فالغبن، هو الظلم الذي يجىء من وراء عدوان على حق.. ومنه الغبن الذي يقع فى البيع، بين البائع والمشترى، حيث يخرج الشيء المبيع عن الحدود المثلية له، زيادة أو نقصا، فإذا زاد الثمن زيادة فاحشة، كان الغبن واقعا على المشترى، وإذا نقص الثمن نقصانا فاحشا، كان الغبن واقعا على البائع.. ومنه الغبن فى الرأى، حيث يجىء الرأى فى الأمر بعيدا عن مرمى الإصابة لموقع الحق فيه، فيقال: فلان غبين الرأى، أي فاسده..(14/981)
وكل إنسان يبدو له يوم القيامة أنه قد غبن فى حياته الدنيا، سواء أكان فى المحسنين أم فى المسيئين.. أما المحسن، فلأنه لم يزدد فى إحسانه، وهو يرى فى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- أن كل ما عمله من أعمال حسنة هو قليل- وإن كثر- بالنسبة لما يطلبه، ويتمناه فى هذا الموقف، الذي يحتاج فيه الإنسان إلى رصيد عظيم من الأعمال الصالحة، حتى يلحق بالسابقين الذين سبقوا إلى الجنة، ولم يقفوا موقف الحساب، بل طاروا إليها طيرانا.
وأما المسيء فإنه يرى أنّه ظلم نفسه ظلما مبينا، إذ أطلق العنان لشهواته وأهوائه، وأنه باع نجاته وسلامته بثمن بخس، لا يعدو أن يكون ساعات من اللهو واللعب.
وهكذا يرى كل إنسان يومئذ، أنه على حال غير محمودة عنده، وأن أمورا كثيرة كان يمكن أن يأخذ فيها وضعا آخر غير الوضع الذي أخذه فى الدنيا..
إنه يوم تكثر فيه الحسرات، وزفرات الندم، وصرير الأسنان! قوله تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفّر عنه سيئاته ويدخله جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم» .
هو تعقيب على هذا الوصف الذي وصف به يوم القيامة، بأنه يوم التغابن، ويراد بهذا التعقيب دفع ما يقع من وهم يجعل من هذا اليوم يوم سوء للناس جميعا، وأنهم جميعا واقعون تحت مشاعر الغبن، التي من شأنها أن تملأ النفس حسرة وألما.. فجاء قوله تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار» - جاء هذا، ليقيم نفوس المؤمنين الذين عملوا الصالحات على الرضا، والحمد، لما هداهم الله إليه من الإيمان، ولما وفّقهم إليه من أعمال صالحة، وأنه لا بأس عليهم من هذه الأعمال السيئة الّتى عملوها إلى جانب الأعمال الصالحة، الّتى يسوؤهم أن يروها فى يومهم هذا،(14/982)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
فقد كفّرها الله عنهم، ومحاها من صحفهم، حتى يبدو لهم كتابهم أبيض ناصعا، وحتى لا يدخل معهم من أعمالهم إلا ما كان صالحا، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، نورا يضىء لهم الطريق إلى الجنة. «وذلك هو الفوز العظيم» .
فلتقرّ أعينهم به، وليهنئوا بما آتاهم الله، ولا عليهم مما كان لهم من أعمال سيئة فى الدنيا.. وإذن فلا غبن، ولا آثار غبن، إلا لأهل الكفر والضلال.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
هو بيان للغبن الملازم للكافرين، وللآثار المترتبة عليه.. إنهم هم المغبونون حقّا، وهم المتجرّعون لغصص هذا الغبن، بما فاتهم فى الدنيا من إيمان بالله، ومن أعمال صالحة فى ظل هذا الإيمان.. إنهم- مع هذا العذاب الأليم الّذي يلقونه فى الجحيم- هم فى حسرة دائمة على أن لم يكونوا من المؤمنين..
فما أكثر ما تجيش به صدورهم من حسرات، وما تنطق به ألسنتهم من عبارات الندم واللوم!! ومن ذلك ما جاء به القرآن على ألسنتهم، مثل قولهم: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (27: الأنعام) وقول قائلهم: «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» (27- 28: الفرقان) . وقولهم: «فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (102: الشعراء) ..
الآيات: (11- 18) [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(14/983)
التفسير:
قوله تعالى:
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
المصيبة: الحدث الذي ينجم عن فعل.. ويغلب استعمال المصيبة فيما يقع من سوء.. وفاعل أصاب، هو: «مصيبة» وحرف الجر «من» زائد.. أي ما أصابكم من مصيبة إلا بإذن الله، وعن تقدير الله وإرادته، وإن كفر الّذين كفروا، وما حاربوا الله به منكرات، هو بإذن الله، وتقديره، وأنهم إذ فعلوا ما فعلوا، لم يكونوا خارجين عن سلطان الله، بل إنهم مقهورون لله أبدا، وإنهم على ما يبدو لهم من أنهم آلهة فى الأرض، مقتدرون على أن يفعلوا ما يشاءون- هم فى واقع الأمر أدوات مسخرة لقدرة الله، وأنهم أدوات شرّ وأذى، شأنهم فى هذا شأن ما خلق الله من حيوانات مؤذية، كالعقارب والأفاعى، وغيرها..(14/984)
أما لماذا وضعهم الله بهذا الموضع، وسلك بهم هذا المسلك، وأرادهم للشر، وعاقبهم عليه، فهذا شأن آخر، وتلك قضية أخرى، ومقطع القول فيها، هو قوله تعالى: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.. وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: للانبياء) ..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» هو دعوة إلى الإيمان، يستجيب لها كل من يسّره الله للإيمان، وهداه إليه، وشرح صدره له، بإرادة من الله سابقة، وقضاء قضاه..
فالمطلوب من الإنسان، هو أن يستجيب للهدى، وأن يتجه نحو الخير، غير ناظر إلى قضاء الله فى شأنه.. فإن كان ممن أرادهم الله للإيمان، أخذ بيده إلى طريق الإيمان، بعد أن يتجه هو إليه، ويضع قدمه على أول الطريق إليه..
وأما إن كان من أهل الكفر، فلن تنطلق من نفسه تلك الشرارة الّتي تنقدح من زناد الرغبة والإرادة.. فى الاتجاه نحو الإيمان.
إن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، وأن يعمل جاهدا بما اجتمع بين يديه منها، فإذا أخذ بالأسباب المتصلة بأمر من الأمور، فقد أعذر لنفسه.. كالزارع، يمهد الأرض، ويبذر الحب، ويسوق الماء إلى ما زرع، ثم لا يخرج زرع، أو يخرج، ثم تغتاله آفة! إنه معذور عند نفسه، لا يكثر ندمه عند ما يرى غيره يحصد ما زرع.. أما الذي لم يزرع أصلا، فإن الحسرة تملأ قلبه، حين يرى الّذين زرعوا يحصدون! وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» - هو دعوة إلى إخلاص النيات، فى الاتجاه إلى الله، والإيمان به.. فإن لهذه النيات السليمة المخلصة وزنها، وقدرها، وإن لم تبلغ بصاحبها ما يريد.. أما من يتجه إلى الله اتجاها فاترا ملتويا، يقدّم رجلا، ويؤخر أخرى، فإن النية القائمة وراء(14/985)
هذا الاتجاه، لا تحسب له إذا هو أخفق، ولم يبلغ موقع الإيمان، ولم يملأ به قلبه، ولم تتشربه مشاعره! ..
قوله تعالى:
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ..
هو تعقيب على الخبر الوارد فى قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
أي مع أنه من المقرر أن ما قدّره الله هو كائن، وأن أحدا لا يفعل خيرا أو يصيب شرّا، إلا ما كان فى صفحة القدر المكتوب له- مع هذا فإن الدعوة قائمة على الناس جميعا، بأن يطيعوا الله ورسوله، وأن يستجيبوا لما يدعون إليه، من الإيمان بالله ورسوله، ومن العمل الصالح الّذى يدعو إليه الله ورسوله..
وإنه لمطلوب من الإنسان أن يعمل ما يأمر الله به، وإن ينتهى عما نهاه الله عنه، غير ملتفت إلى قدر الله فيه، فإن الالتفات إلى هذا مضلّة، لأنه لا يدرى ماذا قدر الله له.. إنه يعمل فى قدر الله، ويجرى على حدود هذا القدر، دون أن يعلم شيئا مما قدّر له.. فإذا وقع العمل منه، كان ذلك العمل هو قدره المقدور له.. فإن كان حسنا حمد الله وشكر له، وإن كان سيئا، كان حريّا به أن يجدّ فى الاتجاه إلى الله، وأن يسأله الهداية والتوفيق..
وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو(14/986)
قطع لحجة من يحتجّ بالقدر، حين يعرض عن الله، ويأبى أن يستجيب لله ورسوله، ولسان حاله يقول ما قال المشركون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» (148: الأنعام) فهذا ضلال مبين، وسفاهة حمقاء، لا تقوم على منطق، ولا تستند إلى حق.. وإنه ليس من شأن الرسول أن يقهر الناس على الإيمان، وأن يكرههم على الاستجابة لدعوته..
فالرسول مهمته البلاغ المبين، وأداء رسالة الله كاملة واضحة إلى الناس..
«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) ..
قوله تعالى.
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» - هو بيان للإله الّذى يدعى الناس إلى طاعته، وإلى طاعة رسله، وهو أنه إله واحد، لا إله سواه، وأنه إلى هذا الإله المتفرد بالألوهة، يولّى المؤمنون وجوههم، ويفوّضون إليه أمورهم، راضين بما يقع لهم من خير أو شر..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
هو دعوة للذين استجابوا لله ولرسوله، فآمنوا، أن يعطوا هذا الإيمان حقّه..
فإنه لا يكفى أن يؤمنوا دون أن يحرسوا هذا الإيمان من الآفات الكثيرة الّتى تعرض له، وتفسده، أو تذهب به جملة..
ومن هذه الآفات، الفتنة بالزوج والولد.. حيث هما اللذان يملآن(14/987)
عواطف الإنسان، ويستوليان على مشاعره، وبهذا يكون لهما تأثير بالغ عليه، فى مجال الصلاح والفساد جميعا.. إن الزوج والولد، أشبه بالأعضاء العاملة فى الجسد، فإن كانا صالحين، سلم الجسد، واقتدر على أداء وظيفته كاملة، وإن كانا فاسدين، عجز الجسد عن أن يقوم بما هو مطلوب منه، بقدر ما فيهما من فساد..
وفى القرآن الكريم، أمثله وشواهد كثيرة لهذا..
فامرأة نوح وابنه، كانا على خلاف معتقده فى الله.. هو رسول الله، مؤمن به، داع إليه، وامرأته وولده كافران بالله، يقفان من نوح موقف عداوة ومنابذة..
وإنه ليس أشقّ على الإنسان من أن يكون أعداؤه بعضا من كيانه..
إن عداوة الغرباء تخفّ وتهون، إزاء عداوة ذوى القربى.. وإن أقسى العداوات وأمرّها لهى عداوة أقرب الأقربين، وألصقهم بالإنسان جسدا، وروحا، ومشاعر..
وفى هذا يقول الشاعر الجاهلى (طرفة بن العبد) :
وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند
فقوله تعالى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» - هو إلفات إلى ما قد يكون من خلاف بين المؤمن وبين زوجه وولده فى مجال العقيدة.. ذلك الخلاف الذي كثيرا ما تغطى عليه مشاعر الحب، والعطف، فلا يكاد يشعر المؤمن بما يدخل على إيمانه من ضيم وجور،(14/988)
إذا هو استسلم لزوجه أو ولده، وأصغى إلى ما يلقيان إليه من زور وبهتان..
ولهذا جاء قوله تعالى: «فَاحْذَرُوهُمْ» حتى يكون المؤمن دائما، على حذر، وانتباه من هذه الرياح المسمومة الّتى تهب عليه من أقرب الناس إليه..
والعداوة الّتى ترد على الإنسان من جهة الزوجة أو الولد، ليست عداوة ذاتية له، وإنما هى عداوة متولدة عن فعل يجىء من قبل الزوجة أو الولد.. فإذا فعلت الزوجة فعل العدو فهى عدوّ، وإذا فعل الولد فعل العدو، فهو عدو..
وإنه لا عدوّ أبلغ فى عداوته، وأشد فى كيده، وأعظم فى ضرره- ممن يحول بين المرء وبين طاعة ربه..
روى البخاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم فى طريق الإيمان، فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه، فآمن.. ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر، وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر.. ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد، فتقتل نفسك، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ .. فخالفه، فجاهد، فحقّ على الله أن يدخله الجنة» ..
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
هو دعوة إلى الرّفق فى الحذر، والتلطف فى لقاء المكروه الذي يجىء إلى المؤمن من زوجه أو ولده.. فإذا كان من واجب المؤمن أن يحذر هذا العدوّ الكامن(14/989)
فى أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، فإن هذا العدوّ يجب أن ينظر إليه من جانب آخر على أنه صديق، وأن هذه العداوة طارئة، وأنه يمكن أن تعالج هذه العداوة بالحكمة، والحسنى، على ألا يكون ذلك على حساب الدين..
وبهذا يمكن أن يبقى المؤمن على هذين العضوين الفاسدين فى جسده، وأن يطبّ لهما، وأن يعمل على إصلاحهما ما استطاع، وألا يعجّل بقطعهما إلا بعد أن يستنفد جميع وسائل العلاج، شأنهما فى هذا شأن أعزّ الأعضاء والجوارح فى الجسد..
فالعفو، والصفح، والمغفرة.. من المؤمن، لزوجه وولده، الواقعين فى موقع الفتنة له فى دينه- إنّما هو صبر على الأذى، واحتمال الضرّ، فى سبيل الإبقاء على علائق الودّ، ووشائج القربى التي هى من أمر الدين، ومن طبيعة الحياة.. شريطة ألا يكون ذلك- كما قلنا- على حساب الدين.. كما يقول سبحانه فيما بين الولد، والوالدين: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (14، 15 لقمان) .
قوله تعالى:
ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .
ومن الفتن الّتى تعرض للمؤمن، فتنة المال، والأولاد، حيث يطغى حبهما على قلبه، ويأخذ على سمعه وبصره، فلا يرى شيئا غيرهما، ولا يستمع لنداء غير نداء المال والولد، فيصرفه ذلك عن ذكر الله، ويلهيه عن العمل الصالح، ابتغاء مرضاة الله.. وبهذا يضمر إيمانه، وقد يذهب إلى غير عودة! يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه. «تعس عبد الدّينار، تعس(14/990)
عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة. تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» .
[تعس: أي هلك: والخميصة: كساء أسود له أعلام وخطوط..
والقطيفة، ثوب مزركش ذو أهداب.. وانتكس: أي عاوده المرض..
وشيك: أصابته شوكة.. فلا انتقش، أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش وهو الملقط] .
إن الفتنة الّتى تهب على المؤمن هنا، هى فتنة مهبّها ذاته هو، وما يفيض به قلبه من مشاعر الحبّ للمال، والولد..
وأما الفتنة الواردة على المؤمن فى قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» فهى فتنة متسلطة على الإنسان من خارج ذاته، فيما تسوقه إليه زوجه أو ولده من صور الشحناء معه، والخلاف عليه، فى الدين الّذى يدين به، والذي يباعد الشقة بينه وبينهما.
وقوله تعالى: َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
هو تعويض عن التخفف من من هذا الحبّ الّذى يحمله الإنسان فى قلبه للمال وللولد، وإيثارهما على حبّ الله والعمل فى طاعته.. فالذى عند الله من ثواب، هو خير من الدنيا كلّها..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» .. إشارة إلى أن هذا الحكم ليس على إطلاقه.. لأنه ليس كل الأزواج ولا كل الأولاد تجىء منهم العداوة، وإنما يقع ذلك من بعضهم، ولهذا جىء بمن الّتى تفيد التبعيض، على حين جاء قوله تعالى: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
بدون «من» التبعيضية، لأن الأموال والأولاد فتنة مطلقة، فحيث يكون المال، وحيث يكون الأولاد، فالفتنة بهم قائمة..
يقول الإمام علىّ- كرم الله وجهه-: «لا يقولنّ أحدكم: «اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد، إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن(14/991)
من استعاذ فليستعذ بمضلّات الفتن.. فالله سبحانه وتعالى يقول: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» .
قوله تعالى:
«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
قوله تعالى:
[ «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .. ما تأويله؟] هو رحمة من رحمة الله بعباده، وهم فى متلاطم هذه الفتن الّتى تطلع عليهم من أنفسهم، ومن أهليهم وأقرب الناس إليهم، إنها حرب مشبوبة الأوار دائما، لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عن نفسه، أو أن يدفع هو نفسه عنها، إلا إذا اعتصم بمعتصم يعصمه منها.. إذ كيف له بالتخلص من ذاته، ومن نزعات نفسه، ودفعات أهوائه؟ ونفرض أنه استطاع ذلك بعد مشقة وعناء، فكيف له بأن ينخلع عن زوجه وولده؟ إن ذلك لا يكون إلا بالانخلاع عن الحياة الدنيا جملة!! والإسلام دين واقع، ودين رحمة وعدل وإحسان.. لا يرى للناس إلا أنهم بشر تتحكم فيه نوازع، وعواطف، وتعرض لهم عوارض الضعف..
ويلحقهم ما يلحق الكائن الحىّ من جهد وضعف.. ولهذا قامت هذه الشريعة على اليسر، وعلى رفع الحرج، كما يقول سبحانه: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) .. ويقول الرسول الكريم:
«إن هذا الدين يسر فأوغل فيه برفق، وإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبة» ..
ويقول الرسول الكريم أيضا.. «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
فقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .. هو الميزان الذي يقيم عليه المؤمن أمر دينه كله.. وأن يتقى هذه الفتن الّتى تهب عليه من كل جهة- أن يتقيها(14/992)
بقدر ما يملك من قوة، وما يحتمل من جهد.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» .
فكل نفس لها طاقة من الاحتمال، ولها قدر من القوة، وإنه على قدر طاقتها وقوتها، تحاسب، فتجزى بما كسبت، وعلى ما اكتسبت..
ومن أجل هذا كانت شريعة الإسلام- مع عمومها- تنظر إلى ما فى الناس- كأفراد- وإلى ما فيهم من قوة وضعف، فتكلف القوىّ بما لا تكلف به الضعيف..
ونجد مثلا لهذا فى نساء النبي، وما لهن من خصوصية، وما عندهن من استعداد لقبول الخير، بما كان لحياتهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر فى مدّهنّ بأمداد عظيمة من الإيمان والتقوى.. ولهذا قام حسابهن عند الله على غير حساب عموم النساء.. ففى مقام الإحسان يضاعف الله لهن الإحسان، فيؤجرن بالحسنة ضعف أجر الحسنة من غيرهن.. فيقول سبحانه: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» (31: الأحزاب) .. وكذلك الشأن فى مقام الإساءة- لو فرض أن تقع منهن سيئة- فيقول جل شأنه:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (30: الأحزاب) ..
وليس هذا فى نساء النّبى وحدهن، بل إنه فى المؤمنين عامة، فقد كلف الله المؤمنين فى أول الإسلام، بأن يلقى المسلم منهم فى ميدان القتال عشرة من العدوّ، وأن يغلبهم، دون أن ينكل عن لقائهم، أو يفر منهم إذا التقى بهم.. وذلك لما كان فى قلوب هؤلاء السابقين إلى الإيمان، من قوة إيمان، ووثاقة دين، بما لم يكن لأحد أن يبلغ هذا المستوي العظيم بعد.. فلما دخل الناس فى دين الله أفواجا، وكان كثير من الذين آمنوا دون هذا المستوي، وعلى بعد بعيد منه-(14/993)
لمّا كان هذا، كان أمر الله للمسلمين فى القتال، أن يكون المقاتل منهم فى مقابل اثنين من أعدائهم..
ومن هذا ندرك السرّ فى تلك التوجيهات الّتى كان يوجه بها النبي أصحابه حين يسألونه مثلا: أي الأعمال أفضل؟ فيقول لهذا قولا، ولذاك قولا، ولثالث قولا آخر.. وهكذا، حسب ما يرى الرسول الكريم فيهم من قدرة واستعداد، فيوجه كلّ واحد منهم الوجهة الّتى يصلح لها، ويقدر على السير فيها..
على أن هذا ينبغى ألّا يفهم على غير وجهه السليم، وألّا يتأول تأويلا فاسدا، فيجعل المرء هذه الاستطاعة تكأة يتحلل بها من تكاليف الشريعة، ويتخفف من أوامرها ونواهيها، محتكما فى ذلك إلى هواه فى تقدير الحدّ الّذى تبلغه استطاعته، فيترك الصوم مثلا، لأن الجوع يؤذيه، والعطش يشقّ عليه، أو لأن ترك بعض العادات المتمكنة منه، يفسد تفكيره، ويعلّ جسده.. وقل مثل هذا فى كثير من أوامر الدين ونواهيه، حيث يبحث المرء عن مخرج يخرج به منها، وعن علة يتعلل بها، للتحلل من هذا القيد، والفكاك من هذا الالتزام.. إن هذا من شأنه أن يفسد على المرء دينه، ويغتال كل صالحة فيه.
وإن فى الشرّ خيارا.. وإنه لخير المرء فى هذا المقام أن يترك فريضة من فرائض الله، أو يقصر فى أدائها، عن فتور، أو عدم مبالاة- إن ذلك لخير له من أن يكون تركه الفريضة، أو تقصيره فى أدائها، ناجما عن فتوى كاذبة خادعة، يفتى بها نفسه، ليتحلل من عقد لله الّذى لزمه، من فرائض الشريعة وأحكامها..
إن التكاليف الشرعية لها أعباؤها، ولها مشقاتها، وإنها بغير هذا لا يكون لها ميزان فى فعل الطاعات، واجتناب المنبهات، فمن أطاع أمرا، فإنما تكون طاعته عن مغالبة أهواء، ودفع شهوات، ومن انتهى عن منهىّ عنه، كان(14/994)
انتهاؤه عن استعلاء على نزعات، وكبت لرغبات.. وعن هذا الجهد يكون الجزاء.. ولهذا قيل «على قدر المشقة يكون الثواب» ..
ثم إن الدين أمانة بين العبد وربه، وإن الوفاء بهذه الأمانة إنما يكون حيث يبذل المرء غاية جهده، ويعطى كل ما عنده، دون إفراط، أو تفريط..
والاحتكام فى هذا، إنما هو إلى ضمير المؤمن، وإلى ما يفتيه به قلبه، كما يشير إلى هذا الرسول الكريم فى قوله: «استفت قلبك.. وإن أفتاك الناس وأفتوك» !! فإذا أعفى الدين- مثلا- أصحاب الأعذار من الجهاد فى سبيل الله، كما يقول سبحانه.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» (91: التوبة) - إذا بيّن الإسلام هذه الأعذار التي تعفى المسلم من الجهاد، فإن بيان حدود هذه الأعذار من الضعف، والمرض، وضيق ذات اليد فى النفقة- إن بيان هذه الحدود، إنما يرجع إلى ضمير المسلم ذاته، إن كان مرضه أو ضعفه يعفيانه من الجهاد أو لا، أو إن كان بين يديه مال خفى أو ظاهر، أو لا.. فتلك أمور لا يعلمها إلّا الله سبحانه، وإلا أصحابها المتصفون بهذه الصفات..
وقوله تعالى:
«وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» ..
هو من تمام التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بها فى قوله جلّ شأنه:
«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فإن التقوى فى حدود الاستطاعة، مرجعها إلى القلب، وما انعقد عليه من إيمان بالله، ومراقبة لأوامره ونواهيه..
فهذا جانب يمثّل الضلة بين العبد وربه.. وحسابه فى هذا على الله.(14/995)
وهناك جانب آخر من الإنسان فيما يتصل بأوامر الله ونواهيه، وهو الجانب الذي يمسّ المجتمع الذي يعيش فيه، والذي تحكمه أوامر هذا الدين الذي يدين به، وهو الجانب الظاهر، الذي يتمثل فى الاستماع لأولى الأمر والطاعة لهم، وتقديم المال المطلوب منه فيما يبدو من ظاهر حاله لولىّ الأمر..
وهذا يعنى ألا يقف المسلم عند قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وأن يجعل تقديره لاستطاعته، حكما ملزما لولىّ الأمر.
فإذا دعى من ولى الأمر إلى الجهاد مثلا، فلا يتعلل بأنه مريض، أو ضعيف، وإن كان فى الواقع مريضا أو ضعيفا، بل يجب أن يسمع ويطيع، على ما به من مرض أو ضعف.. فإن سمعه وطاعته فى تلك الحال شاهدان يظاهران ما هو عليه من مرض أو ضعف، وهذا من شأنه أن يجعل ولىّ الأمر هو الذي يعفيه من الجهاد، ويعزله عن ركب المجاهدين.. أما إذا أبى أن يسمع أو يجيب، كان ذلك مثار فتنة لغيره، ثم كان موضع تهمة له بأنه يتصنع المرض أو الضعف، حتى يتحلل من الاستجابة للجهاد الذي يدعوه إليه ولى الأمر..
وكذلك الشأن فى الإنفاق فى سبيل الله، وهو أنه من الواجب أن ينفق المرء فى سبيل الله من غير دعوة، فإذا دعى من ولىّ الأمر كان عليه أن يجيب، وأن يقدم المطلوب منه، من زكاة أو نحوها..
وقوله تعالى: «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» .. يجوز أن يكون مفعولا به للفعل «أنفقوا» أي أنفقوا مالا، أو نحوه، مما هو خير، ونافع، ويكون الجار والمجرور «لأنفسكم» متعلقا بقوله تعالى «خيرا» أي أنفقوا خيرا لأجل أنفسكم.. وعبّر عما ينفق بلفظ الخير، لأنه خير فى ذاته، وهو خير لمن ينفق من أجله، وهو خير لمن ينفقه..(14/996)
ويجوز أن يكون «خيرا» منصوبا بفعل مضمر، تقديره أنفقوا وقدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
هو تحريض على البذل والإنفاق فى سبيل الله، وتحذير من الشحّ، والضنّ بالبذل والسخاء فى وجوه الخير.. فإن من وقى نفسه شرّ هذا الداء، داء الشحّ، كان من المفلحين، حيث إن البخل، لا يكون إلّا من نفس استهلكها حبّ المال، فضنت به عن الإنفاق فى قضاء الحقوق، وفى أداء الواجبات لذوى القربى، والفقراء والمساكين.. ثم ذهب بها هذا الحرص، إلى اكتساب المال من كلّ وجه، فى غير تحرّج أو تأثّم، فإن حبّ المال يعمى ويصم! فأقرب الناس إلى السلامة، وأدناهم إلى الفلاح من خلص بنفسه من ربقة العبوديّة للمال، ومن حبائل فتنته.. كما يقول سبحانه: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
.. فإذا تحرر الإنسان من هذا الداء، واستعلى على هذه الفتنة، استقام له طريقه فى الحياة، فكان من المفلحين فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى:
«إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» .
هو إغراء بالإنفاق فى سبيل الله، وإعلاء لشأن المنفق، ورفع لقدره، حتى إنه ليقف بين يدى خالقه والمنعم عليه موقف المقرض، الدائن.. فما أعظم فضل الله، وما أوسع إحسانه.. إنه يعطى، ثم يستقرض مما أعطى!! والله سبحانه غنىّ غنى مطلقا عن هذا القرض الذي يقترضه، لأن هذا الذي يقترضه، هو ملك له، وفضل من فضله، ولو كان فى حاجة إلى أن يقترض، لأمسك(14/997)
هذا الذي يقترضه.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ولكن هذا العطاء، ثم الاقتراض منه، هو تكريم للإنسان، وإحسان إليه، حتى ينال بما ينفق من مال الله ثواب الله فى الآخرة وحسن الجزاء فى الدنيا، بما يضاعف للمنفق ما أنفق، كما يقول سبحانه: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» (276: البقرة) وكما يقول جل شأنه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ» (245: البقرة) .
والقرض الحسن: هو الذي ينفق فى سبيل، الله عن رضا نفس، وانشراح صدر، والذي لا يتبعه منّ ولا أذى.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» .. أي أنه سبحانه عظيم الشكر لمن يقرضه، وينفق فى سبيله، فيجزيه الجزاء الحسن على ما أنفق، وهو سبحانه «حليم» لا يعجل بعقاب الذين يضنون ويبخلون بما آتاهم الله من فضله، فلا يقطع عنهم أمداد نعمه وإحسانه، فى هذه الدنيا، بل يمدّ لهم فى العطاء، ولا يعجّل لهم الموت حتى يستوفوا آجالهم، وحتى تكون بين أيديهم فرصة للمراجعة، والمصالحة مع الله.. فإن هم لم يصلحوا أمرهم، وماتوا على ما هم عليه من الشحّ والبخل، والضنّ بحقوق الله- كان إلى الله حسابهم، فإن شاء عفا ورحم، وإن شاء عاقب وانتقم.
قوله تعالى:
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» .. أي هو سبحانه شكور حليم، وهو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الحكيم..
فهذه صفات الله سبحانه التي يتعامل بها مع عباده الذين يقرضونه.. إنه سبحانه(14/998)
يشكر للمنفقين ما أنفقوا ويضاعف للمقرضين ما أقرضوا، ولا يعاجل المقصرين منهم فى الإنفاق، العذاب، بل يمهلهم، ويدع لهم فسحة من الوقت حتى تنتهى أعمارهم فى هذه الدنيا، ليكون لهم فى هذه الفسحة مجال لتصحيح موقفهم، واللّحاق بالمنفقين الذين سبقوهم إلى رضوان الله.. وهو سبحانه مطلع على سرهم وجهرهم، عالم بما أنفقوه، وما يخلوا به.. وهو سبحانه «العزيز» الذي هو مستغن بعزته عن إنفاق المنفقين، وعون المعينين، وهو «الحكيم» الذي يقيم موازين الناس بالحكمة والعدل، ويضع كل إنسان بمكانه الذي هو أهل له..(14/999)
65- سورة الطلاق
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: اثنتا عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها كان مما تضمنته السورة السابقة: «التغابن» - قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» .. وفى هذا- كما قلنا- تحذير من فتنة الأزواج، والأولاد، وأن هذه الفتنة قد تعظم ويشتد خطرها، فلا يمكن مدافعتها والنجاة منها إلا بالفرقة، وقطع علائق الصلة..
ولما كانت الفرقة بين الرجل وزوجه لا تكون إلا بالطلاق، فقد كان من المناسب فى هذا المقام أن تبيّن بعد ذلك أحكام الطلاق، والصورة التي يكون عليها، حتى لا يؤدّى ذلك إلى جور وعدوان، بل ينبغى أن يكون الرفق، والحكمة، من الأدوات العاملة فى حلّ عرا الزوجية بين الزوجين، إذا لم يكن بدّ من حلّها، امتثالا لقوله تعالى: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (229: البقرة) .
هذا، وفى مجىء سورة الطلاق عقب الحديث عن فتنة الأزواج والأولاد- فى هذا ما يشير، فى إعجاز مبين، إلى أن الطلاق لا يكون إلا فى حال يتحكم فيها الخلاف بين الرجل والمرأة، حتى يكاد يكون فتنة، لا يمكن الخلاص منها إلا بهذا الدواء المرّ، وإلا بهذا الداء الذي يذهب به داء أشد منه.. وإن فى الشر خيارا..
وبعض السمّ ترياق لبعض وقد يشفى العضال من العضال(14/1000)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 7) [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)(14/1001)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» .
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والمراد به المسلمون جميعا..
فالمسلمون مخاطبون من الله سبحانه وتعالى فى شخص النبىّ، الذي يتلقّى خطاب الله عنهم، لأنه إمامهم وهاديهم، وحامل الدعوة من الله إليهم..
وقد خوطب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من ربّه، بقوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» . وبقوله سبحانه: «يا أيها الرسول» ولم يخاطب باسمه، تكريما له من ربّه، بهذه الملاطفة التي تشير إلى المحبة والقرب من ربّه، الذي يخلع عليه ما يخلع من أوصاف التكريم، ويناديه بها، حتى لكأنها علم عليه وحده.
وقوله تعالى: «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» أي إذا لزم الأمر، ولم يكن بدّ من وقوع الفرقة منكم، بين الرجل والمرأة.
وقوله تعالى: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي فليكن الطلاق فى مواجهة الحساب لعدتهن.. أي ليكن هذا الطلاق منظورا فيه العدة.. وذلك بتخيّر الوقت المناسب للطلاق..
فاللام فى قوله تعالى «لعدتهن» للتوقيت، أي لوقت استقبال العدة، مثل قولك: انتهيت من هذا الأمر ليلة بقيت من المحرم، أي مستقبلا لهذه الليلة..(14/1002)
وهذا يعنى أن تطلّق المرأة فى طهر لم تمس من الرجل فيه، فإذا طلقت فى الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها.. وهذا- كما يقول الزمخشري- «أحسن الطلاق، وأدخله فى السنة، وأبعده من الندم» .. لأن الرجل إذا طلق المرأة وهى فى طهرها، دون أن تدعوه نفسه إليها، كان من المستبعد أن يتوق إليها بعد طلاقها، وبهذا لا يكثر ندمه على فراقها..
وعن إبراهيم النّخعى، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون ألّا يطلقوا أزواجهم للسنة- أي طلاق السنة، وهو أن يكون فى طهر لم تمس فيه- كانوا لا يطلقونهن إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك، حتى تنقضى العدة.. وكان ذلك أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا فى ثلاثة أطهار..
وقال مالك بن أنس: «لا أعدّ طلاق السّنة إلا واحدة» .. وكان يكره الثلاث، مجموعة أو متفرقة.
وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد كرهوا ما زاد على واحدة فى طهر واحد، فأمّا مفرقا فى الأطهار، فلا.
وعند الشافعي- رضى الله عنه- لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف فى عدد الطلاق سنّة، ولا بدعة، وهو- أي الجمع، والتفريق- مباح.
يقول الزمخشري تعقيبا على هذا:
«فمالك، يراعى فى طلاق السّنة، الوحدة والوقت.. وأبو حنيفة، يراعى التفريق والوقت.. والشافعي، يراعى الوقت وحده» .
قوله تعالى: «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» أي اضبطوا حسابها، وهى أن تكون(14/1003)
مستوفية الزمن الذي بينه الله سبحانه وتعالى، كما ستبين الآيات بعد ذلك، وذلك فى شأن الزوج المدخول بها، وله أن يراجعها قبل انقضاء العدة إذا لم يكن قد طلقها ثلاثا.. ويكون بعد انقضاء العدة فى هذه الحال، كأحد الخطّاب، فإن كان قد طلقها ثلاثا، فلا تحل له إلا بعد زواج من غيره وطلاق وانقضاء عدة..
قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» - هو دعوة للرجال خاصة، إلى تقوى الله فى هذا الموقف، وألا يكون الطلاق عن عدوان، أو انتقام، أو اتباع لشهوة عارضة، أو نزوة طارئة، فإن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يقول:
«إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .
وقوله تعالى: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» .. هو نهى للرجال عن أن يخرجوا مطلقاتهم قبل انقضاء العدة، بل ينبغى أن يمسكوهن فى بيت الزوجية، فإنهن زوجات إلى أن تنقضى العدة.
وفى إضافة بيوت الأزواج إلى الزوجات- ما يدخل فى شعور كلّ من الرجل والمرأة، أن الزوجية لا تزال قائمة بينهما فى أثناء العدة، وأن الزوجة ما زالت فى بيتها، بيت الزوجية، وهذا من شأنه أن يجعل المسافة النفسية قريبة بينهما، وأن يكون ذلك داعية إلى إصلاح ذات البين، وإزالة أسباب الفرقة..
فالمرأة فى أثناء العدة لا تزال فى بيتها، بيت الزوجية، وليست غريبة عنه، وهى بهذا الشعور تتصرف كما كانت تتصرف قبل إيقاع الطلاق عليها.. وهذا مدخل واسع إلى المصافاة، وإصلاح ما بالنفوس..
قوله تعالى: «وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» ..
قيل فى معنى الفاحشة المبينة هنا أقوال.. منها:(14/1004)
أن يثبت عليها الزنا، فتخرج من بيت الزوجية، لإقامة الحدّ عليها.. أو أنها تمتنع عن زوجها إذا دعاها إلى نفسه، فتعتبر ناشزا، وبهذا يسقط حقها فى السكنى والنفقة أثناء العدة.
أو أن تخرج هى من تلقاء نفسها مراغمة لزوجها، فيعتبر هذا خروجا منها عن أمر الله، الذي ألزمها فيه الإقامة فى بيت الزوجية..
وهذا القول الأخير، هو أقرب الآراء إلى المعنى المراد..
وقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» ..
أي هذه أحكام الله وحدوده التي أقامها لشريعته، ومن يتعد هذه الحدود ويخرج عنها، فقد ظلم نفسه، لأنه تعرّض لسخط الله، وعقابه..
وقوله تعالى: «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» .. أي لا تدرى أيها المطلّق ماذا سيكون فى التزامك لحدود الله، وإمساكك زوجك فى بيت الزوجية، فقد يحدث الله أمرا، يجىء على غير ما تتوقع من فراق بينك وبين زوجك، فيصلح الله ما بينكما، وبعيد الحياة الزوجية، التي كانت آخذة طريقها إلى الزوال..
قوله تعالى:
«فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ.. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» ..
أي فإذا بلغت المطلقة أجلها، ووافت مشارف العدة، ولم تبق إلا لحظة،(14/1005)
ينتهى عندها الأمر، إلى مراجعة، أو طلاق- كان الرجل بالخيار، إما أن يمسك مطلقته بمعروف، أو يفارقها بمعروف، فلا يكون إمساكه لها للضرار والنكاية، ولا يكون فراقها للانتقام والتشفي.. وإنما الذي يقضى به شرع الله، أن يكون كلّ من الإمساك، أو الفراق، قائما على العدل، والإحسان، وتجنب البغي والعدوان.. ثم أن يكون هذا، وذاك، بمحضر من شاهدى عدل يشهد ان المراجعة، أو الفراق.. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبى حنيفة، أمّا عند الشافعي، فهو واجب فى الرجعة، مندوب إليه فى الفرقة..
وفائدة هذا الإشهاد، هو ألا يقع بينهما التجاحد، ولئلا يموت أحدهما فيدّعى الآخر ثبوت الزوجية ليرث، فى حال أنّ الفراق قد تم بينهما.
وقوله تعالى: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي ذلك التدبير الذي دبره الله سبحانه وتعالى، وتلك الحدود التي رسمها لهذا الأمر، إنما يوعظ به، ويستقيم عليه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيحول هذا الإيمان بينه وبين التعدّى على حدود الله..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» أي ومن يلتزم حدود الله، ويراقب ربه ويخش سلطانه- يجعل له مخرجا مما هو فيه، من معاناة وضيق، وهو فى مواجهة هذا الموقف، الذي تتغير فيه حياته.. فإذا اتقى الله، ولزم حدوده، اختار له الله سبحانه وتعالى الطريق المستقيم، الذي يتبدل فيه حاله من ضيق إلى سعة، ومن همّ إلى فرج، سواء أكان ذلك بإمساك الزوجة أو فراقها، أو فى أي أمر من أمور الحياة يعرض له، فإن تقوى الله فى هذا الأمر، كفيلة بأن تبلغ به مرفأ الأمن والسلام(14/1006)
قوله تعالى:
«وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» .. وهو واقع فى جواب الشرط: «ومن يتق الله» ..
وقد جاء أحد جوابى الشرط فاصلة للاية.. ثم جاء الجواب الثاني بدءا لآية أخرى.
وهذا الفصل بقوله تعالى: «مَخْرَجاً» ليس لرعاية الفاصلة، كما يذهب إلى ذلك علماء البلاغة وأكثر المفسرين.. فإن كلام الله تعالى منزه عن أن تحكمه الضرورات التي تحكم أعمال البشر، من شعر ونثر..
وإن هذا الفصل لهو إعجاز من أعجاز القرآن.. هذا ما ينبغى أن نستيقنه، سواء اهتدينا إلى مواقع هذا الإعجاز، أو لم نهتد إليها..
والذي نقوله- والله أعلم- إن قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ» هو شرط يواجه به كل من الزوج والزوجة.. وأما الجوابان، وهما: «يجعل له مخرجا» ثم «ويرزقه من حيث لا يحتسب» فأولهما الزوج، الذي وعده الله سبحانه بأن يجعل له مخرجا، إذا هو اتقى الله.. وأما الجواب الآخر، فهو الزوجة، التي وعدها الله سبحانه، بأن يرزقها من حيث لا تحتسب، ولا تقدّر، إذا هى اتقت الله، فى موقفها من زوجها فى فترة العدة..
وهذا لا يمنع من أن يكون ذلك الشرط، وجواباه، للعموم، بمعنى أن كلّ من اتقى الله، يجعل الله له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.. ولكن لمّا كان ذلك فى مواجهة الزوجين، المزمعين على الفراق، جاءت الجملة الشرطية ضابطة لحالهما فأعطت كلّا منهما ما يناسبه.. ثم كان منها هذا الشمول الذي يسع الناس جميعا.(14/1007)
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» : شرط وجواب، يدخل فيه كلّ من الزوج والزوجة، كما يدخل فى حيّزه الناس جميعا.. فمن يتوكل على الله، ويسلم أمره إليه، فالله حسبه، وكافيه، ومدبّر أمره.. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «من انقطع إلى الله كفاه الله كلّ مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» .
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» .. أي أنه سبحانه هو المالك المتصرف فى هذا الوجود، وأن كلّ شىء بيده، خاضع لمشيئته، مستجيب لإرادته، وما يريده سبحانه فهو واقع لا محالة، دون أن يعوّقه معوّق، أو يغيره أحد..
وقوله تعالى: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» .
أي أن كل شىء فى هذا الوجود، هو بتدبير وتقدير من الله سبحانه، وليس هناك من شىء يجىء عفوا، أو يقع مصادفة واتفاقا.. كما يقول سبحانه: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8: الرعد) .
قوله تعالى:
«وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» فى هذه الآية بيان للعدة التي تعتدها المطلقات من النساء، وهى تختلف باختلاف أحوالهن.
فذوات الحيض، عدتهن ثلاثة قروء، كما يقول سبحانه: «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» (228: البقرة) والقرء: يطلق على الطهر والحيض.. فتعتد ذات الحيض ثلاث حيضات، تطهر فيهن ثلاث مرات.(14/1008)
وأما اللائي يئسن من المحيض، وهنّ اللائي بلغن سنّ اليأس، حتى انقطع الحيض عنهن.. فهؤلاء عدتّهن ثلاثة أشهر..
وأما اللاتي لم يحضن أصلا، لصغرهن، أو لأنهن من الممتدات الطهر أبدا، فلا يحضن- هؤلاء عدتهن ثلاثة أشهر كذلك.. وأما ذوات الحمل، فعدتهن وضع حملهنّ..
وأمّا قوله تعالى: «إِنِ ارْتَبْتُمْ» فهو اعتراض بين المبتدأ والخبر، للإشارة إلى الحال الداعية إلى هذا الحكم الذي تضمنته الجملة، وهو أن يكون ذلك عن شك وارتياب، فى حال المرأة التي بلغت السنّ الميئوس فيها من الحيض، ثم ترى الدم، لا تدرى إن كان دم حيض، أو استحاضة.. فهذه عدتها ثلاثة أشهر، أي أنها تعتد بالأشهر، ولا تعتد بالقروء..
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» .. أي من يلتزم حدود الله، فيما أمر ونهى، جعل الله له يسرا فى كل أمر يعالجه، فإنه من هدى الله على نور من ربه، «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» . (40: النور) قوله تعالى: «ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» أي هذه الأحكام التي بيّنها الله سبحانه فى هذه الآيات، هى أمر من الله سبحانه وتعالى، يجب الوفاء به، حيث يحاسب المقصّر، ويجازى المطيع..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» .. هو دعوة عامة إلى تقوى الله والتزام حدوده.. وأن من يتق الله يكفر الله عنه سيئاته، بما فعل من إحسان كما يقول سبحانه: «إن الحسنات يذهبن السيئات» «ويعظم له أجرا» أي ويضاعف له الثواب.
قوله تعالى:
«أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا(14/1009)
عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى»
..
هذا فى حكم المطلقات طلاقا بائنا، أما من طلقن طلاقا رجعيا، فقد جاء حكمهن فى قوله تعالى: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» .
فالمطلقة طلاقا بائنا، لها- إلى أن تنقضى عدّتها- السكنى، خارج بيت الزوجية، ولا نفقة لها ولا كسوة، ولا يتوارثان.. وأما إن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن، حتى تضع حملها، وبذلك تنقضى عدتها.. كما يفهم من قوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» فدل ذلك على أن النفقة واجبة للمطلقة طلاقا بائنا، إذا كانت حاملا، أما غير الحامل فقد جاء الأمر بسكناها دون النفقة عليها.
هذا، وقد اختلف فى النفقة للمطلقة ثلاثا قبل انقضاء عدتها، فقال أكثر العلماء، لها السكنى ولا نفقة لها، وقال آخرون، لها السكنى والنفقة، لأنها محبوسة على الرجل لحقّه عليها، حتى تنقضى عدتها، فاستحقت النفقة كالزوجة..
وهذا رأى أبى حنيفة، استنادا إلى قوله تعالى: «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» ، وترك النفقة من أكبر الأضرار..
ونحن نميل إلى هذا الرأى القائل بوجوب النفقة للمطلقة طلاقا بائنا، وذلك أولا: أن الأمر بإسكانهن، من غير نفقة عليهن، أشبه بالحبس، بل إنه الحبس خير منه، لأن المحبوس فى جريمة، يقدم له الطعام والشراب! وثانيا: لا يتفق مع روح الشريعة السمحاء أن تلقى بالمرأة بعد الطلاق، فى(14/1010)
هذا السكن المهجور، الذي لا يصحبها فيه إلا ما تحمل من هموم وأحزان، وإلا ما تمضغ من مرارة هذه المصيبة التي حلت بها، وقد أخرجتها من بيتها، ثم تضنّ عليها هذه الشريعة بشىء من العزاء، وهو ما يقدم لها من نفقة، فى فترة هذا السجن الانفرادى!؟
وثالثا: ما جاء فى قوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» .. ليس فيه ما يحجب عن غير الحامل حقّها فى الإنفاق عليها، وإنما جاء ذلك ليرفع عن أولات الحمل ما قد يوهم بأن لا نفقة لهن إلا فى حدود ما ينفق على غير دوات الحمل، زمنا، وقدرا، بمعنى أن ينفق على ذوات الحمل فى حدود ثلاثة أشهر، أي بمقدار ما ينفق على غير الحامل.. فجاء قوله تعالى: «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» - جاء رافعا لهذا الوهم من جانبيه جميعا.. فينفق على ذات الحمل حتى تضع حملها، ثم ينفق عليها قدرا مراعى فيه حالة الحمل الذي تحمله، بحيث يكفل لها الغذاء المناسب لحالها وحال الطفل الذي يغتذى منها.. فالنفقة على ذات الحمل تختلف عن النفقة على غير الحامل وقوله تعالى: «مِنْ وُجْدِكُمْ» أي مما تجدون بين أيديكم، أي مما هو موجود ومتاح لكم..
وقوله تعالى: «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» - هو خطاب للأزواج بأن يلتزموا حدود الله، مع مطلقاتهن، اللاتي أمسكوا بهن فى بيوتهم، وألا يسلطوا عليهن من الكيد والضر ما يحملهن على ترك ما لهن من حقوق على أزواجهن..
وقوله تعالى: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» - هو أمر للأزواج بأن يقوموا بأداء النفقة المناسبة لمطلقاتهم، إذا هن قمن بإرضاع ما ولدن لهم من أولاد..(14/1011)
وسمّى ما يقدم للمطلقة من نفقة على الرضيع أجرا، إشارة إلى أن الأب هو المتكفل بالإنفاق على الولد دون الأم، وأن الأم- مع وجود الأب- تعتبر كالأجنبية فى حال طلاقها، ومن هنا كان استحقاقها للأجر، لأنه فى مقابل عمل للأب، تستوفى عليه الأجر منه..
والائتمار بالمعروف، هومداولة الأمر بين الرجل ومطلقته، بالمعروف، واللطف، وذلك للاتفاق على ما فيه مصلحة الرضيع.. فليذكر كل منهما أن الأمر الذي يتداولانه بينهما، هو خاص بولدهما معا، وأن من مصلحة الوليد أن تجتمع عليه عواطف الأبوة والأمومة معا، وألا يكون انفصال الأبوين سببا فى حرمانه من هذه العاطفة، من أحدهما، أو كليهما..
إذ لا ذنب له فيما حدث بينهما من خلاف أدى إلى هذه الفرقة.. فليذكر الأبوان هذا، وليذكرا أيضا أنهما إذا فاتهما أن يعملا بقوله تعالى: «أو تسريح بإحسان» أو قوله سبحانه: «ولا تنسوا الفضل بينكم» - فلا يفوتهما أن يستقيما على حدود قوله سبحانه: «وأتمروا بينكم بمعروف» وأنه إذا كان قد وقع من أحدهما أو كليهما خروج على حدود الله فى الفرقة التي وقعت بينهما، فإنه ينبغى ألا يضاعف هذا العدوان بعدوان آخر على حدود الله، بظلم هذا الوليد، الوافد من عند الله، ضيفا عليهما..
وقوله تعالى: «وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى» أي أنه إذا لم يقع بين الرجل ومطلقته اتفاق على أن تقوم الأم بإرضاع الولد، سواء أكان ذلك التعاسر والتشاد من جهة الأب، أو من جهه الأم، فإن الوليد يجب أن يكفل له حقه، وأن تحفظ عليه حياته، وذلك بأن يجد له الأب مرضعا أخرى غير أمه.. فإن لم يكن ذلك ميسورا، أو لم يقبل الطفل ثديا غير ثدى أمه، ألزمت الأم بإرضاع طفلها، وألزم الأب بأداء النفقة، أو الأجر، المناسب للأم..(14/1012)
وفى إسناد التعاسر إلى الأبوين، وإن كان ذلك من أحد الطرفين، للإشارة إلى أن هذا التعاسر الذي وقع، هو محسوب عليها معا.. لأنه إذا كان التعنت والتشدد من أحدهما، فإنه كان من الممكن- لو تلطف الطرف الآخر، وحاسن ولم يلق التعنت بالتعنت- كان من الممكن أن يتم الاتفاق ويقع التياسر بينهما.. ولهذا فهما شريكان فى التعاسر الذي يقع بينهما.
قوله تعالى:
«لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» ..
هو أمر بالنفقة الواجبة على الوالد لزوجه وولده، وأنها إنما تكون فى حدود طاقته، فى حال يسره، أو عسره، غير منظور فى هذه النفقة إلى حال الأم، فى يسر أو عسر..
وقوله تعالى: «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» أي ومن ضيّق عليه فى رزقه، فإنه لا يعفى من النفقة على طفله، وإنما عليه أن ينفق مما هو متاح له، وإن كان قليلا.. فإنه هو المسئول عن أمر هذا الطفل، ولن يرفع عنه عبء هذه المسئولية بحال أبدا.. فكما هو عامل بكل وسعه على الإنفاق على نفسه وحفظ حياته من التلف، كذلك يجب أن يعمل بما فى وسعه على الإنفاق على هذا الوليد الذي هو بعض منه..
وقوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» - هو رفع الحرج، ودفع للمشقة التي قد يحمل عليها الأب فى سبيل الإبقاء على ولده، وأنه إذا كان المطلوب من الأب شرعا وطبعا أن ينفق على ولده، فإن ذلك إنما يكون فى حدود الطاقة، وعلى قدر الإمكان.. «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» ..(14/1013)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
فالولد نعمة، لا ينبغى أن تكون نقمة يشقى بها أىّ من الأب أو الأم..
وقوله تعالى: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً..» هو وعد من الله سبحانه للمضيّق عليهم فى الرزق، يأن هذا الضيق إلى سعة، وإن هذا العسر إلى يسر، فليتحمل الأب هذا الضيق، وألا يضيق به، ثم ألا يحمله الضيق على أن يلتوى فى سلوكه إزاء الإنفاق على ولده الرضيع، أو يتحلل من هذا الواجب المفروض عليه..
الآيات: (8- 12) [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)(14/1014)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً» .
مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة قد رسمت حدودا أقامها الله سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوجين، وما قد يعرض لهذه العلاقة من عوارض تنتهى إلى الفرقة بينهما، وقد توعّد الله سبحانه الذي يتعدّى هذه الحدود من الزوجين..
وهنا فى قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها.. الآية» - عرض لمن يتعدّون حدود الله عامة، وما يأخذهم الله به من بلاء ونكال فى الدنيا، ومن عذاب شديد منكر فى الآخرة..
وفى هذا العرض، يرى كلّ من الزوجين أنهما إذا خرجا عن حدود الله، فلن يفلتا من سلطانه، ولن ينجوا من حسابه وعقابه، لأن أيّا منهما مهما بلغ من جاهه وسلطانه، فلن يكون أقوى من أية قرية من تلك القرى التي اغترت بقوتها، وبسطة الرزق لها، فعتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها الله حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا..
وكاين: بمعنى «كم» الخبرية التي تفيد التكثير، أي وكم من القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها الله حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا؟
فما أكثر هذه القرى التي وقعت تحت هذا الحكم..
وعتت: من العتو، وهو التطاول بالبغي والعدوان، والتمرد والعصيان، عن استعلاء وتكبر.. والنكر: الشديد الأليم.(14/1015)
قوله تعالى:
«فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» .
أي أن هذه القرية- ومثلها كثير من القرى الظالمة العاتية- قد ذاقت عاقبة أمرها الوبيل، وتجرعت كئوس العذاب، فكانت نهايتها الخسران المبين فى الدنيا حيث دمر الله عليها وعلى أهلها..
قوله تعالى:
«أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.. فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» .
أي، وإذا كان مصير هذه القرى العاتية الظالمة، هو الخراب والدمار فى الدنيا، فإن ذلك ليس هو نهاية مطافها، وإنما هناك عذاب الآخرة الذي أعده الله لأهلها، وهو عذاب شديد، لا يقاس به ما حلّ بهم من عذاب فى الدنيا.
وفى الحديث عن القرية فى قوله تعالى: «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» ثم الحديث عن أهلها فى قوله تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ..»
فى هذا تفرقة بين حالين: فالحال الأولى فى الدنيا، حيث تشهد القرية مصارع أهلها، وحيث يشملها من الخراب والدمار ما يجعلها بعضا من هؤلاء القوم الذين وقع بهم عذاب الله. ولهذا جاء الحديث عن القرية.
أما الحال الثانية، التي تتحدث فيها الآيات عن القوم، فهى عن حالهم فى الآخرة، حيث لا قرى لهم، وحيث يلقون العذاب ولا شىء معهم مما كان لهم فى الدنيا من مال، ومتاع، وديار، ولهذا جاء الحديث عن أهل هذه القرية.
وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ» .. هو إلفات لأهل العقول(14/1016)
وأصحاب البصائر، أن يكون لهم مزدجر، من هذا الذي حلّ بالظالمين، المعتدين، من نقم الله، فى الدنيا، ومن العذاب الشديد فى الآخرة، وأن يتقوا الله، ويلتزموا حدوده، حتى لا يحلّ بهم ما حلّ بالظالمين من قبلهم.
وإنما خوطب أولو الألباب، لأنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بهذا الخطاب، وأن يكون لهم من عقولهم داع يدعوهم إلى الاعتبار، وإلى تلقّى العظة مما وقع لغيرهم، قبل أن ينزل بهم.. فالعاقل من اتعظ بغيره، قبل أن يكون هو عظة لغيره..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا» هو بدل من قوله تعالى: «يا أُولِي الْأَلْبابِ» أو صفة لأولى الألباب، أي فاتقوا الله أيها العقلاء المؤمنون.. فإن الذين آمنوا، إنما آمنوا بما معهم من عقول دلتهم على مواقع الهدى، وأرتهم ما فى الإيمان من خير فآمنوا.. أما الذين أمسكوا بكفرهم وضلالهم، فإنهم ليسوا من أصحاب العقول..
«إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (44: الفرقان) .. ومن تمام الإيمان أن يسلك بصاحبه مسالك الهدى، وأن يقيمه على التقوى.. أما الإيمان- مجرد الإيمان- فإنه إن لم يتحول إلى طاقة من القوى الدافعة إلى السلوك الحميد، والعمل الطيب، كان زرعا بلا ثمر.
وقوله تعالى: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» أي قد أنزل الله إليكم ما فيه تذكرة لعقولكم، وهو القرآن الكريم، فانظروا فيه، وتدبروا آياته، وستجدون منه الهدى، والنور..
وقوله تعالى: «رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» ..
رسولا، بدل من «ذكرا» فى قوله تعالى: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» فهذا الذكر الذي أنزله الله إليكم، يتمثل فى هذا الرسول الذي يتلو عليكم آيات الله البينات الكاشفات لطريق الحق، والهدى..(14/1017)
وفى تسليط الفعل «أنزل» على الذكر، الذي هو القرآن، ثم على الرسول الذي يتلو آيات الله- فى هذا إشارة إلى مقام الرسول الكريم، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- أشبه بآية من آيات الله المنزلة من السماء، وأنه منزل إليهم من عند الله، كما تتنزل عليهم آياته.. وهذا يعنى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو فى ذاته مصدر هدى، ومطلع رحمة ونور، وأنّ من عجز عن أن يدرك ما فى آيات الله من حق وخير، يستطيع أن يرى تأويل آيات الله فى رسول الله.. فهو صلوات الله وسلامه عليه- كتاب الله المنظور، على حين أن القرآن هو كتاب الله المسموع.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45، 46 الأحزاب) .. فهو صلوات الله وسلامه عليه- سراج منير مرسل من عند الله، كما أن القرآن الكريم «كِتابٌ مُبِينٌ» منزل من عند الله..
وقوله تعالى: «لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
هو بيان لمطالع الهدى من رسول الله، ومن كتاب الله الذي بين يديه، وأن هذه المطالع إنما تطلع على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنهم هم الذين يستضيئون بهذا الهدى، فيخرجون من دائرة الظلام إلى حيث يكون النور.. أما الذين كفروا، فهم فى عمى، وفى ضلال، كما يقول سبحانه: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» (44: فصلت) ..
قوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» .(14/1018)
هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لمن آمن بالله وعمل صالحا، وانتفع بهذا النور الذي أنزله الله- بأن يدخله الله جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدا فيها، لا يتحول عنها أبدا، حيث يرزق رزقا حسنا من فضل الله وإحسانه، فى هذه الجنات التي ينعم فيها بما شاء من نعيم لا يحيط به وصف..
وفى إسناد الإيمان والعمل الصالح ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها- فى إسناد هذه الأفعال إلى ضمير المفرد: «يؤمن بالله.. ويعمل صالحا.. يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار.. قد أحسن الله له رزقا» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الأفعال، إنما هى من شأن الإنسان نفسه، وجزاؤها واقع عليه وحده..
فالإيمان، والعمل الصالح، مطلوبان من الإنسان، كإنسان له وجود ذاتى، يناط به التكليف، وتقع عليه آثار أعماله من حسن أو سيء..
ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها، هو الجزاء الذي يتلقاه المؤمن جزاء إيمانه وعمله الصالح.
أما إسناد الخلود فى الجنة إلى جماعة المؤمنين الذين أدخلهم الله الجنة مع هذا المؤمن، فذلك لأنهم جميعا شركاء فى هذا الخلود.. فكلهم خالد فى هذه الجنات، وإن اختلفت منازلهم فيها بحسب أعمالهم.. فهم فى المنازل على أحوال مختلفة، كلّ فى منزلته، وإن كانوا فى الخلود على سواء..
ثم إن الخلود فى الجنة يوحى بثقل هذا الزمن الذي لا ينتهى، وخاصة إذا كان المرء وحده، فى عزلة داخل زمن لا حدود له.. فإذا كان هذا الخلود مع مشاركة لأعداد من الناس لا حصر لها، كان ذلك الخلود سائغا، بل ومطلوبا، حيث يأنس الناس بالناس- وفى هذا يقول المعرى:(14/1019)
ولو أنّى حبيت الخلد وحدي ... لما أحببت فى الخلد انفرادا
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» ..
هو عرض لقدرة الله، وبسطة سلطانه، على هذا الوجود، وأنه سبحانه خلق سبع سموات، وخلق من الأرض سبع أرضين..
وليست المثلية التي بين السموات، والأرض مثليّة فى القدر، والحجم، وإنما هى مثلية فى التنوع والاختلاف، فكما أن لكل سماء نظاما، مختلفا عن الأخريات، كمّا وكيفا، كذلك لكل إقليم من أقاليم الأرض، أو كل طبقة من طبقاتها، نظام، يختلف عما سواه، قدرا، وكيفا..
ومن النظر فى خلق السموات والأرض، يتبين ما لله سبحانه وتعالى من قدرة، وماله سبحانه، من علم قائم على هذه العوالم، يضبطها، ويدبّر أمرها..
ومن علم هذا، علم أنه- كإنسان مخلوق لله- لا يخرج عن سلطان الله، ولا يغيب عن علم الله شىء مما عمل، وأنه محاسب على ما يعمل من خير أو شر، فليتق الله، وليعمل صالحا، حتى لا يقع تحت غضب الله، وينزل منازل الهلكى، من الضالين المكذبين بآيات الله، ورسل الله..(14/1020)
66- سورة التحريم
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: اثنتا عشرة آية..
عدد كلماتها: مائتان وأربعون كلمة..
عدد حروفها: ألف وستون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «الطلاق» - قبل هذه السورة- وقد بينت للمؤمنين الحدود التي ينبغى للمؤمنين أن يلزموها فى العلاقات التي بين رجالهم ونسائهم، فى حال ينتهى الأمر فيها إلى الطلاق، وحلّ عرا الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة..
ولما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم- كبشر- علاقات زوجية، كالعلاقات التي بين رجال المؤمنين ونسائهم، وأن هذه العلاقات، قد يعرض لها ما يعرض للعلاقات بين المرء وزوجه، فكان من المناسب أن تجىء سورة «التحريم» عقب سورة «الطلاق» لما كان فيها من حديث عن النبىّ خاصة، وعمّا يقع فى محيط حياته الزوجية.. وفى هذا التخصيص تكريم للنبى الكريم، ورفع لقدره عند ربّه.(14/1021)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
نداء كريم، من رب كريم، إلى نبى كريم، يؤثر على نفسه، حتى ليحرم ما أحل الله له، فى سبيل مرضاة أزواجه اللائي تظاهرن عليه، وكدن له هذا الكيد الذي توعدهن الله عليه، ودعاهن إلى التوبة منه.. ففى هذا الاستفهام(14/1022)
دعوة للنبى من ربه أن يرفق بنفسه، وألا يحملها على ما يكره، فى سبيل إرضاء غيره.. وهذا من لطف الله سبحانه برسوله الكريم، وليس عتابا، ولا لوما، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين.
ويذكر المفسرون لهذه الآية وما بعدها أسبابا لنزولها.. ومن الأسباب التي يذكرونها، والتي نراها أقرب إلى مفهوم الآيات من غيرها- ما بروى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أهديت له مارية القبطية، أدخلها ذات مرة حجرة زوجه، حفصة بنت عمر، وكانت حفصة غائبة، فلما جاءت، ووجدت النبي، ومارية فى حجرتها، غضبت، وقالت فيما قالت للنبىّ:
إنه ما اتخذ حجرتها مأوى لمارية، دون حجرات غيرها من نسائه، إلا لهوا نها عليه.. فأرضاها النبىّ الكريم، وحلف لها ألا يقرب مارية بعد هذا، وأوصاها ألا تتحدث بما كان إلى أحد من نسائه، حتى لا تثير غيرتهن فى أمر قد قضى النبي قضاءه فيه، وهو تحريم مارية..
قالوا، ولكن الذي حدث، هو أن حفصة أذاعت هذا السر، وأفضت به إلى عائشة- رضى الله عنها وعن أزواج رسول الله جميعا- وكان من هذا حديث متصل يدور بين أزواج النبي تألّم منه النبي، وضاق به صدره فآلى «1» من نسائه جميعا، ألا يقربهن شهرا.
وفى هذا نزلت الآية: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» والآيات التي بعدها..
__________
(1) الإيلاء: الحلف بيمين غير الطلاق وهو أن يحلف المرء على زوجه ألا يقربها مدة معينة، لا نتعدى أربعة أشهر. [.....](14/1023)
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» - ليس عتابا، كما يبدو.
وإنما هو دعوة من الله سبحانه وتعالى- فى لطف ورفق- إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ألا يحرم ما أحل الله له، وألا يشق على نفسه بالأخذ باليمين الذي حلف بها، وقد جعله الله سبحانه وتعالى فى سعة من أمره، بالتحلّه من هذه اليمين، وذلك بالكفارة عنها.
وقوله تعالى: «تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» حال من فاعل الفعل «تحرم» وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، أي لم تحرم ما أحل الله لك، مبتغيا بهذا التحريم مرضاة أزواجك.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ» - هو دعوة للنبى الكريم إلى أن يتحلل من يمينه التي حلفها بألا يقرب (مارية) .. فالله سبحانه يغفر له هذه اليمين بالكفارة عنها، والله- سبحانه- غفور، وهو سبحانه «رحيم» وإن أولى الناس برحمة الله، هو رسول الله، فليرحم الرسول الكريم نفسه، ولا يشقّ عليها بهذا التحريم لما أحل الله له، فى سبيل مرضاة أزواجه، إذ كانت مرضاتهن عدوانا على حق النبي، فى التمتع بما أحل الله له.
وقوله تعالى:
«قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» هو بيان لبعض آثار مغفرة الله ورحمته، وهو ما فرضه سبحانه، وقضى به، من التحلل من الأيمان بالكفارة عنها، إذا كان التحلل من اليمين خيرا من إمضائها..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير» .(14/1024)
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ» - إشارة إلى لطف الله سبحانه، ورعايته لمواليه، فالخلق كلهم عبيد الله، والله سبحانه سيدهم، ومولاهم..
فى هذا إشارة إلى- مارية- التي كانت مولاة وملك يمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن زوجا له بعد.. وأن مارية، وغيرها من نساء النبي على سواء عند الله، لأنهن جميعا من موالى الله سبحانه وتعالى.. فلم ينظرن إلى «مارية» هذه النظرة التي يرينها فيها أبعد من أن تأخذ مكانها معهن فى بيت رسول الله؟
وقوله تعالى:
«وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» أي أن الله سبحانه- وهو مولاكم- هو العليم بكن وبمن هو أولى عنده بالفضل والإحسان.. «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» (32: النجم) .. وهو سبحانه الحكيم فى تقديره وتدبيره، وفى وضع كل مخلوق بموضعه المناسب له.
قوله تعالى:
«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» تعرض هذه الآية الحديث الذي أسرّه النبي إلى بعض أزواجه، وهو- كما أشرنا من قبل- الحديث الذي أسرّ به النبىّ إلى «حفصة» وطلب إليها ألا تخبر أحدا من نسائه، وأنه التقى «بمارية» فى حجرتها..
وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» أي أخبرت به غيرها، وأعلنته بعد أن كان مستورا، وأظهرته بعد أن كان خافيا..(14/1025)
وفى التعبير عن كشف هذا السرّ بقوله تعالى: «نَبَّأَتْ بِهِ» إشارة إلى ما كان لهذا الحديث عند إظهاره من أثر فى بيت النبىّ، وأنه أحدث هزّة، كشأن كل نبأ.. لأن النبأ هو الخبر المثير، الذي يغطّى على غيره من الأخبار..
وقوله تعالى: «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» أي أعلم الله النبىّ بهذا الخبر الذي أذاعته حفصة، على ما كان يجرى بين نسائه من حديث بشأنه.
وقوله تعالى: «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» - هو جواب «لمّا» أي لما أذاعت «حفصة» هذا السرّ، وأعلم الله النبىّ بما حدث: «عرّف بعضه وأعرض عن بعض» أي كشف النبي عن بعض هذا الحديث الذي أذاعته حفصة، ولم يذكر لها كل ما دار بينها وبين من أفضت لها به، وما اتفقتا عليه من كيد فيما بينهما.. وذلك حتى لا يجرح شعورها، ولا يخدش حياءها، فلم يصرح لها بكل ما عرف، بل أخبرها بهذا فى إشارة دالة غير فاضحة.. فإن الكريم لا يستقصى.. ومن أكرم من سيد الكرماء عليه الصلاة والسلام؟
وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» أي حين علمت حفصة من النبي أنه يعلم كثيرا مما دبرت هى وصاحبتها من كيد، سألت النبي عمن أنبأه بهذا الحديث الذي كان بينها وبين صاحبتها، والذي لم يكن معهما من شهد ما تحدث به، فقال لها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- «نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» أي الذي أخبرنى بما أسررتما، هو الله سبحانه، وهو العليم بكل شىء، الخبير بما فى السرائر من خير أو شر.
قوله تعالى:
«إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» ..(14/1026)
هو دعوة إلى اللتين دبر تا هذا الكيد النبىّ، سواء أكانتا حفصة وعائشة، أم غيرهما، من أزواجه- صلوات الله وسلامه عليه- هو دعوة إليهما من الله سبحانه وتعالى، أن يتوبا إليه جل شأنه، مما كان منهما فى حق النبىّ، وفيما وقع فى نفسه الشريفة من أذى من فعلهما، وإن كانتا لم تقصدا النبىّ بأذى، وإنما كان ذلك عن تنافس فى حبه، وحرص على أن تنال كل واحدة من نسائه أكبر قدر من القرب منه، والاستظلال بظل جلال النبوة وعظمتها..
وقوله تعالى: «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» هو سبب متصل بالشرط: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» أي إن تبتما إلى الله، إذ قد صغت قلوبكما، أي مالت عن قصد السبيل.. ويكون الشرط دعوة آمرة بالتقوى، أي توبا إلى الله فقد صغت قلوبكما..
فإن تبتما إلى الله غفر الله لكما.. فجواب الشرط محذوف..
وفى جمع القلوب، مع أن المخاطب مثنى إشارة إلى أن القلبين قد أصبحا قلوبا، لما وقع فيهما من خواطر مختلفة، ذهب كل خاطر بشطر منها.. فكان كل قلب مجموعة من القلوب..
وقوله تعالى:
«وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ.. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» ..
أي وإن لم تتوبا إلى الله، وتمضيا فيما أنتما فيه من كيد للنبىّ ومن تظاهر بينكما وتساند فى الكيد له- فإن الله هو مولاه الذي يدفع عنه هذا الكيد وجبريل، ظهير له، وناصر، بما ينزل عليه من آيات ربه، وكذلك كل صالح من المؤمنين.. هو ظهير للنبىّ، ومدافع عنه.. ثم الملائكة جميعا، هم عون النبىّ فى(14/1027)
كل موقف من مواقفه.. فجبريل والصالح من المؤمنين، والملائكة، هم جميعا جند الله.. وإذا كان الله سبحانه هو مولى لرسول الله، فإن هؤلاء الجند هم فى نصرة من يتولاه الله..
وفى إفراد صالح المؤمنين، إشارة إلى أن الذي يكون فى هذا الركب الكريم الذي ينتظم الملائكة، لا بد أن يكون على درجة عالية من الإيمان، يكاد يرتفع بها إلى عالم الملائكة.. وهذا نفرر قليل من المؤمنين، يعدّون فردا فردا..
وقوله تعالى: «وَجِبْرِيلُ» مبتدأ، وقوله تعالى: «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ» معطوف عليه..
وقوله تعالى: «بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» - خبر للمبتدأ.. أي أن هؤلاء جميعا، هم بعد أن يدخل النبىّ فى ولاية الله سبحانه وتعالى له، يكونون سندا وعونا للنبىّ..
قوله تعالى:
«عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً» ..
هو تهديد لأزواج النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إن لم يستقم أمرهن معه، وقد دعاهن الله سبحانه إلى التوبة، ثم تهددهن إن هن تظاهرن على النبىّ أن الله سبحانه هو مولاه، ولن يتخلى عنه، وقد جعل له من جبريل ومن صالح المؤمنين، ومن الملائكة أعوانا وجندا يسندونه، ويشدون ظهره..(14/1028)
والتهديد هنا بطلاقهن، وخروجهن من بيت النبوة، ثم باختيار الله سبحانه وتعالى، النبىّ من النساء، من هنّ أهل للسكن فى بيت النبىّ، والاستظلال بظل النبوة..
والأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى الآية النساء اللاتي يختارهن الله سبحانه للنبىّ- هى أوصاف، وسمات، قائمة فعلا فى أزواج النبىّ، وأن كل واحدة منهن تتميز بصفة ظاهرة من هذه الصفات، هى الغالبة على أحوالها..
فمنهن من غلبت عليها صفة الإسلام، الذي هو سمة للسلام، والموادعة واللطف، ومنهن من غلبت عليها صفة الإيمان، ومنهن من غلبت عليها صفة القنوت وهكذا..
وهذا يعنى أن زوجات النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- قد تخيرهن الله سبحانه من أهل الإيمان والكمال، كما يقول سبحانه: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» (26: النور) .. أما الاستبدال بخير منهن، فإن هذا إنما يكون فى حال هنّ فيها خارج بيت النبوة، وذلك إذا لم يتبن إلى الله، ولم يصلحن ما أفسدن من علاقة بينهن وبين النبىّ، بعد هذا الغبار الذي أثاره هذا الحديث الذي ذاع بينهن.. أما وهنّ فى بيت النبوة لم يخرجن من هذا الحمى الطهور، فإنهن خير نساء خارج بيت النبوة..
هذا، وفى العطف بالواو بعد ذكر تلك الصفات السبع الأولى من غير عطف- يشير إلى أمرين:
أولهما: قطع هذه الرتابة التي امتدت وطالت، بذكر تلك الصفات على نغم واحد.. «مُسْلِماتٍ.. مُؤْمِناتٍ.. قانِتاتٍ.. تائِباتٍ» عابدات..
سائحات ثيبات..
ذلك أن من إعجاز النظم القرآنى، أنه يوقظ المشاعر والمدارك، بهذه الطّرقة الخفيفة، التي تجىء بعد هذا التوقيع التعالي، المتشابه من النغم، الذي من شأنه(14/1029)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
أن يبعث شيئا من الخدر والفتور بتلك المتتاليات الواقعة على الأذن.. فإذا جاءت هذه «الواو» أحدثت تغييرا فى مجرى النغم، فيتنبه السامع، ويستيقظ من إغفاءته..
وثانيا: أن هذه الصفات السبع التي سبقت حرف العطف، يمكن أن تكون فى مجموعها مما تتصف به المرأة الواحدة، فتجمع بين الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتوبة، والتعبد، والسياحة، أي الصوم، والثيوبة..
أو البكورة.. أما أن تكون ثيبا وبكرا فهذا محال.. ولهذا جاء العطف هنا، فكانت الثيوبة مع ما سبقها من صفات، مما يمكن أن تكون عليه حال بعض النساء.. وكانت البكورة مع ما سبقها أن تكون لبعض آخر منهن..
وقد جاء على هذا الأسلوب من النظم قوله تعالى: فى سورة التوبة:
«التَّائِبُونَ.. الْعابِدُونَ.. الْحامِدُونَ.. السَّائِحُونَ.. الرَّاكِعُونَ.. السَّاجِدُونَ.. الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ.. وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (الآية: 112) .. فقد جاء العطف بعد سبع صفات، فى سرد لم يتوسطه حرف عطف، كما أن المعطوف لم يكن آخر ما يعطف، بل عطفت عليه صفة أخرى..
وهذا يقوى من الرأى للقائل بأن رتابة السرد، هى التي تقضى بهذا العطف عند بلوغ حد معين من المسرودات، لا يتجاوز سبع كلمات..
الآيات: (6- 9) [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)(14/1030)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» .
مناسبة هذه الاية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد عرضت لهذا الحدث الذي وقع فى بيت النبىّ، حيث هناك أطهر النفوس وأكرمها، ومع هذا فإن النفس البشرية، لم تسلم من العوارض التي تظهر فى سمائها الصافية حينا بعد حين، فتحتاج إلى محاسبة ومراجعة، حتى تنقشع هذه السحب عن سمائها، ويعود إليها صفاؤها، وإشراقها..
فإذا كان هذا فى بيت النبوة، فما ظنك بما يقع فى آفاق النفوس خارج هذا البيت الكريم، من زلات، وهزات، تتصدع لها النفوس، وتضلّ معها العقول؟
وإذن، فالأمر يحتاج إلى مراقبة دائمة من الإنسان لنفسه، وحراسة واعية من الآفات التي تتهدد إيمانه، وترعى مواطن الخير فيه..(14/1031)
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» . هو تنبيه للإنسان من غفلته عن الأعداء المتربصة به، وبأهله، والتي إن لم يأخذ حذره منها أوردته موارد الهلاك، هو وأهله..
ووقاية الإنسان نفسه، من النار، هى فى أن يستقيم على شريعة الله، ويقف عند حدود أوامرها ونواهيها.. ففى ذلك سلامته من عذاب السعير..
أما وقاية أهله، فتكون بنصحه لهم، وإرشادهم إذا ضلّوا، وتنبيههم إذا غفلوا.. ثم قبل هذا كله، يجب أن يكون هو القدوة الحسنة لهم، فى طاعة الله، وفى اتقاء حرماته.. لأن الخطاب هنا إنما هو لرأس الجماعة، فى الأسرة، ونحوها، كالأب، والأخ الأكبر، والعالم، وذوى الوجاهة والمكانة فى هذا المجتمع الصغير.. فهو هنا مسئول مسئولية الراعي عن رعيته، كما يقول الرسول الكريم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» .
وفى قوله تعالى: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» - إشارة إلى قوة الطاقة الحرارية لهذه النّار، التي تجعل الحجارة وقودا لها، كما توقد نار الدنيا بالحطب..
وقوله تعالى: «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» - هو عرض لخزنة جهنم وحرّاسها، وما هم عليه من غلظة وشدّة.. فهم بهذه الغلظة وتلك الشدة يتعاملون مع أعنى المجرمين، وأضل الضالين.. وهم بما يطلع على أهل النار من غلظتهم وشدتهم- هم عذاب إلى عذاب! قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو خطاب للكافرين الذين سيردون هذه النار، وسيكونون حطبا ووقودا لها- خطاب لهم بألا يعتذروا فى هذا اليوم، يوم القيامة، فإنه لا يقبل منهم عذر، فهذا وقت الجزاء بما عمل العاملون، وقد عملوا هم السوء، فكان(14/1032)
جزاؤهم هذا العذاب الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) .
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
هو دعوة إلى المؤمنين عامة، أن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا إليه كلّما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه، بما اقترفوا من آثام، وما اجترحوا من سيئات..
فإن التوبة تغسل الحوبة، وهى الأسلوب الذي يصالح به العبد ربّه، ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه.
والتوبة النصوح، هى التوبة الصادرة عن قلب مفعم بالندم، وعن ضمير مثقل بما خالطه من إثم، ومن وراء ذلك عزيمة صادقة، ونيّة منعقدة على عدم العودة لما كان منه التوبة..
وقوله تعالى: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .
عسى، وإن كانت أسلوبا يفيد الرجاء، فإن هذا الأسلوب إذا تعلق بالله سبحانه وتعالى، كان معناه الوجوب، والوقوع.. لأن الرجاء إنما يكون فى حقّ من لا يقدر، والله سبحانه قادر على كل شىء.. أما استعمال أسلوب الترجّى فى جانب الله سبحانه وتعالى، فهو منظور فيه إلينا، وإلى أنه ينبغى أن نقيم أمرنا مع الله على رجاء، فلا يأس من رحمته، ولا قطع بالنجاة من عذابه، وبهذا يكون العبد المؤمن على صلة دائمة بالله، يرجو رحمته، ويخشى عذابه..(14/1033)
كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ.. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» (57: الإسراء) .
وقوله تعالى: «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» ظرف متعلق بقوله تعالى «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» أي يدخلكم الجنات يوم لا يخزى الله النبىّ والذين آمنوا معه..
ونفى الخزي عن النبىّ والذين آمنوا معه، هو إدخالهم الجنة، وعرضهم يوم القيامة فى معرض التشريف والتكريم، حيث يعرض الكافرون معرض الخزي والهوان..
ولقد كان من دعاء المؤمنين ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» (194: آل عمران) وهو الدعاء الذي دعا به إبراهيم ربّه.. فى قوله تعالى على لسانه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (87- 89: الشعراء) ..
وقوله تعالى: «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - هو حال من أحوال المؤمنين فى هذا اليوم، وذلك أنهم وهم سائرون إلى الجنة، يتقدمهم نور يسعى بين أيديهم، ونور يشع فى أيمانهم، وهو الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم، فكانت تلك الأعمال- لحسنها- نورا يسعى بين أيديهم.. ثم إنهم وهم فى طريقهم إلى الجنة، مع هذا النور الذي يسعى بين أيديهم كما يسعى الخدم بين يدى الضيوف القادمين على مضيف كريم- إنهم وهم فى الطريق إلى الجنة، يكونون على إشفاق من أن ينقطع عنهم النور الهادي، فيسألون ربهم قائلين:(14/1034)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
«ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا ما نجد فى صحف أعمالنا من سيئات، فإنك على كل شىء قدير، وإن من شأن القادر العفو والصح، والمغفرة..
وقد غفر الله لهم، وأتم لهم نورهم، فمضى معهم نورهم إلى أن دخلوا جنات النعيم..
جعلنا الله منهم، وألحقنا بهم..»
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد توعدت الكافرين بالنار التي وقودها الناس والحجارة، وأنهم إذا اعتذروا وهم على طريق النار فلن يقبل منهم عذر، لأن الله إنما أخذهم بهذا العذاب الغليظ لما ارتكبوا من منكر غليظ هو الكفر..
وإذ كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو دعوة الحق إلى الإيمان بالله، وإذ كان الكافرون هم الذين يقفون فى وجه هذه الدعوة، ويصدون الناس عن سبيل الله، فقد ناسب أن يقوم النبي فى هذه الحياة الدنيا بما يملك من وسائل الردع والكبت، للكافرين.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه.. سلطان الله، وبهذا السلطان يودّب العصاة، ويأخذ المجرمين..
ولهذا ناسب أن تأخذ الآية الكريمة مكانها هنا..
الآيات: (10- 12) [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(14/1035)
التفسير:
قوله تعالى:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ..
مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما سبقها من آيات، هى أن السورة قد عرضت لمواقف كانت من أزواج النبي، عليه الصلاة والسلام، وقد كادت هذه المواقف تخرجهن من بيت النبوة، وتحرمهن هذا المكان الكريم اللائي هن فيه، محفوفات برحمة الله ورضوانه- فناسب ذلك أن تجىء هنا تلك الآيات التي تعرض أحوالا مختلفة لبعض النساء.. حيث كان بعضهن فى بيت النبوة، فلما لم يستقمن على طريق الحق والخير، أخذهن الله ببأسه، وألقى بهن خارج بيت النبوة، يتخبطن فى ظلمات الضلال والكفر، وكانت عاقبتهن الخسران، والوبال، والعذاب فى نار جهنم، ولم يغن عنهن حرم النبوة اللائي تحصنّ فيه ظاهرا، وهتكن ستره باطنا..
والمثل البارز هنا، ما كان من امرأة النبيين الكريمين: نوح ولوط، «كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما» أي أخذتا طريقا غير(14/1036)
طريقهما، ووقفتا منهما موقف العدوّ المحادّ لهما.. «فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أي لم يكن لهما من النبيين الكريمين شافع يردّ عنهما بأس الله، فأهلكهما لله فى الدنيا مع القوم الظالمين، إحداهن بالغرق، والأخرى برجوم السماء.. أما فى الآخرة، فالنار مثواهما مع أهل الكفر والضلال:
«وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ..
وعلى عكس هذا، ما كان من امرأة فرعون.. حيث ضمّها إليه رجل كان من أشد عباد الله كفرا، وأبعدهم فى الضلال مذهبا.. ومع هذا فقد استنارت بصيرتها بنور الهدى، فآمنت بالله، وأبصرت طريقها إليه وسط هذا الظلام الكثيف المتراكم.. وبهذا نجت بنفسها من هذا المصير الذي صار إليه فرعون والملأ الذين معه.. «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لها، وأدخلها فى عباده المؤمنين، وأبقى لها ذكرا خالدا فى المكرمين من عباده..
وهذه مريم ابنة عمران، التي نذرتها أمها للخدمة فى بيت الله، والعمل فى طاعته.. إنها نبتة طيبة، فى منبت طيب.. قد قام أمرها على الطريق المستقيم، وهى فى بطن أمها، فلما استقبلت الحياة احتواها بيت الله، وضمها إليه نبى من أنبياء الله، هو زكريا عليه السلام.. وهكذا كانت عناية الله تحفّ بها، وألطافه تتوالى عليها.. حتى كانت الصلاح، والتقوى، والطهر، وبهذا كانت الأنثى التي استخلصتها الإنسانية كلها، لتلقّى كلمة الله، ولتلد بنفخة من روح القدس، مولودا يتخلق فى كيانها من غير أن يشاركها فيه رجل.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (12: التحريم)(14/1037)
فهذه ثلاثة أمثال، تحتوى النساء جميعا، فى ثلاث مجموعات..
المجموعة الأولى: المرأة التي فسدت طبيعتها.. تكون فى بيئة طيبة، صالحة، فيغلب فسادها، وخبث ريحها، هذا الطيب الذي يهب عليها من بيئتها، فلا تتأثر به، ولا تتقبله طبيعتها التي ألفت هذا العفن الذي ينضح منها..
والمجموعة الثانية، هى المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تكون فى بيئة فاسدة عفنة، فلا تتقبل هذا الفساد، ولا تتأثر به، بل تظل محتفظة بفطرتها السليمة، وبينابيع الخير التي تجرى فى كيانها، فترتوى منها، وتعيش عليها.
والمجموعة الثالثة: المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تنشأ فى بيئة طيبة صالحة، فيزداد طيبها طيبا، وصلاحها صلاحا..
وبقي من هذا التفصيل وجه رابع، لم يذكره القرآن، وهو المرأة الفاسدة طبيعة.. تنشأ فى البيئة الفاسدة.. والسبب فى عدم ذكر هذا الوجه ظاهر، لأن النتيجة اللازمة له، لا تخرج عن حكم واحد، هو ازدياد الفساد فسادا، حين يجتمع الفساد إلى الفساد.. تماما، كما يزداد الصلاح صلاحا باجتماع الصلاح إلى الصلاح.
وهذا يعنى أمورا:
أولا: أن الذاتىّ من الأمور، يغلب العرضىّ، ويقهره.. بمعنى أن ما فى كيان الإنسان من استعداد فطرى، هو القوة العاملة فى الإنسان، وأن ظروف البيئة- مع تأثيرها القوى فى الكائن الحي، وفى الإنسان بالذات، خلقيّا، وعقليّا، ووحيّا- هذه الظروف مهما تكن، فإنها لا تقوى على طمس معالم الاستعداد الفطري المهيأ له الإنسان، سواء أكان ذلك الاستعداد طيبا أو خبيثا.. وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ(14/1038)
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) أي خلقكم فمنكم من كانت خلقته مهيأة للإيمان مستعدة له، ومنكم من كانت خلقته لا تقبل الإيمان أبدا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) وثانيا: أن احتكاك الشر بالخير، كثيرا ما تتولد عنه دوافع قوية، تغرى الخير بالتشبث بموقفه، وإطلاق جميع القوى الكامنة فيه، لدفع هذا الخطر الذي يتهدده.. وإنه لولا هذا الاحتكاك، بين الشر والخير، لظلّت كثير من قوى الخير كامنة، ساكنة أشبه بالطيب فى العود، لا يفوح طيبه إلا عند حكه أو عرضه على النار.. كما يبدو ذلك فى امرأة فرعون.
وهذا يعنى أن ما يبتلى به المؤمنون، الذين صدق إيمانهم، هو تثبيت لهذا الإيمان، وإظهار لكرم جوهره، وصفاء عنصره..
وثالثا: أن الخير وإن كان قليلا فى كمّه، فإنه كثير فى كيفه وأن قوى الشر كلها مجتمعة، لا تستطيع أن تطفئ شعلة الإيمان التي احتواها قلب مؤمن، وإن استطاعت أن تخمد أنفاس هذا المؤمن، وتزهق روحه.. وهذه امرأة فرعون، تقهر بإيمانها جبروت هذا الجبار، وتذلّ كبرياءه، وتلفظه زوجا، وتلفظ سلطانها، ملكة غير آسفة عليه، أو على سلطانها، أو حياتها، فى سبيل الاحتفاظ بهذه الشعلة المقدسة من نور الإيمان، مضيئة فى قلبها.(14/1039)
[الجزء الخامس عشر]
67- سورة الملك
نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الطور.
عدد آياتها: ثلاثون آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة «التحريم» السابقة على هذه السورة، معرضا للصراع بين الخير والشر، والحرب بين الإيمان، والكفر- فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط، وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين.. ثم ما كان من امرأة فرعون، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة، ثم انتصارها، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق، إلى حيث النور والهدى..
ثم كان مما بدئت به سورة «الملك» قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين، والمحسنين والمسيئين- إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة، ولهذا كان مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون موت، ثم تكون حياة بعد هذا الموت، ليحاسب الناس على ما عملوا فى الدنيا، من خير أو شر..
فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة «الملك» مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة «التحريم» .. وبذلك يتأكد المراد منهما معا.(15/1043)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 11) [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
»(15/1044)
التفسير:
قوله تعالى:
«تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
معنى «تبارك» أي تمجّد، وتعظم، وكثر خيره وبركته على مخلوقاته..
فهو.. خبر يراد به إظهار ما أفاض الله سبحانه على هذا الوجود من خير وبركة، فالله سبحانه، بيده الملك كله، لا يملك أحد معه شيئا، وهو سبحانه القادر على كل شىء..
وإنه ليس بكثير على من لا ينفذ خيره، وعلى من يملك كل شىء، ويقدر على كل شىء- أن يفيض هذا الخير على الوجود، حتى لينال منه البرّ والفاجر، وحتى ليكون من الفجار من يملك من متاع الدنيا ما يقيم به سلطانا قاهرا على الناس، مثل فرعون الذي حشر، فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى..
وإنه إذ كانت هنا دنيا يتقلّب فيها الناس، فإن هناك وراء هذه الدنيا حياة أخرى، أخلد وأبقى، وهى الحياة التي خلق الناس فعلا لها، وأنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا، إلا لتكون معبرا لهم إلى الآخرة، كما يقول سبحانه:
«وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64: العنكبوت) .
ولكن كثيرا من الناس جعلوا هذه الحياة الدنيا هى حياتهم، التي لا حياة لهم بعدها، ولهذا فإنهم لم يلتفتوا إلى الحياة الآخرة، ولم يعملوا لها حسابا..(15/1045)
[الموت.. والحياة] وفى قوله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» ..
- فى هذا تنبيه لهؤلاء الغافلين عن الحياة الآخرة، وذلك إذا نظروا فرأوا أن هناك عمليتين تجريان عليهما، وهما الموت والحياة.. فهاتان صورتان تتداولان الإنسان، كما تتداولان عالم الأحياء كله.. فالكائن الحىّ، كان ميتا، أي عدما، ثم أخرجته قدرة الله سبحانه إلى الحياة، ثم تعيده تلك القدرة إلى الموت مرة أخرى.. ثم تردّه إلى الحياة للحساب والجزاء.
فإذا جاء من عند الله من يخبر بأن بعد هذا الموت حياة أخرى، وأن الموت ليس نهاية الإنسان- فهل يقع هذا عند العقلاء موقع الإنكار؟ وكيف والشواهد كلها تشهد بإمكانيته؟ بل وتقطع بأنه أمر لا بد منه، من حيث أن هذه الحياة التي لبسها الإنسان بعد العدم، إنما كانت ليقوم بها على خلافة الله فى الأرض، حيث بسط سلطانه- بعقله- على كل ما فى هذا الوجود الأرضى.. ومخلوق هذا شأنه، لا بد أن يرقى صعدا إلى أفق أعلى من هذا الأفق الأرضى..
وإن هذه الخلافة التي للإنسان على الأرض ليست خلافة جماعية، تحمل فيها الجماعة الإنسانية كلها تبعتها، وإنما هى خلافة يحمل فيها كل فرد مسئوليته، ويحاسب على ما كان منه، فيجزى بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا.. وذلك يقضى بأن يردّ الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، ليحاسب، وليثاب أو يعاقب..
والسؤال هنا، هو:
إذا كان كذلك، وكان لا بد من الحساب والجزاء على ما كان من(15/1046)
الإنسان- فلم لا يحاسب فى الحياة الدنيا؟ ولم الموت ثم الحياة؟ وما حكمة الموت ثم الحياة؟ أليست هذه الحياة الجديدة هى عودة بالإنسان- نفسا وذاتا- إلى حياته الأولى، ووصل لما انقطع منه بالموت؟ وهل يضيف الموت شيئا جديدا إلى الإنسان حتى يكون لموته مساغا..
ونقول: إن هذه التصورات هى نتيجة لهذا الفهم الخاطئ للموت الذي يقع على الإنسان بعد الحياة، حيث يبدو منه أنه انقطاع لجرى حياة الإنسان، ثم إنه بعد زمن ما- قد يطول أو يقصر- يعود إلى الحياة مرة أخرى، يوم القيامة!! ولو فهم الموت على حقيقته، وأنه ليس إلا تحوّلا من منزل إلى منزل، وانتقالا من حال إلى حال- لو فهم الموت على هذا، لما كان لمثل هذه التصورات أن تجد لها مكانا فى تفكير الإنسان، يوقع فى نفسه هذه العزلة الموحشة بين الموت والحياة..
فالموت- فى حقيقته- هو حياة جديدة تلبس الإنسان خارج هذا الجسد الذي تركه الموت جثّة هامدة.. وتلك الجثة الهامدة التي يخلفّها الموت وراءه، هى التي تعطى الموت تلك الصورة المخيفة المفزعة..
ذلك أننا نرى الإنسان فى ثوب الحياة، يموچ بالنشاط والحركة.. ثم يطرقه الموت، فإذا هو هامد همود الجمادات التي بين أيدينا، ثم هو فى لحظة يغيّب فى الثرى، ثم إذا فتّش عنه بعد زمن، رؤى وقد تحول إلى أنقاض، ثم إذا أعيد إليه النظر بعد زمن آخر لم ير لهذه الأنقاض أثر!! وعن هذا التصور، يقول المشركون الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة- يقولون ما يقوله سبحانه وتعالى على لسانهم: «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ(15/1047)
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ ..»
(10: السجدة) ولكن لو جاوزنا هذا الجسد، لوجدنا أن الحياة التي كانت تلبسه، قد اكتسبت بخلاصها منه بالموت، قوة لا حدود لها، حيث حرجت من هذا الحيّز الضيق الذي كان يحتوبها، وانطلقت فى هذا العالم الرحيب، تحلّق فيه بقدر ما احتفظت به من خصائصها الروحية حال تلبسها بالجسد.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهو شرح لمعنى قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) ..
أما أن الميت يبقى بعد موته فى حال همود، وجمود، إلى أن يجىء يوم البعث والنشور، فهذا فهم خاطئ أيضا..
فالإنسان إذ يموت، فإن الموت- كما قلنا- لا يقع إلا على جسده، أما روحه، فإنها تجد فى موت الجسد فرصتها للخلاص من القيد الذي قيدها به..
وعلى هذا، فإن الإنسان إذا مات، فإنما يموت موتا ظاهريّا يرى فى هذا الجسد، وأما هو فى حقيقته، فهو حىّ فى هذا الروح الذي انطلق من الجسد محمّلا بكل ما ترك الجسد فيه من آثار طيبة، أو سيئة.. وفى هذا يقول الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: «من مات فقد قامت قيامته» ..
وهذا يعنى أن الميت إذ يموت، يبعث فى الحال بعثا جديدا، بمعنى أنه يقوم من عالم النوم الذي كان فيه، كما يشير إلى ذلك الحديث الذي ذكرناه من قبل، وهو: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» ..
وهذا يعنى أيضا أن هناك قيامتين: قيامة خاصة بكل إنسان، وهى(15/1048)
قيامته ساعة موته، وهى- كما قلنا- قيامة من عالم النّيام، عالم الحياة الدنيا- ثم قيامة عامة، وهى التي يبعث فيها الناس جميعا من عالم القبور، حيث تلتقى الأرواح بأجسادها مرة أخرى، على صورة يعلمها الله سبحانه وتعالى..
أما هذه الحياة التي عاشها الإنسان على هذه الأرض، فهى اختبار وابتلاء له، تتكشف فيه حقيقة طبيعته التي أوجده الله عليها..
إنه فى هذه الحياة أشبه بحبة بذرت فى الأرض مع ما بذر من حبوب، ثم لا تلبث كل حبة أن تكشف عن حقيقتها، وعن الثمر الذي تثمره، من جيّد أو ردىء.، فإذا آن وقت الحصاد، جمع كل زرع مع ما بشا كله..
وقد يسأل سائل: ولماذا هذا البذر والغرس؟ أليس صاحب البذر والزرع، هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه عالم بما كمن فى هذا البذر من ثمر؟
والجواب على هذا، أن علم الله سبحانه بالمخلوقات قبل أن تخلق، هو علم مكنون.. وخلق المخلوقات فى صورها، وأشكالها، وأزمنتها، وأمكنتها هو إظهار لهذا العلم المكنون، وأنه لولا هذا لما قام الخلق، ولما اتصف سبحانه بصفة «الخالق» ولظلّ الوجود فى حال كمون.. يقول سبحانه:
«هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ» (24: الحشر) .
ويقول سبحانه أيضا: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» (1- 2: العلق) ويقول جل شأنه: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62: الزمر) . فكان مما اقتضته إرادة الله سبحانه أن يخلق هذا الذي خلق من موجودات وعوالم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) .. وبهذا صار لكل مخلوق ذاتيته ومكانه فى هذا الوجود.(15/1049)
فللحياة حكمة، وللموت حكمة، وللبعث بعد الموت حكمة.. «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28. البقرة) .. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115: المؤمنون) وقضية الحياة بعد الموت هى مضلّة الضالين، وهى الغشاوة التي تحجبهم عن الله سبحانه وتعالى، فلا يرون مالله سبحانه وتعالى من قدرة، وأنه سبحانه قادر على كل شىء، وأن بعث الحياة فى تلك الأجساد الهامدة، والعظام البالية، ليس بأبعد فى مجال المنطق الإنسانى، من خلقها أول مرة، من تراب، أو من نطفة من ماء مهبن.. ولكن هل يكون للمنطق مكان عند من ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة؟ «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) قوله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» .
أي أنه سبحانه كما خلق الموت والحياة، خلق سبع سموات طباقا.. أي بعضها ينطبق على بعض، وقائم عليه قيام اشتمال واحتواء، وهذا يعنى أن الوجود دائرى الشكل، وأنه دوائر، بعضها داخل بعض، يجمعها مركز واحد، أشبه بتلك الدوائر التي يحدثها حجر يلقى به فى الماء الساكن، فتنداح من موقع الحجر دوائر، بعضها أكبر من بعض.. وهكذا إلى مالا نهاية.
وقوله تعالى: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» أي ما ترى من اختلال أو نقص فى نظام الوجود، وما أبدع الخالق من مخلوقات.. فكل ما خلق الله يحمل شارة دالّة على قدرة الخالق، وعلمه، وحكمته، وإبداعه فيما خلق-(15/1050)
وفى هذا إلفات إلى قدرة الله سبحانه، وإلى إحكام ما خلق.. وأن كل مخلوق مهما صفر شأنه، وضؤل شخصه، هو صنعة الحكيم العليم، فيه من روعة الصنعة، وقدرة الصانع، ما فى أعظم المخلوقات وأروعها.. فليس فيما صنع الله سبحانه- حسن وأحسن، بل كل ما خلق الله على صفة واحدة، هى الحسن فى أكمل كماله، وأبدع آياته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» (88: النمل) وفى إضافة الخلق إلى «الرحمن» - إشارة أخرى إلى أن المخلوقات إنما خلقت جميعها بيد الرحمة التي مستها جميعا.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (156: الأعراف) .
وقوله تعالى: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» هو دعوة إلى الإنسان أن ينظر بعقله ليرى مصداق قوله تعالى: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» ..
أي أن من شكّ في هذه الحقيقة، أو من لم يقع له بعد علم بها، فليلق بصره على هذا الوجود، وليقف بين يديه وقفة المتأمل الدارس، ثم ليسأل نفسه: هل يرى من فطور؟ أي هل يرى خللا، أو اضطرابا، أو تفاوتا؟
والفطور: هو التشقق، والتصدع، الذي من شأنه أن يصيب الشيء الذي أصيب به.. والفطور إنما يكون فى المواد الجامدة لا السائلة.
وقوله تعالى:
«ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ، يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» أي إذا انكشف لنظرتك التي ألقيتها على هذا الوجود، أنه ليس فى خلق الله من تفاوت، أو من فطور، فلا تقف عند حدود هذه النظرة، التي أعطتك علما يقينيّا بأن ليس فى خلق الله الرحمن من تفاوت أو فطور. فهذا الذي وقع لك من علم، هو خير كثير، فاحرص عليه، واجعل منه زادا تتزود به فى طريقك إلى الإيمان بالله..(15/1051)
ثم اطلب مزيدا من هذا العلم، وذلك بمعاودة النظر بعد النظر، فى ملكوت الله، الذي لا حدود له.. فإنك إن فعلت سلك بك ذلك طريقا لا نهاية له، من العلم اليقينيّ، بقدرة الله، وعظمته، وجلاله. وإن بصرك إذ يعود إليك بعد هذه الرحلة الطويلة السابحة فى ملكوت الله، سيعود إليك «خاسئا» أي منزجرا، مرتدّا فى استخزاء، أمام هذا الجلال الذي ببهر الأبصار، ويخلب العقول، بعد أن يبلغ به التعب والإعياء غايته، وبعد أن يرى الإنسان الذي حصّل ما حصل من علم الدارسين المتفحصين، أنه ما زال على شاطىء بحر لا نهاية له!! والحسير: المتعب الكليل، الذي أعيا من طول النظر.. ويجوز أن يكون المعنى على صورة أخرى، وهى أنه مهما عاود الناظر النظر والبحث وراء الوقوع على تفاوت فى خلق الرحمن، فإنه لن يجد شيئا من هذا، ولو أجهده السير، وطال به المطاف، حتى يسقط إعياء.. وهذا يعنى أن العلم وحده لا يقيم الإنسان على إيمان يقينىّ، إلا إذا التقى هذا العلم بقلب سليم، تنقدح فيه شرارة العلم، فيضىء بنور الحق والهدى.
وفى هذا ما يشير إلى أن العقل، وإن كان من المطلوب منه أن ينظر فى ملكوت الله، وأن يقرأ فى صحف الوجود ما شاء من آيات الله- فإن عليه أن يعلم أنه على ساحل محيط لا نهاية له، وأنه إذا أراد أن يحتوى كلّ ما فى هذا الوجود، فإن ذلك لن يقع له، ولن يجد آخر المطاف إلا العجز والإعياء.. فليرض إذن بما يقع له من علم، وليتخذ من هذا العلم، الشاهد الذي يقيم فى قلبه إيمانا وثيقا بالله، وبماله من قدرة، وعلم، وحكمة، وجلال..
فذلك حسبه من العلم الذي يبلغ به شاطىء الأمان..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» هو إشارة(15/1052)
إلى صفحة من صحف الوجود، التي يمكن أن يرتادها النظر، وأن يقرأ فيها العقل آيات من قدرة الله وإحكام صنعته..
فالسماء الدنيا، هى أقرب سماء إلينا، وهى المطلّة على الأرض التي نعيش عليها..
وإن العين- أي عين- لترى فيها مصابيح تزينها، وتنتثر على صفحتها كأنها اللآلئ.. ومن هذه السماء الدنيا تنطلق رجوم وشهب ترمى بها الشياطين، التي تتطاول إلى هذه السماء، وتحاول الاتصال بالملأ الأعلى.. فالضمير فى قوله تعالى: «وجعلناها» يعود إلى السماء. أي وجعلنا من عالمها رجوما للشياطين..
ويجوز أن يعود الضمير إلى المصابيح، وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» (6- 10 الصافات) .
وفى هذا إشارة إلى أن للعقل حدودا، ينبغى أن يقف عندها فإن تجاوز حدوده، رمى بشهب من الشكوك، فاحترق بنارها، كما يحترق الشيطان الذي يصعّد فى السماء، ويجاوز الحدود التي تحتملها طاقته.. وليس فى هذا حجر على العقل فى الانطلاق إلى أبعد مدى، ولكن ليكن على حذر من أن يضلّ، ويتوه، أو يغرق فى عباب هذا المحيط العظيم.
قوله تعالى:
«وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» - هو وعيد للشياطين، وأنه إذا لم يرجم بعضهم بتلك الرجوم القاتلة فى الدنيا، فإنهم جميعا على موعد مع عذاب السعير، الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم، فى الآخرة.
فقوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا العذاب حاضر(15/1053)
معدّ لهم منذ الأزل.. ومنه قوله تعالى: «هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ» (23: ق) أي حاضر..
وقوله تعالى:
«وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» - هو معطوف على قوله تعالى.. «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» . أي أعتدنا للشياطين عذاب السعير، وللذين كفروا بربهم أعتدنا لهم كذلك عذاب جهنم، وبئس المصير الذي يصيرون إليه.. فالشياطين من الجنّ، والكافرون من الإنس، لهم جميعا عذاب أليم، معدّ لهم، وهو فى انتظار ورودهم عليه يوم القيامة.
قوله تعالى:
«إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ» .. أي أن جهنم هذه التي أعدها الله سبحانه للكافرين، ستلقاهم لقاء يسوءهم، كما يسوءهم عذابها.. إنهم سيجدون منها عدوّا راصدا لهم، كأنّ بينها وبينهم ثارات قديمة، فإذا أمكنتها الفرصة فيهم، أخذتهم أخذ العدوّ عدوّه، حين تمكنه الفرصة منه.. إنه لا يشفى غيظها منهم، إلّا أن تضربهم بكل ما فيها من قوة. فهى تشهق شهيق من وجد فرصته فى عدوه بين يديه، وقد طال انتظاره لها لتلك الفرصة..
إن هؤلاء الكافرين، هم أعداء الله، والنار جند من جند الله المسلط على أعدائه.. فهم لهذا فى موقف العدوّ من هذه النار، المسلطة عليهم من الله سبحانه.(15/1054)
قوله تعالى:
«تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» .
أي أن جهنم حين برد عليها هؤلاء الواردون من أهلها، تلقاهم، مغيظة محنقة، تكاد تميز من الغيظ، أي تتقطع وتتمزق من الغيظ، والحنق عليهم، لا يشفى غليلها، إلا أن تحتويهم، وتجعلهم وقودا لها..
وقوله تعالى: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» - أي كلما ألقى فى جهنم «فوچ» أي جماعة ممن قضى الله فيهم أنهم من أصحاب النار- كلما ألقى فوج من هذه الأفواج المتتابعة، سألهم خرنة جهنم وزبانيتها هذا السؤال: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟» .
وهذا السؤال تقريعى وتوبيخى للواردين على جهنم.. لأنهم ما وردوا جهنم إلا لمخالفتهم النذير، أي الرسول الذي أرسله الله تعالى إليهم، لينذرهم عذاب هذا اليوم، فكذبوا الرسول، ولم يؤمنوا بما جاءهم به من عند الله.. ولو أنهم اتبعوا هذا النذير ما وردوا جهنم.. وهذا يعنى أنه لا يعذّب إلا من بلغتهم رسالة رسل الله، ثم خالفوها، ولم يقبلوا ما دعوا إليه منها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) ..
وفى قوله تعالى: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ» وفى التعبير عن سوق الكافرين إلى جهنم بالإلقاء- فى هذا ما يشير إلى هوان هؤلاء المجرمين، وعدم احترام آدميتهم، وأنهم إنما يعاملون معاملة الأشياء المستغنى عنها،(15/1055)
من النفايات والفضلات، حيث نطرح بعيدا بغير حساب، فتقع حيث تقع، غير ملتفت إليها.
قوله تعالى:
«قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» - هو جواب الواردين على النار، لما سئلوا عنه من زبانية جهنم بقولهم: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» ؟ فكان جوابهم: بلى! أي قد جاءنا نذير، ولكن كذبنا بهذا النذير، وقلنا ما نزل الله من شىء، أي من كتب، وما أرسل من رسل..
وقوله تعالى: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» يجوز أن يكون من جواب أهل النار، ومن مقولاتهم للمنذرين الذين جاءوهم، حيث كذبوهم، ثم رموهم بالضلال الكبير، الذي لا يخفى أمره على أحد..
ويجوز أن يكون هذا تعقيبا من زبانية جهنم على ما سمعوه من جواب أهل النار..
و «إن» نافية بمعنى «ما» ، أي ما أنتم إلا فى ضلال كبير..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» .. هذا من حديث النفس لأصحاب النار، حيث يرجعون بالملامة على أنفسهم، ويتهمون أنفسهم بأنهم كانوا فى غفلة من أمرهم، وأنهم لم يكونوا أصحاب سمع أو عقل، إذ لو كانوا أصحاب سمع وعقل ما كذبوا رسل الله، ولما وردوا هذا المورد الوبيل..(15/1056)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
وقدّم السمع على العقل، لأنهم إنما أدينوا فى الآخرة من جهة سمعهم، وما جاءهم عن طريقه من آيات الله، على لسان رسله.. فلم يحسنوا الاستماع إلى ما أنذرهم به الرسل، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر، ولم يعرضوا ما سمعوا على عقولهم.
ثم إنهم إذ لم يأخذوا بهذا البلاغ السمعي، ولم يكن لهم من عقولهم بلاغ عقلىّ، يقيم لهم طريقا إلى الإيمان بالله، ويدعوهم إليه فقد ضلّوا، وهلكوا..
قوله تعالى:
«فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» ..
أي أن هؤلاء المعذّبين بنار جهنم، قد شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين، وأنهم أهل لهذا العذاب الذي هم فيه..
وقوله تعالى: «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» - دعاء عليهم بالبعد من رحمة الله ورضوانه، يرميهم به كل لسان.. ناطق أو صامت، فى هذا الوجود..
الآيات: (12- 15) [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)(15/1057)
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
هو بيان للطرف المقابل للذين كفروا بربهم، والذين عرضتهم الآيات السابقة وعرضت أحوالهم، وما يلقون من هوان وعذاب يوم القيامة..
وكما أن فى الآخرة عذابا، فإن فيها رحمة ورضوانا، كما يقول سبحانه:
«وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد) ..
وإذا كان للذين كفروا بربهم، عذاب جهنم وبئس المصير، فإن للذين آمنوا، مغفرة وأجرا عظيما..
والذين يخشون ربهم بالغيب، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة، وخافوا لقاء ربهم، قبل هذا اليوم الغائب عنهم.. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم فى سرهم، كما يخشونه فى علانيتهم، حيث يشهدون سلطان الله قائما عليهم فى كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان، لا يعصون الله، ولا يفعلون ما لا يرضاه، وهم لهذا مجزبّون من الله تعالى، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم، وهم على خشية من الله، كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60: المؤمنون) ..
وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات.. «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
قوله تعالى:
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» - هو بيان شارح، ودعوة إلى الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ»
.. أي أن سبحانه وتعالى، عالم بما نحفى وما نعلن، مطلع على ما نعمل فى سر أو جهر.. وإذن فليكن سلطان(15/1058)
الله مشهودا لنا فى كل حال.. وأنه إذا كنا لا نجاهر بالمنكر أمام الناس، فكيف نجاهر بالمعاصي أمام الله؟ فليس فيما نفعل أو نقول، سرّ بالنسبة إلى الله سبحانه، بل كل أعمالنا وأقوالنا، هى جهر منّا بين يديه، على أية حال لنا.. «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10: الرعد) .. فمن ترك المعاصي جهرا، ولم يتركها سرّا، فهو إنما يفعل ذلك خوفا من الناس، لا من خشية الله، وفى ذلك استخفاف بجلال الله، وسوء أدب مع الله..
قوله تعالى:
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ..
هو تقرير لما جاء فى قوله تعالى: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. فإن علم الله سبحانه وتعالى بما نسرّ وما نجهر به من قول- أمر لا يصحّ أن ينكره أو يشك فيه عاقل.. فنحن صنعة الله.. من التراب، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن نصبح بشرا سويا.. وإذا كان ذلك شأن الله فينا- أفيخفى على الله بعد ذلك شىء من ظاهرنا، أو باطننا؟ أفيخفى على الصانع شىء من أسرار ما صنع؟ أيخفى على صانع آلة من الآلات البخارية، أو الكهربية، أىّ جزء من أجزائها.. دقّ، أو عظم؟ ألا يعلم السرّ فى كل حركة من حركاتها، أو سكنة من سكناتها؟ ألا يعلم لم تتحرك، ولم تسكن؟ ..
فإذا كان ذلك كذلك فيما يخلق المخلوقون، فكيف لا يكون هذا الربّ العالمين، وخالق المخلوقين؟ ..
فالاستفهام فى قوله تعالى: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» استفهام تقريرى..
وقوله تعالى: «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» صفتان من صفات الله تعالى»(15/1059)
تكشفان عن سعة علمه، ونفوذ هذا العلم إلى أعمق أعماق الوجود.. فهو علم «اللطيف» الذي لا يحجب عنه شىء «الخبير» الذي لا تخفى عليه حقيقة أي شىء..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» ..
هو خطاب للناس جميعا، وإلفات لهم إلى فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، إذ خلقهم، وأقامهم على خلافة الأرض، وجعل الحياة فيها ذلولا لهم، أي مذللة، ميسرة لهم، بما أوجد فيها من أسباب الحياة، وأدوات العمل للعاملين فيها..
وقوله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» - هو دعوة إلى العمل فى هذه الحياة، وإلى السعى فى الأرض، والضرب فى وجوهها المختلفة.. فالله سبحانه قد وضع بين أيدى الناس خيرات كثيرة ممدودة على بساط هذه الأرض، وعليهم هم أن يتحركوا فى كل وجه على هذا البساط، وأن يمدّوا أيديهم إلى كل شىء يقدرون عليه من هذا الخير، فإن هم لم يفعلوا، فقد بخسوا أنفسهم حقها من الحياة الكريمة على هذه الأرض، ونزلوا إلى درجة الحيوانات التي تأكل من حشائشها، وخسيس ثمارها..
ومناكب الأرض، هى أجزاؤها العليا فيها، أشبه بمنكبي الإنسان، وهما جانبا الكتفين.. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها، وأن يعمل فى الحياة عملا جادّا، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها، وأن يقودها بقوته، وأن يتحكم فيها بسلطانه.. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها.. إنه الخليفة على هذه الأرض، ومقام الخلافة يقتضيه(15/1060)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
أن يأخذ مكان الصدارة فيها، وأن يجلس مجلس السلطان من رعيته..
وفى تعدية الفعل «امشوا» بحرف الجر «فى» بدلا من «على» - إشارة إلى أن ينفذ الإنسان فى أعماق هذه المناكب، وإلى أن يعمل على كشف أسرارها، لا مجرد اتخاذها طريقا يمشى عليه..
وقوله تعالى: «وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» هو خاتمة مطاف الإنسان، بعد انتهاء رحلته فى الأرض.. فهو بعد هذه الرحلة، تطوى صفحة وجوده على الأرض، ثم تنشر حياته من جديد، بين يدى الله فى الحياة الآخرة..
الآيات: (16- 27) [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 27]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)(15/1061)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت دعوة موجهة من الله سبحانه وتعالى إلى الناس جميعا، أن يأخذوا أما كنهم من الأرض، وأن يعملوا قواهم كلها فيما أودع الله لهم فيها من خير، ليقطفوا من ثمارها، ويأكلوا من طيباتها.. وذلك فى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .. وهذه الأرض التي مكّن الله سبحانه للناس من السعى فيها- من يمسكها أن أن تميد بهم؟ ومن يحفظ وجودهم عليها، فلا تفتح فاها لتبتلعهم؟ أليس ذلك من تدبير الحكيم العليم؟ ومن رحمة الرحمن الرحيم؟! ..
فما بال هؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، وقد جاءهم رسول كريم يدعوهم إلى الله، ويحمل بين يديه كتابا منيرا، تنطق كل آية من آياته بمعجزة قاهرة متحدّية؟.
أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض، فإذا هى «تمور» أي تضطرب وترتجف بما يحدثه هذا الخسف من انقلاب، تفقد به توازنها، وتلقى بهم من فوق ظهرها؟ أأمنوا عذاب الله أن ينزل بهم وهم على هذه الأرض، وقد حادّوا الله وحاربوه..؟
والمور: الاضطراب الشديد، المنبعث من رجّة عظيمة، ومنه قوله تعالى:
«يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً» (9: الطور) ..(15/1062)
وفى قوله تعالى: «مَنْ فِي السَّماءِ» - إشارة إلى علوّ سلطان الله، الله، وإلى تمكّنه منهم.. وليس فى هذه المكانية تحديد لوجود الله، وإنما هى إشارة إلى علوّ سلطانه، وتمكن قدرته.
وقوله تعالى:
«أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» ..
الحاصب: ما يحصب به، أي يقذف به من حصا ونحوه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للكافرين والمشركين: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» (98: الأنبياء) ..
أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصا.. ومنه الحصباء، وهى دقاق الحصا..
وفى الآية، تهديد للمشركين بأن يرموا من بالسماء بالصواعق والرجوم، إن لم تأخذهم الأرض بالزلازل والخسف.. فهم واقعون تحت البلاء، يأخذهم من السماء، أو يأتيهم من الأرض، أو من السماء والأرض معا..
فكيف يبيتون على أمن من هذا البلاء، وهم على عداوة ظاهرة لله، وفى حرب سافرة معه، ومع رسوله، ومع أوليائه المؤمنين به..؟
وفى قوله تعالى: «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» تهديد بعد تهديد، بأنهم إن أمهلهم الله سبحانه، فلم يعجل لهم العقاب، فإن عقاب الله راصد لهم، إن لم يلقهم اليوم فغدا، وإن لم يأخذهم به في الدنيا، أخذهم به فى الآخرة، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون..(15/1063)
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» ..
وفى هذا إلفات للمشركين إلى ما كان لله سبحانه من نقم، ومن مهلكات أرسلها على الذين كفروا من قبلهم.. فلينظروا فى آثار هؤلاء الذين كفروا من قبلهم، وليشهدوا كيف كان أخذ الله لهم، بعد أن أتوا ما أنكره الله تعالى عليهم من منكررات.. إذ ليس وراء هذا الإنكار من الله، إلا الانتقام والعذاب.
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ.. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» ..
هو دعوة مجدّدة إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر فى موقفهم الضال عن طريق الهدى، بعد أن طالت مسيرتهم فى هذا الطريق المنحرف، وبعد أن أصبحوا فى معرض سخط الله، ونقمته.. فتلك هى فرصتهم الأخيرة، إن أفلتت منهم، ولم يستقيموا على الطريق المستقيم، فليس لهم بعد هذا إلا أن يردوا موارد الهالكين..
والدعوة التي يدعى إليها المشركون هنا، للإيمان بالله، والاستقامة على طريق الحق- هى دعوة موجهة إلى عقولهم التي غطّى عليها الجهل والضلال، وذلك بأن يوقظوا هذه العقول، وأن ينظروا بها إلى آيات الله التي بين أيديهم من صحف الوجود، بعد أن أصمّوا آذانهم عن آيات الله التي تتلى عليهم..(15/1064)
وآيات الله التي بين أيديهم كثيرة لا يحصرها عدّ..
ثم إنه لكيلا تزيغ أبصارهم، ولا تضطرب عقولهم أمام هذه الآيات الكثيرة- فها هى ذى آية وضعها الله تعالى بين أيديهم، ودعاهم إلى النظر فيها، وتقليبها على جميع وجوهها..
فلينظروا إلى الطير، وقد صفت أجنحتها- أي بسطتها فى جو السماء- ثم لينظروا إليها، وقد قبضت هذه الأجنحة، أو ضمتها، وهى فى حالتيها تلك، محلقة فى الجو، سابحة فى السماء، لا تسقط، كما تسقط الأجسام من أعلى إلى أسفل..
لينظروا إلى الطير فى حاليها تلك.. فماذا يقع فى عقولهم من هذا النظر، إن كان لهم نظر، وكانت لهم عقول؟ ..
من يمسك هذه الطير؟ ومن منحها تلك القدرة على أن تسبح فى السماء. ومن يمسكها أن تسقط من الجو؟ «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» .. فأين أبصارهم؟ وأين ما تعطيه هذه الأبصار من شواهد على وجودها..؟
قوله تعالى:
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» ..
وإذا لم يستجب المشركون لهذه الدعوة التي يدعون فيها إلى آيات الله وإلى الإيمان به- فعلى أي شىء يعوّلون فى الخلاص من نقمة الله وعذابه.
ألهم جند ينصرونهم من دون الله، ويدفعون عنهم بأسه إذا وقع بهم؟(15/1065)
إنهم لمخدعون مغرورون، إن كان ذلك من أمانيّهم، ومن متعلقاتهم ظنونهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) .
و «إن» فى قوله تعالى: «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» حرف يفيد النفي، بمعنى «ما» أي ما الكافرون إلا فى غرور، يحتويهم، ويشتمل عليهم..
قوله تعالى:
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» ..
وهذا سؤال آخر، مطلوب من المشركين أن يجدوا له جوابا:
من يرزقهم إن أمسك الله الرزق عنهم؟ هل من رازق لهم غير الله؟
إن هذه الوقفات مع المشركين، وهذه المراجعة التي يراد بها الكشف عن آفات الضلال المسلطة عليهم، لا تزيدهم إلا بعدا عن الحقّ، وإلا عتوّا وعنادا، ولجاجا فى العناد والكفر.
واللجاج فى الشيء: الإغراق فيه. ومجاوزة الحدّ.. والعتو:
العناد الشديد.
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ؟
وهذه بديهة من البديهيّات، توضع موضع القضايا المطلوب من المشركين(15/1066)
النطر فيها، والوصول إلى حكم لها.. وذلك بعد أن عجزت عقولهم عن أن تنظر فيما ينظر فيه العقلاء!.
والقضية هى:
أىّ أهدى سبيلا، وأسلم عاقبة.. من يمشى مكبّا على وجهه، لا يرى ما بين يديه، ولو كان هاوية يهوى إليها، أو وحلا يغوص فيه- أم الذي يمشى مفتّح العينين، رافع الرأس، مستقيم الخطا؟ ..
وفى هذا استخفاف بعقولهم، وإنزالهم منزلة الأطفال الذين يلقّنون المعلومات تلقينا.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» - جاء تلقينا لهم، وإلزاما إياهم بتلك الحقائق، سواء عقلوها أو لم يعقلوها..
فالإله الذي حدثتهم الآيات السابقة عنه، ودعتهم إلى النظر فى آياته، وإلى الإجابة على عدد من الأسئلة التي من شأن العقلاء أن يسألوها أنفسهم، وأن يتولّوا الإجابة عليها، فى سبيل التعرف على الله- هذا الإله، هو الذي جعل لهم السمع، والأبصار، والعقول.. ولكن كثيرا من الناس لا يشكرون الله تعالى على هذه النعم بل ولا يعترفون به ربّا، وفى هذا يقول سبحانه: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) .
وهذا الإله، هو الذي ذرأ الناس، أي خلقهم، وأقامهم على هذه الأرض وبثّهم فيها، وهو الذي سيحشرهم إليه بعد موتهم..
والذرء: الخلق، وذرأ الشيء: كثّره وبثه.(15/1067)
هذه حقائق، مطلوب من الرسول أن يبلغها الناس جميعا. فمن صدّق وآمن، فقد اهتدى، وسلم.. ومن أعرض وكفر، فقد ضلّ وخسر.
قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
هو بيان لما انتهى إليه أمر هؤلاء المشركين، بعد هذه الوقفة الطويلة معهم، وبعد هذه المراجعة لحسابهم المغلوط، الذي اطمأنوا إليه.. إنّ كل هذا لم يزحزحهم عن موقف الضلال الذي هم فيه.. وإنهم مازالوا على تكذيبهم بالبعث، والحساب والجزاء، فيسألون هذا السؤال، الذي يدل على رفضهم لكل ما قدم إليهم من أدلة، وما عرض عليهم من آيات:
«مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» .. يقولون هذا فى استهزاء وسخرية..
وكأنهم يقولون النبي، وللمؤمنين: دعونا من كل هذا الذي تخوضون فيه، وقولوا لنا: متى هذا الوعد؟ أي متى يوم القيامة الذي تقولون عنه وتجعلونه موعدا للحساب والجزاء؟ متى يومه؟ إن كنتم صادقين فى هذا الزعم، فحددوا له موعدا لهذا اليوم، طال هذا الموعد أم قصر..
أما إطلاق هذا اليوم ضالّا فى غياهب الغيب، فهذا دليل على أن الحديث عن هذا اليوم، هو حديث مكذوب، وقول مفترى..
إذ لو أنه كان حديثا قائما على واقع من الحق، لعلم المتحدّث به، الموعد الذي يقع فيه.. أما أن يتحدث متحدث عن أمر سيقع، ثم لا يربط هذا الحديث عنه بزمن معلوم، فذلك رجم بالغيب، أشبه بأخبار الكهان والمنجّمين..
هكذا كانوا يفكّرون ويقدّرون..(15/1068)
وقد جاءهم الرد المفحم فى قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
إن الرسول لم يقل لهم يوما إنه يعلم الغيب، أو أنه إله مع الله، وإنما بادأهم من أول الأمر، بما أمره الله سبحانه أن يلقاهم به فى قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» (110: الكهف) .. وقوله سبحانه:
«إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (15: يونس) ..
وإذ كان هذا شأنه، فإنه لا يعلم من أمر الساعة شيئا: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» (187: الأعراف) .
إن موعد الساعة فرع من أصل، وجزئية من أمر كلىّ، هو الساعة ذاتها، أي القيامة والبعث، والحساب والجزاء.. هذه هى القضية.. فإن آمنوا بها إيمان غيب، فإن من تمام هذا الإيمان أن يؤمنوا بكل ما جاء فى القرآن عنها.. وإن لم يؤمنوا بها أصلا، فلا معنى إذن لأن يسألوا عن متعلقاتها..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» .
إنه يوم آت لا ريب فيه، ولكن اقتضت حكمة الله أن يخفى ميقاته، كما يقول سبحانه: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» (15: طه) «1» .. فلو كشف هذا اليوم للناس لفسد نظامهم،
__________
(1) انظر تفسيرنا لهذه الآية فى سورة طه (الكتاب الثامن ص: 785) .(15/1069)
واضطربت حياتهم، ولو كان بينهم وبينه مئات السنين أو ألوفها، تماما كما لو عرف الإنسان اليوم الذي يموت فيه.. إنه بهذا الكشف، يموت كل يوم مئات المرات، ولو كان بينه وبين الموت عشرات السنين..
وفى الحديث عن رؤية المشركين لهذا اليوم بصيغة الماضي «رأوه» ، وهم مازالوا فى هذه الدنيا، وفى إنكار، وتكذيب له- فى هذا إهمال لإنكارهم، وعدم اعتداد بمعتقدهم الفاسد فى أمر البعث، ثم سوقهم إليهم سوقا فى الدنيا وهم متلبسون بهذا الإنكار، فإذا هم بين يدى ما ينكرون..
وقوله تعالى: «زلفة» أي دانيا، وقريبا منهم، بحيث يعاينونه، ويقعون تحت سلطانه.. ومنه قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» (90- الشعراء) أي دنت وقربت لهم، لتكون بين أيديهم.
وقوله تعالى: «سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» - أي حلّ بها السوء، ونزل بها الكرب..
وإسناد السوء إلى الوجوه، لأنها هى التي تتجلّى على صفحتها آثار المشاعر، والأحاسيس، والأفكار التي تدور فى كيان الإنسان، من فرح أو حزن، ومن لذة أو ألم..
وفى إقامة «الذين كفروا» بدلا من ضميرهم، ليكون فى ذلك مواجهة لهم بهذا الذي يسؤوهم، وليبين السبب الذي من أجله حلت بهم المساءة.. وهو أنهم كانوا كافرين..
وقوله تعالى: «وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» أي أنه حين(15/1070)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
يلقاهم هذا اليوم، ويقع عليهم منه ما يقع من فزع وكرب، يلقاهم من يقول لهم:
«هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» أي هذا الذي كنتم تطلبونه، وتلحّون فى الكشف عن وجهه ... فها هو ذا قد جاءكم.. فلم تنكرونه؟ ولم تفزعون منه؟
وهل يفزع المرء من أمر كان شديد اللهف على لقائه؟
و «تدعون» معناه تطلبون، وتتمنون.. ومنه قوله تعالى عن أصحاب الجنة: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
(31: فصلت) .
وفى تعدية الفعل تدعون بحرف الجر «الباء» .. «به تدعون» وهو متعدّ بنفسه- لتضمّنه معنى الفعل، «تهتفون» أو «تستعجلون» .. ونحوهما، مما يدل على شدة الرغبة للشىء، والطلب له.
الآيات: (28- 30) [سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
التفسير قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد طلعت على المشركين(15/1071)
المكذبين بيوم القيامة- طلعت عليهم بهذا اليوم، وكشفت عما وقع عليهم من ملاقاته، من هلع وفزع..!
وإنه ليس هذا، وحسب، هو الذي يلقاه الكافرون من هذا اليوم، بل إن هناك عذابا أليما فى نار جهنم التي أعدت لهم.. وهذا ما جاءت الآية الكريمة لتقريره، فى أبلغ صورة، وذلك أن هذا العذاب الواقع بالكافرين لا يصرفه عنهم أحد، من صديق أو قريب، وأن ما يقع لغيرهم من إساءة أو مسرة، لا أثر له فى العذاب الواقع بهم.. فاذا أهلك الله النبي ومن معه أو رحمهم فى هذه الحياة الدنيا، فليس في هذا ما يخلّص الذين كفروا، من عذاب الآخرة، أو يدفعه عنهم.. إنه واقع بهم، فلا محيد لهم عنه، ولا منقذ له منه..
إنهم كانوا يتمنون هلاك النبي، ويتوقعون أن يصبحوا يوما فلا يرون له مكانا فيهم، وهذا ما ذكره الله تعالى عنهم فى قوله سبحانه: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30 الطور) وفى هذا- على ما قدّروا- راحة لهم من عناء، وعافية من بلاء.
وإنهم لواهمون فى تقديرهم هذا، مخدوعون فيما يتمنون، إذ ماذا يعود عليهم من موت النبي؟ إنه صلوات الله وسلامه عليه- لا يملك لنفسه، ولا لمن معه نفعا ولا ضرّا، بل الأمر كله بيد الله، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي يتولّى حساب هؤلاء الكافرين، ويأخذهم بالعذاب الذي أعدّ لهم، حتى إنه لو مات لرفع عنهم العذاب- وكلا.. إنه ليس هو الذي يتولى هذا، بل الذي يتولاه، هو الله سبحانه، وليس للكافرين من مجير من هذا العذاب.
قوله تعالى:
«قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ.. آمَنَّا بِهِ.. وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا.. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»(15/1072)
أي إن النبي ومن معه، هم فى مقام العبودية لله، كسائر الناس جميعا.. إن آمنوا بالله، وأحسنوا العمل، غفر الله لهم، وأنزلهم منازل المكرمين.. ولهذا جاء قوله تعالى إلى النبي الكريم، بإعلان هذا الايمان بالله فى وجه الكافرين، ليكون لهم من ذلك علم بأن النبي ليس خارجا عن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها، وأنه عبد الله مؤمن به، متوكل عليه.. وتلك هى سبيل المؤمنين معه..
فهل يؤمن الكافرون بالله؟ وهل يأخذون الطريق الذي أخذه النبي وأصحابه؟:
«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» (137: البقرة) .
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» هو تهديد للكافرين بأن يسلط الله تعالى عليهم البلاء فى الدنيا، وأن يرميهم بالمكاره، وأن ينزع عنهم نعمه التي يعيشون فيها.
فلو أن الله سبحانه ذهب بهذا الماء الذي هو قوام حياتهم، وحياة حيوانهم ونباتهم، فمن يأتيهم بجرعة ماء منه؟
وغور الماء: هو ذهابه غائرا فى الأرض، أي منسربا فيها، ضائعا فى بطنها.
والماء العين، هو الماء الذي يفيض من العيون..
وفى الآية الكريمة إشارة إلى النبي الكريم، وإلى القرآن الذي بين يديه، أنه هو الحياة التي منها حياة القلوب والنفوس، وأنه لو ذهب هذا النبي- كما يتمنون- لكان فى هذا هلاكهم، وضياعهم، بذهاب مصدر الهدى والنور لهم. إنه لن يأتيهم نبى بعده، ولن ينزل عليهم من الله كتاب بعد هذا الكتاب، الذي إن فاتهم حظهم منه، فقد فاتهم ماء الحياة، وغذاء الأرواح.(15/1073)
68- سورة القلم
نزولها: مكية.. نزلت بعد العلق..
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة كلمة..
عدد حروفها: ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
بين هذه السورة، وسورة الملك قبلها، أكثر من مناسبة..
فأولا:
ختمت سورة «الملك» بقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» .. وفى هذا- كما قلنا- تهديد للمشركين بذهاب هذا النور الذي يرفعه النبي صلى الله عليه وسلم لأبصارهم، من آيات الله، وكلماته..
وبدئت سورة القلم بقوله تعالى: «ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» .. لتلفت المشركين إلى هذا النور القرآنىّ الذي يكتبه الكاتبون، بعد أن يتلقاه النبىّ من ربّه، وأنهم إن لم يبادروا إلى الإمساك به فى قلوبهم، وحفظه فى صدورهم، يوشك أن يفلت من بين أيديهم، فلا يلقوه أبدا..
كما أن فى ذكر القلم وما يسطر به الكاتبون، إلفاتا عامّا إلى شأن الكتابة والكاتبين، الذين هم أهل العلم والمعرفة، وأن هؤلاء المشركين امّيون لم ينالوا حظّا من العلم عن طريق الكتابة والكتاب، وها هم أولاء وقد جاءهم رسول كريم، كان مفتتح دعوته دعوة آمرة بالقراءة، ثم تلاها بعد ذلك هذا(15/1074)
القسم بحروف الكتابة، وأدواتها- وذلك ليخرجوا من ظلام هذا الجهل الذي غطّى على أعينهم، وحال بينهم وبين أن يهتدوا إلى هذا النور الذي يدعوهم الرسول الكريم إليه.. فالجهل هو الآفة التي أفسدت على هؤلاء المشركين رأيهم فى دعوة السماء لهم إلى الإيمان، ولو أنهم أخذوا حظّا من العلم، لاستقام طريقهم على الحق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2: الجمعة) .
وثانيا: جاء فى ختام سورة «الملك» قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا» - وفى هذا ما يشير إلى نظرة الكراهية والاستثقال التي ينظر بها المشركون إلى النبي، وإلى مقامه فيهم، حتى إنهم ليتمنون زواله من بينهم.. وجاء فى مفتتح سورة «القلم» ما يضفى على النبىّ الكريم حلل التكريم والتمجيد التي خلعها عليه ربّه، فوصفه سبحانه بهذا الوصف الربّانىّ، الذي لو قسّم فى الخلق جميعا لأرضاهم، وأغناهم، وأسعدهم، فيقول الله سبحانه «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. وفى هذا ما يكبت المشركين، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.(15/1075)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 16) [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» .
اختلف المفسرون فى تأويل كلمة «ن» فأضافوا إليها مفهوما جديدا غير تلك المفاهيم الكثيرة التي تشارك فيها غيرها من الحروف التي بدئت بها أوائل السور.. فهى بهذه المفاهيم.. حرف من تلك الحروف، يقع عليها الخلاف الذي وقع فى هذه الحروف وكثرت المقولات فيها «1» ..
__________
(1) انظر المبحث الخاص بهذا تحت عنوان: «مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور» من التفسير القرآنى للقرآن، الكتاب الثالث عشر صفحة: 89.(15/1076)
أما المفهوم الخاص الذي جعل لهذه «الكلمة» ، أو هذا الحرف، فهو أن يراد به ما يقال عن «الحوت» العظيم الذي تقوم عليه الأرض، كما يزعم لزاعمون.. وكأنّ المفسرين قد نظروا فى هذا إلى قوله تعالى: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» (87: الأنبياء) ثم إلى ما جاء فى قوله سبحانه فى هذه السورة: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (الآية: 48) .. فالسورة تبدأ بالحرف «ن» وفى خاتمتها يذكر «صاحب الحوت» .. وصاحب الحوت هو «ذو النون» .. أي يونس عليه السلام.. وإذن فهذه قرائن على أن حرف «ن» هو اسم للحوت! .. هذا ما نحسب أن المفسّرين الذين قالوا إن «ن» هى الحوت، قد نظروا إليه، وأخذوا قولهم هذا عنه.
ولكن أي حوت هو؟ أهو الحوت الذي ابتلع يونس عليه السلام؟ وكلّا فإن الحوت الذي يقسم الله سبحانه وتعالى به، يجب أن يكون ظاهرة فريدة من ظاهرات الوجود.. ليكن إذن هو الحوت الذي تتحدث عنه قصة أو قصص خلق العالم، التي كانت تعيش فى خيال كثير من الأمم والشعوب!! إن هذا الحوت الذي يقال إنه يحمل الأرض، أو بمعنى أدقّ، يحمل الثور الذي يحمل الأرض بقرنه- هو من مواليد الخرافات والأساطير، وما يروى عنه من مقولات تضاف إلى الصحابة أو التابعين، هو أحاديث مكذوبة على هؤلاء السادة الأعلام، الذين يرفعهم قدرهم ودينهم عن أن يقولوا بغير علم، والذين لو ثبت لهم قول، لكان هذا القول من الحق المتلقّى من نور النبوة، ولما اصطدم أبدا مع واقع الحياة، وما يكشف عنه العلم من حقائق.
فالحرف، أو الكلمة «ن» هى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون فى العلم، الذين يعرفونه بإحالة المتشابه على المحكم، والذين هم على الإيمان به إيمانهم بالمحكم.. إذ «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» ..(15/1077)
هذا من حيث المعنى.. أما من حيث اللفظ، فإن لهذا الحرف أثره فى صورة النظم الذي جاءت عليه السورة.. حيث كانت فواصلها تنتهى بمقطع أشبه بلفظ «نون» .. أي أنه مقطع مكون من ثلاثة أحرف، أولها متحرك، وثانيها حرف مدّ ساكن يتبع هذه الحركة، وثالثها حرف ساكن بالوقف عليه.
وهذا للقطع الذي يمثله حرف «ن» الذي ينطق هكذا: «نون» هو لازمة النغم الموسيقى الذي تضبط عليه فواصل الآيات فى السورة كلها.. مثل:
يسطرون.. مجنون.. عظيم.. مفتون.. إلى خاتمة السورة.
وقوله تعالى: «وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» هو معطوف على «ن» المقسم به أي أقسم بنون، والقلم وما يسطرون..
والمراد بالقلم، هو أداة الكتابة، التي يكتب بها العلماء، العلوم والمعارف..
فهو نعمة من نعم الله الجليلة، التي تخطّ على الصحف ثمرات العقول، ونتاج الأفهام.
وقد نوه سبحانه وتعالى بالقلم، ورفع قدره، فكان أول ما وضع بين يدى النبي الكريم فى أول آيات افتتحت بها رسالته: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (1- 5: العلق) وفى القسم بما يسطر الكاتبون بالقلم- إشارة إلى أن هذه الأداة المكرمة ينبغى ألا يكتب بها إلا ما كان من الحق والخير، وإلا ما كان دعوة إلى هدى وتوجيها إلى خير.. إنه أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذكرا خالدا فى الحياة، بقدر ما يحمل القلم عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرا بأن يصان من أن يخطّ باطلا، أو يسجل لغوا..(15/1078)
وقوله تعالى:
«ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» هو جواب القسم.. وهو تكذيب لهذه التهمة الحمقاء التي كان المشركون يرمون بها النبي، حين جاءهم يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يتلقى آيات الله التي يحملها إليه رسول الوحى جبريل عليه السلام.. فلقد هالهم هذا الأمر، واستعظموه، ورأوا أن القول به لا يكون من عاقل، لأنه لا يقع فى تصورهم أن يكون إنسان على اتصال بعالم السماء، وبرب السماء! إن اتصال الرسول بالله، ومخاطبة الملك له، يعنى عندهم أمرا مستحيلا، أشبه بمن يقول لهم: إنى أنا الذي أرسيت هذه الجبال بيدي، فلا يرون فى قائل هذا القول إلا أنه يهذى هذيان المخمور، أو المحموم، أو المجنون..
والباء فى قوله تعالى: «بمجنون» حرف جر، ومجنون خبر المبتدأ «أنت» أي: ما أنت بذي جنة، وفائدة حرف الجر هنا، أنه يقوم حجازا فاصلا بين النبي، وبين إسناد الجنون إليه..
فهذا الجنون، وإن كان واقعا تحت حكم النفي المسلط على المبتدأ «أنت» إلّا أنه هو حقيقة ثابتة، لم يتناولها النفي الذي وقع على المبتدأ: «ما أنت» .
فالمنفىّ عنه الجنون هنا، هو شخص النبي.. أما الجنون ذاته فإن نفيه عن النبي، إنما جاء تابعا للنفى الواقع على ذات النبي فى هذا المقام: «ما أنت» .. أي لست أنت الذي يوصف بهذا الوصف، بل غيرك هو المجنون، من هؤلاء الذين باعوا عقولهم فى سوق الغواية والضلال..
وهذا المعنى وإن كان يتحقق مع عدم ذكر حرف الجر، بأن يجىء النظم هكذا «ما أنت مجنون» فإن فيه مواجهة للنبى بهذه الصفة، التي هى أبعد(15/1079)
الصفات منه صلوات الله وسلامه عليه، إنها داء خطير يتناول وجود الإنسان، ويذهب بكل معالم إنسانيته.. ولهذا جاء مع نفى تلك الصفة عن النبي- هذه المباعدة الادية بينه وبينها، فقام حجاز بينه وبينها بقوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» .. ثم قام حجاز آخر بحرف الجر «الباء» .. «ما أَنْتَ- بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» .
وفى هذا كله ما يؤكد تلك الحقيقة التي جاءت الآية الكريمة لتقريرها، وهى بعد النبي- بعدا معنويا، وحسيّا- عن أن يلم بحماه الكريم شىء يمسّ عقله فى سلامته، وكماله.. ومثل هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقوله سبحانه: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» .. ففى هذين المقامين توكيد لنفى هاتين الصفتين المذمومتين عن النبي: التجبر، والتسيطر.. وهذا آكد وأبلغ فى نفى هاتين الصفتين عن النبي، من أن لو جاء النظم هكذا: «ما أنت جبار» .
«ما أنت مصيطر» ، برفع هذه الحواجز المادية التي تحجز السوء عن أن يواجه به النبي، حتى ولو كان هذا السوء واقعا فى قيد النفي..
وقوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» - إما أن يكون جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، يرادبها الإشارة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى نعمة سابغة من ربه، وهو بهذه النعمة معافى من كل عارض سوء يعرض له فى عقله، أو روحه، أو قلبه. فهذا أشبه بمن يقال له: أنت- بحمد الله- فى عافية، أو أنت- ولله الحمد- فى أمان..
وإما أن يكون قوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» ، متعلقا بمحذوف، حال من الضمير المستكنّ فى قوله تعالى: «بِمَجْنُونٍ» .. أي ما أنت بمجنون، والحال أنك محفوف بنعمة ربك..!(15/1080)
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» معطوف على جواب القسم: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» ، وهو وعد من الله سبحانه للنبى الكريم، بالأجر العظيم المتصل، غير الممنون، أي غير المنقطع عنه أبدا، وذلك جزاء جهاده، وصبره على ما يلقى من أذى قومه، وسفاهتهم عليه..
والأجر غير الممنون، هو غير المقطوع، أي الدائم المتصل.
ويجوز أن يكون معنى الأجر غير المنون هنا، هو الأجر الذي لا منّة عليك فيه من أحد، أي لا فضل لمخلوق عليك فيه.. فهو فضل خالص من عند الله لك، وإنك لأهل له، بما احتملت من أذى فى سبيل دعوة الحق التي تدعو إليها.. وفى هذا تنويه بقدر النبي، ورفع لمقامه عند ربه، وأن هذه المنزلة التي يلغها هى- وإن كانت من فضل الله- محسوبة من كسب النبي، ومن سعيه المحمود المبرور، عند ربه.
قوله تعالى:
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .
هو تقرير لما تضمنه قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» - فهذا الأجر غير الممنون، هو ثمرة لهذا الخلق العظيم، الذي كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم.. وحسب رسول الله بهذا الوصف الكريم، من الله سبحانه وتعالى- حسبه بهذا شرفا وعزّا، حيث توّجه ربه- جلّ وعلا- بتاج الكمال كله، إذ ليس بعد حسن الخلق حلية تتحلى بها النفوس، أو تاج تتّوج به الرءوس.. ففى مغارس الخلق الحسن، كانت رسالات المرسلين، ومن أجل حماية هذه المغارس، وإطلاع ثمرها، كانت دعوة الرسل، وكان جهادهم، الذي توّج بدعوة سيد(15/1081)
الرسل، وجهاد خاتم النبيين.. وفى هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ..
قوله تعالى:
«فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» ..
هو وعيد للمشركين، وفضح لما هم فيه من ضلال، وأنه سيأنى يوم تنكشف فيه حالهم، ويرون فيه سوء أعمالهم، كما سيرون ما كان عليه ضلالهم فى رسول الله، وفى مقولاتهم الباطلة فيه..
وقوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» متعلق بالفعلين: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» فالفعلان يتنازعان العمل فيه، إذ هما مسلطان عليه.. فالنبى سيبصر، وهم- أي المشركون- سيبصرون، بأيّ- منه أو منهم- المفتون..
والمفتون، هو، الذي فنن بنفسه، وغرّه الغرور، فركب مركب الفتن والضلال، وهو على ظنّ أو يقين بأنه أهدى سبيلا، وأقوم طريقا..
ويكون قوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ» متعلقا بفعل محذوف دلّ عليه المقام..» أي ستبصر ويبصرون بأيكم تتعلق الفتنة، وبأيكم يتحقق وصف المفتون، أو يتمثل شخصه..
أي فستبصر أيها النبي، وسيبصر المشركون، بأيكم كان الشيطان متلبّسا به، مستوليا عليه، مالكا زمامه؟ ..
والجواب واضح لا يحتاج إلى بيان، والنبي على يقين منه، وإن كان المشركون عن هذا في غفلة وضلال، وفى ادعاء وغرور.. وهذا مثل قوله(15/1082)
تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (24: سبأ) .
قوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ..
أي إنكم إذا لم تعلموا أيها المشركون وأنتم فى هذه الدنيا، أنكم مفتونون ضالون، قد أغواكم الشيطان وفتنكم- فإن ربك- أيها النبي- هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وانقاد لشيطانه، وبمن هو على طريق الهدى ودين الحق، فيجازى كلّا بما عمل.
قوله تعالى:
«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» ..
هو نهى للنبى الكريم، عن أن يستمع للمكذبين، الذين يكذبون بآيات الله، ويقفون منه هذا الموقف الضال الآثم..
وفى هذا النهى جواب على قوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» - حيث يحذّر النبي من أن يتبع سبيل هؤلاء الضالين، أو يستمع لهم.. فهو على هدى، وهم على ضلال.
وفى قوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» - هو بيان للمدخل الخبيث، الذي يريد المشركون أن يدخلوا على النبي منه، وأن يخادعوه به.. فهم- وقد أبوا أن يستجيبوا للنبى، وأعياهم الوعد والوعيد معه أن يحوّلوه عن موقفه- هم يجيئون إليه بتلك الدعوة الخبيثة الماكرة، وهو أن يدهن أي يدارى أمره عنهم، فلا يذكر آلهتهم بسوء، ولا يظهر دعوته فى الناس، وبذلك يتركونه وشأنه، فلا يعرضون له بسوء، ولا يلقونه بأذى!!(15/1083)
فقد جاء المشركون إلى النبي أكثر من مرة، يعرضون عليه، المال والجاه، على أن يدع ما يدعو إليه، فلما أعياهم الأمر، ولم يجدوا من النبي أذنا صاغية إليهم- جاءوا يدعونه إلى أن يعبدوا الإله الذي يعبده، مع آلهتهم التي يعبدونها، وأن يعبد هو آلهتهم التي يعبدونها مع إلهه الذي يعبده، وبهذا يرضونه فى إلهه، ويرضيهم هو فى آلهتهم، فنزل قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ... » إلى آخر السورة..
وأصل الإدهان: المداراة، والملاطفة، وطلاء الأمر بطلاء زائف، حتى يقبل تحت هذا الزيف..
وقوله تعالى: «فَيُدْهِنُونَ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم، أي فهم يدهنون..
والمعنى، فلا تطع المكذبين، فهم يدهنون، وودوا لو تدهن.. وهذا يعنى أن المشركين المكذبين هم على حال من الخديعة والغش فيما يقولون..
فهم يدهنون مع أنفسهم، فيخادعونها بهذا الباطل الذي يزينونه لها، وهم يدهنون مع الناس فيما يحدثونهم به، وهم يدهنون مع النبي فيما يعرضون عليه من أمور..
وهذا شأن كل من يمسك بالباطل.. إنه غير مطمئن إليه، فهو يحاول دائما أن يلبسه أثوابا بعد أثواب، من التمويه والخداع، حتى يدارى ما به من علل..
وفى مجىء النهى عن طاعة المكذبين بدلا من النهى عن تصديقهم- إشارة إلى ما هو أبعد من مجرد عدم التصديق، وهو لازمه، إذ يلزم من عدم التصديق للحديث، عدم إجابته والأخذ بمضمونه.. وهذا أبلغ من مجرد(15/1084)
النهى عن التصديق، فقد لا يصدّق المرء محدّثة فيما يدعوه إليه، ثم تغلبه نفسه على متابعته، والاستجابة له فيما يفعل.
ولهذا اتجه النهى مباشرة إلى المطلوب منه، وهو عدم الاستجابة لتلك الدعوة التي يدعو إليها المكذبون.. إنهم لا يدعون إلى خير أبدا..
قوله تعالى:
«وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» .
هذه ملامح، وصفات، تشين من يتصف بها، وتحطّ من قدره فى الناس، فلا يوزن بميزان الإنسان السوىّ، الذي يطمئن إليه الناس، ويتعاملون معه فى ثقة واطمئنان.. إنه لا يتصف بهذه الصفات إنسان له على ميزان الإنسانية وزن.. وهى صفات تجتمع وتتفرق فى هؤلاء المشركين الضالين..
وسواء اجتمعت هذه الصفات كلها فى شخص واحد، أو ظهرت عليه أعراض بعضها. فإن أية صفة منها تدعو إلى غيرها، إذ هى جميعها لا تصدر إلا من طبع لئيم، ولا تنضح إلا من نفس خبيثة فاسدة..
فكثير الحلف: كذوب، منافق.. يدارى كذبه ونفاقه بهذا الستار الأسود، من كثرة الأيمان الكاذبة الفاجرة.. ولهذا وصف بأنه «مَهِينٍ» أي حقير دنىء، لأنه لا يحترم نفسه، ولا يرتفع بها عن أن يبيعها بهذا الثمن البخس، حيث يعرضها فى سوق النفاق والكذب، سلعة رخيصة، لا تجد من ينظر إليها إلا إذا جلجلت من حولها صيحات الأيمان الكاذبة..
والهماز المشاء بالنميم، هو وجه قبيح من وجوه أهل الكذب والنفاق..(15/1085)
حيث يهمز الناس أي يعيبهم، وينالهم بالسوء، فى غيبتهم، ومن وراء ظهورهم..
فهو جبان، مهين، لا يجرؤ على أن يلقى الناس مواجهة.. وهو إذ يرمى الناس بالمساءات من وراء ظهورهم، يمشى كذلك بينهم بالنميمة، فينقل إليهم من المقولات ما بوقع العداوة والبغضاء بينهم، سواء أكان ما ينقله حقّا أو باطلا..
والمنّاع للخير: شخص مهين ذليل، ممسك بما فى يده، ضنين به، لأنه يرى أنه فى وجه الهلاك والضياع، إن هو لم يحصّن نفسه بالمال، ولم يقم عليها حارسا منه.. إن ذاتيته أضعف من أن تحمى ذاتها، ومن ثمّ كان لا بدّ لها من شىء آخر تحتمى به، وهو المال، وكل ما يمكن أن يكون مصدر نفع مادىّ.. وهذا شأن النفوس الضعيفة المهينة، كما هو شأن ضعاف الحيوان، كالنمل والذرّ.. إنها تختزن طعامها لأيام وشهور، وربما لسنين، كما أنها تجر كل ما يصادفها إلى بيتها، سواء أكانت فى حاجة إليه أم لم يكن لها به حاجة.. وفى هذا يقول الشاعر:
وهل يدخر الضرغام قوتا ليومه ... إذا ادخر النمل الطعام لعامه؟
إن الضن بالخير الذي يكون بين يدى الإنسان، لا يكون إلا من نفس ضعيفة مهينة، ليس فى قدرتها العطاء، والإثمار، وإنما هى أشبه بالنباتات المتسلقة، لا تطلع زهرا، ولا تخرج ثمرا، ولا تنشئ طيبا، ولا تنشر ظلّا.
والمعتدى الأثيم، هو هذا الكذوب، المنافق، الهماز، المشاء بالنميم، الضنين بالخير، لأنه فى كل هذه الصفات يحمل عدوانا، ويقترف إثما.. عدوانا على الناس بالكذب عليهم، ونهش أعراضهم من وراء ظهورهم، والسعى بالنميمة بينهم، وبالضنّ بما لهم من حق فيما بين يديه من خير.. وإثما على نفسه، بما حمل من أوزار بهذا العدوان على الناس.. والعتلّ: هو الجافي، الغليظ الطبع،(15/1086)
الوحشىّ الطبيعة، الذي ينهش فى أعراض الناس، ويقطّع أواصر الأخوة بينهم، دون أن تتأثر لذلك مشاعره، أو تألم لذلك نفسه، شأنه فى هذا شأن الحيوان المفترس.
والزنيم: هو الدعىّ فى نسبه، المنسوب إلى غير أبيه. أي ولد الزنا..
وفى قوله تعالى: «بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» - إشارة إلى أن هذه الصفة، وهى الزنامة، هى صفة تفوق فى شناعتها تلك الصفات المذكورة كلها.. أي ومع الصفات الشنيعة كلها، فإنه قد جمع إليها الزنامة، التي هى وحدها مجمع المساءات كلها..
وينسب المفسرون هذه الصفات إلى الوليد بن المغيرة، تارة، وإلى الأخنس ابن شريق تارة أخرى.. ويقولون:، إن الوليد لم يكن ابن المغيرة، وإنما ادعاه المغيرة ونسبه إليه، وهو فى الثامنة عشرة من عمره..
والرأى عندنا، أن هذه الصفات تجمع مجتمع أهل الضلال جميعا، من منافقين ومشركين.. وهى صفات لا يمكن أن تحتملها طبيعة بشرية، باعتبارها صفات ذاتية، ثم يكون لهذا الإنسان المتصف بها وجود بين الناس، وإن غاية ما يمكن أن تحتمل النفس البشرية من طبائع السوء، هو أن تكون على صفة من تلك الصفات اللئيمة، ثم ينضح عليها من تلك الصفة كثير أو قليل من المقابح والمنكرات.. بمعنى أن تكون تلك الصفة الذميمة هى الأمّ التي تتجمع حولها صفات أخرى ذميمة، تكون أشبه بالأعراض لهذه الصفة.. أما أن تكون كل صفة منها ذات وجود ذاتى فى إنسان، فهذا ما يخرج الإنسان جملة من عالم الإنسانية، ويجعله زنيما، أي دعيّا فى نسبه إلى الإنسانية..
ولهذا جاء لفظ «كلّ» فى قوله تعالى: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ»(15/1087)
ليشير إلى أن هذه الصفات ليست مقصورة على شخص بعينه، وإنما هى صفات يدخل فى دائرتها كل اتصف بها على أي وجه من الوجوه.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (28: الكهف) ..
وعلى هذا فإنه يمكن أن يكون للزنيم هنا معنى أعم من معنى أن يكون الإنسان دعيّا فى نسبه إلى أب، أو قبيلة، وذلك بأن يحمل على أنه دعىّ فى نسبه إلى المجتمع الإنسانى كله، فإن من تستولى عليه صفة من هذه الصفات، جدير بها أن تجعله مستنبتا للخبائث كلنا، فنغتال فيه كل معنى من معانى الإنسانية، وبهذا يصبح وجوده فى الناس، وجودا غير شرعى، ويكون انتماؤه إليهم انتماء الأدعياء إلى غير آبائهم.. فهو لصيق فى الناس، كما أن المنتسب إلى غير أبيه لصيق بمن انتسب إليه.. فكيف بمن جمع هذه الرذائل جميعها، واحتواها فى كيانه؟
هذا، وإذا كانت هذه الآيات قد واجهت حالا من أحوال الوليد أو غيره ممن يقال إنها نزلت فيهم، فإن هذا لا يعنى أكثر من أن هذا الشخص، كان الصورة التي تجتمع فيها تلك الصفات، وتحمل أكبر قدر منها، ولهذا كان أصلح من يضرب به المثل فى هذا المقام، ليكون شارة للإنسان الذي خرج من عالم البشر..
قوله تعالى:
«أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؟» أي ألأن كان هذا الصنف من الناس ذا مال وبنين، يركبه الغرور، ويستبد به الضلال، حتى إذا تليت عليه آياتنا، لوى وجهه عنها، ووصفها هذا الوصف المشين، وأضافها إلى الكذب والافتراء، وقال عنها إنها من أساطير الأولين، وخرافاتهم؟. والاستفهام يراد به الوعيد والتهديد.(15/1088)
والذين قالوا إن الوليد بن المغيرة، هو الذي نزلت فيه الآيات، يجدون لهذا شاهدا من قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» (11- 26: المدثر) .
فهذه الآيات، قد تواترت الأخبار على أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة..
وبين هذه الآيات، والآيات التي فى سورة «القلم» شبه كبير، كما هو ظاهر..
قوله تعالى:
«سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» .. هذا تحقيق للوعيد الذي حمله الاستفهام فى قوله تعالى: «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؟» والوسم، أشبه بالوشم، وهو علامة يعلّم بها الحيوان، بالكيّ فى موضع بارز من جسمه، فيكون أثر الكي علامة مميزة له، دالة على مالكه..
والخرطوم: الأنف، ولا يقال إلا للأنف الطويل، كخرطوم الفيل مثلا..
وفى هذا وعيد وتهديد لهذا الإنسان الذي ركب رأسه وشمخ متطاولا بأنفه، وهام فى أودية الضلال على وجهه، كما تهيم السائمة فى البراري والقفار..
وفى وسم هذا الضال على أنفه الذي تشامخ به، ونفخه بالغرور، حتى طال وتورم وصار كالخرطوم- فى هذا- إذلال له. وإهدار لآدميته، ودمغه بهذا الوشم كما يدمغ الحيوان.. إنه ليس من عالم الناس! ثم ليس هذا وحسب، بل إن الوسم سيكون فى أعزّ مكان منه، وهو(15/1089)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
الأنف، الذي هو موضع الأنفة والعزة.. فما أهونه، وأضيعه، وأذلّه، هذا الحلاف المهين!! ..
الآيات: (17- 33) [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
[بين أصحاب الجنة ومشركى قريش] التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ» .(15/1090)
الضمير فى «بَلَوْناهُمْ» يعود إلى مشركى قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة فى قوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.. الآيات» ..
والبلاء، والابتلاء: الاختبار، والامتحان.. بالخير، وبالشر.
والآية تشير- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- إلى ما كان من ابتلاء الله سبحانه للمشركين من مضر، إذا أخذهم الله بالقحط والجدب، استجابة لدعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إذ دعا عليهم الرسول بقوله، فيما يروى عنه: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» (10- 12: الدخان) .. وقد مضى تفسير هذه الآيات فى سورة الدخان..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن هذا الابتلاء الذي ابتلى به المشركون، هو هذا القرآن الكريم، الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى الحياة فى ظله، والقطف من ثماره.. فهو الجنة التي تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها، وأنهم لو جاءوا إلى هذه الجنة بقلوب سليمة، ونفوس مطمئنة لكان لهم منها زاد عتيد لا ينفد أبدا.. أما وقد جاءوها فى تلصص ومخالسة، وفى ستار من ظلمة الليل، يريدون أن يصبح الناس فلا يرون لثمرها أثرا- فقد فوت الله سبحانه عليهم ما يريدون، وحال بينهم وبين ما يشتهون..!!
وسنعرض لوجه الشبه بين المشركين، وأصحاب الجنة، بعد أن نلتقى مع هذه الآيات التي عرضت لهذه الجنة وأصحابها..(15/1091)
أما أصحاب الجنة هؤلاء، فلم يذكر القرآن عنهم إلا أنهم جماعة من الناس..
قد يكونون إخوة أو شركاء، يملكون جنة، فيها زرع، ونخيل، وأعناب، ونحو هذا مما يطلق عليه اسم «جنة» .. أما مكان هذه الجنة، وزمانها، وأعيان أصحابها، فلم يلتفت القرآن إلى شىء منه، إذ لم يكن لشىء من هذا متعلّق بالحدث، ولا بموقع العبرة الماثلة منه.. ومع هذا فقد كثرت المقولات، وتعددت الروايات، التي تحدد مكان هذه الجنة وزمانها، وعدد أصحابها، الأمر الذي يخرج بالحدث عن مضمونه، ويكاد يقطع النظر عن موضع العبرة منه، بما يزدحم بين يديه من ألوان وظلال، وحركات، وصور.. للزمان، والمكان والأشخاص..
ومن جهة أخرى، فإن هذه القيود التي يشدّبها الحدث إلى زمان بذاته، أو مكان بعينه، أو أشخاص بسماتهم- هذه القيود تجمّد الحدث، وتفقده الحياة والحركة، عبر الأزمان والأماكن، على خلاف ما لو أطلق من هذه القيود، حيث يراه الناس فى كل مكان، وزمان، ويشهدونه فى كل مجتمع، صغير، أو كبير..
وابتلاء أصحاب الجنة هؤلاء، الذين ابتلى الله سبحانه مشركى قريش، كما ابتلاهم- هو فيما كان منهم من تدبير سيء، ومكر بنعم الله عليهم، فكان أن انتزع الله سبحانه هذه النعمة من بين أيديهم، وقتلهم بالسلاح الذي كانوا يحاربونه به.. كما سنرى ذلك فيما تحدث به الآيات من قصتهم..
وقوله تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ» .. أي أن الابتلاء لأصحاب الجنة كان منذ وقع منهم هذا القسم الذي أقسموه على جنى ثمر الجنة وقطعها «مُصْبِحِينَ» أي فى أول مطلع الصباح، وعند استقبالهم له..(15/1092)
وصرم، الشيء: قطعه، وانصرم حبل الودّ بين فلان وفلان، أي انقطع، وانصرم معظم الليل، أي مضى، كأنه انقطع من الليل..
وقوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو حال من فاعل: «لَيَصْرِمُنَّها» أي أقسموا ليقطعنّ ثمر الجنة مستقبلين الصبح، غير مستثنين شيئا منها أو مبقين على شىء من ثمر هذه الجنة من غير حصاد أو جنى، حتى لا يبقى لأحد من الفقراء، نظر يتعلق بشىء من ثمرها..
فهذا ما أقسموا عليه، وقد جاء به القرآن على لسانهم..
ويجمع المفسرون على أن قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو بمعنى أنهم حين أقسموا على صرم الجنة صباحا، ولم يستثنوا فى هذا القسم، أي لم يقولوا: إن شاء الله!! وهذا المعنى غير مقبول من وجوه:
فأولا: من جهة نظم الكلام، لأن ما ذكره القرآن عنهم هو حكاية لقول قالوه فى زمن مضى، ولهذا جاء به النظم القرآنى بلفظ الماضي: «إِذْ أَقْسَمُوا» .. فهم قد أقسموا فى الماضي، أما ما أقسموا عليه، فهو قطع ثمار الحديقة صباح الغد، أي فى زمن مستقبل، وهو: «لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ» ..
أما قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» فهو من منطوقهم الذي نطقوا به، وهو من جملة ما أقسموا عليه.. فلو أن هذا القسم مطلقا، دون أن يقيدوه بالمشيئة- لو كان المعنى على هذا، لكان مقتضى النظم أن يجىء هكذا: «أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولم يستثنوا» !! ولكن النظم القرآنى جاء كما يقول سبحانه: «أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها(15/1093)
مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ»
.. فالاستثناء هنا معنى مرتبط بقوله تعالى:
«لَيَصْرِمُنَّها» كما تعلق به لفظ «مُصْبِحِينَ» وكلاهما حال من أصحاب الجنة..
بمعنى أنهم أقسموا ليصرمنّها كلها، غير تاركين شيئا من ثمرها، وذلك فى مطلع الصبح..
وثانيا: من جهة المعنى.. فإن فى حمل قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» على أنه استثناء مشيئة، بمعنى أنهم أطلقوا القسم من غير أن يقولوا إلا أن يشاء الله- فى هذا الحمل إفساد للمعنى، وخروج به عن الغاية المرادة من الاستثناء فى هذا المقام، لو أريد..
ذلك أن قرن القسم بالمشيئة، هو ضمان لتحققه، كما أن عدم الاستثناء قد يفوّت الأمر المقسم عليه.. وهذا يعنى أن القوم حين أقسموا ولم يستثنوا، لم يتحقق لهم ما أقسموا عليه، وهو جنى ثمار جنتهم، كما يعنى أنهم لو قرنوا القسم بالمشيئة، لتحقق لهم ما أقسموا عليه، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فهم أقسموا، ولم يقرنوا القسم بالمشيئة- كما يقول المفسرون- ولم يتحقق لهم ما أقسموا عليه.. فكيف يتفق هذا مع ما يريد المفسرون تحقيقه بالمشيئة؟ فهل كان هذا عملا مبرورا منهم يراد له أن يتحقق، وذلك بأن يعزّز بمشيئة الله؟ ذلك إفساد للمعنى أىّ إفساد! ..
ثم أكان ربط القسم بالمشيئة يدفع عنهم ابتلاء الله لهم، وأخذهم بما مكروا؟ ..
وهل القسم على أمر منكر كهذا الأمر الذي أقسموا عليه يطلب له تزكية بالمشيئة، حتى يكون فى ذلك ضمان لتحققه؟ وهل من المحمود إذا أقسم الإنسان على فعل منكر أن يقدّم مشيئة الله بين يديه، فيقول مثلا: والله لأقتلن فلانا(15/1094)
إن شاء الله؟ إن تقديم المشيئة المطلوبة من المؤمن، هو أن يكون مع الأعمال المبرورة، كأن يقول مثلا: والله لأحجّنّ هذا العام إن شاء الله، أو يقول من غير قسم- سأقوم غدا بزيارة فلان المريض.. إن شاء الله.. وهكذا فى كل أمر ليس فيه ما يكره أو ينكر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (23- 24: الكهف) .
أمّا إذا كان الأمر مكروها أو منكرا، فإن المطلوب هو عدم قرنه بالمشيئة، حتى يحرم صاحبه التوفيق فى إصابة هذا الأمر، وتحقيقه.. بل إن المرء لو أقسم على مكروه، أو منكر، كان عليه أن يتحلل من يمينه، وأن يكفّر عنها، كما يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير» .
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو من جملة ما أقسم عليه المقسمون، أي أنهم أقسموا ليصرمن جنتهم مصبحين على ألا يدعوا شيئا من ثمرها مستثنى لوقت آخر.. وهذا ما يتفق والغاية التي قصدوا إليها من تدبيرهم الذي دبروه، وهو ألا يعطوا الفرصة للفقراء والمساكين فيما كان لهم طمع فيه، وتعلق به..
وقوله تعالى:
«فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» الفاء هنا للتعقيب، وهى فاء الجزاء أيضا.. أي أنهم بعد أن دبروا هذا التدبير السيّء، وأكّدوه بالقسم، أوقع الله بهم العقاب الذي استحقوه بتدبيرهم السيّء هذا.. فطاف على جنتهم طائف من الله سبحانه، وهم نائمون، أي مرّ عليها نذير من نذر الله، وهم نائمون، يحلمون بلقاء جنتهم مصبحين، يقطفون كل ثمارها غير مبقبن على شىء، وإذا هى وقد عريت من كل ثمر!!(15/1095)
وفى قوله تعالى من «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ» - إشارة إلى أن هذا الطائف المرسل إليها من عند الله، قد وضع يده عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلم يبق مما مرت عليه يده من ثمارها شيئا..
والطائف: من يطوف ليلا، فلا يكاد يرى، ومنه الطيف، الذي يطرق النائم، من حبيب، أو صديق.
وقوله تعالى: «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» - أي أصبحت هذه الجنة بعد أن طاف عليها الطائف المسلط عليها من عند الله- أصبحت كالصريم، أي كالجنة الصريم، التي قطفت ثمارها.. أي أن هذا الطائف، قد سبق القوم إلى ما كانوا يريدون، فإذا هو قد جنى كل ثمرها، وكأنه بهذا قد تولى الأمر عنهم، وأراد أن يريحهم من هذا العناء الذي يكابدونه فى حصاد ثمرها، وأنه قد فعل هذا دون أن يراه فقير أو مسكين! أليس هذا هو الذي أرادوه؟ لقد تحقق لهم على أكمل وجه!! ولكن أين ذهب الثمر؟ إنهم لو وجدوه مقطوفا، حاضرا بين أيديهم، لعدّوا ذلك من فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم.. فأين هو الثمر؟
ليس ببعيد أن يكون الآن بين أيدى الفقراء والمساكين، الذين أرادوا حرمانهم منه، وقد وصل إلى أيديهم على أية صورة من الصور.. فإنه ليس ببعيد- وقد بان لهم أن ما حدث لجنتهم كان عقوبة من الله لهم- ليس ببعيد بعد هذا أن تضاعف لهم العقوبة، فيحرموا مما أرادوا أن يحرموا منه غيرهم، ثم يساق هذا الذي حرموه إلى من أرادوا حرمانهم! ومن يدرى، فقد يكون هؤلاء المساكين قد سبقوهم إلى هذا التدبير، فدبروا لهم هذا التدبير، كما أرادوا هم بالمساكين!! وإنه غير بعيد أن تدور مثل هذه الخواطر فى رموس أصحاب الجنة فتزداد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم.. «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (30: الأنفال)(15/1096)
قوله تعالى:
«فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» .
أي نادى بعضهم بعضا، فى بكرة الصباح، أن أسرعوا إلى زرعكم، إن كنتم منفذين لما عقدتم العزم عليه بالأمس..
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» هذا من قول بعضهم لبعض، وفيه تحريض لأنفسهم على المبادرة والإسراع بتنفيذ ما اتفقوا عليه.. وكأن كلّا منهم يقول لصاحبه: هيا أسرع!! ماذا جرى؟ ألا تريد أن نمضى فيما عزمنا عليه؟
فلم هذا التباطؤ إذن؟
قوله تعالى:
«فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ» .
أي أنهم سرعان ما اجتمع أمرهم، فانطلقوا مسرعين، يتحدث بعضهم إلى بعض، فى صوت خفيض هامس، حتى لا يحسّ بهم أحد، ولا يستيقظ على خطوهم أو صوتهم من يشهد ما يفعلون، وهم يجنون ثمر جنتهم!.
وقوله تعالى: «أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ» هو بيان لما كانوا يتخافتون به، ويوصى به بعضهم بعضا، وهو ألا يدخل الجنة عليهم أحد فى يومهم هذا.. وهذا الحديث المتخافت بينهم، هو توكيد لما كانوا قد اتفقوا عليه من قبل.. وهو مفهوم من قوله تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ» .. فهذا القسم، يخفى وراءه أمرا يريدون توكيده بهذا القسم، وعقد العزم عليه. فإن مجرد رغبتهم فى جنى ثمار جنتهم لا يحتاج إلى قسم، إذ كان ذلك الأمر إليهم، يفعلونه كما يشاءون، وفى أي وقت يريدون..
أما القسم، فهو لغاية أكثر من مجرد قطف ثمار الجنة وحصاد زرعها..
ثم إن فى قوله تعالى: «مُصْبِحِينَ» - إشارة أخرى تشير إلى أن وراء(15/1097)
هذا الأمر أمرا آخر، إذ نظر إليه على ضوء القسم الذي سبقه.. فإن التبكير بقطع الثمار وحصاد الزرع، وإن كان أمرا مألوفا، فإنه في صحبة القسم، يصبح ذا دلالة خاصة، غير تلك الدلالة العامة، وهو أنهم يريدون بهذا التبكير، المبادرة إلى إنجاز الأمر قبل أن يفضحهم النهار، وتأخذهم أعين الفقراء والمساكين.
قوله تعالى:
«وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ» ..
أي أنهم أحكموا أمرهم، وأخذوا طريقهم إلى تنفيذه، واجتمعت بين أيديهم الوسائل الممكّنة لهم منه.
فهاهم أولاء قد استيقظوا مبكّرين، وما زال الناس نياما، وهاهم أولاء قد أوشكوا أن يبلغوا جنتهم دون أن يتنبه إليهم أحد، أو يتبعهم مسكين..
والحرد: القصد، والوجهة التي يأخذها الإنسان لغايته.. ومنه قول الشاعر.
سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
والمعنى أنهم، وقد أخذوا طريقهم إلى جنتهم، خيل إليهم أنهم قادرون على القصد الذي قصدوا إليه، وإنجاز الأمر الذي دبروه، دون أن يحول بينهم وبينه حائل.. وما دروا أن يد الله قد سبقتهم إليه، وأنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» أي أنهم حين انتهى بهم الطريق إلى حيث كانت جنتهم، طلع عليهم هناك منها ما جعلهم ينكرونها، وينكرون أنفسهم حيالها.. إنها ليست جنتهم!!(15/1098)
وإلا فأين ثمارها اليانعة، وزروعها الناضجة؟ كلا إنهم ضلوا الطريق إليها، وهم يركبون بقية من ظلام الليل نحوها!! وإذن فأين الطريق إلى الجنة؟ وهنا يكثر تلفت القوم، ويطول وقوفهم، ثم تستبين لهم الحقيقة، وأنهم لم يضلوا الطريق إلى جنتهم.. إنهم يقفون إزاءها، كما يقف المسافرون على رسوم الديار، وأطلال المنازل..
وقوله تعالى: «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» هو إضراب على قولهم: «إِنَّا لَضَالُّونَ» ..
فهم- وقد عرفوا الحقيقة- ليسوا ضالين عن الطريق إلى جنتهم.. إنها هى، هى، وإن تبدلت أحوالها، وتغيرت معالمها، وذهب كل خير كان فيها..
فهم ليسوا ضالين عنها إذن، وإنما هم محرومون من ثمرها، الذي لا يدرون إلى أين ذهب! قوله تعالى «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟ لَوْلا تُسَبِّحُونَ» وهنا يأخذ القوم فى مراجعة أمرهم على ضوء هذه الحقيقة التي تكشفت لهم، ويكثر بينهم الأخذ والردّ.. ويمسك القرآن من حديثهم باللّباب منه، ضاربا صفحا عما لا غناء فيه، في هذا الموقف..
ومما رآه القرآن مستحقّا للذكر من أحاديثهم، هو قول أوسطهم، وهو أقربهم إلى الخير والحق.. ففى كل جماعة- أيّا كانوا من الضلال والسفه- بعض النفوس التي لا تخلو من خير، وبعض العقول التي لا تحرم الرؤية السليمة للأمور، فى وسط هذا الضلال المنعقد حولها..
ففى بيئة فرعون- على ما كان بها من إغراق في الضلال- كانت امرأة فرعون، وكان مؤمن آل فرعون، وقد جعل القرآن لهما ذكرا طيبا في المذكورين من(15/1099)
عباد الله المكرمين.. والوسط من كل شىء خياره، وأعدله، ولبابه، ومنه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (143: البقرة) وفى الأثر: «خير الأمور أوساطها» .. وقد وصف الله سبحانه الشجرة المباركة الزيتونة بأخذها مكانا وسطا بين الشرق والغرب، فقال تعالى: «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» (35: النور) .. ووسط القوم أدناهم إلى الحق والخير..
وفى هذه الجماعة من أصحاب الجنة، كان فيهم من لم يرض فى قرارة وجدانه عن هذا التدبير السيئ الذي دبره أصحابه، وربما كان له موقف معارض لما أرادوا.. ولكن أصحابه غلبوه على أمره، لأن إيمانه بما كان يدعوهم إليه لم يكن متمكنا من قلبه ولو أن هذا الإيمان كان قويّا متمكنا، لما تحول عنه، ولكان بالحق الذي معه، قادرا على أن يقهر الباطل الذي معهم.. ولهذا أخذه الله بما أخذ به أصحابه، من ابتلاء..
لقد كان فى كيانه شرارة من خير، ولكنه لم يقدح هذه الشرارة بعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة، فانطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا لا يرجى منه خير..
وهكذا كل من يجد فى نفسه نازعة من نوازع الخير ثم يغفل عنها، إنها تموت كما تموت النبتة البازعة على وجه الأرض، إن لم تجد من يرعاها، ويسقيها..
وفى قوله تعالى: «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» - بيان لموقف هذا الإنسان المقتصد فى عدوانه، وأنه هنا يذكّر أصحابه بموقفه الذي كان منه معهم..
«أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» أي ألم أقل لكم، قولا لو أخذتم به لما حدث لنا هذا الذي حدث؟. وقد حذف مقول القول، لدلالة الحال عليه.. وهذا أولى عندنا من أن يكون مقول القول هو قوله: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين..(15/1100)
وأما قوله تعالى: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» .. فهو كلام مستأنف، يعقّب به على قوله: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» .. وفى هذا التعقيب، يدعوهم دعوة جديدة، يواجهون بها هذه الحال التي هم فيها، وهى أنهم وقد أخطئوا حين لم يأخذوا برأيه أولا، فإن هذا لا يمنعهم من أن يرجعوا الآن إلى الله، ويستغفروا لذنبهم بعد أن رأوا ما أخذهم الله به.
فقوله تعالى: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» - هو من مقول أوسطهم، وهو تحضيض لهم على الإنابة إلى الله، واستغفاره على ما كان منهم.. أي هلا تسبحون الله؟ .. أي بادروا بذكر الله، فهذا الذكر هو عزاؤنا فى هذا المصاب الذي بين أيدينا.. ويكون النظم على هذا هكذا: ألم أقل لكم، ما علمتم ولم تأخذوا به؟ وهأنذا أقول لكم الآن قولا أرجو أن تأخذوا به: ألا تسبحون الله، وتستغفرون لذنبكم؟
قوله تعالى:
«قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» .
هو استجابة من الجماعة لما دعاهم إليه أوسطهم، من تسبيح الله، فقالوا سبحان ربنا.. إنا كنا ظالمين..
لقد اعترفوا بذنبهم، واستغفروا ربّهم.. وهم بين يدى رحمته.. إن شاء- سبحانه- رحمهم، وقبل توبتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . (199: البقرة) قوله تعالى:
«فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ» ..
أي أنه كان منهم وهم على بساط التوبة والندم- كان منهم حديث يلوم(15/1101)
فيه كلّ منهم نفسه، كما يلوم أصحابه.. فإن الجريمة مشتركة بيتهم جميعا، ولكل منهم نصيبه منها.
قوله تعالى:
«قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ» ..
هذا ما انتهى إليه تلاومهم، ومراجعتهم لما كان منهم.. فلقد استبان لهم أنهم كانوا معتدين حقّا، قد ركبوا طريق الطغيان، والاعتداء على حقوق المساكين فيما خوّلهم الله سبحانه من نعم.. وهذا الاعتراف بالذنب، هو الطريق الصحيح إلى التوبة، إن صدقته النية، وانعقد عليه العزم..
قوله تعالى:
«عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» - هو من مقول القوم فى رجوعهم إلى الله سبحانه، بعد أن اعترفوا بذنبهم، وطلبوا المغفرة من ربهم، فكان هذا مدخلا لهم إلى أن يطمعوا فى فضل الله، وأن يرغبوا إليه فى أن يبدّلهم خيرا من جنتهم تلك التي ذهبت..
قوله تعالى:
«كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..
أي بمثل هذا العذاب الدنيوي نوقع عذابنا بأهل الضلال.. فهو عذاب قد ينالهم فى أموالهم، أو أنفسهم.. ولكنه ليس كلّ العذاب.. بل هناك عذاب أقوى وأشد وأكبر.. هو عذاب الآخرة..
وهذه التفرقة بين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، لا يعرفها إلا أهل العلم(15/1102)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
الذين يؤمنون بالله، وباليوم الآخر، وما فيه من أهوال، وما أعد فيه للظالمين، والمجرمين، من عذاب عظيم..
والسؤال هنا:
ما وجه الشبه بين هذا البلاء الذي ابتلى به أصحاب الجنة، وما ابتلى الله المشركين به؟.
الذي ينظر فى الآيات التي عرضت لقصة اصحاب الجنة، يرى أنها تمثل تمثيلا دقيقا صادقا موقف المشركين من رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- ومن الخير الذي يبسط به يده الكريمة إليهم، وأنهم كانوا بين يدى هذا الخير، بين مغالين ومقتصدين فى التدبير السيئ له، وأن المغالين منهم قد غلبوا على المقتصدين، فكانوا جميعا فى هذا الموقف المنحرف من الخير الذي يدعون إليه، والذي يريدون حرمان الفقراء والمستضعفين من الاتصال به، والإفادة منه.. وهكذا تجرى أحداث قصة أصحاب الجنة خطوة خطوة، مع مسيرة المشركين، وموقفهم من تلك الجنة السماوية التي بين أيديهم..
لقد ضلوا عنها أول الأمر، وحرموا زمنا من ثمرها الطيب المبارك، ثم رجعوا إلى الله نادمين مستغفرين، بعد أن مسّهم بعض العذاب فى الدنيا، بما أصيبوا به فى بدر وغيرها، وبمن مات منهم على شركه وكفره، فعاد الله سبحانه وتعالى عليهم بالتوبة والمغفرة.
الآيات: (34- 47) [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 47]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)(15/1103)
» التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» .
هو فى مقابل التهديد، الذي هدد به المشركون، الذي ابتلاهم الله سبحانه، كما ابتلى أصحاب الجنة، بما أخذهم به من عذاب قبل يوم الفتح، ثم إن وراء هذا عذابا شديدا فى الآخرة، لمن لم يعدل عن طريق الضلال، ويأخذ طريق الحق، والهدى، ويلتقى مع ربه على توبة وإيمان..
فالآخرة ليست دار عذاب وحسب، وإنما هى دار نعيم كذلك..
فهى دار عذاب للكافرين وأشياع الكافرين، وهى دار نعيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد) ..(15/1104)
قوله تعالى:
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» ؟
هو استفهام يراد به النفي.. أي أننا لا نجعل المسلمين كالمجرمين، فلا نسوّى بين هؤلاء وأولئك فى الجزاء.. فإذا كانت النار هى مثوى المجرمين، فإن الجنة هى دار المسلمين..
وفى التعبير عن المسلمين بدلا من المتقين، الذين جاء هذا الاستفهام تقريرا وتوكيدا لما وعدوا به فى قوله تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» - فى هذا التعبير إشارة إلى أن ذلك كان فى أول الدعوة الإسلامية، إذ الدعوة فى أساسها دعوة إلى الإسلام، والذين استجابوا لها كانوا يسمون المسلمين..
فكلمة الإسلام حينئذ كانت الكلمة الجامعة للإسلام، والإيمان، والتقوى، جميعا، إذ لم يدخل فى الإسلام إلا من أشرق قلبه بنور الحق واليقين، فلم يكن إسلام من أسلم فى أول الدعوة، عن رهبة، أو طمع فى شىء من متاع الدنيا..
إن كل مسلم استجاب لدعوة الإسلام فى هذا الدور من الدعوة الإسلامية، كان مسلما، وكان مؤمنا، وكان تقيّا، أي آخذا الإسلام كلّه، ظاهرا، وباطنا، إذ كان الذين استجابوا للإسلام، إنما استجابوا عن فطرة سليمة، ونفس مطهرة من رجس الجاهلين، وقلوب متفتحة للحق، متشوفة إلى الهدى، وحيث وطنوا أنفسهم على احتمال البلاء، وتلقى ضربات المشركين، بثبات ويقين..
فلم يكن- والأمر كذلك- شىء يدخل على إسلامهم من نفاق أو طمع فى جاه أو مال.. بل هى التضحية والفداء، فى سبيل الحق الذي آمنوا به..(15/1105)
فالمسلمون هنا فى قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» يحققون بإسلامهم معنى التقوى فى أصدق مقاماتها، وأعلى منازلها.. وحسبهم أن يكونوا مسلمين ليضفى عليهم هذا الاسم صفة المؤمنين المتقين..
ومن جهة أخرى، فإن كلمة «المسلمين» فيها معنى السلام، والسلامة، وخلوّ الإنسان مما يؤاخذ عليه..
فإذا وقعت المقابلة بين المسلمين والمجرمين، وطلب إلى المشركين أن يجيبوا على هذا السؤال: أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ لم يكن لهم أن يشغبوا، وأن يجدوا مهربا من الجواب الذي يقهرهم الواقع على النطق به.. فإنهم لو قالوا: نعم، نسوى بين المسلمين والمجرمين، فإن المسلمين الذين استجابوا لمحمد، هم فى نظرنا مجرمون- إنهم لو قالوا هذا لوجدوا من يسفّه رأيهم.. لأنهم حكموا فى قضية غير القضية التي دعوا إلى قولهم فيها.. إن القضية ليست بين الإسلام والشرك، وإنما هى بين أهل السلام، وبين المجرمين.. فهل يسوّى بين البريء والمجرم؟
ولهذا جاء قوله تعالى: «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» منكرا عليهم أن يقولوا بهذه التسوية بين المسلمين والمجرمين.
ولو أنه لم يكن لكلمة المسلمين، هنا، منصرف إلى معنى آخر غير معناها الديني الذي هو علم على أتباع محمد- لو أن ذلك كان كذلك، لما كان هناك وجه للاعتراض على المشركين فى تسويتهم بين المسلمين والمجرمين، لأن ذلك- على ما فيه من ضلال وسفه- هو رأى المشركين فى المسلمين.
وعلى هذا فلا يكون لقوله تعالى: «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» متوجه إليهم، لأنهم حكموا بما يعتقدون.. فلا يطلب منهم- والأمر كذلك- أن يقولوا غير ما قالوه- وإن كان ضلالا، وزيفا!!(15/1106)
أمّا لو كان لكلمة المسلمين، مصرف إلى معنى آخر غير معناها الديني، كالسلامة، والبراءة، ونحوها- فإن التسوية بين البريء والمجرم لا يقول بها أحد، ولو قال بذلك لتوجه إليه اللوم، والإنكار، والتسفيه.. وهذا ما يتحقق بكلمة «المسلمين» التي تشير إلى أناس بأعيانهم، هم أصحاب محمد، ثم إلى صفة بارزة في هؤلاء الأصحاب، وهى أنهم أهل سلام، لم يعتدوا على أحد، ولم يعترضوا طريق أحد، بل إنهم هم الذين كانوا يتعرضون للأذى والضرّ من هؤلاء المجرمين، الذين يلقونهم بالمساءة ابتداء من غير سبب! وأما التعبير عن «المجرمين» بدلا من المشركين، الذين يواجهون بهذا الحديث، فهو وصف يلبسهم مع الشرك، لباس المجرمين، الذين يساقون إلى المحاكمة، متلبسين بجرمهم.
فقد يكون المشرك، ولا سلطان لأحد عليه، يأخذه بشركه، ويعاقبه عليه، ولكنّ هؤلاء المشركين، هم واقعون تحت سلطان قاهر، لا يفلتون من عقابه الذي حق عليهم بعد أن بلّغهم الرسول رسالة ربه.. فهم قبل بعثة الرسول إليهم، كانوا مشركين، واقعين تحت قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .. أما الآن، وقد جاءهم الرسول، وبلّغهم ما أرسل به إليهم، ولم يقبلوا منه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله وحده- أما الآن، فهم مشركون، مجرمون، يساقون إلى الحساب، والجزاء.. وإنه لا جزاء للمشركين المجرمين إلا النّار..
قوله تعالى:
«ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» هو تعقيب على قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» .. وفى هذا نخس المشركين، وإيقاظ لهم من غفلتهم، وكشف لهم عن ضلالهم..(15/1107)
إذ كيف يسوّى بين المسلمين والمجرمين؟ بين أهل السلامة والاستقامة، وبين أصحاب الآثام، وأرباب الجرائم..؟ إن هذا لا يقول به عاقل، ولا يقبله منطق العقلاء! قوله تعالى:
«أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» هو إضراب على إجابتهم الباطلة، التي أجابوا بها فيما بينهم وبين أنفسهم، على ما سئلوا عنه فى قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟» والتي أنكرت عليهم، وسفهت أحلامهم من أجلها.. فإذا كان لهم ما يدفعون به عن أحلامهم تلك السفاهة، وأن يضيفوا ما أجابوا به إلى كتاب درسوه وتلقوا عنه هذا الجواب، فليأتوا بهذا الكتاب، إن كانوا صادقين، وليأخذوا من هذا الكتاب ما يختارون، مما يقيم لهم حجة على ما يقولون، فإن أي قول يقولونه من هذا الكتاب سيقبل منهم أيّا كان منطقه، وأيّا كان موقعه من الحق.. إنهم أميّيّون، لا كتاب معهم، وإتيانهم بكتاب أمر غير ممكن لهم.
وفى هذا تحدّ للمشركين، ونفى قاطع أن يكون لهم كتاب.. إنهم لم يكونوا أبدا أهل كتاب، ولو أنهم أرادوا أن يكونوا أصحاب كتاب لما كان لهم غير هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول الله..
فقوله تعالى: «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» هو احتكام إلى هذا الكتاب، وهو القرآن الكريم، وإلى مقولاته، وهو كتاب لا وجود له بين أيدى المشركين الذين أبوا أن يقبلوه، وأن يضيفوا أنفسهم إليه.
قوله تعالى:
«أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ» ..(15/1108)
وإذا لم يكن ثمة كتاب بين أيدى المشركين، يحتكمون إليه، ويأخذون مقولاتهم منه.. فهل لهم على مقولاتهم تلك، عهد موثّق بالحلف عليه مع الله سبحانه وتعالى، لا ينقطع إلى يوم القيامة؟ إن يكن هذا، فإن لهم ما يحكمون، دون أن يردّ حكمهم! والحقّ أنه لا عهد لهم من الله! وإذا لم يكن بينهم وبين الله عهد، وإذا لم يكن فى أيديهم كتاب، فلم يبق إذن معهم إلا عقولهم تلك التي غشيها الضلال، واستبد بها السفه، والتي خرجت منها تلك المقولات الفاسدة، وهذه الأحكام الباطلة، التي يؤخذون بها، ويحاسبون عليها، دون أن يكون لهم شفيع من كتاب درسوه، أو عهد مع الله وثقوه..
قوله تعالى:
«سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» .
هو أمر للنبى الكريم أن يلقى المشركين بهذا السؤال، وهو أن يخرجوا من بينهم الزعيم الذي يتولى عنهم القول بأن لهم كتابا، أو أن لهم مع الله عهدا، ثم يكون هذا الزعيم ضامنا وكفيلا بتقديم الحجة على هذا أو ذاك، ساعة الحساب، ويوم الجزاء! فأين منهم من يتولّى هذا الأمر عنهم، ويحمل مسئوليته دونهم؟
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» ..
وإذا لم يكن للمشركين شىء من هذا كله، فلا كتاب معهم، ولا عهد من الله لهم، ولا زعيم منهم يزعم أن لهم شيئا من هذا- فهل لهم شركاء(15/1109)
مع الله، قد اتخذوهم من دون الله، يدفعون عنهم عذاب يوم القيامة، الذي ساقتهم إليه عقولهم الضالة؟ فإن يكن لهم شركاء ينصرونهم من دون الله، فليأتوا بهؤلاء الشركاء إن كانوا صادقين.. وقد أخذ القرآن الكريم فى هذا كل مسلك يمكن أن يسلكه المشركون للإفلات من تلك الجريمة، جريمة الشرك والكفر، وسدّ عليهم منافذ الخلاص من بين يديه منها، ومن العقاب الراصد لهم عليها.. لقد سقطت من أيديهم كل حجة تسند ضلالهم وكفرهم.
وقوله تعالى:
«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» .
هو جواب على سؤال من المشركين يواجهون به هذا التهديد الذي سيق إليهم من قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» .
وكأنهم إذ يسمعون هذا التهديد المتحدّى يقولون: «متى تأتى بهؤلاء الشركاء» ؟
إنهم حاضرون معنا.. إنهم آلهتنا تلك التي نعبدها.. فيجيئهم الجواب: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» ..
وقوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» هو كناية عن يوم القيامة، وما فيه من شدائد وأهوال.. فإن العادة قد جرت أنه حين يشتد الأمر يشمّر الإنسان عن ساقه، حتى لا تعوقه ملابسه عن الحركة، والجري، فى مواجهة الشدائد، أو الفرار منها.. وفى هذا يقول الشاعر:
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدوا
وقوله تعالى: «وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» أي فى هذا اليوم يوم القيامة «يدعى المشركون إلى السجود» أي تدعوهم داعية حالهم إلى أن يستجيبوا لله، وأن يؤمنوا به، ليلحقوا بالمؤمنين، ويخلصوا من عذاب النار(15/1110)
التي يساقون إليها، ولكن لا يستطيعون ذلك، أي لا يمكّنون من هذا، ولا يفعلونه، لأن الآخرة دار جزاء وحساب، وليست دار عمل وكسب..
لقد مضى زمن السجود، فلا سبيل لهم إليه..
قوله تعالى:
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» ..
هو بيان لحال المشركين يومئذ، حين حاولوا السجود لله، وتدارك ما فاتهم، فلم يفلحوا، وقد لبستهم حال من الغم، والكمد، فخشعت لذلك أبصارهم ذلة وانكسارا..
وقوله تعالى: «وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» .. هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ما ذنب هؤلاء المشركين إذا دعوا إلى السجود ولم يستطيعوا؟ وهل يكلّف الإنسان ما لا يستطيع؟ وهل يحاسب على ما يجاوز استطاعته؟ فكان الجواب: إنهم لم يحاسبوا على عجزهم عن السجود يوم القيامة، لأنّهم فى حال لا يمكّنون فيها من هذا السجود، وإنما هم يحاسبون على امتناعهم عن السجود، حين دعوا إليه وهم سالمون، أي وهم فى الدنيا، حيث تصحّ العبادة، وتقبل الأعمال.. فالمراد بالسلامة هنا، هو سلامة الوقت الذي تصحّ فيه الأعمال، وتقع موقع القبول.
قوله تعالى:
«فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» ذرنى، أي دعنى، واتركني.
وهذا الفعل من الله سبحانه، هو تهديد مزلزل لهؤلاء المشركين، الذين يكذبون بآيات الله، ولا ينتفعون بوعد أو وعيد منها..(15/1111)
إنها حرب يعلنها الله سبحانه وتعالى على المكذبين بآيات الله، وحسب المكذبين بآيات الله، ضياعا وهلاكا أن يحاربهم الله..
والواو فى قوله تعالى: «وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» - واو المعيّة، أي بمعنى مع..
وقوله تعالى: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» أي سنسوقهم إلى الهلاك رويدا رويدا، وندفع بهم إلى جهنم خطوة خطوة، دون أن يشعروا أنهم سائرون إلى هذا البلاء العظيم، بل إنهم ليحسبون أنهم على هدى، وأنهم على موعد مع الخير العظيم الذي يلوح لهم من وراء هذا السراب الخادع الذي يتراءى لهم، فإذا انتهى بهم المطاف إلى غايته، وتكشف لهم أنهم كانوا مخدوعين بهذا السراب، تضاعفت حسرتهم، وعظمت مصيبتهم.
وفى قوله تعالى: «فذرنى» - مع أن الله سبحانه وتعالى لا يحجزه أحد عما يريد- إشارة إلى إطلاق يد الله فيهم بالعذاب والنكال، فهو مثل قوله تعالى:
«سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» .. والمراد بالحديث هنا فى قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» - هو القرآن الكريم، وما يسوق إلى المشركين من نذر بالبلاء والعذاب.
والاستدراج: هو فتح منافذ الإغراء إلى الشيء. واستدراج الله سبحانه وتعالى لأهل الضلال، هو أن يخلى الله سبحانه وتعالى بينهم وبين أنفسهم، وما زينت لهم من أباطيل، فينتقلون من ضلال إلى ضلال، خطوة خطوة، حتى يقعوا فى الهاوية..
قوله تعالى:
«وَأُمْلِي لَهُمْ.. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» .
أي ومن هذا الاستدراج الذي يستدرج به الله سبحانه، المشركين، أنه(15/1112)
يمهلهم، ويملى لهم، فلا يعجّل لهم العذاب فى الدنيا، حتى تمتلىء كأسهم من الآثام والمنكرات..
وقوله تعالى: «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أي إن تدبيرى محكم، فإذا أمليت لظالم فإنما أملى له، لأضاعف له العذاب، لمضاعفته هو المنكرات والسيئات، حين امتدّ عمره، وكثر المال فى يده، ليحارب به الله، ويسلك به كل سبيل من سبل الفساد والضلال.
قوله تعالى:
«أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» .
هو مواجهة للمشركين بهذا السؤال التهكمى، بعد أن ووجهوا بالوعيد والتهديد فى قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» .. إذ ماذا يحجزهم عن الاستجابة لهذا الخير المدعوّين إليه؟ وما لهم لا يمدون أيديهم إليه؟ أأنت أيها النبي تطلب إليهم ثمنا لهذا الخير الذي تقدمه لهم، حتى إن هذا الثمن يثقلهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى هذا الخير؟ إن أحدا لم يطلب منهم شيئا فى مقابل هذا الرزق الكريم المبسوط للناس جميعا.. ولكن هى نفوسهم الخبيثة التي عافت هذا الطعام السماوي، ووقفت إزاءه نافرة منه، وهو يقدّم إليها بلا ثمن..
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» .. أي أم عندهم علم الغيب، فهم يستملون منه أنباء المستقبل، ويرون على ضوئه ما ينتظرهم على طريق الحياة؟
إنهم لا يلتفتون إلى هذا النور الذي بين يدى النبىّ، الذي لا يسألهم أجرا عليه. فهل معهم نور يهتدون به؟ وهل عندهم علم من الغيب يكشف لهم معالم الطريق الذي هم سائرون فيه؟ إنهم يسيرون فى ثقة واطمئنان، ولا يدرون(15/1113)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
أنهم محجوبون عن رؤية المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. إنهم أشبه بالماشية التي تجترّ فى هدوء واطمئنان، وهى في طريقها إلى المذبح!
الآيات: (48- 52) [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
[النبي.. وصاحب الحوت] التفسير:
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» بهذه الآية، والآيات التي بعدها تختم سورة «القلم» التي كانت معرضا لضلال المشركين، وسفههم، وتطاولهم على رسول الله، كما كانت معرضا للدفاع عن القرآن الكريم، وعن الرسول، وتتويجه بهذا التاج الرباني الذي زينه به الله سبحانه وتعالى، بثنائه عليه، فى قوله سبحانه: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. ثم تتابعت آيات السورة، تتوعد المشركين، وتهددهم بالعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، إذا هم لم يستجيبوا للرسول، ولم يتلقوا ما تمتد به إليهم يده، من رزق الله الذي لا يسألهم عليه أجرا..
ثم يجىء هذا الختام الذي يتلّقى فيه النبي من ربه سبحانه دعوة إلى الصبر على(15/1114)
ما يلقى من سفاهة السفهاء، وحماقة المحمقين من قومه.. فهذا هو حكم الله، الذي يدعوه إلى امتثاله: إنه الصبر، ولا شىء غير الصّبر..
وقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» - هو شدّ من عزم النبىّ على الصبر، وتوكيد لالتزامه، والتمسك به، وألا يزايل موقفه الذي هو فيه، كما فعل صاحب الحوت- وهو يونس عليه السلام- حين أخلى مكانه بين قومه، وتركهم مغاضبا لهم، بعد أن دعاهم إلى الله، وتوقفوا عن إجابة دعوته.. ولو أنه صبر على عنادهم، وعاود نصحهم يوما بعد يوم، لاستجابوا له، فقد كان فيهم- مع هذا العناد- بقيّة من خير، يمكن أن تكون شرارة يتوهج منها نور الإيمان، لو وجدت من ينفخ فيها برفق، وأناة، ويتلطف فى الإمساك بها من غير تعجل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف يونس عليه السلام: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (87: الأنبياء) .. فيونس عليه السلام- هو الذي ذهب مغاضبا لقومه، أي محدثا الغضب من قبل أن تجتمع لديه أسبابه القويّة الداعية إليه..
وقوله تعالى: «إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» بيان لحال يونس عليه السلام، وهو فى بطن الحوت، ثم بيان لحاله، وهو ينادى فى جوف الحوت..
فالله سبحانه وتعالى ينهى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- عن أن يكون فى موقف كموقف يونس- عليه السلام- حين نادى ربه فى حال هو فيها مكظوم، أي مغيظ، محنق، محتنق من الغيظ، والضيق..
والكظم: مخرج النفس من الصدر، وكظم فلان: أي حبس نفسه..
وكظم الغيظ: حبسه، ومنه قوله تعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» .(15/1115)
ومن هنا يتبين أن المكظوم، «غير الكاظم.. فالكاظم، هو الذي غلب غيظه وقهره، وأما المكظوم، فهو الذي ملكه الغيظ، وقهره، وغلبه على أمره..
وعلى هذا، فإن الذي يحذّر النبي منه، هو ألا يغلبه الغيظ، كما غلب يونس عليه السلام، بل المطلوب منه، هو أن يكظم غيظه، وأن يقهره، وألا يجعل لهذا الغيظ سلطانا عليه، يحمله على مفارقة قومه، وإخلاء مكانه فيهم، كما فعل يونس..
وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (134: آل عمران) فقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» أي لا تكن كيونس إذ نادى ربه، وقد غلبه الغيظ، وحمله على أن يترك قومه، وينزل فى هذا المكان الضيق، وهو بطن الحوت.
فالذى يحذّر منه النبي، ليس هو مناداة ربه، وإنما مناداته فى حال يكون قد غلبه فيها غيظه.. فإن دعاء الله، واللّجأ إليه- وإن كان محمودا على كل حال وفى كل حال- إنما يكون فى أحمد أحواله، وأعلى مقاماته، حين يكون صاحبه متجملا بالصبر على ما أصابه، ممسكا بزمام نفسه، ثقة بالله، واطمئنانا إليه، في أشد الأهوال، وأعظم المحن، فلا يضيق بمحنة، ولا يكظم بشدة، لأنه مسلم أمره إلى لله، لا جىء إلى حمى سلطانه..
قوله تعالى:
«لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي أن يونس- عليه السلام- لولا أن أدركته نعمة(15/1116)
ربه، وإحسانه إليه «لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ» أي لخرج من بطن الحوت وهو مذموم ملوم من ربّه.. ولكن الله سبحانه وتعالى، استجاب له، حين دعاه من بطن الحوت.. ثم اختاره ربّه من بعد أن خرج من بطن الحوت، فخلع عليه لباس النبوة، الذي عرّى منه أو كاد، حين فارق قومه..
فخروج يونس من بطن الحوت، هو رحمة من رحمة الله به، وإعادته إلى وضعه الأول فى مقام النبوة، هو نعمة مجددة أنعم الله بها عليه، إذ جعله بها من الصالحين، الذين سلموا من الذم، ونجوا من الملامة والعيب.. إنه بعث جديد له.
ففى قوله تعالى: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» - إشارة إلى حال جديدة، أعقبت الحال التي خرج عليها يونس من بطن الحوت، فهو- عليه السلام- خرج كما يخرج السجين من سجنه، يحمل معه آثار الذنب الذي كان منه.. ولكن الله سبحانه تدارك عبده، فأزال عنه هذا الأثر، وخلع عليه خلعة النبوة التي كانت تنتظره، على باب السجن الذي خرج منه، وبهذا ردّ إليه اعتباره، بعد هذا البلاء العظيم..
والسؤال هنا: ماذا كان من النبي- عليه الصلاة والسلام- من موقف مشابه لموقف يونس- عليه السلام- حتى ينبّه إلى الحذر من أن يأخذ الطريق الذي أخذه صاحب الحوت؟
نقول- والله أعلم-: كان النبي صلوات الله وسلامه عليه- قد بلغ به الحال بينه وبين قومه، ماملأ صدره ضيقا بهم، وحيرة فى أمرهم، بعد أن لقيهم بكل طريق، وجاءهم بكل حجة، فلم يكن منهم إلا السفاعة، والتطاول، والإمعان فى المجافاة له، والأذى لأصحابه الذين آمنوا به، وإن الموقف ليبلغ غايته من التأزم والضيق، حين يخرج النبي- صلوات الله وسلامه عليه-(15/1117)
إلى «ثقيف» بالطائب، ويعرض عليهم دين الله، ويبلّغهم ما أرسل به إلى الناس، ثم لا يلقى منهم إلا استهزاء وسخرية، وإلا تطاولا بالألسنة، ورجما بالأحجار، فيتركهم وقد أيئسوه من أن يجد لدعوته أذنا تسمع، أو عقلا يعى وهنا تنزل تلك الآيات على الرسول الكريم، داعية إياه إلى الصبر، محذرة إياه من أن يأخذ موقفا كموقف أخ له من أنبياء الله قبله، هو يونس عليه السلام..
وهذا على أن هذه الآيات مكية، فى سورتها المكية..
أما على الرأى الذي يقول إنها آيات مدنية فى السورة المكية، فإنه يجعل نزول هذه الآيات فى أعقاب غزوة أحد، بعد أن أصاب المشركون ما أصابوا من صحابة رسول الله، ومنهم عمه حمزة. رضى الله عنه، وبعد أن أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من سهام المشركين حتى شجّ رأسه، وكسرت رباعيته وسال دمه.
وعلى أىّ، فإن نزول هذه الآيات، كان فى حال اشتد فيها ضيق النبي، وكاد يقع اليأس فى قلبه من إيمان هؤلاء المشركين، الذين ركبوا رءوسهم، وأسلموا للشيطان قيادهم..
هذا، وفى تلك الآيات إشارة إلى أن عاقبة هؤلاء المشركين، هى الإيمان بالله، والاستجابة للرسول، كما آمن قوم يونس، بعد أن عاد إليهم، وجدّد دعوتهم إلى الإيمان بالله.. كما يقول سبحانه: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (98: يونس) - وفى هذا إشارة من أنباء الغيب إلى مستقبل هذه القرية، وهى مكة، وأن أهلها سيؤمنون، كما آمن قوم يونس.(15/1118)
فهؤلاء المشركون الذين يقفون هذا الموقف العنادىّ الضالّ من رسول الله، سوف يدخلون فى دين الله، وسوف يرى فيهم النبىّ القوم المؤمنين الذين تقوم بأيديهم دولة الإسلام.. وغاية ما هناك أن يصبر النبىّ، وأن يحتمل هذا الموقف المتأزم بينه وبين قومه، فإن الضيق إلى فرج، وإن العسر إلى يسر.
وهكذا كانت الآية من البشريات المسعدة، التي بشّر بها النبىّ فى قومه، الذين كان شديد الحرص على هدايتهم ونجاتهم من الهلاك الذي يتدافعون إليه..
وفى قوله تعالى:
«وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» .
هو حال من فاعل الفعل فى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» ..
والفاعل هو ضمير يعود إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه، المتلقّى لخطاب ربّه.. أي فاصبر لحكم ربك، وإن كان قومك يرمونك بنظراتهم القاتلة.
فالله سبحانه وتعالى، إذ يدعو النبىّ إلى الصبر على المكاره التي يحملها من قومه، يدعوه إلى هذا فى حال بلغت فيه عداوة قومه غايتها، حتى إنهم ليكادون يزلقونه أي يسقطونه فزعا من نظراتهم المصوّبة إليه بسهام الحنق والغيظ والانتقام.. فهم حين يستمعون إلى الذكر- وهو القرآن الكريم- تغلى مراجل غيظهم، فتنطلق من أعينهم نظرات ملتهبة كأنها السهام، فإذا رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم هذه النظرات تنوشه من كل جانب، فزع، وكرب وكاد يسقط من هول ما يطلع عليه من عداوة القوم!! وللعين قدرتها الخارقة على إظهار مكنون الإنسان، من حبّ أو بغض، ومن وعد أو وعيد، فهى المرآة التي تنعكس عليها مشاعر الإنسان، ويتجلى(15/1119)
على صفحتها ما يعتمل فى كيانه من رضا أو سخط، ومن سكينة أو فزع، حتى ليبلغ الأمر أن تكون العين سلاحا قاتلا، يصيب مقاتل من يرمى بها.. وفى هذا يقول الشاعر، فى أعداء التقوا بنظراتهم المتوعدة بالشر، قبل أن يلتقوا بسيوفهم المسلولة للقتال.. يقول:
يتقارضون «1» إذا التقوا فى موطن ... نظرا يزيل مواقع الأقدام
وفى النظرة الحاسدة شىء من هذا، فإنها ترمى المحسود، فى غفلة منه، فتصيب منه مقتلا.. لأنها نظرة منطلقة من قلب يغلى كمدا، وحسرة، على ما بيد المحسود من نعمة الله.
وليس هذا ما لقدرة العين وسلطانها فى الإنسان وحده، بل إنها عند كثير من الحيوانات تكون سلاحا عاملا فى الصراع الدائر بينها..
فالحيّة، كثيرا ما تجد فى نفسها القدرة على إصابة عدوّها بنظرة منها، فإذا أرسلت إلى عدوها نظرة والتقت عينه بعينها، شلت حركته وجمد فى مكانه، وربّما مات قبل أن تصل إليه..!
فالصبر الذي يدعى إليه النبىّ من ربه، هو فى تلك الحال، التي بلغت فيه عداوة القوم له غايتها، بما يرمونه به من نظرات ملتهبة، حين يسمعون آيات الله تتلى عليهم.. وليس هذا النظر المشحون بسموم العداوة وحسب، بل إنهم يرمونه مع هذا بسهام أخرى من أفواههم، كقولهم: مجنون، وساحر..
__________
(1) يتقارضون: أي يتبادلون، كأنما يقرض أحدهما الآخر شيئا، فيرد المقترض ما اقترض.(15/1120)
وقوله تعالى:
«وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» ..
هو رد على هذه التهمة الفاجرة الظالمة التي تنطلق بها أفواه هؤلاء المشركين، وهو تثبيت للنبى فى موقفه، وإلفات له إلى ما بين يديه من آيات القرآن الكريم، الذي هو ذكر للعالمين، وحياة مجددة للناس، جيلا بعد جيل، وإنه لا ذكر، ولا قدر لمن فاته الاتصال بهذا الكتاب، وتلقّى عنه، وقطع مسيرة الحياة فى ظله، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» (44: الزخرف) .(15/1121)
69- سورة الحاقة
نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الملك.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية..
عدد كلماتها: مائتان وخمس وخمسون كلمة..
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثمانون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة «القلم» دعوة من الله سبحانه وتعالى، إلى النبي الكريم أن يصبر على موقفه من قومه، وألا يتحول عنه، كما تحول صاحب الحوت، وإن لقى من قومه أشدّ العداوة، والشنآن، وأن يمضى فى طريقه معهم منتظرا حكم الله بينه وبينهم، كما حكم الله بين إخوانه النبيين وأقوامهم..
وتجىء سورة «الحاقة» مفتتحة بهذه المعارض التي يتجلى فيها ما حكم الله سبحانه به بين بعض أنبيائه وأقوامهم، وما لقى المكذبون المعاندون منهم من مرسلات الهلاك عليهم فى الدنيا، التي أخذتهم مرة واحدة، فما أبقت منهم باقية..(15/1122)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 12) [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
التفسير:
قوله تعالى:
«الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ» .
هكذا تبدأ السورة الكريمة، بهذه الكلمة: «الحاقة» التي تقع على الأسماع موقع الصيحة الراعدة المزلزلة فى هدأة الليل تغشى الناس بالفزع المذعور، الذي تدهش له العقول، وزيغ به الأبصار، وتخرس معه الألسنة، وقد امتلأ الجو بهذا التساؤل الكبير الذي يطلّ من كل عين:
ما هذا؟ ما هذا؟.(15/1123)
«مَا الْحَاقَّةُ؟» .
إنها مع صوتها الراعد المزلزل، ملففة فى أطواء المجهول.. لا يعرف لها وجه، ولا تبين لها حقيقة، حتى لكأنها القدر، ترمى الناس بما فى يديها من نذر، من حيث لا يحتسبون، ولا يقدّرون.. وهذا مما يضاعف فى فزع الناس منها، وفى الكرب المشتمل عليهم إزاءها..
«وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» .
ومن يستطيع أن يجيب على هذا السؤال: «مَا الْحَاقَّةُ؟» إن أحدا لا يستطيع أن يتصور حقيقتها، أو يبلغ إدراكه الإحاطة بها.. وفى هذا التجهيل فى الجواب الذي يجاب به عنها، مضاعفة للفزع والكرب المستوليين على الناس منها.
وكأنّ المعنى هو:
«الْحَاقَّةُ» .. وهذا إخبار من الله سبحانه وتعالى بها، وإعلان للناس بوقوعها حيث يشتمل عليهم الفزع، ويستبدّ بهم الخوف من مجرد التلفظ بها..
«مَا الْحَاقَّةُ؟» وهذا سؤال من الناس عن هذا الكائن العجيب، الذي يشيع ذكره الرعب والفزع.. وكأنهم يتجهون بهذا السؤال إلى النبىّ الذي ألقى بهذا الاسم على أسماعهم!! «وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» وهذا جواب من الله سبحانه على تساؤل السائلين للنبىّ عن الحاقة.. إن النبىّ الذي يسألونه، ويرجون الجواب عنده، لا يدرى ما هى الحاقة؟ إنها شىء من وراء تصورات العقول، واحتمال المدارك..
أما معنى الحاقة من حيث اللغة، فهو اسم فاعل من الحقّ.. وحقّ(15/1124)
الشيء: وجب.. ووقع، فالحاقة لغة، بمعنى الواجبة، والواقعة.. أي الواجبة الوقوع.. وهذا يعنى أنها شىء سيقع حتما.. أما ما صفة هذا الشيء الذي سيقع، وما صورته فى العقول- فهذا شىء لا يمكن أحدا أن يدرك وصفه، أو يتمثل صورته.. إنه شىء مهول لم يقع للناس شىء مثله، فكيف يستقيم له تصور فى أفهامهم؟
وجواب السؤال عن الحاقة فى قوله تعالى: «مَا الْحَاقَّةُ» يمكن أن يكون هو قوله تعالى «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» .. كما سنتعرض لهذا بعد قليل، ويمكن أن يكون السكوت عن الجواب هو الجواب، لأن الذين كفروا لا يستمعون إلى هذا الجواب، ولا يؤمنون به، كما فعلت ذلك عاد وثمود..
وإذن، فخير جواب على هؤلاء السائلين المتعنتين، هو عدم الردّ عليهم، وتركهم فى بلبال وحيرة.
قوله تعالى:
«كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» .
يمكن أن يكون هذا- كما قلنا- جوابا للتساؤل عن «الحاقة» ..
وهو جواب من الله سبحانه وتعالى، بعد أن نفى عن النبىّ إمكان الإجابة عليه.. كما يمكن أن يكون استئنافا يراد به التعقيب على هذه التساؤلات عن الحاقة..
وفى هذا الجواب تشنيع على فعلة ثمود وعاد، وتكذيبهم بالقارعة.. فكأن التكذيب بالقارعة، يضاهى الحاقة نفسها، فى هو لها الذي لا تتصوره العقول، وكأنّ الجواب هو: كذبت ثمود وعاد بالحاقة التي هذا شأنها.. و «القارعة» كائن مجهول أيضا، كالحاقة..(15/1125)
فالقارعة، والحاقة، كلمتان مترادفتان.. وقد سميت بكل منهما سورة من سور القرآن الكريم.. وبدئت سورة القارعة بلفظ «القارعة» كما بدئت سورة الحاقة بلفظ «الحاقة» .. وكما جاء نظم الآيات الثلاث الأولى من الحاقة، جاء نظم الآيات الثلاث الأولى من القارعة.. هكذا: «الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟» ..
وقد كشفت سورة «الحاقة» عن وجه من وجوه هذه «الحاقة» وما بين يديها من نذر البلاء، فيما أخذ الله المكذبين بها، من بلاء ونكال، هو أشبه فى هوله بما يكون من أحداث الساعة، أو موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، وذلك فيما يقول سبحانه وتعالى، عن مهلك ثمود وعاد.. يقول سبحانه:
«فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» .
فهذا ما أخذ الله به المكذبين «بالقارعة» من ثمود، وعاد.
فأما ثمود، فقد أهلكهم الله بالطاغية، وهى الصاعقة المزلزلة العاتية، التي جاوزت كلّ حدّ معروف لها فى ظواهر الطبيعة، ولهذا سميت طاغية، ولهذا كان عقاب ثمود بها، لأنها طغت، واعتدت على صالح رسول الله، وعلى ناقة الله، كما يقول سبحانه: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها» (11- 15 الشمس) وكما يقول جل شأنه:
«وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (17: فصلت) .
وأما عاد، فقد أهلكهم الله بريح صرصر عاتية..(15/1126)
والريح الصرصر، هى الريح العاصفة الباردة، القاتلة ببردها.
وفى قوله تعالى: «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» - إشارة إلى اشتمال العذاب عليهم هذا الزمن الذي تجرعوا فيه غصص الموت، قطرة قطرة..
وحصر عدد الليالى بسبع، وعدد الأيام بثمانية- إشارة إلى أن الأيام تسبق الليالى، وأن النهار يسبق الليل، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» (40: يس) »
..
فهذا هو كتاب الله الذي يصدّق بعضه بعضا، «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) .
كما يشير هذا إلى أن العذاب وقع بالقوم نهارا، وجاءهم عيانا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» (24: الأحقاف) .
وقوله تعالى: «حسوما» صفة أيام، التي تحتوى فى كيانها الليالى أيضا لأن الأيام ثمانية، والليالى سبع.. فهو فى حقيقته صفة للأيام والليالى معا.
والحسوم، من الحسم، وهو القطع.. يقال حسم فلان الأمر: أي قطعه..
ومنه الحسام، وهو السيف، إذ أن من أفعاله أنه يحسم حياة من يضرب به.
وأعجاز النخل: أصولها، الممسكة بها على الأرض..
والخاوية: الجوفاء، التي فرغ جوفها، بعد موتها وجفافها.
وفى تشبيه القوم بأعجاز النخل- إشارة إلى ما كان عليه القوم من فراهة الأجسام، وضخامة الأبدان، وقوة الكيان، كما وصفهم الله سبحانه على لسان
__________
(1) انظر فى هذا تفسيرنا لتلك الآية فى سورة «يس»(15/1127)
نبيهم هود، عليه السلام: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» (69: الأعراف) ويقول سبحانه: «وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» (130: الشعراء) .
وكما كشفت سورة «الحاقة» عن هذا الهول الذي حلّ بالمكذبين بالقارعة، والذي تتمثل فيه بعض مشاهد القيامة- كشفت سورة «القارعة» عن أحداث القارعة نفسها، وهى القيامة، كما يقول سبحانه: «الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» وهكذا تلتقى السورتان: «الحاقة» و «القارعة» فى تصوير أحداث هذا اليوم العظيم، يوم القيامة، الذي يكذب به المشركون، ويلحّون في التساؤل عنه، وعن اليوم الذي يقع فيه، تحديا لما ينذرهم به الرسول من أهواله، وإمعانا فى تكذيبه، حيث يلقاهم العذاب فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى:
«وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» .
هو معطوف على قوله تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» .
والمؤتفكات: هى قرى قوم لوط، التي ائتفكها الله، أي قلبها على أهلها، وجعل عاليها سافلها.. وقد جاء فى آية أخرى أنها مؤتفكة، وذلك فى قوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى» (53: النجم) .. كذلك ورد فى أكثر من موضع من القرآن أنها قرية. كما فى قوله تعالى: «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» (31: العنكبوت) .. فما تأويل هذا؟
تأويل هذا- والله أعلم- أن هذه القرية كانت رأس القرى التي حولها، فهى أشبه بالأمّ لها.. ومن هنا كان الحديث عنها، وعن أهلها، لأنهم هم(15/1128)
الذين يمثلون غالبية القوم، ووجوههم، كما تحدث القرآن الكريم عن مكة ووصفها أنها أمّ القرى، فقال تعالى: «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» ! (92:
الأنعام) .
«والخاطئة» أي الفعلة الخاطئة، التي بيّنها الله سبحانه وتعالى بقوله: «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» ومجيئهم بالخاطئة: أي ارتكابهم الخطيئة، وحملهم إياها يوم القيامة.
وفى الجمع بين فرعون، وقوم لوط، مع اختلافهما زمانا، ومكانا، وخطيئة- إشارة بليغة محكمة، إلى ما بين القوم من نسب قريب فى الضلال، لا من حيث صورته، ولكن من حيث واقعه ومضمونه..
فقوم لوط، قد أتوا منكرا ابدعا، لم يأته أحد فى العالمين من قبلهم، كما يقول سبحانه وتعالى على لسان نبيهم لوط عليه السلام: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (80: الأعراف) وأما فرعون فقد كان أمة وحده فى الضلال والاستعلاء.. ولهذا ذكر وحده، دون أن يكون معه قومه، فهو كيان الضلال كله، الذي نضح منه على قومه رذاذ من هذا الضلال، فكانوا من المجرمين.. ففرعون صورة فريدة فى الجبارين، وقوم لوط صورة فريدة فى المجرمين.
وفى الجمع بين فرعون وقوم لوط فى مقام العصيان لرسول الله، مع أن كلّا منهما كان له موقف مع رسول من رسل الله- إشارة إلى أن رسل الله جميعا، هم رسول واحد، من حيث الرسالة التي يحملها الرسول من الله إلى الناس، والدعوة التي يدعوهم إليها، وهى الإيمان بالله.. فمن كذب برسول من رسل الله فهو مكذب برسل الله جميعا..
وقوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» أي أخذهم الله أخذة متمكنة منهم بحيث تنالهم جميعا، وتشتمل على كل شىء منهم ولهم.(15/1129)
والرابية، المكان العالي المرتفع عما حوله، كالربوة.
وقد ابتلع البحر فرعون ومن معه، كما ابتلعت الأرض قوم لوط، واحتوتهم ومنازلهم فى بطنها.. إنهم هووا جميعا إلى القاع.
قوله تعالى:
«إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ-» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، ذكرت مصارع القوم الظالمين، وقطع دابرهم جميعا، بحيث لم يترك الخراب من دار ولا ديار..
ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين من قريش، ما زالوا أحياء، يعيشون فى الناس، لم يأخذهم الله سبحانه بما أخذ به الضالين من قبل.. وهؤلاء المشركون هم بقية من ذرية القوم الذين نجوا من الهلاك، وهم الذين آمنوا بالله، من بين المكذبين والضالين.. وإنه لجدير بهؤلاء المشركين أن يأخذوا طريق النجاة من عذاب الله، كما أخذه آباؤهم الأولون من المؤمنين الذين نجوا من عذاب الله..
هذا وإذا كانت الآية تشير من قريب إلى أظهر صورة من صور النجاة للمؤمنين، وهلاك الكافرين، وهو ما كان من نوح، وقومه، وسفينته، وطوفانه.. حيث غرق الكافرون فى الطوفان، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين بالسفينة- إذا كانت الآية تشير من قريب إلى هذا، فإنها تشير من بعيد إلى نجاة الذين آمنوا بالله من كل بلاء ساقه الله إلى الكافرين المكذبين برسل الله، فى كل زمان ومكان.
وقوله تعالى:
«لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»
أي لنجعل هذه الإشارة إلى نجاتكم فى أصلاب آبائكم الأولين، الذين(15/1130)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
آمنوا ونجوا من الطوفان- لنجعل هذه الإشارة تذكرة لكم أيها المشركون، تذكرون بها أنكم من أصلاب آباء كانوا مؤمنين، فكونوا مثلهم، إذا كنتم حقّا تحرصون على التمسك بما كان عليه آباؤكم، إذ تقولون: «حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» (104: المائدة) .. فإن فى آبائكم مهتدين، وضالين.. فتخيروا من ترونه أهلا للاتباع من هؤلاء الآباء.
وقوله تعالى: «وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»
معطوف على قوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً»
أي ولتعيها أذن واعية.. فهذه التذكرة، لا تعيها، ولا تعقلها وتحتفظ بها، وتحفظها، إلا أذن عاقلة، بينها وبين العقل صلة وثيقة.. أما الأذن التي تسمع، ولا تورد ما تسمع على العقل، فهى أذن حيوانية، لا ينال منها صاحبها خيرا أبدا.
الآيات: (13- 18) [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .(15/1131)
تعرض الآيتان الكريمتان هنا مشهدا من مشاهد القيامة، وما يقع فيها من انقلاب شامل فى صورة العالم التي ألفها الإنسان، وعاش فيها بحواسه المحدودة..
وقد تحدثنا فى سورة «الواقعة» عن هذه التغيرات التي ذكرها القرآن الكريم عن يوم القيامة، وقلنا إن هذه التغيرات ليست واقعة على الموجودات من أرض وجبال، وبحار، ومن سماء ونجوم، وشمس وقمر، وإنما التغير الذي يحدث، هو فى الإنسان المتلقّى لهذه الموجودات، حيث تغيرت طبيعته بعد البعث، وأصبح له من القوى فى حواسه ومدركاته أضعاف أضعاف ما كان له فى حياته الأولى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .. فلقد كشف للإنسان الغطاء فى هذا اليوم، عن كثير من عوالم الوجود، مما لم يكن من الممكن أن يراه، أو يعلمه، وهو فى الحياة الدنيا..
فقوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» يشير إلى أنه نفخ فى الصور، بعث الموتى من القبور بتلك النفخة الواحدة، لأن هذه النفخة هى أمر من أمر الله، فإذا أمر الله أمرا وقع كما أمر، كما يقول سبحانه: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وكما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) وقوله تعالى:
«وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .. أي رفعت الأرض والجبال، فكانتا كيانا واحدا..(15/1132)
وحمل الأرض وجبالها، هو ظهورها معلقة فى الفضاء، كما هى عليه فى حقيقتها، التي هى أشبه بكرة معلقة فى فلك الكون.. هكذا يراها الإنسان يوم القيامة بما عليها من جبال، وبحار، حين يكون محلقا في سموات عالية فوق هذه الأرض..
ودكّ الأرض مع الجبال، هو اندماجهما فى كيان واحد، وذلك فى مرأى العين، التي تنظر إليهما من بعيد، كما ننظر نحن من عالمنا الأرضى إلى القمر، فنراه سطحا مستويا، لا جبال فيه، ولا وهاد.. وهذا يعنى أن الناس إذ يبعثون يوم القيامة، يخرجون من العالم الأرضى، إلى عالم آخر.. فالأرض هى عالم الناس الدنيوي، ولا شك أن للناس فى الآخرة عالما غير هذا العالم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» (47:
الكهف) فبروز الأرض لا يبدو إلا لمن خرج منها، ونظر إليها من مكان خارج عن فلكها.. كما يشير إلى ذلك أيضا، تلك الحالة التي سيبعث الناس عليها فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (4: القارعة) وفى قوله سبحانه: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» (7: القمر) .
قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» - هو جواب إذا الشرطية الظرفية، فى قوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ..» .. أي إذا كان هذا النفخ فى الصور، وحمل الأرض والجبال ودكهما- إذا كان هذا، فهو يوم وقوع الواقعة، وهى القيامة..
ووقوع الأمر: مجيئه من عل، فى قوة وتمكن، بحيث لا يمكن ردّه..
ومنه قوله تعالى: «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. وقوله سبحانه:
«قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ» (71: الأعراف) .. فهو وقوع لامردّ له.(15/1133)
وفى مجىء جواب الشرط فعلا ماضيا فى قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» ، مع أن مقتضى سياق النظم أن يكون فعلا مضارعا هكذا: «فيومئذ تقع الواقعة» - فى هذا إشارة إلى أن وقوعها أمر محقق لذاته، غير متوقف على شرط.. فهى واقعة لا محالة، سواء وقع شرطها أم لم يقع، وشرطها واقع لوقوعها، لا أنها هى التي تقع لوقوع شرطها..
وقوله تعالى:
«وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .
معطوف على قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» .. أي وانشقت السماء..
ومعنى انشقاق السماء، ظهور هذا السقف الذي يظلنا، والذي يبدو وكأنه سقف منعقد، محبوك، لا يمكن النفوذ منه- ظهوره يومئذ لنا على حقيقته، وهو أنه ليس إلا فضاء لانهاية له، وأنه مهما صمّد المصعدون فيه، لا يلقاهم إلا الفضاء الرحيب الذي لا ينتهى.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» (19: النبأ) .
وقوله تعالى: «فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» - إشارة إلى ما يبدو عليه هذا السقف من وهى وضعف، فلا تردّ السماء من يخترق طبقاتها، أو ينفذ من أقطارها..
قوله تعالى:
«وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» .
أي ويرى الملائكة فى هذا اليوم على جنبات السماء، فى أحوال شتى..
بين ساجد، وقائم، وغاد، ورائح.. هكذا يراهم الناس يومئذ.. فالملائكة المحجوبون عن أنظارنا اليوم، نراهم يوم القيامة، كما يرى بعضنا بعضا، سواء(15/1134)
فى هذا من كان من أهل الجنة، أو من أهل النار.. وقد ذكر القرآن الكريم لقاءات كثيرة للناس مع الملائكة، فى موقف الحساب، وفى الجنة، وفى النار..
والضمير فى «فوقهم» فى قوله تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» يعود إلى «الملك» بمعنى الملائكة.. فهو مفرد لفظا، جمع معنى، كما فى قوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» .. أي ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة «ثَمانِيَةٌ» .
وقد اختلف فى الثمانية: أهم ملائكة، عددهم ثمانية؟ أم هم ثمانية صفوف من الملائكة؟ أم ثمانية أفلاك، هى أطباق السموات، التي فيها الجنات الثماني؟ وهذا يعنى أن عرش الله، أي سلطانه، قائم على هذا الوجود العلوي، مستو عليه..
والعرش، وحملة العرش، والملائكة، والكرسي، والقلم، واللوح، ونحوها، هو مما يلزمنا التصديق به كما تحدث القرآن الكريم عنه، دون البحث عن الصورة التي تكون عليها هذه المبدعات التي استأثر الله سبحانه وتعالى وحده بعلمها.
والسؤال عن هذه الغيبيات، بدعة، والتصدّى لتكييفها تكلّف، وقد يجر إلى الافتراء على الله..
وتفويض العلم بها إلى الله، والإيمان بها على ما أخبر به القرآن عنها، هو الإيمان السليم، القائم على التسليم لله، والتصديق بما نزل على رسول الله، من آيات الله.. وهو الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ(15/1135)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (2- 5:
البقرة) ..
قوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ.. لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» .
أي فى هذا اليوم الذي تقع فيه الواقعة، أي تقوم القيامة- فى هذا اليوم يعرض الناس على رب العالمين.. أي يقدمون للحساب والجزاء، حيث لا يخفى على الله من أعمالهم صغيرة ولا كبيرة..
وقوله تعالى: «لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» جملة حالية من نائب الفاعل، وهو الضمير فى «تُعْرَضُونَ» .. أي تعرضون فى حال قد تكشفت فيها أحوال الناس وظهر ما فى سرائرهم، وحصّل ما فى صدورهم، فكان باطنهم كظاهرهم، يرونه هم، ويراه بعضهم من بعض
الآيات: (19- 37) [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 37]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)(15/1136)
» التفسير:
بعد أن أنذرت الآيات السابقة الناس بالنفخ فى الصور، والبعث من القبور، ثم ساقتهم للعرض على الله، للحساب والجزاء- جاءت تلك الآيات بعدها لتضع الناس مواضعهم، وتنزلهم منازلهم يوم القيامة.. فهم سعداء وأشقياء.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار..
وقوله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ..»
هو بيان لأحوال أهل السلامة فى هذا اليوم، يوم القيامة.. حيث تسير خطواتهم إلى الجنة، على هدى ونور من ربهم، وحيث تلقاهم البشريات على كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى رضوان الله.
فمنذ يخرج المؤمن من هذه الدنيا، وتفارق روحه الجسد، وهو يرى مشاهد النجاة، وينشق أرواح الجنة، ويشم أريجها العطر.. كما يشير إلى هذا قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (32: النحل) فهذه أولى بشريات المؤمن، وهو على أول الطريق إلى الله، والدار الآخرة..
فإذا كان يوم القيامة، ووقع النفخ فى الصور، وبعث الموتى من القبور-(15/1137)
لم يحزن هؤلاء المؤمنون ولم يجزعوا، من فزع هذا اليوم، بل تتلقاهم الملائكة، تخفف عنهم من وقع الصدمة، وتخبرهم بأن هذا هو اليوم الذي وعدوا به، وعملوا له، وانتظروه.. وفى هذا يقول الله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (101- 103: الأنبياء) .
فإذا سبق الناس إلى المحشر، وعرضوا للحساب، وجد كل إنسان كتاب أعماله فى يده، فمن كان من أصحاب الجنة، أخذ كتابه بيمينه، ومن كان من أهل النار، أخذ كتابه بشماله، وهنا يعرف الناس- فى صورة مجملة- المصير الذي سيصير إليه كل منهم، وهنا تعلو أهل المحشر أحوال شتى، تختلط فيها صيحات الفوز، وزغاريد الفرح، بأنّات الحسرة، وزفرات اليأس..
فمن أخذ كتابه بيمينه، تراه وقد استطاره الفرح، واستخفّه الظفر، فجعل يلوّح بكتابه، وينادى به فى الناس: أن اقرءوا كتابيه!! إنه يريد أن يشهد الناس معه هذه الحال التي هو فيها، وليشاركوه هذه الفرحة الكبيرة التي لا تحتملها نفسه!.
وقوله تعالى: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» هو من مقولة صاحب الكتاب المأخوذ باليمين، لمن يلقى من أهل المحشر.. فهو إذ يأخذ كتابه بيمينه، يطير فرحا، فيحدّث كل من يلقاه من أهل المحشر، ويدعوهم إلى أن يقرءوا كتابه، وأن يروا ما فى وثيقة النجاح التي فى يده، من أعمال طيبة، وأن هذه الأعمال الطيبات، إنما هى التي أعدّها لهذه اليوم، وعملها فى دنياه، لأنه كان على يقين من أنه سيبعث وسيحاسب!!(15/1138)
أرأيت إلى الناس فى ساجة القضاء، وقد نطق القاضي ببراءة بعض الناس، وإدانة البعض؟ إنه صورة مصغرة إلى أبعد حدود الصّفر، لحال الناس يوم القيامة، فى موقف الحساب والجزاء.
والظن هنا، ظن يقين، وليس ظنّ شك وتردد.
وفى التعبير عن الإيمان بالآخرة بلفظ «الظن» ، الذي يغلب على معناه التوقع والاحتمال، لا اليقين- فى هذا ما يشير إلى أن الإيمان بالغيب- وإن وقع فى قلب المؤمن موقع اليقين، فإنه يظل فى منطقة الظن من عقله، حيث لا يسلم العقل السليم إلا بما يقع فى دائرة إدراكه، وتلك الدائرة لا يدخل فى محيطها ما كان من الغيبيات، وإنما يقع ذلك الغيب فى محيط القلب، وبقدر ما يكون فى القلب من اطمئنان، بقدر ما يقع فى العقل من إدراك، والعكس صحيح أيضا..
وليس الظن الغالب فى مقام الإيمان بالشيء، بالذي ينقص من قيمة هذا الإيمان، والعمل بمقتضاه، فإن أغلب معارفنا ومدركاننا مبنى على الظن الغالب، لا اليقين المحقق، ومع هذا فإننا نقيم وجودنا على هذه المعارف، وتلك المدركات..
ومثل هذا الظن ما جاء فى قوله تعالى: «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» (12: النور) .
فهذا الظن الحسن الذي يدعى المؤمنون إليه، فى نظرتهم إلى ما يقع من إخوانهم المؤمنين، مما قد يكون موضع ريبة واتهام- هو كاف فى إمساك الألسنة عن قول السوء، والمسارعة إلى الاتهام.. فهو ظن عامل موجّه، لا ظن توقف وارتياب.(15/1139)
قوله تعالى:
«فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ» .
هو بيان لحال من أوتى كتابه بيمينه، وللجزاء الحسن الذي يلقاه يوم القيامة..
إنه سيكون فى عيشة راضية، أي فى حياة طيبة، يجد فيها الرضا كله، فى جميع أحواله..
وفى وصف العيشة بأنها هى الراضية، إشارة إلى أن حقيقة هذه العيشة هى الرضا نفسه، الذي يسع النفوس جميعا، على اختلاف مقاماتها ومنازعها..
وهذا أبلغ- فى مقام الرضا- من أن يكون الوصف بالرضا لمن يعيش فى المعيشة.. فقد يرضى الإنسان بلون من المعيشة، هى فى حقيقتها معيشة تافهة حقيرة، تأباها كثير من النفوس الكبيرة، وتراها شقاء وبلاء إذا هى حملت عليها..
فمن الناس من تكفيه اللقمة يشبع بها بطنه، ويراها أملا مرجوّا، إذا تحقق له، سعد به، ورضى عنه، وإن كان ذلك من فتات موائد القمار، والعهر، أو من شباك النصب والاحتيال، أو من صدقات المتصدقين، وإحسان المحسنين.. على حين أن كثيرا من الناس لا يرضيهم من العيش إلا أن يكونوا فى مقام الصدارة والسيادة، وإلا أن يضعوا فى أيديهم كل أسباب الملك والسلطان.
وهكذا تبدو المسافة بعيدة غاية البعد، بين ما يحقق الرضا لبعض النفوس، وما يحققه لبعض آخر منها..(15/1140)
وقد تداول هذا المعنى كثير من الشعراء..
فعن النفوس النازلة، التي يرضيها التافه الحقير من نفايات الحياة، يقول المتنبي:
وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والنعل جلده!! وعن النفس العالية الكبيرة التي لا يرضيها إلا أن تأخذ مكانها مع مطالع النجوم ومسارات الكواكب، يقول المتنبي أيضا- ويعنى نفسه: -
وشرّ ما قنصته راحتى قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
فوصف المعيشة بأنها عيشة راضية، كما جاء بها النظم القرآنى، فى قوله تعالى: «فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» - وصفها بأنها هى العيشة الراضية- هو الوصف الذي يحقق الرضا لجميع النفوس، صغيرها وكبيرها، فلا يجد الإنسان- أي إنسان- حيث تقلّب فى هذه العيشة، إلا الرضا المطلق، الذي لا يتكلف له جهدا، وهى معيشة تنزل الناس جميعا منزلة عالية، وترتفع بنفوسهم عن كل ما هو دون محتقر..
أما ما يذهب إليه علماء البلاغة: من تخريج هذا المعنى، على ما يخرّجون عليه من قولهم: إن اسم الفاعل: «راضِيَةٍ» هو معدول به عن اسم المفعول «مرضىّ» أي مرضى عنها- ففيه إفساد للمعنى الذي تحمله المعجزة القرآنية فى كلمة «راضية» وحجب لوجهها المعجز الذي رأيناها عليه، فقد تكون المعيشة مرضية، وهى فى حقيقتها تافهة لا تتعلق بها إلا النفوس الصغيرة..
وقوله تعالى: «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ» - هو بيان لتلك(15/1141)
المعيشة الراضية، وكشف عن وجهها الكريم.
وأين يجدها الذين وعدهم الله بها؟ إنها فى جنة عالية، علوّا حسيا، ومعنويا، وإن قطوفها- أي ثمارها- دانية لمن يعيشون فيها، فليس علوّها هذا بالذي يبعد ثمرها عنهم.. بل إن ثمرها دان قريب، يجده طالبه حاضرا عتيدا بين يديه فى أي وقت يشاء.. كما يقول سبحانه: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14: الإنسان) .
فهذه هى العيشة الكريمة الراضية، التي تتعلق بها النفوس الكبيرة، وتتطلع إليها الهمم العالية..
قوله تعالى:
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» .
الخطاب هنا لأصحاب اليمين جميعا، وقد استقر بهم المقام الكريم فى الجنة، واجتمع بعضهم إلى بعض، وسعد بعضهم بلقاء بعض، ونازع بعضهم بعضا طيباتها وثمراتها.. ففى هذه المشاركة رضا إلى رضا، وسعادة إلى سعادة..
وقوله تعالى: «بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» - إشارة إلى ما كان من المؤمنين من أعمال طيبة صالحة فى الأيام الخالية، أي الحياة الدنيا، التي خلّفوها وراءهم..
فالباء فى قوله تعالى: «بِما أَسْلَفْتُمْ» باء السببية.. أي «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً» أي طيبا، لا ينالكم مما تأكلون أو تشربون تخمة أو سوء هضم، أو نحو هذا، مما يقع للآكلين والشاربين فى الدنيا، وذلك بسبب ما قدمتم(15/1142)
فى أيام حياتكم الدنيا، من صالح الأعمال.. «إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» . (22: الإنسان) قوله تعالى:
«وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» ..
هذا هو الوجه المقابل لأصحاب اليمين، وهم أصحاب الشمال..
وقد جاء بهم النظم القرآنى أفرادا لا جماعات، كما جاء بأصحاب اليمين أفرادا كذلك، لأن الحساب يوم القيامة، إنما يقوم على هذا الوجه، وهو أن يحاسب كل إنسان بما عمل، كما يقول سبحانه: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» (95: مريم) ..
فكل من أوتى كتابه بشماله، يلقاه هذا الكتاب بالحكم المحكوم به عليه، وهو أنه من أصحاب النار، فلا يكاد يقع ليده حتى يستبد به الهلع والفزع، ويركبه جنون الهول، فيظل يهدى، ويعوى، حتى تتقطع أنفاسه..
«يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ» .. فلقد كان الأمر مستورا عنه قبل هذا الكتاب، فلما جاء الكتاب طلع عليه بهذا البلاء المبين..
فلقد عرف حسابه، وإنه لحساب خاسر، يهوى به إلى عذاب السعير..!!
وأين المفر؟ إنه لا مفر إلا بالموت.. «يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» .. ولكنها أمنية لن تتحقق أبدا.. فما أقسى الصبر على هذا البلاء، وما أشد الوقوع فى هذه المحنة التي يشتهى الموت فرارا منها!!
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا(15/1143)
قوله تعالى:
«ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» .
هو من هذيان هذا الشقىّ، الذي أحاطت به خطيئته.. إنه طلب الموت فما وجده.. وطلب ماله ليفتدى به نفسه من هذا العذاب، فما رآه.. واستنجد بكل ما كان له من قوة، وجاء، وسلطان، فلم يسعفه شىء.. «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» ..!
وفى التعبير بقوله: «هلك» بدلا من ذهب.. إشارة إلى أن هذا السلطان لن يلقاه أبدا، ولن يعود إليه بحال.. لقد هلك، وما كان لهالك أن يتعلق به أمل..
قوله تعالى:
«خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» .
إنه بعد أن ترك هذا الشقىّ الأثيم، يهذى ويعوى، ويلهث، باحثا فى كل وجه، متطلعا إلى كل أفق، يطلب وجها للخلاص من هذا البلاء- إنه بعد أن ترك هكذا حتى تقطعت أنفاسه، وسقط إعياء- لم يترك لشأنه هذا، وما هو فيه من بلاء، بل قرع أذنه هذا الصوت الآمر، بأخذه، ووضع القيد فى عنقه، ثم سحبه إلى جهنم، وربطه هناك فى سلسلة طولها سبعون ذراعا!! وهل بقي مع هذا الشقىّ قوة، حتى يخشى من أن يفرّ من هذا المصير المساق إليه؟ إنه لا يقوى على الحركة، فكيف يفرّ؟ وإن فرّ، فإلى أين؟(15/1144)
ولكن هذا القيد الذي أحاط بعنقه، وهذه السلسلة الطويلة التي يسحب منها، إنما هو إذلال له، وامتهان لكرامته بين الناس، ومعاملته معاملة الحيوان الذي يقاد من مقوده، ويربط فى حظيرته..
ولا نتجاوز بالحديث عن هذه الأدوات الجهنمية، من قيود، وسلاسل، ومقامع، وغيرها من أدوات النكال والتعذيب- لا نتجاوز بها الحدود التي يتسع لها اللفظ القرآنى.. فهناك- يقينا- أدوات عذاب- وقانا الله شرها- من سلاسل، وأغلال، ومقامع، وطعام من زقوم، وشراب من حميم، وغير ذلك مما ورد ذكره فى القرآن الكريم.. ولكن ما صفة هذا؟ ولم كان طول السلسلة سبعين ذراعا؟. هذا مالا نتكلف البحث عنه، وطلب الجواب له..! وحسبنا أن نقول كما علمنا الله أن نقول فى مثل هذا المقام: «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» (7: آل عمران) .
قوله تعالى:
«إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» .
هو بيان للسبب الذي من أجله صار هذا الشقىّ إلى هذا المصير المشئوم..
«إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» الذي ملك بعظمته وسلطانه أمر هذا الوجود، والتصرف فيه كما يشاء، دون أن يكون لأحد سلطان معه.
وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالعظمة هنا، إشارة إلى أن هذا اليوم- يوم القيامة- يتعرّى فيه كل ذى سلطان من سلطانه.. فقد كان للناس فى الدنيا، شىء من الإرادة، والتصرف، والملك والسلطان، ولكنهم فى هذا اليوم سلبوا كل شىء، وتعرّوا من كلّ شىء.. ولهذا يقول الحق سبحانه فى هذا اليوم: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» فيجيب الوجود كله: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .(15/1145)
وفى قوله تعالى.. «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» .. إشارة إلى ما لرعاية المساكين والعطف عليهم من تقدير واعتبار، فى مقام الإيمان، حيث جاء ذلك بعد الإيمان بالله، معطوفا عليه، وموازنا له.. وهذا يعنى أن من الإيمان بالله العطف والإحسان إلى عباد الله، إذ كان هؤلاء المساكين هم ضيوف الله، فمن أكرمهم لله، أكرمه الله، ومن أهانهم، وأمسك يده عنهم، أهانه الله، وأمسك رحمته عنه.
والحضّ على الشيء: الحثّ عليه، وإغراء الغير به..
وفى التعبير عن الدعوة إلى إطعام المسكين، بلفظ «الحضّ» .. إشارة إلى ما فى الطبيعة الإنسانية من شحّ وبخل، وحبّ للذات.. وأن الإحسان إلى الفقراء لا يكون إلا عن مغالبة هذه الطبيعة، وحمل النفس على ما يخالف هواها..
وهذا إنما يكون عن مراودة بين الإنسان ونفسه، وحثها على البذل والسخاء.
ثم إن فى بذل الإنسان، وسخائه فى وجوه البر والمعروف، حضّا صامتا على إشاعة الإحسان بين الناس، حيث يرى فيه الناس قدوة حسنة فى هذا المقام.
قوله تعالى:
«فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» .
فهذا هو جزاء من لم يؤمن بالله العظيم، ولم يحضّ على طعام المسكين..
إنه لا صديق له يدفع عنه هذا العذاب، لأنه لم يكن له من عباد الله صديق ينال من خيره وبرّه.. فإذا ضاقت به الحال فى هذا اليوم، فإنه لا يجد المعين الذي يمينه، لأنه لم يقدم لأحد عونا فى حياته الدنيا..(15/1146)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
ثم لأنه لم يطعم المسكين، وتركه يمضغ الجوع، والحرمان- فليس له فى هذا اليوم طعام إلا من غسلين، أي من صديد، مما يفرزه المعذّبون بنار جهنم..
فهو يتغذّى من هذه الإفرازات الذاتية التي تفرز من جسده المحترق، كما ترك هو الجائع المسكين يتغذّى من داخل جسده، ويأكل بعض أعضائه بعضا..
وقوله تعالى: «لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» هو وصف لهذا الطعام الجهنمىّ..
إنه طعام أصحاب الخطايا والآثام، طعام المجرمين، لا طعام لهم إلا هذا الطعام، وما أشبهه! هذا، وفى خطاب أصحاب اليمين بلفظ الجمع فى قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» .. مضاعفة لنعيمهم، وزيادة فى تكريمهم، إذ يجمعهم الله على بساط هذا النعيم، حيث يأنس بعضهم ببعض، وحيث يتنازعون كئوس الخمر التي يطوف عليهم بها الولدان المخلدون.. «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» .
وعلى عكس هذا، قد أفرد أصحاب الشمال فى عذاب الجحيم، وحتى لكأنما كل واحد منهم قد اشتمل عليه العذاب وحده، لا يشاركه فيه أحد، مما قد يكون مصدر عزاءله.. وفى هذا مضاعفة لعذابه، وبلائه.. «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» .. إن هذا أشبه بالحبس الانفرادى، الذي يعانى فيه أهله، تلك الوحشة القاتلة، التي تجمع هموم الدنيا كلها فى قلوبهم، غير مشارك لهم فيها أحد..
الآيات: (38- 52) [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)(15/1147)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ» .
القسم هنا منفى بلا النافية فى قوله تعالى «فَلا أُقْسِمُ» وليست «لا» زائدة كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين.. فنحن على رأى واحد فى أن لا زيادة فى حرف أو كلمة فى نظم القرآن! وهذا القسم المنفي. إما أن يكون نفيه لأن المقسم عليه، وهو القرآن الكريم، وبأنه قول رسول كريم- حقيقة ثابتة، ظاهرة، لا تحتاج إلى قسم..
وإما أن يكون المقسم لهم- وهم هؤلاء- المشركون، لا يصدّفون بهذا الحديث، سواء حلف لهم عليه أم لم يحلف.. وإذن فالأولى أن يكون الحديث إليهم مرسلا من غير قسم، لأن من لا يصدق المتحدّث إليه، بغير قسم،(15/1148)
لا يصدقه إذا هو أقسم، بل إن القسم ربما زاد من شكوكه فى صدق من يحدّثه.
والذي نبصره، هو ما يقع تحت حواسنا ومدركاننا من هذا الوجود والذي لا نبصره، هو ما لا يقع تحت الحسّ والإدراك، وهو هذا الوجود العظيم، الذي مبلغ علمنا به لا يتجاوز قطرة من محيطات..
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» .
هو المقسم عليه.. وهو القرآن الكريم، وأنه قول رسول كريم.
والرسول الكريم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يحدّث القوم بآيات الله التي يتلوها عليهم..
ونسبة قول القرآن الكريم إلى الرسول، لأنه هو الذي يتحدث به، ويبلغه إلى الناس، على أنه كلام الله، ومن عند الله..
فمعنى القول هنا «البلاغ» .. أي هذا القرآن هو بلاغ من رسول كريم، لا أنه من كلامه هو، ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ليقرر هذه الحقيقة، كما جاء بعد هذا قوله سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» ليؤكد هذه الحقيقة، ويقطع كل شبهة بأن لرسول الله شيئا من هذا القرآن الذي يتلوه على الناس، وإنما هو من كلام ربّ العالمين..
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بقوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» جبريل عليه السلام، أمين الوحى..(15/1149)
وهذا- والله أعلم- مما يحتمله النظم القرآنى، وإن كان الأولى عندنا أن يكون المراد بالرسول الكريم، هو رسول الله، إذ كان الموقف هنا موقف دفاع عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وردّا على اتهام المشركين له بأنه كاهن، وبأنه شاعر.. فكان المقام يقضى بأن يوضع الرسول بموضعه الصحيح، وهو أنه رسول كريم، وأن ما ينطق به ليس من منطق الكهانة ولا الشعر، وإنما هو منطق مبعوث كريم من ربّ العالمين، يبلّغ ما أرسل به إلى عباد الله.
وفى وصف الرسول بأنه «كريم» - إشارة إلى أنه يقدّم هذا الخير العظيم للناس، فى سخاء، ويبذله، فى غير منّ، لا يطلب عليه أجرا..
قوله تعالى:
«وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ.. قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» .
هو نفى لتهمة الشعر التي يلصقها المشركون بالقرآن.. فالرسول ليس بشاعر، وما ينطق به ليس من باب الشعر، ولا من واردات الشعراء أبدا..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» (69: يس) وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» .. أي أنه مع وضوح هذه الحقيقة وضوحا لا يحتاج إلى طول بحث، ومعاناة نظر، فإنكم أيها المشركون تتمارون فى هذه الحقيقة، وترفضون الإيمان بها، وإن وقع لكم شيء من الإيمان بأن هذا الكلام ليس من أودية الشعر، فإنه سرعان ما يغلبكم الهوى، ويطغى عليكم الضلال، فتركبون الحماقة، وتردّدون هذا القول الذي يكذبكم به الواقع المحسوس، إذ كان إيمانكم إيمانا قليلا.. فى كيفه وكمّه..(15/1150)
قوله تعالى:
«وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ.. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
أي وليس هذا القرآن من قول كاهن، لأن لغة الكهانة لغة غامضة، معمّاة بالألغاز.. وهذا كلام عربىّ مبين..
وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» استبعاد لهم من أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يعرضوا عليها هذا الذي يسمعونه من آيات الله، وهذا الذي يحفظونه من مقولات الكهان ليروا بعد ما بينهما، وأنه إن كان لهم من هذا ذكر، فهو أشبه بأطياف الأحلام، لا يلبث أن يقع فريسة للجهل والغفلة..
قوله تعالى:
«تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
هو قولة الحقّ فى القرآن الكريم، وأنه منزل من رب العالمين، ليس من كلام بشر، أيّا كان، شاعرا، أو كاهنا، أو حكيما، أو عالما..
قوله تعالى:
«وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» .
هو استبعاد لأن يكون من رسول الله فى هذا القرآن كلمة من عنده، أضافها إليه، ثم أسندها إلى الله.. فإنه لو فعل ذلك- ومحال أن يفعله- لكان عقابه أشد العقاب من الله.. «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» أي لأمسكنا به من يمينه..
«ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» أي لذبحناه، وقطعنا وريده، الذي هو ينبوع الحياة.
ثم لم يكن لأحد منكم أن يمنع عنه هذا العقاب الذي تأخذه به، ويحجز بينه وبين الجزاء الذي نوقعه عليه. «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ»(15/1151)
وإذن، فلم يكذب محمد؟ ولم يقول على الله ما لم يقله الله؟
ألأجل نفسه يفعل هذا؟ إنه لم يطلب أجرا، ولم ينل منكم كثيرا أو قليلا.. بل كل ما كان له منكم هو هذا الأذى المتصل، وتلك السفاهة الحمقاء.. أم لأجلكم أنتم كان هذا الافتراء؟ ولم يعرّض نفسه لا نتقامنا، وأنتم لن تدفعوا عنه ما نأخذه به من عقاب؟
إن الذي يغامر هذه المغامرة، إما إن تكون لحساب نفسه، ومن أجل هذا يحتمل ما يحتمل فى سبيلها.. وإما أن يكون لحساب غيره الذي يجد منه الحماية ساعة الخطر..
فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فإنه يصبح من المحال أن تقع منه تلك المغامرة بالافتراء على الله، لغير سبب معقول، أو حكمة ظاهرة.
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..
هذا هو القرآن الكريم.. إنه ليس بقول شاعر، ولا بقول كاهن، ولا متقوّل من رسول الله على الله، وإنما هو تنزيل من رب العالمين.. وهو تذكرة للمتقين، يذكرهم بما فى فطرتهم السليمة، من إيمان بالله، وتقبّل للحق والخير.. فهل بقي لكم من فطرتكم- أيها المشركون- شىء تلتقى به مع الحق، وتؤمن به؟
قوله تعالى:
«وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» .
هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكذبون بآيات الله، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم المكذبين بهذا الحديث، والمتهمين للرسول، وإن وراء هذا العلم(15/1152)
حسابا، وجزاء، وعذابا أليما.. وفى خطاب المشركين بأن منهم مكذبين..
إشارة إلى أن كثيرا منهم كان يعلم صدق النبي، ولكن الكبر والعناد يحولان بينهم وبين الخضوع للحق، والولاء له، كما يقول سبحانه: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (33: الأنعام) .
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» ..
وأي وإن هذا القرآن لحسرة على الكافرين، يوم ينكشف لهم أنهم بتكذيبهم له، وكفرهم به، قد وردوا النار، وألقوا فى العذاب المهين..
فتمتلىء لذلك قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يأخذوا طريق النجاة على هداه.. لقد كان مركب نجاة أقلعت، ولن يلحقوا بها..
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» ..
أي هذا القرآن هو حق من حق.. وأنه الحق المستيقن، الذي لا يأت يه باطل من بين يديه ولا من خلفه.. وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أنه من موارد اليقين، وأنه حق هذا اليقين، وخلاصة ما فيه.. فهو حقّ مصفّى من حق، إن كان الحق فى حاجة إلى تصفية!! قوله تعالى:
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .
هو دعوة للرسول الكريم أن يلقى هذه المنّة العظيمة بنزول القرآن عليه، بتسبيح ربه العظيم، وبحمده، وتنزيهه، والولاء له.. فهذا هو بعض ما ينبغى فى مواجهة نعم الله، وفى مقام الشكر عليها..(15/1153)
وإذا كان القرآن الكريم هو مأدبة الله التي يصعم منها المؤمنون، وينالون منها الشّبع لقلوبهم، والرىّ لأرواحهم- فإن التسبيح باسم الله العظيم مطلوب منهم، بعد هذا الشبع، وذلك الري، للقلوب والأرواح.. فلينتظموا صفوفا وراء إمامهم الكريم، رسول الله، وليسبحوا معه باسم ربهم العظيم..
والتسبيح باسم الله، هو تسبيح لذات الله سبحانه وتعالى، فى اسمه الكريم، أما ذاته سبحانه فلا يعرف لها كنه، ولا يقع لها فى العقل تصور، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.(15/1154)
70- سورة المعارج
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الحاقة..
عدد آياتها: أربع وأربعون آية..
عدد كلماتها: مائتان وثلاث عشرة كلمة..
عدد حروفها: سبعمائة وسبعة وخمسون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كان مما تحدثت عنه آيات سورة «الحاقة» ما يلقى الكافرين من عذاب ونكال يوم القيامة.. وأنهم يسحبون فى سلاسل إلى النار، ويسجرون فيها، ثم يطعمون غسلينها وزقومها..
وهذا الحديث عن النار، وما يلقى فيها المكذبون بآيات الله وبرسل الله، من عذاب وهوان- هذا الحديث لا يلقى من المشركين إلا الهزء والسخرية، والتحدّى، لأنهم لا يؤمنون بالبعث.. ومن ثم فلا يصدقون بما وراء البعث من من حساب وجزاء.. وإنه لتبلغ بهم الجرأة فى التكذيب أن يقول قائلهم:
«اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) .
ولهذا جاءت سورة «المعارج» مفتتحة بهذا الوعيد، لتواجه به المكذبين بيوم القيامة، ولتلقاهم بالعذاب الذي أنذروا به، والذي يستعجلونه، هزؤا به، وسخرية منه.
وبهذا نجد التلاحم بين السورتين، أكثر من أن يكون تلاحم جوار، وإنما هو تلاحم نسب وقرابة.(15/1155)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 18) [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» ..
لم تذكر الآية الكريمة اسم هذا السائل، بل جاءت به منكّرا هكذا:
«سائل» - لأنه لا يعدو أن يكون واحدا من هؤلاء السفهاء، الرقعاء، الذين ركبهم الجهل، والغرور، حتى لقد خيل إليهم أنهم أوتاد هذه الأرض، وأنهم(15/1156)
لو أخلوا مكانهم منها لفسد نظام الكون، واضطرب أمر الناس!! والسؤال من السائل هنا، هو سؤاله عن هذا العذاب: متى هو؟ وهو المنكر لما يسأل عنه، وكأنه بهذا الإنكار، إنما يهتف به أن يأتيه الآن، وأن يقع به فى الحال.. إنه على استعداد لا ستقبال هذا العذاب، لأنه على يقين من أنه شىء لا وجود له! ..
وفى تعدية الفعل «سأل» بحرف الباء، مع أنه يتعدى بالحرف «عن» - إشارة إلى تضمن الفعل معنى المطالبة بهذا العذاب، والهتاف به، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسان هؤلاء المشركين: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) فكأن المعنى: طلب طالب، ودعا داع بالعذاب الواقع.
وقوله تعالى:
«لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» هو ردّ على هذا السؤال المتحدّى، المنكر..
أي أن هذا العذاب هو معدّ للكافرين، مقبل إليهم، لا يدفعه عنهم دافع..
وقوله تعالى «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» متعلق بمحذوف، تقديره مرسل عليهم من الله ذى المعارج..
والمعارج الأماكن المرتفعة، التي يكون الصعود إليها دائريّا، كالصعود إلى المئذنة ونحوها، ومنه قوله تعالى: «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» (33: الزخرف) ..
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن العروج إلى السماء، لا يكون فى خط عمودى، وإنما فى خطوط مقوسة، داخل قبة الفلك، التي تمثل دائرة عظيمة لا نهاية لها..(15/1157)
وفى جمع «المعارج» إشارة أخرى إلى أن هناك أكثر من معرج، وأن لكل سماء معرجها الذي يعرج إليها منه، أشبه بالمبني ذى الطوابق العديدة، لكل طابق معرج يعرج فيه إليه..
ووصف الله سبحانه وتعالى بأنه ذو المعارج، إشارة ثالثة إلى علو سلطانه، وأن العذاب المرسل منه إلى الكافرين، عذاب يسقط عليهم من سموات عالية، فلا يمكن لقوة أن تحول بينه وبين أن يهوى على رءوس الكافرين.. إنه أشبه بالأحجار التي تهوى من السماء على رءوس من هم في دائرة سقوطها..
قوله تعالى:
«تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ..»
هو إشارة إلى مدى هذا العلو الذي لتلك المعارج، التي يقوم عليها سلطان الله، وأن الملائكة والروح، تصعد هذه المعارج فى يوم.. ولكن أي يوم هو؟
إنه يعدل خمسين ألف سنة من أزمان الدنيا.. أي أن ما يقطعه الملك فى عروجه إلى السماء فى يوم واحد، يقطعه الإنسان فى خمسين ألف سنة بأقوى ما يمكن أن يتوسل به من وسائل، من صواريخ، ومركبات كوكبية وغيرها..
والمراد بالروح، إما أن يكون جبريل عليه السلام، أو أرواح البشر، أو مخلوقات من عالم الروح غير الملائكة. والمراد بهذا أنها مخلوقات ذات سرعة مطلقة من غير قيد المادة ومعوقاتها.. إنها أرواح، لا أجساد لها..
وقوله تعالى:
«فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» ..(15/1158)
هو تطمين للنبىّ، وتسرية عنه، لما يلقى من عناد قومه، واستهزائهم به، تحديهم للعذاب الذي ينذرهم به.. إن عليه أن يوطن نفسه على الصبر، والصبر؟؟؟، الذي لا يصحبه ضجر أو ملل..
ثم إن هذا الخطاب للنبى الكريم، فيه تهديد للمشركين المكذبين، بما سيقع بهم وراء هذا الصبر الذي يلقاهم النبىّ به، محتملا سفاهتهم، وسخريتهم..
فهو كقوله تعالى: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» (17: الطارق) قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» الضمير فى «يرونه» يعود إلى العذاب الواقع بالكافرين، المرسل عليهم من الله ذى المعارج..
فالمشركون المكذبون باليوم الآخر، يرون العذاب بعيدا، أي بعيد الوقوع، بعدا يبلغ حد الاستحالة، أو يرونه بعيدا، لأنه إذا جاء فإنما يجىء يوم القيامة، التي لا يدرى أحد متى تكون على فرض وقوعها.. فهذا الزمن المجهول، يبدو بعيدا بحيث يكون من العبث أن يرجو منه المرء خيرا، أو يخشى منه شرا.. هكذا يقوم حساب هذا اليوم عند اللّاهين والغافلين، الذين لا يعيشون إلا ليومهم.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ.. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» . (12: محمد) وقوله تعالى: «وَنَراهُ قَرِيباً» أي أنه وإن بدا هذا اليوم بعيدا فى نظر المشركين والمكذبين- هو فى حقيقته قريب، وأنه إذا طلع عليهم بعد آلاف السنين، بدا لهم أنه ابن يومهم هذا الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (46: النازعات) .(15/1159)
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» .
هو بيان للأحداث التي تقع يوم القيامة، يوم العذاب الذي ينتظر أهل الشرك الضلال.
ففى هذا اليوم، تكون السماء «كالمهل» وهو خثارة الزيت، بعد غليانه، وتكون الجبال «كالعهن» وهو الصوف المصبوغ بلون الحمرة، بعد أن ينفش وتنحلّ أجزاء بعضه عن بعض..
وفى تشبيه السماء بالمهل، والجبال بالعهن، وما يغلب على التشبيهين من لون الحمرة- فى هذا إشارة إلى تغير طبيعة لون الجوّ، فى مرأى العين، وذلك حين يكون موقع النظر من خارج الغلاف الجوى للأرض، حيث تبدو السماء، والأرض، مكسوّنين بلون أشبه بلون الأفق الداكن بعد الغروب، أو قبل الشروق..
هذا، وقد عرضنا للحديث فى أكثر من موضع عن هذه التغيرات التي تحدث يوم القيامة، فى العالم الأرضى، وما يتصل به من عوالم السماء، وقلنا إن هذه التغيرات إنما هى واقعة بالنسبة لإحساس الإنسان يومئذ بها، نتيجة لتغيّر موقفه من الأرض، وتغير طبيعته بعد البعث.. أما عوالم الوجود فى الأرض وفى السماء، فإنها تجرى على ما أقامها الله سبحانه وتعالى عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) .
فهذا التبدّل هو تبدّل فى مدارك الإنسان لهذه العوالم، لتبدّل موقفه منها، ورفع الغطاء الكثيف الذي كان على بصره وبصيرته فى الحياة الدنيا.(15/1160)
وقوله تعالى:
«وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» ..
أي فى هذا اليوم، لا يسأل صديق عن صديق، ولا يلتفت قريب إلى قريب، لما يواجه الناس يومئذ من أهوال، وما يحيط بهم من كروب.
قوله تعالى:
«يُبَصَّرُونَهُمْ.. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.» .
هو بيان للحال التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن كلّ إنسان مشغول بنفسه، لا يسأل عن أحد، ولا يسأل عنه أحد.. إن كان من الناجين مضى إلى مرفأ النجاة، ناجيا بنفسه، دون أن يلتفت إلى وراء، أو عن يمين أو شمال.. وحسبه أنه نجا.. وإن كان من الهالكين فحسبه ما يعانى من شدّة وبلاء.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .. (37: عبس) وقوله تعالى: «يُبَصَّرُونَهُمْ» .. أي يرونهم رؤبة كاشفة لأحوالهم وما هم فيه من كرب وبلاء.. وضمير الرفع «الواو» وضمير النصب «الهاء» فى «يبصرونهم» ، يعودان إلى «حميم» و «حميما» ، لأن كلّا منهما فى معنى الجمع، وإن كان مفردا، لأنه نكرة تفيد الاستغراق فى حال النفي..
والتقدير أنه لا يسأل الأصدقاء أصدقاءهم، لأن كلّا من طرفى التساؤل، على حال واحدة، من الوجوم، والاشتغال بالنفس عن الغير، فالجميع فى هذا اليوم على سواء فيما يذهلهم من هموم، فلا سائل، ولا مسئول. وفى الفعل «يبصرونهم» ما ليس فى الفعل «يبصرونهم» وذلك:(15/1161)
أولا: أن يبصّرونهم يفيد أن أهل الموقف- لما هم فيه من بلاء- لا يكادون يبصرون شيئا.. ولكن كأن قوة خارجة عنهم تحملهم حملا على أن يفتحوا أعينهم على هذا المكروه الذي يحيط بهم، ويهجم عليهم..
وثانيا: أن يبصّرونهم، تجعل المبصرين والمبصرين على سواء، فكل منهم يبصر، ويبصر، فى حال من الفزع والهلع، لا تدع لأىّ سبيلا إلى الاختيار فيما ينظر إليه..
وقوله تعالى: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ... »
هو حال من ضميرى الرفع والنصب فى يبصرونهم.. أي أنه يبصر بعضهم بعضا، ويكشف بعضهم حال بعض، فى حال يود فيها المجرم لو يفتدى من عذاب هذا اليوم ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا..
[من الإعجاز النفسىّ.. فى القرآن]
ولا بد من وقفة هنا بين يدى قوله تعالى: يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي «تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ» .. حيث نجد صورة من صور الفرار من الخطر، يتخفف فيها الإنسان مما بين يديه من كل عزيز عليه، غال عنده، ولكنه محمول على هذا تحت وطأة البلاء المحيط به.. ولهذا فهو لا يلقى بكل مدخراته جملة واحدة، وإنما يخلى يده من بعض، ويشدّ يده على بعض، حتى إذا لم يجد فيما فعل ما يخفف عنه البلاء، ألقى بكل مامعه جميعا، لعله يجد فى هذا طريقا للإفلات من يد هذا الخطر المطلّ عليه..
والفرار من الخطر، وطلب النجاة من مواطن الهلاك، غريزة مركوزة(15/1162)
فى الكائن الحىّ، يقوم عليها بقاؤه وحفظ نوعه.. وإنه حين يفقد الكائن الحىّ فعالية هذه الغريزة، يفقد الحياة فى أولى خطواته على طريقها.. سواء فى ذلك الإنسان، أو الحيوان، وحتى النبات.. وأكاد أقول والجماد أيضا!! ..
والإنسان بما فيه من عقل وذكاء، قد مكّن لهذه الغريزة فى كيانه، وأقام منها حارسا يقظا عليه، ووضع بين يدى هذا الحارس أكثر من سلاح يدفع به أي خطر يقع، أو يتوقع أن يقع..
وفى الآخرة أهوال تأخذ الناس بالنواصي والأقدام.. (إن زلزلة الساعة شىء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) (1- 2: الحج) .
فى هذا الموقف الرهيب، يساق المجرمون، والعصاة، إلى ساحة القصاص، حيث يرون رأى العين مصيرهم الذي هم صائرون إليه، والمنزل الذي سينزلونه من جهنم، التي إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا..
إن القلوب لتنخلع من هذا الهول، إن كان هناك قلوب لم تذهب بها مطالع الأهوال، ولم تفتتها الآلام والحسرات.. إنها حال لا يمكن أن تتصورها العقول، ولا أن يحيط بها وصف، لأنها مما لن يقع إلا فى هذا اليوم.
هناك صراخ وعويل، وزفرات وأنين، ولهفات وحسرات، يختلط بعضها ببعض، فتملأ أسماع العالمين بهذه المناحة المروّعة، التي تزيد فى الآلام، وتضاعف من العذاب!.(15/1163)
وأين المفر؟
إنه لا مفر من النار إلا إلى النار، ولا مفزع من البلاء إلا إلى البلاء!.
ومع هذا اليأس القاتل، فإن قسوة العذاب، وشدة البلاء، تحمل المجرمين على أن يفزعوا إلى أي مفزع، ويتجهوا إلى أي متجه.. إنها محاولات لا بدّ منها، وحركات تجرى فى النفس، ولا تتخذ لها طريقا عمليا، حيث اليأس المطلق، الذي لا يلوح فى سمائه المتجهمة بصيص من أمل، ولا أثر لرجاء..
وننظر فى هذه الصورة المعجزة، التي صورها القرآن الكريم لمسارب النفوس ومجرى الخواطر، فى زحمة هذا المعترك الضنك الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر..
إنه لو قدر لآلات التصوير السينمائى أن تدخل إلى عالم النفس، فترصد حركاتها، وتكشف عن خفاياها، لما أمكنها أن تأتى بما يقرب من هذه الصورة القرآنية فى إحكامها، وصدقها، وإحاطتها الشاملة بما تكنّ الضمائر، وما تخفى الصدور..
وننظر فى الصورة القرآنية، التي عرضتها الآيات الكريمة.
(يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ يبنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا ثم ينجيه.. كلا.. إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى) ..
إن الإنسان هنا فى فم الهلاك، وفى دائرة العذاب المطبق عليه.. وإن لذعة العذاب لتخرج الإنسان عن نفسه، وتجعل أعضاءه- فى متدافع هذا العذاب- يرمى بعضها بعضا، ويتّقى بعضها ببعض.. إنه لا شىء يحرص عليه(15/1164)
الإنسان هنا.. إن أقرب شىء إليه، وأعزّه إلى نفسه، ليقدّمه فى غير وعى، ليدفع به هذا العذاب الذي يأكله، كما تأكل النار الحطب! إنه لا يملك غير نفسه، وقد احتواها العذاب! فهل يحرص بعد هذا على شىء؟.
إنه يود أن لو كان بين يديه أبناؤه.. إذن لا تقى بهم هذا العذاب، ولجعلهم دريئة له، يتلقون عنه ألسنة اللهب، ووهج السعير..
ولكنه إذ يرمى بأبنائه فى جهنم ثم لا يجد فيهم غناء، يمد يده إلى من هم أبعد إليه منهم.. إنها صاحبته، أي زوجه، وأم بنيه، ثم هى زوج وصاحبة معا، قد سكن إليها، وتعلق قلبه بها، وليست مجرد زوجة!.
ثم ماذا؟ إنها لم تغن عنه شيئا.. وها هو ذا يمدّ يده إلى من هم أبعد من بنيه، وصاحبته.. إلى أخيه.. ثم إلى أهله وعشيرته.. ثم إلى كل من تطوله يده من قريب أو بعيد.. ثم لا يزال هكذا حتى يأتى على كل ما فى الأرض، من أنفس، ومتاع..
إن هذا الترتيب المتتابع فى تقديم ضحايا الفداء، لا يمكن أن يقع على هذا الوجه إلا بحساب دقيق محكم لاتجاهات النفس، وإلا بتقدير واقعي لارتباطها الشعورى بكل ضحية يضحّى بها فى هذا المقام.
وقد يبدو غريبا- فى ظاهر الأمر- أن يقدّم الإنسان أول ما يقدم للفداء والتضحية، أعزّ شىء لديه، وهم أبناؤه، وقد كان المتوقع أن يضنّ بهم، أو أن يجعلهم آخر سهم يرمى به فى وجه هذا الهلاك الذي يحتويه!! وهذا الحساب إنما يجرى على هذا الوجه، حين تكون الأمور على ما ألف الناس، وحين يكون فى الأمر شىء من السّعة، ولو كان بمقدار سمّ الخياط..(15/1165)
أما والعذاب هو عذاب جهنم، فإن المعابير تختلّ والموازين تضطرب..
وهل ينتظر من الإنسان فى مزدحم هذا الهول أن يعرف ضوابط ومعايير؟
وهل يدع هذا العذاب لإنسان سبيلا الاختيار، أو فرصة للموازنة؟.
إن أقرب شىء للإنسان فى هذا الموقف، هو درعه التي يتقى بها لفح العذاب، ولو كان هذا الشيء عضوا من أعضائه!! ولكن انظر حين يكون فى الأمر شىء من السعة، وحين يكون الإنسان خارج دائرة العذاب، لم يقع فيه بعد، ولم تغلق عليه أبواب جهنم.
إنه هنا يملك شيئا من الاختيار.. ولهذا فإنه فى ابتداء منطلقه من وجه الخطر، يتخفف من المهم فالأهم، ويتخلى عن العزيز فالأعزّ.. إنه لا يقدم فدية، ولكنه يحلّ نفسه من الروابط التي تربطه بالولد، والصاحبة، والأب والأم، والأخ. تلك الروابط التي تجعل منه ومن هؤلاء الأقربين كيانا واحدا، أشبه بالجسد وأعضائه..
فهو إذ يحلّ عقد الروابط بينه وبين هذه الأعضاء، يبدأ بأبعدها عنه، فيحلها عقدة عقدة، حتى ينتهى إلى أقرب عضو إليه، ولا عضو أقرب منه بعد هذا إلا نفسه ذاتها..
وشاهد هذا فى القرآن الكريم.. فى قوله تعالى:
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (34- 35: عبس) .
فهنا حركة فرار من خطر داهم.. أو شر مقبل، أو حيّة مهاجمة، أو نار علقت بالدار والمتاع، أو نحو هذا.. وهنا لا يلتفت الإنسان إلا إلى نفسه، لينجوبها(15/1166)
فإن راوده الأمل، ونازعته نفسه إلى حمل شىء معه، كان نظره إلى أعزّ شىء عنده، يجعله معه، ويمنّى نفسه بالنجاة به، فإن هو قد وجد فرصة النجاة ضيقة تخفف مما حمل، ورمى بالعزيز، دون الأعزّ.. ثم إذا ضاقت الدائرة بحيث لا تتسع إلا لنفسه، رمى بكل شىء، وطلب السلامة لنفسه، والفرار بجلده.
إن هذه الدقة البالغة غاية الأحكام، فى تصوير الحقائق، وانتزاعها من أغوار النفس، ومسارب الفكر، لا تكون فى غير القرآن الكريم، ولا تجىء إلا من تلقائه، حيث القدرة المعجزة، والبيان المفحم..
ولو ذهب كانب أو شاعر، يصور هذه الأحوال، لما أمكن أن يقارب هذا التصوير القرآنى، ولا أن يقع فى ظلاله..
وهب شاعرا أو كانبا وقع فى نفسه هذا الترتيب، أفتظن أنه كان يستطيع أن يجد له هذا البيان الواضح السمح، الذي يتدفق تدفق النور من وجه الصباح الوليد؟ ثم أكان يفرّق في هذا المقام بين زوجة وزوجة بهذه اللفظة المعجزة:
«صاحبته» التي تضمن لهذا الترتيب بين أهل الإنسان وعشيرته، الصدق والواقعية؟
ثم ماذا؟
ثم هذا العطف بالواو فى الآيتين:
«يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.» .
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ» . (34-
36: عبس) .
هذا العطف بالواو.. ماذا تقول فيه؟(15/1167)
إن علماء البلاغة يقولون: إن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وأنها لمطلق الجمع.. وربما كان هذا حقّا.. وهو حق فعلا، ولكنه فى مجال الكلام الذي يكال كيل التمر، ولا يوزن وزن الدّر، والذهب. أما حين يرتفع مستوى الكلام إلى أعلى منازل البلاغة، ثم يجاوزها فيكون من كلام الله سبحانه فى كتابه الكريم، فإن الأمر يختلف، حيث يكون لكل حركة معنى، ولكل وضع من النظم مقصدا، لا يتحقق إلّا به.
فالواو فى القرآن الكريم، صالحة فى أغلب الأحيان، لأن تفيد الترتيب والتعقيب، فتجعل للمتقدم وضعا غير وضع المتأخر، ومع اشتراكهما فى الحكم، فإنهما على درجات فى هذا الحكم، وتلك خاصة من خصائص البيان القرآنى، وسر من أسراره، لا يشاركه فيه غيره من شعر أو نثر..
وهكذا فرّق أصحاب البصر بكتاب الله بين المتعاطفين بالواو، وجعلا لكل منهما مكانا خاصا من المشاركة فى الحكم الذي اشتركا فيه..
فأبو بكر رضى الله عنه، يقيم حجته على الأنصار، بتقديم المهاجرين عليهم من قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» - فيقول لهم:
«أسلنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم» .. وقد سلّم الأنصار له بهذه الحجة ولم ينازعوه فيها..
وإذن، فهذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات الكريمة فى الموضعين السابقين هو ترتيب لازم، وإن كانت الواو هى أداة العطف فى هذا الترتيب! ثم لعلّ سائلا يسأل: إذا كان هذا الترتيب لازما، فلماذا لم يجىء العطف بالفاء ليكون ذلك أدلّ على المراد، وأبلغ فى بيان المطلوب؟
وأكاد أوثر ألّا أجيب على هذا التساؤل، وأدع السرّ الإعجازي للعطف(15/1168)
بالواو محجّبا فى جلاله لا يغشى حماه إلا من يسعى إليه، ويقف على مشارف حماه، يخالس النظر إليه، ويرشف من رحيقه قطرة قطرة.. ولأنى على يقين من أن أي جواب أجيب به عن هذا التساؤل، لا يمكن أن يقطع النظر عن البحث وراء أسرار هذا العطف تلك الأسرار التي لا تنفد أبدا، على كثرة ما يقع منها لأنظار الناظرين فيها.
ولهذا، فإنى لا أرى داعية إلى الإمساك عن الإجابة على هذا التساؤل، بما وقع لى.. ثم إن لغيرى أن يقبل هذه الإجابة، أو يعدّلها، أو يبحث عن جديد غيرها.. وإنه لواجد جديدا، وجديدا..
فأقول:
لعل أول ما يبدو من إيثار النظم القرآنى العطف بالواو، هو أن هذا العطف بالواو فى هذا المقام، يتسع لتحقيق المعنى الذي تتحق به الموافقة للواقع.
ذلك أن هذا الترتيب فى التخلّي عن الأعزاء، أو سوقهم إلى ساحة التضحية والفداء، لا يقع بهذا التحديد على تلك الصورة المعروفة، التي تقع فى الحياة، حين يكون للمرء فرصة للاختيار، فيقدم ويؤخر، فيما يتخلى عنه، أو يقذف به فى وجه العذاب، واحدا، بعد واحد.. وكلّا، فإن شدّة الهول، ووقدة السعير، لا يكون المرء معها فرصة للتفكير والاختيار، وإنما هو يتخلى عنها جميعا مرة واحدة، ويقذف بها كلها دفعة واحدة!! ولكنها- مع هذا الحشد لها- تأخذا هذا الوضع فى الترتيب الذي جاء بها عليه النظم القرآنى..
والعطف بالواو، وبالواو وحدها، هو الذي يحقق هذه الصورة المجتمعة المتفرقة فى آن واحد.. وذلك لأن الواو لمطلق الجمع من جهة، وللترتيب بين المتعاطفين من جهة أخرى، ثم إنه ليس بين متعاطفيها إمهال ملتزم، كما يكون ذلك بين المتعاطفين بالفاء، أو ثم..(15/1169)
تقول الآيات الكريمة فى هذه السورة: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ» - فتضع هؤلاء الضحايا جميعا على مذبح الفداء مرة واحدة، ثم هى- مع هذا- تضعهم بهذا الترتيب، فيما يشبه الزّمن العدمي!! وتقول الآيات الكريمة فى سورة أخرى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.» (عبس: 34- 36) فتفرض على المجرم الفارّ من وجه العذاب- أن يرمى بكل هؤلاء جميعا دفعة واحدة كما يرمى بحصيات من يده، مرة واحدة ولكن- وبتدبير معجز- تخرج تلك الحصيات من يده على هذا الترتيب الذي جاءت به الآيات.. فهو يفر من أهله جملة واحدة، لا يفصل بين أفرادها زمن، ولكنها جملة مفصلة، تمر فى أسرع من آنات الزمن! ولو أن العطف وقع بالفاء، أو ثم فى الموقفين، لكان فى هذا الترتيب فواصل زمنية لازمة، لا يحتملها الموقف، ولا يحكيها واقع الحال! هذه واحدة..
وأخرى..
وهى أن الطبيعة البشرية فى مجموعها، وإن كانت تجرى على هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات فى الموقفين، فى مقام المفاضلة بين الأهل والولد.. الابن، فالصاحبة (الزوج) ، فالأب، فالأم، فالإخوة، فالأهل والعشير.! ولكن هناك حالات خاصة تقضى بأن يكون لبعض الناس موقف خاص من هذا الترتيب، فيقدّم صنفا على صنف، لانحراف فى التفكير، أو لفساد فى الطبيعة، أو فتور فى العلاقة، أو غير هذا مما يغيّر فى وضع العلاقة الطبيعية بين المرء وأقاربه..(15/1170)
وإنه لو جاء العطف بالفاء أو ثم، لكان هذا الترتيب حكما ملزما للناس جميعا أن يجروا عليه فى هذه المواقف، ولكان هذا الحكم غير صادق كل الصدق، ولوجد من الناس من ينقضه، ويخرج عليه.. أما العطف بالواو فإنه يتسع لقبول مثل هذه الحالات العارضة على الطبيعة البشرية، حيث أن العطف بها لا يفيد هذا الترتيب الملزم.. فهى- أي الواو- تفيد الترتيب المطلق من جهة، وبذلك تحقق الحكم العام الذي يجرى عليه معظم الناس، ثم هى من جهة أخرى، لا تجعل هذا الترتيب أمرا ملزما- لأن الترتيب ليس من طبيعتها، ولكنه شىء عارض فى مقام الإعجاز- وبذلك تتناول الأطراف المنحرفة من مجموع الإنسانية، وتجعل لها مدخلا فى الحكم، ومكانا فى الصورة.
ثم ماذا بعد هذا؟ ثم كثير وكثير لا ينتهى أبدا.. «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً..»
قوله تعالى:
«كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى..»
«كلا» ردع، وزجر، ونفى.. فإنه لا نجاة من هذا العذاب، ولا مفر من أن يقع بأهله، فلا يدفعه دافع من جاء أو سلطان، أو فدية من مال وبنين «إِنَّها لَظى» - تعليل لنفى النجاة عن أصحاب النار، وردّ أي فدية لو كان يملك أحد شيئا يقدّمه فى هذا اليوم.. إنها لظى! فهل يملك أحد أن يفرّ منها؟
وفى قوله تعالى: «إِنَّها لَظى» تلويح بهذه النار الجهنمية فى وجه المجرمين..
«إِنَّها لَظى!» وكفى..! فهل يستطيع أحد أن يفلت من «لظى» إذا أوقعه شؤمه، وضلاله فى طريقها؟ ذلك محال.(15/1171)
وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه، وقد عرض نفسه لينازل عمرو بن ودّ يوم الخندق، وقد تهيبه المسلمون يومئذ.. فقال صلوات الله وسلامه عليه- لعلىّ كرم الله وجهه-: «إنه عمرو!!» فقال علىّ:
«وأنا على!!» .
وسميت «لظى» لتلظّى لهيبها، وتأججه، وزفيره وشهيقه.
«نَزَّاعَةً لِلشَّوى» حال من أحوال «لظى» .. وصاحب الحال «لظى» ، وهى معرفة، لأنها واحدة فى بابها، وعلم مفرد فى صفاتها وأفعالها..
والشوى: الأصراف، كاليدين، والرجلين.
وفى قوله تعالى: «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» إشارة إلى أن أول ما تحدثه النار فى الكائن الحىّ الذي يشوى بها، هو انخلاع أطرافه.. وهذا يعنى أن يفقد المعذّب بالنار القدرة على الحركة، إذا انفصلت عنه رجلاه اللتان يتحرك بهما، كما يفقد القدرة على الدفاع عن نفسه بيديه بعد أن عجز عن الفرار، إذ قد انخلعت عن جسده هاتان اليدان.. وهكذا يصبح كتلة مستسلمة للعذاب، مقيدة بقيد العجز المطلق..
وقوله تعالى:
«تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى» .. حال أخرى من أحوال لظى، وأنها تدعو إليها من أعرض عن الإيمان بالله، وأعطى ظهره لدعوة الحق.. فكأنها يدعوتها تلك إنما تستقبل من أقبل عليها، وولى وجهه نحوها، حين أعرض عن الإيمان بالله، وكما تستقبل من أعرض عن الإيمان- تستقبل من جمع المال وأوعاه أي وضعه فى وعاء، وضمن به عن الإنفاق فى وجوه الخير، والإحسان..
وفى الجمع بين الإعراض عن الإيمان بالله، والإمساك عن الإنفاق فى سبيل(15/1172)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
الله- إشارة إلى شناعة البخل، وأنه يعدل الكفر، وهذا مثل قوله تعالى:
«إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» (33- 34:
الحاقة) .
الآيات: (19- 35) [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» .
الإنسان هنا، هو الإنسان الذي ضلّ عن سبيل الله، وكفر به، وبرسله وباليوم الآخر.
وجاء الحكم على الإنسان مطلقا، على التغليب، لأن أكثر الناس هم هذا(15/1173)
الإنسان الهلوع، كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وفى قوله تعالى: «خلق» - إشارة إلى أن هذا الذي عليه الإنسان من كفر وضلال، هو مما سبق به قضاء الله فيه، واقتضته مشيئته، كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) ومع هذا القضاء السابق، والمشيئة الغالبة، فإن الإنسان مكلّف بأن يأخذ طريق الخير، ويتجه إلى جانب الأمن والسلامة من عذاب الله، لأنه لا يدرى ما قضاء الله فيه، ومشيئته له.. ولكن الذي يدريه ويقطع به، هو أن للنجاة طريقا، ينبغى أن يسلكه، وللهلاك طرقا يجب أن يتجنبها.. إنه يفرّق حتما بين النور والظلام.. وفى النور الهدى والسلامة، ومع الظلام الضلال والضياع.
فإذا آثر الظلام على النور، والضلال على الهدى، ولم يتحرك بإرادته للخلاص مما هو فيه، فقد لزمته الحجة، وحق عليه العقاب.
والهلوع: من الهلع، وهو الجزع الشديد.
وقوله تعالى:
«إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» هو بيان الهلع الذي هو طبيعة غالبة فى الإنسان.. فإن من شأن هذه الطبيعة التي تملّكها الهلع، أنه إذا مس الإنسان شر لم يصبر عليه، واستبد به الجزع، واستولى عليه اليأس.. لأنه لا يستند إلى قوة القوىّ العزيز، ولا يستعين بعون الرّحمن الرّحيم.. إنه فى دائرة مغلقة عليه مع هذا البلاء الذي نزل به، لا يرى لهذا البلاء دافعا، ولا يتوقع من وراء هذا الضيق فرجا.. أما المؤمن بالله، فإنه إذا مسّه الشر، وأصابه الضر، نظر إلى وجه ربه الكريم، وبسط يد الرجاء إليه،(15/1174)
يطمع فى رحمته، ويرجو كشف الضر عنه، فيجد فى هذا الرجاء متنفسا لكربه، وكشفا لضره.
هكذا المؤمنون بالله، لا يحزنهم هم نازل، ولا يكربهم بلاء مطبق، لأنهم فى ضمان من رحمة الله، وعلى رجاء من فضله.. «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» (83: 84: الأنبياء) إن المؤمن على يقين من أن له ربّا يشكو إليه، وأن ربه سميع الدعاء، واسع الرحمة: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) .
إن المؤمن لا يأسى على شىء فاته من أمور الدنيا، ولا يجزع لشىء أصابه من همومها، إذ هو على يقين من أن ذلك بقضاء وقدر، وأنه بتقدير العزيز الحكيم، وأن ما قدره الله سبحانه، هو الخير، وإن رآه الإنسان شرا، كما يقول سبحانه:
«وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (216: البقرة) ويقول جل شأنه:
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19: النساء) ..
وفى هذا كله عزاء للمؤمن عند كل مصيبة، ومواساة عند كل كرب.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (155: 157: البقرة) .
أما الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، فإنه قد خلّى بينه وبين مصيبته، يتجرع غصصها، ويمضغ جمرها، ويبيت على أشواكها، دون أن يجد للصبر طريقا، أو يرى للعزاء وجها..(15/1175)
هذا الإنسان الذي لا يؤمن بالله فى مواجهة الرزايا، وفى لقاء المصائب، هو طعام للجزع، ووقود لليأس والحسرة! أما فى حال العافية، والرخاء، وسعة الرزق، وفيض المال، فهو متسلط جبار، لا يرى لأحد شيئا مما ملك، بل إن هذا الملك الذي فى يده، يغريه بإذلال الناس، واستعبادهم، حتى يزداد علوا، ويزداد غيره نزولا، ففى ذلك متعة له، ورضا لنفسه، وهناءة لقلبه.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .
إنه لا يرى أبدا أن هذا الذي بين يديه، هو وديعة عنده، يمكن أن تسترد يوما ممن أودعها إياه ... وإنما يقوم تقديره على أن هذا الذي وقع له، هو من تدبيره، أو هو أمر لازم لذاتيته، ولما فيه من مزايا خاصة، أثمرت له هذا الثمر.. إنه يتصور أنه من عنصر كريم، لا يثمر إلا هذا الخير، الذي هو فيه، كما أن غيره من الفقراء والمساكين والضعفاء، هم من عنصر لا يجىء منه غير الفقر، والمسكنة والضعف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الكشف عن تفكير هذا الإنسان الضال المغرور بنفسه، إذ يقول سبحانه على لسانه: «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي» (50: فصلت) أي هذا من طبيعة ذاتى، وخصّيصة وجودى.. أما الفقراء، وذوو الحاجة، فإنهم ليسوا أهلا لغير الفقر والحاجة، ولو كانوا يستحقون غير ما هم فيه، لما بخل الله عليهم به. «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (47: يس) وقوله تعالى:
«إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ..» .(15/1176)
هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .
فالحكم العام على الإنسان، هو أنه هلوع جزوع، إذا مسه الشر.. منوع بخيل، إذا مسّه الخير.. ويستثنى من هذا الحكم العام أولئك الذين آمنوا بالله من بنى الإنسان، ثم امتثلوا شريعة هذا الإيمان، فأتوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه..
والصلاة، هى الركن الأول من الأركان التي قام عليها الإيمان، ولهذا كانت أول صفة يتصف بها المؤمنون، لأنها هى الطريق الذي يصلهم بالله.
فإذا تركها المؤمن، انقطعت صلته بربه، إلى أن يعود إليها، وفى هذا يقول الله تعالى: (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى) (14: طه) فالصلاة هى التي تذكّر بالله، وتصل العبد بربه، وتملأ قلبه خشية منه، وولاء له.
ثم تأتى الصفة الثانية التي يتصف بها المؤمن بعد الصلاة، وهى الزكاة، فيقول سبحانه: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» .. فإن من شأن من يؤمن بالله، ويداوم على الصلاة- من شأنه أن يذكر ربه، ويذكر أن ما فى يده، هو من رزق الله له، ومن إحسانه إليه، وهو بهذا لا يبخل بهذا المال، ولا يضن به على الإنفاق فى وجوه البرّ، لأن ما ينفقه هو مدّخر عند الله له، ثم هو فى الوقت نفسه، لا ينقص شيئا من رزقه المقدر له.. فما أنفقه فى وجوه الخير، هو صدقة زائدة، تصدّق الله سبحانه وتعالى بها عليه، لتكون طهرة له..
وما أمسكه فى يده، هو الرزق المقدر له..
والحق المعلوم فى أموال المؤمنين، هو الزكاة المفروضة عليهم..(15/1177)
والسائل: هو الذي يسأل عند الحاجة، والمحروم: هو المحتاج الذي لا يسأل، حياء وتعفّفا..
هذا وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين الصلاة والزكاة فى سبعة وعشرين موضعا من القرآن الكريم، كما التزم القرآن الكريم تقديم الصلاة على الزكاة فى كل موضع اجتمعتا فيه..
وفى هذا الجمع بين الصلاة والزكاة- إشارة إلى أنهما من باب واحد، فى باب الإيمان والإحسان! ..
ثم إن فى تقديم الصلاة على الزكاة، إشارة إلى أن الصلاة هى التي تخلق فى الإنسان العواطف والمشاعر التي تدعو إلى الرحمة، والعطف، والإحسان، فالزكاة ثمرة من ثمرات الصلاة.. والثمرة فرع من أصل، هو الشجرة! وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» ..
أي ومن صفات المؤمنين بالله، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، أنهم يصدقون بيوم الدّين، ويؤمنون بالبعث، والحساب والجزاء، فإنه بغير هذا التصديق بيوم الدين، لا يكمل إيمانهم بالله، ولا يقوم عندهم شعور واضح بهذا الإيمان، إذ أن الإيمان بالحساب والجزاء هو الذي يعطى الإيمان بالله، الواقع العملي لهذا الإيمان، بما يقدّم الإنسان من أعمال صالحة، وبما يتجنب من أعمال سيئة، إعدادا ليوم الحساب، واستعدادا للقاء الله فى هذا اليوم..
ولو أخلى الإيمان بالله، من الإيمان باليوم الآخر، لكان الإيمان بالله- إن وجد- مجرد فكرة ذهنية، لا يكاد يكون لها أثر فى سلوك الإنسان، ولا(15/1178)
حساب فيما يأتى وما يذر من الأعمال..
وسمّى يوم القيامة «يوم الدين» لأنه يوم الدينونة، ويوم الحساب، حيث يدان الإنسان، ويجازى بما عمل..
وأصله من الدّين، لأن لله سبحانه وتعالى دينا على كل مخلوق، بخلقه من عدم، ثم بما أودع فيه من قوى، ثم بما أفاء عليه من فضله وإحسانه.. ولهذا كان كل موجود مسبّحا بحمد الله، قضاء لبعض هذا الدين.. وقد وفىّ كل مخلوق دينه لخالقه، إذ لم ينحرف عن الطريق الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه، ما عدا الإنسان: فإن أي إنسان مهما اجتهد فى طاعة الله، وتحرّى مواقع مرضاته، فإنه لا يسلم أبدا من عوارض التقصير.. ولهذا كان الناس جميعا واقعين تحت الدينونة..
والديان، صفة من صفات الحق جلّ وعلا، لأنه صاحب الفضل والإحسان على هذا الوجود.. يقول الشاعر:
لاه ابن عمّك لا أفضلت فى حسب ... عنّى ولا أنت ديّاني فتخزونى
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» - إشارة إلى أن الخشية من عذاب الله، هى القوة العاملة فى توجيه الإنسان إلى الخير، وتجنبه للشر، أكثر من الطمع فى الجنة والرغبة فى نعيمها.. فمن طبيعة الإنسان أنه يحرص على أن يتوقىّ الشر، ويعمل له حسابا، أكثر من حرصه على تحصيل الخير والجدّ فيه.. ومن هنا كان من المبادئ العامة فى الشريعة الإسلامية:
«أنّ دفع المضار مقدم على جلب المنافع» فإن دفع الضرر، هو فى الوقت نفسه جلب لمنفعة، هى السلامة من هذا الضرر، والعافية من بلائه.. فدفع المضار(15/1179)
مقترن دائما بجلب المصالح والمنافع.. على خلاف ما يكون من جلب المنافع، فإنه قد تجلب المنفعة، ولا يكون معها دفع مضرة.. مثل جلب المال إلى المال بعد سدّ حاجة الإنسان. فإن جلب المال لدفع الحاجة، هو دفع لضرر وجلب لمصلحة معا، وجلب المال لغير سدّ حاجة، هو جلب لمنفعة، لا يصحبه دفع ضرر.. وشتان بين الأمرين.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) ..
فالزحزحة عن النار دفع لضرر، جلب معه مصلحة، وهو دخول الجنة..
أما من دخل الجنة ابتداء من غير أن يتحقق أنه زحزح عن النار، فإن شبح النار لا يزال مطلّا عليه، لأنه لم يعلم حقيقة أمره مع النار..
ولعل هذا هو السر فى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (71- 72:
مريم) .
وقوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» ..
أي أن المؤمن- مع إيمانه بالله، وإقامته الصلاة. وإيتائه الزكاة، وتصديقه باليوم الآخر- كل ذلك لا يخلى نفسه من الشعور بالخوف من الله، والوقوع تحت طائلة عذابه.. فما أحد يدرى ما الله صانع به، وما أحد يدرى أهو من أهل الجنة أم من أهل النار، وإن كان- مع هذا- طريق قائم على الجنة، وأعمال تبلغ بالعاملين على هذا الطريق، إلى الجنة.. وطريق قائم على النار، وأعمال تسوق العاملين على هذا الطريق، إلى النار..
ثم الحكم بعد هذا كله إلى الله وحده، «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (31: الإنسان)(15/1180)
[الإسلام.. وشهوة الجنس]
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» .
أي وكذلك من صفات المؤمنين- مع إيمانهم بالله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والتصديق باليوم الآخر، والخشية من عذاب الله- هم أنهم لفروجهم حافظون، أي حافظون لها من الوقوع فى الحرام.
وقوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ» .. «إلّا» هنا بمعنى لكن، التي تفيد الابتداء لا الاستثناء.. فما بعدها منقطع عما قبلها.. وهذا يعنى أن الحفظ للفروج هنا، هو حفظ مطلق، لا استثناء فيه.. فإمّا حفظ، أو غير حفظ.. لأن غير الحفظ يكون عدوانا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ «1» (5- 7:
المؤمنون) فعدم حفظ الفروج يكون عدوانا على حرمات الناس..
وعلى هذا يكون المعنى، أن من شأن المؤمنين أن يحفظوا فروجهم، وألا يكون منهم عدوان على حرمة الناس، أما عدوانهم على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم من إماء، فإنهم غير ملومين فيه..
ففى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» - إشارة خفيّة إلى أن هذه الإباحة للأزواج، وما ملكت الأيمان، ليست على إطلاقها، وإنما هى محفوفة بسياج متين، ومحاطة بحراسة قوية، لا يؤذن بالدخول إليها إلا بحساب، وتحت مراقبة!.
__________
(1) انظر تفسير هذه الآية فى سورة (المؤمنون) من التفسير القرآنى للقرآن.(15/1181)
وهذا يعنى أن للفروج حرمة حتى فى مواقع الحلال، فلا تبتذل، ولا تمتهن، ولا تسترخص، ولا تستباح، كما تستباح فروج البهائم فى غير ستر من الحياء والتصون.. إنها أكرم وأعز من أن ينظر إليها كما ينظر إلى المتاع.. إنها شرف الإنسان وعرضه وكرامته، فإذا أحل الله للإنسان أن يستبيح شرفه، وعرضه وكرامته لحساب نفسه، فليكن ذلك فى حدود نفسه، بحيث لا يطلع عليه أحد.. وهذا هو بعض السرّ فى قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» (187: البقرة) - فقوله تعالى:
«هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» يجعل من كلّ من الزوج وزوجه كيانا واحدا، يجمّل كلّ منهما صاحبه بلباس ضاف من الستر والحياء، والتصوّن..!
هذا هو أدب الإسلام، وتلك هى تربيته العالية للإنسان، والارتفاع بإنسانيته إلى هذا المستوي الكريم من التعفف والتصوّن، والتسامى على شهوات الحيوان الكامن فيه.. فلو أن إنسانا يكون ملاكا يمشى على الأرض لكانه هذا الإنسان المسلم الذي ينشّأ فى حجر الإسلام، ويربى على تعاليمه، ويتأدب بآدابه.
ودع ما يتخرص به أعداء الإسلام وحاسدوه، من أن الشريعة الإسلامية تقوم أساسا على استرضاء الغرائز البهيمية فى الإنسان، وخاصة ما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة، التي وقف بها الإسلام- كما يقولون كذبا وافتراء- عند حدّ إشباع الشهوة الجنسية، وإطلاق العنان لها، بلا حدود ولا قيود، بحيث يستطيع الرجل دائما أن يضم فى بيت الزوجية أربع نساء، يتبدل بهن كل يوم- إن شاء- أربعا!! وهكذا يستطيع المسلم أن يتزوج مئات النساء، وأن يلتقى كل يوم بوجوه جديدة منهن.. هذا إلى الإماء والجواري- إن كان هناك إماء وجوار!(15/1182)
وحتى الجنة التي وعد الإسلام بها أتباعه، هى جنة حور وولدان، يجد المرء منهما بين يديه مئات، وألوفا، دون وقوف عند حدّ.!
هكذا يشنّع أعداء الإسلام على الإسلام، ويرمونه بهذه التهم الظالمة متخذين من ظاهر بعض النصوص القرآنية، حججا يقيمونها على مفهوم خاطئ، ويتأولونها تأويلا قائما على الهوى، يعينهم على ذلك ما وصل إليه حال المجتمع الإسلامى فى بعض بيئاته الجاهلة التي لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا تأخذ منه غير ظاهر الأشكال والرسوم، دون أن يكون لها حظ من صميم هذا الدين الذي جاءت رسالته لتسوية خلق الإنسان، والبلوغ به إلى غاية كمالاته، كما يقول الرسول الكريم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فما جاء الرسول الكريم داعيا إلى جديد فى بناء الحياة العقلية، والروحية، والنفسية، والعاطفية للإنسان، وإنما جاء ليزين هذا البناء، ويجمله، ويكمله..
وبعد، أفلا يخجل أولئك الذين يتزيّون بزىّ الإسلام، ثم تخرج من أفواههم كلمات العهر والفجور، ينهقون بها كما تنهق الحمر؟ وألا يستحى أولئك الذين يتسمون بأسماء إسلامية ثم يظهرون على أعين الناس فى تلك الأثواب الفضفاضة من الخلاعة والمجون؟ إن هؤلاء الخلعاء الرقعاء، هم شهود زور يدينون الإسلام أمام محكمة الرأى العام، وينفّرون الناس منه، ويصدّونهم عن سبيله.. وإنه لخير للإسلام أن يتحول عنه هؤلاء الذين يرمونه بسهام قاتلة، إلى صفوف أعدائه، حتى لا ينخدع بهم الناس، ولا يسودّ بهم وجه الإسلام المسلمين فى أعين الناظرين إلى الإسلام وأهله!.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» .(15/1183)
هو بيان لصفة أخرى من صفات المؤمنين، وهى رعاية الأمانات التي أؤتمن عليها المؤمن، سواء أكانت هذه الأمانات لله، فيما فترض سبحانه على المؤمن، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج- وجهاد، أو كانت من أمانات الإنسان لنفسه، كفرجه.. أو أمانات للغير، كالودائع ونحوها..
والعهود، هى المواثيق التي بين العبد وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وهى من قبيل الأمانات..
ورعاية هذه الأمانات، هى أداؤها على الوجه الذي أمر الله به.. وفى نقض العهود خيانة للأمانة، وفى خيانة الأمانة نقض للعهد للأخوذ على المؤمن بحفظها.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» ..
وقيام الشهادات، صفة من صفات المؤمنين، وهو أداء الشهادة على وجهها لذى يحقّ الحق، ويبطل الباطل.. «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (283: البقرة) ..
وفى التعبير عن أداء الشهادة على وجهها، بلفظ القيام بها، إشارة إلى أن الذي يؤديها، إنما يقيم بها ميزان العدل، كما يقول سبحانه: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (9: الرّحمن) وكما يقول جل شأنه:
«وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» (4: الطلاق) ..
كما أنه يشير إلى أن أداءها أمر له شأنه وخطره، وأنه مطلوب من الإنسان أن يقوم لها بكيانه كلّه، وأن يظل هكذا قائما حتى يؤديها..(15/1184)
وهذا مثل قوله تعالى: «وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (238: البقرة) ..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» ..
وحفظ الصلاة، هو أداؤها على وجهها الصحيح، بما يسبقها من طهارة الجسد، والثوب، والمكان، وبما يقوم بين يديها من انشراح صدر، وروح نفس، واستحضار ذهن، واجتماع فكر، وبما يصحبها من خشية وجلال، فى مناجاة ذى العظمة والجلال..
فمن صفات المؤمنين أنهم على صلاتهم دائمون، أي يؤدونها فى أوقاتها، وأنهم إذ يؤدونها إنما يؤدونها على تلك الصفة، من الجلال، والرهبة، والخشوع..
وقد فصل بين أداء الصلاة فى قوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» وبين الصفة التي تؤدّى بها فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» - فصل بينهما بتلك الآيات التي تدعو إلى أداء الزكاة، وإلى التصديق بيوم الدين، والخشية من عذاب الله، وإلى حفظ الفروج، وأداء الأمانات، والقيام بالشهادات- لأن أداء الصلاة مطلوب على أية حال، لا يقوم للمؤمن عذر أبدا يحلّه من أدائها فى أوقاتها.. أما أداؤها على تلك الصفة الخاصة من الخشوع، والخضوع، والرهبة، والجلال، فهو أداء للأمانة، وأنه لا تبرأ ذمة الإنسان منها إلا بأدائها على تلك الصفة، فإذا لم يؤدها على تلك الصفة، فهى لا تزال أمانة فى يده، ومطلوب منه أن يؤديها على وجهها، أما إذا لم يؤدّ الصلاة أصلا، فهو تضييع لتلك الأمانة، يحاسب «م 75 التفسير القرآنى ج 29»(15/1185)
عليها حساب المضيّعين للأمانات، وإنه حينئذ ليعز عليه أن يجدها، إذا هو أراد أن يؤديها، لأنها أفلتت من يده! وهذا يعنى أن دوام الصلاة، والمواظبة عليها فى أوقاتها، من شأنه أن يبلغ بالإنسان يوما، القدرة على أدائها كاملة، وأنه إذا فاته مرحلة من مراحل أدائها أن يمتلىء قلبه بالخشوع والرهبة معها، فإنه- مع المواظبة- سيجيئ اليوم الذي يجد فيه لصلاته ما يجد المصلون الخاشعون.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله لمن جاء يقول له: إن فلانا يصلّى، ولا ينتهى عن المنكر، فيقول- صلوات الله وسلامه عليه-: «إن صلاته ستنهاه» ..
أي ستنهاه عن المنكر يوما ما، إذا هو واظب عليها، فإن المواظبة عليها من شأنها أن تعلق الصلاة بقلبه، ثم يكون لها بعد ذلك سلطان عليه، ثم يكون لهذا السلطان وازع، بما يشبع فى قلبه من رهبة وخشية لله!.
ومن جهة أخرى، فإن التنويه بالصلاة بدءا وختاما، يجعل هذه الفضائل- التي بين أداء الصلاة، والصفة التي تؤدّى عليها- فى ضمان هذا الحارس القوى الأمين، وهو الصلاة، فإذا لم يكن بين يدى هذه الفضائل صلاة، وإذا لم يكن خلفها صلاة، جاءت هذه الفضائل فى صورة باهتة هزيلة، لا تلبث أن تجف، وتموت، ولا يبقى لها فى كيان الإنسان داع يدعو إليها، أو هاتف يهتف بها..
ومن هنا كانت الصلاة عماد الدين، كما يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ» .
فهذا هو جزاء المؤمنين الذين يكونون على تلك الصفات، التي بيّنتها(15/1186)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
الآيات السابقة.. إنهم مكرمون عند الله، فى جنات، يتقلبون فى نعيمها، حيث يكونون فى ضيافة أكرم الأكرمين، رب العالمين..
الآيات: (36- 44) [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
التفسير:
كانت الآيات السابقة على هذه الآيات، حديثا متصلا عن المؤمنين، وما ينبغى أن يكونوا عليه من صفات كريمة عالية، حتى ينالوا رضوان الله، ويدخلوا فى جنات النعيم، يتلقون فيها من ربهم فواضل الإكرام والإحسان..(15/1187)
وهذه الآيات، تواجه المشركين، الذين أبوا أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، وأن يكونوا من المؤمنين..
وفى قوله تعالى:
«فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» ؟
المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون، الذين دخلوا فى الحكم الذي أشار إليه قوله تعالى فى الآيات السابقة: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .
وقد استثنى من هذا الحكم العام على الإنسان- المؤمنون، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.. إلى آخر ما وصفهم الله سبحانه وتعالى به من صفات تدنيهم من التقوى، وتقربهم من الله.. وقد وعد الله هؤلاء المؤمنين بمقام كريم فى جنات نعيم..
وإنه إذ تنتهى آيات الله بالمؤمنين إلى هذا الموقف، وتنزلهم منازل الرضوان فى جنات النعيم- تلتفت إلى هؤلاء المشركين، فتسأل النبي الكريم عنهم، سؤال المنكر لهذا الموقف الذي هم فيه من النبىّ: «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ؟» أي ما بالهم يتحركون بين يديك يمينا وشمالا، مسرعين إلى شئون شتى، من جدّ أو هزل، دون أن يلتفتوا إليك، أو يستجيبوا لدعوتك؟.
وقبل النبي: تجاهه، وقبالته..
ومهطعين، أي مسرعين.. كما في قوله تعالى: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (8: القمر) .
وقوله تعالى: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» بيان لحال المشركين،(15/1188)
وهم يهطعون جماعات جماعات، عن يمين النبي وعن شماله، ينطلقون فى كل وجه، كما تنطلق الماشية في المرعى، على حين يرون النبي والمؤمنين، فى شغل بعبادة الله، وسعى إلى الصلاة، فلا يكون منهم إلى النبي وأصحابه إلا نظرات تائهة بلهاء، أو عيون متغامزة فى سخرية واستهزاء..
والعزون. الجماعة، ومنه العزّة، وهى تكون غالبا من لوازم الكثرة.
قوله تعالى:
«أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟» .
الاستفهام إنكارى، وقد جاء الجواب عنه بالنفي فى قوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» .
أي كلا.. إنهم لن يدخلوا مداخل المؤمنين أبدا، ولن يكون لهم إلى جنة النعيم سبيل.
وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» .. هو بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأن أمر البعث الذي ينكرونه، وهو الذي يفسد عليهم رأيهم فيما يسمعون من آيات الله- هو هيّن بالنسبة لخلقهم من هذه النطفة، التي لا تعدو أن تكون نفاية من تلك النفايات التي تلفظها أجسامهم، كالمخلط، أو اللعاب ونحوها.. ومع هذا فإن هذه النطفة يقوم منها إنسان سوىّ الخلق، خصيم مبين!!.
فهذه النطفة التي يتخلق منها الإنسان، هى مما يعلم هؤلاء المشركون علما مستيقنا، بالتجربة الواقعة، التي لا تغيب عن أشدّ الناس غباء وجهلا.
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» .(15/1189)
«لا» فى قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ» للنفى.. أي نفى القسم برب المشارق والمغارب، تنزيها لله سبحانه وتعالى، أن يقسم به على أمر لا يحتاج إلى قسم، لظهوره، ظهورا يكاد فى عداد البديهيات.. وهو أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب بهؤلاء المشركين، ويقطع دابرهم، ثم يأتى بمن هم خير منهم وعيا، وإدراكا، واستقامة على طريق الهدى.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» .
(19: إبراهيم) .
وقوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا حين نطلب من نريد إهلاكه، لا يفوتنا، ولا يعجزنا، كما فى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (4: العنكبوت) وكما يقول سبحانه على لسان الجن: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» (12: الجن) قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» ..
هو تهديد لهؤلاء المشركين، وذلك بأن يدعهم النبي وما هم فيه من خوض فى الباطل، ولعب فى مواقع الضلال، حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون، وهو يوم القيامة، وما توعّدهم الله به من عذاب..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» .
«يَوْمَ يَخْرُجُونَ» - هو بدل من «يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. ففى هذا اليوم الموعود، يخرجون من الأجداث، أي القبور، سراعا، حيث يساقون سوقا إلى موقف الحساب، والجزاء، وكأنهم فى سرعتهم ذاهبون إلى نصب(15/1190)
يجتمعون عنده، ليشهدوا مجلسا من مجالس عبادتهم، يمنّون فيه أنفسهم بالربح العظيم من عبادته.
والنّصب: واحد الأنصاب، وهو الصنم، وكل ما نصب ليعبد من دون الله ويوفضون: أي ينتهون إلى هذا النصب.. وأوفض إلى كذا، وأفضى إليه..
أي تتبعه، وانتهى إليه سراعا..
قوله تعالى:
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» .
«خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» حال من أحوال هؤلاء المشركين، بعد خروجهم من قبورهم وسوقهم إلى الموقف أو المحشر.. إنهم يسرعون مسوقين إلى هنالك، وقد خشعت أبصارهم ذلة، وهوانا.
وقوله تعالى: «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» حال أخرى من أحوالهم.. أي قد أرهقتهم ذلة، وأنهكتهم، واشتدت عليهم وطأتها، وآدهم حملها..
وقوله تعالى: «ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» إلفات للمشركين إلى هذا اليوم، وما يطلع عليهم فيه من بلاء عظيم، وكرب يقصم الظهور! إنه هو ذلك اليوم الذين كانوا يوعدون به فى الحياة الدنيا، ولا يصدقون به، ولا يعملون حسابا له.. وها هوذا قد جاءهم بالعذاب، فماذا هم فاعلون؟ لا شىء إلا الصراخ والعويل، وتقطيع القلوب حسرة وندامة..(15/1191)
71- سورة نوح
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النحل..
عدد آياتها: ثمان وعشرون آية..
عدد كلماتها: مائتان وأربع وعشرون.. كلمة..
عدد حروفها: تسعمائة وتسعة وخمسون.. حرفا..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «المعارج» بعرض هذا الموقف الذي يقفه المشركون من النبىّ، وبدعوة النبي من الله سبحانه، أن يتركهم فيما هم فيه، ليخوضوا، ويلعبوا، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون..
وبدئت سورة «نوح» بذكر موقف قوم نوح منه، وتأبّيهم عليه، وأنه لبث فيهم عمرا طويلا امتد ألف سنة إلا خمسين عاما، يغدو ويروح بينهم بدعوته، يعرضها عليهم فى كل معرض، ويلقاهم بها على كل وجه، فما استجابوا له.. ثم كانت عاقبتهم هذا العذاب الذي أخذهم الله به فى الدنيا، وإن لهم فى الآخرة لعذابا أشد وأنكى..
فالمناسبة بين السورتين قريبة، تجعل منهما سورة واحدة، لموقف واحد..(15/1192)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 14) [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
التفسير:
قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً..»
قصة نوح هنا مع قومه- كما يذكرها القرآن الكريم- تمثل الموقف الأول لرسل الله، فى مواجهة أقوامهم، وما يلقون منهم من سفاهة، وضلال، وعناد..(15/1193)
فالضلال، والسفه، والعناد، طبيعة، غالبة فى الإنسان، متمكنة فى بنى آدم، وإن هذه الآفات ليست أمرا عارضا فى قوم من الأقوام، أو أمة من الأمم.
ولعل هذا من بعض الأسرار التي جاءت من أجلها سورة نوح، فى أعقاب سورة «المعارج» التي جاء فيها قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .. فهذا الإنسان يرى على صفته تلك، فى آبائه الأولين، قوم نوح..
وفى قوله تعالى: «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» إشارة إلى أن القوم كانوا على مشارف الهاوية التي تهوى بهم إلى الهلاك، وأن نوحا إنما بعث إليهم لينذرهم بهذا الخطر الذي يتهددهم، ويوشك أن يشتمل عليهم..
وفى قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - بعد الأمر الذي أمر به من ربه، دون توان أو تردد- فى هذا ما يشير أيضا إلى أن الأمر يقتضى المبادرة بإنذار القوم، قبل أن تقع بهم الواقعة التي هى وشيكة الوقوع! وفى كلمات قليلة، ألقى نوح إلى القوم بهذا الإنذار: «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
إنه لا وقت للحديث، والنار تشتمل على القوم، وتكاد تعلق بهم.. إنها كلمة واحدة: أن اطلبوا وجها للنجاة من هذا البلاء!! ثم يقدم إليهم نوح بعد هذا التنبيه إلى الخطر، مركب النجاة، الذي إن أسرعوا إليه، ودخلوا فيه، سلموا من الخطر المحدق بهم.. وهو الإيمان بالله، والاستقامة على طريق تقواه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» فإنهم إن آمنوا بالله، وعبدوه، واتقوا حرماته، يدفع عنهم يد الهلاك المطلة عليهم، ويؤخرهم إلى الأجل المسمى لهم، حتى يستوفوا أعمارهم، فلا يبادرهم العذاب، وهم على طريق الحياة.. «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» ..(15/1194)
وقوله تعالى: «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن الآجال المقدرة لا تؤخر أبدا، وأنه إذا انتهى الأجل الذي قدره الله، للإنسان، أو الجماعة، فلن يؤخره الله سبحانه أبدا..
وفى هذا احتراس لما يقع فى الأفهام، من أن القوم إذا استجابوا لله امتدت أعمارهم، إلى ما وراء الأجل المقدور لها عند الله.. وإنما هذا الامتداد للآجال الذي وعدوا به، هو فى ظاهر الأمر البادي لهم، وهم فى يد الهلاك، الذي سيأخذهم جميعا.. وأنهم إذا استمعوا لما يدعوهم إليه نوح، ونجوا من هذا الهلاك- كانت هذه النجاة قدرا من أقدارهم، وكان الانتظار بهم هو الأجل المقدور.. كما أنهم لو عصوا نوحا، ولم يقبلوا ما يدعوهم إليه، ووقع بهم الهلاك- كان هذا الهلاك قدرا من أقدارهم، وكان الموت المعجل لهم، هو نهاية الآجال التي قدرها الله لهم..
إن هذا التحذير، هو أمر مطلوب، وإن الفرار من وجه الخطر هو أمر مطلوب أيضا، فإذا نجا الناجي، فإنما نجا لأنه لم يستوف أجله بعد، وإذا هلك الهالك، فإنما هلك لأن أجله المقدور له قد انتهى..
ولقد دعا نوح قومه، فلم يسمعوا له، ولم يحفلوا به، فجاء إلى ربه شاكيا..
«قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً..»
تلك هى حال القوم مع هذا النذير الذي جاء يدعوهم إلى النجاة من هذا البلاء المطل عليهم، وتلك قصته معهم، يعرضها على ربه، شاكيا عنادهم، طالبا من الله أخذهم بالعذاب الذي هم أهل له..(15/1195)
وإن القوم ليبلغون فى السفاهة غايتها، ويركبون من الجهل أشرس مطاياه وألأمها.. إنهم كلما سمعوا صريخ النذير، ازدادوا فرارا منه، وقربا من موقع الخطر الذي يحذرهم منه.. وإنهم كلما سمعوا صريخ هذا النذير، جعلوا أصابعهم فى آذانهم، كأنما يسمعون منكرا، يسدون عليه المنافذ أن يصل إلى آذانهم، وإنهم لم يقفوا عند هذا، بل غطّوا وجوههم: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» أي جعلوها غاشية تحجبهم عن أن ينظروا فى وجه هذا النذير، حتى لا يروا منه أية إشارة تشير إليهم، وتحذرهم من الخطر الزاحف عليهم..!!
وفى قوله تعالى: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» إشارة إلى ما وقع فى نفوسهم من جفاء لهذا النذير، وإلى ما أضمروا من عداوة له.. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم فى أحلام اليقظة، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه، إلا بحجز حواسهم عنه، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه، من بصر أو سمع! إنهم يغطّون وجوههم بثيابهم، ويدخلون رءوسهم فى جيوبهم، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع فى سماء ليلهم المظلم البهيم..
وقوله تعالى:
«ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» ..
هو بيان للأسالبب المختلفة التي اتخذها نوح، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصّفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم، وأبصارهم.. فهو تارة يدعوهم جهارا، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصمّ لا يسمع، حتى يخترق بصراخه العاصف، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم.. فلما لم تنفع هذه الوسيلة، معهم، أمسك لسانه، وزمّ شفتيه، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف(15/1196)
عن الحديث إليهم، همس إليهم همسا خافتا، لا يكاد يسمع، لعل كلمة عابرة تصل إلى أسماعهم من هذه النذر التي ينذرهم بها.. فهذا إعلان فى إسرار..
وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» .. فى هذا ما يشير إلى أن كل حال من تلك الأحوال كانت تستغرق وقتا طويلا، يقف فيه نوح، حتى يملّ الوقوف، وحتى يستيئس من أن أحدا يسمعه.. إنه ينادى أمواتا، ويهتف بعوالم من الجماد..
وقوله تعالى:
«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» .
هذا بيان لما كان يدعو نوح قومه إليه، ويهتف فيهم به.. إنه يناديهم، ويسرّ إليهم القول أن يستغفروا ربهم، إنه كان غفارا، يغفر لمن يستغفره، ويرجع إليه تائبا نادما.. وإنهم إن فعلوا هذا رزقهم الله رزقا حسنا، وأرسل السماء عليهم مدرارا، أي بالمطر الكثير، حيث تخصب الأرض، وتكثر الثمرات والخيرات، فحيث كان الماء، كان الخصب والخير الكثير فى الأموال والأنفس..
ومن هذا الماء يجعل الله لهم جنات، ويجعل لهم أنهارا دائمة الجريان، تسقى هذه الجنات، وتضمن لها حياة دائمة، وخضرة محددة، وثمرا موفورا.
والاستغفار الذي دعا نوح قومه إليه، هو دعاه، ولجأ إلى الله، واستكانة إليه، والدعاء مخّ العبادة، لأنه لا يكون إلا عن إيمان بالله، وثقة فيه، وطمع(15/1197)
فى رحمته.. ولهذا كان دعاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه عند الاستسقاء فى سبى الجدب، هو الاستغفار.. فقيل له إنك لم تدع بشىء، أي لم تطلب شيئا فى استسقائك؟ فقال: «لقد استسقيت بمجاديح السماء «1» . التي بها يستنزل المطر» يعنى أنه طلب السّقيا من أوسع أبواب السماء، بالاستغفار قوله تعالى:
«ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» هو من دعوة نوح قومه، إلى الإيمان بالله.. وهو فى هذا الاستفهام ينكر عليهم ما هم فيه من غفلة عن الله، واستخفاف بجلاله وعظمته.. إنهم لا يوقّرون له، ولا ينظرون إليه نظر من يرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. إنهم لا يعرفون الله، ولا يقدرونه قدره! وقوله: «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» جملة حال، من لفظ الجلالة.. أي ما لكم لا توقرون الله، والحال والشأن أنه قد خلقكم أطوارا.. أي خلقا من بعد خلق.. إذ كنتم نطفة فى بطون أمهاتكم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسيت هذه العظام لحما.. ثم خرجتم من بطون أمهاتكم أطفالا.. ثم لبستم خارج أرحام أمهاتكم أطوارا من الحياة، فتنقلتم من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة.. وهكذا كانت يد القدرة القادرة تنتقل بكم من طور إلى طور، وبين الطور الأول والأخير مراد فسيح لذوى الأبصار، يرون فيه قدرة الخالق، وعظمته وحكمته، فتخشع الأبصار لجلاله، وتعنوا الجباه لقدرته..
__________
(1) المجاديح: جمع مجدح، وهو النوء الذي ينزل معه المطر، على حسب تقدير العرب فى الجاهلية.(15/1198)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
الآيات: (15- 25) [سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 25]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» هو من دعوة نوح إلى قومه، ومن نصحه لهم، وإلفاتهم إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة قادرة، وحكمة بالغة، وإحسان عظيم.
وفى هذا الاستفهام، دعوة إلى إيقاظ هذه العقول النائمة، وفتح تلك العيون المغلقة، التي لا ترى شيئا فيما حولها من هذا الوجود، وما فيه من آيات شاهدة على قدرة الله وحكمته.(15/1199)
وقوله تعالى: «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» أي وجعل فى هذه السموات التي يعلو بعضها بعضا، ويطبق بعضها على بعض- جعل فى هذه السموات: القمر، مبعثا للنور، وجعل الشمس سراجا، يبعث الضوء والحرارة معا..
فالنور الذي يصدر عن القمر، هو نور لا حرارة فيه، لأنه من انعكاس ضوء الشمس على جسمه المعتم، فإذا انعكس الضوء على هذا الجرم، شعّ منه هذا النور الذي يبدد ظلمة الليل، ويملأ العيون بهجة، والقلوب أنسا..
أما الشمس، فهى سراج يتوقد، كما يتوقد السراج، فترسل الضوء والحرارة.. وهى سرّ حياة الكائنات الحية، وسر حركة الهواء، ونزول الأمطار، ونور القمر.. وغير ذلك كثير، مما كشف عنه العلم.
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» هو من حديث نوح إلى قومه أيضا.. إنه يكشف لهم فى هذا الحديث عن تطورهم فى الخلق، وأنهم نبتوا من الأرض، كما ينبت النبات.. فمن تراب هذه الأرض تخلقت الكائنات الحية، ومن ترابها تخلق الإنسان..
وإن أقرب صورة وأظهرها لتخلقه من الأرض: أن هذه النطفة التي تخلّق منها، هى من نبات الأرض، أي من الغذاء الذي مصدره هذا النبات.. فإذا امتد النظر إلى آفاق بعيدة وراء هذه النظرة المحدودة القريبة، أمكن أن يرى على الأفق البعيد: أن الإنسان فرع من شجرة الحياة التي تضرب جذورها فى أعماق بعيدة من الأرض «1» ..
__________
(1) انظر فى هذا المبحث الخاص فى سورة البقرة: «آدم، ومادة خلقه» .(15/1200)
قوله تعالى:
«ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» .. أي كما أنبتكم الله تعالى من الأرض، يعيدكم إلى الأرض، كما يعود إليها النبات، بعد أن يستوفى حياته فوقها.. ولكن لن تظلوا هكذا فى التراب، كما يظل النبات الذي عاد إليها، بل تخرجون منها مرة أخرى، إلى حياة غير حياتكم الأولى.. إلى الحياة الآخرة، وإلى الحساب والجزاء..
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» .
أي أن الله سبحانه قد جعل لكم هذه الأرض بساطا، أي مقاما ممهدا، كالبساط، تستقرون عليه، وتتحركون فوقه، من غير أن يحجزكم حاجز، أو يعوقكم عائق.. وبهذا تستطيعون أن تتحركوا على الأرض كما تشاءون، وأن تنطلقوا إلى أي اتجاه تريدون، حيث تتسع أمامكم وجوه الحياة، والتقلب فى وجوه الرزق..
والفجاج: جمع فجّ، وهو الطريق المتسع بين جبلين..
وهذا يعنى أن هذه السهول الممتدة بين الجبال، هى طرق، ومسالك للعمل فى الحياة، وللتغلب فى وجوه الأرض..
قوله تعالى:
«قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» شكاة ضارعة من نوح إلى ربه، يشكو فيها قومه، الذي أصمّوا آذانهم عنه، وأعرضوا عن الاستجابة له، على حين أنهم استجابوا لمن يدعونهم إلى الغواية والضلال، من أولئك الذين لا يزيدهم ما يمدهم الله به من نعمه، وما يزدادون(15/1201)
به أموالا، وأولادا، إلا خسرانا، وضلالا، وبعدا عن طريق الهدى، ومحادّة لله، ولأولياء الله..
قوله تعالى:
«وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» ..
معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» أي أنهم قد ولّوا وجوههم إلى حيث يدعوهم رؤساؤهم، وأصحاب المال والقوة فيهم، إلى ما يدعونهم إليه من ضلال، وفجور- بل ولم يقفوا عند هذا بل أخذوا يدبرون السوء والمكروه لنوح، ولدعوته، ويبيتون له الشر الذي يلقونه به، هو ومن آمن معه.
والمكر الكبار: هو المكر البالغ غاية السوء.. وهو مبالغة من المكر الكبير..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً، وَلا يَغُوثَ، وَيَعُوقَ وَنَسْراً» .
هذا بيان لبعض ما كان من مكرهم وتدبيرهم فيما بينهم.. فقد تواصوا فيما بينهم، على التمسك بآلهتهم تلك، وألا يصرفهم عنها ما يدعوهم إليه نوح، من الإيمان بالله.. إنها دعوة منهم إلى أنفسهم يردّون بها دعوة نوح إليهم، حتى يبطلوا مفعولها ويفسدوا آثارها..
وودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، هى بعض آلهتهم، ذوات الشأن، والمقام فيهم، هذا إلى آلهة كثيرة لهم، ولكنهم اختصّوا هذه الآلهة بالذكر، وعينوها بالاسم، لما لها من مكانة خاصة فى نفوسهم..
وقد ورث مشركو العرب هذه الآلهة، فبعثوها من مرقدها، بعد أن(15/1202)
غرقت فيما غرق بالطوفان، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون الله، كما كان يعبدها قوم نوح.. ولهذا كان من الأسماء المعروفة عند مشركى الجاهلية التي يسمون بها أبناءهم: عبد يغوث، وعبد ودّ.. فما أشبه هؤلاء المشركين بقوم نوح، وما أجدرهم بأن يلقوا المصير الذي صار إليه القوم.. ومع هذا فإنهم وإن لم يغرقوا بالطوفان، فقد غرقوا فعلا فى طوفان ضلالهم وكفرهم بآيات الله..
قوله تعالى:
«وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» ..
أي وأنهم ضلوا أنفسهم ضلالا كثيرا، لا يرجى لهم معه رجعة إلى الله..
أو أنهم أضلوا كثيرا غيرهم، واستمالوهم إلى موقفهم الضال، ليكون لهم منهم قوة، ودولة..
وهذا من كلام نوح عليه السلام، ومن شكاته إلى ربه، وهو حال من أحوال قومه..
وقوله تعالى: «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» - هو دعاء من نوح إلى ربه، يدعو به على قومه أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم، بعد أن وقفوا منه هذا الموقف المعن فى العناد والسفه، وبعد أن ضلوا هذا الضلال البعيد..
قوله تعالى:
. «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» .(15/1203)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
هو تعقيب على دعاء نوح، بلسان الوجود، الذي شهد عاقبة أمر القوم، وما أخذهم الله به من هلاك فى الدنيا، وما وراء هذا الهلاك من عذاب أليم فى الآخرة..
وقوله تعالى: «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا» أي من خطيئاتهم أغرقوا، أي من جهة هذه الخطيئات كان غرقهم، ومن هذه الخطيئات طلع عليهم الهلاك..
فكأنّ خطاياهم هى هذا الطوفان الذي أغرقهم..
و «مما» هى: من، وما، «ومن» هى حرف الجر المسلط على «ما» و «ما» نكرة، بمعنى شىء، مهول، ومخيف.. ففى تجهيل هذا الشيء، وصف له بكل ما يخيف ويفزع، ولهذا صح أن تجىء «خَطِيئاتِهِمْ» - وهى معرفة- بدلا منه.
الآيات: (26- 28) [سورة نوح (71) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً»(15/1204)
الواو هنا للاستئناف، وعطف موقف على موقف.. فالعطف هنا يشعر بأن نوحا فى موقف آخر، غير الموقف الذي كان يقفه بين يدى ربه، ويشكو إليه قومه وما صنعوا معه..
وهو هنا فى هذا الموقف الذي بلغ به غاية المطاف مع قومه، ينهى موقفه معهم، ويقطع صلته بهم، ويطوى صفحة رسالته فيهم، بهذا الدعاء الذي يدعو به عليهم.. «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» أي ساكن دار، وهو كناية عن القضاء على كل كافر، وما يضم بيته من مال ومتاع..
والمراد بالأرض هنا ليس مطلق الأرض، بل الأرض التي كان يسكنها قومه.. فإن نوحا أرسل إلى قوم، ولم يرسل إلى الناس جميعا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى أول السورة: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ولو كان مرسلا إلى أهل الأرض جميعا، لجاء النظم هكذا: إنا أرسلنا نوحا إلى بنى آدم.. مثلا..
قوله تعالى:
«إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» .
وفى هذا ما يشير إلى ما لقى نوح من قومه، وإلى ما تحمل نفسه من بغضة لهم، بعد أن تكشفت له أحوالهم، وعرف الداء الخبيث المتمكن منهم، والذي لا شفاء لهم منه أبدا، بل إنه سيكون مصدر عدوى، تذيع الكفر والضلال، وتنشره فى الأرض، بما يخرج من ظهورهم من أبناء يحملون جرثومة هذا الداء الخبيث الذي يعيش فى كيانهم.
والفاجر: هو الذي جاوز الحد فى ارتكاب الآثام، ومقارفة الشرور، فى غير تحرج أو تأثّم..(15/1205)
والكفّار: صيغة مبالغة من الكفر، وهو الذي يلغ كفره غاية ليس بعدها كفر.
قوله تعالى:
«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» .
وفى مقابل نقمة نوح على الكافرين والضالين، تتفتّح عواطف الرحمة والحنان كلها فى قلبه، فيحيلها دعوات ضارعة إلى الله بالمغفرة له، ولوالديه، ولمن دخل بيته مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات..
ومن دخل بيت نوح مؤمنا، هم أهله، إلا امرأته، وابنه، أو هم الذين دخلوا معه دين الله، أو دخلوا معه السفينة.. ويكون دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات- على هذا المعنى- متجها إلى أهل الإيمان جميعا، فى كل زمان ومكان..
وقوله تعالى: «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» .. هو بقية من المرارة والألم الذي كان يجده من قومه، والذي لم يذهب به كل ما دعا عليهم به من مهلكات، فلم ينس وهو يطلب لنفسه ولوالديه، وأهله، وللمؤمنين والمؤمنات الرحمة والمغفرة من الله- لم ينس أن يجعل خاتمه دعائه، أن يرمى القوم الكافرين بآخر سهم معه، حتى بعد أن صاروا جثثا هامدة..
والتباب: البوار، والهلاك، والبعد عن كل خير.. ومنه قوله تعالى:
«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» ..
هذا، وقد يبدو أن هذا الموقف الذي وقفه نوح من قومه، فيه جفاء لهم، وغلظة عليهم، وأنه لم يأس على هلاكهم، ولم تعطفه عليهم عاطفة(15/1206)
رحمة أو إشفاق، فرماهم بكل مهلكة، وصبّ عليهم اللعنات صبّا..
هذا، ما يبدو فى ظاهر الأمر..
ولكن، الذي يراجع حياة نوح معه قومه، وهذا الأمد الطويل الذي قضاه بينهم، وهو كما يقول القرآن الكريم ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يدع فيها نوح لحظة إلا واجه فيها قومه، ولا طريقا إلا سلكه إليهم- ومع هذا فإن القوم لم يزدادوا إلا سفها وضلالا، وإلا مبالغة فى الكيد له، والعدوان عليه، حتى لقد فتنوا فيما فتنوا امرأته، وولده، وهذه أعظم بلية يبتلى بها صاحب دعوة فى محاربة دعوته، إذ يقوم منها أبلغ شاهد على خذلانه وإبطال حجته على الناس لما يدعوهم إليه..
إن الذي يراجع هذا الموقف بين نوح وقومه، يجد أن نوحا عليه السلام، كان أكثر أنبياء الله صبرا وحلما، واحتمالا.. فما من نبى ظل فى موقف الدعوة، يحارب أهل الضلال مثل هذا الأمد الطويل الذي وقفه نوح عليه السلام.. ولهذا كان عليه السلام واحدا من أولى العزم من رسل الله، عليهم صلوات الله، ورحمته، وبركاته.(15/1207)
72- سورة الجن
نزولها: مكية.. نزلت بعد الأعراف عدد آياتها: ثمان وعشرون آية عدد كلماتها: مئتان وخمس وثمانون كلمة عدد حروفها: تسعمائة وتسع وخمسون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
تكشف سورة الجن فى صورة عملية، عما فى الإنسان من جانبى الخير والشر، وأنه حين تنتكس طبيعته، ويغتال جانب الشر فيه جانب الخير، يتحول إلى شيطان رجيم، تعوذ منه الشياطين، أو تتلمذ عليه! وهذا الإنسان الشيطاني يبدو على أتم صورته المنكوسة تلك، فى قوم «نوح» كما يبدو هذا الإنسان على صورة مجسدة فى كثير من مشركى قريش، كأبى جهل، والوليد بن عقبة، وعقبة بن أبى معيط، وغيرهم من شياطين قريش، الذين تصدوا للدعوة الإسلامية، وكادوا لرسول الله وللمسلمين أعظم الكيد، فلم يدعوا وسيلة يتوسلون بها إلى أذى النبي وأصحابه إلا تواصوا بها، واجتمعوا عليها.
وفى سورة الجن صورة للخير ينبت فى منابت الشر، ويطلع ثمره الطيب، من بين وسط هذا اللهب المتضرم.
فمن عالم الجن العاصف بالشرور المحرقة، تهب تلك الأنسام الرقيقة المنعشة، فى صورة جماعة مؤمنة منهم، لم تكد تستمع إلى آيات الله، يتلوها رسول الله فى ليلة من لياليه مع ربه- وكل لياليه لربه، ومع ربه- حتى أنصتوا إليه، وآمنوا به، ثم انقلبوا إلى قومهم منذرين!(15/1208)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
فبين سورة «نوح» وسورة «الجن» مقابلة بين عالمين: عالم الإنس، وعالم الجن، وفى عالم الإنس شرّ كان حريّا أن يكون خيرا، وفى عالم الجن خير، كان متوقعا أن يكون شرا.. وفى هذا عبرة، وذكرى لأولى الألباب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 15) [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)(15/1209)
» التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .
جاء فى سورة الأحقاف قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (29- 32: الأحقاف) - وهذا يعنى أن الجن عقلاء، مكلفون من الله سبحانه وتعالى، ومدعوون إلى الإيمان بالله على يد رسل منهم، أو من البشر، فقد كان منهم المؤمنون بشريعة موسى عليه السلام، كما كان منهم الذين آمنوا بشريعة الإسلام.
وهذه الآيات، هى أخبار خاص للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- بما كان من توجيه الله سبحانه وتعالى نفرا من الجن إلى مجلس النبي، يستمعون إليه، وهو يتلو آيات الله، ليلة مبيته بموضع يقال له نخلة، وهو فى طريق عودته من ثقيف، بعد أن جاءهم يعرض عليهم الإيمان برسالته، فجبهوه بالبهت، وردوه فى غلظة وجفاء.(15/1210)
وقد سعد النبي الكريم بهذا الخبر الذي تلقاه من ربه، وأن مالقيه من ثقيف لم يكن إلا حدثا عارضا، وأن أمداد الله سبحانه وتعالى إليه لا تنقطع أبدا، وأنه إذا كان الإنس قد أبو أن يقبلوا هذا الخير الذي يدعوهم إليه، كما أبوا على آذانهم أن تستمع إلى آيات الله يتلوها عليهم- فإن لله جندا فى عالم الظلام والضلال- عالم الجن- قد خرجوا من هذا الظلام إلى النور، وجاءوا إلى حيث يتلو النبي آيات ربه، فاستمعوا إليه، وآمنوا به، وأصبحوا دعاة لدعوته، وجندا يدافعون عنها، ويقاتلون فى سبيلها..
لقد كان هذا الخبر زادا طيبا للنبى الكريم، يتزود منه على مسيرة دعوته، التي توشك أن تنتهى المرحلة الأولى منها، فيتحول بعدها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة، بعد أن يلتقى بأهل السابقة من الأنصار، الذين جاءوا ليبايعوه على الإسلام، والنصرة، فى بيعتى العقبة الأولى والثانية «1» وهنا فى سورة «الجن» أمر من الله تعالى للنبى بأن يتحدث إلى قريش، وإلى الناس عامة، بأنه قد تلقّى وحيا من ربه، بأن نفرا من الجن، قد استمعوا إليه، وآمنوا به، وتحدثوا عن القرآن الذي استمعوا إليه، هذا الحديث الذي يصف القرآن ببعض ماله من صفات المجادة والعظمة والجلال..
وقد يقول قائل: ما الفرق بين الخبر الذي تلقاه النبي فى سورة الأحقاف، وهذا الأمر الذي تلقاه فى سورة «الجن» وهو يحمل فى كيانه محتوى هذا الخبر الذي تلقاه فى سورة الأحقاف؟ وما الفرق بين أن يجىء الخبر غير مصدّر بالأمر بالقول، وبين الخبر الذي يجىء مطلقا، إذا كان القرآن كله فى معرض العرض على الناس، دون أن يختص النبي بشىء منه يحتجزه لنفسه، ولا يذيعه فى الناس؟
__________
(1) انظر فى هذا المبحث الخاص تحت عنوان: بيعة العقبة وليلة الجن «التفسير القرآنى للقرآن» - الكتاب الثالث عشر- سورة الأحقاف.(15/1211)
ونقول- والله أعلم- إن الخبر الذي تصدّر إلى النبي بهذا الأمر من الله سبحانه بلفظ «قل» إنما يراد به مواجهة المشركين خاصة، والاستعداد لتلقّى ما يثيره هذا الخبر فيهم من ثائرات البهت والتكذيب، وما يفتح لهم من أبواب التشنيع على الرسول والسخرية منه، وأن على النبىّ ألا يلتفت إلى تخرصات هؤلاء المشركين، ولا يحفل بما يثرثرون به من لغو وهذر، إزاء هذه الحقيقة التي استيقنها النبىّ، بعد أن أخبره الله سبحانه وتعالى بها، فى الآيات التي تلقاها من سورة الأحقاف..
فالخبر الذي تلقاه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فى سورة الأحقاف: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ..» هو أشبه بالسرّ بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإن كان هذا السرّ لا يلبث أن يذاع بعد أن تلقاه النبىّ قرآنا يتلوه على الناس..
أما الخبر الذي تلقاه- صلوات الله وسلامه عليه.. فى سورة الجنّ، فهو أمر بالمبادرة بإذاعة هذا السرّ، الذي كان من شأنه أن يذاع، إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد.. إنه حثّ على المبادرة بإذاعة هذا الخبر، وتلاوته جهرا على الناس حتى يقرع أسماع المشركين، وليكن منهم ما يكون!! وسؤال آخر.. هو:
(مخاطبات القرآن وحكايتها كما هى.. ما سرّها؟) هذا الخبر، أو هذه الأخبار، التي يتلقاها النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مصدّرة بلفظ «قل» أو «يا أيها النبىّ» أو «يا أيها الرسول» لماذا يلتزم النبىّ أن ينقلها كما تلقاها، دون أن يتصرف فيها، فيأخذ منها ماله،(15/1212)
ويدع ما ليس له، بمعنى أن يقطع مقول القول، عن القول، أو أداة النداء والمنادى، عن الخاطب به، فيقول ما أمر بقوله، دون أن يصدره بلفظ: قل، أو يا أيها النبىّ؟
إن المألوف فى لغة التخاطب أن يقال للإنسان مثلا: قل: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .. فيقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولا يقول: «قل لا إله إلا الله محمد رسول الله» : إنه لو قال هذا لما كان ممتثلا للأمر. بل مردّدا لصدى الكلام الذي سمعه.. أفهذا كان شأن رسول الله حين لم ينقل الصورة اللفظية التي سمعها، قولا، ومقولا؟
والجواب- والله أعلم- من وجوه:
فأولا: هذا الأمر الموجه إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والمصدّر بلفظ «قل» هو أمر صادر إليه من الله سبحانه وتعالى، وأن هذا الذي يوحى من الحق جل وعلا، يملأ الوجود كله، ويسرى فى كل ذرّة من ذرّاته، فهو ليس مجرد قول من شخص إلى شخص، وإنما هو من كلام ربّ العزّة، الذي تبلغ كلماته أسماع الكون، وتنفذ إلى أعماق كل ذرة موجودة فيه.
وثانيا: وتأسيسا على هذا.. أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه.. حين تبلغه كلمات ربّه، يمتلىء بها كيانه، وتفيض بها مشاعره، وتلبسه هذه الكلمات كما تلبس الروح الجسد.. ومن هنا فإنه لا يستطيع أن يفصل بعضا منها عن كيانه، كما لا يستطيع الإنسان أن يقطع بعض روحه، لأنها سر مضمر فيه، يجده ملء وجوده، ولكن لا يعرف لها ذاتا، ولا كنها، ولعلّ هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا»(15/1213)
فإذا كان ما يتلقاه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من كلمات ربّه، هو روح منه، فهل يستطيع أن يغيّر من حقيقة الرّوح؟: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (85: الإسراء) .. فهو سبحانه وحده، الذي يملك أمرها، ويملك أن يغير أو يبدّل فيها كما يشاء.. ولعل هذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا.. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» (115: الأنعام) .
وثالثا: أن اتصال الأمر بالمأمور به فى كتاب الله، يجعل المأمور به دائما حيّا فى حياة الناس جميعا، ويجعل المؤمنين به فى حال حضور مع النبي، وهو يتلقى أمر ربه.. فكلماتلا المؤمنون آية من آيات الله، فيها خطاب من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم- تمثّل لهم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلقى هذا الخطاب من ربه، ويصدع، بما يحمل هذا الخطاب إليه من أمر، أو نهى..
وهذا من شأنه أن يحرك مشاعرهم إلى متابعة النبي والتأسّى به، كلما تلوا آيات الله، وطلع عليهم هذا المشهد الذي يرون فيه رسول الله فى مجلس التأديب، والتعليم من ربه.. وهذا هو بعض السر فى أن كانت تلاوة القرآن، من عبادة المؤمنين التي تعبّدهم الله تعالى بها.. كما يقول سبحانه «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (20: المزمل) .
ورابعا: فى خطاب الله سبحانه وتعالى للنبىّ، وفى خطابه سبحانه للمؤمنين، فى القرآن الكريم، شاهد يشهد بأن هذا القرآن هو من عند الله سبحانه وتعالى، لفظا ومعنى، وأنه ليس للنبى فيه كلمة واحدة، وأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وأن النبي هو اللسان الذي أنطقه الله بكلماته التي أوحاها إليه، فسمعها الناس منه دون أن يبدل حرفا منه.. فإن الذي يتلقاه النبىّ من كلمات ربّه، هو روح تستولى عليه وتشيع فى كيانه كله.(15/1214)
ويمكن أن نشبه هذا- مع الفارق البعيد فى صورتى التشبيه- بما يكون من مسجّلة الصوت، حين تلتقط صوتا ما، ثم تعيده كما تلقته، دون أن يقع فيه أي تبديل، أو تحريف..
فالنبى صلوات الله وسلامه عليه، إذ يسمع قوله تعالى له: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ..
الآية: (84: آل عمران) - لا يملك أن يبدل حرفا مما سمع، ولا يستطيع إلا أن يقول كما سمع: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا.. الآية» والنبي إذ يسمع قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» . (199: الأعراف) - لا يستطيع إلا أن يقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» ..
وهكذا يحكى النبىّ ما سمع، دون أن يبدل كلمة، أو يغير حرفا.. والله سبحانه وتعالى يقول له: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (67: المائدة) فالأمر بالتبليغ، هو أمر بتبليغ ما أنزل إليه، كما هو، كلمة كلمة، وحرفا حرفا.. فإن بدل حرفا، أو غير كلمة- وحاشاه- فما بلّغ ما أنزل إليه من ربه.. إنه المطلوب من النبي فى مقام التبليغ أن يقول ما يقال له من ربه، لأن ما أنزل إليه، سواء أكان خطابا خاصا، أو خطابا عاما للناس- هو منزل للناس أيضا، كما يقول سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (44: النحل) فهو- صلوات الله وسلامه عليه- مطالب أولا بأن يبلّغ الناس ما نزّل(15/1215)
إليهم، وهو ما نزل عليه من كلمات الله.. ثم هو مطالب ثانيا، بعد هذا التبليغ أن يبين للناس ما خفى عليهم فهمه مما نزل عليهم من آيات الله..
فالتبليغ شأن، وبيان ما يبلّغه شأن آخر..
وبهذا التدبير الحكيم فى نظم القرآن، يظل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قائما فى مقام الخطاب من ربه، وفى الحضور بين يديه، كلما تلا آية من آيات الله، أو سمع تاليا يتلوها عليه، فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم، كان يطلب إلى بعض أصحابه أن يقرءوا عليه ما تيسر من كلام الله، فيقول قائلهم له:
أأتلوه عليك وعليك أنزل؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «نعم إنى أحب أن أسمعه من غيرى.. ففى البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علىّ» فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «نعم.. إنى أحب أن أسمعه من غيرى» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) فقال: «حسبك الآن» .. فإذا عيناه تذرفان» .
وهذا الأسلوب الذي جاء عليه نظم القرآن، والذي يجعل النبي فى مقام الحضور، والخطاب من الله بكلمات الله- هذا الأسلوب من شأن القرآن وحده، ومما اختص به من بين الكتب السماوية المنزلة..
فالتوراة ليس فى نظمها موقف واحد لأى نبى من الأنبياء مع الله سبحانه وتعالى، يمثله في موقف حضور وخطاب من الله سبحانه، حتى موسى عليه السلام الذي كلمه الله تكليما من غير وساطة ملك الوحى، جاءت كل كلمات الله سبحانه وتعالى إليه فى التوراة على سبيل الحكاية.. هكذا: «وكلم الرب موسى قائلا: «فى الشهر السابع، فى أول الشهر يكون لكم عطلة، تذكار هتاف البوق محفل مقدس.. عملا ما من الشغل لا تعملوا، ولكن تقدمون وقودا للرب..(15/1216)
وكلم الرب موسى قائلا: «أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة.. محفلا مقدسا يكون لكم، تذللون نفوسكم، وتقدمون وقودا للرب» (لاويين الإصحاح: 23) ..
وتقول التوراة أيضا: «فقال الرب لموسى: قل لهارون مدّ يدك بعصاك على الأنهار والسواقى والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر.. فمدّ هارون يده على مياه مصر، فصعدت الضفادع، وغطت أرض مصر، وفعل كذلك العرافون بسحرهم وأصعدوا الضفادع على أرض مصر» (خروج:
الإصحاح: 8) ..
وتقول التوراة: «فقال الرب لموسى: انظر.. أنا جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك.. أنت تتكلم بكل ما آمرك، وهارون أخوك يكلم فرعون ليطلق بنى إسرائيل من أرضه» (خروج: الأصحاح: 7) ..
وهكذا تمضى كل مخاطبات التوراة، فيما يتلقّى موسى من ربه، وفيما يتلقى بنو إسرائيل من موسى..
وهذا يعنى أن موسى عليه السلام، كان بعد أن يتلقى كلمات الله سبحانه وتعالى إليه- كان يلقى قومه بما أمره به فيهم، فيقول لهم: قال الله لى كذا، وكذا، فيكتبون هم: قال الله لموسى كذا، وكذا.. دون أن يتقيدوا بالنص الحرفىّ لما سمعوه من موسى، فبدلا من أن يكتبوا: قال الله لى كذا، يكتبون: قال الله لموسى كذا وكذا، كما أن موسى عليه السلام، لم يتقيد بالنص الحرفى لما استمع من ربه، فبدلا من أن يقول، كما قال الله سبحانه وتعالى له:
يا موسى افعل كذا، أو قل لقومك كدا» - بدلا من أن يقول هذا، يقول:
قال الله لى فعل كذا، أو افعلوا كذا..(15/1217)
وهذا الخروج على النص الحرفى، وإن بدا أنه مما يقتضيه الحال، حيث ينتقل موسى من حال المخاطب (بفتح الطاء) إلى حال المخاطب (بكسر الطاء) وحيث ينتقل قومه من حال المواجهة له، إلى حال الغيبة فى نقل ما سمعوا منه- هذا، وإن بدا أنه لازم لمراعاة مقتضى الحال- إلا أنه يشير إلى أمور:
أولها: أن كلمات الله التي استمع إليها موسى، ظلت مرتسمة فى كيانه، مضمرة فى فؤاده، وأن ما ينشره على قومه منها إنما هو صورة هذه الكلمات وظلالها، والأنوار المشعة منها.. أما ما تلقاه محمد من كلمات ربه، فإنه عرضها كما سمعها، حرفا حرفا، وكلمة كلمة.. كما يقول له سبحانه له. «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» (45: العنكبوت) ..
وذلك أنه ليس المطلوب من كلمات الله إلى موسى أن يقيم منها معجزة متحدّية، على خلاف ما أوحى الله به إلى محمد من كلماته، فإنه سبحانه جعل على فمه معجزات متحدية.. وإن المعجزة لا تتم حتى تعرض كما تلقاها من ربه، دون أن يغير من وضعها، أو يبدل من صورتها..
وثانيا: أن ما أوحى الله سبحانه وتعالى به إلى موسى، يجوز روايته بالمعنى، دون التقيد بالنص اللفظي، على خلاف القرآن الكريم، فإنه لا يجوز روايته أو تلاوته بالمعنى، كما يجوز ذلك فى الحديث القدسىّ، الذي يشبه وحي التوراة.
وثالثا: أن القرآن الكريم، هو الكتاب الذي تأخذ آياته، وكلماته، الوصف بأنها آيات الله، وكلمات الله، وأن التوراة وغيرها من الكتب السماوية، تأخذ الوصف بأنها وصايا لله، أو أوامر لله، أو شريعة لله..
وأما تكليم الله سبحانه وتعالى لموسى فهو خاص بموسى وهو أوامر الله سبحانه وتعالى إليه هو، فى خاصة نفسه.. أما الشريعة التي حملها موسى إلى قومه،(15/1218)
فهى ما تضمنته الألواح التي تلقاها موسى من ربه، فهى أشبه بالأحاديث القدسية التي تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى لموسى عليه السلام:
«يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» (144- 145: الأعراف) فالله سبحانه وتعالى- كما تشير الآيات- قد اصطفى موسى بهذه الرسالات التي تلقاها لتكون شريعة لقومه، كما اصطفاه بتكليمه.. فالرسالات التي تلقاها موسى شىء، وتكليم الله له شىء آخر.. كلام الله صفة من صفاته، والرسالات خلق من خلقه.
وعلى هذا، فالقرآن الكريم خطاب مباشر من الله سبحانه وتعالى للنبى والمؤمنين، أما التوراة، فهى حكاية خطاب الله تعالى لموسى، ثم هى حكاية لخطاب موسى لقومه الذين تلقوها منه.
ونعود بعد هذا إلى موقفنا بين يدى قوله تعالى:
«قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» .
النفر: الجماعة بين الثلاثة والعشرة..
والإسماع: الإصغاء والالتفات إلى المسموع..
وهذا يعنى أن جماعة الجنّ التي توافدت على مجلس القرآن بين يدى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- قد أعطت سمعها للقرآن، والتفتت بمشاعرها كلها إليه.. ذلك أنّ «استمع» غير «سمع» من حيث المعنى الاشتقاقى الذي يدل عليه كلّ منهما لما يسمع، فالاستماع يدل على التطلع إلى سماع الحديث(15/1219)
والإقبال عليه، أما «السمع» فيدلّ على مجرّد وقوع المسموع إلى أذن السامع، سواء أكان ذلك عن قصد، أو غير قصد، وسواء أكان مقبلا أو معرضا! ولهذا جاء الأمر إلى المؤمنين وهم فى مجلس القرآن أن يستمعوا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (204: الأعراف) ولم يجىء الأمر بلفظ «اسمعوا» .. فإن الاستماع هو الذي يحقق معنى الإصفاء والإنصات الذي جاء تاليا للأمر بالاستماع. وإنه بغير الاستماع لا يتحقق الإصغاء.. وهذا ما كان من الجنّ فى مجلس القرآن، ودعوة بعضهم بعضا إلى الإنصات إليه، كما يقول سبحانه، عنهم: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا» (29: الأحقاف) .
فالله سبحانه، قد وجههم إلى النبي مستمعين، لا سامعين..
وهذا يعنى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بأمر هؤلاء الجن الذين استمعوا إليه فى تلك الليلة، حتى أنبأه الله سبحانه وتعالى بذلك، ولم تكن منه فى تلك الليلة دعوة إليهم، وإنما هم الذين دعوا أنفسهم إلى الإيمان، بعد أن استمعوا إلى ما استمعوا إليه من آيات الله التي كان يتلوها النبي، قائما بين يدى ربه، متعبدا بتلاوتها..
وفى هذا إشارة إلى تلك المفارقة البعيدة بين المشركين الذين يدعون إلى آيات الله، فلا يستمعون إليها، ولا يؤمنون بها، وبين الجن الذين يضرب بهم المثل فى العتوّ، والعناد، والضلال، حيث ورد واردهم على النبي، وحضر مجلس تلاوته، من غير أن يدعوا إلى هذا.. فاستمعوا، وأصغوا، ثم اهتدوا(15/1220)
وآمنوا.. فمال هؤلاء المشركين لا يؤمنون؟ وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون؟.
وأما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد التقى بالجن، ودعاهم إلى الله سبحانه، فيما تلا عليهم من آيات الله، فقد يكون ذلك فى ليلة بعد تلك الليلة، وبعد أن حمل هؤلاء النفر إلى قومهم نبأ النبي الذي نزل عليه هذا القرآن الذي استمعوا إلى بعض منه.. فجاءوا يطلبون مزيدا، ويلقون النبي لقاء مواجها، بعد أن عرفوا ما بين يديه من هدى ونور.
وعلى أىّ فإنه ليس مما يدخل فى عقيدتنا، أو يلزمنا التصديق به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، وحسبنا أن نؤمن بأنه رسول الله إلينا نحن البشر، وأن الرسالة الإسلامية، وكتابها الكريم، موجهان إلينا نحن البشر، أما أن تستفيد من ذلك عوالم أخرى فذلك ما لا يدخل فى عقيدتنا، ولا يلزمنا البحث عنه. والله أعلم.
وقوله تعالى: «فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» - هو بيان للأثر الذي كان للقرآن من استماع الجن إليه، وأنهم عجبوا لما سمعوا، لأنهم لم يسمعوا كلاما مثله، فكان ذلك مثار عجبهم، ودهشهم.. إنهم يسمعون كلاما، ولكنه كلام عجب، فيما له من سلطان على النفوس، وتمكن من القلوب..
وقولهم «سمعنا» بدلا من «استمعنا» لأنهم خرجوا من مجلس الاستماع، وقد أصبح الذي استمعوا إليه مسموعا لهم سماعا متمكنا، واعيا.. ولو قالوا «استمعنا» لدلّ ذلك على أنهم تكلفوا جهدا لما سمعوا، وأنهم حملوا أنفسهم على ذلك حملا طوال مجلس الاستماع، والواقع غير هذا، فإنهم ما إن(15/1221)
جلسوا بين يدى ما يتلى من آيات الله، حتى ملك القرآن زمامهم، وأحال وجودهم كله آذانا صاغية، وقلوبا خاشعة، من غير معالجة أو معاناة، من داخل أنفسهم أو خارجها..
وقوله تعالى: «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» هو صفة أخرى للقرآن، على لسان الجن، بعد الصفة الأولى التي وصفوه بها..
فالصفة الأولى، وصف لنظمه، وأنه كلام عجب لم يسمعوا مثله..
والصفة الأخرى، وصف لمعانيه، ولما اشتمل عليه نظمه العجيب من معان كريمة، مضيئة بنور الحق، تهدى إلى الرشد، والفلاح..
وقوله تعالى: «فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» - هو المسبب عن هذه الأوصاف، التي رآها الجن فى القرآن، والتي وقعت فى نفوسهم منه، ولهذا فهم يؤمنون بهذا القرآن، وبأنه كلام الله، ونوره المرسل هدى ورحمة للعالمين..
وهم لهذا لن يشركوا بالله، ولن يعبدوا إلها معه، كما كانوا يفعلون من قبل فعل الضالين والمشركين من الإنس..
وقوله تعالى:
«وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
جدّ ربنا: ملكه، وسلطانه، ومجده،. وأصل الجد: الحظ، والنصيب الذي يصيبه الإنسان فى حياته من حظوظ الدنيا.. فجدّه هو كل ماله من مال، ومتاع، وبنين، وعلم، وجاه وسلطان..
وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا» هو معمول لفعل محذوف، معطوف على قوله تعالى:(15/1222)
«إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» «سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» وعلمنا مما سمعنا أنه «تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» ..
وهكذا كل ما جاء على لسان الجن بعد هذا، هو معمول لفعل مترتب على استماعهم لما استمعوا من آيات الله وما كشفت لهم من حق وهدى.
وقولهم: «تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» أي عظم مجده، وتعالى سلطانه، وتنزهت عزته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا.. فإن اتخاذ الصاحبة أو الولد، إنما يكون عن حاجة إليهما، بحيث لو افتقد الإنسان وجودهما بين يديه تطلعت إليهما نفسه، وشغل بهما قلبه، والله- سبحانه- فى غنى عن كل شىء.. فكل شىء هو منه، وله، وإليه..
قوله تعالى:
«وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» ..
أي وعلمنا مما استمعنا إليه من هذا القرآن العجب أن ما كان يقوله السفهاء منّا عن الله، وعن اتخاذه الصاحبة والولد- هو قول بعيد عن الحق، مشتط عن الصواب، فى حق الله سبحانه، وفيما ينبغى أن يكون لذاته من كمال، وجلال، وأن هؤلاء الذين جعلوا لله أندادا، واتخذوا من دونه أولياء، ونسبوا إليه الزوج والولد- هؤلاء ضالون مشركون..
والشطط، والاشتطاط، الخروج عن القصد والاعتدال، ومجاوزة الحد فى القول، أو العمل.. وهذا مثل قوله تعالى على لسان أصحاب الكهف:
«لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً» (13: الكهف) ..(15/1223)
قوله تعالى:
«وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ..
أي وكان مما علمنا من استماعنا لهذا القرآن العجب- أننا كنا على ظن خاطئ فيما ظنناه من أن الإنس والجن لن تقول على الله كذبا، وأن تقوم فيهم تلك الدعوات المضللة، وهذه العقائد الباطلة، مع ما فيهم من عقول، وما بين أيديهم من الشواهد الناطقة، التي تشهد بوحدانية الله تعالى، وتفرده بالملك والعزة والسلطان..
ولقد بان لنا أن الإنس والجن قالوا على الله كذبا، فيما نسبوه إليه من الزوج والولد، وفيما جعلوا له من أنداد، وشركاء..
وذلك بعد أن استمعنا إلى آيات الله، وعرفنا طريق الحق الذي أضلّنا عنه المضلون، وأغوانا بالانصراف عنه المغوون، لقد كنا مخدوعين بهذا الظن الذي ظنناه فى الجن والإنس من أنهم لن يفتروا على الله، ولن ينسبوا إليه مالا يليق به..!
قوله تعالى:
«وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» ..
الرهق: الإعياء، والضعف، والكلال، مما يعترى الإنسان من معاناة أمر صعب يحاوله، ثم لا يبلغ منه شيئا، لأنه يحاول أمرا محالا، أو قريبا من المحال.. ومنه قوله تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (17: المدثر) ..(15/1224)
والمعنى: أنه قد اتضح لنا مما سمعناه من هذا القرآن العجب، أن ما كان من استعانة بعض شياطين الإنس، بشياطين الجن، فى اختلاق الأكاذيب، وتلفيق المفتريات على الله- اتضح لنا أن ذلك لم يزد العائذين بالجن، إلا ارتكاسا، وعجزا، عن الوصول إلى طريق الحق، وأن كل ما اختلفوا من أكاذيب، وما لفقوا من مفتريات، لم يمس جوهر الحقيقة، ولم يعمّ سبيل الحق عن طلابه، والساعين إليه، وأن هذه الأكاذيب، وتلك المفتريات إذا طلعت عليها شمس الحقيقة فرت من بين يديها، كما يفر ظلام الليل بين يدى أضواء الصبح! قوله تعالى:
«وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» .
أي وأننا علمنا مما استمعنا إليه من هذا القرآن العجب، أن الإنس ظنوا كما ظننا نحن الجن، أن لن يبعث الله أحدا من رسله بعد موسى، وعيسى، عليهما السلام.. وهذا ظن باطل، فها هوذا رسول من عند الله، يتلو هذا القرآن العجب، فيبلّغ به رسالة الله.
وفى هذا الذي ينطق به الجن بعد أن آمنوا، تبكيت للمشركين، واستخفاف بعقولهم، واستخفاف لأحلامهم، وأنهم عموا عن هذا الهدى الذي طلعت شمسه فى سمائهم، فلم يهتدوا به، وقد سبقهم إليه أبعد الخلق عنه، وهم الجن.
قوله تعالى:
«وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» ومن دلائل هذا الرسول الذي بعثه الله، ليس هذا القرآن وحسب.. بل(15/1225)
إننا قبل أن نلتقى به فى مجلس القرآن، شاهدنا إرهاصات عجيبة، تنبىء بأن حدثا عظيما قد حدث فى هذا الوجود، وأن آثار هذا الحدث لا بد أن يكون لها شأن بهذا العالم الأرضى، وما يعيش فيه من جن وإنس.. وذلك أننا لمسنا السماء، كما اعتدنا أن نلم بها من قبل، ونستطلع أنباءها، فوجدناها قد ملئت حرسا شديدا من الملائكة، وشهبا راصدة يرمون بها كل من يدنو من مشارف السماء.. وهذا أمر لا بد أن يكون له ما بعده!! وها نحن أولاء قد عابنّا ما بعد هذا الأمر، فى هذا الرسول، وفيما بين يديه من آيات الله..
قوله تعالى:
«وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» .
أي وأننا كنا نصعّد فى السماء، ونتخذ هناك مقاعد نستمع فيها إلى ما يجرى فى الملأ الأعلى، وذلك قبل مبعث هذا النبي.. أمّا الآن فإن من يحاول أن يستمع منا، يجد شهابا رصدا برمى به قبل أن يبلغ المجلس الذي اعتاد أن يتخذه من قبل..
قوله تعالى:
«وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» أي ولقد حرنا فى تأويل هذا الحدث، وعجزنا عن أن نجد التعليل الصحيح له، وللأحداث التي تنجم عنه، وهل هذا شرّ يراد بمن فى الأرض من جنّ وإنس، أم هو خير لهم.؟. إن الأيام هى التي ستأتى بتأويل هذا..
وها نحن أولاء نشهد عناد المشركين، وتصدّيهم لدعوة رسول الله، وتكذيبهم لما جاءهم به من عند الله، فهل سيمضون فى طريقهم هذا، فتكون عاقبتهم أن يدمر الله عليهم كما دمر على المكذبين برسل الله قبلهم، أم أنهم سيراجعون أنفسهم، ويرجعون إلى عقولهم، فيؤمنون بالله، ويهتدون بهذا(15/1226)
النور الذي يحمله رسول الله إليهم؟ لا ندرى أشر أراد الله بالناس من هذه الرسالة، بإلزامهم الحجة، ثم إهلاكهم، أم أنه أراد لهم الهداية والرشاد، فيهتدوا ويرشدوا؟ إن الأمر لم ينته إلى نهايته بعد.. وسنرى ما يكون؟
قوله تعالى:
«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ.. كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» .
وهنا يلتفت هؤلاء النفر من الجن إلى قومهم، وهل يتقبلون هذا الهدى الذي اهتدوا هم إليه، بعد استماعهم إلى آيات الله، التي تلاها عليهم رسول الله، أم أنهم يرفضونه كما رفضه هؤلاء المشركون من قريش؟ إنهم يتساءلون هذه التساؤلات قبل أن يبرحوا مجلس النبي، وفى قلوبهم الإيمان، وبين أيديهم الهدى.. ثم يحدّث بعضهم بعضا، بأن حال قومهم هى حال الناس من أبناء آدم، فيهم الصالحون، وفيهم الفاسدون، وفيهم من هم بين الصالحين، والفاسدين.. إنهم طرائق مختلفة.. لكل منهم طريقة كما أن الناس طرقهم..
والطرائق: جمع طريقة، وهى المتجه الذي يأخذه المرء فى حياته، من استقامة أو عوج..
والقدد: جمع قدة، وهى القطعة من الشيء، أىّ قطعة، ومنه قوله تعالى:
«وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» (25: يوسف) أي قطعته..
وقوله تعالى:
«وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» أي وأننا بعد تطوافنا فى الأرض وفى السماء، قد أيقنّا أننا بين يدى الله حيث كنا، وأننا تحت قهر سلطانه القائم على الوجود كله.. وأننا لن(15/1227)
نخرج من سلطان الله، ولن نفر من القدر المقدور لنا، سواء انطلقنا فى وجوه الأرض، أو صعدنا فى أجواء السماء.. والظن هنا بمعنى اليقين.
قوله تعالى:
«وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ.. فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً» .
أي وهذا شأننا نحن من بين قومنا، وذلك أننا لما سمعنا الهدى- أي القرآن- آمنا به.. ومن يؤمن به فإنه لا يخاف بخسا، بنقص حسناته، ولا رهقا بمضاعفة سيئاته، بل سيجزى الجزاء الذي يقوم على ميزان العدل المطلق..
ومعنى نفى الخوف من البخس والرهق، هو أن المؤمن يلقى الله وبين يديه بشريات إيمانه، التي تملأ قلبه سكينة وأمنا، أما غير المؤمن فإنه يتوقع أن يسام سوء العذاب، وأن يلقى الهوان والنكال من كل وجه، فهو فى مهب عواصف الخوف دائما.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ» (40: فصلت) .
وقوله تعالى: «فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً» - هو جواب الشرط، وقد اقترن بالفاء لوقوعه منفيا.
قوله تعالى:
«وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» - هنا يعود الجن إلى أنفسهم مرة أخرى، فينطقون بما تنطق به حالهم، من أن منهم مسلمين، أي مستقيمين على طريق الإسلام، والسلامة، ومنهم القاسطون، أي الظالمون، المنحرفون عن طريق الحق والهدى..(15/1228)
وقسط، فهو قاسط: أي ظلم، واعتدى..
وأقسط، فهو مقسط: أي عدل، واستقام.. ومنه قوله تعالى:
«وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (9: الحجرات) وقوله تعالى: «فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» هو تعقيب من الجن، أو من المؤمنين، أو من الوجود كله.. على هذا الخبر الذي أخبر به الجن عن أحوالهم.. وأن الذين أسلموا وجوههم لله، وآمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي أنزل على رسوله- قد تحروا رشدا، أي اختاروا طريق الهداية والرشاد، وأنهم تعرفوا إليه بعد نظر الاستدلال.
فالمسلمون قد تخيروا طريق الأمن والسلامة، ولن تكون خاتمتهم إلا الأمن والسلامة..
وأما الحائدون عن طريق الإسلام، الذين ركبوا طرق الضلال، فهم حصب جهنم وحطبها..
وقد فرق النظم القرآنى بين الحالين، فجاء على غير أسلوب المقابلة التي يقتضيها نظم كلامنا نحن البشر.. ولو جاء النظم على أسلوب المقابلة، لكان هكذا:
«فمن أسلم فأولئك لهم الجنة، وأما من كفر فأولئك هم أصحاب النار» أو جاء فى صورة أخرى هكذا:
«فمن أسلموا فقد اهتدوا وشدوا، وأما من كفروا فقد ضلوا وخسروا..»
ولكن هذا كلام الله المعجز، المتحدى للإنس والجن أن يأتوا بمثله! فالذين أسلموا قد اختاروا طريق السلامة بعد بحث ونظر.. وقد يؤدى بهم هذا الطريق إلى الجنة أو لا يؤدى، لأن دخول الجنة أمر لا يملكه أحد،(15/1229)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
ولا يناله مخلوق، بعمله، وإنما هو بتوفيق الله، ومن فضله، وإحسانه..
ولكنهم أي (المسلمون) قد اختاروا الطريق الذي ينبغى أن يختاره كل عاقل، وهم على رجاء وطمع من رحمة الله، ومغفرته، ورضوانه.. إنه طريق الأمن والسلامة، وقد اهتدوا إليه بعقولهم، ووجب عليهم أن يسلكوه.. أما خاتمة هذا الطريق، فهى فى علم الله، وليس من شأننا أن نقطع بها، وإن كان لنا أن نحسن الظن بفضل ربنا وإحسانه..
وأما الذين كفروا، فالنار موعدهم، لا محيص لهم عنها، لأنهم ركبوا طريقا مهلكة، لا يقيم سالكها إلا على متن الهلاك، ولا يبيت إلا على موعد معه.. وهذا ما يحكم به العقلاء على كل من يركب مهلكة من المهالك، إنهم لا يتوقعون له إلا أن يهلك على يديها.. تماما، كمن يدخل على الأسد عرينه، أو يمد إلى الحية يده فى جحرها.. إنه لا محالة هالك.
الآيات: (16- 28) [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء القاسطين الذين يسرعون إلى الهلاك بخطى حثيثة، حيث يكونون حطبا لجهنم- أنه دعوة إليهم بالرجوع إلى الله والاستقامة على طريق الحق، والإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر..
وقوله تعالى: «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» - هو وعد منه سبحانه لأهل الإيمان بأنه لا يفوّت عليهم ما يطلبون فى الدنيا من خير، فإن الإيمان بالله، والعمل للآخرة، لا يعوّق من سعى الإنسان ولا يعطل من جهده فى تحصيل الرزق..
فالرزق بيد الله، وأنه سبحانه لا يعاقب المؤمنين بالتضييق عليهم فى الرزق، وإنما هو يرزقهم بما هو أصلح لهم وأنفع، وأنه إذا كان من المؤمنين من يرى أنه مضيق عليه فى رزقه، فذلك ابتلاء من الله سبحانه وتعالى له، وأن هؤلاء الذين لا يرضون من الإيمان إلا أن يكون معه سعة فى الرزق وكثرة فى الأموال والأولاد- هؤلاء لو آمنوا لأفاض الله سبحانه عليهم من الرزق، ولأرسل السماء مدرارا عليهم، حيث يكون من وراء ذلك الخصب والنماء، ووفرة المال(15/1230)
والمتاع، ولكن هذا الرزق هو فتنة لهم، أي امتحان وابتلاء.. فإن هذا الرزق عبء، قد يؤودهم حمله، وقد يقصم ظهورهم، إذا هم لم يحسنوا سياسته، ولم يحفظوا أنفسهم من إغرائه، ويؤدوا حقّ الله فيه.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» (96: الأعراف) .
هذا، وقد قرن الله سبحانه الإيمان بالتقوى، وذلك ليكون للإيمان هذه الثمرة الطيبة التي يبارك الله بها الرزق، وينمّيه، ويملأ قلوب المتقين أمنا وسكينة ورضا..
فالتقوى، إذا خالطت قلب إنسان، رفرفت عليه أعلام السلام، وإذ دهرت فيه مغارس الخير، فوجد القليل كثيرا، والشرّ خيرا، والفقر غنى.. إنه فى رضا دائم، وفى حبور لا ينقطع.. فمن استقام على طريق الحقّ، فهو فى عيشة راضية، وفى سعادة غامرة، وإن لم يكن بين يديه من حطام الدنيا إلا لقيمات، يتبلّغ بها.. إنه يجد من نور الإيمان، ومن ثمرات التقوى، أنه قد حاز الخير كله، وحصل من الحياة أكرم جواهرها، وأغلى ما يعرض فى سوقها.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» إشارة إلى أن من يبتعد عن الله، ويأخذ طريقا غير طريق الهدى، فإنه لن يجد الأمن والسلام أبدا، ولو اجتمع بين يديه ما يشاء من مال وبنين.. بل إنه سيتقلب فى أحوال شتّى من القلق والهمّ، ويتنقل من سيىء إلى أسوأ، حيث تنمو هذه العلل، وتتضاعف هذه الآلام، مع الزمن، حتى تبلغ غايتها، حين يذهب كل شىء كان فى يده، من قوة، وشباب، ومال، وأصحاب، ثم يقطع الموت فى نهاية الأمر، ما بينه وبين كل ما معه من أسباب، وإذا هو فى موقف الحساب(15/1232)
والجزاء، فيساق إلى مصيره المشئوم، ثم يلقى به فى نار جهنم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» (124: طه) .
وفى التعبير عن أخذ المعرض عن ذكر ربه بالعذاب، وتدرجه فيه صعدا- فى التعبير عن هذا بقوله تعالى: «يسلكه» - إشارة إلى اتصال هذا العذاب، وأنه فى اتصاله وتعدده أشبه بحبات العقد، ينتظمها سلك واحد.. فهو- أي المعرض عن ذكر ربه- فى دائرة مغلقة من العذاب، يظل يدور فيها، دون أن يستطيع الإفلات منها، أو الخروج عنها، مع تدرجه فى العذاب، وتنقله فيه من سيىء إلى ما هو أسوأ، حتى يلقى به فى العذاب الأليم.. وفى هذا ما يشير إلى أن المعرض عن ذكر ربه، هو فى عذاب دائم متصل، فى الدنيا والآخرة، وأنه ينتقل من عذاب الدنيا، إلى عذاب الآخرة: «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (33: القلم) ..
قوله تعالى:
«وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» ..
المراد بالمساجد- والله أعلم- هو مواطن السجود فى الأرض.. فحيث كان مكان فى هذه الأرض، يصلح للسجود، ووضع الجباه عليه، فهو لله سبحانه وتعالى، أي هو ملك لله، الذي خلق السموات والأرض.. فالسجود فى ملك الله لغير الله، كفر مبين، وضلال عظيم.. إنه عدوان على الله، ومحادّة له..
ويجوز أن تكون المساجد، جمع «مسجد» اسم آلة، وهو العضو المشارك فى عملية السجود.. ويكون المراد بالمساجد هنا، أعضاء السجود، وهى عظام الكفّين، وأطراف القدمين، وعظما الركبتين، وعظم الجبهة، وهى سبعة عظام، كما يشير إلى ذلك قول الرسول الكريم: «أمرت أن أسجد على(15/1233)
سبعة أعظم» .. فهذه الأعضاء- أعضاء السجود، هى لله، وهو سبحانه الذي خلقها، فلا ينبغى أن يسجد بها لغير خالقها..
قوله تعالى:
«وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» .
عبد الله، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى إضافته- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الله سبحانه وتعالى بصفة العبودية، تكريم وتشريف له، ورفع لمقامه الكريم عند ربه، وأنه عبد الله، الخالص العبودية لله، والمثل الكامل لهذه العبودية، التي تحققت فيه وحده، فانفرد بها فى هذا المقام، فحيث أضيف عبد إلى الله من غير ذكر اسمه، فالمقصود هو محمد صلوات الله وسلامه عليه..
وقد أضاف الله سبحانه وتعالى كثيرا من عباده المكرمين إليه بلفظ العبودية، ولكنها لم تكن إضافة مطلقة، بل كانت مقيدة بذكر اسم هذا العبد المضاف إلى الله، كما يقول سبحانه: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (2: مريم) وكما يقول تبارك اسمه: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» (41: ص) ويقول جل شأنه: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» (45: ص) وفرق كبير فى مقام التكريم والتشريف بين إضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية إلى ربه إضافة مطلقة، وبين قيد هذه الإضافة بالاسم الدال على صاحبها، وإن كانت تلك الإضافة مما يلبس صاحبها تاج الكمال وينزله أعلى منازل الرضوان.. ولكن فوق هذا المقام الكريم العظيم مقام، ينفرد به رسول الله محمد وحده..(15/1234)
وقد أضيف رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- عبدا لربه، إضافة مطلقة، على صور متعددة، فتارة يضاف إلى ضمير الذات العلية فى مقام الغيبة، كما فى قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (1: الإسراء) وتارة يضاف إلى ضمير الذات فى مقام الحضور، كما فى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» (41: الأنفال) وتارة يضاف إلى اسم الذات كما فى قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ» . (19: الجن) ولا شك أن فى تنوع هذه الإضافات زيادة تشريف وتكريم، فوق هذا التشريف والتكريم، حيث يضيف الحق سبحانه وتعالى عبده، متجليا عليه بذاته ظاهرا، وباطنا..
وبهذا المقام العظيم استحق الرسول الكريم، أن يصلّى عليه ربه، وأن تصلى عليه ملائكة ربه، وأن يدعى كل مؤمن ومؤمنة بالله، للصلاة عليه:
«إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (56: الأحزاب) .. فصلى الله عليك يا رسول الله وعلى آلك وصحبك، وسلم تسليما..
وقوله تعالى «يَدْعُوهُ» أي يدعو ربه، وهو حال من الفاعل فى قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» وقوله تعالى: «كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» أي كاد المشركون أن يكونوا لبدا على النبىّ، أي جمعا واحدا عليه، يجتمع بعضهم إلى بعض فى مساندة وتلاحم، كما يجتمع اللّبد، وهو الشعر الكثيف، حيث يكون كتلة واحدة مثل لبد الأسد المجتمع على صدره، وحول عنقه، ومنه قوله تعالى: «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» (6: البلد) أي كثيرا مجتمعا بعضه إلى بعض..(15/1235)
وفى هذا التصوير لاجتماع المشركين، وتكتلهم على الوقوف فى وجه النبىّ- فى هذا ما يشير إلى أمور:
أولها: أن هذا المجتمع الذي يضم المشركين بعضهم إلى بعض فى مواجهة النبىّ- ليس له من داعية معقولة، وإنما هو صادر عن كائنات ميتة، لا حسّ ولا إدراك لها، إنها تجتمع وتتفرق، بيد من يجمعها أو يفرقها، كما يجتمع الشعر ويتفرق فى يد من يجمعه، أو يفرقه.. والشيطان هنا هو اليد التي تجمع هؤلاء المشركين، أو تفرقهم حسب مشيئته فيهم..
وثانيها: أن هذه الجموع الكثيفة المحيطة بالنبيّ من المشركين، إنما هى على كثرتها غثاء كغثاء السيل، وأنها لا تلبث أن تعر من وجه الحق إذا طلع عليها وضربها الضربة القاضية.. إنها كائنات من مخلفات الحياة، ليس لها جذور تمدها بالغذاء، وتمسك عليها الحياة.. وإنه سرعان، ما تجف وتتطاير، فتذهب بها الريح، وترمى بها فى كل وجه..
وثالثها: أن هذا اللبد المجتمع حول النبىّ، هو أشبه باللبد المجتمع حول رقبة الأسد، فهو شىء عارض، لا يؤثر فى ذاتية الأسد، وأنه يتطاير فى كل لحظة ليخلى مكانه لغيره.
ورابعها: أن هذا اللّبد المجتمع حول النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وإن كان فى هذا الوقت لبدا يشوكه، ويؤذيه، فإنه سيتحول عما قريب إلى لبد يحميه، ويدفع عنه كل أذى.. وهكذا فإنه بعد سنوات قليلة اجتمع للنبىّ من هؤلاء المشركين جند الله، المدافعون عن دينه، والمجاهدون فى سبيله، وهم المهاجرون، الذين كانوا مع إخوانهم الأنصار الكتيبة الأولى حملت راية الإسلام. وركزتها في أعزّ، وأمكن مكان، ودافعت عنها بالأرواح والأموال، وفدّتها بالأبناء والآباء..(15/1236)
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» ..
هو توجيه من الله سبحانه للنبىّ الكريم، بما يلقى به قومه الذين كادوا يكونون عليه لبدا.. فهو إذ يراهم وقد صاروا عصبا عليه، قد اجتمعوا على عداوته والكيد له- إذ يراهم على تلك الحال، يقول لهم: «إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» .. فهذه هى دعوتى.. فماذا تنكرون منها؟
وماذا تنكرون من الذين يعبدون ما أعبد؟ إنها دعوة لا إكراه فيها، فمن قبلها، فذلك من شأنه هو، ومن أعرض عنها، واتخذ سبيلا غيرها، فذلك من شأنه أيضا.. فلم إذن تصدّون الناس عن سبيل الله؟ ولم لا تتركون الناس وما اختاروا، كما تركتم أنتم وما اخترتم؟
قوله تعالى:
«قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» .
هو من قول النبي المشركين، فهو إذ يعبد ربّه، ويوجه إليه وجهه، وحده، لا شريك له، فإنه لا يملك المشركين ضرّا، ولا رشدا.. وإنما ذلك إلى الله وحده. «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) .
وفى مقابلة الضرّ بالرشد، إشارة إلى أن الضر لا يكون إلا عن متابعة الهوى، واتباع أهل الضلال، كما أن الخير، لا يكون إلا من ثمرات الهدى، والاستقامة والتقوى.. وهكذا تقع المقابلة بين الضرّ والرشد، وقوعا يشمل الظاهر والباطل جميعا..(15/1237)
فالضرّ، ظاهر، يخفى وراءه الهوى، والضلال، والشرك.. والرشد باطن، يفوح منه طيب الخير، وتهمى من سمائه غيوث الرحمة والإحسان..
أو بعبارة أوضح نقول: إن الضرّ فرع غاب أصله، والرشد أصل غاب فرعه.. فالضرّ ثمر كريه مرّ حاضر، لا تكاد تقع العين عليه حتى تعرف الشجرة التي أثمرته..
والرّشد، شجرة طيبة مباركة.. يكفى أن تقع العين عليها فتعرف الثمر الطيب الكريم، الذي تجود به.. أو نقول: إن المقابلة هنا بين المسبب، وهو الضرّ، وبين السبب لما يقابله وهو الرشد الذي مسبّبه الخير..
وهكذا فى كلمتين، يتجلى وجه من وجوه إعجاز القرآن.. ففى المقابلة بين هاتين الكلمتين: الضرّ، والرشد، تتحرك المعاني المولدة منهما، ويقابل بعضها بعضا، فتتآلف منها صورة معجزة، الكلمة القرآنية، التي لا ينفد لها عطاء.
فعلى وجه الضرّ تلوح معالم الشرك، والكفر، والضلال، وتتراقص شياطين الغواية، والإثم..
وعلى وجه الرّشد، تتألق عرائس الخير، وتتهادى حور الجنان وولدانها.
وهنا سؤال، وهو: لماذا آثر النظم القرآنى، المقابلة بين الضرّ والرشد، على المقابلة بين الكفر، والخير، أي المقابلة بين مسبب وسبب، دون المقابلة بين مسبّب ومسبب، أو بين سبب وسبب؟
ونقول- والله أعلم- إنه فى جانب الضرّ أغفل السبب الوارد منه هذا الضرّ، وهو الكفر والشرك، وأقيم المسبّب- وهو الضرّ- مقامه، ليرى الشرك والكفر فى ثمرتهما المرّة النكدة التي أثمراها..(15/1238)
وأما فى جانب الرّشد، فقد أغفل المسبب عنه، وهو الخير، والنعمة والسلامة والعافية، وما أشبه هذا مما يسعد به الإنسان فى الدنيا والآخرة، وأقام السبب مقامه، وذلك للتنويه بالرّشد فى ذاته، وأنه وحده خير، وخير كثير، وأنه يجب أن يكون مطلوبا لذاته، غير منظور إلى الخير الذي يجىء منه.. إنه فى ذاته خير، فلا حاجة إلى النظر فيما وراءه.
والنبىّ- وهو رسول الله، والحامل لرسالته، والداعي إليها- هو فى قبضة الله، وتحت سلطان مشيئته.. وأنه لو أراد الله ضرّه، فليس هناك من يدفع عنه هذا الضرّ، وليس له من ملتحد، أي ملجأ يلجأ إليه، فرارا من هذا الضرّ الذي هو رهن بمشيئة الله..
إنه لا محاباة عند الله، حتى ولو لرسول الله- وإنما الناس عند الله بأعمالهم، وما هم عليه من إيمان وكفر، ومن تقوى وفجور.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» (13: الحجرات) أي أشدكم خوفا من الله، ومراقبة له، واتقاء لحرماته.. ولما كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، هو أتقى الأتقياء، كانت منزلته عند الله أعلى المنازل وأكرمها، فهو مطمئن إلى ماله عند الله من مقام كريم، وأجر عظيم..
قوله تعالى:
«إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» هو مستثنى من قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» فهو بمعنى لا أملك لكم من الله شيئا، إلا هذا البلاغ الذي أبلغكم به من الله، وإلا هذه الرسالات التي أحملها إليكم فى آيات الله.. فهذا هو(15/1239)
الذي أملكه من الله لكم، بعد أن ملّكنى إياه.. وها هو ذا أعرضه عليكم، وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.. أما ما وراء هذا، فلا أملك لكم من الله شيئا منه، فلا أملك هداية لمن أضله الله، أو إضلالا لمن هداه الله..
وفى جمع «الرسالات» مع أن رسالة الرسول واحدة، لا جمعا- فى هذا إشارة إلى أن كل آية من آيات الله، هى رسالة من رسالات الله، إلى عباد الله، يرون فى أنوارها، مواقع الهدى والرشاد، وإنه بحسب الإنسان العاقل أن يتلو آية من آيات الله، أو يستمع إليها، فيجد طريقه إلى الإيمان والهدى.. ولقد استمع الجن إلى آيات من القرآن الكريم فكان فيها هداهم ورشدهم..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» .
هو تعقيب على قوله تعالى: إلا بلاغا من الله ورسالاته، فهذا البلاغ من الله، وتلك الرسالات المنزلة فى آياته- هو مما بلغه الرسول إياهم، ودعاهم إلى تصديقه، والإيمان به، وأن من يعص الله، فلم يؤمن بآياته، ويعص الرسول، فلم يستجب له- فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا.. فذلك هو جزاء من يعصى الله ورسوله..
وفى عود الضمير مفردا على اسم الشرط «من» فى قوله تعالى: «فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ» ثم عوده عليه جمعا فى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» - فى هذا إشارة إلى أن العصيان لأمر الله ورسوله، هو عن استجابة لهوى الإنسان وحده، وأنه هو المسئول عن ركوبه هذا الطريق المهلك..(15/1240)
أما المصير الذي يصير إليه هذا الإنسان، فهو مصير عام يلتقى عنده أهل الضلال جميعا، وهو النار..
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» هو تهديد المشركين، وأنهم إذا كانوا فى يومهم هذا، يعتزون بقوتهم، وكثرة عددهم، ويتسلطون على تلك القلة المستضعفة المؤمنة، ببغيهم وعدوانهم، ويجتمعون لبدا عليهم- فإنه سيأتى اليوم الذي يوعدون فيه بهذا العذاب، حيث يرون أنه قد تخلّى عنهم كل ما كان موضع قوة وعزة لهم، وأنهم قد صاروا حطبا لنار جهنم.
ويجوز أن يكون مما يوعدون به، هو ما تهددهم الله به من الهزيمة والخذلان فى الدنيا، فى قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (45: القمر) وفى قوله تعالى: لنبيه الكريم: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» (46: يونس) .. وغير ذلك من الآيات التي أشارت إلى نهاية هذا الصراع القائم بين المشركين، والمؤمنين.. وأن النصر، والغلب والعزة ستكون لله، ولرسوله، وللمؤمنين..
ولقد رأى المشركون مصداق قوله تعالى: «فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» - لقد رأوا ذلك رأى العين، يوم الفتح، حيث دخل النبي مكة على المشركين فى عشرة آلاف من أصحابه، فانقبع المشركون، وزلزلت الأرض بهم، ثم جاءوا إلى النبي مقيدين بقيد المهانة والذلة، حتى أطلقهم الرسول الكريم بقولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» !(15/1241)
قوله تعالى:
«قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً» «إن» هنا نافية، بمعنى «ما» ..
أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين، إن هذا اليوم الذي توعدون به، والذي ستعلمون فيه أنكم أضعف ناصرا وأقل عددا- هذا اليوم لا أدرى متى هو؟ .. أهو قريب، قد أظلكم، وأطلّ عليكم بوجهه، أم هو ممتد إلى ما يعلم الله سبحانه ويجعل له أمدا ينتهى عنده..
وفى قوله تعالى: «يَجْعَلُ» بمعنى يقدّر، وفى التعبير عن التقدير بفعل المستقبل، إشارة إلى إخراج هذا التقدير من حيز العلم المكنون عند الله، إلى حيز الواقع والمشاهد، حيث يبدو الناس ما وعدوا به يوم ينتهى الأمد المعلوم عند الله لهذا اليوم.
قوله تعالى:
«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» - أي أن ربى هو عالم الغيب، فلا يعلم الغيب إلا هو، ولا يظهر، أي يطلع على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول.
فقوله تعالى: «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ الله» هو استثناء من قوله تعالى:
«فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» .. أي أنه سبحانه قد استأثر وحده بعلم الغيب، وأنه سبحانه لا يطلع أحدا على هذا الغيب إلا من ارتضى أي اختار من بعض رسله..(15/1242)
و «من» فى قوله تعالى: «مِنْ رَسُولٍ» للتبعيض، للإشارة إلى أنه ليس كل رسل الله يطلعهم الله على الغيب- وإنما يختار الله سبحانه من يشاء منهم، فيطلعه على ما يأذن لهم به من الغيب.. فإن الذي يوحيه الله سبحانه وتعالى إلى بعض رسله، هو من بعض هذا الغيب، حيث لا يعلم هذا الموحى به إلا الرسول.. كما أوحى الله سبحانه إلى نوح بغرق قومه، وكما أوحى إلى إبراهيم بهلاك قوم لوط. وكما أوحى إلى صالح بهلاك قومه بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة.. فهذا من الغيب الذي أطلع الله سبحانه بعض رسله عليه.
والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان يعلم مما علّمه الله، كثيرا من الأحداث التي تقع على مسيرة دعوته، سواء أكان ذلك عن طريق الفهم الخاص لرسول الله بما ضمت عليه آيات القرآن من أسرار، أو كان هذا عن وحي خاص من الله سبحانه إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه..
وقوله تعالى: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» ..
أي أن الله سبحانه لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على بعض الغيب، وذلك بما يقصّ عليه من أخبار إخوانه السابقين من الرسل، وما ووجهوا به من أقوامهم من سفاهات، وضلالات، وما احتملوا فى سبيل تبليغ رسالة الله، من ضر وأذى.. فهذا هو الرصد الذي يسلكه الله من خلف الرسول، أماما يسلكه بين يديه، فهو إخباره بما سيقع له من بعض الأحداث ذات الشأن العظيم، على طريق مسيرته هو بدعوته..(15/1243)
والرصد هو، الاستعداد، والترقب للأمر، والرصد يقال الواحد الراصد، والجماعة الراصدين، والشيء المرصود، أي المعد..
والمراد بالرصد فى الآية الكريمة- والله أعلم- هو المعالم المنصوبة بين يدى الرسول، ومن خلفه، مما يقصّه الله سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسول السابقين، والمعاصرين لهذا الرسول، وبما يطلعه عليه من بعض أنباء الغيب مما سيقع له على طريق دعوته..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى مخاطبا النبي الكريم، بعد أن قص عليه قصة يوسف: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» (102 يوسف) ..
وقوله تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (120: هود) ..
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله تعالى: «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» - عائدا إلى الرسول، الذي أطلعه الله سبحانه على بعض الغيب، وأن هذا الرسول بما علم من أنباء الرسل من قبله، قد علم أنهم أبلغوا رسالات ربهم، وأنهم أدوا أمانة التبليغ على وجهها، غير عابئين بما يلقاهم فى هذه السبيل من عنت وبلاء.. وفى هذا تثبيت الرسول فى موقفه المواجه لقومه، وما يرمون به من منكر القول، وسفيه العمل.. لما يرى من إخوانه الرسل، وما أصابهم من أقوامهم.
وقوله تعالى: «وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» معطوف على قوله تعالى: «أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» ..
أي ويعلم الرسول أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، وأن الله قد(15/1244)
أحاط بما كان لدى الرسل من طاقة صبر، وقوة واحتمال، على مواجهة السفهاء والضالين من أقوامهم، وأنه سبحانه قد علم كل شىء، وأحصاه عددا، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء..
هذا وجه من وجوه التأويل لقوله تعالى: «إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا» ..
وقيل، إن الرصد الذي يسلكه الله سبحانه وتعالى من بين يدى الرسول ومن خلفه، هو الحفظة من الملائكة، القائمين على الوحى المبلغ إلى الرسول، حتى يحفظوه من استراق سمع الشياطين له..
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله تعالى: «ليعلم» عائدا إلى الله سبحانه وتعالى، أي ليعلم الله أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم على الوجه الذي أوحى إليهم به..
وعلم الله هنا ليس مقيّدا، ولا معلولا بهذا الرصد الذي يسلكه الله بين يدى ما يوحى به إلى رسله ومن خلفهم.. فعلم الله سبحانه وتعالى، علم ذاتى، لا يتعلق بأسباب، ولا يتولد عن علل.. وإنما المراد بالعلم هنا، العلم بما وقع من الرسل، فعلا، بعد أن كان هذا العلم واقعا على الأحداث قبل أن تقع.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا» حالان من فاعل: «ليعلم» وهو ضمير عائد على الله سبحانه وتعالى: أي ليعلم الله سبحانه أن الرسل قد أبلغوا رسالاته، والحال أنه سبحانه قد أحاط بما لديهم قبل أن يعملوه، وأحصى كل شىء عددا، قبل أن يوجد..
والله أعلم..(15/1245)
73- سورة المزمل
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة القلم.
عدد آياتها: عشرون آية.
عدد كلماتها: مائتان وخمس وثمانون.. كلمة.
عدد حروفها: ثمانائة وستة وثلاثون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الجن» بهذا العرض الذي يكشف عن مقام رسل الله عند ربهم، وأنهم وحدهم من بين البشر، هم الذين اختارهم لرسالته إلى عباده، ولما يطلعهم عليه من الغيب المتصل برسالاتهم، وببعض الأحداث التي تقع لهم على طريق هذه الرسالات..
والنبي صلوات الله وسلامه عليه، واحد من هؤلاء الرسل الكرام، الذين اختارهم الله سبحانه لتبليغ رسالاته إلى الناس، ولما يوحى إليهم به من آياته التي لا يعلمها إلا هو..
فناسب ذلك أن تجىء سورة «المزمل» تالية سورة «الجن» وفيها هذا النداء الكريم من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله، وقد آذنه بأنه قد اختير من الله سبحانه ليكون رسولا، وليتلقّى آيات الله الموحى بها إليه من ربه، وأنها من الغيب الذي سيطلعه الله عليه..(15/1246)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 14) [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أيها المزمل» .
النداء هو من الحق جلّ وعلا، إلى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وكان ذلك فى أول الدعوة، حيث تلقى الرسول الكريم أمر ربه بأنه رسول الله، وذلك فى قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق(15/1247)
الإنسان من علق.»
وقد استقبل الرسول هذه الدعوة، استقبال الإنسان لأمر غريب يقع له، مما لم تألفه الحياة، ومما لم يقع له أو لغيره المعاصرين له.، فوقع فى نفسه شىء من الخوف، والفزع لهذا الحدث، ولما له من عواقب لا يدرى ما يأتيه منها.. ويروى فى هذا أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، كان فى أول أيام رسالته كلما عرض له جبريل، وناداه من قريب أو بعيد فزع، وكرب وعاد إلى أهله يرجف فؤاده، ويقول زمّلونى، دثرونى..
والمزّمل: أصله المتزمّل، وهو المتلفف فى يرد، أو نحوه..
والمزّمل: الحامل الثقال من الأمور، ومنه: الزّاملة، وهى الراحلة التي تحمل الزاد والمتاع، ونحوه..
ونداء النبىّ الكريم، بهذه الصفة التي كان عليها.. وهى المزمل.. هو غاية اللطف، والتكريم والإحسان، من الله سبحانه وتعالى.. حيث لا يكون هذا النوع من الخطاب إلا بين متحابين متصافيين، قد زالت حواجز الكلفة بينهما.. وهذا جائز من الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الملك للأمر كله، يدنى من يشاء ويبعد من يشاء، ويخاطب أحبابه وأولياءه، كما يخاطب الحبيب حبيبه، والخليل خليله.. أما النبىّ، والملائكة، وغيرهم من عباد الله المقربين فإنه لا يجوز لهم أن يخاطبوا الله سبحانه إلا من مقام العبودية المطلقة لجلال الله وعظمته..
«يا أيها المزمل» !! كم وجد الرسول الكريم من سعادة، وغبطة، ورضا.. بهذا الوصف الذي أصبح علما هو آثر الأسماء عنده، وأحب، الصفات إليه؟ وهذا يعنى أن جميع أحوال النبىّ، هى غير أحوال الناس، وأن كلّ حال منها هى علم على النبىّ(15/1248)
وحده، حتى ما كان منها فى ظاهره مما لا يتمدّح به، هى بالنسبة إليه صفات كمال لا يتصف بها غيره.
وللرسول الكريم وصف وصف به الإمام عليا- كرم الله وجهه- حين رآه نائما فى المسجد وقد علا جبينه بعض التراب، وكان مغاضبا السيدة فاطمة رضى الله عنها، فقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «قم يا أبا تراب» يقول الإمام علىّ: فكان هذا الوصف هو أحبّ ما أنادى به!! وقوله تعالى:
«قم الليل إلا قليلا» .. هذا هو المنادى به النبىّ من قبل الله سبحانه وتعالى، بعد أن أوقظ من نومه بهذه اللمسة الرفيقة الحانية، من يد اللطف والرحمة، من ربّ لطيف رحيم.. «يا أيها المزمل» وفى هذه الدعوة، انتقال بالنبيّ الكريم من حال المزمل، والنوم، إلى اليقظة الكاملة، والتشمر للعمل، والقيام له.. «قم الليل إلا قليلا» .
والمراد بقيام الليل، هو اليقظة فيه، يقظة كاملة، واعية عاملة، حتى لكأنه فى حال قيام دائم، وإن كان جالسا..
قوله تعالى:
«نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا» نصفه، بدل من «قليلا» فى قوله تعالى: «قم الليل إلا قليلا» وهو بيان لمقدار قيام الليل إلا قليلا منه.. فنصف الليل، إذا قامه النبي، يعدّ منه قياما لليل، إلا قليلا منه، وأقل قليلا من نصف الليل، بعد كذلك من النبي قياما لليل إلا قليلا منه، وكذلك إذا هو زاد فى قيامه على نصف الليل..
وهذا يعنى أن أمر النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بقيام الليل(15/1249)
إلا قليلا، هو أمر قائم على اليسر، حسب أحوال النبي، وعلى قدر استعداده فى كل حال من أحواله.. ففى ليلة، يقوم الليل كله إلا قليلا، وفى ليلة أخرى، يقوم نصف الليل، وفى ثالثة، يقوم أقل من نصف الليل، وفى رابعة يقوم اكثر من نصفه.. وفى كل هذا، هو- صلوات الله وسلامه عليه- قد أدى غاية المطلوب منه، وهو قيام الليل إلا قليلا منه..
وقوله تعالى: «ورتل القرآن ترتيلا» - معطوف على قوله تعالى، «قم الليل إلا قليلا» .. إذ ليس المطلوب هو قيام الليل فى ذاته، وإنما المراد هو الذي يصحب هذا القيام، من ترتيل القرآن ترتيلا.. فالواو هنا بمعنى المعية والمصاحبة.. ويجوز أن تكون واو الحال، والجملة بعدها حالية، أي قم الليل مرتلا القرآن ترتيلا..
وترتيل القرآن، هو قراءته فى تمهل وتتابع، بحيث تتابع الحروف والكلمات، فيأخذ كل حرف مكانه على الفم من كل كلمة، كما تأخذ الكلمة مكانها من كل آية، حتى ينتظم منها جميعها موكب متحرك فى نظام أشبه بنظام حبات الدر فى عقدها.. وهكذا كانت قراءة رسول الله للقرآن.. عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقطّع قراءته آية آية» وعن أنس- رضى الله عنه- قال: «كان يمدّ صوته مدّا» وعن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن «1» : اقرأ وأرق، ورتّل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر تقرؤها» ولفظ الترتيل، يحتمل هذه المعاني كلها.. وهو من ترتّل الأسنان، إذا
__________
(1) أي فى الآخرة(15/1250)
استوت وحسن نظامها، ويقال ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها..
قوله تعالى:
«إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا» - هو بيان للسبب الذي من أجله دعى النبي إلى قيام الليل، وإلى نزع ثوب الدّعة والسكون.. إنه صلوات الله وسلامه عليه- سيواجه- بعد اصطفائه المرسالة- أمرا عظيما، وإنه سيكلف أداء مهمة شاقة، تحتاج إلى أن يبذل لها كل جهده، وأن يقوم عليها فى كل لحظة من حياته، ليلا ونهارا.. فهذا القول الذي سيلقى عليه، وهو القرآن الكريم، هو قول ثقيل بما يحمل من تكاليف، هى عبء ثقيل عند كثير من الناس، كما أنها حمل ثقيل على النبي فى حملها إلى الناس، ودعوتهم إليها..
إن عهد النوم بالليل قد انتهى! فليوطّن النبي التي نفسه منذ الآن على الجهاد، وحمل هذا العبء، وليأخذ للموقف عدته، وإلّا ضعف عن حمل الرسالة، وأداء أمانة تبليغها، وقد علم أن إخوانه من الرسل، قد أبلغوا رسالات ربهم، وما كان له أن يقصر عنهم، وهو خاتمهم، وسيدهم.
وهذا التنبيه من الله سبحانه لنبيه الكريم، بما سيلقاه على طريق رسالته، من صعاب، وما يحمله فى سبيلها من أعباء- هو الذي يهيىء النبي جسميّا ونفسيّا للمهمة الخطيرة التي نيطت به، وألقيت عليه..
وقوله تعالى:
«إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا» .
اختلف فى معنى «ناشئة الليل» .. أهي أول الليل، أو آخره، أو وسطه، أم هى اليقظة بعد النوم..(15/1251)
والذي نميل إليه أن ناشئة الليل هى أوله، حيث يبدأ فيها نشوء الليل، وحيث هى التي يتحقق بها ما دعى إليه النبىّ من قيام الليل إلا قليلا منه، فإنه لو نام الإنسان أول الليل فهيهات أن يضبط الوقت الذي يستيقظ فيه، ومن ثمّ فقد لا يقوم شيئا من الليل، فضلا عن أن يقوم الليل كله إلا قليلا منه..
وقوله تعالى: «هى أشد وطئا» أي أثقل على النفس وأشق، لأن الإنسان يصل بها تعب النهار، الذي يحمل الإنسان على أن يلقى بهذا التعب عند أول الليل، كما يلقى المسافر مشقة السفر عند أول منزل ينزله.. وفى هذه المشقة، مضاعفة الثواب، ودربة على تعوّد المتاعب، ومغالبة منازع النفس وأهوائها..
وقوله تعالى: «وأقوم قيلا» أي أن قيام ناشئة الليل، أكثر فائدة، وأطيب ثمرا.. حيث يكون الإنسان مغالبا لهواه، قاهرا سلطان نفسه، مستعليا على حاجة جسده، وتلك أحسن أحوال الإنسان لتقبل الخير، والإفادة منه..
والقيل الذي مع الرسول الكريم، هو القرآن الكريم، وهو أقوم قول وأعدله، وأكمله، فى جميع الأحوال، والأزمان.. لا تتغير ذاتيته، ولا تتعرض صفاته لزيادة أو نقص.. لأنه كامل فى ذاته، لا يقبل كما له زيادة، كما أنه لا يقبل نقصا.. لأن الكامل كمالا مطلقا، لا يكون على هذا الوصف إلا إذا تنزه كماله عن التعرض الزيادة أو النقص..
أمّا وصف القيل المراد به القرآن هنا، بأنه أقوم قيلا، أي أسدّ قولا وأنفعه- أما هذا الوصف، فليس لذاتية القول، وإنما هو للأثر الذي يحدثه(15/1252)
هذا القول فيمن يتلقاه، ويرتله.. فإن هذا الأثر يختلف باختلاف المتلقّين له، وباستعدادهم العقلي، والنفسىّ والروحي، للفهم عنه، والتجاوب معه.. كما أن هذا الأثر يختلف باختلاف أحوال المتلقّى الواحد، وبتأثر هذه الأحوال بظروف الزمان، والمكان.. فبعض الأزمنة تفعل فيها الكلمة ما لا تفعله فى أزمنة أخرى، وبعض الأمكنة، تجعل الكلمة وقعا على نفس متلقيها، لا يجده منها فى مكان آخر.. تماما كشأن النبات من الحب والفاكهة، فإن لكل فاكهة ولكل حب مكانا لا يجود إلا فيه، وزمانا لا تنطلق فيه طاقاته وقواه كاملة إلا إذا احتواه هذا الظرف من الزمان..
وأول ما ألقى على النبي من قول ثقيل، هو هذا الأمر التكليفي الذي كلف به من ربه، وهو أن يقوم من نومه، وأن يرفع هذا الغطاء المتزمل به، وأن يقوم الليل كله إلا قليلا منه، ذاكرا الله بتلاوة القرآن وترتيله..
ويجوز أن يكون هذا القول الثقيل، هو ما يحمل إليه هذا القول من حمل أمانة تلك الرسالة العظيمة التي يقوم عليها، ويواجه الناس بها، وقد حمل النبي أعباء هذه الرسالة نحوا من ثلاث وعشرين سنة، احتمل فيها ما تنوء الجبال الراسيات بحمله.. ويجوز أن يكون هذا القول الثقيل، هو الوحى نفسه، وما كان يجد النبي من جهد فى تلقى كلمات الله منه..
هذا، والذين ذهبوا إلى أن ناشئة الليل، هى آخر الليل إنما نظروا فى قول الله سبحانه: «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا» - وفى هذا تنويه بهذا الوقت- وقت الفجر- وأنه وقت مبارك، تتفتح فيه النفس لتقبل الخير، وتشرق فيه بنور الحق، كما يشرق وجه النهار، ويسفر، حين يطلع الفجر..(15/1253)
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا» هى دعوة إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يمدّ فى قيام الليل، حتى يبلغ الفجر، ليلتقى مع هذا الوقت المبارك المشهود، وإن كان فى السهر، ومغالبة النوم ما تشتد وطأته عليه.. ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وأقوم قيلا» ليكون خيرا مرصودا ينتظر النبىّ على نهاية الليل الذي قطعه قياما، وترتيلا، وبهذا يشتد عزمه، وتشتد رغبته فى السهر ليلتقى مع هذا الخير الذي هو على موعد معه هناك.. مع الفجر! وعلى هذا التأويل، يكون القول بأن ناشئة الليل، هى آخر الليل، أولى عندنا مما قلناه من أنها أول الليل.. والله أعلم..
وقيل إن ناشئة، الليل، هو ما يتجدد فيها من ساعات، ينشأ بعضها إثر بعض، وعلى هذا تكون شاملة الليل كله باعتبار ظرفا طيبا للعبادات والطاعات، وذلك لخلو النفس فيه من الشواغل التي تشغلها بالنهار..
قوله تعالى:
«إن لك فى النهار سبحا طويلا» ..
السبح: الحركة، المطلقة، المتحررة من القيود.. ومنه يقال الفرس السريع الجري: سابح، وقد أقسم الله سبحانه بالسابحات، فقال سبحانه:
«والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا» (1- 3:
النازعات) ..
ومنه التسبيح، وهو إطلاق اللسان بذكر الله..
وهذه الآية بيان لسبب آخر من أسباب دعوة النبىّ مجاهدة نفسه أولا، وتدريبها على ركوب الصعاب من الأمور، حتى يستطيع أن يستقل بحمل القول(15/1254)
الثقيل الذي سيبلقى عليه. فإن قيام الليل مع شدّة وطأته لا يكفى وحده لمواجهة الرسالة المكلّف بحملها، وتبليغها إلى الناس، وإنما يقتضيه هذا أن يقوم النهار كلّه، يطوف على الناس، ويلقاهم بها فى كل مكان، ويسبح بها إلى كل أفق كما تسبح الطير فى السماء.. وأنه إذا كان النبىّ قد جعل الليل لمناجاة ربه، فليجعل النهار لمواجهة الناس.. إنه بمناجاة ربه بالليل يتزود بالزاد الطيب الذي يعينه على رحلة النهار مع الناس ودعوتهم إلى الله، فإذا أقبل الليل عاد إلى تلك المناجاة يستروح أرواح الطمأنينة والرضا، ويتخفف من أعباء يومه الثقيل، وما لقى فيه من خلاف عليه، واستخفاف به من أهل السفاهة والجهالة، ليستقبل يوما آخر.. وهكذا..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا» (52: الفرقان) ..
فهذا السبح الطويل الذي يسبحه النبىّ الكريم فى النهار- هو جهاده للكافرين بآيات الله التي يتلوها عليهم، ويحاجّهم بها، ويتلقى ما يرمونه من بهت وتكذيب..
يروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وقد نصح له بعض أصحابه بأن يرفق بنفسه، وأن يأخذ لها حظها من الراحة والنوم بالليل أو النهار، فأجابه عمر بقوله: «إنى إن نمت الليل ضيّعت حق الله، وإن نمت النهار ضيعت حق الرعية.. فكيف بالنوم مع هذا أو ذاك؟» ..
فإذا كان هذا شأن عمر، فرع شجرة الإسلام الطيبة المباركة، فكيف بالشجرة ذاتها؟ ..
وكيف برسول الله، وبالأمر العظيم الذي ندبته السماء له، وأناطت به حمله؟
ذلك أمر لا نوم معه فى ليل أو نهار..(15/1255)
قوله تعالى:
«واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا» ..
هو دعوة إلى الرسول الكريم أن يكون دائما مع ذكر الله، فى الليل أو فى النهار، مع نفسه، أو مع الناس، فلا يقطعه هذا السبح الطويل فى النهار مع الناس، عن ذكر الله أبدا.. إن رسالته كلها هى ذكر الله، والتذكير به، فهو حيث كان فى ذكر الله، وفى تلاوة آياته..
وفى التعبير عن ذكر الله بذكر اسمه تعالى، إشارة إلى أن ذكر اسم الله، هو الذي يذكّر بالله، وهو الذي يستحضر به ماله سبحانه من صفات الكمال والجلال التي تشعّ من أسمائه وصفاته.. وفى هذا يقول سبحانه: «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها» (180: الأعراف) ..
ويقول جل شأنه: «قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى» (14- 15: الأعلى) ..
ويقول سبحانه: «ولذكر الله أكبر» (45: العنكبوت) ..
ويقول سبحانه: «وأقم الصلاة لذكرى» (14: طه) ..
وقوله تعالى: «وتبتل إليه تبتيلا» ..
التبتل: الانقطاع، والبتل القطع.. ومنه البتول، وهى التي انقطعت عن الدنيا وشواغلها بعبادة الله..
ومعنى التبتل إلى الله، الانقطاع إليه، وتوجيه العقل، والقلب إليه جميعا، دون التفات إلى غيره..
وهذا هو شأنه- صلوات الله وسلامه عليه- فكل وجوده لله.. كلامه وخطوه، وقيامه، وقعوده، ونومه، ويقظته.(15/1256)
وليس التبتل هنا معناه الرهبنة، والانقطاع عن الحياة، وإنما هو العمل لله وحده فى معترك الحياة، بمعنى أن تكون أعمال النبي، وجهاده بالقول، وبالسيف، مرادا بها وجه الله وحده، معزولا عن كل مطلب من مطالب الحياة الدنيا، ومجانبا لكل حظ من حظوظ النفس، إلا ما يمسك الأود، ويحفظ الحياة..
قوله تعالى:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» أي هو رب المشرق والمغرب، أي هو رب هذا الوجود كله.. فإذا ذكر المؤمن اسم ربه، ذكر بذلك ما لله سبحانه من سلطان، وأنه مالك الملك، وحافظه، ومدبر كل أموره وأحواله، وهذا هو الذي يعطى الذاكر ثمرة طيبة، إذا هو ذكر ربه بهذه المشاعر الخالصة له سبحانه وتعالى.
وفى التعبير بالمشرق والمغرب، عن الوجود كله، وحصره فى هاتين الجهتين، مع أن الجهات أربعة، هى المشرق والمغرب، والشمال، والجنوب- فى هذا أمور، منها:
أولا: أن التعبير القرآنى، جاء بلفظ مشرق، ومغرب، ولم يجىء بلفظ شرق وغرب..
وهذا يعنى أنه يشير إلى مشرق الشمس، والقمر، والكواكب، والنجوم، ومغربها.. فهذه العوالم، لها مشرق، ومغرب، وليس لها شمال، وجنوب..
وثانيا: أن المشرق، والمغرب، يشملان- ضمنا- الشمال والجنوب..
حيث أن المشرق يشير إلى جهة الشروق، التي تمتد من أقصى الشمال، إلى نهاية الجنوب.. وكذلك المغرب، فإنه يمتد من طرف الشمال، إلى طرف الجنوب.(15/1257)
وثالثا: أن دورة الأرض، وهى الكوكب الذي نعيش عليه، هى دورة من الغرب إلى الشرق، وليست من الشمال إلى الجنوب، أو من الجنوب إلى الشمال.. ولذا فإن في حركتها تلك لا يظهر إلا وجه المشرق، ووجه المغرب، جامعين كلّ شمال وكل جنوب يقع في محيطهما..
وقوله تعالى: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .. أي أنه سبحانه هو المتفرد بالسلطان على الوجود، لا يشاركه أحد، ولهذا كان التعلق به وحده، والتوكل عليه وحده، هو الطريق إلى السلامة، والنجاة..
وفى قوله تعالى: «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» إشارة إلى تفويض الأمر لله وحده، وجعله سبحانه هو الوكيل الذي يكل إليه الإنسان أموره، ويفوّض له التصرف فيها..
ووكالة الله سبحانه وتعالى للإنسان، هنا، هى وكالة عن اختيار وطواعية، وعن ثقة فى الله، وإقرار بالعجز من العبد عن أن يكون له تصريف فى أي شىء إلا بما قضى الله سبحانه وتعالى له به، وقدّره.. وهذا هو الإيمان فى حقيقته، وفى أكمل صوره، وتلك حال المؤمنين حقا فى صلتهم بالله، وفى تعاملهم مع الله..
أما غير المؤمنين بالله، الذين لا يتوكلون عليه، ولا يفوضون أمورهم إليه- فإنهم مقهورون تحت سلطان الله، وفى إجراء مقاديره عليهم.. ويستوى فى هذا المؤمنون، وغير المؤمنين.. ولكن الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين، هو فى أن المؤمنين قد امتلأت قلوبهم طمأنينة ورضا بهذا العقد الذي عقدوه مع ربهم، فى تفويض أمورهم إليه، وإلقائها بين يديه، وهذا من شأنه أن يقيمهم على رضا دائم بما يقع لهم، فلا يرون فيما صنعه الوكيل لهم إلا الخير، والإحسان، سواء أكان ذلك مما يسرّ الناس أو يسخطهم، ومما يرونه خيرا أو شرّا..(15/1258)
إن المؤمن الذي فوض لله أموره، لا يرى عاقبة هذه الأمور إلا أنها الخير، والخير كله..
أما غير المؤمن بالله، فإنه يحمل وحده هموم نفسه، ويتولّى تصريفها، غير ملتفت إلى أن يدا قوية قادرة حكيمة، رحيمة، هى التي تتصرف فيها بسلطان غالب، ومشيئة سابقة، وقدر مقدور- فهو لهذا فى معاناة دائمة، وفى مخاوف ووساوس لا تنقطع، من عواقب أموره.. فإذا جاءه من أمر ما يسره، لم تنطلق من نفسه رنة الفرح، لأن هناك أمورا أخرى أصدرها، وينتظر مواردها عليه ولا يدرى ما يجيئه منها، فلا تقع الفرحة خالصة بما وقع ليده مما يسره.. وإن أصابه ما يسوءه، قتل نفسه حسرة وندما، لأنه فعل كذا، ولم يفعل كذا، وأنه لوسلك بأمره هذا الذي ورد عليه بهذا السوء مسلكا آخر- لما حدث له هذا الذي حدث.. وهكذا يظل يمضغ الحسرة والأسى، حتى آخر لحظة من حياته.. فلا هو لما يسرّ مطمئن، ولا هو لما يسوء واجد عزاء وسلوانا.
قوله تعالى:
«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .. أي اتخذ ربك الذي لا إله إلا هو، وكيلا، تستند إليه فى جميع أمورك، بعد أن انقطعت إليه، ووضعت وجودك كله فى سبيل مرضاته.. واصبر على ما يأتيك من المشركين من أقوال ضالة مفتراة، وما يرمونك به من تهم باطلة كاذبة.. اصبر على سفاهتهم تلك وقولهم إنك مجنون، وإنك شاعر، أو كاهن، أو مفتر متقوّل على الله.. اصبر على كل هذا، فذلك هو من آثار هذا القول الثقيل الذي ألقيناه عليك، وتلك هى المهمة الثقيلة التي انتدبناك لحملها.. وإنه لا يعنيك على حمل هذا العبء الثقيل إلا توكلك على الله، واعتصامك بالصبر: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ(15/1259)
آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»
(153: البقرة) .
وقوله تعالى: «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .. أي واهجر المشركين إذا انقطع بينك وبينهم ما ترجو لهم من خير- اهجرهم هجرا جميلا.. أي كن رفيقا بهم، متوددا إليهم، ولا يحملنّك ما يرمونك به من سفاهة وجهل، على بغضتهم، والدعاء عليهم.. بل ارفق بهم، والتمس العذر لهم، فهذا هو شأن العالم مع الجاهل، والطبيب مع المريض.. فإذا انتهى بك الأمر معهم إلى القطيعة، فليكن ذلك بحكمة وبرفق من جهتك، كأن تقول: سلام عليكم.. لى عملى ولكم عملكم..
إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا.. إلى غير ذلك مما علمك الله، من الدعوة إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هى أحسن.
وقوله تعالى:
«وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» .
النعمة: التنعم، والرّفه.. ومنه النعمة، وهى كل ما ينعم به، جسديا، أو نفسيّا، أو روحيّا..
وقوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ» تهديد مزلزل مفزع لهؤلاء السادة المتنعمين، من مشركى القوم، فإنهم هم الرءوس الفاسدة، العفنة، التي تقود تلك الحملة الضالة التي تؤذى النبي، وتقف لدعوته بالمرصاد..
وأولو النعمة: هم المترفون من أصحاب المال.
والخطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وهو دعوة إليه من ربه ألا يستشفع عند الله لهؤلاء الضالين، وما سيأخذهم الله سبحانه وتعالى به من عذاب، فى هذه الدنيا، وما أعد لهم فى الآخرة من نار جهنم، وعذاب السعير..(15/1260)
وفى هذا التهديد من الله سبحانه وتعالى المشركين، بعد دعوة النبي بأن يهجرهم هجرا جميلا، وأن يزايل موقفه من بينهم فى رفق- فى هذا إشارة إلى أن يترك النبي الأمر لله، فهو الذي سيتولى حساب هؤلاء المشركين.. فليدع الأمر لله، ولا يقطع ما بينه وبين قومه من أواصر النسب والقرابة.. فهم قومه، وأولى الناس بعطفه، ومودته..
وهذا أسلوب من أساليب التهديد، التي تبدو فى صورة من أمسك بيده سيفا، أو رمحا، ثم رفعه فى وجه عدوه، الذي يحتمى فى ظل صديق أو شفيع، فهو يقول لهذا الصديق أو الشفيع: ذرنى، أي اتركني، وهذا الشقي، أضربه الضربة القاضية..!
ومن هذا الأسلوب يبدو أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو الدّرع الواقية لهؤلاء الضالين من أن ينزل عليهم غضب الله، وأن هذا الغضب واقع بهم، إذا هم غاضبوا النبي، وحملوه حملا على أن يخلى مكانه فيهم..
وقد كان! فإنه ما إن بلغ الكتاب أجله لموقف النبي من هؤلاء المشركين، وخروجه من بينهم مهاجرا- حتى تتساقط عليهم سحب العذاب، فيكون لهم فى بدر يوم، تقطع فيه رءوس كثيرة من هؤلاء المكذبين أولى النعمة، ثم يكون لهم فى يوم الفتح، يوم تذل فيه رقابهم، وتخضع فيه أعناقهم، فلا يرتفع لمشرك بعد هذا اليوم رأس، ولا يشمخ أنف..!!
وفى قوله تعالى: «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» - إشارة إلى أن العذاب الذي يتهدد هؤلاء المشركين، هو مطلّ عليهم، لا يلبث إلا قليلا حتى يقع عليهم.. وقد كان!! ويجوز أن يكون المراد بالإمهال القليل، هو إشارة إلى إعطاء هؤلاء المشركين فرصة يراجعون أنفسهم، ويرقبون مسيرة الدعوة الإسلامية، وأثرها فى القلوب والعقول، فلربما كان لهم من ذلك عبرة وعظة.. وقد كان..(15/1261)
فإن أكثر هؤلاء المشركين قد دخل فى الإسلام، وأصبح من القوى العاملة على نصره، والتمكين له..
قوله تعالى:
«إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» .
هذا هو ما سيلقى المشركون يوم القيامة، إذا هم ماتوا على ما هم عليه من شرك.. إنهم سيردون إلى الله، وإنه ليس لهم عند الله إلا أنكال، وجحيم، وطعام ذو غصة وعذاب أليم..
فهذه صورة من صور العذاب التي يتجرع أهل الضلال كئوسها قطرة قطرة يوم القيامة.. فهل يريد أصحاب الترف والنعيم أن يذوقوا هذا البلاء؟ إنه موجود عندنا، لا نتكلف له جهدا، وإنه ينتظر الضالين المكذبين.
والأنكال، جمع نكل، وهى ضروب من المساءات، التي تساق إلى أهل الضلال يوم القيامة، قبل أن يلقى بهم فى نار جهنم، ومنها هذا السوق العنيف الذي يساقون فيه إلى المحشر، وهذا الفضح لهم على رءوس الأشهاد، بما كان منهم من مخاز، وضلالات، ومنها تلك السلاسل التي يقادون بها من أعناقهم، ويسحبون بها إلى النار على وجوههم..
ثم هذا الجحيم أي النار المستعرة، التي يتأجج، ويتسعر وقودها.. ثم هذا الطعام ذو الغصة، وهو الطعام الكريه، الذي لا يجد الطاعم مساغا له، فيزور به، ويضيق حلقه عن ابتلاعه، فيصاب بغصة منه.. كل هذا، هو مما أعده الله لأهل الشرك والضلال..
وقوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» هو بيان للظرف الذي(15/1262)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
يلقى فيه المشركون هذا النكال، والعذاب الأليم فى نار جهنم.
وفى قوله تعالى: «تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» - إشارة إلى ما يحدث للأرض فى هذا اليوم من اضطراب، حيث تشقق القبور، ومخرج ما فيها، وحيث تموج بهذه الأمواج المتدافعة من الخلق الذين يساقون إلى المحشر! ورجفة الأرض والجبال، هى من رجفة الخلائق يوم البعث، من فزعهم من أحوال هذا اليوم العظيم، كما يقول سبحانه: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (87: النمل) .
وقوله تعالى: «وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» - إشارة أخرى إلى ما يصيب الجبال من أحداث هذا اليوم وشدته، وأنها تتفتت، وتنهار، وتبدو مثل كثيب من الرمل، المهيل، أي غير المتماسك.
الآيات: (15- 16) [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا»(15/1263)
هو عودة إلى هؤلاء المشركين، بعد تهديدهم بالعذاب فى الدنيا، والنكال وعذاب جهنم فى الآخرة- عودة إليهم بعرض دعوة الإسلام عليهم من جديد، ليراجعوا أنفسهم، وليطلبوا السلامة من العذاب، القريب، والبعيد، الذي ينتظرهم..
ويكثر فى القرآن الكريم، مواجهة المشركين بفرعون، وما كان منه من كفر وضلال، وما أخذه الله به من بلاء ونكال..
وقد قلنا فى غير موضع، إن هذا الجمع بين المشركين وبين فرعون يشير فيما يشير إليه، إلى ما بين هؤلاء المشركين وبين فرعون من مشابه كثيرة، فى العناد، والجهل، والضلال، والاستعلاء على سماع كلمة الحق، والنفور منها..
وقوله تعالى: «رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ» - إشارة إلى أن مهمة الرسول هو تبليغهم، وأداء الشهادة عند الله فيهم، بما كان منهم من هدى أو ضلال، ومن استجابة له، أو إعراض عنه.. كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) .
قوله تعالى: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» - هو بيان للمشركين، يرون فيه ما كان من فرعون، وما حل به.. لقد عصى فرعون الرسول، وهو موسى، فأخذه الله تعالى أخذا وبيلا، أي أخذا مخزيا، مهينا، مهلكا.. فهل يعصى هؤلاء المشركون الرسول الذي أرسله الله إليهم؟
إنهم إن يفعلوا فعل فرعون، فسوف يلقون ما لقى فرعون.. إنهم ليسوا أشدّ من فرعون بأسا، ولا أقوى منه قوة، ولا أعز نفرا، ولا أكثر قبيلا..
قوله تعالى:
«فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» .(15/1264)
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» - أي فكيف تدفعون عن أنفسكم عذاب هذا اليوم الذي يجعل الولدان شيبا، إن كفرتم ولم تؤمنوا بالله، ولم تستجيبوا لما يدعوكم إليه الرسول؟ كيف تدفعون عن أنفسكم هذا العذاب؟ أأنتم أقوى من فرعون قوة وأشد بأسا وأكثر نفرا؟ لقد أخذ فرعون بكفره، وستؤخذون أنتم بكفركم، إن كفرتم، وأمسكتم بهذا الكفر..
وفى قوله تعالى: «إِنْ كَفَرْتُمْ» - احتراس، يراد به قيد هذا العذاب الذي يتهددهم، وأنه رهن بما ينكشف عنه موقفهم من النبي.. فهم إلى هذه اللحظة فى سعة من أمرهم، مادام النبي فيهم، وما داموا فى الحياة، لم تطو صحف أعمالهم بعد بالموت..
وفى هذا إغراء لهؤلاء المشركين بالإيمان، وإفساح الطريق لهم إليه..
وقد دخل كثير منهم فى دين الله، وأصبحوا مؤمنين،. وهذا هو بعض الحكمة فى قوله تعالى: «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» .. وقوله تعالى قبل ذلك: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .
وقوله تعالى: «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» هو وصف لهذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.. وكما أن الأرض ترجف منه، والجبال تنهال، وتصبح كثبانا مهيلة من الرمال- كذلك السماء تنفطر به، أي تتشقق به، أي بسببه.
فالباء فى «به» .. للسببية وجاء الخبر عن السماء مذكرا «مُنْفَطِرٌ» ولم يقل «منفطرت» للإشارة إلى بنائها، أو سقفها، الذي يقع عليه التشقق والانفطار.. أي منفطر به بناؤها..(15/1265)
وقوله تعالى: «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» أي كان وعد الله تعالى واقعا لا محالة.. أي أن هذا الوعد ليس مجرد قول، بل هو قول، بتحول إلى فعل واقع، ومشاهد محسوس..
وقوله تعالى:
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» ..
هذه الآيات التي تحمل النذر، والبشريات معا، هى تذكرة، يجد فيها أولو العقول السليمة، تجاوبا مع الفطرة، فيذكرون بها الميثاق الذي أخذه الله عليهم وهم فى ظهور آبائهم، من الإيمان به، والإقرار بربوبيته ووحدانيته، كما يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى!!» (174: الأعراف) .
وقوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» - إشارة إلى أن الطريق إلى الله مفتوح لكل من يريد الاتجاه إليه، فليس هناك من يحول بين الإنسان وبين اتصاله بربه، كما أنه ليس هناك من يحمل الإنسان حملا على أخذ هذا الطريق.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) ..(15/1266)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
الآية: (20) [سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
التفسير:
قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ..» الآية بهذه الآية المباركة تختم السورة الكريمة، فيلتقى ختامها مع بدئها، الذي كان دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم بقيام الليل إلا قليلا، أو نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف، وقد امتثل النبي أمر ربه، فقام من الليل ما شاء الله أن يقوم، فى اطار هذه الحدود التي حددها الله سبحانه وتعالى له، فقام أحيانا الليل كله، وقام أحيانا الليل كله إلا قليلا منه، وقام أحيانا أخرى نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف..
وفى هذا الختام، يتلّقى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، هذا الخبر المسعد له، وذلك بأن الله سبحانه قد تقبل منه قيامه، وأنه سبحانه سيجزيه على طاعته، وامتثاله أمر ربه- بأن يخفف عنه هذا التكليف الشاق عليه، وعلى تلك الجماعة من المؤمنين، التي تأسّت بالنبي، وقامت الليل مثله..
فقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» ليس المراد منه الإخبار بعلم الله، وإنما المراد بهذا الخبر ما يترتب على وقوعه، وهو الجزاء الذي يستحقه المخبر عنه، بسبب وقوع ما أخبر به عنه..
وقوله تعالى: «أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ» . هو بيان شارح لما(15/1267)
أمره الله سبحانه وتعالى به من قيام الليل فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» - فقوله تعالى:
«أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» أي أقرب إلى ثلثى الليل- يدخل فيه الليل كله إلا قليلا.، كما يدخل فيه مازاد على النصف.. فإن أدنى من ثلثى الليل، يحتمل طرفى الزيادة والنقص من الثلثين، فما زاد عن الثلثين قليلا، يعتبر أدنى منهما من جهة، كما أن ما نقص عنهما قليلا، يعد أدنى منهما من جهة أخرى..
وأما قوله تعالى «وَنِصْفَهُ» فهو يقابل ما جاء فى قوله: «نِصْفَهُ» المذكور فى أول السورة..
وأما قوله تعالى: «وَثُلُثَهُ» فهو يقابل قوله تعالى: «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا» أي انقص من النصف قليلا..
وقوله تعالى: «وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» هو معطوف على فاعل:
«تَقُومُ» أي تقوم أنت، ويقوم طائفة من الذين معك، أي من الذين آمنوا وأصبحوا معك، لا عليك..
وفى هذا ما يشير إلى أن قيام الليل لم يكن فرضا على المؤمنين، ولا واجبا، وإنما كان الذين قاموا الليل مع النبي جماعة من المؤمنين، لا كل المؤمنين، تأسّوا بالنبي، دون أن يدعوا إلى هذا القيام، وإلا لو كان فرضا الزم المسلمين جميعا، ولكان الذين لم يقوموا الليل، آمنين، غير مؤمنين، الأمر الذي لم تشر إليه الآيات، من قريب أو بعيد.:
أما النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فقد كان قيام الليل فى أول رسالته- فرضا عليه وحده، دون المؤمنين، لأنه مكلف بمهمة لم يكلّف بها(15/1268)
أحد غيره، وإن هذه المهمة شاقة ثقيلة تحتاج إلى دربة ومران على احتمال الصعاب والمشقات، كما أنها تحتاج إلى رصيد كبير من الزاد الذي يتزود به من قيامه الليل، وترتيله القرآن.
ثم إنه بعد أن بدأت الدعوة الإسلامية، تأخذ طريقها العملي، ويواجه بها النبي قومه- رفع الله سبحانه وتعالى عن النبي عبء قيام الليل، فجعل ذلك أمرا على سبيل الندب والاستحباب، وفى أي وقت وقدر من الليل، كما يقول سبحانه: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (79: الإسراء) ..
قيل إنه كان بين نزول أول المزمل وما حملت إلى النبي من أمر بقيام الليل، وبين هذه الآية الأخيرة من السورة، التي جاء فيها حكم التخفيف بقراءة ما تيسر من القرآن- كان بين نزول أول السورة وآخرها عشرة أشهر، وقيل سنة، كما يروى ذلك عن السيدة عائشة رضى الله عنها، وقيل إنه كان بينهما عشر سنين!!.
ونحن نميل إلى الرأى الثاني وهو القول بعشر سنين..
وذلك لأمور:
أولها: أن مدة عشرة أشهر أو سنة، غير كافية فى التدريب على حمل هذا العبء الثقيل الذي سيحمله النبي، فى تبليغ الدعوة الإسلامية، وأن ما ينتظر النبي فى الدور المدني من اتصال الحرب بينه وبين المشركين واليهود، لا تدع له فرصة لسهر الليل الطويل.. على خلاف ما كان عليه الأمر فى مكة، حيث كان لقاء النبي مع آيات ربه بالليل، هو الزاد الذي يعيش عليه خلال تلك المدة.(15/1269)
وثانيها: أن المواجهة بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وبين المشركين فى مكة، كانت مواجهة كلامية لم تخرج إلى حد القتال.. فالدور المكي من الدعوة كان كله حربا من جانب واحد، هو جانب قريش، لم يؤذن المسلمين بعد فيه بالقتال، لأنهم لم يكونوا يملكون فى مكة القدرة على التجمع، والتحرك، كما كانوا لا يملكون وسائل القتال وعدده..
وثالثها: فى قوله تعالى: «وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الآية نزلت والمسلمون كانوا قد أوشكوا أن يكونوا قوة مقاتلة تلتقى مع المشركين فى ميادين القتال.. وأن هؤلاء الذين كانوا يقومون الليل تأسيا بالنبي، كانوا يشاركون فى هذه المعارك، الأمر الذي يجعل من قيام الليل عبئا آخر إلى أعباء الحرب، فكان التخفيف عن النبي، وعن المتأسّين به فى قيام الليل، أمرا مطلوبا فى تلك الحال- أي حال التحام المسلمين مع المشركين واليهود فى القتال، وذلك فى العهد المدني قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» - أي يضبط زمن كل منهما، فى تكوير أحدهما على الآخر، فيطول هذا، ويقصر ذاك.. «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) أي حسابا وتقديرا..
قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» أي علم الله سبحانه وتعالى أنكم لن تحصوا أوصاف الثناء عليه سبحانه وتعالى مهما طال قيامكم بالليل.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله، مناجيا ربّه: «سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا الذي ذهبنا إليه، هو المعنى الذي نستريح له.. ولم نجد أحدا من المفسرين قد ذهب إلى هذا الرأى، وإنما كانت آراؤهم كلها تدور حول(15/1270)
معنى واحد، هو أن الله سبحانه علم أنكم لن تقدروا على إحصاء الليل وتحديد مواقيته، ومعرفة متى يكون ثلث الليل أو نصفه، أو ثلثاه؟ .. أما النهار فإنه من الممكن ضبط أجزائه، ولهذا عاد الضمير فى «تحصوه» على الليل وحده دون أن يعود عليه هو والنهار.. هكذا يقولون!! وهذا المعنى الذي يذهب إلى معنى العجز عن إحصاء أجزاء الليل- وإن كان له مفهوم وقت نزول القرآن، حيث لم تكن هناك المقاييس الزمنية المعروفة اليوم، كالساعة ونحوها، فإن هذا المفهوم الآن غير واقع.. والقرآن الكريم حكم قاض بالحق المطلق، وشاهد ناطق بالصدق المصفّى، أبد الدهر..
«لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» .. ثم إن إحصاه الليل، وتقدير وقته، من الممكن أن يتحقق حتى فى زمن نزول هذه الآية، وذلك برصد النجوم، وتحديد منازلها، وقد كان العرب على علم بهذا، وأنّ نظرة من أحدهم إلى مواقع النجوم فى السماء، كان يعرف بها أين هو من الليل؟ وماذا ذهب منه؟ وماذا بقي..؟
ومن إعجاز القرآن الكريم أنه يتسع لمفاهيم الحياة كلها فى كل زمان ومكان.. وعلى هذا يمكن أن بتوارد على قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» أكثر من مفهوم، وكل مفهوم، منها يسدّ حاجة الناس فى عصرهم، وما بلغته مداركهم من العلم.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» خبرا عن الله سبحانه وتعالى، ويكون قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» خبرا ثانيا أي والله يقدر الليل والنهار، والله علم أن لن تحصوه أي تبلغوا حق الثناء عليه.. ويجوز أن يكون قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» صلة لموصول محذوف، هو(15/1271)
صفة لله، بمعنى والله المقدر لليل والنهار.. ويكون قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» خبرا للفظ الجلالة.. بمعنى: والله المقدر لليل والنهار علم أن لن تحصوا الثناء عليه، مهما امتد الزمن بكم، وطال الليل أم قصر..
وقوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ» .. الفاء السببية، أو التفريع.. أي علم الله أنكم لن تحصوا الثناء عليه «فَتابَ عَلَيْكُمْ» أي فقبل منكم هذا التقصير، قبول التائب من ذنبه، فيرفع عنه وزره، ويغسل ذنوبه كما يغسل الثوب مما علق به.
وفى التعبير عن رفع الحرج عن المؤمنين فى قيام الليل، على ما جاء فى قوله تعالى: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» - فى التعبير عن هذا بالتوبة، مع أن هؤلاء المؤمنين لم يأتوا ذنبا، إن كان منهم تقصير فى قيام الليل، لأن قيام الليل لم يكن فرضا عليهم، وإنما كان مندوبا ومستحبّا، اقتداء بالنبي، وتأسيّا به، وترسما لخطاه- فى التعبير عن هذا بالتوبة، إشارة إلى لطف الله بالمؤمنين، وإكرامه لهم، وأنهم- وإن كانوا يأتون أمرا لهم فيه سعة- فإن إلزام أنفسهم به، يقتضيهم أن يؤدوه كاملا على الوجه المرسوم له.. تماما كأفعال المتطوع، فى العبادات من صوم، وزكاة وكالنذر ونحوه.. فإن المؤمن إذا ألزم نفسه شيئا من هذا، وجب عليه أن يؤديه كاملا، مستوفيا جميع أركانه، آخذا كل صفاته.. إنه عقد عقده الإنسان مع ربه، وأن أي خلل فى أركان هذا العقد، هو نقض له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1- المائدة) ومن جهة أخرى.. فإن التهاون، والاستخفاف بما يأتيه المؤمن-(15/1272)
متطوعا- من عبادات، وإخلاء نفسه من شعور الجدّ فيها، والاحتفاء بها، بوصف أنه إنما يأتى به متطوعا، وأنه لا حرج عليه فى أن يؤديه على أية صورة- إن هذا من شأنه أن يذهب بجلال العبادة وقد سيتها، ويجعلها أشبه باللهو واللعب.. وأنه إذا كان المؤمن شأن فى أداء فرائض الله، فليكن هذا شأنه فى جميع ما يتعبد لله سبحانه وتعالى به، من فرائض وواجبات ونوافل..
فهو فى جميع أحواله، فى مقام التعبد لله، يستوى فى هذا ما كان فرضا، أو واجبا، أو تطوعا.. فإن العبادة هى العبادة، والمعبود هو المعبود، والعابد هو العابد..
فالفرائض، والواجبات، والنوافل، كلها فى مقام التعبد لله، على درجة واحدة، فيما ينبغى لها من جلال وتوقير، لأنها جميعها موجهة إلى الله سبحانه وتعالى.. والله سبحانه وتعالى طيّب لا يقبل إلا طيبا..
ففى قوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أعفى المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموه أنفسهم، وقد أعنتهم الوفاء به ورهقهم الاستمرار عليه.. فتاب الله عليهم، وأحلّهم من هذا الإلزام، وتجاوز عن تقصيرهم، توخرج بهم من الضيق إلى السعة، لطفا منه ورحمة، وإحسانا..
وقوله تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» .. هو تفريع على قوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ» .. أي ولأن الله قد تاب عليكم، فاقرءوا ما تيسر من القرآن، دون أن يكون ذلك مقيدا بقدر محدود من الليل، أو النهار، حتى تؤدوا ذلك القدر اليسير من التلاوة على الوجه الأكمل، وفى حال حضور جسدى، ونفسى وعقلى..(15/1273)
قيل إن قراءة ما تيسر من القرآن، يجزىء فيها قراءة مائة آية، وقيل أقل من هذا، إلى عشر آيات.. وفى هذا اليسر، ما يمكّن للمؤمنين- كما قلنا- من لقاء الله سبحانه وتعالى على ذكره، لقاء واعيا، يقظا، تنشط له أعضاء الإنسان كلها، ويحضره وجوده جميعه، فى غير تكاسل، أو فتور، أو غفلة.. وهذا يعنى أن العبادة ليست كيلا يكال بكمّه، ويقدّر بكثرته.. وإنما هى صلة روحية بالله، تكفى فى تحقيقها شرارة منطلقة من قلب سليم، فيتوهج بنور الحق، ويتصل بنور الله، الذي هو نور السموات والأرض..
وقوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..
هذا بيان للسبب الذي من أجله أحلّ الله المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموا به أنفسهم، وهو أنهم لن يستطيعوا أن يقوا بهذا الالتزام على وجهه، لأنه سيكون منهم من يمرض، ويكون منهم من يضرب فى الأرض ابتغاء الرزق، ويكون منهم من يقاتل فى سبيل الله.. وهذه كلّها معوقات تعوق عن أداء هذا الإلزام على وجهه.. وهذا من شأنه أن يوقع المقصّر منهم- بعذر من هذه الأعذار- فى حرج، ويقيمه مقاما قلقا مضطربا، ويوقع فى نفسه كثيرا من مشاعر الأسى والحسرة..
وهنا سؤال، هو:
إذا كان قيام الليل بالنسبة لمن قاموه من جماعة المؤمنين، هو على سبيل التطوع، فكيف يجد المؤمن حرجا فى أنه لم يقم الليل، لمرض، مثلا؟ أليس هذا عذرا، قد يسقط عنه بعض الفرائض، والواجبات، فكيف بالتطوع، والنافلة؟(15/1274)
ونقول- والله أعلم- إن ذلك وإن كان صحيحا، فإنه لا يخلى نفس المؤمن الحريص على دينه من الحسرة والألم أن فاته هذا الخير، وأقعده المرض عن اللحاق بإخوانه الذين حصّلوا هذا الخير.. تماما كمن يفطر رمضان لمرض، أو شيخوخة، وكمن يقعده العجز عن الجهاد فى سبيل الله.. إنه وإن كان قد خرج من باب الحرج، فإنه لم يدخل فى باب العابدين المجاهدين..!
ولهذا كان من رحمة الله، ولطفه، وإحسانه بالمؤمنين- أن يدعوهم جميعا إلى ساحة رضاه، وأن يمد لهم موائد الخير ليصيبوا منها جميعا، وليأخذ كلّ قدر طاقته، سواء أكان مريضا، أو ضاربا فى الأرض ابتغاء الرزق، أو مجاهدا فى سبيل الله.. فهذا القدر اليسير من تلاوة القرآن، يدخل المسلمين جميعا فى مقام الإحسان، ويتيح لهم جميعا أن يشاركوا فى التأسّى بالنبي فى قيام الليل..
وبهذا لا ينفرد ذوو الهمم العالية من المؤمنين الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» - لا ينفرد هؤلاء وحدهم بالتأسى بالنبي فى هذا المقام، وإن انفردوا بالمنزلة العليا، وأخذوا مكان الصف الأول فيه..
ومن جهة أخرى، فإن المخاطبين فى قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - المخاطبون هنا- والله أعلم- هم جماعة من المؤمنين بأعيانهم، وهم أولئك الذين قاموا مع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ما قام من الليل، أدنى من ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
فهذه الجماعة، هى التي جاءت الآية الكريمة هنا لتحلّها من هذا الالتزام الذي ألزمت به نفسها، حتى لقد تورمت أقدام كثير منهم، وكاد يؤدى بهم ذلك إلى التلف، وهم على إصرار بأن يمضوا فى طريقهم إلى غايته، مهما يصبهم من عناء ورهق..(15/1275)
فهؤلاء الجماعة من المؤمنين، لن يظلوا على تلك الحال التي هم عليها..
بل إنه ستعرض لهم أحوال أخرى، تلجئهم إلجاء إلى عدم الوفاء بهذا الالتزام، كالمرض، أو السفر في تجارة ونحوها، أو القتال فى سبيل الله، الذي سيشهده بعضهم إن لم يكونوا شهدوه فعلا.. ثم كان هذا التخفيف عاما لجميع المؤمنين، حيث يتاح لهم جميعا أن يأخذوا بحظهم من قيام الليل، ولو لحظات منه..
وفى ذكر القتال فى سبيل الله هنا، نبأ من أنباء الغيب، بما سيلقى المؤمنون على طريق الإيمان من جهاد فى سبيل الله، ومن قتال بينهم وبين المحادّين لله، والصادّين عن سبيل الله.. وذلك على أن الآية مكية، كما يقول بذلك بعض العلماء..
وقوله تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» هو توكيد لقوله تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» وفى هذا تطمين لقلوب المؤمنين الذين دعتهم الآية الكريمة إلى التحول عن هذا الموقف الذي ألزموه أنفسهم، من قيام الليل..
فهو أمر يكاد يكون ملزما بالتخفيف. فما أبرّ الله بعباده، وما أوسع رحمته لهم، فسبحانه، سبحانه، من ربّ برّ رحيم..!!
قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» .
أي وحسبكم مع قراءة ما تيسر من القرآن، وقيام ما تيسر لكم من الليل- حسبكم- مع هذا- أداء ما افترض الله عليكم من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة..
وقوله تعالى: «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» هو دعوة إلى التصدق والإنفاق تطوعا، دون أن يقدّر ذلك بقدر معين، فهو أمر موكول إلى الإنسان، وما تسمح به نفسه.. إنه أشبه بقراءة ما تيسر من القرآن، الذي يتسع لآيات معدودات، كما يتسع للقرآن كله.. فمن تصدق بالقليل، فقد أقرض(15/1276)
الله قرضا حسنا.. «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» - وإن كان لكل محسن جزاء ما قدم من إحسان، كلّ على قدر ما أعطى..
والقرض الحسن، هو الذي لا منّ فيه ولا أذّى، والذي يكون من طيبات ما كسب الإنسان، كما يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» (267: البقرة) وكما يقول سبحانه: «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (267: البقرة) .
وقوله تعالى: «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» - هو تعقيب على الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإقراض الله قرضا حسنا.. فهذه كلّها طاعات، وقربات يتقرب بها إلى الله، وهى كلّها خير مدخر لصاحبه عند الله، يجده عند الحاجة إليه يوم الحساب والجزاء- خيرا من هذا الخير، قدرا، وأعظم أجرا..
قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. أي ومع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقراض الله قرضا حسنا، فإن العبد لا يزال مقصرا فى حق ربه، مهما بلغ من طاعة، ومهما قدم من خير- فإن ذلك كله لا يفى ببعض نعم الله على الإنسان.. فليستشعر المؤمن هذا أبدا، وليكن على علم بأنه مقصر فى حق ربه، وأنه لا ملجأ له لتلافى هذا النقص، إلا طلب المغفرة، والرحمة من ربه.. والله سبحانه «غَفُورٌ رَحِيمٌ» يغفر للمستغفر، لأنه رحيم يرحم من طلب الرحمة لنفسه، وسعى إلى إقالتها من عثراتها..(15/1277)
74- سورة المدثر
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة المزمل.
عدد آياتها: ست وخمسون آية.
عدد كلماتها: مائتان وخمس وخمسون.. كلمة عدد حروفها: ألف حرف، وعشرة حروف.
مناسبتها لما قبلها كانت سورة «المزمل» دعوة لإيقاظ النبي، وتنبيهه إلى الحياة الجديدة التي سيبدأ رحلتها منذ اليوم الذي التقى فيه برسول الوحى في غار «حراء» مستفتحا رسالة السماء إليه بقوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» وقد أخذ النبىّ من هذا اللقاء ما أخذه، من قلق وجزع،. حتى لقد لزم يبته، وأرخى ستارا بينه وبين الحياة، لا يدرى ماذا ينتظره في غده! وجاء الوحى الذي لقيه في الغار، ليشرح له الموقف، وليبين له، أن الأمر الذي تلقّاه، ليس هو أن يقرأ ما يسمع منه وحسب، وإنما ذلك هو بدء قراءة دائمة متصله بينهما، ثم هو بدء قراءة بين «محمد» وبين الناس جميعا.. إنه منذ اليوم، هو رسول الله إلى الناس جميعا، وأنه محمّل برسالة من عند الله يؤديها إليهم.. وأداء هذه الرسالة يقتضيه بأن يرفع هذا الغطاء عنه، وأن يستيقظ استيقاظا كاملا، وأن يصحو صحوة لا يخالطهافتور، حتى يستطيع أن يحمل هذه الرسالة الكبرى، ويواجه الناس بها: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا»(15/1278)
ولقد استيقظ «المزمل» ورفع الغطاء عنه، وقام الليل إلا قليلا، يرتل ما نزل عليه من آيات ربه، ويعيش معها بوجوده كله، حتى يتمثل هذه الآيات حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وحتى يكون هو نفسه على مستوى هذه الآيات، كمالا، وروعة، وجلالا.. إنه الوعاء الحامل لآيات الله إلى الناس، وإن للوعاء وزنه، وقدره، وأثره، فى المادة الحامل لها، وفيما يرى الناظرون إليها منه، وما يقع في نفوسهم منها..
وإذ قد استيقظ «المزمل» وأخذ أهبته المهمة الجديدة التي كلف بها، وتزود لها بالزاد الذي يعينه عليها، ولم يبق إلا أن يؤذن له ببدء المسيرة إلى حيث يلتقى بالناس، ويؤذّن فيهم برسالة الله المرسل بها إليهم- إذ يصل الأمر إلى هذا الحدّ، فها هو ذا رسول الوحى، يطرق الباب على النبي، ثم يدخل عليه، فيجده متدثرا في ثيابه، قائما في محراب ذكره لله، وترتيله آيات الله، فيهتف به بقوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ» إنها دعوة إلى قيام غير القيام الأول الذي دعى إليه في قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» وإن المزمل غير المدثر.. فالمزمل نائم، متعب، مجهد.. والمدثر، متلفف فى ثيابه، فى حال قيام، أو قعود، وإن لم يكن مشمرا للعمل.. وأصل المدثر: المتدثر، فأدغمت التاء فى الدال، وكذلك الأصل الاشتقاقى للمزمل.
وإن المدثر ليقوم الآن لينذر، ويبلغ رسالة ربه إلى الناس، وليخلع الأردية المتدثر بها، وليلبس ثوب العمل.
لقد بدأت إذا الرحلة الجديدة.. فليقم النبي، وليشدّ رحاله، والله سبحانه وتعالى معه، يعينه، ويثبت أقدامه..(15/1279)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 7) [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
التفسير:
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.....»
هذه هى الوصايا التي يوصى بها ربّ السماء رسول الله، عند أول خطوة يخطوها برسالته إلى الناس..
إنه مدعوّ إلى أن يقوم بكل قواه، ليلقى الناس منذرا، غير ملتفت إلى عناد المعاندين، ولا متهيب كبر المتكبرين.. فالله- سبحانه- الذي يدعو الناس باسمه، هو أكبر من كل كبير.. فليذكر هذا دائما، فإنه إذا ذكر كبرياء الله، تضاءلت أمام عينيه كبرياء كل كبير.. وأن ينفض عن ثيابه غبار الدّعة والراحة، وأن يطهرها من غبار الزمن الذي عاشه بها قبل النبوة.. إنه منذ اليوم يلبس.
ثياب النبوة، إنها ثياب الجهاد، فى سبيل الله، ولبوس الحرب والقتال لأعداء الله.. وإنّ من شأن المحارب إذا أخذ لبوس حربه أن ينظر فيه، وأن يصلح منه ما يحتاج إلى إصلاح، حتى يكون صالحا للعمل، دفاعا أو هجوما.. وهذا هو تطهير الثياب.
ومما ينبغى أن يأخذ به النبي نفسه فى ثياب النبوة، أن يهجز الرجز، وهو كل ما يمسّ طهارة هذا الثوب، سواء أكان ذلك ناجما من الاحتكاك بالحياة،(15/1280)
والمجادلة مع المشركين، أو كان ذلك مما يعرض النفس من ضجر، وقلق ومعاناة، من تلقاء هذا العبء لذى تنوء بحمله الجبال.. وهذا هو هجر الرجز والفاءات في قوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» يرى كثير من النجاة وتابعهم في هذا كثير من المفسرين، أن هذه الفاءات زائدة..
ونحن على رأينا من أنه ليس هناك حرف زائد فى كتاب الله الكريم، وأن كل حرف أو كلمة، لها دلالتها التي لا يتم المعنى المراد فى القرآن إلا بها..
وهذه الفاءات، هى من نوع الفاء في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» فالفاء فى قوله تعالى: «فَأَنْذِرْ» واقعة فى جواب الأمر..
وكذلك الفاءات فى قوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» - هى واقعة فى جواب أمر مقدر، معطوف على قوله تعالى فى أول السورة: «قم» ..
وعلى هذا يكون المعنى فى ابتدائه على هذا الوجه:
يا أيها المدثر قم فأنذر الناس، وقم فكبر ربك، وقم فطهر ثيابك، وقم فاهجر الرجز..
ثم للاهتمام بالمفعول به، وقصر مر فعل الفاعل عليه، قدم هذا المفعول على الفعل، فى قوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» وحذف فعل الأمر «قم» المكرر فى الآيات الثلاث، اكتفاء بتقديره وراء حرف العطف «الواو» الذي يأخذ نصيبه معنى لا لفظا من الفعل «قم» فى قوله تعالى: «قم فأنذر»(15/1281)
وفى الحق أن هذا التخريج النحوي لا ينبغى أن ندخل به على آيات الله، فذلك مما لا يتفق ومقام الإعجاز القرآنى، الذي يزرى بقدره، أن يوزن بميزان الكلام البشرى، الذي يخضع الضرورات، ويقبل الخطأ والانحراف.. تماما كما يزرى بقدر الذهب أن يوزن بميزان الحصى، إن كان الحصى ميزان..
وحسبنا فى هذا المقام أن نقف بين يدى مثل هذه الآيات- التي يجد فيها النحاة مجالا القول- فنضرب صفحا عن النحو ومقولاته، ونفتح قلوبنا، وعقولنا إلى هذا النور الذي يتدفق من آيات الله وكلماته، فيكشف لنا معالم الطريق إلى مواقع الهدى، والخير والفلاح.
ونمود إلى موقفنا بين يدى آيات الله فنقول:
كذلك ينبغى أن يعلم النبي من أول الأمر، أنه رحمة مهداة من عند الله إلى عباد الله، كضوء الشمس، ونور القمر، وماء السحب.. وإنه مما يكدر هذه النعمة، أن يرى الناس منه استعلاء، أو تطاولا بتلك المنن التي سيقت إليهم على يده.. فإن النفوس تكره ممن يحسن إليها أن يمنّ عليها بإحسانه، ويذكّرها به، وكأنه يريد لذلك ثمنا، أىّ ثمن، من ولاء وخضوع، أو من جاه وسلطان «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» والأولى من هذا، أن يبذل المحسن إحسانه، من غير التفات إلى مواقعه ممن أحسن إليهم بالنسبة إليه، وما أحدثه ذلك فى نفوسهم من تصافر أمامه، أو تسبيح بحمده والثناء عليه..
والإحسان من النبي- كما قلنا- هو إحسان منظور إليه على أنه من الله مباشرة إلى الناس، وأن النبىّ هو حامل هذا الفضل، وموصّل هذا الإحسان إليهم..(15/1282)
وبهذه النظرة إلى رسالة النبي، من جهته هو، ومن جهة المرسل إليهم، تقوم الرسالة على ميزان صحيح، مستقيم..
فالرسول يرى في ضوء هذه النظرة، أن حسابه فى هذه الرسالة مع ربه، وأن جزاءه عليها، هو من الله سبحانه وتعالى.. وهذا يجعل من شأنه ألا ينظر إلى الناس نظرة المحسن المتفضل..
والمرسل إليهم يرون أن الذي يدعوهم إليه، هو ربهم، وليس بشرا مثلهم، وأنهم إذ يستجيبون المرسول، فإنما يستجيبون لله.. وهذا من شأنه أن يخفف كثيرا من مشاعر الغيرة والحسد عندهم، ويذهب بكثير من دوافع الحميّة والأنفة والاستعلاء التي تملأ صدورهم، والتي كثيرا ما تقوم حجازا بين الناس والناس، فى تبادل المنافع، وتقبل النصح والإرشاد..
وفى قوله تعالى: «تستكثر» - حال من فاعل «وَلا تَمْنُنْ» أي لا تمنن مستكثرا من المنّ.. وهذا يعنى أن بعض المنّ مسموح به فى هذا المقام، على أن يكون ذلك من أجل خدمة الدعوة ولحسابها، كأن يقول النبي لقومه:
«لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (23: الشورى) «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» (86: ص) ونحو هذا مما علمه الله سبحانه وتعالى النبي أن يقوله المشركين فى موقف الاحتجاج عليهم، ودفع التهم التي يتهمونه بها.. فهذا وإن كان فيه شىء من المنّ، إلا أن له ما يبرره من تصحيح أخطاء، وتلبيسات، وقعت فى نفوس المشركين، من مقام الرسول فيهم هذا المقام، وأنه فى نظرهم إنما يبغى من وراء هذا شيئا ما، وإلا فماذا يحمله على ركوب هذا المركب الصعب إليهم؟
ثم يكون ختام ما يوصى به النبي فى هذا المقام أن يتجمل بالصبر، وأن يوطن(15/1283)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
نفسه على احتمال الضر والأذى، فإن طريقه إلى قومه ملىء بألوان من المساءات والسفاهات التي يرصدونها له..
ولمن هذا الصبر على المكاره؟ إنه لله، وفى سبيل الله.. «وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» هذا، ويلاحظ أن الإنذار فى قوله تعالى: «قُمْ فَأَنْذِرْ» - قد جاء مطلقا من قيد الزمان، والمكان، والإنسان.. فحيث كان النبي فى أي مكان وأي زمان، فهو قائم بالإنذار، وحيث التقى بإنسان من أية أمة، وأي قبيل كان مطلوبا منه أن ينذره.. إنه رحمة عامة، تملأ الزمان والمكان، وتستوعب الناس جميعا في كل زمان، وكل مكان.
الآيات: (8- 30) [سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 30]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12)
وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27)
لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)(15/1284)
قوله تعالى:
«فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» التفسير:
الفاء في قوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» هى فاء الفصيح، ويراد بما بعدها الإفصاح عما تضمنه الكلام قبلها، من إشارات وتلميحات..
وهنا نجد أن قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» - نجد فى هذه الآيات دعوة آمرة من الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ بأن يقوم فى الناس منذرا، ولم تبين له الآيات ما ينذر به، فجاء قوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» .. جاء مفصحا عما ينذر به، وهو يوم القيامة، وما يلقى أهل الضلال فيه من شدائد وأهوال..
وقد يسأل سائل:
أبهذا النذير يبدأ الرسول رسالته، ولا يبدؤها بالدعوة إلى الإيمان بالله، الذي هو رأس الأمر كله، ومقطع الفصل فيما بين المؤمن والكافر؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو- كما قلنا فى أكثر من موضع- أن الإيمان بالحياة الآخرة، وبالحساب والجزاء، هو مضلّة الكافرين جميعا، إذ يبدو لهم أن بعث الموتى من قبورهم بعد أن يصبحوا رفاتا وترابا- أمر لا يمكن أن يقع، ولا تستطيع عقولهم تصوّره، وأن كثيرا من مشركى العرب كانوا يؤمنون بالله إيمانا مشوبا بالضلال، وباتخاذ معبودات يعبدونها من دون الله تقربا إليه بعبادتها، وأنهم كانوا- مع هذا- مستعدّين أن يقبلوا الإيمان بالله، وعبادته وحده، ولم يكونوا مستعدين أبدا، أن يقبلوا هذا الإيمان، وفى مقرّراته البعث والحساب والجزاء..(15/1285)
ولهذا نجد أكثر مواقف القرآن الكريم مع المشركين، هو فى الرّد على مقولاتهم فى البعث، وفى إنكارهم له، واستبعادهم لوقوعه.. فما أكثر ما ذكر القرآن الكريم من مقولاتهم فى هذه القضية، وما أكثر ما عرض عليهم من الأدلة والحجج، التي تبطل معها مدّعياتهم، وتسقط بها حججهم..
أما فى مقام وحدانية الله، فلم يكن للمشركين موقف كهذا الموقف من قضية البعث، ولم يكن لهم جدل طويل يديرونه مع النبىّ، كما كان ذلك شأنهم فى أمر البعث، وإن كلّ ما ذكره القرآن عنهم من حجة فى أمر الوحدانية، لا يعدو أن يكون دفاعا عن وجود آلهتهم واعتبارها ممثلة لله فى الأرض..
كل إله منها يصلهم بالله عن طريق خاص به.. ولم تتسع عقولهم القاصرة أن ترى الله غير مجسد فى هذه الدّمى، وتلك النّصب. فكان مما ذكره القرآن عنهم قوله تعالى: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ..» (5: ص) وقوله تعالى فيما يقولونه عن آلهتهم، وصلتها بالله: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) .. «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .
من أجل هذا بدأت رسالة النبىّ بالإنذار بهذا اليوم، يوم القيامة، وما فيه من عذاب أليم المشركين والكافرين، وأهل الضلال جميعا..
وهذا ما كان من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فإنه ما إن تلقّى هذا الأمر من ربّه، حتى دعا قومه إليه- كما تقول كتب السيرة الموثقة- وخطب فيهم قائلا: يا معشر قريش: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا «1» بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّفوننى؟» قالوا نعم: أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط.
قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب- لعنه الله-:
تبّا لك سائر اليوم.. ألهذا دعوتنا؟» فنزلت سورة اللهب.
__________
(1) أي عدوا مغيرا بخيله.(15/1286)
فهذا أول ما أنذر به النبي قومه.. وهو يوم القيامة..
وقوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» أي نفخ فى الصور، وسمى الصور ناقورا، لأنه ينقر فيه حتى يحدث صوتا.. فهو اسم آلة، مثل ساطور، وقادوم..
وقوله تعالى: «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ» هو جواب «فإذا» ، أي فإذا نفخ فى الصور، فعندئذ يطلع هذا اليوم العسير على الكافرين.
وقوله تعالى: «عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» .. هو توكيد لقوله تعالى:
«فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: «يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» «8: القمر» قوله تعالى:
«ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» .
هذا عرض لصورة من صور المنذرين الذين أنذرهم الرسول فسخروا منه ووقفوا جبهة متحدية له آخذة الطريق عليه إلى الناس وإلى تبليغهم رسالة ربه.
ويقال إن الموجّه إليه هذا التهديد، هو الوليد بن المغيرة.. وبهذا القول- إن صحّ- يكون الوليد هو الصورة التي يرى فيها كلّ مشرك معاند، ذاته ويشهد المصير الذي هو صائر إليه..
وقوله تعالى: «ذرنى» هو تهديد بالنكال والبلاء وباتجاه عذاب الله كله إلى هذا الإنسان الشقي الموجه إليه هذا الإنذار.. وقد أشرنا إلى معنى هذا عند تفسير قوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» ..
في سورة المزمل (11) وقوله تعالى: «وحيدا» هو حال من فاعل: «خلقت» وهو الله سبحانه(15/1287)
وتعالى، أو هو حال من المفعول المحذوف وتقديره الهاء المحذوفة في «خلقت» ويجوز أن يكون حال من المفعول به في «ذرنى» أي ذرنى وحيدا مع من خلقته.
وقوله تعالى: «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً» أي مالا كثيرا، متصلا، لا ينقطع..
وقوله تعالى: «وَبَنِينَ شُهُوداً» أي وجعلت له بنين حاضرين بين يديه، أي لم يموتوا، كما يموت كثير من البنين، بعد أن يوهبوا لآبائهم.
فهذا المال الذي أعطيته إياه، لا يزال بين يديه ممدودا متصلا، وهؤلاء الأبناء الذين بين يديه، حاضرون شهود لم يغيبوا عنه.. وفى هذا تهديد له بذهاب هذا المال، وفقد هؤلاء الأبناء، كما ذهبت أموال كثيرين، ومات أبناء كثيرين..
وقوله تعالى: «وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً» - أي هيأت له حياة رخيّة، بالمال، والبنين، الذين هما زينة الحياة الدنيا..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» ثم إن هذا الضال العنيد، على طمع أن أزيده مالا وبنين، وذلك بما زين له ضلاله بأنه إنما أوتى ما أوتى لفضيلة اختصّ بها، ولصفات استأثر بها دون الناس، وأنّ ما بين يديه قليل إلى ما يمنّى به نفسه الملوءة غرورا..
وقوله تعالى: «كَلَّا.. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» - هو رد على أمنيات هذا الضال، وتوقعاته بأن يزداد مالا وبنين.. وكلا.. بل إن ما معه سيأخذ منذ اليوم فى النقصان، حالا بعد حال، حتى يموت، ونفسه تتقطع حسرة على ما ذهب من ماله وولده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» أي سآخذه بالرهق والشدة حالا بعد حال، مصعّدا به من شدة إلى أشد منها..
وهكذا حتى يذهب كل ماله، وجميع بنيه، وهو يرى ذلك فيتقطع قلبه حسرة وكمدا..(15/1288)
قوله تعالى:
«إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» ..
فى هذه الآيات صورة معجزة من صور البيان القرآنى، الذي تعجز أدق ألوان البيان مجتمعة أن تتعلق بأذياله..
فبالكلمة، شعرا ونثرا، وبالصورة المتحركة والساكنة، والناطقة والصامتة، وبالموسيقى، ألحانا مفردة ومجتمعة.. وبكل ما عرفت الإنسانية من ألوان الإبانة والتعبير- لا يمكن أن تجىء- ولو من بعيد- بمثل هذه الصورة القرآنية التي صوّر بها هذا الإنسان الشقىّ العنيد، ظاهرا وباطنا، فلم تدع الصورة خلجة من خلجات ضميره، أو مسربا من مسارب تفكيره، أو همسة من همسات خاطره، إلا ألقت بها على قسمات وجهه، ونظرات عينيه، وحركات شفتيه، فكانت شخوصا ماثلة للعيان..
وانظر كيف كانت مسيرة هذا الضال العنيد، مع آيات الله، التي تليت عليه من رسول الله.. فلقد روى أن الوليد بن المغيرة- وكان ذا مكانة بارزة فى قريش، وأشدهم عداوة لرسول الله، وكان موسم الحج قد حضر- دعا سادة القوم إليه، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستفد عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا (يعنى رسول الله) فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيه، فيكذّب بعضكم بعضا.. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع!(15/1289)
قالوا: نقول: كاهن!! قال: لا، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو- أي النبي- بزمزمة الكاهن ولا سجعه..
قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون.. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته!! قالوا.. فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر.. لقد عرفنا الشعر كله، رجزه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.. قالوا فنقول: ساحر!! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو- أي النبي- بنفثه، ولا عقده! قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟، قال: «والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن أعلاه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: إنه ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه.. فتفرقوا عنه بذلك الرأى، وجعلوا يلقون أهل الموسم على كل طريق، ويقولون لهم: احذروا ساحرنا! وبروى عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة هذا، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى أن يرجع عن دعوته، وألا يشيع الفرقة والخلاف بين أهله وعشيرته، فتلا عليه النبي آيات من آيات الله، فرقّ لها قلب الوليد، وخرج من بين يدى النبي، وكأنه يحدث نفسه بأمر غير الذي جاء به. فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عمّ. إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا! قال: لماذا؟
قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله (أي لتنال مما عنده من طعام أو نحوه) فقال: لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا! قال:
فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، كاره لما يقول! فقال: وماذا أقول؟(15/1290)
فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى ... والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وإن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته!! قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر!! أي يأثره، ويقتفى فيه أثر غيره، فنزل قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات» وننظر فى سيرة هذا الضالّ العنيد مع آيات الله التي تلاها عليه رسول الله، وكيف كان يلقاها بتلك المشاعر المتضاربة المضطربة، التي تتأرجح به بين التصديق والتكذيب، والإيمان والكفر.. ثم تغلب عليه شقوته آخر الأمر، فإذا هو على رأس المكذّبين الضالين..
«إِنَّهُ فَكَّرَ» فيما تلى عليه من آيات الله.. فقد كان من شأن هذه الآيات أن تهزّ الجماد، وتذيب الصخر!.
«وَقَدَّرَ» أي جعل يزن ويقدّر كلّ ما كان يطرقه من أفكار.
«فَقُتِلَ.. كَيْفَ قَدَّرَ» دعاء عليه بالقتل، لهذا التقدير العجيب الذي قدّره.. إذ كيف يسوغ لمن فكر، أن يقيم ميزانا لأى كلام، مع كلمات الله؟ ..
«ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» توكيد الدعاء عليه بالقتل، وتوكيد للتعجب من توقفه بعد تفكيره، عن أن يقول قولة الحقّ فى آيات الله.
«ثُمَّ نَظَرَ» أي نظر فيما اجتمع له، من آراء مختلفة فى القرآن..
أهو شعر؟ لا ليس بشعر؟
أهو كهانة؟ لا ليس من الكهانة فى شىء..(15/1291)
أهو قول مجنون؟ كلّا فما قائله بمجنون، ولا فيما يقوله إلّا أحكم المنطق وأصوب القول..
وهكذا، تدور الخواطر فى نفسه، وتصطرع الآراء فى عقله، وهو عاجز عن أن يخرج من هذه العاصفة المزمجرة التي احتوته.
«ثُمَّ عَبَسَ» .. هذه انطباعة من أثر هذا الصراع الدائر فى كيانه..
لقد طرقه خاطر مخيف فردّه بهذا العبوس، والتجهم.. ولعل هذا الخاطر كان يدعوه إلى أن يستسلم للحق، ويخرج على قريش معلنا إيمانه بآيات الله، وتصديقه برسول الله!! ولكن هذا العبوس قد ردّ هذا الخاطر، وألقى به فى عباب الخواطر التي تموج فى صدره.
«وَبَسَرَ» أي زاد على العبوس تقطيبا، وزمّا لفمه، وتكشيرا عن أنيابه..
وهذه كلها تكشف عن حركات نفسية، تغدو وتروح، وتقبل وتدبر، فى صدر هذا الشقي العنيد، الذي يموج بهذه المشاعر المتضاربة.
«ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ» هذه هى الجولة الأخيرة فى هذا الصراع الذي كان محتدما فى نفسه.. لقد انهزم العقل، وانتصر الهوى، وغابت الحكمة، وحضر الطيش والنزق.. وانتهى الأمر بأن أعطى هذا الشقي العنيد ظهره للحقّ، وأخذته العزّة بالإثم، فأبى أن يتبع سبيل المؤمنين.
«فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» !! وبدلا من أن يقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .. قال «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» أي ما هذا الذي يتلوه محمد علينا- ما هو إلا سحر،(15/1292)
عجيب، لا بد أن يكون قد تلقاه عن خبير بالسحر وفنونه، واقتفى أثره فيه..
«إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» ..
ثم لقد ازداد الشقىّ العنيد جرأة على الحقّ، فبعد أن كان يلقاه خائفا لا يكاد يواجهه، فيقول عن القرآن: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» رافعا قدره عن أن يكون من كلام البشر- إذا هو بعد هذه القولة الآثمة، يخطو خطوة أخرى نحو الضلال، فيقول: «إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ!» .. إنه مجرد كلام، لا يصل إلى أن يكون سحرا! وهكذا الحق بسطوته وقوته، يكشف عن جبن أعدائه، حتى وهم- فى ظاهر الأمر- غالبون منتصرون..
هذا، ومن الملاحظ أن العطف بين أحوال هذا الشقي الأثيم، قد جاء بالحرف «ثمّ» الذي يفيد التراخي..
«ثُمَّ نَظَرَ.. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ.. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ» .
ففى كل حال من تلك الأحوال، عاش هذا الشقي زمنا، مقدّرا، ومفكرا، ثم إنه ما إن انتهى من هذا الصراع الذي يدور فى كيانه، وما إن أمسك بالكلمة التي يطلع بها على القوم، حتى بادر بإلقائها إليهم قبل أن تفلت منه، ويغلبه عليها ما يدور فى خاطره من كلام لا يقبلونه منه.. ولهذا جاء العطف بالفاء التي تفيد التعقيب دون تراخ، أو إمهال.. «فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» وكما أسرع الشقىّ بكلمة الكفر يجهر بها، قبل أن تفلت منه- كذلك أسرع إليه العقاب الذي يستحقه بسبب هذه القولة الفاجرة التي صدرت عنه.. فيجىء فى أعقابها قوله تعالى:
«سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» .(15/1293)
يجىء هذا الوعيد، الذي يحمل «سقر» إلى هذا الشقىّ، أو يحمله هو إليها، من غير حرف عطف أصلا، يفصل بينه وبين قوله الآثم، وكأنّ هذه النار التي سيصلاها، هى بعض هذا القول الخارج من فمه.. وإذا هذه النار مشتملة عليه.. تأكله، كما تأكل الحطب! و «سقر» هى جهنم، وقيل اسم من أسمائها، أو درك من دركاتها..
إنه لم يكن بين قول هذا الشقىّ، وبين الآية التي حملت إليه هذا الوعيد- لم يكن ثمة فاصل، لفظى أو تقديرىّ.. وهذا يعنى أن هذه الجريمة تحمل معها عقابها دائما، فلا ينفصل عنها بحال أبدا..
«وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ» .. استفهام يراد به الإشارة إلى أن المستفهم عنه شىء مهول، لا يمكن وصفه.. لأنه مما لم يقع فى حياة الناس أبدا..
«لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ» .
إنه وصف لسقر، بأفعالها، وما تترك من آثار.. أما ذاتها فلا يمكن تصورها..
ومن صفاتها، أنها لا تبقى شيئا إلا التهمته، وجعلته وقودا لها، كما لا تذر أحدا من أهل الضلال إلا ضمته إليها، وأذاقته بأسها، لا تدع منه ظاهرا أو باطنا إلا ذاق عذابها..
«لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» ..
أي أنها مغيّرة لألوان البشر، إلى لون الفحم، بما تلفح به وجوههم من لهيبها..
«عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» ..
أي على هذه النار، التي هى سقر، تسعة عشر من الزبانية، يقومون على(15/1294)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
حراستها، وتقليب الحطب المقدّم إليها من المكذبين والضالين، الذين يلقى بهم فيها، ليكونوا وقودا لها..
الآيات: (31- 56) [سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 56]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55)
وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)(15/1295)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» .
فى هذه الآية بيان لما أحدثه قوله تعالى فى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» - من تعليقات هازئة ساخرة من المشركين..
فكان من سمرهم الذي يسمرون به، هو الحديث عن هؤلاء التسعة عشر الذين يقومون على حراسة جهنم، وكيف يمكنهم أن يمسكوا الناس فيها، والناس أعداد لا حصر لها؟ إن قريشا وحدها كفيلة بأن تكفّ بأس هؤلاء الجند، أيّا كان بأسهم وقوتهم.. بل إن بعض هؤلاء الساخرين منهم ليقول: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم الاثنين!! فجاء قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» ليردّ على سخرية هؤلاء الساخرين، ويكبتهم بها. إن هؤلاء التسعة عشر ليسوا مجرد عدد، وإنما هم ملائكة.. وإنهم ليعرفون الملائكة، ويتخذون منهم أربابا يعبدونهم من دون الله.. فهل لهم بهذا الجند من جند الله يدان؟(15/1296)
وقوله تعالى: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» أي ما ذكر الله عدة هؤلاء الجند، وحصرهم فى تسعة عشر، دون أن يبلغوا العشرين، مثلا، ليكونوا عددا كاملا- ما ذكرهم الله، وحصر عددهم فى هذا العدد، إلا ليمتحن بذلك إيمان المؤمنين، وضلال الضالين، وقد كشف هذا الامتحان عن فتنة المشركين الذين اتخذوا من هذا العدد سبيلا إلى التفكّه، والتندر، والاستهزاء..
وقوله تعالى: «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً» إشارة إلى أن أهل الكتاب قد وجدوا أن ما أخبر به القرآن عن عدة أصحاب النار، من الملائكة مطابق لما عندهم من كتب الله.. كما أن المؤمنين سيزدادون إيمانا بما جاءهم من عند الله مصدقا لما فى الكتب السابقة..
وفى التعبير بالاستيقان فى جانب أهل الكتاب، وبازدياد الإيمان فى جانب المؤمنين، مراعاة لمقتضى الحال فى كلّ من الفريقين.. فأهل الكتاب- والمقصود به من أهل الكتاب هنا، هم أولو العلم منهم، الذين سلموا من الهوى المضل، الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم- فأهل الكتاب هؤلاء، يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن- يقينا بأن ما يتلقاه محمد، هو وحي من عند الله.. هذا إلى ما كان عندهم من علم، بهذا النبي، المبشر به فى كتبهم، والمبينة صفاته فيها..
وأما المؤمنون، فهم مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات، ومن بعد نزولها.. ولكنهم يزدادون إيمانا كلما تلقوا من آيات الله جديدا، يثبّت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون، هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب..
وقوله تعالى: «وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ» .
والذين أوتوا الكتاب هنا، هم مطلق اليهود والنصارى، وليس الذين(15/1297)
ذكروا من قبل، والذين هم خاصّة علماء أهل الكتاب.. وكذلك المؤمنون هنا، هم الذين لم يقع الإيمان بعد موقعا متمكنا من قلوبهم.. فهؤلاء وأولئك ليس من شأنهم أن يرتابوا بعد هذا الذي جاء فى آيات الله من أنباء الغيب عن عدة أصحاب النار، بعد أن تطابق هذا مع ما فى التوراة..
وقوله تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» - الذين فى قلوبهم مرض هم المنحرفون من علماء أهل الكتاب، الذين غلبهم الهوى على كلمة الحق أن ينطقوا بها، والكافرون، هم المشركون الذين مازالوا على شركهم.. فهؤلاء، وهؤلاء، يتخذون من قوله تعالى:
«عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» - مادة للاستهزاء، والسخرية.. كأن يقولوا مثلا: ما هذه التسعة عشر؟ ولماذا لم تكن عشرين؟ «ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وقد ردّ الله على تساؤلهم هذا بقوله سبحانه:
«كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» .
أي هذه الأمثال التي يضربها الله للناس، هى مضلة لبعض الناس، كما أنها هداية لبعضهم.. فمن نظر إليها بقلب مريض، وبصر زائغ، لم يروجه الخير والحق فيها، وارتد إلى الوراء مرتكسا فى متاهات الغواية والضلال.. ومن جاء إليها بقلب سليم، وعقل محرّر من الهوى- رأى الطريق القويم إلى الله، فسلكه، واستقام عليه.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» (26: البقرة) .(15/1298)
وقوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» هو ردّ على المستهزئين الساخرين، الذي اتخذوا من عدد التسعة عشر مادّة للاستهزاء والسخرية، حتى لقد بلغ بهم القول بأن الله لا يملك من الجند إلا هؤلاء التسعة عشر، ولو كان يملك أكثر منهم لجعلهم عشرين لا تسعة عشر.. وكذبوا وضلوا، فإن جنود الله لا حصر لها، ولا يعلم عددها إلّا هو سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: «وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» الضمير «هِيَ» يعود إلى «عدة» فى قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» ..
أي أن هذه العدة، هى موضع ذكرى، وعبرة الناس.. كما علم منها أهل الكتاب مطابقة ما جاء فى القرآن لما فى كتبهم، والتزام هذه الكتب جميعها هذا العدد، دون تبديل فيه، أو تحريف له، فيما حرّف أهل الكتاب وبدلوا، لأنه لا مصلحة لهم فى هذا التبديل، والتحريف.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى «سقر» فى قوله تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» ، ومع سقر الجنود القائمون عليها، وعدتهم تسعة عشر.. فسقر، والجنود القائمون عليها، هى ذكرى للبشر.
قوله تعالى:
«كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» .
«كلّا» هنا، نفى يحمل الرّدع والزجر، لأولئك الذين لم يجدوا فى تلك الآيات التي تحذرهم من النار، وتخوفهم من جنودها- لم يجدوا فى ذلك ذكرى وموعظة لهم.
وكلا، إنها ليست ذكرى للبشر، أي لمعظم البشر، إذ كان أكثر الناس على الضلال، وقليل منهم المهتدون، المؤمنون.(15/1299)
وقوله تعالى: «والقمر» قسم بالقمر.
وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» معطوفان على القمر، ومقسم بهما معه.. فهى ثلاثة أقسام، تجمع: القمر، والليل، والصبح.
وقد جاء القسم بالقمر مطلقا، دون ذكر حال من أحواله، أو صفة من صفاته.. إنه القمر، والقمر لا يسمى قمرا إلا مع تمامه وكماله..
وجاء القسم بالليل مقيدا بظرف خاص، وهو إدباره، وتولّيه.. على حين جاء القسم بالصبح حال إسفاره، وظهوره..
وقد فرّق النظم القرآنى المعجز بين الحالين، حال إدبار الليل، وحال إسفار الصبح.. إنها لحظة واحدة، يلتقى عندها إدبار الليل، وإسفار الصبح، وقد وزّع النظم القرآنى هذه اللحظة، فجعل بعضا منها يذهب مع الليل الذاهب، وبعضا منها، يتراءى خلف الصبح المقبل.. ولهذا جاء لفظ «إذ» مع إدبار الليل «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» .. وهذا يعنى الزمن الماضي من تلك اللحظة.. فلقد أدبر الليل، ومضى، وذهب سلطانه الذي كان قائما على تلك الرقعة المبسوط عليها من هذا العالم.. أما الصبح، فهو وليد جديد، يخطو خطواته نحو المستقبل، فهو زمن ممتدّ، ولهذا جاء الظرف المتلبس به بلفظ «إذا» التي تدل على الزمن المستقبل.. «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» !! ولعل سائلا يسأل هنا:
وماذا وراء الجمع بين هذه الأقسام الثلاثة: القمر، والليل المدبر، والصبح المسفر؟ إن القرآن الكريم لا يجمع بين هذه العوالم إلّا وهو يشير من هذا الجمع إلى ملحظ، فيه عبرة، وعظة- فماذا يكون هذا الملحظ؟!(15/1300)
نقول- والله أعلم- إن القسم بالقمر، والليل المدبر، والصبح المسفر، هو إشارة إلى مبعث النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وإلى ما بين يدى مبعثه وما خلفه، من مجريات الأحداث، التي تطل على الناس..
فالقمر- والله أعلم- هو إشارة إلى الرسالات السماوية التي سبقت عصر النبوّة.. فقد كانت تلك الرسالات هى النور، الذي يشعّ فى وسط هذا الظلام المخيم على العالم، وأن نور هذا القمر لا يمنح الناس رؤية كاشفة، وإن أراهم مواقع أقدامهم. وألقى فى قلوبهم شيئا من الطمأنينة والأنس، ثم إنه لا يلبس أن يختفى، ويتحول عن الناس..
وإسفار الصبح هو إيذان بمبعث النبي، وأنه الشمس التي ستشرق على هذا الوجود، وأن أضواء شمس النبوة قد أزاحت ظلمة الليل عن هذا الوجود، وأنه سرعان ما تطلع الشمس فتملا الوجود ضياء، وتكسو العالم حلّة من بهاء وجلال، حيث تنكشف حقائق الأشياء، وتسفر عن وجهها لكل ذى بصر يبصر، ومن شمس النبوة المحمدية استمدّت الرسالات السابقة نورها من ضوء هذه الشمس، قبل أن يستقبل الوجود مطلع هذه الشمس، فلما طلعت محت بضوئها آية القمر، وكان على من يريدون أن يسيروا على هدى ونور أن يستقبلوا هذا النور، وأن يملئوا أعينهم به.
قوله تعالى:
«إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ» .
الضمير فى إنها يعود إلى «سقر» .. وهى إحدى منازل الكافرين والضالين يوم القيامة.. فإن جهنم- أعاذنا الله منها- لها سبعة أبواب، ولكل باب أهله الذين يدخلون منه إلى النار المعدة لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (43- 44: الحجر) .(15/1301)
وقوله تعالى: «نَذِيراً لِلْبَشَرِ» تمييز لإحدى الكبر، أي أن سقر هى إحدى الكبر من جهة الإنذار والتخويف بها.. أي أنها من الآيات الكبرى، التي من شأنها أن تهز النفوس من أقطارها، وأن تبعث فى القلوب الخشية والفزع من لقاء هذه الأهوال التي تطلع بها جهنم على أهلها، وفى هذا أبلغ نذير لمن يبصر النذر وينتفع بها..
قوله تعالى:
«لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ..
هذا بدل من قوله تعالى «للبشر» أي أن سقر هى نذير لمن شاء أن يتقدم فيؤمن بالله، ويمضى على طريق الحق والهدى، كما أنها نذير لمن شاء أن يتأخر فيرتد على عقبه، ويغيب فى متاهات الكفر والضلال..
قوله تعالى:
«كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ..»
أي كل نفس مرتهنة بما كسبت، مأخوذة بما عملت، مجزية بالخير خيرا، وبالسوء سوءا..
قوله تعالى:
«إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هو مستثنى من قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» .. فهذا حكم عام على الناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين، حيث ترتهن كل نفس بما عملت، ثم يعود الله سبحانه وتعالى يفضله على المؤمنين، أصحاب اليمين، فيدخلهم الجنة.. ولو أن دخول الجنة كان مرتهنا بالأعمال، لما دخل أحد الجنة(15/1302)
ولكن الإيمان بالله، والأعمال الطيبة فى ظلّ الإيمان، من شأنه أن يجعل المؤمن أهلا لإحسان الله إليه، ودعوته إلى الجنة، يتبوأ منها حيث يشاء..
وفى الحديث: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟.
قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» ..
وقوله تعالى: «فِي جَنَّاتٍ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هم فى جنات.
وقوله تعالى: «يَتَساءَلُونَ» حال من أحوال المؤمنين فى الجنة.
وقوله تعالى: «عَنِ الْمُجْرِمِينَ» تتعلق بقوله تعالى: «يتساءلون» أي أن تساؤلهم فى تلك الحال هو تساؤل عن المجرمين، أهل النار.
وقوله تعالى: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هو مما تساءل به أهل الجنة، عن أهل النار، حيث اطلعوا عليهم، فسألوهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ؟ أي ما نظم جمعكم فيها، وشدكم إليها، كما يشد الخرز في سلكه؟.
وأهل النار، وأهل الجنة، يرى بعضهم بعضا، ويحادث بعضهم بعضا..
أصحاب النار.. يصرخون، ويصرخون، وأصحاب الجنة يحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء الذي يرون كثيرا من أهلهم، وعشيرهم، وصديقهم، بتقلبون على جمره..
وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه:
«وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» (50: الأعراف) .(15/1303)
قوله تعالى:
«قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» .
هذا هو الجواب الذي أجاب به أصحاب النار أصحاب الجنة عن تساؤلهم عنهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ؟
إن الذي سلكهم فى سقر، هو أنهم لم يكونوا من المصلين، أي لم يكونوا مؤمنين، لأنهم لو كانوا مؤمنين، لكانوا من المصلين ... وأنهم لم يكونوا يؤدون حق عباد الله فيما خولهم الله من نعم، فلم يطعموا المساكين، ولم يخرجوا زكاة أموالهم، التي منها يطعم المسكين.. وأنهم يخوضون مع الخائضين، فلم يتأثّموا من منكر، ولم يتحرجوا من فاحشة.
بل كانوا مع كل جماعة ضالة، وعلى كل مورد آثم.. وأنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، أي يوم القيامة، فلم يؤمنوا بالبعث، والحساب، والجزاء..
هذا، وليس من اللازم أن تكون هذه المآثم جميعها مجتمعة فى كل واحد منهم.. فقد يكون فى أهل النار من تجتمع فيه هذه المآثم كلها، وقد يكون فيهم من تلبسّ بمأثم منها، فيدخل النار.. وعلى هذا يمكن أن تكون إجاباتهم تلك مشاعة فيما بينهم، كما يمكن أن يكون لكل أهل مأثم جوابهم الذي كشفوا به عن دخولهم النار بسببه..
وعلى أىّ فإن أىّ مأتم من تلك المآثم يخرج صاحبه من عداد المؤمنين، وبضيفه إلى جماعة المجرمين.. والمجرم، هو الكافر، كما يقول سبحانه:(15/1304)
«إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (74: طه) ..
قوله تعالى:
«حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» - إشارة إلى أنهم ظلموا متلبسين فى حياتهم بهذه المآتم حتى أتاهم اليقين، وهو الموت، فماتوا على ما هم عليه من ضلال..
فلم تختم أعمالهم بالتوبة والعمل الصالح..
وسمّى الموت يقينا، لأنه عند الموت يعاين المحتضر حقيقة ما كان يكذب به، من أمور الحياة الآخرة.. ومنه قوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (99: الحجر) ..
روى أن أم العلاء الأنصارية، قالت: «لمّا قدم المهاجرون المدينة، اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا من المهاجرين، «عثمان بن مظعون» فى السكنى، فمرض، ثم توفّى، فجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت: «رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى أن قد أكرمك الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقلت: لا، والله ما أدرى!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، وإنى لأرجو له الخير، والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» ! فقول الرسول الكريم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، يشير إلى أن عثمان بن مظعون، هو الذي يعرف المصير الذي صار إليه، بعد أن مات، وكشف عن عينيه الغطاء.. فالموت هو الذي جاء بالخبر اليقين، ولهذا(15/1305)
سمى الموت باليقين، لأنه يرد بالإنسان مورد الحق..
قوله تعالى:
«فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. هو تعقيب على ما ذكر المجرمون من جرائمهم التي ألقت بهم فى جهنم.. وهذا التعقيب هو من أصحاب الجنة الذين سألوهم، وتلقوا منهم جواب ما سألوا عنه، فكان تعقيبهم على هذا بقولهم:
«فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. فتكون الفاء هنا واقعة فى جواب شرط محذوف تقديره: «وإذن فهم كافرون، وإذن «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. لأن الكافرين لا شفيع لهم، على حين أن عصاة المؤمنين يشفع لهم من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، ممن رضى الله عنهم، وارتضى شفاعتهم فيمن يشفعون لهم.
قوله تعالى:
«فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟» .
استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين إعراضهم عن التذكرة، وهو القرآن الكريم، الذي يذكرهم بالله، ويكشف لهم الطريق إليه.
وقوله تعالى: «معرضين» حال من الضمير فى «لهم» ..
وهذا الاستفهام فى مقام غير المقام الذي كان فيه هؤلاء الكافرون فى جهنم..
إنهم هنا فى الدنيا- بعد أن عرضوا على جهنم، وجاءهم الخبر(15/1306)
اليقين هناك بأن لا شفيع لهم من عذابها.. فإذا أعيدوا إلى الدنيا بعد هذه الرحلة الجهنمية لقيهم هذا السؤال: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» ؟ أي إذا كان هذا هو مصير الكافرين.. فما لهم- وهم الآن فى فسحة من أمرهم- يعرضون عن آيات الله التي تفتح له باب النجاة من هذا الكرب العظيم؟.
«كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .
حال من أحوالهم فى إعراضهم عن القرآن، ونفورهم منه.. إنهم ما إن يسمعون آيات الله تتلى، حتى يفزعوا وينفروا كما تنفر الحمر، وقد اشتمل عليها الذعر، حين رأت قسورة أي أسدا، مقبلا عليها.. وسمى الأسد قسورة، أخذا من القسر، والقسوة..
وفى تشبيههم بالحمر المستنفرة من بين سائر الحيوانات التي إذا رأت الأسد فرت من وجهه- لأن الحمار يمثل الغباء والبلادة من بين سائر الحيوان، وبه يضرب المثل فى هذا، كما يقول سبحانه: «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» (5: الجمعة) .
وفى إسناد الاستنفار إلى تلك الحمر فى قوله تعالى: «مستنفرة» بدلا من أن يسند الاستنفار إلى من استنفرها، فيقال: «مستنفرة» - فى هذا إشارة إلى أن ذلك طبيعة غالبة عليها، وأن من شأنها النفور دائما، دون أن يكون هناك سبب لنفارها.. إنها ذات طبيعة وحشية، لا تأنس فى ظلّ من سكينة أبدا..
وفى وصف الحمر بأنها «مستنفرة» بدلا من «نافرة» - إشارة أخرى إلى أنها تستدعى هذه الطبيعة الكامنة منها، وتهيجها وتحركها من غير سبب يدعو إليها، كما أن بعض هذه الحمر يستدعى بعضا إلى هذا النفور، فتمضى فى طريقها عليه، من غير دافع إلا هذا التقليد الأعمى.(15/1307)
وهذه حال تمثل أهل الضلال أصدق تمثيل، إنهم وهذه الحمر المستنفرة على سواء.. ففى طبيعتهم نفور ملازم كل دعوة إلى خير، وهم دائما يتبعون أول ناعق يدعوهم إلى النفور من وجه الحق..
وشبه القرآن بالقسورة، لما للقسورة من هيبة، تملأ القلوب، وتملك المشاعر.. ثم هو إلى مهابته وسطوته، بعيد عن الدنايا، عف عن القذر لا يأكل الميتة، ولو مات جوعا..!
ولم يسمّ القرآن الأسد أسدا، وإنما سماه «قسورة» ، ليكسوه بهذا الاسم ذى الجرس الموسيقى القوى هيبة إلى هيبة، وعظمة، إلى عظمة، الأمر الذي لا يحققه لفظ أسد، الضامر، المبتذل على الأفواه لكثرة تردده.
قوله تعالى:
«بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» ..
هو إضراب عن دعوتهم إلى ترك الإعراض عن القرآن، حتى يكون لهم منه ذكر وموعظة..
وكلّا فإنهم لا يستجيبون لهذه الدعوة، لأن كلّا منهم يريد أن يكون له كتاب من عند الله، كهذا الكتاب الذي يدعوهم إليه رسول الله..
وهذا ما يشير إليه سبحانه فى قوله على لسانهم: «وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» (134: الأنعام) .. وهذا جهل وغباء لا يستقيم إلا على منطق الحمر! قوله تعالى:
«كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» .
أي أنهم لن يؤتوا هذه الصحف أبدا.. وأنهم لا يؤمنون بالآخرة أبدا،(15/1308)
ولا يخافون عذابها، ولا يعملون على توقّى هذا العذاب..
وهؤلاء هم المشركون الذين ماتوا على الشرك، ولم يقبلوا دعوة الإسلام، وهذا هو حكم الله عليهم، وقضاؤه فيهم.
قوله تعالى:
«كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ» ..
الضمير فى «إنه» القرآن الكريم، الذي أشارت إليه الآية السابقة:
«فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» .. وإنه ليس عن شأن هذه التذكرة أن تحمل هؤلاء المشركين حملا على الخوف من عذاب الآخرة.. وليس القرآن إلا تذكرة، للغافلين، وتنبيها للشاردين..
قوله تعالى:
«فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» أي فمن شاء ذكر ربه بهذا القرآن.. إنه أمر مردّد إلى الإنسان نفسه، وإلى إقباله على ذكر الله، أو إعراضه عنه.. ولو كان الأمر على سبيل القهر والإلزام لما كان ثمّة امتحان وابتلاء تنكشف به أحوال الناس، وتختلف فيه منازلهم، ولكانوا جميعا على منزلة سواء.
قوله تعالى:
«وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» .
هو دفع لما قد يقع من مفهوم خاطئ لقوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» حيث أطلق مشيئة الإنسان.. ومشيئة الإنسان ليست مطلقة، بل هى مقيدة بمشيئة الله..
ونعم.. الإنسان له مشيئة يجدها فى كيانه، وفيما يأخذ أو يدع من أمور، وفيما يقبل أو يرفض من أعمال.. ومع هذا، فإن تلك المشيئة مرتهنة بمشيئة الله،(15/1309)
مقيدة بها، جارية مع القدر الذي أرادته مشيئة الله.. فهى مشيئة مطلقة فى داخل الإنسان، مقيدة من خارج بالمشيئة الإلهية العامة الشاملة..
وقوله تعالى: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» - أي هو سبحانه أهل لأن تتّقى محارمه، ويخشى عقابه، وهو سبحانه أهل المغفرة، يرجى عنده غفران الذنوب، لمن أناب إليه، وطلب الغفران منه.. وفى هذا إشارة إلى أن مشيئة الله العامة المطلقة، عادلة، رحيمة، منزهة عن الجور والتسلط.. إنها مشيئة الخالق فى خلقه. فالخلق فى ضمان هذه المشيئة، فى رحمة الله، أيّا كانت مشيئة الله فيهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» (251: البقرة) . ويقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (143: البقرة) وفى الحديث: «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» .(15/1310)
75- سورة القيامة
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة القارعة.
عدد آياتها: أربعون آية.
عدد كلماتها: مائة وتسع وتسعون.. كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة واثنان وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
جاء فى ختام سورة «المدثر» قوله تعالى: «كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» جاء كاشفا عن العلة التي نجم عنها شرك المشركين، وكفرهم بآيات الله، وتكذيبهم لرسول الله.. وتلك العلة هى أنهم لا يؤمنون بالبعث، ولا يتصورون إمكان الحياة بعد الموت، ومن ثم فإنهم لا يعملون حسابا لما وراء حياتهم الدنيا، ولهذا أطلقوا عنان أهوائهم، وأسلموا زمامهم للشيطان، يعيشون كما تعيش السائمة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) .
ولو كان هؤلاء المشركون يؤمنون بالآخرة، ويتصورون إمكان الحياة، بعد الموت، لكان لهم نظرة إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، ولعملوا حسابا ليوم يلقون فيه ربهم، ويجزون فيه على أعمالهم.
وقد جاءت سورة القيامة، تعرض وقوع هذا اليوم، يوم القيامة، فى صورة واقع مشهود، له ذاتية معترف بها، فيقسم به الله سبحانه وتعالى، كما يقسم بالشمس، والقمر، والليل، والضحى، والعصر.. وغير ذلك من آياته المشهودة للعالمين.(15/1311)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 15) [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
التفسير:
قوله تعالى:
«لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» .
قلنا فى تفسير هذه الأقسام المنفيّة، إن المراد بها هو التلويح بالقسم، دون إمضائه، إذا كان الأمر المقسم عليه أوضح من أن يدل عليه، وأن يؤكد فى الدلالة عليه بقسم.. إنه ينزل منزلة البديهيات، وتوكيد البديهيات لا يزيدها عند الذين لا يؤمنون بها إلا إنكارا، واستبعادا..
والتلويح بالقسم، إشارة إلى أنه لو كان الأمر يحتاج إلى قسم لمضى القسم إلى غايته، ولما سلط عليه النفي الذي حال بينه وبين أن يقع على المقسم عليه..(15/1312)
ففائدة هذا القسم المنفي أنه يقرر حقيقة، لا يرى لها وجه، لو جاء الأمر ابتداء من غير هذا القسم المنفىّ.. فالقسم المنفي هنا يكشف عن حال المواجهين بالقسم، وأنهم يكذبون بالبدهيات، ويعاندون فى المسلّمات، وأنه لو كان فى التوكيد بالقسم مقنع لهم، لوقع القسم، ولكن يستوى عندهم الأمران، التوكيد وغير التوكيد.. إنهم على أي الحالين لا يؤمنون بما يلقى إليهم من أخبار على لسان النبي، بما يوحى إليه من ربه.
قوله تعالى:
«وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» معطوف على يوم القيامة..
والنفس اللوامة، هى النفس التي ترجع على صاحبها باللائمة لما يقع منه من إثم، وما يقترف من ذنب.. وهذا التلويم من شأنه أن يغيّر من وضع الإنسان القائم على الإثم، والمتجه إلى المنكر.. إنه قوة معارضة لهذا التيار الذي يدفع به إلى المنكر، وقد يتحول هذا التيار إلى الجهة المضادة لطريق الغواية المتجه إليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60- 61:
المؤمنون) فمع وجل القلوب، يقع فى النفس ما يقع من لوم على ما فرط منها.
وقرنت النفس اللوامة بيوم القيامة، لأن ثمرة هذا التلويم، إنما تظهر آثاره يوم القيامة.. فالنفس اللوامة إنما يحملها على التلوم، الخوف من الآخرة، ومن لقاء الله، والوقوف بين يديه.. ولولا الإيمان بيوم القيامة لما راجع المرء نفسه فيما أحدث من آثام، ولما قامت فى كيانه تلك النفس اللوامة، التي تقف منه موقف المحاسب قبل يوم الحساب!(15/1313)
قوله تعالى:
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ» ؟
أي أيظن الإنسان أننا لن نجمع عظامه؟ أيستكثر على قدرتنا أن نقيم من هذا التراب بشرا سويا؟ «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟» (81: يس) .. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (78- 79: يس) قوله تعالى:
«بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» أي بلى إننا نجمع عظامه، مع قدرتنا على تسوية بنانه.. فليس جمع هذه العظام التي أكلها التراب، وأبلاها البلى، هو الذي تقف عنده قدرتنا، بل إن هذه القدرة ستعيد هذه العظام إلى وضعها الأول، وستسوى أدقّ ما فى الإنسان من عظام، وهى عظام البنان، أي الأصابع..
وقوله تعالى «قادرين» حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: بلى نجمعها، ونحن قادرون على تسوية بنانه، التي هى أدق هذه العظام، وأصغرها..
قوله تعالى:
«بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» هو إضراب على هذا الخطاب الموجه إلى الإنسان الذي ينكر البعث، ويأبى أن يصدق به.. فإن نصب الأدلة له، وإقامة الحجج بين يديه- كل ذلك لا يكشف عمى بصيرته، ولا يوقع فى نفسه إيمانا بالبعث، وإعدادا اليوم الآخر..(15/1314)
إنه لا يريد أن يلتفت إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا، ولا يريد أن يقيّد نفسه بعالم آخر غير هذا العالم، الذي يعيش فيه مطلقا من كل قيد، مرسلا حبله على غاربه..
وقوله تعالى: «لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» أي ليقيم حفرة بينه وبين الحياة الآخرة التي يقال له عنها.. إنه يضع أمام نفسه العقبات التي تصرفه عن الحياة الآخرة، بما يقيم على طريق هذه الحياة من معوقات، هى تعلّات وتصورات مريضة، توقع عنده الشك فى البعث، وما وراء البعث، حتى يحلّ نفسه من ملاقاة هذا اليوم، وما يحدّث به إليه، عن هذا اليوم وأهواله.. إن ذلك اليوم يقطعه عن الحياة البهيمية التي رضى بها واطمأن إليها، فهو إذا سمع حديثا عن يوم القيامة، حاول جاهدا أن يفسد هذا الحديث، وأن يخرج به من مجال العقل والجد، إلى حيث المهاترة والهزل..
وأصل الفجر، والفجور، من فوران الشيء، وتفجره فى قوة وعنف، ومنه قوله تعالى: «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» ومنه الفجور، وهو التهتك والتبذل، وخلع قناع الحياء..
وفى تعديه الفعل «يريد» باللام التي تفيد التعليل- مع أن الفعل يتعدى إلى مفعوله بغير حرف- فى هذا إشارة إلى أن هذه الإرادة إرادة عاملة، وأنها ليست مجرد أمنية، أو رغبة، أو خاطرة، تطرق الإنسان، ثم لا تلبث أن تذهب غير مخلفة أثرا..
فالإرادة هنا إرادة مشدودة إلى عزم، وتصميم، على التنفيذ.. وفى طريق التنفيذ تقوم عقبات، فيعمل صاحب هذه الإرادة على تذليلها، ويحتال لإمضائها.. ولهذا ضمّن الفعل «يريد» معنى الفعل «يحتال» .. وهذا يعنى(15/1315)
أن الإنسان يغالب قوة متحدية لإرادته وهى الفطرة المودعة فيه، فلا يملك لها دفعا إلا بالمراوغة والاحتيال وهذا المعنى هو الذي قصد إليه مجنون ليلى بقوله:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لى ليلى بكل سبيل
وقوله تعالى:
«يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» هو أثر من آثار إرادة هذا الإنسان، الذي يقيم العلل، والمعاذير، بينه وبين اليوم الآخر.. فهو يسأل سؤال المنكر، المستهزئ: أيان يوم القيامة؟ أي متى يكون يوم القيامة هذا؟ وهو سؤال اتهام لهذا اليوم، وتكذيب لمن يتحدث به، أو عنه.
قوله تعالى:
«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» هو الجواب على هذا السؤال المستهزئ، الذي سأله هذا الشقي، منكرا ليوم البعث، مستهزئا به! وقد جاء الرد عليه بيوم القيامة كله، وبما يطلع به على الناس، من شدائد وأهوال.. إن الجواب لم يحدد الوقت الذي يجىء فى هذا اليوم.. إذ ليس المهم متى يجىء؟ وإنما المهم هو ماذا أعد الإنسان له يوم مجيئه؟ وماذا يلقى المكذبون والمضلون فيه من هذه الأهوال التي تطلع عليهم في هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» أي جمد فلم يطرف، للهول الذي يراه من أحداث هذا اليوم..(15/1316)
وقوله تعالى: «وَخَسَفَ الْقَمَرُ» أي ذهب نوره وقوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» أي أصبحا جرمين، لا يرى لهما الإنسان يومئذ ضوءا.. حيث تكون الشمس أشبة بالقمر، فى أنها جسم معتم مثله، فإن ضوء الشمس إنما يرى فى كوكبنا الأرضى، بعد أن يخترق الطبقة الجوية المحيطة بالأرض، فإذا خرج الإنسان عن جو الأرض لم ير للشمس ضوءا، ورأى النجوم فى رائعة النهار الذي يكسو وجه الأرض حلّة من ضيائه.
وهذا يعنى أن الإنسان سيخرج يوم القيامة من عالمه الأرضى، إلى عالم آخر، تتبدل فيه أحواله، وتتغير فى نظره حقائق الأشياء على هذه الأرض، فيرى الشمس والقمر معلقين فى هذا الفضاء، كل على هيئته، فلا غروب للشمس، ولا نقصان للقمر..
قوله تعالى:
«يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟» أي فى هذا اليوم، يقول الإنسان- كل إنسان- أين المفر؟ أي أين الملجأ الذي يلجأ إليه الإنسان، فرارا من لقاء هذا اليوم العظيم؟
قوله تعالى:
«كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» الوزر: الملجأ، والحمى الذي يحتمى فيه الإنسان.. ومنه الإزار الذي يأتزر به الإنسان، ويستر جسده.
إنه لا ملجأ فى هذا اليوم.. فالكلّ مسوق إلى الله تعالى، حيث المستقر هناك فى المحشر، فى موقف الحساب والجزاء.. فلا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه وتعالى.(15/1317)
وقوله تعالى:
«يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ»
أي فى هذا اليوم يخبر الإنسان، بكل ما عمل، فى حياته كلها، من أولها إلى آخرها.. ما تقدم منها وما تأخر.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (2: الفتح) قوله تعالى:
«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»
هو إضراب على ما سبق، وأن الإنسان ليس فى حاجة إلى من ينبئه بما قدّم وأخر، بل إن كل إنسان يقوم عليه شاهد من نفسه ومن جوارحه، فهو- والحال كذلك- إنما ينبأ بأعماله من ذات نفسه، كما يقول سبحانه:
«كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» .
وأنت لفظ بصيرة، على تقدير مضاف أي، ذو بصيرة، وذلك حين ينكشف له يوم القيامة كل شىء، فيرى الأمور على حقائقها، ويبصر كل ما قدمته يداه، كما يقول سبحانه: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) قوله تعالى:
«وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
أي أن هذه البصيرة التي تكون للإنسان يوم القيامة، والتي يقوم منها شاهد عليه من ذاته- هذه البصيرة، لا تلتفت إلى معاذيره التي يوردها، عليها كما يقول سبحانه. «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (21: فصلت) فلا يقبل من الإنسان عذر فى هذا(15/1318)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
اليوم.. كما يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم)
الآيات: (16- 33) [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 33]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
التفسير:
[وحي القرآن ووحي السنة.. هذا غير ذاك] قوله تعالى:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» .
تبدو مناسبة هذه الآيات، للآيات التي قبلها، ثم للآيات التي بعدها- تبدو المناسبة بعيدة فى ظاهر الأمر، حيث أن هذه الآيات حديث خاص إلى النبىّ، فى شأن من شئون تلقّيه الوحى.. وما بعد هذه الآيات وما قبلها، هو عرض(15/1319)
للمشركين والضالين فى موقف الحساب والجزاء يوم القيامة.. فما سرّ وضع هذه هذه الآيات هنا؟ وما المناسبة الجامعة بينها وبين ما تقدمها، وما جاء بعدها؟
نقول والله أعلم: إن هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم هذه الآيات، يشير إلى أكثر من دلالة، ويومىء إلى أكثر من مقصد:
فأولا: هذا القطع لنسق النظم، فى صورة فجائية، وبلا مقدمات- هو إلفات قاهر، لا إرادى، لأولئك المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، ويكذبون بما تلا عليهم رسول الله من آيات الله، وما تحمل إليهم هذه الآيات، من أخبار هذا اليوم، وأحداثه.. وفى هذه اللفتة القاهرة يرون النبي فى مقام التلقّى عن ربه، وفى مجلس التلقين، والتعليم منه، سبحانه، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- يتعلم مما علمه الله، وأن هذا العلم لا يستأثر به وحده، وإنما هو مأمور بحمله وعرضه على الناس جميعا، ليأخذوا حظهم كاملا منه..
ولا شك أن هذا من شأنه أن يخفف كثيرا مما فى قلوب المشركين من مشاعر الحسد للنبى، والغيرة منه، كما أن هذا الموقف يفتح عيون كثير من المكذبين والمعاندين على وجه الحق الذي غاب عنهم فى دخان الحسد المنبعث من صدورهم، حيث يرون النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذا التحذير والتأديب فى مقام التعلّم، وأنه ليس هناك أمام عظمة الله عظيم.. إن الله سبحانه هو رب العالمين، وكلهم مربوبون له، منقادون لأمره، وأن ما جاءهم به النبي قد احتمل فى سبيله جهدا أو مشقة، وهم يتلقونه منه دون أن يسألهم عليه أجرا..
وثانيا: الطبيعة البشرية يغلب عليها حب التملك، ومن أجل هذا كان شأن الناس إيثار العاجل على الآجل، والحاضر على الغائب، وكان من هذا(15/1320)
أن صرف كثير من الناس أعينهم عن الحياة الآخرة، وأقاموا بينهم وبينها سدودا من الخداع، والتضليل، حتى لا يروا لها أثرا يلفتهم إليها، ويقطع مشاعرهم المنصرفة كلها إلى الحياة الدنيا، وما هم فيه منها..
وفى عرض النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى هذا الموقف الذي يستعجل فيه النطق بكلمات الآية وحفظها، قبل أن تفلت منه- فى هذا ما يكشف المشركين عن أن حب العاجل طبيعة مركوزة فى الناس، كما يقول سبحانه وتعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» (37: الأنبياء) وأن العجلة غير محمودة حتى فى مقام الإحسان، وفى طلب الخير.. بل إن الرفق، والتوسط فى الأمور هو المحمود، وهو الذي يتيح للإنسان فرضه التروي والتعقل، ووزن الأمور بميزان الروية والعقل.. فكيف بالمشركين وهم يخوضون خوضا فى متاع الحياة الدنيا؟ أفلا يكون منهم تمهل فى هذا الجري اللاهث وراء هذا الحطام الزائل؟ ثم ألا يكون منهم وقفة مع هذا الذي يدعوهم النبي إليه؟
وثالثا: إذا كان على النبي أن يصغى إلى الوحى، ولا يحرك لسانه قبل أن ينتهى رسول الوحى من إلقاء بإلقاء ما يوحى به إليه، وذلك لتكتمل صورة المعاني المراد إلقاؤها على النبي، ولتقع من نفسه موقعا واضحا متمكنا- إذا كان على النبي أن يفعل هذا، مع كلمات الله- أفما كان على الذين يستمعون من النبي لآيات الله، أن يصغوا إليها، وألا يفتحوا أفواههم بكلمة وهم بين يديها، حتى ينتهى عرضها، ليكون لهم سبيل إلى فهم معانيها، وإدراك بعض أسرارها؟ ..
قيل إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان وهو يتلقى سورة القيامة من الوحى، وذلك فى أوائل اتصال النبي بالوحى- كان يخشى أن تفلت منه بعض الكلمات، أو يختلف عليه نظامها، فيبادر- حرصا منه- بتلقف(15/1321)
الكلمة من جبريل، قبل أن يتم الآية.. فلما بلغ معه الوحى إلى قوله تعالى:
«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
- نزل عليه قوله تعالى:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
..
ولا شك أن هذا شاهد من شهود القرآن التي لا تحصى، على أن هذا القرآن من عند الله، وأن ليس لمحمد إلا تلقيه من الوحى، وحمله إلى الناس..
وإلا لو كان هذا القرآن من كلام محمد- أكان محمد يلبس هذه الشخصيات جميعها، فيكون مخاطبا وغائبا، وناهيا ومنهيّا، كل ذلك فى حال واحدة، وموقف واحد؟.
أيعقل فى هذا الموقف الذي يواجه فيه المشركين بهذه النذر المطلة عليهم من يوم القيامة- أيعقل فى هذا الموقف، أن يقطع محمد هذا العرض، ثم يتحول إلى نفسه، محاسبا، وناصحا وموجها؟ وما شأن الناس بهذا، لو كان محمد هو صاحب هذا الموقف، والمصور له بكلماته؟ ..
إن صاحب الموقف- وهو الله سبحانه وتعالى- هو الذي يملك أن يقطع هذا العرض، وأن يلقى على المتلقى عنه، ما يشاء من توجيه، وإرشاد، حتى يجىء العرض واضحا، كاملا.. إن الذي يملك الموقف كله، قوة قائمة على محمد، وعلى من يلقاهم محمد بهذا الحديث.. وتلك القوة هى التي تدير الخطاب، وتوجهه كيف تشاء إلى أىّ من المخاطبين، أفرادا، أو جماعات..
وقوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ»
نهى يراد به النصح والتوجيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه النبي مع الوحى، وهو ألا يحرك لسانه بكلمات القرآن، قبل أن ينتهى جبريل من الوحى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» (114: طه) ..(15/1322)
فإن كل كلمة يوحى بها إلى النبي، هى علم يزداد به علمه، فلا يعجل يقطع هذا المدد الذي تهمى عليه غيوثه.
وقوله تعالى: «لِتَعْجَلَ بِهِ»
بيان للسبب الذي من أجله كان يسرع النبي بترديد الكلمات التي يسمعها من جبريل.. إنه- لشدة شوقه، إلى كلمات ربه- لا يكاد يسمع الكلمة تقع فى قلبه من جبريل، حتى يسرع بالنطق بها، ليذوق حلاوتها على لسانه، كما ذاق حلاوتها فى قلبه..
وقوله تعالى:
«إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
..
هو تطمين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أنه لن يفوته حفظ شىء مما يوحى إليه من آيات ربه، فإن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يتولى جمع هذا القرآن كله فى صدره- صلوات الله وسلامه عليه- كما سيتولى سبحانه، حفظه على الزمن، قرآنا تعمر به قلوب المؤمنين، وترتله ألسنة الحافظين، كما يقول سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (9: الحجر) ..
قوله تعالى:
«فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» .
وفى إسناد القراءة إلى الله سبحانه وتعالى، تشريف، وتكريم النبي، الذي يسمع آيات الله متلوة عليه من ربه، وإن كان جبريل عليه السلام، هو الذي ينقلها إلى النبي..(15/1323)
وهذا يعنى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إذ يتلقى آيات الله، من جبريل عليه السلام، يجد فيها نداء الحق سبحانه وتعالى له، ويسمع خطابه سبحانه وتعالى إليه..
ونقول- والله أعلم- إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- حين كان يوحى إليه بآيات الله، يسمع ما يوحى إليه لفظا من جبريل، ومعنى من الله سبحانه وتعالى.. وعلى هذا المعنى يكون الضمير «نا» فى قوله تعالى:
«قرأناه» عائدا إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى جبريل، أي أن الحق سبحانه وتعالى يقول للنبى: إذا قرأت القرآن عليك بمعناه، وقرأه جبريل عليك بألفاظه، فلا تعجل بتحريك لسانك. بترجمة هذه المعاني إلى ألفاظ، بل تمهل وخذ الألفاظ التي يلقيها عليك جبريل، حتى تتحقق الصورة الكاملة، للمطابقة بين اللفظ والمعنى!!.
وعلى هذا المعنى يكون قوله تعالى: «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
أي اتبع قراءة رسول الوحى جبريل، وقف عند حدود الألفاظ التي يلقيها إليك، ولا تتازعه بما يسبق إليه خاطرك من كلمات تريد أن تمسك بها من هذه المعاني التي قذفها الله سبحانه وتعالى فى قلبك، قبل أن تفلت منك..
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو معنى لا نظن أحدا من المفسرين قد التفت إليه، على كثرة ما توارد على هذه الآية من مختلف الآراء..
فنرجو أن يكون هذا الرأى أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الصواب..
ولعل هذا يفسر لنا تلك الحال التي كانت تعرو النبي فى أثناء الوحى، وما كان يغشاه من شدة، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها!!(15/1324)
وليست هذه الحال التي كان يعانيها النبي من الوحى- دون سائر الأنبياء- ليست إلا لأن الله سبحانه وتعالى يتجلى على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى كلماته القرآنية، ساعة تلقيها من جبريل..
ونقول إن تلك المعاناة التي كان يعانيها النبي من الوحى، هى خاصة به وحده، دون ما نعرف من الوحى الذي يوحى إلى الأنبياء، والرسل، لأن الذي يقصه القرآن علينا من أمر الرسل، وصلتهم بالوحى، هو أن- رسول الوحى، أو رسل الوحى، كانو يجيئون إليهم فى صورة بشرية كاملة، يلتقون بهم فيها كما يلتقى الناس بالناس، ويتحدثون إليهم كما يتحدث الناس إلى الناس.. فلم يكن الرسول من هؤلاء الرسل الكرام، يشعر بأن قوة خفية دخلت عليه، أو خالطت وجدانه، ومدركانه، وذلك على غير ما كان فى حال الوحى مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وما كان يلقى فى تلقّى الوحى من شدّة.
فقد جاء الوحى إلى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل فى صورة رؤيا رآها فى المنام.. كما يقول سبحانه على لسانه: «يا بُنَيَّ.. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ماذا تَرى» (102: الصافات) .. كذلك جاء الوحى إليه فى صورة جماعة من الضيوف، نزلوا عليه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» (24- 30: الذاريات)(15/1325)
كذلك جاء، الوحى إلى لوط عليه السلام، فى صورة هؤلاء الضيف الذين نزلوا على إبراهيم.. وفيهم يقول لوط لقومه: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ» (68- 69: الحجر) .. ويقولون هم- أي الملائكة- الوط: «يا لُوطُ.. إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» ..
وإذا كان من الرسل من تلقّى الوحى على صورة أشبه بالصورة التي تلقى عليها النبي كلمات ربه- فهو موسى عليه السلام..
ونقول أشبه بالصورة التي تلقّى عليها النبىّ كلمات ربّه، ولا نقول مثلها، لأن موسى- عليه السلام- كان يسمع من ربّه حقائق المعاني التي يلقيها إليه، ثم يصوغها هو فى الألفاظ التي يراها مناسبة لها.. ولهذا، فإنّ موسى- وإن أخذه جلال التجلي لكلمات الله عليه.. فإن ذلك كان أخفّ عليه وطئا مما كان يأخذ النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، لأنّ النبىّ مع وقوعه تحت سلطان هذا التجلّى، كان واقعا من جهة أخرى تحت غشيان الرّوح السماوىّ له، وتلبسه به، ونقل كلمات الله إليه.. فالنبىّ هنا واقع تحت سلطان التجلّى من الله سبحانه وتعالى عليه، وتحت تلبّس الملك السماوىّ- جبريل- به.. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، يعانى من شدّة الوحى أكثر مما كان يعانى موسى عليه السلام.. أما الشريعة الموسوية، فقد تلقاها موسى عليه السلام مكتوبة فى الألواح..
وما كنّا نريد أن نذهب إلى هذا الذي ذهبنا إليه فى مفهومنا لتلك الآيات مخالفين بذلك أكثر المفسرين، فى فهمها على غير هذا الفهم.
ثم ما كنا نريد أن نذهب إلى أبعد من هذا الذي ذهبنا إليه.. ولكن الأمر ليس إلينا، ونحن بين يدى آيات الله.. إنها هى التي تشدنا إليها،(15/1326)
وتبسط سلطانها علينا، فلا تملك أن نبرح ساحتها إلا باستئذان، وإذن، منها، وإنه لكفران بالإحسان أن نبرح هذا المنزل الكريم الذي نزلناه من تلك الآيات، وأن نقطع هذا الرزق الموصول إلينا من بين يديها، وأن نعجل بقطع هذا الخير الذي تلقانا به.
فنحن سنمضى معها على هذا الطريق إلى غايته، نرجو مزيدا من العطاء ونلتمس مزيدا من النور..
ويلقانا هنا سؤال:
لماذا لم يجىء الوحى إلى النبىّ فى صورة بشرية، على نحو ما كان يأتيه عليه فى بعض الأحيان.. فيكون ذلك أخفّ وطئا عليه، من الصورة الملكية التي كان يأتيه عليها فى معظم الحالات، والتي كان يعانى منها ما يعانى من شدّة؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن الأحوال التي كان يأتى عليها الموحى به قرآنا، كان الوحى صورة خاصة، لا تتبدّل، ولا تختلف، وإن كان الموحى به حديثا قدسيا، جاء الوحى على صورة خاصة أيضا، وإن كان الموحى به حكمة، وهى السنة القولية أو الفعلية، كما يشير إليه قوله تعالى: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» (39: الإسراء) - نقول إذا كان الموحى به حكمة، جاء الوحى على صورة خاصة كذلك..
وهكذا..
روى أن الحارث بن هشام سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: كيف يأتيك الوحى؟ قال: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس..(15/1327)
وهذا أشده علىّ، فيفصم عنى وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فأعى ما يقول» .
فالحال التي كان يأتى فيها الوحى مثل صلصلة الجرس، هى الوحى الذي ينزل بالقرآن، حيث لا يستطيع رسول الوحى، جبريل عليه السلام، أن يبلّغ كلمات القرآن إلا وهو فى حال الملكية، وهنا يجذب النبىّ إلى الخروج من حالة البشرية إلى حال هو أقرب فيها إلى عالم الملائكة، وهذا لا يكون إلا عن مجاهدة عظيمة، وإلا بعد معاناة، يجد منها النبىّ كربا، ويعانى منها شدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا، فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» (8- 9: النجم) .
أمّا فى حال تمثّل الملك رجلا، فإن الملك هو الذي يحاول الخروج من صورته الملكية إلى صورة بشرية، فيلتقى بالنبيّ، كما يلتقى الإنسان بالإنسان.. وهذه الكيفية من الوحى، تكون فيما يوحى به إلى النبىّ من الأحاديث والسنن القولية أو الفعلية، أو التقريرية، التي أثرت عن النبىّ..
من قول أو فعل أو تقرير.. فى حال التشريع، وهو وحي من عند الله كذلك، وهذا مما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (3: النجم) .
وقد ثبت من تاريخ نزول القرآن، أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، كثيرا ما كان ينزل عليه الوحى وهو بين أصحابه، فيغشاه ما يغشاه من شدّة، حتى إذا قتّى الوحى، كان أول ما يتحدث به الرسول إلى أصحابه وكتّاب وحيه، هو ما نزل به الوحى عليه من آيات ربّه.. وهكذا، فى جميع ما يروى من الأخبار الثابتة.. كل حال كان يأتى فيها الوحى إلى النبىّ مثل صلصلة الجرس، كان الموحى به إليه فى تلك الحال، قرآنا كريما، لا حديثا قدسيا، ولا سنة قولية أو فعلية..(15/1328)
كذلك ثبت من تاريخ السنّة النبوية.. القولية، والتقريرية.. أن ما كان يوحى به إلى النبىّ فى هذا المقام، إمّا بإلهام من الله، وإمّا بوساطة رسول الوحى يتمثل النبىّ فى صورة بشرية..
فقد ثبت أنه حيث فرضت الصلاة، جاء جبريل إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيده، ثم همز الأرض بقدمه، فتفجر الماء، فتوضأ، وتوضا النبىّ معه.. ثم صلى به الصبح.. وفعل كذلك مع النبىّ عند صلاة الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء.. وبيّن له أوقاتها، وعدد ركعاتها.. وكما فعل جبريل مع النبىّ، فعل النبىّ مع المؤمنين، وصلّى بهم الصلوات المفروضة، ثم قال: «صلّوا كما رأيتمونى أصلّى» .
يروى عن ابن عباس قال: «لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غده، حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها فى الأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلاث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق.. ثم قال: «يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس» ..
وعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «سلونى، فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبته، فقال:
«يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان» قال: صدقت! قال: «يا رسول الله: ما الإيمان؟(15/1329)
قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله» قال صدقت! قال يا رسول الله: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك! .. قال صدقت، ثم قام الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردّوه علىّ» فالتمس فلم يجدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل، أراد أن تعلّموا إذ لم تسئلوا» ! ومن ذلك أيضا، ما روى من أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، دعا الناس، فقال هلّموا إلىّ، فأقبلوا إليه، فقال: «هذا رسول رب العالمين، جبريل، نفث فى روعى أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله، وأجملوا فى الطلب» .
ولا يعترض على هذا بما كان من أول لقاء لجبريل مع النبىّ فى غار حراء، وأنه جاءه- كما يقال- فى صورة بشرية، وأنه أقرأه قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - فكيف إذن يتفق هذا مع القول بأن الوحى القرآنىّ إنما كان ينزل به جبريل على النبي فى صورته الملكية، دائما، وفى جميع الأحوال؟
وردّنا على هذا، أن جبريل إذا كان فى أول لقاء له مع النبىّ، قد جاء فى صورة بشرية- فإنه لم يلقه بالقرآن من أول الأمر، وإنما الذي حدث- كما هو ثابت فى تاريخ القرآن- أن جبريل دعا النبي إلى أن يقرأ، فقال له: «اقرأ» ..
هكذا قراءة مطلقة، وأن النبي أجابه الجواب الذي تقتضيه داعية الحال، فقال:
«ما أنا بقارئ» .. وهكذا تردد الأمر بين جبريل والنبي، ثلاث مرات، فلما(15/1330)
كانت الرابعة غطّه جبريل غطّا شديدا، كاد يفقد معه وعيه.. ثم قال له:
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..» الآيات.
فهذا هو القرآن الذي أوحى به جبريل إلى النبي، وقد أوحاه إليه فى صورة خرج بها عن حاله التي تمثل فيها له بشرا.. فإن هذه الغطة غيّرت الموقف تغيرا تاما، فجمعت بين جبريل، وبين النبي فى كيان ملكى بشرى.. فكان النبي بشرا يقترب من الملك، وكان جبريل ملكا يقترب من البشر! وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الوحى القرآنى، كان دائما على تلك الصورة التي لا يتمثل فيها جبريل رجلا، يخا؟؟؟ ب النبىّ بلسان بشرىّ، وإنما كان يأتيه مثل صلصلة الجرس..
والذي نريد أن نصل إليه من حديثتا هذا، هو أن القرآن الكريم، كان يتلقاه النبي من الوحى على صورة خاصة ملازمة دائما، وهى أن جبريل كان فيها لا يخرج عن صورته الملكية إلا بالقدر الذي يستطيع فيه أن يلتقى مع النبي وهو ساع إلى لقائه فى صورة ملائكية، بشرية، كما كان النبي يرتفع إلى أعلى أفق نحو الملائكية، ولا ينسلخ انسلاخا كاملا من ثوب البشرية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» (8- 9: النجم) على ما ذهبنا إليه فى تفسير هذه الآيات فى سورة النجم، وعلى أن الضمير فيها عائد إلى جبريل عليه السلام.
وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام، كان فى تلك الحال التي ينزل فيها بالقرآن واقعا تحت تجلّى الله سبحانه وتعالى عليه بكلماته التي يوحيها إلى النبي.
فجبريل إذ يتصل بالنبي، فى مقام تنزل آيات الله عليه- يكون فى حال أشبه بحال النبي.. كلاهما يتلقى تجليات آيات الله عليه، وإن كان جبريل هو الذي يتلقى صدمة الصعقة أولا، حتى يخّف على النبي وقعها.. وهذا يعنى أن النبي-(15/1331)
صلوات الله وسلامه عليه- إنما يسمع كلام الله سبحانه وتعالى له، من خلال جبريل، أي أن جبريل عليه السلام يكون أشبه- مع المفارقة البعيدة فى صورتى التشبيه- بجهاز استقبال وإرسال معا.. يتلقى كلام الله سبحانه وتعالى، فتنطبع عليه صورته، ثم يذيعه كما انطبع عليه..
ولهذا كان يسمع النبي- الوحى- فى تلك الحال- كصلصلة الجرس، أي أنه يأت يه من جميع الجهات، لأن المتكلم به هو الله سبحانه، ولو كان جبريل هو المتكلم بالقرآن لسمع النبي كلامه من جهة واحدة، كما كان يحدث فيما يوحى به جبريل من أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية.. والله أعلم.
هذا، وبعد أن فرغت من تقرير هذا الرأى، اطلعت على رأى لعالم جليل من علماء سلفنا الصالحين، هو الدباغ، فى كتابه «الإبريز» الذي تلقاه عن ابن المبارك.. وفى هذا الرأى يذكر الدباغ فروقا دقيقة بين القرآن الكريم، والحديث القدسي، والحديث النبوي، ومن هذه الفروق تتبين الأحوال التي كان عليها النبي، وهو يتحدث بالقرآن، أو بالحديث القدسي، أو الحديث النبوي.
وقد رأينا أن ننقل كلمات الدباغ «1» ، لأنها تلقى أضواء كاشفة على موضوعنا هذا، الذي قررنا فيه أسلوب الوحى القرآنى، وكيف كان يوحى به إلى النبي..
سئل الدباغ عن الفرق بين القرآن، والحديث القدسي، والحديث النبوي.. فقال:
«الفرق بينها، وإن كانت كلها خرجت من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم، وكلها معها أنوار من أنواره صلى الله عليه وسلم- أن النور الذي فى
__________
(1) نقلا عن كتاب: «مع الفكر الإسلامى فى بعض قضاياه» - للعالم الرباني الأستاذ محمد شاهين حمزة(15/1332)
القرآن قديم، من ذات الحق سبحانه، لأن كلامه تعالى قديم.. والنور الذي فى الحديث القدسي من (روحه) صلى الله عليه وسلم، وليس هو مثل نور القرآن، فإن نور القرآن قديم، ونور هذا- أي الحديث القدسي- ليس بقديم..
والنور الذي فى الحديث الذي ليس بقدسى من (ذاته) صلى الله عليه وسلم.. فهى أنوار ثلاثة، اختلفت بالإضافة.. فنور القرآن من ذات الحق، ونور الحديث القدسي من روحه صلى الله عليه وسلم، ونور ما ليس بقدسى، من ذاته صلى الله عليه وسلم..
فلما سئل الدباغ: ما الفرق بين نور الروح، ونور الذات؟ أجاب:
الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد، والروح من الملأ الأعلى، وهم- أي الملأ الأعلى- أعرف الخلق بالحق سبحانه.. وكل واحد- أي من الذات والروح- يحنّ إلى أصله، فكان نور الروح متعلقا بالحق سبحانه، ونور الذات متعلقا بالخلق، فلذا ترى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه، بتبيين عظمته أو إظهار رحمته، أو بالتنبيه على سعة ملكه، وكثرة عطائه، فمن الأول، حديث: «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم..»
ومن الثاني، حديث: «أعددت لعبادى الصالحين..» ومن الثالث حديث:
«يد الله ملأى ... » وهذه من علوم الروح فى الحق سبحانه.. أما الأحاديث التي ليست بقدسية، فتتكلم على ما يصلح البلاد والعباد، بذكر الحلال والحرام، والحث على الامتثال بذكر الوعد والوعيد..
ثم يمضى الدباغ فى حديثه عن الفرق بين القرآن والحديث القدسي، والحديث النبوي يقول:
إن الأنوار من الحق سبحانه، تهّبّ على ذات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحصل له مشاهدة خاصة، وإن كان دائما فى المشاهدة..(15/1333)
فإن سمع من الأنوار كلام الله سبحانه، ونزل عليه ملك، فذلك هو القرآن..
وإن لم يسمع كلاما، ولا نزل عليه ملك، فذلك وقت الحديث القدسىّ، فيتكلم عليه الصلاة والسلام، ولا يتكلم حينئذ إلا فى شأن الربوبية بتعظيمها، وذكر حقوقها..
وأما الحديث الذي ليس بقدسى، فإنه يخرج من النور الساكن فى ذاته عليه السلام، الذي لا يغيب عنه أبدا، وذلك أنه عز وجل أمدّ ذاته عليه السلام بأنوار الحق، كما أمد جرم الشمس بالأنوار المحسوسة.. فالنور لازم الذات النبوية الشريفة، لزوم نور الشمس لها.
ثم يزيد الدباغ الأمر وضوحا فيقول:
«إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الكلام بغير اختياره فهو القرآن.. وإن كان باختياره، فإن سطعت حينئذ أنوار عارضة، فهو الحديث القدسي، وإن كانت الأنوار الدائمة، فهو الحديث الذي ليس بقدسى، ولأن كلامه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون معه أنوار الحق سبحانه، كان جميع ما يتكلم به وحيا يوحى.. وباختلاف أحوال الأنوار افترق إلى الأقسام الثلاثة» .
وهذه الأنوار القدسية التي يشير إليها «الدباغ» والتي يستمد منها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- القرآن والحكمة- هى أنوار النبوة المفاضة عليه من ربه، فكان صلوات الله وسلامه عليه نورا من نور الحق، كما كانت كلماته من كلمات الله سبحانه.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ(15/1334)
وَسِراجاً مُنِيراً»
(45- 46: الأحزاب) .. فهو- صلوات الله وسلامه عليه سراج منير، وهو نور هذا السراج كما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15: المائد) قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» ..
هو تطمين للنبى- صلى الله عليه وسلم- بأنه لن يفوته شىء مما تجلّى عليه من آيات الله، وما قذف الله سبحانه وتعالى فى قلبه من معانيها، التي كان يريد النبي أن ينطق بها، ويصورها كما وقعت له.. فليقف النبىّ إذن عند حدود الألفاظ التي يلقيها عليه جبريل، وإن كانت هذه الألفاظ لا تكشف كل ما وقع فى قلبه من معنى، فإنه مازال الوحى يتنزل، وما زالت آيات الله تجىء بتفصيل ما أجمل من أحكام، وأحداث، وقصص.. ولعل هذا هو السر فى العطف بالحرف «ثمّ» التي تفيد التراخي، حيث إن البيان إنما تمّ فى زمن متباعد، ينتظم فترة الوحى كلها، من مبدأ أول آية نزلت إلى أن تم نزول القرآن كله.
فمثلا قصة موسى مع فرعون.. جاءت أولا فى كلمات معدودة، وفى صورة مصغرة جدا، مثل قوله تعالى: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» (10- 13: الفجر) .
ومثل قوله سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (15- 25: النازعات)(15/1335)
ففى هذا العرض الموجز لقصة موسى، كان النبي يرى فى كلمات الله تلك، - بما قذف الله سبحانه وتعالى فى قلبه من أنوار الحق- كان يرى القصة كاملة، تتحرك على مسرح الحياة، بأحداثها، وأشخاصها، وأمكنتها.. ثم كان يحاول فى أول الوحى أن يمسك بالصورة كاملة، كما وقعت له، فجاء الأمر الرباني:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
قوله تعالى:
«كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» هو بيان للطبيعة البشرية التي يغلب عليها حب العاجل من الأمور، والتطلع إلى الثمرة قبل الغرس.. وترى هذه الطبيعة واضحة فى موقف آدم من الشجرة التي نهاه الله سبحانه وتعالى عن الأكل منها، مع إطلاق يديه جميعا للأكل من كل فواكه الجنة.. ولكنه زهد فى هذه الفواكه كلها، ومدّ يده إلى تلك الفاكهة المحرمة، فأكل منها، وعصى أمر ربه، وتعرض لما يتعرض له العصاة، من اللوم والعقاب..
ولم تكن هذه الشجرة، بأكرم أشجار الجنة، ولا أطيبها فاكهة، ولكنه حبّ الاستطلاع، والرغبة فى الحصول على كل شىء فى اليوم الحاضر، دون نظر إلى الغد..
وحب العاجل كما يكون فى المذموم، يكون فى المحمود.. كالسبق إلى الخير، والمبادرة بالأعمال الصالحة.. فهذا من مطالب النفوس الطيبة، ومن شهواتها، إن صح هذا التعبير.. إنها تشتهى الخير، والإحسان، وتستكثر منه فى يومها، كما تستكثر النفوس الخبيثة من الخبيث فى حاضرها، غير مبقية(15/1336)
شيئا لغدها، كما يقول سبحانه عن أصحاب هذه النفوس التي استنفدت كل جهدها فى الحياة الدنيا: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» (20: الأحقاف) والمخاطبون بقوله تعالى: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» هم المشركون، والكافرون، وأصحاب الضلالات، الذين كفروا بالحياة الآخرة وأخلوا مشاعرهم من التعلق بها، والإعداد لها..
وقد حسنت مواجهة المنكرين للبعث، الذين يؤثرون العاجلة، ويذرون الآخرة- حسنت مواجهتهم فى هذا المقام، الذي يكشف عن أنفسهم، وهم فى مواجهة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وحبه لعاجل الأمور فى مقام تفصيل الخير، والاستزادة من العلم.. فهذا مقام، وذاك مقام، وإن اشتركا معا فى أن حبّ العاجلة قسمة بينهما..
وفى هذه المفارقة البعيدة، يرى المشركون مدى استغراقهم فى الضلال، وأنهم إنما ينهون عن الاستزادة من المنكر، والضلال، على حين ينهى غيرهم عن الاستزادة من الخير والإحسان، حتى لا يشق على نفسه، ولا يكلفها فوق ما تطبق.. فالرسول يدعو إلى شريعة قائمة على السماحة ورفع الحرج، وإنه لأولى عباد الله بالأخذ لنفسه من سماحتها ويسرها..
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» .
هو عرض لأحوال الذين يؤمنون بالآخرة، ويعملون لها..
فها هى ذى الآخرة، وهذه هى أحوال أهلها، وما يقع للناس فيها..(15/1337)
فالناس هناك فريقان: مؤمنون، وكافرون..
والمنازل هناك منزلان: الجنة.. والنار فالمؤمنون منزلهم الجنة، والكافرون مأواهم النار..
وفى عرض أصحاب الجنة يومئذ بما يكشف عن وجوههم وحدها، هو عرض لحالهم جميعها، ظاهرها، وباطنها، حيث تبدو على الوجه أحوال الإنسان، وما يكون عليه من نعيم أو شقاء، ومن طمأنينة أو جزع..
ونضارة الوجوه، تحدّث عن النعمة التي يعيش فيها أصحابها، وعن الخصب والخير الذي يحفّ بهم، حتى لقد فاضت الوجوه نضارة وبشرا، وحتى لكأنها الزهر المتفتح على أنسام الربيع فى روض أريض.
وقوله تعالى: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» أكثر المفسرون من المقولات التي تقال فى تأويل الوجوه الناظرة إلى ربها، وهل فى الإمكان رؤية الله؟ إن الرؤية معناها تحديد المرئىّ وتجسيده، والله سبحانه منزه عن التحديد والتجسيد.. فكيف يمكن رؤيته؟
وهذه قضية استنفدت كثيرا من جهد العلماء، من المتكلمين وأهل السنة، ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء عقولهم، لأمسكوا بها عن الخوض فى لجج هذا البحر الذي لا ساحل له، فإن عقولنا تلك، إنما خلقت لهذا العالم الأرضى، ولكشف ما فيه من حقائق، أما عالم الآخرة، فعقولنا بمعزل عنه، فكيف بذات الله سبحانه وتعالى؟ وكيف بعقولنا المحدودة القاصرة يراد لها أن تحتوى هذا الجلال الذي لا حدود له، والذي وسع كرسيه السموات والأرض؟
ولهذا، فإن خير ما يحمل عليه قوله تعالى: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» هو ما ذهب إليه السلف من أن المراد بالنظر إلى الله، هو النظر إلى رحمة الله،(15/1338)
والطمع فى رضوانه، والتعلق بالرجاء فيه، فى ذلك اليوم الذي ينقطع فيه كل رجاء إلا منه جلّ وعلا.. وهذا النظر إلى رحمة الله، لا يختلف عن معنى الرغبة إلى الله، والرجوع إليه، كما يقول سبحانه: «إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» (32: القلم) وكما يقول جل شأنه: «وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (156: البقرة) أما النظر فى وجه الله سبحانه وتعالى فى الآخرة، وأما إمكانه وكيفيته، فذلك- إن صحت الأخبار المروية عنه- مما نؤمن به غيبا، ولا نبحث عنه صورة وكيفا!! قوله تعالى:
«وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ..» وهو عطف حال على حال، ومقام على مقام.. فهناك وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، تقابلها فى الجانب الآخر، وجوه باسرة، أي كالحة مغبرّة، تتوقع أن يفعل بها الفواقر، وهى الدواهي والمهلكات.. والوجوه الناضرة، الطامعة فى رحمة ربها، هى وجوه المؤمنين، والوجوه الكالحة المتوقعة الهلاك، هى وجوه المشركين، والضالين..
وقوله تعالى:
«كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ.» .
هو إعراض عن حديث يوم القيامة، الذي لا يصدّق به المشركون، وعرض لهذا المشهد الذي يراه الناس بأعينهم فى الحياة الدنيا، وهو مشهد الموت، الذي ينهى حياة الإنسان من هذا العالم الدنيوي..(15/1339)
وفى هذا المشهد يرى المكذبون بيوم القيامة- كما يرى غيرهم- حالا من أحوال النّزع والاحتضار، وقد بلغت الروح فيها الحلقوم، كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (83- 87: الواقعة) :
وقد جاء التعبير هنا عن بلوغ الروح الحلقوم، ببلوغها التراقى- وهى جمع ترقوة، والترقوتان من الإنسان هما عظمتان تمتدان يمينا وشمالا من ثغرة النحر إلى العنق- وفى ذلك ما يدل على أن الروح تتحرك أثناء النزع والاحتضار، فتنتقل من التراقى أي النحر، إلى الحلقوم، فإذا بلغت الحلقوم لفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة، إذ كان ذلك آخر حدود الروح مع الجسد وقوله تعالى: «وَقِيلَ مَنْ راقٍ»
أي التمس أهل المحتضر، الاساة والرقاة لدفع يد الموت الممتدة إليه، وهو ينازع سكراته..
والراقي، هو من يسترقى للمريض بالرّقى والتعاويذ ونحوها، رجاء أن يشفيه من دائه، أو يخفف ما به والرّقى، أسلوب من أساليب التطبب والاستشفاء عند الجاهليين، وقد ذكره القرآن هنا على لسان المتعاملين به، فهو من واقع الحال، الذي يقتضى الصدق نقله كما هو..
وقوله تعالى: «وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» .. بيان لمرحلة ثالثة من مراحل الاحتضار.. حيث كانت المرحلة الأولى، هى بلوغ الروح التراقى، ثم كانت المرحلة الثانية استدعاء الرقاة والمتطببين.. ثم كانت المرحلة الثالثة، وهى(15/1340)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
اليأس من رقى الرقاة، فقد تيقن أهل المحتضر أنه لا يلبث إلا قليلا حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، وها هى ذى الروح وقد بلغت الحلقوم.
وقوله تعالى: «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» بيان لمرحلة رابعة، فى مسيرة هذا المحتضر.. إنه لا يموت، ويتحول إلى عدم، كما يظن ذلك الذين يكذبون بالحياة الآخرة، بل إنه سيحيا فى عالم آخر.. فبعد خروج الروح من هذا الجسد، تنطلق إلى عالم الحق، وتساق سوقا عنيفا إلى ربها، فيلتف الساق بالساق من شدة الكرب، وثقل البلاء، لأن هذه الروح، روح إنسان لم يكن يؤمن بربه، ولم يكن ممن يصدق بآيات الله وبرسل الله، ولم يكن من المصلّين، الذين استجابوا لله، كما يقول سبحانه: «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» .. أي كذب بآيات الله معرضا عنها: «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي حين أعطى ظهره معرضا عن آيات الله، أقبل على أهله، ومجتمع ناديه، يمشى معجبا بنفسه، نافحا صدره، مادّا عنقه، فاردا جناحيه، كأنه القائد المظفر، وقد عاد من الميدان يسوق بين يديه الغنائم والأسرى! والتفاف الساق بالساق، كناية عن الشدة والكرب، حيث لا يقوى المرء على التحكم فى أوصاله، أو أن يضبط حركات رجليه، فهو يمشى متخالجا متماوجا، كما يمشى المصروع..
الآيات: (34- 40) [سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 40]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)(15/1341)
» التفسير:
قوله تعالى:
«أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» - هو دعوة إلى هذا المشرك، الكافر باليوم الآخر، المكذب بالبعث، والحساب، والجزاء- دعوة له إلى ما هو أولى به، وأحسن عاقبة له..
ولم تصرح الآية الكريمة بهذا الأولى، الذي يدعى إليه هذا الضال، بل جعلته مطلقا من غير تحديد..
وفى هذا ما يشير إلى أمور:
فأولا: أن ما فيه هذا الضال من ضلال، هو أمر واضح لا يحتاج بيان ما فيه من نكر، إلى عرض الوجه المقابل له، لأنه مستغن بذاته عن أن يدل على شناعته.
وثانيا: أن أي مذهب يذهبه هذا الضال، هو أهدى سبيلا من طريقه الذي يسير فيه، والذي سيلقى به فى التهلكة، إن هو تابع مسيرته عليه..
وثالثا: أن إطلاق هذه الدعوة، التي لا تحمل غير الإشارة إلى أن هناك حالا أولى من تلك الحال التي هو فيها، دون الإشارة إلى الحال التي يراد منه الاتجاه إليها- فى هذا ما يوقظ مشاعر هذا الإنسان الغارق فى(15/1342)
ضلاله، ويهز كيانه كله، حين ينبّه إلى أن هناك خطرا محدقا به، دون أن يكشف له عن طريق النجاة من هذا الخطر.. إن عليه وحده أن يعرف مصدر هذا الخطر، وعليه وحده أن يجد الطريق إلى الفرار منه.. وذلك من شأنه أن يبعث فيه كل القوى الواعية المدركة ليدفع عن نفسه هذا البلاء المشتمل عليه، وليطفىء بيديه هذه النار المشتعلة فيه..
وقد كررت الدعوة فى قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» للتوكيد.. ثم كررت هذه الدعوة مؤكدة أيضا فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» مبالغة فى التنبيه والتحذير..
ويرى أكثر المفسرين أن قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» - هو تهديد ووعيد، وأن المراد بما هو أولى له، هو النار المعدّة له، وأن ذلك العذاب هو ما يدعى إليه.. هذا المكذب بآيات الله والرأى- والله أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن هذا إلفات وتنبيه وإغراء بالرجوع إلى الله، وأخذ طريق غير طريق الضلال الذي يركبه هؤلاء الضالون.. والآيات التي جاءت عقب هذا الإلفات تؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه، لأنها تحاجّ الإنسان وتفتح له طاقات من نور يمكن أن يرى على ضوئها طريق الحق فيسلكه..
قوله تعالى:
«أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» ..
هو تعقيب على هذه الدعوة الموجّهة إلى منكرى البعث والحساب والجزاء..(15/1343)
والإنسان هنا، هو جنس الإنسان المكذب بالبعث والحساب والجزاء.
وفى الاستفهام إنكار لموقف هذا المنكر ليوم القيامة، لأنه يظن أن أن يترك سدى، أي هملا، بلا حساب، أو جزاء.. وهذا ظن خاطئ من وجوه:
فأولا: أن العاقل لا يرضى لنفسه أن ينزل إلى مرتبة الحيوان، وأن ينظر إليه نظرة من يعفى من تبعة أعماله، فتلك حال لا يصير إليها الإنسان إلا إذا كان ناقص الأهلية، أو فاقدها..
وثانيا: الإنسان فى هذه الحياة، إذا أحسن عملا انتظر جزاء إحسانه، وتوقع الخير من ورائه، وأنه إذا لم يجد هذا الجزاء، استشعر مرارة الغبن وخفت فى نفسه موازين الإحسان، كما أنه إذا أسىء إليه، توقع أن يؤخذ له بحقه ممن أساء إليه، وإلا تحول إلى حيوان يستعمل مخالبه وأنيابه، مهاجما ومدافعا، فكان لا بدّ من حساب يسوّى عليه ما بين الناس من مظالم..
وثالثا: هذا الاختلاف بين مذاهب الناس فى الحياة، من محسنين ومسيئين، وعاملين، ومقصرين، وأخيار وأشرار، ومظلومين وظالمين- إلى غير ذلك مما يجعل كل إنسان منهم عالما قائما بذاته- هذا الاختلاف الحاد بينهم فى هذه الحياة، لا بد له أن يسوى، فيكون الأخيار فى جانب، والأشرار فى جانب، بعد أن كشفت تجربة اجتماعهم معا فى الحياة عن هذه المتناقضات.. وهذا لا يكون إلا فى عالم غير هذا العالم، وفى حياة غير هذه الحياة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (35- 36: القلم) ..
وعلى هذا، فإنه أولى فأولى، ثم أولى فأولى لأهل الضلال أن ينزعوا عن(15/1344)
ضلالهم، وأن يطلبوا النجاة والسلامة لأنفسهم من الدينونة والعقاب فى الآخرة التي لا بد منها..
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» ..
هو دليل من الأدلة الكاشفة عن قدرة الله، وأن من متعلقات هذه القدرة بعث الموتى من القبور..
فهؤلاء الموتى، قد كانوا عدما قبل أن تخرجهم القدرة القادرة إلى الحياة، كما يقول سبحانه: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) .
وهذا الإنسان الذي ينكر البعث، ويستبعده على قدرة الله- ألا ينظر إلى أثر هذه القدرة فيه؟ ثم ألا يدرس مسيرة حياته، ليعلم من أين بدأ؟
وكيف صار؟ وإلى أين انتهى؟.
إنه لم يك شيئا أبدا: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (67: مريم) ..
ثم إنه كان نطفة من منىّ.. لا تعدو أن تكون أشبه بالمخاط، تستقذره النفوس وتمتهنه، كما يقول سبحانه: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (20:
المرسلات) .. وهو مهين لأنه لا ينتفع به فى أي وجه من وجوه النفع، إلا إذا امتدت إليه يد القدرة، فنفخت فيه من روح الحق جل وعلا..
وفى وصف المنى بأنه «يُمْنى» - إشارة إلى أنه لا يكون قابلا للإخصاب(15/1345)
حتى يمنى، أي يخرج من صلب الرجل، بعد أن ينضج، ويصبح صالحا للقذف به فى رحم الأنثى..
قوله تعالى:
«ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى» ..
أي ثم أصبحت هذه النطفة علقة، وهى النطفة بعد أن تأخذ شكلا جديدا فى مسيرتها نحو الحياة، فتكون قطعة من الدم الغليظ المتجمد، لا حياة، فيها، ولا صورة محددة لها..
وقوله تعالى: «فَخَلَقَ فَسَوَّى» .. فاعل خلق هو الله سبحانه وتعالى، أي فخلق الله سبحانه وتعالى من تلك النطفة، علقة، ثم خلق من تلك العلقة صورا، وأشكالا، فسوّاها حالا بعد حال، وخلقا بعد خلق، حتى كان منها هذا الإنسان السوىّ، الذي يسمع، ويبصر، ويعقل، ويملأ هذه الدنيا خيرا، وشرّا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» (6: الزمر) ..
ولم يذكر فاعل «خلق» لأنه أوضح من أن يذكر، إذ لا خالق غير الله سبحانه وتعالى، لا يشاركه أحد فى هذا الفعل، فحيث ذكر الخلق كان فاعله هو الله سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) وقوله تعالى:
«فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» .
أي فجعل الله سبحانه من هذا الخلق السوىّ، الذكر والأنثى، اللذين بهما يتناسل الإنسان وتتكاثر مواليده،..(15/1346)
والخلق- كما قلنا فى أكثر من موضع- هو إيجاد المخلوق على الصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى له، أمّا الجعل، فهو إعطاء المخلوق الصفة الوظيفية التي يقوم بها.. فالخلق إبداع، والجعل تسخير وتسيير لهذا المخلوق المبدع.. وهذا يعنى أن خلق المرأة والرجل يجرى على نسق واحد، ويقع على صورة واحدة، حتى إذا اكتمل خلق الإنسان، انقسم إلى مخلوقين، أحدهما ذكر والآخر أنثى، كاليدين للإنسان، إحداهما يمين، والأخرى شمال.. وباليدين معا يؤدّى الإنسان وظيفته، وبالرجل والمرأة يتم للإنسان وجوده.. فكلّ من الرجل والمرأة نصف الإنسان، وبهما معا يكمل الإنسان، ويكون له القدرة على أداء وظيفته فى الحياة..
أما ما جاء فى قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» فإن هذا فى مقام إلفات النظر إلى عالم المخلوقات الحية، حيث تبدو هذه المخلوقات فى أجناسها، وكأن كل جنس منها صنف واحد، حيث لا تمايز بين أفراده، مع أنه فى الحقيقة صنفان، ذكور وإناث.. فهذا مقام، وذاك مقام.
قوله تعالى:
«أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» ..
هذه هى القضية التي نصبت لها تلك الأدلة، التي تحدّث عن قدرة الله سبحانه وتعالى، والتي كانت السورة كلها معارض لتلك القدرة.
أي: أليس ذلك الإله الذي خلق الإنسان من نطفة، بقادر على أن يحيى الموتى؟
والجواب على هذا السؤال، هو بالإيجاب الملزم لكلّ ذى عقل أن يجيب(15/1347)
به، إذا هو استجاب للحق، وأذعن لمنطق العقل، ولم يغلبه الهوى، أو يستبدّ به العناد، ويركبه الحمق والغباء.
وبهذه الآية تختم السورة، التي كان عنوانها «القيامة» .. فإنه لا قيامة إذا لم يتقرر إمكان بعث الموتى من القبور، فإذا تقرر ذلك، لم يكن الإخبار عن أن هناك بعثا، وقيامة، وحسابا، وجزاء- لم يكن هذا الإخبار بالأمر الذي يمارى فيه، أو يقع موقع الشك أو الإنكار..(15/1348)
76- سورة الإنسان
نزولها: مدنية نزلت بعد سورة الرّحمن..
عدد آياتها: إحدى وثلاثون آية..
عدد كلماتها: مائتان وأربعون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف وخمسون.. حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «القيامة» معرضا للأدلة، الدالة على قدرة الله سبحانه، وعلى إمكان البعث، ووقوع القيامة..
و «الإنسان» هو موضوع «القيامة» وهو الذي يساق إلى موقف الحساب والجزاء فيها..
فكان جعله عنوانا لسورة خاصة به، ثم كان جعله فى مواجهة يوم القيامة، بعد عرضها عليه- كان ذلك مما يقيم له مرآة ينظر فيها إلى نفسه، وإلى مكانه فى هذا الوجود، وإلى مسيرته فى الحياة، وكيف بدأ، وإلى أين ينتهى.(15/1349)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 14) [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» .(15/1350)
يرى أكثر المفسرين أن الاستفهام هنا لا يراد به حقيقته، وإنما هو بمعنى الخبر، وأن «هل» بمعنى «قد» .. أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..!
والرأى عندنا- والله أعلم- أن الاستفهام على حقيقته، وأنه يحمل سؤالا موجها إلى الإنسان ليجيب عليه، وليبحث عن حقيقته، وكيف كان؟ ثم كيف صار؟ ثم إلى أين ينتهى به خط مسيرته؟
فهذا السؤال من شأنه أن يستثير تفكير الإنسان، وأن ينشّط مداركه الخامدة، وأن يفتح عينيه المغمضتين، على هذا الوجود، وعلى القدرة المسيّرة له، والقائمة على هذا النظام الممسك به.
ولو لبس الاستفهام صورة الخبر- كما يذهب إلى ذلك المفسّرون- لما، كان له هذا الأثر فى تفكير الإنسان، ولما أحدث فى نفسه تلك المشاعر التي يستثيرها هذا الاستفهام الطارق لها..
والحين من الدهر، هو القطعة المقتطعة من الزمن الطويل.. لأن الدهر زمن ممتد لا نهاية له، والقطعة منه أيّا كانت، هى زمن طويل قد يبلغ ألوف السنين.
وهذا يعنى أن الإنسان يمكن أن يكون قد مضى عليه دهر طويل لم يكن فيه شيئا مذكورا، أي ذا ذكر، وأثر مشهود، فى الحياة..
ولو أراد الإنسان أن يجيب على هذا السؤال وهو: كم مضى عليه من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ - لاقتضاه ذلك أن يرجع ببصره إلى الوراء، وأن يفتش فى أغوار الزمن السحيق عن يوم ميلاده الذي كان فيه شيئا مذكورا..
ثم كان عليه أن يغوص أكثر وأكثر فى أعماق الزمن ليرى وجوده قبل أن يكون شيئا مذكورا..
وفى هذه النظرة العميقة المتفحصة يتسع مجال البحث، وتتشعب مسالك(15/1351)
الدرس، حتى لتشمل علم الحياة، وكيف بدأت جرثومة الحياة على هذه الأرض، وكيف تطورت هذه الحياة، وكيف لبست صورا، وأشكالا، لا تنتهى عند حدّ؟
إن ذلك يتطلب دراسة شاملة لأصل الحياة على هذه الأرض، ثم لتاريخ الإنسان، وخط مسيرته فى عالم الأحياء، وهذا باب واسع من أبواب العلم والمعرفة، لا تزال معارف الإنسانية كلها تقف على شاطئه.
وقوله تعالى:
«إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» .
هو إشارة إلى موقع من مواقع الإجابة على هذه التساؤلات الكثيرة، التي لا تتصدى للإجابة عليها إلا عقول العلماء الدارسين.. أما هذا الموقع فهو مما تشارك فى إمكان تصوره، والإجابة عليه عقول الناس جميعا، وهو خلق الإنسان من النطفة.. فهذا الخلق عملية مشاهدة، يراها كل إنسان فى مواليده التي يلدها، كما يشهدها فى مواليد الكائنات الحية التي تزخر بها الحياة من حوله..
فهذه دعوة إلى كل عقل، لينظر إلى تلك الحقيقة المشاهدة، فى واقع الحس، والتي لا يستطيع أن ينكرها، أو يكابر فيها.. «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ» .. والنطفة، هى التي أشار إليها قوله تعالى فى آخر سورة القيامة: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» .. والتي هى ماء الذكر، يقذف به فى رحم الأنثى.
والأمشاج: هى الأخلاط.. واحدها: مشج، ومشج، ومشيج..
ومشج الشيء بالشيء: هو مزجه وخلطه به.
وهذا يعنى أن تلك النطفة وإن بدت فى مرأى العين مجرد ماء، هى فى(15/1352)
حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى، أودعتها فيه قدرة الخالق جل وعلا، كما أودعت فى هذه البذرة، صورة الشجرة ولون زهرها، وطعم ثمرها.. كذلك هذه النطفة الأمشاج، قد حملت فى كيانها صورة الإنسان، ولونه، ومستوى إدراكه، ومستودع عواطفه، ومشاعره، وكل ما يكون به إنسانا له ذاتيته التي يتميز بها عن غيره من أبناء جنسه! وقوله تعالى: «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي فجعلنا هذا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه، ونختبر ماذا يعطى من ثمر بهذه القوى التي أودعناها فيه، من السمع والبصر..
وقدّم الابتلاء وهو المسبّب، على سببه الذي هو السمع والبصر المودعان فيه- للإشارة إلى أن الإنسان إنما خلق للابتلاء، وأنه لم يخلق عبثا..
فهو الكائن الوحيد فى هذه الأرض، الذي حمل الأمانة، أمانة التكليف، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان..
فالفاء فى قوله تعالى: «فجعلناه» فاء السببية، أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.. ووصف الإنسان بأنه سميع بصير، لا بأنه سامع ومبصر، إشارة إلى أن سمعه وبصره ليس كسمع الحيوان وبصره، وإنما هو سمع يحوّل المسموعات إلى حقائق ومعان، تنفذ إلى أعماق المسموع، وإلى ما وراء دلالات الصوت الذي يقع على الأذن من كل ما يطرقها من مسموعات، سواءا كان كلمات، أو غير كلمات..
وكذلك الشأن فى البصر، فهو ليس بصرا ينقل الأشياء إلى العين، كما تنقلها المصوّرة، وإنما هو بصر يدخل إلى دائرة العقل الذي يكشف عن الحقائق المضمرة فى كيان الشيء المبصر..(15/1353)
وبهذا السمع، والبصر، صار الإنسان سميعا، بصيرا، أي ذا قدرة على استطلاع النتائج المرتقبة من كل مسموع ومبصر، وما وراءه.. من خير أو شر، أو حق وباطل..
وبهذه القوى الإضافية التي أضافها الخالق جلّ وعلا إلى الإنسان، وأخرجه بها عن دائرة الحيوان- كان مناطا للتكليف، وأهلا للحساب والجزاء..
قوله تعالى:
«إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» ..
أي بهذا السمع والبصر، وما يفعلان فى الإنسان، وما يكشفان له من حقائق- أراه الله سبحانه وتعالى، السبيل الذي ينبغى أن يسلكه، وأقام له على هذه السبيل المعالم التي يقيم بها خطوه عليها، بما بعث إليه من رسل، وما شرع له من شرائع، وما بيّن له من أحكام.. وهنا يترك له الخيار فيما هو صانع بنفسه، فيتقدم أو يتأخر، ويستقيم أو ينحرف، ويشكر، أو يكفر، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ.. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (40: النمل) وكما يقول سبحانه فى آخر هذه السورة: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» ..
وقوله تعالى:
«إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً» .
هو بيان للجزاء الذي سيلقاه الذين يكفرون بالله، ولا يستقيمون على صراطه المستقيم..
ومعنى: أعتدنا، أي أعددنا، وأحضرنا، والسلاسل: القيود، تكون(15/1354)
فى الأرجل والأيدى.. والأغلال: الأطواق، تكون فى الأعناق.. والسعير:
النار المتسعرة بوقودها..
ولا بد هنا من الإشارة إلى الرسم العثماني لكلمة «سلاسلا» ورسمها بالألف، من غير تنوين. وكان من حقها أن تكتب من غير ألف..
والسؤال هنا: لم كتبت بهذا الرسم؟: أذلك لأن الكتابة العربية لم تكن يوم كتابة المصحف العثماني قد استوفت شكلها الكامل، وقامت أسسها على قواعد مضبوطة؟ أم أن ذلك كان عن قصد وعمد؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن القول بأن الكتابة العربية لم تكن قد استوفت شكلها النهائى يوم أن كتب المصحف العثماني- قول مستبعد..
وذلك لأن ألفاظا وردت فى القرآن الكريم على صيغة «فعائل» أو «مفاعل» ولم تكتب بالألف، مثل قوله تعالى: «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» (11: الجن) وقوله سبحانه: «وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» (72: التوبة) وقوله تبارك اسمه: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (100: الإسراء) فلو كان ذلك عن نقص فى رسم الكتابة لأخذت أمثال هذه الصيغ الممنوعة من الصرف، شكلا واحدا فى كتابتها.
وإذن فما الحكمة، فى رسم «سلاسلا» بهذه الصورة؟
والذي يقع فى مفهومنا لهذا- والله أعلم- هو أن هذه الألف الزائدة قد زيدت عن قصد، ولحكمة تراد لها، وهى أن هذه الألف تشير إلى معنى مضمر فى كلمة «سلاسلا» وأنها سلاسل طويلة جاوزت فى طولها الحد المعروف للسلاسل التي يقيد بها الحيوان، أو الإنسان..(15/1355)
ولعلّ سائلا يسأل: أهذا يعدّ تفسيرا لبعض كلمات القرآن، يصحب الرسم التي ترسم به هذه الكلمات؟.
ونقول- والله أعلم- نعم! إنّه إشارة إلى معنى من معانى الكلمة، ودلالة من دلالاتها، وهذا المعنى أو تلك الدلالة، ليس عن مجرد اجتهاد شخصىّ من كتّاب المصحف العثماني، وإنما هو عن نظر إلى معنى صريح جاء فى آية أخرى، يحدّث عن هذه السلاسل وطولها، وذلك فى قوله تعالى: «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» (32: الحاقة) فهل رأى الناس سلسلة طولها سبعون ذراعا يشدّ إليها إنسان أو حيوان؟
فهذه السلاسل، هى من نوع هذه السلسلة الغريبة، ولهذا رسمت ذلك الرسم الغريب فى صورته شكلا، ونطقا.. إذ كانت الألف تحتمل مطّ الصوت بها وامتداده، وإطالته، كما طالت تلك السلاسل، طولا غريبا.
وما قلناه فى لفظ «سلاسل» يقال فى لفظ «قَوارِيرَا قَوارِيرَا» ، فقد رسم هذا اللفظ فى الموضعين بألف زائدة فى آخره، دون تنوين..
وهذا الرسم يشير إلى غرابة هذه القوارير، وأنها ليست مما للناس عهد به..
فما رأى الناس أبدا قوارير من فضة، أي أكوابا زجاجية، هى فى حقيقة أمرها من فضة! فالأ كواب إما من فضة، وإمّا من زجاج..
أما أن تكون فضة وزجاجا معا، فذلك هو الذي لا يقع فى تصوّر أحد..
ولكن هذه أكواب الجنة التي يشرب بها عباد الله هناك شرابهم.. إنها أكواب من فضة، ولكنها فى صفاء الزجاج، وشفافيته، حيث يرى من ظاهرها لون ما فيها من شراب، وهذا لا يكون إلا لآنية الزجاج وحده..
قوله تعالى:
«إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» .(15/1356)
الأبرار. جمع برّ، أو بارّ.. والبارّ: هو النقي الطاهر، الذي لم يغيّر من فطرته الطاهرة النقية شىء من كبير الذنوب أو صغيرها..
والكأس: إناء الشراب، ويطلق على الشراب نفسه.. كما يقول الشاعر:
وكأس شربت على لذّة وأخرى تداويت منها بها ولا يقال له كأس إلا إذا كان فيه شراب، فإذا كان فارغا سمّى قدحا.
والكافور: نبت طيّب الريح..
أي أن هؤلاء الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور الذي يجعل لها ريحا طيبة، إلى جانب مذاقها الطيب.
وإذ كان معنى الكأس هنا هو الشراب الذي فيها، كان معنى شرب الأبرار من تلك الكأس أنهم يشربون من هذا الشراب، أو من هذه الخمر، التي مزاجها كافور..
قوله تعالى:
«عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» .
هو بيان لهذه الكأس، أو هذه الخمر، وهى أنها عين يشرب بها عباد الله..
ونصب «عينا» على أنه مفسّر لقوله تعالى: «مِنْ كَأْسٍ» على سبيل الاختصاص للمدح..
وعباد الله، هم الأبرار الذين ذكرهم الله سبحانه فى قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» .. وفى إضافتهم إلى الله سبحانه تعالى، تشريف، وتكريم، لهؤلاء الصفوة الكرام من الناس، فهم عباده، وهم أهل ودّه.(15/1357)
وفى قوله تعالى: «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» أي أنها عين تتفجر دائما كلما أرادوا أن يشربوا من خمر هذه العين.. فما هى إلا همسة خاطر حتى تنبع العين، ويتفجر منها الخمر، على هيئة كئوس تتناولها الأيدى من قريب.
وفى تعدية الفعل «يشرب» بحرف الجر «الباء» مع أنه يتعدى بنفسه أو بحرف الجر «من» فيقال شربت اللبن، أو شربت من اللبن- فى تعدية هذا الفعل بالباء، إشارة إلى أن العين التي يشرب منها عباد الله، هى خمر وكأس معا، وأنهم إذ يشربون بهذه العين التي هى خمر، يشربون الخمر ذاتها.. وهذا يعنى أن هذا الشراب الذي ينبع من تلك العين، لصفائه، ورقته، وشعشعة أضوائه- قد امتزج بالكأس، فصارا معا كيانا واحدا، لا يدرى الناظر إليهما، أينظر إلى كأس أم إلى خمر.. فكلاهما أصفى من الهواء، وأرق من الشعاع.. وإلى هذا المعنى يشير أبو نواس فى قوله:
رقّ الزجاج ورقت الخمر ... وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، إنما لمحناه من قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» حيث عدل النظم القرآنى عن تعدية الفعل «يشرب» إلى أداة الشرب بالباء، كما هو المألوف، إذ يقال شربت بالكأس وبالكوب، وعدى إلى تلك الأداة بمن.. ثم جاء قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» فعدل عن تعدية الفعل إلى مادة الشراب بحرف الجر من، إلى تعديته بحرف الجر الباء «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» .. وبهذا أحلّ النظم القرآنى مادة الشراب (العين) محلّ الكأس، على حين أقام الكأس مقام العين! .. وبهذا تبدو الصورة هكذا..(15/1358)
- «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» ومقتضى النظم: «إن الأبرار يشربون بكأس» - «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» ومقتضى النظم كذلك: «عينا يشرب منها عباد الله» :
وقد عدّ وصف أبى نواس للخمر والكأس أبلغ ما قالت العرب من وصف جامع للخمر وللكأس معا..
ولكن الذي ينظر فى الوصف القرآنى للخمر والكأس، لا يجد من وصف أبى نواس إلا طنين ذباب، بين يدى نغم علوىّ آسر، يملك زمام العقول، ويهزّ أوتار القلوب! وأين زبالة المصباح من ضياء الشمس، وروائها؟
وأين ضآلة المخلوق من عظمة الخالق وجلاله؟
أبو نواس آلة مصورة لروض جميل رائع، ولكن لا حياة فيه، ولا ريح زهره ولا مذاق لثمره..
والنظم القرآنى ينقل هذا المنظر فى كلمات تنبض بالحياة، وتندى بالطيب فتنشق الأنوف عبيره، وتطعم الأرواح مذاق جناه!! أبو نواس يستعين على إخراج الصورة بالأسلوب التقريرى المباشر، فيقول «رق الزجاج ورقت الخمر..»
فهو يقرر الصفة التي عليها كلّ من الكأس والخمر، وهى الرقة.. ثم يبنى على هذه المقدمة حكما مسلّما به، وهو التشاكل والتشابه بين شيئين كل منهما على صفة الآخر.. وهذا عيب فى الأسلوب البلاغى، الذي يعتمد على التلميح دون التصريح، ويستغنى بالإماءة، عن المواجهة والمكاشفة!(15/1359)
فإذا استمعت إلى قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» تمثلت لك العين كأسا يشرب بها، ثم نازعتك نفسك إلى البحث عن أداة الشرب، فلا تجد إلا العين شرابا وكأسا معا..
وإذا استمعت إلى قوله تعالى: «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» تمثلت لك الكأس عينا يشرب منها، فإذا شاقك أن ترى العين وجدتها هى الكأس والشراب معا، قد أصبحا كيانا واحدا..
هذا، ولم يجمع النظم القرآنى بين الوصفين- وصف الخمر، ووصف الكأس- حتى يقيم منهما الصورة التي تحقق صفتهما معا- لم يفعل النظم القرآنى هذا الصنيع، لأن كل صورة منهما تحقق الوصف المطلوب للكأس والخمر أتم تحقيق.. فإذا نظر الناظر فى الصورتين معا وجد أنهما وجهان لحقيقة واحدة! كأس وخمر، وخمر وكأس..
وقد جاء النظم القرآنى بهذا الإعجاز من أقرب طريق، وأيسره، فبكلمة واحدة، لا بل بحرف واحد، أقام هذا الإعجاز، وكشف عن وجه هذه المعجزة.. فما زاد النظم القرآنى عن أقام حرف «الباء» مكان الحرف «من» فى إحدى المعجزتين، على حين أقام الحرف «من» مقام حرف «الباء» فى المعجزة الأخرى! فهذا كلام الله، تتجلى معجزاته فى غير بهرج من اللفظ، ولا خلابة أو تهويل من النظم.. حتى ليبدو- فى ظاهره- وكأنه مما يتكلم به الناس، من منثور ومنظوم.. تماما كما كانت تبدو عصا موسى فى يده، عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه.. لكن ما إن ألقاها من يده حتى سرت فى كياتها نفخة من روح الحق، وإذا هى حية تسعى؟ .. وهكذا كلمات الله، تبدو(15/1360)
فى ظاهرها، وكأنها من مادة ما نتكلم به، من حروف وكلمات، ولكنها آيات معجزة، تتحدّى، وتفحم، وتعجز.
قوله تعالى:
«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» النذر: ما ألزم الإنسان به نفسه من طاعات وقربات، ومنه قوله تعالى، على لسان مريم عليها السلام: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» (26: مريم) والوفاء بالنذر: هو إمضاء لعقد عقده الإنسان مع ربه، بما يتقرب به إليه، فهو عقد ملزم، لا ينبغى الفكاك منه، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1: المائدة) وهذا النذر، هو من صفات الأبرار، حيث لا يقفون عند أداء ما فرض الله سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، وما أوجب عليهم من واجبات، ولا ما سن لهم الرسول الكريم من سنن، بل يتجاوزن ذلك إلى طلب المزيد من القربات لله، فى كل ما يرون لله سبحانه فيه رضا، ولو شقّ ذلك عليهم، وحرمهم لذة النوم، والشبع، والرىّ..
ولم تعطف هذه الآية على ما قبلها، لأنها جواب عن سؤال، هو تعقيب على ما ذكر فى الآيات السابقة، مما وعد الله سبحانه وتعالى به الأبرار، من عظيم المثوبة، وكريم الجزاء- فكان مما يسأل عنه فى هذا المقام هو:
وبم استحق هؤلاء المكرمون هذا التكريم؟ وماذا كان شأنهم فى الحياة الدنيا؟ فكان الجواب: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» .. (7: الإنسان)(15/1361)
وجىء بالجواب فى صورة المستقبل «يوفون» ، مع أن السؤال عن حال من وقع منهم الوفاء كان فعلا فى الماضي قد وقع منهم، واستحقوا الجزاء الحسن عليه- وذلك للإشارة إلى أن هذا الفعل ليس مقصورا على جماعة بأعيانهم، فى زمن معين، بل هو فعل ممتد الزمن على مدى الحياة الإنسانية فى هذه الدنيا، فهو فعل متجدد الأزمان، والأعيان.. وكأنّ الجواب هو هكذا:
هذا الجزاء لمن يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا..
وقوله تعالى: «وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» - صفة أخرى من صفات هؤلاء الأبرار، وهى أنهم يخافون لقاء الله يوم القيامة، وما يغشى الناس فى هذا اليوم من أهوال وشدائد، فهو يوم شره عظيم مستطير.. فمن لم يعمل حسابه، ويتزود له بالأعمال الصالحة، احتواه هذا الشر، واشتمل عليه.. إنه امتحان قاس لا يجوز بحره المتلاطم إلّا من أعد نفسه له..
قوله تعالى:
«وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» .
أي ومن صفات هؤلاء الأبرار أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. فالطعام الذي عليه قوام الحياة وملاكها، لا يؤثرون أنفسهم به، بل يجعلون لمن يعوزهم هذا الطعام نصيبا منه، ولو كانوا هم أنفسهم فى أشد الحاجة إليه.
وفى قوله تعالى: «على حبه» - إشارة إلى أن هذا الطعام ليس شيئا رخيصا مبتذلا، كشأنه فى أحوال الرخاء، ووفرة حاجات النفوس منه، وإنما هو الطعام فى أحوال القحط، والجدب، وفى أزمان المجاعات التي تكون فيها لقمة الطعام أعز ما يملك الناس، وأثمن ما يحرصون عليه من مال ومتاع، حتى إن المرء ليسترخص كل عزيز يملكه، فى سبيل شىء منه.. وهذا ما يشير إليه(15/1362)
قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (92: آل عمران) ولهذا استحق هؤلاء المطعمون لهذا الطعام أن يكونوا فى الأبرار، لأنهم أنفقوا مما يحبون، ومما تشتد رغبة النفس إليه، وحرصها عليه.. والمسكين، واليتيم، والأسير، هم أضعف أعضاء الجسد الاجتماعى، وهم الذين يتلقون أول الضربات وأقساها وأفعلها، فى أزمان المحل، والجدب، فيكونون أول حطب تشتعل فيه نار المجاعات.
فالمسكين قد أضرعه الفقر، وأذلّه الحرمان، حتى فى أوقات الرخاء واليسر، وهو فى حال القحط والمجاعة أشد ضراعة، وأكثر ذلة وضعفا وحرمانا..
واليتيم- والمراد به اليتيم الفقير- قد اجتمع عليه اليتم والفقر معا، فذهب اليتم بالجناح الذي كان يظله، وقصّ الجناح الذي كان يطير به، على حين ذهب الفقر بكل حبة كانت فى عشه.
والأسير، سجين فى قيد الأسر.. إن كان ذا غنى فهو لا سبيل له إلى ما يملك، وإن كان قويّا ذا حول وحيلة، فقد عطّل الأسر كل قواه، وسلبه كل ماله من حول وحيلة.
ومثل الأسير كل من انقطعت وسائله المتاحة له، وحيل بينه وبين مصادر رزقه، وعمله، كالمرضى والمساجين، وأبناء السبيل، وذوى العاهات، ونحوهم.
قوله تعالى:
«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» .
هو حكاية لقول الأبرار، الذين يطعمون- فى ساعة العسرة- المسكين واليتيم والأسير، فهم إنما يطعمون من يطعمون ابتغاء وجه الله، لا يريدون على ما أطعموا جزاء، ولا شكورا ممن أطعموهم.. ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم(15/1363)
فضل، ولما استحقوا عند الله أجرا، لأنهم استوفوا جزاء ما عملوا، ممن صنعوا بهم هذا الصنيع..
وهذا القول من الأبرار ليس بلسان المقال، يواجهون به من أطعموهم، فإنهم لو فعلوا، لكان ذلك من باب المنّ والأذى، الذي يحبط الأعمال، ويمحق الإحسان- وإنما هو بلسان الحال، ومما انطوت عليه ضمائرهم، وانعقدت عليه نيّاتهم..
قال مجاهد، وسعيد بن جبير، رضى الله عنهما: «والله ما قالوا ذلك بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم، ليرغب فى ذلك راغب» ..
وروى عن عائشة رضى الله عنها، أنها كانت إذا بعثت بالصدقة إلى أهل بيت من الفقراء، سألت من بعثته: ماذا قالوا لك؟ فإن ذكر أنهم دعوا لها، أخذت هى بالدعاء لهم، ليبقى لها عملها خالصا لوجه الله.
قوله تعالى:
«إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» .
وهذا أيضا مما يقوله الأبرار المتصدقون، بلسان الحال، لا بلسان المقال..
إنهم إنما فعلوا ما فعلوا ابتغاء وجه ربهم، وخوفا من لقائه يوم القيامة، حيث مزدحم الأهوال، وحيث يكثر العويل، والبكاء، وصرير الأسنان!! ووصف اليوم بأنه هو العبوس القمطرير، لأنه يطلع على الناس أغبر متجهما، يرمى بالنذر والمهلكات.. وإنه على صفحة الأيام والليالى تنطبع أحوال الناس، فالحزين يرى الحزن مخيّما على وجه أيامه ولياليه، والمتوجّع الشاكي، لا يسمع من أصداء الزمن إلا توجعا وأنينا، على حين يجد الخلّى المغتبط، الأيام(15/1364)
والليالى، تغازله بالبسمات، والضحكات.. وهكذا تتلون ساعات الزمن بألوان النفوس، وتصطبغ بما فيها من مساءات أو مسرات..
يسمع المحزون هديل الحمام، وسجع البلابل، فيقع ذلك على أذنه وقع العويل والنواح، ويسمع السعيد الهانئ تلك الأصوات، فتوقّع على سمعه أعذب الألحان، وأحلى الأنغام.. وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إلى وقع هديل الحمام من النفوس، فيقول:
شجا قلب الخلىّ فقيل غنّى ... وبرّح بالشجيّ فقيل ناحا
والقمطرير: وصف للعبوس بأنه عبوس بالغ الغرابة فى شدته، متناه فى صفته..
ولفظ القمطرير، يحكى بجرسه ما يشبه هدير الرعد، وقصف العواصف.
فبناؤه اللفظىّ يجسّم أصدق صورة لمعناه..
قوله تعالى:
«فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» .
أي أن هؤلاء الأبرار، الذين خافوا هذا اليوم، وأعدوا العدة له، قد وقاهم الله شره، ودفع عنهم مكارهه، وألقى عليهم نضرة النعيم، وبهجة الرضوان، ففاضت نفوسهم مسرة وحبورا.
قوله تعالى:
«وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» .
أي وجعل الله سبحانه جزاءهم عنده أن أدخلهم الجنة، وكساهم فيها خير ما يكسى به أهل النعيم في الدنيا، وهو الحرير، ولكنه حرير الجنة الذي لا يعلم صفته إلا الله تعالى.
وقوله تعالى: «بما صبروا» - إشارة إلى أن جزاءهم هذا الجزاء الطيب(15/1365)
إنما كان بصبرهم فى الدنيا على أعباء التكاليف، وأداء الواجبات.. فالطاعات والأعمال الصالحة كلها لا تؤدّى إلا بمجاهدة النفس، ومغالبة الهوى. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» هى حال من أحوال الأبرار، وقد أخذوا منازلهم من الجنة، ولبسوا فيها فاخر الحلل.. فإذا نظر إليهم ناظر هناك، رآهم متكئين على الأرائك، قد أخلوا أنفسهم من هموم الدنيا، وتوقعات المساءات منها، من مرض، أو فقر، أو شيخوخة، أو موت..
والأرائك: جمع أريكة، وهى السرير، مرخى عليه السّتر الرقيقة، رفها وتنعّما..
وفى الاتكاء على السرر، مع أن الاتكاء إنما يكون على الوسائد، على حين أن النوم يكون على السرر- فى هذا إشارة إلى أن هذه السّرر هى متكأ لأهل الجنة، وأنها بمنزلة الوسائد فى الدنيا، وأن أهل الدنيا إذا اتخذوا السرر، وجملوها بما جملوها به، ليكون منامهم عليها، فإن أهل الجنة يتخذون هذه السرر للاتكاء، والاسترخاء عليها، لأن أهل الجنة لا ينامون..
وقوله تعالى: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» أي أنهم لا يرون فى هذه الجنة شمسا، أي حرّا، لأن الشمس هى مصدر الحرارة، كما أنهم لا يرون زمهريرا، أي لا يحسون بردا، ولو لم تكن هناك شمس.. بل إن الجنة نور من نور الحق جلّ وعلا، وجوها سجسچ، لا حرّ فيه ولا برد..
جوّها سجسج وفيها نسيم ... كل غصن إلى لقاه يميل(15/1366)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
وأين جو من جو؟ وأين نسيم من نسيم؟ وأين ما فى دار الفناء مما فى دار البقاء؟
قوله تعالى:
«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» .
ودانية: معطوف على قوله تعالى: «متكئين» .. وظلالها فاعل لاسم الفاعل: «ودانية» ..
أي أن هذه الجنة قد أرسلت ظلال أشجارها على هؤلاء الأبرار.. أما قطوفها أي ثمارها، فقد ذللت لهم، أي انقادت، وخضعت لمشيئتهم، فحيث أرادوها وجدوها حاضرة بين أيديهم، يأخذون منها ما يشاءون، ومنه قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ»
الآيات: (15- 22) [سورة الإنسان (76) : الآيات 15 الى 22]
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
.(15/1367)
التفسير:
قوله تعالى: «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ... » .
أي ومن نعيم الأبرار فى الجنة، أنه يطاف عليهم فيها بأوان من فضة، قد ملئت بألوان النعيم، من مأكول ومشروب، كما يطاف عليهم بأكواب لم ترها عين فى الحياة الدنيا، فهى أكواب من فضة، ولكنها فى شفافية الزجاج، حتى ليحسبها الرائي قوارير، أي زجاجا.. والواقع أنها من الفضة، والفضة مهما رقّت لا تشفّ أبدا، فلو استطاع صانع أن يصنع من درهم فضة إبريقا، أو دلوا، لما شف هذا الإناء عما فى داخله كما يشفّ الإناء من الزجاج..
وقوله تعالى: «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» .. الضمير فى قدروها يعود إلى السقاة الذين يطوفون بتلك الآنية، وهذه الأكواب.. وأنهم جعلوها بمقادير وأحجام مقدرة بحسب طلب كل طالب.. كما يصح أن يعود هذا الضمير على الشاربين، وأنهم إذا رغبوا فى الشراب انتصبت فى الحال بين أيديهم تلك الأكواب، فكانت على قدر ما رغبوا.
ومما يساق إلى الأبرار من نعيم، أنهم يسقون فى هذه الأكواب- التي أصبحت بالشراب كأسا- يسقون كأسا قد امتزج فيها طعم الزنجبيل بمذاق الخمر..
والزنجبيل: عروق نبات تمتد فى الأرض، نقيعه حرّيف الطعم، يكون أشبه بالتفكهة لشارب الخمر..
فالضمير في «فيها» من قوله تعالى: «يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» يعود إلى تلك الأكواب التي هى قوارير من فضة..
فالأكواب، وصف لكئوس الشراب وهى فارغة، والكأس مسمّاها وهى ملأى بالشراب..(15/1368)
وقوله تعالى: «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» أي ويسقون عينا فى هذه الكأس تسمّى سلسبيلا..
فقوله تعالى: «عَيْناً فِيها» عطف بيان لقوله تعالى: «كَأْساً» .. فالعين هى الكأس، والكأس هى الأكواب.. يرون هذا المشهد يمرّ بهم فى لحظة خاطفة.. فأداة الشرب، وهى الكوب، تبدو أولا، ثم- وفى لحظة لازمنية- ترى كأسا ملأى بالشراب.. ثم- وفى لحظة لازمنية أيضا- ترى هذه الكأس عينا تفجر تفجيرا، لا ينفد شرابها، مادامت الكأس على فم الشارب، فإذا أخذ حاجته منها غاضت هذه العين، وغاب وجه الساقي القائم على خدمتها، ليفسح المكان لألوان أخرى من النعيم.. لا تنتهى أبدا..
والسلسبيل: الدائم الجريان، السائغ الطعم، فيجرى فى الحلق جريان الماء فى منحدر الوادي. وبه سميت العين، من تسمية الموصوف بصفته..
وقد جمعت الأكواب، حتى إذا امتلأت بالشراب، أفردت، فكان لكل شارب كأسه الذي يشرب منه، والعين التي تفيض من هذه الكأس..
وهذا من إعجاز القرآن الكريم فى جلال التصوير، وروعة الأداء، وصدق العرض..
ولا تظنن أنا ذهبنا مذهب الشطط، أو الشطح فى تأويل هذه الآيات..
فما ذلك إلا شعاعة من سناها العلوي، الذي يملأ الوجود كله.. وإن هذا الترف الذي يبدو من الصورة التي عرضناها لمجلس الشراب، هو صورة باهتة هزيلة للحقيقة الواقعة التي يعيش فيها أهل هذا المجلس، فى الجنة..
قوله تعالى:
«وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً»(15/1369)
أي أن الذين يطوفون بهذا الشراب، ويقومون على خدمة الشاربين، هم ولدان، أي غلمان فى أول بواكير الشباب، إذا رآهم راء حسبهم لؤلؤا منثورا.. صفاء، ورونقا، ونضارة، وإشراقا..
وفى مجىء نظم الآية فى صورة خطاب- بعث لأشواق المخاطب، ودعوة له إلى مشاهدة هذه الأحوال، ثم العمل على أخذ مكانه مع هؤلاء الذين ينظر إليهم.
والمخلدون: الذين لا يتحولون عن حالهم تلك أبدا، ولا يتأثرون بمرور الدهور والأزمان.. وهو من الخلد: أي الثبات، وعدم التحول، والانتقال من مكان إلى مكان.. يقال، أخلد فلان فى مكانه، أي لزمه، وأخلد إلى الراحة أي أقام فى ظلها.. ومنه جنّة الخلد، أي الخلود والدوام فيها.
واللؤلؤ المنثور، هو اللؤلؤ المتناثر الحبات، الذي لم ينتظمه عقد.. واللؤلؤ المنثور أبهى منظرا، وأبهر موقعا فى العين، منه لو كان منضّما بعضه إلى بعض..
كالمنثور من الزهر فى الروض، تتنقل العين فى محاسنه من زهرة إلى زهرة، على حلاف ما لو ضمّ بعضه إلى بعض لأخذته العين كله بنظرة واحدة!! قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» ثم: أي هناك، فى الجنة، وما يلقاه أهلها فيها من نعيم..
إنك لو كنت هناك- جعلنا الله وإياك من أهلها- لرأيت نعيما لا حدود له، وملكا كبيرا قائما بين يدى أصحاب النعيم.
والمراد بالملك الكبير هنا، السلطان العظيم الذي هو مظهر من مظاهر الملك، وسمة من سماته..
وأي سلطان أعظم من سلطان أهل الجنة، حيث تمضى إرادتهم فى كل(15/1370)
شىء، وتنفذ مشيئنهم فى كل شىء؟ إن خطرات النفوس، وهمسات الخواطر- أيّا كانت هذه الخطرات، وأيّا كانت هذه الهمسات- تتمثل لهم واقعا حاضرا بين أيديهم، قبل أن يكتمل ميلاد الخطرة، أو تتشكل صورة الهمسة!! فمن فى هذه الدنيا بلغ من نفوذ سلطانه معشار هذا السلطان؟
وتاء الخطاب فى قوله تعالى: «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ» وفى قوله سبحانه:
«وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» - هو لكل مستمع لهذه الآيات، أو تال لها، وفى هذا ما يبعث أشواقه إلى الجنة، ويشدّ عزمه على العمل لها، ليكون من أهلها، المنعمين بنعيمها، لا أن يكون من المشاهدين لهذا النعيم من بعيد، كما يشهد أصحاب النار أصحاب الجنة!! وهذا عندنا- والله أعلم- أولى من القول بأن هذا الخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه..
فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- مخاطب بالقرآن كله، ثم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد رأى الجنة ونعيمها، كما رأى أكثر من الجنة ونعيمها، فى مسراه- صلوات الله وسلامه عليه- وفى عروجه إلى الملأ الأعلى:
«لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» (18: النجم) قوله تعالى:
«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» أي أن هؤلاء الأبرار، يطعمون أطيب المطاعم، ويشربون ألذ وأمرأ المشارب، وهم فى حال اتكاء واسترواح، وبين أيديهم اللؤلؤ المنثور من الغلمان يقومون على خدمتهم، وإذ يفيض عليهم من هذا النعيم، ما تشرق به وجوههم(15/1371)
من رضا ورضوان- تراهم وقد ألبسوا أفخر الثياب، وحلّوا بأثمن الحلي، وأكرمها.. فهذا مما يتم به النعيم، وتكمل به المسرات..
والسندس، ضرب من نسيج الحرير الرقيق، والإستبرق نسيج أغلظ من نسيج السندس.. أي أن السندس يكون شعارا، والإستبرق يكون دثارا..
و «عاليهم» ظرف، بمعنى فوقهم، أي تعلوهم ثياب سندس خضر..
وفى التعبير بلفظ «عاليهم» بدلا من عليهم- هو- والله أعلم- إشارة إلى أن هذه الملابس لا تلتصق بأجسامهم كما تلتصق ثيابنا على أجسادنا فى هذه الدنيا، وإنما هى ألوان من النور، أشبه بألوان الطيف، تنعكس على هذه الأجسام النورانية.. وهذا يعنى أن الحياة فى الجنة حياة روحية، لا يخالطها شىء من عالم المادة إلا كان فى شفافية الروح وصفائها..
وقوله تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» - هو إشارة إلى عظم ما يساق إلى هؤلاء الأبرار من نعيم، حيث يتناولون هذا الشراب الطهور من ربهم، بعد أن يكونوا قد تذوقوا ألوان النعيم الأخرى.. فكان هذا الشراب من يد البر الرّحيم، هو النشوة الكبرى، التي لا يحيط بها وصف، ولا يعرف كنهها إلا من أكرمه الله بها..
فما أضل الذين ولّوا وجوههم إلى غير ربهم، وما أخسر صفقة الذين اشتروا الدنيا كلها، بقطرة من قطرات هذا الرضوان!! قوله تعالى:
«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» هو من تحية الله سبحانه وتعالى لعباده الأبرار المكرمين، وهو يسقيهم(15/1372)
من هذا الشراب الطّهور.. فهم إذ يتناولون هذا الشراب من ربهم، يتناولونه محمّلا بهذه التحية المباركة من المنعم المتفضل عليهم إذ يقال لهم هذا جزاء ما عملتم، وهو ثمرة ما سعيتم، إن سعيكم كان مشكورا لكم من ربكم، وهذه التحية من ربكم هى تحية شكر وحمد لسعيكم.
[الجنة ونعيمها.. بين الروحي والجسدى] ونريد هنا أن نقف وقفة قصيرة مع تلك الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم لنعيم الجنة، والتي تبدو كأنها صورة من النعيم الدنيوي، بما فيه من ألوان المآكل، والمشارب، والدور، والقصور، والملابس، والحلّى، والأوانى والأمتعة، والجواري والغلمان، والعيون والأنهار، والأشجار والثمار، إلى غير ذلك مما اعتاد الناس فى الدنيا أن يروه، أو يعيشوا فيه..
وهذا مما دعا بعض الأدعياء أو الأغبياء إلى أن القول بأن هذه الجنة مما يحلم به المحرومون، ومما يغذّى به الدين هذه الأحلام الجائعة! ولنسلم- جدلا- من أول الأمر بأن نعيم الجنة هو من هذا النعيم الذي يعرفه الناس فى الدنيا، ويجدّون فى طلبه، ويشقون فى تحصيله، ثم يفوتهم كله، أو الكثير منه- فأى قصور يلحق هذا النعيم، وأي مطلب يعوز الذين ينزلون منازل هذه الجنة فيجدون كل ما كانت تشتهى أنفسهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم، لا يتكلفون له جهدا، ولا يريقون من أجله دما أو عرقا؟ أهذا نعيم تزهد فيه النفوس؟ وأ هذا مقام يبغى إنسان التحول عنه؟ ولم إذن استبدت الرغبة فى هذا النعيم بنفوس الناس فى الدنيا؟ ولم أفنوا أعمارهم فى طلبه؟ ولم أراقوا دماءهم في سبيله؟
فلتكن الجنة عالما ماديّا، ولتكن كلها سوقا حشدت فيه كل ما فى هذه الدنيا من متع ولذاذات ومسرات ومباهج؟ أليس هذا العالم هو حلم(15/1373)
الإنسانية الذي لم ولن يتحقق لها على هذه الأرض؟ فماذا لو وجدت عالما آخر يتحقق لها فيه هذا الحلم البعيد المنال؟ وأي إنسان يزهد فى هذا النعيم إذا أتيح له، ووجد السبيل إليه؟ ولا تمدن عينيك هنا إلى أولئك الذين يقال إنهم زهدوا فى نعيم الحياة المادية من الفلاسفة والحكماء، والمتصوفة، وغيرهم ممن عفّوا، أو عافوا متعة الجسد، وراحوا يعيشون على قوت أرواحهم، وعرائس أفكارهم.. فهؤلاء جميعا- إن صدقت أحوالهم- إنما أقاموا لأنفسهم عالما من الوهم، والخيال، تتراقص فيه طيوف رؤاهم وأحلامهم، بكل ما قصرت عنه أيديهم من متع مادية استبدّ بها غيرهم.. ومن زهد منهم فى تلك المتع، وقد أتيحت له- فإنما لأنه استقصر حياته معها، أو توقع فرارها من يده! ولو كان هذا النعيم دائما، وكان لمن يعيش فيه ضمان بالخلود معه، لكان الحكماء، والفلاسفة، والمتصوفة أكثر الناس طلبا، وازدحاما على مورده..
ومع هذا، فإن ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، ليس هو كل ما فيها من نعيم، وإنما ذلك هو معرض من معارضها، وإشارة دالة على ما وراء هذا النعيم مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر.. إنه هو الجزء القليل الذي يمكن أن يقع فى مفهوم الناس، وهم فى هذا العالم الدنيوي، حتى يكون للجنة التي يوعدون بها تصور، وحتى يكون لدعوتهم إليها استجابة.. ولو جاءتهم الجنة غير مألوفة لهم، لما وقعت من أنفسهم موقعا، ولما وجدت لها فى مشاعرهم ووجداناتهم مكانا..
ولا يقال- كما قيل فعلا- إن هذا النعيم الأخروى، هو نعيم جسدى، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين، ويرضى مطالب البيئات الفقيرة(15/1374)
المجدبة.. وهذا بدوره يعنى أن الدّين الذي يعد أهله بمثل تلك الجنة فى الآخرة، إنما هو دين على مستوى هذه الحياة البدائية فى الصحراء، التي لا تبعد الحياة فيها كثيرا عن حياة الغابة، وأن الدين ليس إلا أكذوبة خادعة تستهوى الجوعى والمحرومين بهذه الموائد الممدودة لهم فى عالم الرؤى والأحلام.
فهذا القول، إن كان من جاهل، فهو جهل يفصح أهله ويخزيهم، وإن كان من عالم فهو زور وبهتان، يتخرص به المتخرصون فى غير خجل أو حياء، ممن يكيدون للإسلام، من مستشرقى أوربا وأمريكا: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8: الصف) .
إن نعيم الجنة المادي، وما جاء فى القرآن مما أعد الله سبحانه وتعالى منه لأهلها، من حور عين، وولدان مخلدين، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، ومن أنهار من ماء ولبن، وخمر، وعسل- إن هذا- كما قلنا- هو من مطلوب الحياة الإنسانية، وبه قوام حياة الإنسان، وسعادته، مادام الإنسان إنسانا بشرا، لم يتحول إلى عالم الملائكة، ولم يصبح روحا هائما لا ذاتية له..
وإن الإنسان، هو الإنسان، فى الدنيا، أو الآخرة.. هذا ما يجب القطع به.. إذ لا بد أن يجد الإنسان ذاته ووجوده الإنسانى كله فى الآخرة، وإلا لكان مخلوقا غريبا، ليس بينه وبين الإنسان الذي عاش فى هذه الدنيا من صلة، ثم لكان حسابه وجزاؤه فى الآخرة ليس حسابا، ولا جزاء لهذا الإنسان الذي كان فى الدنيا..
وإنه لكى يظل الإنسان إنسانا، وليلقى حسابه وجزاءه، الحسن أو السيّء، ويحد طعمه الحلو أو المر- ينبغى أن يكون على طبيعته، فى جميع أحواله،(15/1375)
وكل حيواته.. الدنيوية، والأخروية.. إنه ينبغى أن تظل هذه «الذاتية» مع الإنسان، وأن تصحبه تلك الشخصية المشخصة له فى عالم الدنيا والآخرة جميعا..
أما أن تتفكك هذه الشخصية، أو تنحلّ، أو تخرج عن طبيعتها جملة، فإنها لن تكون ذلك الإنسان، الذي عرف فى وقت ما، أوفى حال ما، أنه فلان؟ ابن فلان! ..
نعم، قد تعلو ذاتية الإنسان وتصفو مشاعره وعواطفه، وقد تنزل، وتسفّ، وتكدر.. ولكن ذلك لا يخرج بالإنسان- فى أي حال من الأحوال- عن دائرة الإنسانية- ولا يلحقه بعالم الملائكة أو الشياطين..
إن الإنسان ليتنقل فى أطوار شتى.. من الولادة إلى الطفولة، والصبا والشباب، والشيخوخة..
وهو فى كل طور من أطوار حياته، هو تلك «الذات» أو «الشخصية» التي لا يجد فيها صاحبها أن طفولته أو صباه أو شبابه أو شيخوخته- أوصال مقطعة من «ذاته» .. بل إنه هو هو، فى كل طور من هذه الأطوار، وإن تغيرت بعض ملامحه، وزادت معارفه، واتسعت آفاقه.. وشتان ما بين الطفولة والشباب، وشتان بين «سقراط» الطفل وسقراط الفيلسوف.. ولكنه هوهو سقراط، طفلا، وصبيا، وشابا، وشيخا!!.
ثم مالنا ندفع مطاعن الأوربيين عن شريعة الإسلام، وما جاء فى تلك الشريعة من أوصاف حسية لنعيم الجنة- ما لنا ندفع هذا، والحال أنهم هم مطالبون أن يدفعوا هذه المطاعن ذاتها عن المسيحية، إن كانوا يؤمنون بها،(15/1376)
أو يدفعوا بها إليها إن كانوا غير مؤمنين بها.. فإن المسيحية- على الرغم من أنها تلبس لباس الروحانية- حين تحدثت عن النعيم الذي يلقاه أهل الجنة- نجدها تعرض صورا حسية من هذا النعيم، مثل تلك الصور التي جاء بها القرآن، سواء بسواء!.
فقد ذكر المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، أنهم سيشربون معه من ابنة العنب فى ملكوت السموات: يقول لهم: «إنى لست شاربا من ابنة هذه الكرمة حتى أشربها معكم فى ملكوت السموات «1» » .
فأخبر بأن فى الملكوت شرابا، وشرابا من خمر، وحيث يكون شراب، لا يستنكر المأكل.. فيقول السيد المسيح: «ستأكلون وتشربون على مائدة أبى «2» » .
ثم هناك إلى جانب الأكل والشرب، غرف لأهل الجنة.. يقول السيد المسيح: «ما أكثر الغرف والمساكن عند أبى «3» » .
فالقرآن إذن لم يكن بدعا بين الكتب السماوية، فيما جاء فيه عن النعيم الحسىّ فى الجنة.. فلم تتهم شريعة الإسلام وحدها بأنها شريعة الجسد، وبأنها الشريعة التي تغرى أتباعها بهذه الألوان التي يسيل لها لعابهم، وتستيقظ لها حيوانيتهم؟.
إنها تهمة ظالمة باطلة..!
__________
(1) إنجيل متى (26: 29) .
(2) إنجيل متى: (22: 3) .
(3) إنجيل يوحنا (14: 2) . [.....](15/1377)
أما أنها ظالمة، فلأنها تتجه إلى الإسلام وحده، دون الشرائع والديانات التي تقول بما يقول به الإسلام فى وصف هذا النعيم..
وأما أنها باطلة، فلأنها تقوم على فهم خاطئ للإنسان، وللوحدة الذاتية، التي ينبغى أن يحتفظ له بها فى الحياة الآخرة.. تلك الوحدة التي تجمع الروح والجسد معا.. فلا يكون الإنسان إنسانا إلا يجسد وروح، ولا يعرف الإنسان السعادة أو الشقاء إلا إذا كان لكلّ من الجسد والروح نصيب مما يسعد به الناس أو يشقون!.
إن أهل الجنة يحملون معهم نفوسا بشريّة، لها رغباتها، ومنازعها، ومن شأن نعيم الجنة، الذي يحقق النعيم الكامل- من شأنه أن يشبع- فى غير ملل- هذه الرغبات وتلك النوازع، وإلا كان نعيما غير كامل..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
(31: فصلت) .
وعلى هذا فإن لنا أن نقول إن نعيم أهل الجنة- هذا النعيم الحسى، الذي جاء فى القرآن، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومساكن- هو نعيم مطلوب للإنسان، لا يتم نعيمه إلا إذا أخذ حظه منه، وهو نعيم خالص من الشوائب، التي تعلق بكل نعيم دنيوى..
ثم إن وراء هذا النعيم الحسى، نعيما روحيّا.. فهناك مسرات الروح التي لا حدود لها.. وإنها لمسرات لا يمكن أن توصف بألفاظ وعبارات، ولا يمكن أن تضبط لها صورة، وغاية ما يمكن أن يقال عنها إنها بهجة النفس ولذة الروح..(15/1378)
أما مادة تلك اللذة، وهذه البهجة، فلا يمكن أن توصف بألفاظنا، أو تدرك بعقولنا المحدودة القاصرة..
ولقد أشار القرآن الكريم إلى بعض دلالات هذا النعيم الروحي، ولكنه لم يكشف عن مادة هذا النعيم وعناصره.. فهناك نضرة النعيم التي تسفر بها وجوه أهل الجنة: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (24: المطففين) .
وهناك الأمن والاطمئنان من كل ما يزعج النفس أو يقلقها من حاضر أو مستقبل: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ.. لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» (49: الأعراف) ثم أليس الخلاص من جهنم، وأ ليست السلامة منها، مصدر نعيم نفسى لا ينفد أبدا؟ إنها لسعادة غامرة، وهناءة كاملة، أن يرى أهل الجنة عذاب السعير، وهم فى مأمن من هذا العذاب.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) ومن أجل هذا كان من حمد أهل الجنة لله سبحانه وتعالى أن أنقذهم من عذاب النار، هو ما ذكره الله سبحانه من قولهم «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» (35: فاطر) أليس هذا نعيما للنفس، وروحا للروح.. يتجدد فى كل نظرة ينظر بها أصحاب الجنة إلى أصحاب الجحيم؟
ثم ماذا يطلب الإنسان من النعيم، غير أن يجد فيه السعادة المطلقة..(15/1379)
السعادة التي لا يدخل عليها ما يقطعها، أو ينقص منها، أو يفسد طعمها؟ إن سعادة الجنة، هى سعادة دائمة خالدة، لا تنفصل عن أهلها، ولا ينفصلون عنها، وذلك هو نعيم أهل الجنة، سواء أكان ماديّا أو معنويّا، جسديّا أو روحيّا..
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» (107- 108: الكهف) .
وحسب هذا النعيم أنه غير زائل عن أهله، وحسب المنعمين به أن يقيموا عليه، ولا يبغون عنه حولا.
وأعجب ما فى هذه القضية، أن يجىء الإنكار على الإسلام لهذا النعيم الجسدى الذي يعد به أتباعه فى الآخرة- من عجب أن يجىء هذا الإنكار من أوربا وأمريكا، التي فنيت شعوبها فناء مطلقا فى عالم المادة، حتى لقد كادت تتغير الطبيعة الإنسانية فى هذه المجتمعات، وتختفى المشاعر والعواطف.. حتى بين الآباء والأبناء.. وإنه لو كان لتلك الشعوب أن تحلم بجنة فى الآخرة، لما كانت جنة أحلامهم تلك إلا أنهارا تجرى من خمر، وإلا حانات تعج بالراقصين والراقصات، وإلا موائد ممدودة للطعام والشراب، والقمار.. فإن هذا الذي بلغته شعوب أوربا وأمريكا من تقدم فى العلوم والفنون، وإنما كان وسيلة إلى تحقيق هذا النعيم المادىّ الذي إن فات أحدهم حظه منه، ولم يستطع الوصول إليه، ضاقت الدنيا فى عينيه، واستولى عليه الكرب والهم.. ثم لم يكن له بدّ من أن يركب أحد طريقين: فإما أن يلبس ثوب الوجودية، ويتحول إلى حيوان يعيش فى غابة، فلا يغير من ثيابه، ولا يصلح من هندامه، ولا يقص شعرا ولا ظفرا، ولا يغطى جسدا ولا يستر عورة.. وهو بهذا يخرج عن عالم الناس، ومن ثمّ فلا يعنيه أن يملك مثل ما يملكون، أو يتمتع مثل ما يتمتعون..
إن له متعته الخاصة التي هى على غير ما يتمتع به الناس.. وهل يلذ للذئاب مثلا(15/1380)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
أن تجلس إلى مائدة، وأن تتناول مما يطعم منه الناس.؟
أما من لم يجد له مكانا فى هذا العالم فثمة طريق آخر.. طريق المنتحرين..
وليس ثمة طريق ثالث.
الآيات: (23- 31) [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة وجود الإنسان، ولفتته إلى أصل خلقه، وأين كان؟ وكيف بدأ؟ وإلى أين صار؟ وبعد أن لقيت هذا الإنسان بما سيلقى فى الآخرة عن عذاب ونكال، إذا هو كفر بالله، وجحد حق خالقه عليه، وما سيلقى من نعيم ورضوان، إذا هو عرف ربه، وذكر حقه عليه، وخاف مقامه بين يديه- بعد هذا العرض، عادت آيات الله، تدعو النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى حضرة ربه سبحانه وتعالى، لتسمعه حديثه إليه، فيلقاه الحق سبحانه وتعالى بقوله:(15/1381)
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» .
أي أن هذا القرآن الذي تتلوه على الناس، هو منزل عليك من عند ربك، وليس رسول الوحى جبريل- عليه السلام- إلا رسولا من عند الله إليك به.
وفى قوله تعالى: «نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» - إشارة إلى أن هذا القرآن ينزل على النبىّ آيات آيات لا جملة واحدة، كما يفيد ذلك لفظ الفعل «نزل» الذي يفيد وقوع الفعل حالا بعد حال، لامرة واحدة.
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» .
والآثم: من غلب عليه الاستغراق فى معاطاة الآثام، من أهل الكفر والضلال..
والكفور: من استغلظ كفره، ولج به الضلال والعناد، فلا يرى حقّا، ولا يذعن لحق إذا هو رآه.. وكل من الآثم والكفور، آثم وكافر معا، ولكن منهم من غلب إثمه على كفره، ومنهم من غلب كفره على إثمه..
والفاء فى قوله تعالى: «فاصبر» فاء السببية، أي وبسبب أنا أنزلنا عليك القرآن تنزيلا،، اصبر لحكم ربك.. أي اصبر على امتداد نزول القرآن عليك، وما دام القرآن لم يختم فإن مسيرتك لم تنته وزادك فى هذه المسيرة، هو الصبر..
فاصبر..
وحكم الله سبحانه وتعالى، هو ما يقضى به جل شأنه بين النبي وقومه..
واللام فى «لِحُكْمِ رَبِّكَ» هى اللام الحينية، أي التي بمعنى حين، أي إلى حين حكم ربك.
وقوله تعالى: «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» نهى للنبى عن أن يستمع(15/1382)
إلى ما يدعوه إليه المشركون من قومه، من الكفّ عن دعوتهم، وإنذارهم بآيات الله التي يتلوها عليهم، أو أن يصغى إلى ما يعرضونه عليه من دنياهم التي يلوحون له بها..
وفى هذا إعلام للمشركين بأن النبىّ مأمور من ربه بالصبر على أذاهم، وبألا يستمع إلى ما يدعونه إليه، وهم يعلمون أن النبي لا يخالف أمر ربه.. ولهذا كان لهذا الأمر الموجه إلى النبي من ربه، وقع على نفوس المشركين، وتيئيس لهم مما يطمعون فيه من النبي..
وقوله تعالى:
«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» .
هو معطوف على قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ..»
أي ومما يعينك على الصبر على ما تكره من قومك، وما يقيمك بالمقام المطمئن الذي تثبت به قدمك على طريق الدعوة التي تدعو بها- هو أن تذكر اسم ربك، وتستحضر جلاله، وعظمته، وعندئذ تجد كل هؤلاء المتعاظمين، والمتعالين، نمالا تدبّ على الأرض، أو ذبابا يجتمع على قذر! والبكرة: أول النهار، والأصيل آخره..
فهذا عمل النبىّ بالنهار، إلى جانب دعوته التي يقوم بها فى الناس.. إنه ذكر لاسم الله، فى مفتتح نهاره، ومختتمه.
فإذا كان الليل، خلا إلى ربه، وأطال ذكره، وتسبيحه، وسجوده، وهذا ما جاء الأمر به بعد ذلك فى قوله تعالى:
«وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» .(15/1383)
«وَمِنَ اللَّيْلِ» أي ومن بعض الليل لا كلّه.. فحرف الجر «من» التبعيض..
فهنا أمران: أمر بالسجود، لله بعضا من الليل.. وأمر بالتسبيح له تسبيحا طويلا ممتدا، ما وسع الجهد.. وهذا على معنى أن «طويلا» صفة لمصدر محذوف دل عليه الفعل «سبحه» أي سبحه تسبيحا طويلا فى وقت الليل..
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو أولى عندنا مما ذهب إليه المفسرون من أن طويلا صفة لقوله تعالى: «ليلا» .. فإن وصف الليل هنا بالطول لا معنى له..
فالليل هو الليل، طويلا كان أم قصيرا.. ثم إن «من» التي تفيد التبعيض لا تجعل لوصف الليل بالطول معنى..
وقوله تعالى:
«إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» .
الإشارة هنا بهؤلاء، هى إلى المشركين الموصوفين بالإثم والكفر..
إنهم يحبون العاجلة، أي الدنيا، ويستهلكون وجودهم كله فيها، ولا يعطون شيئا للآخرة، بل يطرحونها وراء ظهورهم، وهى لاحقة بهم، لا تدعهم حتى تمسك بهم، ويطلع عليهم منها يوم ثقيل وقعه، بما يلقون فيه من كرب وبلاء..
قوله تعالى:
«نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا» .
الأسر: القوّة، والمراد به ما أودع الله سبحانه وتعالى فى الإنسان من قوى جسدية. وعقلية، وروحية، ونفسية..
فهذه القوى التي أودعها الخالق جلّ وعلا فى كيان الإنسان، هى قوى(15/1384)
مجتمعة، متساندة، متآلفة، يعمل بعضها مع بعض كأنها قوة واحدة..
وفى هذا بيان لما لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، على الإنسان، الذي خلقه، فأحسن خلقه، وأقامه على هذه الصورة التي علا بها على أفق الحيوان، فصار بشرا سويا، وأصبح خليفة لله على هذا الكوكب الأرضى.
وقوله تعالى: «وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا» .. إشارة إلى قدرة الله القادرة التي لا يفلت من سلطانها مخلوق، والتي تخلق ما تشاء وتختار، دون معوّق، أو معقب..
وهؤلاء الآدميون الذين خلقهم الله سبحانه على تلك الصورة من الإحكام والإتقان، لا يمسكها إلا الله، ولا يحفظ عليها وجودها إلا هو، فإذا أراد سبحانه أن يبدّل بهؤلاء الآدميين غيرهم نفذت إرادته ومضت مشيئته..
«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) .
وفى جمع الأمثال: إشارة إلى أن قدرة الله سبحانه لا حدود لها، وأنه قادر على أن يقيم مكان هؤلاء الآدميين أمثالا، لا مثلا واحدا..
قوله تعالى:
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» أي إن هذه الآيات، وما ضمّت عليه، من علم، وحكمة، هى تذكرة وموعظة، وهى دليل هاد، وقائد أمين، لمن شاء أن يتعرف طريقه إلى الله، ويسلك مسالك الهدى والرّشد.. وإنها لا تحمل قوة مادية قاهرة ملزمة تسوق الناس سوقا إلى الله، وإنما هى إشارات مضيئة إلى طريق الله. فمن شاء أقام وجهه على هذا الطريق، ومن شاء تنكّبه، وأدار ظهره له..(15/1385)
قوله تعالى:
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» .
هو تعقيب على الآية السابقة، يراد به الاحتراس من أن تفهم المشيئة الإنسانية على إطلاقها، فهذه المشيئة مقيدة بمشيئة الله، دائرة فى فلكها.. فمن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى فيه أن مؤمن، جرت مشيئته وراء مشيئة الله فكان من المؤمنين، ومن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى فيه أن يكفر، جرت مشيئته وراء مشيئة الله، وكان من الكافرين..
ولم كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى مختلفة فى الناس، ولم تكن مشيئة واحدة؟ ..
إن ذلك تقييد لمشيئة الله سبحانه أولا، ثم هو إلزام لله سبحانه ثانيا، ثم هو إفساد لصورة الوجود ثالثا.. إذ أن من مقتضى وحدة المشيئة فى المخلوقات أن يكون الوجود كله لونا واحدا، لا أرض ولا سماء، ولا نجوم ولا كواكب ولا جماد ولا نبات ولا حيوان.. إلى غير ذلك مما ضمّ عليه هذا الوجود من مخلوقات، إذ أن تعدد هذه المخلوقات، واختلافها، صورا، وأشكالا، وألوانا وأمكنة وأزمانا، هو من عمل مشيئة الله سبحانه فى كل مخلوق خلقه.. إنها مشيئة واحدة، يقع على كل مخلوق حظه منها، وذلك بتقدير العليم الحكيم.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» يفعل ما يشاء عن علم محيط بكل شىء، وعن حكمة، مقدّرة لكل شىء..
قوله تعالى:
«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ.. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .
ومن مشيئته سبحانه، أنه يدخل من يشاء فى رحمته.. وأعد للظالمين عذابا أليما..(15/1386)
والمراد بالرحمة هنا الجنة، لأن الرحمة هى السبب الموصل للجنة! وأنه بغير رحمة الله لا سبيل لأحد إلى الجنة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» .. قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله «برحمته» ..
ومن أسرار كتاب الله الكريم أن كان مفتتحه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» وكان مفتتح كل سورة منه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. وكان مفتتح كل تلاوة لآياته الاستعاذة من الشيطان الرجيم، باسم الله الرّحمن الرّحيم..(15/1387)
77- سورة المرسلات
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الهمزة.
عدد آياتها: خمسون آية..
عدد كلماتها: مائة وإحدى وثمانون كلمة.
عدد حروفها: ثمانمائة وستة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها كان ختام سورة «الإنسان» السابقة على هذه السورة، هو قوله تعالى:
«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً» وفى هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.. وهذا الوعد، وذلك الوعيد إنما يتحققان يوم القيامة، فكان لا بد من إبراز هذا اليوم، والتأكيد على وقوعه، وذلك مما يزيد فى إيمان المؤمنين، ويرفع الحجب الكثيفة عن عيون كثير من الذين لا يؤمنون..
وهذا ما جاءت هذه السورة «المرسلات» مقررة، ومؤكدة له.(15/1388)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 7) [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» ..
ما المرسلات؟
اختلف المفسرون فى معنى المرسلات، وتعددت مقولاتهم فيها، وكثرت الروايات والأسانيد التي تضاف إلى صحابة رسول الله فى هذا المقام.. وهذا الاختلاف الشديد بين تلك المقولات، مما يضعف هذه الروايات، بل ويكذب نسبتها إلى من نسبت ادعاء إليهم.. إذ لو كانت صحيحة لما كانت إلا قولا واحدا.. لأن صحابة رسول الله لم يقولوا في تأويل كلام الله برأيهم، بل كل ما صحت نسبته إليهم من أقوال فى معنى حرف، أو كلمة، أو آية، هو مما علموه من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. وليس للرسول الكريم إلا قول واحد. فى المقام الواحد.. «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (3: النجم) .
وعلى هذا. فإن ما نقوله أو يقوله غيرنا فى تفسير كلمة «المرسلات» هو اجتهاد فى تحرى أقرب المفاهيم التي يطمئن إليها كل مفسر، حسب ما أداه(15/1389)
إليه اجتهاده.. وهنا لا بأس أن يختلف المفسرون، إذ ليس قول أحدهم حجة على الآخرين.. وذلك على خلاف ما إذا نسب التفسير إلى أحد من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا ثبتت نسبته إليه كان حجة علينا.
والرأى الذي نرتضيه من آراء المفسرين فى تفسير كلمة «المرسلات» هو القول بأنها الرياح، فقد جاءت كلمة «العاصفات» بعدها قرينة قوية على أنهما من مورد واحد، وإن اختلفا قوة وضعفا..
فقد جاء فى القرآن الكريم وصف الريح بهذا الوصف، فقال تعالى:
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً» (81: الأنبياء) .. والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض..
وهناك قرينة أخرى، وهى أن القرآن الكريم قد أكثر من لفظ أرسل، ويرسل عند الحديث عن الرياح، كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» (57: الأعراف) وقوله سبحانه: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» (22: الحجر) وقوله تبارك اسمه: «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ» (69: الإسراء) ..
فقوله تعالى: «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» هو قسم بالرياح المرسلة من عند الله، فى هبوب دائم، على الوجه المعروف للناس من الرياح..
وقوله تعالى:
«فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» ..
هو حال من أحوال الرياح، حين يشتدّ هبوبها، فتتحول إلى عواصف..(15/1390)
وقوله تعالى:
«وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» ..
هى الرياح فى حال أخرى من أحوالها، ومع أثر من آثارها، وهى حين تنشر السحب فى جو السماء، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» (48: الروم) ..
وقوله تعالى:
«فَالْفارِقاتِ فَرْقاً» ..
هى الريح أيضا وأفعالها بالسحب.. فهى بعد أن تبسطها فى السماء، تسوقها أمامها، وتذهب بها إلى مواقع مختلفة متفرقة من الأرض، بعضها شرقا، أو غربا، وبعضها شمالا أو جنوبا.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» (43: النور) ..
وقوله تعالى:
«فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» ..
هى السحب الممطرة، التي تلقى بما حملت من ماء، على المواقع التي ساقها الله سبحانه وتعالى إليها..
ويسمى المطر «ذكرا» لأنه مما يذكر بالله سبحانه وتعالى، ويحدّث عن واسع فضله، وعظيم رحمته، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي(15/1391)
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ»
(48: الشورى) .. وقوله سبحانه: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» (49: الروم) فأنظار الناس وآمالهم متعلقة بالمطر، فى حال إمساكه، أو حال نزوله، لأن فيه حياتهم، وحياة حيوانهم وزروعهم..
وقوله تعالى:
«عُذْراً أَوْ نُذْراً» .
هو بيان لقوله تعالى «ذكرا» .. فهذا الذكر الذي يحدثه المطر، إما أن يكون إعذارا، أو إنذارا.. فهو إعذار للمؤمنين الذين غفلوا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وهو إنذار للكافرين الذين لا يذكرون الله أصلا..
وقوله تعالى:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» ..
هو جواب هذا القسم الذي أقسم الله سبحانه وتعالى به فى مفتتح السورة..
والذي يوعد به الناس، هو يوم القيامة، وما يلقون فيه من جزاء.
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أنه فرق بين الرياح فى مهابّها على الأرض، وبين الرياح فى مدارها مع السحاب، فى طيّه ونشره، وفى سوقه وتوجيه مساره..
فيقسم سبحانه وتعالى أولا بالرياح على إطلاقها وعمومها،: «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» ثم يعطف على هذه الرياح حالا من أحوالها العارضة، وهى العواصف:
«فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» ..(15/1392)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
ثم يقسم سبحانه وتعالى قسما آخر بالرياح، وهى تنشئ السحاب وتنشره: «وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» ويعطف على هذه الرياح- صور مواليدها التي تولّدت عنها، من سحب متفرقة، ومن غيوث هاطلة: «فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» ..
وفى القسم بالرياح وآثارها، إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى أن تلك القدرة التي سخرت هذه الرياح، وأودعت فيها ما أودعت من أرواح سارية، يستمد منها الأحياء حياتهم، ويلتقطون أنفاس الحياة منها، ثم لا تقف عند هذا بل تسوق إليهم مادة الحياة وقوامها، من هذا الماء الذي يتحلّب من السحاب المتولد عنها، والمنشّأ على يديها- هذه القدرة لا يعجزها أن تبعث الموتى من قبورهم، وأن تحشرهم يوم القيامة للحساب والجزاء: «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» .. فمن كذب بهذا الوعد استبعادا له، وإعجازا لأية قدرة أن تحققه- جاءه من عالم الرياح شهود عدول، يدينونه ويفضحون مدعياته الباطلة..
الآيات: (8- 15) [سورة المرسلات (77) : الآيات 8 الى 15]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)(15/1393)
التفسير:
قوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» .
وإذ تقرّر أن يوم الفصل آت لا ريب فيه، وأن ما يوعد الناس به فى هذا اليوم واقع لا محالة- إذ تقرر هذا جاءت الآيات لتعرض صورا من مشاهد هذا اليوم، وما يقوم بين يديه من إرهاصات..
فمن إرهاصات هذا اليوم التي تتقدم وقوعه، أن تطمس النجوم، أو يذهب ضوءها، فلا تراها العيون على ما عهدتها عليه من قبل فى هذه الدنيا..
وأن تنشق السماء، فلا ترى سقفا مصمتا مغلقا كما تبدو للناظرين اليوم:
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. وأن تضيع معالم الجبال، فلا يرى لها على وجه الأرض ظل: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» .. (105- 107: طه) وقد أشرنا فى غير موضع من تفسيرنا: «التفسير القرآنى للقرآن» «1» - إلى أن تغير هذه المعالم الكونية يوم القيامة- إنما هو نتيجة لتغير موقف الإنسان منها، وما يطرأ على حواسه المتلقية لها من تغير.. أما هذه المعالم فى ذاتها فهى باقية على ماهى عليه.. ومن إرهاصات يوم القيامة أن تؤقت الرسل، أي يؤجل بعثها إلى الناس، فلا يبعث فيهم رسول.. وهذا يعنى أننا منذ بعثة الرسول محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ونحن على مشارف هذا اليوم الموعود، إذ كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- خاتم رسل الله، وأن لا نبى بعده.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» - وأشار-
__________
(1) انظر مثلا، تفسيرنا لسورة «الطور» .(15/1394)
صلوات الله وسلامه عليه- بأصبعيه: السبابة والوسطى» .
ويجوز أن يكون المراد بالرسل هنا- والله أعلم- العقول الرشيدة، والفطر السليمة فى الناس، حيث أن مع كل إنسان رسولا إلى نفسه، هو عقله، وفطرته..
فإذا انتهى الأمر بالناس إلى أن تضل عقولهم جميعا عن الحق، وأن تزيغ قلوبهم جميعا عن الهدى، فلم يبق فيهم مؤمن بالله، قائم على شريعته- كان ذلك إيذانا بقرب يوم القيامة، وإرهاصا من إرهاصات وقوعه، ويكون معنى توقيت الرسل هنا، تعطل العقول عن عملها، ووقوع الخلل والفساد فى الطبيعة البشرية وتنكيسها فى الخلق.
ومما يشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، ماورد فى الآثار من تبدل أحوال الناس بين يدى نفخة الصور الأولى، وانتكاس طبيعتهم، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الدين غريبا، وسيعود كما بدأ.. فطوبى للغرباء» وقوله تعالى:
«لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ» هو سؤال وارد على الخبر فى قوله تعالى: «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ» - أي إلى أىّ يوم هذا التوقيت، أو التأجيل للرسل؟ فكان الجواب:
«لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي ليوم القيامة.. فهو غاية لتأجيل الرسل، وتعطيل عملهم..
والسؤال هنا هو: وهل إذا كان تأجيل الرسل أو تعطيل عملهم غايته هو يوم القيامة، فهل إذا جاء يوم القيامة ينتهى هذا التوقيت، ويعود الرسل إلى مكانهم فى الناس؟(15/1395)
والجواب: أن نعم وعلى كلا الرأيين الذين ذهبنا إليهما..
فإن رسل الله- صلوات الله وسلامه عليهم- سيظهرون مرة أخرى مع أقوامهم فى مشهد الحساب والجزاء، يشهدون على أقوامهم، وما كان منهم من استجابة لهم، أو خلاف عليهم، وتكذيب بهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.. وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) وقوله سبحانه: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟» (109: المائدة) .
أما العقول التي ضاع رشادها، والقلوب التي عميت بصيرتها- فإنها تجىء يوم القيامة وقد انكشف الغطاء عنها، فترى الأمور رؤية كاشفة، وتعرف الحقّ واضحا مشرقا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) قوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» يوم الفصل، هو يوم القيامة، الذي يفصل فيه سبحانه وتعالى بين الناس.
والاستفهام يراد به تهويل هذا اليوم، وما يقع فيه من أحداث، لا يمكن أن تتصورها الأوهام، ولا أن تحيط بها العقول.
وقوله تعالى:
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .. هو جواب الشرط «إذا» فى قوله تعالى:
«فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» وما عطف عليه.
والويل: هو الهلاك والبلاء المبين.. وهو وعيد للمكذبين بهذا اليوم، حيث لم يعدّوا أنفسهم له، ولم يعملوا حسابا للقائه.. «إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً» (27: النبأ)(15/1396)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
الآيات: (16- 28) [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .
هو مواجهة للمشركين للمكذبين بيوم الفصل، وتهديد لهم بالهلاك الدنيوي، وأخذهم بما أخذ الله به المكذبين من قبلهم فى الأمم السابقة، بعيدها وقريبها..
والأولون الذين أهلكهم الله، هم قوم نوح، وعاد، وثمود.. والآخرون هم من جاءوا بعدهم، كقوم فرعون، وقوم لوط..
والمراد بالاستفهام هنا، التقرير، واستنطاق الواقع الذي شهدته الحياة، وسجله التاريخ..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ» - هو تعقيب على هذا التقرير..(15/1397)
أي كما فعلنا بالأولين، وألحقنا بهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، فى كل أمة، وفى كل جيل.. فهذا هو حكم الله فى أهل الضلال، لا استثناء فيه.. وفى هذا إشارة إلى المشركين الذين يواجهون النبي بعنادهم وضلالهم، ويركبون نفس الطريق الذي ركبه الضالون من الأولين والآخرين قبلهم.. فالويل لهم يومئذ من عذاب الله المرصود لكل مكذّب بهذا الحديث..
قوله تعالى:
«أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ؟» هو دعوة إلى هؤلاء الضالين المكذبين من المشركين، أن يعيدوا النظر فى موقفهم من إنكار البعث، وتكذيبهم به، واستبعادهم له، حتى يخلصوا بأنفسهم من هذا الويل المطلّ عليهم، فتلك هى فرصتهم الأخيرة، فإن لم يبادروها ويصححوا موقفهم فيها، أقلعت سفينة النجاة، وتركتهم يغرقون فى هذا الطوفان المقبل عليهم!! فهؤلاء الذين يستبعدون البعث، ويستعجزون قدرة الله عن إعادتهم إلى الحياة بعد الموت- ألم يخلقهم الله من ماء مهين؟ فما الفرق بين خلقهم من هذا الماء المهين، وبين بعثهم من التراب؟
والماء المهين، هو ماء الرجل، وهو المنىّ الذي يتخلق منه الجنين فى رحم الأمّ.
ووصف الماء الذي خلق منه الإنسان بأنه مهين- إشارة إلى أنه فى ظاهره شىء لا وزن له فى مرأى العين، بل هو شىء مستقذر، لا يحرص عليه الإنسان..
قوله تعالى:
«فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» .(15/1398)
أي أن هذا الماء المستقذر المهين، قد جعله الله سبحانه وتعالى، ماء مصونا محفوظا «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» - هو رحم الأم.
إن هذا الماء المهين إذن، ليس كما يبدو فى ظاهر الأمر شيئا محقرا، أشبه بفضلات الإنسان، وإنما هو فى حقيقته حياة، تضم فى كيانها هذه المخلوقات البشرية.. إنه الناس، فى صورهم وأشكالهم.. إنه صورهم المضمرة، ووجودهم المستور.. ولهذا صانه الله سبحانه وتعالى، وأودعه هذا القرار المكين الذي أعده له.
وقوله تعالى:
«إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» .
متعلق بقوله تعالى: «فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» أي أن هذا المستودع الذي أودع فيه هذا الماء، لا يمسك هذا الماء إلا إلى زمن محدود، وغاية ينتهى إليها، وهى مدة حمل الجنين فى رحم الأم، من استقرار النطفة فيه إلى خروجها منه بشرا سويّا.
وقوله تعالى:
«فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .
أي فقدرنا بقدرتنا وحكمتنا مسيرة هذه النطفة فى الرحم، وتنقلها فيه من طور إلى طور، وذلك بقدر معلوم، وتقدير موزون، وحساب محكم دقيق..
وقوله تعالى:
«فَنِعْمَ الْقادِرُونَ» هو ثناء من الله سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة، التي لا يحسن الثناء عليها، ولا يوفيها حقّها، إلا هو سبحانه وتعالى، وفى هذا يقول الرسول الكريم، فى تمجيد ربه والثناء عليه: «سبحانك..
لا أحصى ثناء عليك.. أنت كما أثنيت على نفسك» ..(15/1399)
وفى هذا الثناء من الله سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة- إشارة إلى أن هذا الإبداع فى الخلق، والإحكام فى التصوير، مشهد يقف الوجود كله مبهورا أمام جلاله وروعته، ثم لا يجد من صيغ الثناء ما ينطق به فى هذا المقام، فكان صمته أبلغ من كل كلام، وكانت حجته على الصمت، أن نطق أحكم الحاكمين رب العالمين.. فليس بعد قول الله قول، ولا بعد ثنائه ثناء! فالويل يومئذ لمن كان لا يرجو لله وقارا، ولا يعرف لجلاله قدرا! قوله تعالى:
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً» .
هذا مشهد آخر من مشاهد قدرة الخالق جلّ وعلا..
فإذا عميت بعض البصائر عن أن ترى مسيرة هذه النطفة الصغيرة، وأن تشهد ما انطوت عليه من حياة، وما تفجر منها من مخلوقات- فإنها تستطيع أن تنظر إلى كائن آخر، أكبر حجما من هذه النطفة.. إنه الأرض!! الأرض كلها بما على ظهرها، وما فى بطنها..
فماذا يرى من هذه الأرض، ظاهرا أو باطنا؟
إنها النطفة.. مكبرّة!! إنها حياة وموت.. فى وقت معا..
إنها حياة منطلقة من موات، وموات يتخلف من حياة..
إنها رحم كبير، يتفتح لنطف الماء الذي يتحلب عليه من السحاب! - «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً.. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (5: الحج) .(15/1400)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
- «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ» (27: السجدة) .
- «أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا» (25- 31: عبس) .
ومعنى «كفاتا» أي مستودعا.. يقال: كفت الشيء، أي ضمه إلى نفسه، مثل كفله.
وقوله تعالى: «أَحْياءً وَأَمْواتاً» عامل النصب فى أولهما فعل محذوف، مفهوم من قوله تعالى: «كفاتا» أي مستودعا يضمّ أحياء وأمواتا.. ويجوز أن يكون عامل النصب هو «كفاتا» بمعنى ضامّة أحياء وأمواتا..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» ..
هو إشارة إلى الجبال التي تبرز على وجه الأرض عالية شامخة، تهول، وتروع، وتحدّث عن عظمة الصانع العظيم الذي أقامها.
وقوله تعالى: «وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً» أي ماء عذبا، زلالا، هو بعض هذا الماء الملح، الذي على كثرته لا تقوم عليه حياة الإنسان.. أفبعد هذا تكذبون بالبعث، وتنكرون يوم الجزاء؟ فالويل لكم من هذا الضلال الذي أنتم غارقون فيه.. أيها المكذبون!
الآيات: (29- 40) [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)(15/1401)
التفسير:
قوله تعالى:
«انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» ..
هو إشارة إلى المكذبين بيوم الفصل، بعد أن أصروا على موقفهم من التكذيب به، وبعد أن ضربوا صفحا عن كل ماقام بين أيديهم من شواهد، وما انتصب لهم من أدلة على قدرة الله التي لا يعجزها شىء، فمضوا فى طريق الكفر والضلال، حتى ضمتهم القبور.. ثم هاهم أولاء يبعثون من قبورهم، ويتلفتون إلى أي مساق هم مسوقون إليه، وإذا صوت مزلزل يخترق أصماخ آذانهم، ويلقى فيها بهذا الأمر الصادع: «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ..
أي انطلقوا إلى موقف الحساب والجزاء، إلى ساحة الفصل، فهذا يومه الذي كنتم به تكذبون.. ثم يتبع هذا الأمر بأمر آخر يكشف لهم عن وجه المنطلق الذي ينطلقون إليه: «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» .
وأين ذلك الظل ذو الثلاث شعب؟ إنه على غير ما يعرف الناس من ظل فى الحياة الدنيا.. فليبحثوا عنه هنا فى المحشر.. إنه بلا جدال ليس من ظلال(15/1402)
الجنة، فظلال الجنة ممتدة دائمة، كما وصفها الله سبحانه وتعالى فى قوله:
«أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» (35: الرعد) وفى قوله تبارك اسمه: «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (27- 30 الواقعة) .
وإذن فهذا الظل لا مكان له إلا فى جهنم، إذ ليس فى هذا اليوم إلا الجنة والنار.. وإنه لهناك فعلا..
وقد جاء فى القرآن الكريم وصف لهذا الظل الجهنمى فى قوله تعالى:
«وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ؟ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» (41- 44: الواقعة) واليحموم الدخان الأسود الكثيف، الذي ينعقد فى الجو..
والدخان الكثيف، إذا خرج من موقده، كان فى أول أمره كتلة واحدة، فإذا ارتفع قليلا فى الجو تخلله الهواء، ورق قليلا، وكان طبقة أرق من الطبقة التي تحته،، ثم إذا علا فى الجو، رقّ، فكان أرق مما تحته.. ثم إذا ارتفع أكثر من هذا المدى ذاب فى الهواء وتبدد، ولم يعد له ظل!! فهذا هو الظل، وتلك هى شعبه الثلاث التي تشعب إليها، وكأن كل شعبة من الشعب الثلاث كيان قائم بذاته، وإنما سميت شعبة لأن أصلها من مصدر واحد، هو النار.
وقوله تعالى: «لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» - هو وصف لهذا الظل الجهنمى.. إنه لا ظليل، أي لا يستظل به من حر، ولا يأوى إلى ظله محرور، من الكائنات الحية، وإنه لا يغنى من اللهب، أي لا يدفع عنهم لهب جهنم الذي ينوشهم من كل جانب..
وفى دعوتهم إلى الانطلاق إلى ظلّ هو من دخان جهنم، لا إلى جهنم ذاتها، مع أنهم مدعوون إليها أصلا- فى هذا استهزاء بهم، وسخرية منهم، ومبالغة(15/1403)
فى إيلامهم، حيث يلوّح لهم بالظل، الذي يفتح لهم بابا من الأمل، فإذا هذا الظل لا يتمتع به إلا من أخذ مقعده من النار!! قوله تعالى:
«إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ» الضمير فى إنها يعود إلى جهنم، التي يقوم على سمائها هذا الظل ذو الثلاث شعب.
وفى وصف الشرر الذي ترمى به بأنه كالقصر، أي البيت العظيم- إشارة الى ضخامة حريقها، الذي لا تبلغ جبال الدنيا مجتمعة بعضا من ضخامته.
وقوله تعالى:
«كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» الجمالات: جمع جمّل، وهو الحيوان المعروف.
وفى جمع الجمل، على جمالات، إشارة إلى أنها من الجمال المتخيرة من بين الجمال، ضخامة، وامتلاء.. مثل رجالات، التي هى جمع لرجال ذوى صفات متميزة..
وفى وصف الجمال بأنها صفر، إشارة إلى وصف لون الشرر، بعد أن وصف بالضخامة بأنه كالقصر..
وفى وصف لون الشرر بالجمالات الصفر، دون غيرها من كل ذى لون أصفر- إشارة إلى الحركة، واللون، والضخامة، جميعا.. فهذا الشرر ينطلق بعضه إثر بعض فى تتابع كأنه قطعان من الجمال الصفراء، ينطلق بعضها إثر بعض! فالويل للمكذبين، من هذا البلاء المحيط بهم، ومن هذه النار التي ترمى بهذا الشرر العظيم..(15/1404)
قوله تعالى:
«هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» ..
أي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال بالمكذبين الضالين، هو يوم لا ينطقون فيه، ولا تتحرك ألسنتهم بمثل هذا الزور الذي كانت تتشدق به فى الدنيا.. «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (65: يس) وهذا لا ينفى أنهم يتكلمون يوم القيامة، ولكن ليس الكلام الذي كان يجرى على ألسنتهم فى الدنيا، من زور وبهتان، ومن تفاخر وتطاول على العباد.. إن كل شىء فيهم يومئذ ينطق بالحق! وقوله تعالى: «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» - أي لا يؤذن لهم بكلام يلقون فيه بأعذار يعتذرون بها عن جناياتهم فى الحياة الدنيا: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) فالويل لهؤلاء المكذبين، ولكل مكذب بيوم الدين..
قوله تعالى:
«هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ» أي هذا هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، لقد وقع، فلا مناص لكم منه، ولا مخرج لكم من البلاء الذي أنتم ملاقوه فيه، وقد التقيتم فيه بمن سبقكم من المكذبين قبلكم، الذين ضربت لكم الأمثال بهم فى الدنيا، فلم تنتفعوا بها، ولم يكن لكم فيمن سبقكم عبرة..
قوله تعالى:
«فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .(15/1405)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
أي فإن كان لكم أيها المكذبون الضالون حيلة تحتالون بها، أو كيد تكيدون به، لتخرجوا من هذا البلاء- فهاتوه!! فالأمر هنا، أمر تعجيز، حيث يواجه المأمور بما هو محال.
فادفع بكفك إن أردت فخازنا ... ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل؟
إنه لا كيدلهم، ولا حيلة بين أيديهم لدفع هذا البلاء، فالويل لهم من عذاب الله..
الآيات: (41- 50) [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ» هذا عرض لحال أهل الإيمان والتقوى، يوم القيامة، حيث يدعون إلى الجنة، وما فيها من ظلال وعيون، وفواكه مما تشتهى الأنفس، وتلذا الأعين وقد دعى أهل الضلال من قبل إلى جهنم، وإلى ظلها ذى الثلاث شعب! وقوله تعالى:
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»(15/1406)
هو دعوة لأهل الجنة إلى هذه الموائد الممدودة لهم وما عليها من نعيم الجنة وثمارها.. فليأكلوا ما طاب لهم، وليهنئوا بما أكلوا وما شربوا، فهذا جزاء ما كانوا يعملون.. إنه الجزاء الذي أعده الله لأهل الإحسان من عباده.
وفى هذا العرض للمتقين، وفى هذه الدعوة التي تستحثهم على الطعام والشراب- كبت للمكذبين الضالين، وإثارة للحسد الذي يأكل قلوبهم، إن كان ثمّة بقية لم تأكلها نار جهنم..
قوله تعالى:
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ.. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .
هو مواجهة للمكذبين الضالين، وهم فى أماكنهم من دنياهم، وما هم فيه منها من لهو ولعب، إنه ليس لهم إلا الويل، والبلاء.. فليأكلوا، وليتمتعوا فى دنياهم بما شاءوا.. إنهم مجرمون، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، ثم تساق إلى الذبح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) فمن كانت النار تنتظره، كيف يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب؟
وفى قوله تعالى: «قَلِيلًا» إشارة إلى أن هذا المتاع الذي ينا المشركون فى الدنيا.. هو- مهما كثر- متاع قليل، لا يلبث أن يزول معبا وراءه يلاء طويلا، وعذابا دائما. وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» هو تعليل لهذا الوعد من قوله تعالى: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا» .. وهذا مثل قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» (75: مريم) قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» ومن إجرامهم أنهم(15/1407)
كانوا «إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا» أي استجيبوا لله وأسلموا له «لا يَرْكَعُونَ» أي لا يسمعون، ولا يستجيبون، عنادا، واستكبارا، وضلالا.. فالويل والبلاء يومئذ للمكذبين.. وهؤلاء فريق منهم.
وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة، استدعاء لغيرهم أن يشهد موقفهم هذا الآثم، وأن ينكره عليهم، ويتلقى منهم عبرة وموعظة، فلا يقع تحت طائلة هذا التهديد الذي هدّدوا به..
قوله تعالى:
«فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» إنكار لموقف هؤلاء المشركين من دعوة الحق التي دعوا إليها، والتي حملها إليهم القرآن الكريم، الذي يتلوه عليهم رسول كريم.. وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، ولم ينكشف لهم على ضوئه طريق الهدى والإيمان، فبأى حديث إذن بعد هذا الحديث يؤمنون؟ وبأى نور بعد نوره يبصرون؟ إنهم إذا لم يهتدوا بهذا القرآن فلن يهتدوا أبدا، ولن يجدوا إلى نور الحق سبيلا..
هذا، وقد تكرر فى السورة الكريمة قوله تعالى: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» - عشر مرات، وكلها تدعّ المكذبين الضالين دعّا، وتلقاهم على رأس كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى جهنم، بالويل والثبور، وترجمهم باللعنات، تصبها على رءوسهم صبّا..
وأكثر من هذا، فإنهم وهم يساقون إلى جهنم، وإذا يلقون فى جحيمها، ويستظلون بظلها ذى الثلاث شعب- يجيئهم حديث عن أهل الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة، ردّوا عنها بهذه الصاعقة يرمى بها فى وجوههم: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» انهم ليس لهم إلا الويل، يأتيهم من كل لسان، وفى كل مقام.
تم الجزء التاسع والعشرون، ويليه الجزء الثلاثون.. إن شاء الله(15/1408)
[الجزء السادس عشر]
(78) سورة النبأ
نزولها. مكية، نزلت بعد سورة المعارج عدد آياتها: أربعون آية.
عدد كلماتها: مائة وثلاث وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثمانمائة وستة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها كانت سورة «المرسلات» قبل هذه السورة- حديثا متصلا عن المشركين، وكانت نهاية هذا الحديث معهم أن القى بهم فى جهنم، وأخذ كل منهم مكانه فيها.. ثم أعيدوا إلى مكانهم من هذه الحياة الدنيا، حيث يأكلون ويتمتعون، كما تأكل الأنعام، دون أن يكون لهم من تلك الرحلة المشئومة بهم إلى جهنم، وما رأوا من أهوالها- ما يغير شيئا مما فى أنفسهم من ضلال وعناد، فما زالوا على موقفهم من آيات الله التي تتلى عليهم، وما زالوا فى تكذيب لرسول الله، وفى عجب واستنكار، حتى ليتساءل الوجود كله: إذن فبأى حديث بعد هذا الحديث يؤمن هؤلاء الضالون المكذبون؟
وتجىء سورة «النبأ» بعد هذا التساؤل الاستنكارى لنمسك بهم وهم فى حديث عن هذا الحديث، وفى بلبلة واضطراب من أمره، وفى تنازع واختلاف فيه، لا يجدون- حتى فى أودية الزور والبهتان- الكلمة التي يقولونها فيه، والتهمة التي يلصقونها به.. إن أية قولة زور يزينها لهم الشيطان ليلقوا بها فى وجه القرآن، لتسقط على رءوسهم، كما يسقط الحصى برمى به فى وجه الشمس، ليخفى ضوءها، أو يعطل مسيرتها..(16/1411)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 16) [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«عَمَّ يَتَساءَلُونَ» ؟
أي عن أي شىء يتساءل هؤلاء المشركون؟ وهل هناك مشكلة مستعصية عليهم، حتى يكون منهم هذا التساؤل الملحاح، الذي يصبحون فيه ويمسون؟
قوله تعالى:
«عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» .
يجوز أن يكون هذا جوابا عن السؤال الوارد فى قوله تعالى: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» ؟ أي أنهم يتساءلون عن النبأ العظيم، الذي اختلفت فيه آراؤهم، وتشعبت به فى طرق الضلال عقولهم، دون أن يتعرف أحد منهم الطريق إلى(16/1412)
الهدى، وإلى الخروج من دوامة هذا الاختلاف.. إنهم لا يختلفون فى سبيل البحث عن الحقيقة، والتعرف عليها، وإنما خلافهم فى أن يجدوا طريقا واحدا من طرق الضلال والبهتان، تجتمع عليه كلمتهم، ويلتقى عنده رأيهم.
والنبأ العظيم، هو الأمر ذو الشأن، الذي تغطّى أخباره كل خبر، فتتجه إليه الأنظار، وتشغل به الخواطر.. والمراد به هنا، القرآن الكريم، وما يحدثهم به عن البعث والقيامة، والحساب.. الأمر الذي لا تحتمل عقولهم تصور إمكانه.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» سؤالا آخر بعد السؤال الأول: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» ؟. أي أيتساءلون عن هذا النبأ العظيم، الذي هم مختلفون فى مذاهب القول فيه، وفى أن ما يحدثهم به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- عن البعث، والحساب والجزاء، شىء لا يصدق، وأن ذلك إنما هو من خداع «محمد» واستهوائهم لاتّباع دعوته، لحاجة فى نفسه؟ أذلك هو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟
قوله تعالى:
«كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» هو رد على هذا الذي يتساءلون عنه.. إنه أمر لا يدعو إلى تساؤل من عاقل، ولا يثير خلافا بين عقلاء.. إذ كان أظهر من أن يسأل عنه، وأوضح من أن يختلف فيه، وأنهم إذا جهلوه لجهلهم، أو تجاهلوه بعنادهم- فإنه سيأتى اليوم الذي يعلمونه فيه يقينا، ويرونه عيانا..
وفى تكرار الخبر، توكيد له، وتقرير لتلك الحقيقة السافرة، التي تقوم بين يديها ومن خلفها، الأدلة القاطعة، والبراهين الناطقة!(16/1413)
قوله تعالى:
. «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً..»
هذا عرض لبعض الأدلة والبراهين التي تقوم شاهدة على قدرة الله سبحانه وتعالى، وعلى ما فى متناول هذه القدرة من التصريف فى عالم الإنسان، حياة، وموتا، وبعثا.. وقد كان من شأنهم- لو كان لهم عقول- أن يقفوا بين يدى هذه المعارض من قدرة الله، وأن يقرءوا فى صحفها ما يحدثهم عن جلال الله وقدرته..
فهذه الأرض، قد جعلها الله بقدرته القادرة «مهادا» أي فراشا ممهدا، وبساطا ممدودا، يتحرك فيها الإنسان، ويسلك مسالكها، ويجد وسائل العيش والحياة فيها..
وهذه الجبال، قد جعلها الله سبحانه «أوتادا» تمسك الأرض، حتى لا تميد وتضطرب.. إنها أشبه بالأوتاد التي تشد الخيمة، وتمسك بها..
ثم هأتم أيها الناس، وقد خلقكم الله أزواجا، ذكرا وأنثى، حتى تتوالدوا فى هذه الأرض وتتكاثروا، ويتصل نسلكم فيها، وتعمر وجوهها بأجيالكم المتعاقبة عليها..
وليست هذه المزاوجة لكم وحدكم، أيها الناس، بل هى أمر عام ينتظم عوالم الأحياء كلها، من نبات وحيوان.. بل إن هذا الحكم ليمتد، فيشمل كل ما خلق الله.. فكل مخلوق، من عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، لا يقوم له وجود إلا إذا كان له ما يقابله من جنسه، مقابلة عنادّيّة، من شأنها(16/1414)
أن تستثير قواه، وتبعث كوامنه، وهو بالتالى يستثير المقابل له، ويستخرج كوامنه، وبهذا يلتقيان، ويتزاوجان، وتتكون من تزاوجهما طاقة يتولد عنها مخلوق جديد، وهكذا الشأن فى عالم المعاني أيضا..
فالذكر تقابله الأنثى، والأنثى يقابلها الذكر، والنور يقابله الظلام، والنهار يقابله الليل، واليقظة يقابلها النوم، والحياة يقابلها الموت، والحق يقابله الباطل، والجميل يقابله القبيح.. وهكذا، فليس شىء فى الوجود قائم بذاته، متفرد بوجوده.. وذلك لتكون الوجدانية خالصة لله الواحد القهار.
قوله تعالى:
. «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» السّبات: السكون، والهمود، والمسبوت الميّت، يقال: ضربه فأسبته، أي أحمد أنفاسه، وأبطل حركته.. والسبت: القطع.
ومن قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن آثار رحمته، أنه جعل النوم موتا لنا ونحن أحياء، فألبسنا الحياة والموت معا.. نحيا، ونموت، ونموت ونحيا، وذلك فى كل يوم من أيام حياتنا.
فالنوم، صورة مصفرة من الموت، وانطلاق الروح فى حال النوم، وسياحتها ورحلتها المنطلقة بعيدا عن الجسد، هو أشبه بانطلاقها انطلاقا مطلقا بعد الموت، وارتحالها الأبدى فيما وراء المادة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) وقوله سبحانه:
«وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» (60: الأنعام) قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» .(16/1415)
أي ومن فيض قدرته- سبحانه- ومن تدبير حكمته، أنه جعل الليل لباسا، أي ساترا، يستر الكائنات، كما يستر الثوب الجسد، ويرخى على الأحياء سترا يمسك حواسها المنطلقة أثناء النهار، ليعطيها فرصتها من الراحة والسكون، وليتيح للقوى المندسة فى كيان الإنسان، من مدركات- وعواطف، ومشاعر- أن تنطلق، لتجد وجودها كاملا، وبهذا يحدث التوازن بين كل القوى المتزاوجة فى الإنسان.. بين جسده وروحه، بين مادياته ومعنوياته، بين حركته وسكونه، بين يقظته ونومه..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» المعاش: الحياة.. وسميت الحياة معاشا باسم سببها، وهو العيش الذي لا حياة لحىّ إلا بما يتبلغ به من طعام..
أي ومن قدرة الله سبحانه، ومن فيض فضله ورحمته، أن جعل النهار مبصرا، ليرى الأحياء فيه مواقع معاشهم، ووسائل كسبهم..
قوله تعالى:
«وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» السبع الشداد، السموات السبع.. ووصف السموات بأنها شداد، إشارة إلى ما يبدو لنا من قيامها سقفا مرفوعا فوقنا، دون أن تسقط علينا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» (6: ق) وقوله تعالى: «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (47: الذاريات)(16/1416)
وأمّا القول بأنها الكواكب السبعة، فغير صحيح، لأن الكواكب ليست سبعة، وإنما الذي عرف منها إلى الآن تسع، وهناك كواكب كثيرة لم تكتشف بعد، وقد تبلغ المئات عدّا..
وأصحّ من هذا أن يقال إنها الطرائق السبع، التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» (17: المؤمنون) وهى أطباق السموات السبع، كما يقول سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» (3: الملك) قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» والسراج الوهاج، هو الشمس، ووصف السراج بأنه وهاج، إشارة إلى توهج الشمس وتوقدها، فهى كرة من نار، متّقدة..
قوله تعالى:
«وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً» المعصرات: هى السحب التي يتحلب منها الماء، أشبه بالثوب المبلول، يعتصر، فيتساقط الماء منه..
وفى وصف السحب بأنها معصرات، إشارة إلى أن الماء الذي تحمله متلبس بها، مندسّ فى كيانها، بل هى فى حقيقتها ماء، ووعاء.. معا..
والثجاج أو السحاح. المتدفق.
قوله تعالى:
«لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» .(16/1417)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
هو بيان لما يتولد من هذا الماء المتدفق من السحب، فبهذا الماء يخرج الله الحب والنبات، ومنه يخرج هذه الجنات المتشابكة الأعصان، المتعانقة الأفنان..
والله سبحانه قادر على أن يخرج النبات من غير ماء، ولكن أقام سبحانه نظام الوجود على أسباب ومسببات.. فمنه سبحانه الأسباب، ومنه تبارك اسمه المسببات..
والحب: ما يقتات منه الناس، كالبرّ، والشعير، والذرة، والأرز، ونحوها..
والنبات: ما تأكل منه الأنعام، كالكلأ ونحوه..
فهذه بعض مظاهر قدرة الله.. أفلا يرى المشركون المكذبون بالبعث، المختلفون فيما يحدثهم به النبىّ عنه- أفلا يرون أن بعثهم لا يعجز هذه القدرة القادرة، التي أبدعت هذه الآيات، وأحكمت صنعها؟ وألا يحدث ذلك لهم علما يرفع هذا الخلاف الذي هم فيه؟
الآيات: (17- 30) [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)(16/1418)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» هو تهديد للمشركين بهذا اليوم الذي يكذبون به، ويختلفون فيه.. إنه آت لا ريب فيه، وهو يوم الفصل، فيما هم فيه مختلفون، وفيما يقضى به الله سبحانه وتعالى فيهم من عذاب..
والميقات: الموعد الذي أقّت لهذا اليوم..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» هو بدل من يوم الفصل، فيوم الفصل، هو يوم النفخ فى الصور، فإذا نفح فى الصور، بعث الموتى من قبورهم، وجاءوا إلى المحشر أفواجا، أي زمرا، إثر زمر..
قوله تعالى:
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» الواو فى قوله تعالى: «وفتحت» واو الحال، والجملة بعدها حال من فاعل «فتأنون أفواجا» .. أي تأتون جماعات وأمما، وقد فتحت السماء فكانت أبوابا، وأزيح عن أعينكم هذا الغطاء الذي ترونها فيه- وأنتم فى الدنيا- سقفا سميكا مطبقا.. وكذلك الجبال تبدو وكأنها سراب يتراقص على وجه الأرض..
وقد أشرنا من قبل إلى هذا التبدل الذي يقع فى عوالم الوجود يوم القيامة، وقلنا إنه تبدل يقع فى حواس الإنسان ومدركاته، يومئذ، لا فى هذه العوالم ذاتها «1»
__________
(1) انظر هذا البحث فى الكتاب الرابع عشر (سورة الطور ص 545) .(16/1419)
يقول الأستاذ الإمام «محمد عبده» رحمه الله فى هذا المعنى: «يتغير فى ذلك اليوم- يوم القيامة- نظام الكون، فلا تبقى أرض على أنها تقلّ، ولاسماء على أنها تظلّى، بل تكون السماء بالنسبة إلى الأرواح مفتحة الأبواب، بل تكون أبوابا، فلا يبقى علو ولا سفل، ولا يكون مانع يمنع الأرواح من السير حيث تشاء..
ثم يقول: «والآخرة عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها، فنؤمن بما ورد به الخبر فى وصفه، ولا نبحث عن حقائقه مادام الوارد غير محال..
ولا شك أن امتناع السماء علينا إنما هو لطبيعة أجسامنا فى هذه الحياة الدنيا..
أما النشأة الأخرى، فقد تكون السماء بالنسبة لنا أبوابا ندخل من أيها شئنا بإذن الله..»
وقوله تعالى:
«إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً» هو تهديد للمشركين، المكذبين بيوم القيامة، وبما فيه من حساب وجزاء..
فهذه جهنم على موعد معهم، قد أعدت لهم، ورصدت للقائهم.. إنها مآب ومرجع للطاغين المكذبين، الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر..
قوله تعالى:
«لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» الأحقاب، جمع حقب، والحقب: جمع حقبة.. والحقبة من الزمن، القطعة الطويلة الممتدة منه، وسميت أجزاء الزمن حقبا لأن بعضها يعقب بعضا، ومنه الحقيبة، التي يحملها المرء خلف ظهره، والمراد أن هؤلاء الطاغين الذين أخذوا منازلهم فى جهنم، لا يخرجون منها، بل يعيشون فيها أزمانا بعد أزمان، تتبدل(16/1420)
فيها أحوالهم: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) فهم ليسوا على حال واحدة، بل هم فى أحوال شتى من العذاب، يتقلبون فيه، وينتقلون من حال إلى حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» (19: الانشقاق) وقوله سبحانه: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (17: المدثر) وقوله سبحانه فى آية تالية، فى هذه السورة: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» قوله تعالى:
«لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزاءً وِفاقاً» الضمير فى «فيها» يعود إلى جهنم، وبحوز أن يكون عائدا إلى الأحقاب..
أي أن الطاغين الذي ألقوا فى جهنم، لا يذوقون فيها «بردا» أي شيئا من البرد الذي يخفف عنهم سعير جهنم، أولا يجدون شيئا من الراحة والسكون، بل هم فى عذاب دائم: «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» (75: الزخرف) كما أنهم لا يسقون فيها شرابا إلا ما كان من حميم وغساق..
والحميم: الماء الذي يغلى، والغساق: ما يسيل من أجسادهم من صديد يغلى فى البطون كغلى الحميم.. فهذا جزاء من جنس عملهم.. إنهم لم يعملوا إلا السوء، فكان جزاؤهم من حصاد هذا السوء الذي زرعوه، «حزاء وفاقا» لما عملوا، ومجانسا له..
قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» هو بيان للسبب الذي من أجله صاروا إلى هذا المصير الكئيب المشئوم..(16/1421)
إنهم كانوا لا يتوقعون حسابا، ولا يؤمنون به، بل كذبوا بآيات الله التي تحدثهم عن البعث والجزاء والحساب، فلم يعملوا لهذا اليوم حسابا.
والكذاب: وصف للكذب، ومبالغة فى صفته، كما أن كذاب (بالفتح) مبالغة لمن اتصف به.. أي أنهم كذبوا بآيات الله تكذيبا منكرا شنيعا، لما صحب تكذيبهم من سفاهة وتطاول على رسول الله..
وفى التعبير عن تكذيبهم بالحساب، بقوله تعالى: «لا يرجون» ، مع أن الرجاء عادة إنما يكون لتوقع الخير- فى هذا إشارة إلى أن يوم القيامة، من شأنه أن يكون أملا مرجوّا عند الناس، ففيه الحياة الحق، والخلود الدائم، والنعيم الكامل، وأن مقام الإنسان فى الحياة الدنيا هو مقام قلق، وإزعاج، لا ينبغى للعاقل أن يقيم وجوده عليه، بل ينبغى أن يسعى إلى التحول عنه، والنظر إلى ما وراءه، والرجاء فى حياة أكرم، وأفضل، وأبقى..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (110: الكهف) قوله تعالى:
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي وكل شىء كان أو يكون فى هذا الوجود محصّى فى كتاب مبين..
وكذلك أعمال هؤلاء المكذبين الضالين محصاة عليهم، مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قوله تعالى:
. «فَذُوقُوا.. فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً»(16/1422)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
هو من سياط البلاء والنكال التي تنهال على أصحاب النار، وهم على هذا المورد الوبيل، أن يشربوا من هذا العذاب، وأن يتجرعوا كئوسه الملأى بالحميم والغساق، وأن ما هم فيه فى لحظتهم تلك أهون مما يذوقونه فى كل لحظة آتية.. إنهم ينتقلون من عذاب إلى ما هو أشد منه، حالا بعد حال، ولحظة بعد لحظة، فليبادروا بشرب ما بأيديهم، قبل أن يشتد لهيبا، ويزداد غليانا.
الآيات: (31- 40) [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً»(16/1423)
هو وصف لما يتلقى المتقون من ربهم، من فضل وإحسان، فى مواجهة ما لقى للكذبون الضالون من عذاب ونكال.
فالمتقون لهم عند ربهم «مفاز» أي لهم مدخل إلى جناته ورضوانه، وإلى ما فى هذه الجنات من ثمار طيبة.. منها العنب، وقد خصّ العنب بالذكر، لأنه كما يبدو- فى الحياة الدنيا- طيب الثمر، دانى القطوف، ممتد الظل..
- وفى هذه الجنة «كواعب» جمع كاعب، وهى الفتاة التي نهد ثدياها، وذلك فى أول شبابها، وهؤلاء الكواعب «أتراب» أي متما ثلات فى الخلقة، حسنا، وبهاء، وشبابا.. وهذا يعنى أنهن خلقن على صورة من الكمال ليس بعدها غاية، حتى يقع تقاوت فيها.. وفى هذه الجنة كئوس «دهاق» مترعة ملأى، لا تفرغ أبدا. مما فيها من خمر لذة للشاربين.
قوله تعالى.
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً» أي ومن نعيم أهل الجنة ألّا يدخل على نفوسهم شىء مما يكدر صفاءها، من لغو القول، وهجره، وفحشه.. «وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (10: يونس) قوله تعالى:
«جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً» .
أي هذا النعيم الذي يساق إلى المتقين فى جنات النعيم، هو جزاء لهم من ربهم، على ما عملوا من صالح، وما أحسنوا من عمل.
وقوله تعالى: «عَطاءً حِساباً» إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزيهم به ربهم، ليس على قدر أعمالهم، فإن أعمالهم- مهما عظمت- لا تزن مثقال ذرة(16/1424)
لمن هذا النعيم، وإنما ذلك عطاء من ربهم، وفضل من فضله، وإحسان من إحسانه.. أما أعمالهم الصالحة، فليست إلا وسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإذا رضى الله عنهم أرضاهم، وأجزل العطاء لهم..
وفى العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي فى قوله تعالى: «مِنْ رَبِّكَ» بدلا «من ربهم» - فى هذا تكريم للنبى الكريم، وأنه من فضل ربّه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا.
وفى قوله تعالى: «حسابا» إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين:
فأولا، هو عطاء بحساب، حسب منازل المتقين عند الله، وحسب درجاتهم من التقوى، وثانيا، هو عطاء يكفى كل من نال منه، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء..
هذا، وقد أشرنا- فى غير موضع- إلى أن نعيم الجنة، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فإنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به، حيث تقّبلهم لهذا النعيم، واتساع قواهم له.. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند الله.. وقد ضربنا لهذا مثلا بمائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات، وحولها أعداد من المدعوين إليها.. فكلّ ينال منها قدر طاقته، وشهوته، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها.. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار! قوله تعالى:
«رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» .
هو وصف لله سبحانه وتعالى، المنعم بهذه النعم الجليلة.. إنها من ربّ م 90 التفسير القرآن ج 30(16/1425)
العالمين، رب السموات والأرض وما بينهما، من رب رحمن رحيم.
وقوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» - إشارة إلى أن هذا النعيم الذي ينعم به المتقون، إنما هو من رحمة الرحمن الذي أنزلهم منها هذا المنزل الكريم..
ولو ساقهم الله سبحانه إلى النار لما كان لهم على الله حجة، لأن أحدا فى موقف الحساب والجزاء لا يستطيع أن يسأل الله عن المصير الذي هو صائر إليه.. إنه لا يملك خطابا، ولا مراجعة.
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» ..
الظرف «يوم» هو قيد لهذا الوقت الذي لا يملك فيه المتقون خطابا..
فقوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» مظروف بهذا الظرف، وهو وقت قيام الروح والملائكة صفّا بين يدى الله، فى موقف الحساب والجزاء.. وقوله تعالى:
«لا يَتَكَلَّمُونَ» - هو بدل من قوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» .
والروح: هى أرواح البشر، فى موقف الحساب.. ويجوز أن يكون الروح، جبريل..
فالروح- أي الخلائق-، والملائكة، لا يتكلمون فى هذا الموقف، إلا من أذن الله له بالكلام، وقال صوابا فيما أذن الله سبحانه وتعالى له به من كلام.. فإذا أنطقه الله يومئذ، فإنما ينطق بالحق.
قوله تعالى:
«ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً» .
أي ذلك اليوم، هو اليوم الحق، الذي كذّب به المكذبون، واختلف فيه المختلفون.. فمن شاء النجاة والفوز فيه، اتخذ مآبا ومرجعا إلى ربه، وعمل(16/1426)
حسابا لهذا المرجع والمآب، وأعد لنفسه العمل الصالح لهذا اليوم..
قوله تعالى:
ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» .
أي بهذا الحديث، وبهذه الأدلة التي سيقت لكم فيه، قد جاءكم النذير أيها المكذبون بيوم القيامة، وهو نذير بالعذاب لكم فى هذا اليوم، وهو يوم قريب، وإن ظمنتموه بعيدا بعدا، تائها فى الزمن.. إنه مطلّ عليكم، ويومها ينظر المرء ما قدمت يداه، ويرى ما عمل من خير أو شر، ويومها يتمنى الكافر أن لو كان ترابا من هول ما يطلع عليه من سيئات أعماله.. وهى أمنية لا سبيل له إليها..!!(16/1427)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
(79) سورة النازعات
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «النبأ» عدد آياتها: ست وأربعون آية..
عدد كلماتها: مائة وتسع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «النبأ» بهذا النذير الذي يلقى به فى وجه المكذبين باليوم الآخر، وبما يلقاهم منه من بلاء، حتى إنه ليتمنى الكافر يومئذ أن يكون مغيّبا فى التراب، غائصا فى أعماقه، من هول ما يراه..
وقد جاءت سورة «النازعات» مفتتحة بهذه الأقسام، على أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، ولم يذكر لهذه الأقسام جواب، لأن جوابها قد سبقها، فى قوله تعالى: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ...
الآية» أي أن هذا العذاب القريب الذي أنذرنا كم به واقع، وحقّ «النَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً.. الآيات» .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 14) [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)(16/1428)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» .
يقول الأستاذ الإمام «محمد عبده» رحمه الله، عن هذه الأقسام التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها من مخلوقاته- يقول:
«جاء فى القرآن الكريم ضروب من القسم، بالأزمنة والأمكنة والأشياء..
والقسم إنما يكون بشىء يخشى المقسم إذا حنث فى حلفه به أن يقع تحت للؤاخذة- نعوذ بالله أن يتوهم شىء من هذا فى جانب الله- وما كان الله جل شأنه ليحتاج فى تأكيد أخباره إلى القسم بما هو من صنع قدرته، فليس لشىء فى الوجود قدر إذا نسب إلى قدره تعالى، الذي لا يقدره القادرون، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده- سبحانه- إلا لأنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه.
ولهذا، قد يسأل السائل عن هذا النوع من الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد فى كلام الله؟(16/1429)
فيجاب، بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم الله به، وجدته إما شيئا أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه، وعمى عن حكمة الله فى خلقه، أو انعكس عليه الرأى فى أمره، فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر الله شأنه عليه- فيقسم الله به، إما لتقرير وجوده فى عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه فى نفس من يحقره، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد فى قلب من أضله الوهم، أو خانه الفهم....
«ومن ذلك النجوم.. قوم يحقرونها لأنها من جملة عالم المادة، أو يغفلون عن حكمة الله فيها، وما ناط بها من المصالح، وآخرون يعتقدونها آلهة تتصرف فى الأكوان السفلية تصرّف الرب فى المربوب، فيقسم الله بأوصاف تدل على أنها من المخلوقات، التي تصرّفها القدرة الإلهية، وليس فيها شىء من صفات الألوهية ...
ثم يقول الإمام:
«وهناك أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن من الأديان السابقة على دين الإسلام، ما ظن أهله أن هذا الكون الجسماني، وما فيه من نور وظلمة، وأجرام، وأعراض- إنما هو كون مادى، لم يشأ الله كونه إلا ليكون حبسا للأنفس، وفتنة للأرواح، فمن طلب رضا الله، فليعرض عنه، وليبعد عن طيباته، وليأخذ بدنه بضرب من الإعنات والتعذيب وأصناف الحرمان، وليغمض عينيه عن النظر إلى شىء مما يشتمل عليه هذا الكون الفاسد فى زعمه- اللهم إلا على نية مقته، والهروب منه..
فأقسم الله بكثير من هذه الكائنات، ليبين مقدار عنايته بها، وأنه لا يغضبه من عباده أن يتمتعوا بما متعهم به منها، متى أدركوا حكمة الله فى هذا المتاع، ووقفوا عند حدوده فى الانتفاع» .(16/1430)
وقد رأينا أن ننقل رأى الإمام فى هذه الأقسام التي أقسم الله سبحانه بها فى القرآن، لأننا لم نجد قولا خيرا من هذا القول، ولا أوضح منه فى هذا المقام.
قوله تعالى:
«وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً» اختلف المفسرون- كشأنهم دائما فيما يحتمل التأويل والتخريج- فلم يجتمعوا على رأى فى مدلول كلمة «النازعات» .
والرأى عندنا- والله أعلم- أنها هى النجوم البعيدة، الغائرة، الغارقة فى أطباق السماء العليا..
فالنزع: بمعنى الانطلاق، والنزوح البعيد..
والغرق: بمعنى الإغراق فى الأمر، ومجاوزة الحدود..
«وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» هى النجوم، القريبة- نسبيّا، - منّا، فنرى لها حركات ظاهرة، على خلاف النجوم، الغارقة فى أجواء السموات العلا، حيث تبدو وكأنها مقيدة فى أماكنها، أما النجوم القريبة، فتظهر عليها الحركة، وتبدو كأنها نشطت من عقالها..
«وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» هى الكواكب، المطلة علينا فى سماء الدنيا، كالشمس، والقمر، والمشترى والمريخ، وزحل، وغيرها.
فهذه الكواكب لقربها منا، نراها سابحة فى الجو، كما تسبح الطيور..
- «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (38: يس) ..
«فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» ..(16/1431)
هى هذه الكواكب السابحة سبحا، وهى- كما يبدو من ظاهر حركاتها- فى سباق مع بعضها، حيث ترى الشمس مرة أمام القمر، ويرى القمر مرة أمامها..
«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ..
هى أيضا نفس هذه الكواكب، السابحات سبحا، والسابقات سبقا..
إنها فى تعاملنا معها، تضبط الزمن، ساعات، وأياما، وشهورا.. «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» (12: الإسراء) ..
وتدبير هذه الكواكب لأمورنا، هو فيما يظهر من آثارها فى حياتنا، من حرّ وبرد، ومن هبوب رياح، ونزول أمطار، وإنضاج ثمار، ومدّ وجزر فى البحار، وغير ذلك مما نشهده من حركة الشمس والقمر، وما يتبع هذه الحركة من آثار فى عالمنا الأرضى، برّا، وبحرا، وجوّا..
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» ..
ليس هذا جواب القسم، فجواب القسم- كما قلنا- هو مادل عليه ختام سورة النبأ، أما هذا فهو بيان لما يجرى فى يوم القيامة، الذي جاء القسم لتوكيده، الأمر الذي يقتضى التسليم به، فلم يبق إلا بيان ما يحدث فيه..
والراجفة: الأرض، والرادفة السماء..
فالأرض ترجف يوم القيامة، ثم تتبعها السماء، فيما يقع فيها من أحداث هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) ..(16/1432)
وقيل: الراجفة: النفخة الأولى، وهى صعقة الموت: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (68: الزمر) ..
والرادفة: النفخة الثانية، وهى نفخة البعث: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» (68: الزمر) .. وجملة «تتبعها الرادفة» حال من «الراجفة» ..
وقوله تعالى:
«قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» ..
الواجفة: الخائفة، المذعورة: المضطربة.. والوجيف: ضرب من السير السريع المضطرب.
وهو إخبار عن حال المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، وذلك حين تطلع عليهم أمارات الساعة، وإرهاصاتها..
وفى الإخبار عن القلوب، دون أصحابها، إشارة إلى أن القلوب فى هذا اليوم، هى التي تتلقى هذه الأحداث، وتتفاعل بها، وأن الإنسان فى هذا اليوم قد استحال إلى قلب واجف مضطرب، كل جارحة فيه، وكل عضو من أعضائه، قد صار قلبا، يدرك، ويشعر، وينفعل.. وذلك من شدة وقع الأحداث، التي يتنبه لها كيان الإنسان كله.. وفى تنكير القلوب، إشارة إلى أنها قلوب غير تلك القلوب التي عهدها الناس، إنها هذا الإنسان المجتمع فيها بكل أعضائه وجوارحه.
قوله تعالى:
«أَبْصارُها خاشِعَةٌ» ..(16/1433)
أي أبصار هذه القلوب أو أبصار أصحابها، إذ لا فرق بين الإنسان وقلبه يومئذ.. والخاشعة الذليلة.. وإنما أوقع الذلّ على الأبصار، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها أحوال الإنسان، وما يقع فى القلب من مسرات ومساءات..
قوله تعالى:
«يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» ؟.
الحافرة: الحياة الأولى التي كان عليها الإنسان.. يقال رجع إلى حافرته، أي إلى الطريق الذي جاء منه..
والفعل «يقولون» هو الناصب للظرف: «يوم ترجف الراجفة» أي يوم ترجف الراجفة، متبوعة بالرادفة، متبوعة بقلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة- فى هذا اليوم يقول المشركون: «أإنا لمردودون فى الحافرة» أي أنردّ إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن نموت، ونتحول إلى عظام بالية؟ إن هذه الأحداث لتشير إلى أن هناك بعثا وحياة بعد الموت!! لقد قال الذين يحدثوننا عن يوم القيامة إن هناك إرهاصات تسبقه، وهذه هى الإرهاصات.. فهل يقع البعث حقا؟ إن ذلك مما تشهد له هذه الأحداث!.
وهكذا تتردد فى صدورهم الخواطر المزعجة، والوساوس المفزعة.
قوله تعالى:
«قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» ..
أي عندئذ، وبعد أن يعاين المشركون أمارات الساعة، وهم فى هذه الدنيا، وبعد أن يتبين لهم أن أمر البعث جدّ لا هزل، وأنه لا شكّ واقع- عندئذ «قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» أي رجعة قد خسرنا فيها أنفسنا، إذ لم(16/1434)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
نكن نتوقعها، ولم نعمل لها حسابا..
قوله تعالى:
«فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» .
«هى» ضمير الشأن، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة، أي صيحة واحدة، أو نفخة واحدة.. «فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» أي فإذا هم على ظهر الأرض..
والساهرة: الأرض، وسميت ساهرة، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها، بل هم فى سهر دائم، بعد مبعثهم من نومهم فى القبور..
الآيات: (15- 26) [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
التفسير:
بعد أن واجهت الآيات السابقة المشركين، بما يقع فى نفوسهم من(16/1435)
كمد وحسرة، حين تفجؤهم الساعة بأحداثها، وحين بقلت من أيديهم الطريق إلى النجاة- جاءت هذه الآيات لتعرض عليهم وجها من وجوه الضلال، فيه مشابه كثيرة منهم، وهو وجه «فرعون» وقد أشرنا فى غير موضع إلى أن القرآن الكريم كثيرا ما يجمع بين هؤلاء المشركين وبين فرعون، إذ كانوا أشبه الناس به، عنادا، واستعلاء، وكبرا.
وقوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» ..
الخطاب من الله سبحانه وتعالى للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وفيه استدعاء له من هذا الجو الخانق الذي ينفث فيه المشركون سمومهم والذي ترمى فيه أنفاسهم بدخان كثيف من تلك النار المشتعلة فى قلوبهم، كمدا، وغيظا من النبىّ ودعوته.. وفى هذا الخطاب إدناء للنبىّ الكريم من ربه جلّ وعلا، وإيناس له.
والاستفهام، يراد به الخبر.. أي لم يأتك حديث موسى.. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر فى صيغة الاستفهام، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف، وكريم الإحسان من الله سبحانه إلى النبىّ الكريم، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب، فى رفق، ومودّة، ليقول له: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» ؟ أي أعلمت حديث موسى؟ وأ تريد أن تعلمه؟ ألا، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبىّ من آيات الله، من نبأ موسى وفرعون..
وقوله تعالى: «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي الحديث الذي(16/1436)
نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى، هو ما كان من نداء الله سبحانه وتعالى، إياه، وهو بالواد المقدس «طوى» ..
و «الوادي المقدس» ، هو واد فى أسفل جبل سيناء، من الجانب الأيمن منه، فى الطريق المتجه من الشام إلى مصر.. كما يقول سبحانه: «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» (52: مريم) و «طوى» اسم لهذا الوادي.
قوله تعالى:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» هو بيان لما نودى به موسى من ربه، أي ناداه سبحانه بقوله تعالى:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ» وقوله تعالى: «إنه طغى» هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه.. إنه طغى، وتجاوز الحدود فى بغيه وعدوانه، وفى كفره وضلاله.
قوله تعالى:
«فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» .
وتلك هى الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون..
وقوله تعالى: «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» أي هل تودّ أن تتزكى، ويتطهر؟
وفى هذا الأسلوب الاستفهامى، ترفق وتلطف فى الدعوة إلى الله، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين..
إن الحكمة تقضى فى مثل هذا المقام، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه، وأن يترفق فى الدخول إلى قلبه، حتى يجد منه أذنا صاغية، وقلبا(16/1437)
واعيا، إذا كان فيه بقية من عقل، أو يقظة من ضمير.. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه- لو جاءه آمرا، أو زاجرا، أو فاضحا لحاله المتلبس بها، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون؟
ولهذا جاء قوله تعالى: «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد، كما جاء ذلك فى قوله تعالى: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» (43- 44: طه) .
وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى، والمثل الكامل القويم، لأصحاب الدعوات، من القادة، والزعماء، والمصلحين.. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب، إلا إذا جعلوا الرفق واللين سبيلها إلى الناس، والا إذا غذّوها بمشاعر الحبّ، والرغبة الصادقة فى الإصلاح، وبخاصة إذا كان الداعي يدعو إلى حقّ، ويهدف إلى هدى وإصلاح: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (145: النحل) .
وليس مما يدخل فى هذا الباب، المداهنة، والمخادعة، والنفاق.. فذلك كله شر، إذا اختلط بالدعوة الصالحة أفسدها، وإذا خالط الحقّ أثار الدخان الكثيف فى سمائه الصافية، فغشّى على الأبصار، وحجب الرؤية عن مواقع الهدى..
قوله تعالى:
«فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» .(16/1438)
هنا كلام كثير محذوف، دلّ عليه المقام، أي فجاء موسى إلى فرعون ودعاه فى رفق ولطف إلى الله، فما كان من فرعون إلا أن ردّ موسى ردّا قبيحا، وأغلظ له القول، ورماه بالكذب والجنون، فلما أراد موسى أن يدفع هذه التّهم عنه، ويثبت لفرعون أنه رسول ربّ العالمين، تحدّاه فرعون بأن يأتى بما يدلّ على أنه رسول من عند الله- «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» وهى العصا وانقلابها حية تسعى.. وهى أكبر الآيات التي بين يدى موسى..
وقوله تعالى:
«فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» .
هذا بيان لموقف فرعون بعد أن أراه موسى الآية الكبرى.. لقد كذب بما رأى، واتهم موسى بأنه ساحر.. ثم جمع سحرته، ولقى بهم موسى، معلنا فى الناس أنه الرب الأعلى، وأن الرب الذي يدعو إليه موسى، هو رب دونه منزلة وعلوّا.. فهكذا يبلغ الضلال والسّفه بالضالين السفهاء!! وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى» إشارة إلى أنه بعد أن رأى الحية وأفاعيلها، وما أوقعته فى قلبه وقلوب من معه- لبس ثوب الحية، فجعل يسعى فى الناس مهددا متوعدا، باعثا الرعب والفزع فى القلوب، حتى يخرج منها هذا الفزع الذي استولى عليها من حيّة موسى.
قوله تعالى:
«فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» هذه هو ختام القصة.. لقد انتهت بهزيمة فرعون، وخزيه، وفضح ربوبيته على أعين الناس.. ثم لم يقف الأمر عند هذا، بل أخذه الله بالعذاب(16/1439)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
فى الآخرة، بأن أعد له أسوأ مكان فى جهنم، كما أخذه بالعذاب فى الدنيا بأن أماته شرّ ميتة، بأن أهلكه غرقا، ثم ألقى جثته المتعفنة على الشاطئ، وقد عافت حيوانات البر أن تطعم منها، بل ظلت هكذا عبرة وعظة، فى هذا الإله المتعفن، الذي يزكم الأنوف ريحه النتن، «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» (92: يونس) وقدّم نكال الآخرة على نكال الأولى، لأن عذاب الآخرة أشد وأقسى، لا يكاد ما لقيه فرعون من عذاب فى الدنيا يعدّ شيئا بالنسبة سيلقاه لما فى الآخرة.
وقوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» أي إن فى هذا الحديث، وفى الأحداث التي يعرضها القرآن، لعبرة وعظة، لمن كان له عقل يرى به مصير أهل السوء والضلال، فيخشى على نفسه مثل هذا المصير، فيباعد بينها وبين السوء والضلال.
الآيات: (27- 41) [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 41]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)(16/1440)
التفسير:
تجىء هذه الآيات، بعد هذا العرض الذي عرضت فيه الآيات السابقة- فى إيجاز- قصة موسى وفرعون، وما لقى فرعون من خزى وبلاء فى الدنيا، وما أعد له فى الآخرة من عذاب أشد خزيا، وآلم وقعا من كل عذاب- تجىء هذه الآيات، لتلقى المشركين، بقوة الله سبحانه وتعالى، وليرى المشركون كيف تجليات هذه القدرة، وكيف آثارها، وأنهم ليسوا أربابا، كما ظن فرعون فى نفسه أنه ربّ، وربّ أعلى..
قوله تعالى:
«أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها» ؟
أي ما قوتكم أنتم أيها المشركون مع قوة الله؟ وأين قوتكم من قوة بعض مخلوقات الله؟
أأنتم أشد خلقا وقوة أم السماء؟
فمن بنى هذه السماء؟ ومن أقامها سقفا مرفوعا فوقكم؟
الله بناها، والله رفع سمكها، أي قامتها، والله سواها، على هذا النظام البديع، وما تتزيّن به من كواكب ونجوم.
وقوله تعالى:
«وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» والله- سبحانه- هو الذي أغطش، أي أظلم ليلها، أي ليل هذه السماء، وفى إضافة الليل إلى السماء، إشارة إلى أن الليل إنما يرى كونا معتما، مطبقا على الأرض.. فهو ليل السماء، التي أطفئ سراجها، وهو الشمس..
«م 91 التفسير القرآنى ج 30»(16/1441)
والله- سبحانه- هو الذي أخرج ضحى هذه السماء، وأضاء سراجها، وأوقده، بعد أن أخرجه من عالم الظلام.
والإشارة إلى الضحى، من بين أوقات النهار، إلفات إلى الوقت الذي يمتد فيه نور الشمس، فيغمر الآفاق كلها.. وهو ما يسّمى رائعة النهار.
قوله تعالى:
«وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» .
أي والله سبحانه، هو الذي دحا الأرض، وبسطها، بعد أن رفع السماء وسواها..
وهو سبحانه الذي أخرج من هذه الأرض الماء الذي فيه حياة كل حى..
وبهذا الماء أخرج الله المرعى، أي ما يأكله الناس والأنعام..
والماء الذي يخرج من الأرض، هو من هذا الماء الملح، الذي سخرته القدرة الإلهية، ليكون بخارا، فسحابا، فمطرا، فماء عذبا تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون.. وكما أخرج الله سبحانه الماء والمرعى من الأرض، أرسى فيها الجبال لتمسكها وتحفظ توازنها..
وقوله تعالى: «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» هو مفعول له، أي دحا الله الأرض وأخرج منها الماء والمرعى، متاعا لكم ولأنعامكم وزادا تتزودون به لحياتكم وحياة أنعامكم..
وفى جعل المرعى متاعا للناس والأنعام- إشارة إلى أن الناس والأنعام سواء فى هذا الرزق الذي أخرجه الله سبحانه وتعالى من الأرض، وأن العقل الذي امتاز به الناس على سائر الحيوان، ليس هو الذي يفيض عليهم هذا الرزق، وإنما هو فضل من فضل الله، ورزق من رزقه! إنهم يرزقون من فضل الله كما ترزق الأنعام.. سواء بسواء..(16/1442)
قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» أي فإذا وقعت الواقعة، وجاء اليوم الموعود، الذي هو طامة كبرى، وبلاء عظيم على أهل الضلال والفساد، والذي يتذكر فيه كل إنسان ما عمل من خير وشر، وبرزت الجحيم، أي ظهرت بارزة واضحة لمن كانت له عينان يبصر بهما- إذا كان كل ذلك، حوسب الناس على ما عملوا، ولقى كل عامل جزاء عمله..
فجواب الشرط محذوف، دل عليه ما بعده من قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا..»
قوله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى» أي أنه إذا حوسب الناس، اختلفت منازلهم، حسب أعمالهم.. فأما من طغى واستكبر، وسلك مسلك فرعون، وآثر الحياة الدنيا، ولم يعمل للآخرة عملا- فإن جهنم هى مأواه، ومنزله الذي يأوى إليه..
قوله تعالى:
«وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» .
أي وأما من خشى ربه، وخاف حسابه وعذابه، وصرف نفسه عن هواها، ابتغاء مرضاة الله- فإن الجنة مأواه، ومنزله الذي بهنأ فيه بنعيم الله ورضوانه.(16/1443)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وفى قوله تعالى: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» - إشارة إلى أن لأهواء النفس سلطانا قاهرا، وأنه إذا لم يقم الإنسان على نفسه ناهيا ينهاها، وزاجرا يزجرها عن اتباع هواها كلما دعتها دواعيه- انقاد لهذا الهوى الذي يغلبه على أمره، ويطرحه فى مطارح الضلال، والهلاك.
الآيات: (42- 46) [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
التفسير قوله تعالى:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها» أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها» أي يسألك المشركون أيها النبي، عن القيامة: متى موعدها؟ ومتى تلقى مراسيها على الشاطئ الموعود؟
وفى قوله تعالى: «أَيَّانَ مُرْساها» - إشارة إلى أن الحياة الدنيا، أشبه بسفينة أقلعت بالناس، آخذة مسيرتها بهم على أمواج الزمن، حتى تلقى بهم على الشاطئ الآخر، المقابل للشاطىء الذي أقلعت منه سفينتهم.. فكأنهم يقولون: متى ترسو بنا سفينة الحياة على مرفأ هذا اليوم الموعود؟ إنهم يسألون سؤال المنكر المستهزئ.
وقوله تعالى:
«فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها»(16/1444)
أي فى أي شىء أنت أيها النبي من ذكرها لهم؟ إنك لا تدرى ما جواب هذا السؤال الذي يسألونك فيه عن يومها، لأنك لم تسأل ربك هذا السؤال، ولم تشغل نفسك به، ولم تتكلف له جوابا، لأنه ليس الذي يعنيك من هذا اليوم موعده، وإنما الذي أنت مشغول به منه، هو لقاؤه، والإعداد له.. وهو آت لا ريب فيه..
قوله تعالى:
«إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» أي أن أمر الساعة عند الله، وإليه منتهى مسيرة الناس إليها، لا يعلم أحد متى يكون ذلك.. كما يقول سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» (187: الأعراف) قوله تعالى:
«إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي أنه ليس لك أن تسأل عنها، ولا أن تجيب السائلين عن سؤالهم عن يومها، فليس ذلك من رسالتك، وإنما رسالتك هى أن تنذر بها، وتحذّر منها، من يخشاها، ويعمل حسابها، ويعدّ نفسه ليومها.
قوله تعالى:
«كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» أي أن هؤلاء الذين يسألون عن الساعة، ويستعجلون يومها، استهزاء، واستخفافا، دون أن يعدّوا أنفسهم لها- هؤلاء سيعلمون حين تطلع عليهم أن رحلتهم إليها لم تطل، وأنهم لم يلبثوا فى دنياهم إلا عشية ليلة، أو ضحى هذه الليلة..(16/1445)
(80) سورة عبس
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النجم.
عدد آياتها: اثنتان وأربعون آية.
عدد كلماتها: مائتان وثلاث وثلاثون.. كلمة.
عدد حروفها: خمسمائة وثلاثة وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كان مما ختمت به سورة «النازعات» قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» وكان فى ذلك ما يشير إلى المقام الذي يأخذه النبي من قومه، الذين لج بهم الضلال والعناد، وجعلوا همهم المماحكة والمجادلة، ولقاء النبي بالأسئلة التي لا محصّل لها ولا ثمرة منها.. إنهم لم يؤمنوا بوقوع هذا اليوم- يوم القيامة- وسؤالهم عن موعد شىء لا يؤمنون به ولا يصدقون بوجوده، إنما هو ضلال من ضلالهم.
وجاءت سورة «عبس» مفتتحة بهذا الموقف، الذي كان بين النبي وبين جماعة من المعاندين الضالين، الذين طمع النبي فى هدايتهم، فصرف إليهم وجهه كله، دون أن يلتفت إلى ذلك الأعمى، الذي آمن بالله، والذي جاءه يطلب مزيدا من النور والهدى..
وكلّا، فإنه ليس ذلك من محامل دعوة النبي، التي رسم الله له طريقها فى قوله: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» .. وهؤلاء الضالون المعاندون لا يخشون الله، ولا يؤمنون باليوم الآخر، ولن يؤمنوا أبدا مهما طال وقوفك معهم..
وكلا: «إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ»(16/1446)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 16) [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى» .
فاعل عبس ضمير غيبة، يراد به النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه.
والأعمى الذي جاء إلى النبي، فلم يهشّ له، هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى.. وهو صحابى جليل، من المهاجرين الأولين.
وفى توجيه الحديث إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بضمير الغائب، تكريم له من الله سبحانه وتعالى، وحماية لذاته الشريفة، من أن يواجه بالعتب واللوم، وأن تلتفت إليه الأنظار وهو فى تلك الحال التي يكون فيها بموضع اللائمة والعتاب.. فالذى عبس غائب هنا عن محضر هذه المواجهة والعتاب.(16/1447)
ويذكر النبي الكريم من هذا العتاب الرفيق من ربه، أنه كان فى مواجهه جماعة من عتاة المشركين، ومن قادة الحملة المسعورة عليه، وعلى دعوته، وقد انتهزها النبي فرصة، لإسماعهم كلمات الله، لعل شعاعات من نورها، تصافح قلوبهم المظلمة، فتستضىء بنور الحق، وتفيء إلى أمر الله، وتتقبل الهدى المهدى إليها.. فإن ذلك لو حدث لانفتح هذا السد الذي يقف حائلا بين الناس، وبين الإيمان بالله، ولدخل الناس فى دين الله أفواجا..
ويذكر النبي أيضا، من هذا العتاب الرقيق من ربه، أنه وهو فى مجلسه هذا مع عتاة قومه، أن هذا الأعمى، قد ورد عليه، ولم يكن يعلم من أمر النبىّ ما هو مشغول به، فجعل يسأل النبي أن يقرئه شيئا من آيات الله، فلم يلتفت إليه النبي، وهو يسأل، ويسأل، حتى ضاق به الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وظهر ذلك على وجهه الشريف..
«عَبَسَ وَتَوَلَّى» ..
والعبوس: تقطيب الوجه، ضيقا، وضجرا، والتولّي: الإعراض عن الشيء، تكرّها له..
وإذ يذكر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- موقفه هذا، بعد أن تلقى تلك اللفتة الكريمة الرحيمة من ربه، ويراجع نفسه عليها، يلقاه قوله تعالى:
«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى» .
وهنا ينتقل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حال الغيبة إلى حال الحضور، فبعد أن كان ينظر إلى ذاته من داخل، وكأنه مع ذات غير ذاته، إذا هو يرى ذاته ماثلة بين يديه، وكأنه هو الذي يحاسبها ويراجعها، وكأنه هو الذي يخاطب نفسه، ويقول لذاته: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» ! وتبدو الصورة هكذا:(16/1448)
الذي عبس وتولى غائب، ليس هنا فى مجلس النبىّ.. إنه هناك.. بعيد بعيد.!
ثم إن هذا الغائب، إذ يبسم بعد عبوس، وإذ يقبل بعد إعراض، وإذ يكون على الحال التي تتناسب ومقام الخطاب من ربه.. هنا يقبل عليه ربه- سبحانه وتعالى- مخاطبا معلّما، ومرشدا..
فتوجيه الخطاب من الله سبحانه، إلى النبي أولا، بضمير الغائب، فيه عتب، وفيه إعراض، وخطابه سبحانه إلى النبىّ ثانيا، بضمير الحاضر، فيه الرضا بعد العتب، والإقبال بعد الإعراض..
وفى قوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» - إشارة إلى ما كان يبغى هذا الأعمى من حضوره مجلس النبي، والإلحاح بسؤاله.. إنه يسأل سؤال من يريد مزيدا من العلم، ومزيدا من الهدى.
والاستفهام هنا يراد به النفي، أي ومن أين لك أنت أن تعلم أن هذا الأعمى لا ينتفع بما يسألك عنه، حتى تعرض عنه؟ أنت لا تعلم، وقد كان ينبغى فى تلك الحال أن تجيبه إلى ما سأل، لعله ينتفع بما يتعلمه، ولعله يتزكى، أي يتطهر بما يفاض عليه من علم، أو لعله يتلقى من حديثك إليه ما يقيم له عظة تنفعه، وتزيد فى إيمانه..
قوله تعالى:
«أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى» .
هنا تفصيل لمجمل هذا الحدث، الذي جاء من أجله هذا العتاب.. أي كان موقفك هنا أيها النبي معدولا به عن الطريق الذي ينبغى أن يكون عليه..
وإليك بيان هذا الموقف:(16/1449)
أما من استغنى عنك، وزهد فيما فى يديك من علم وهدى، «فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى» أي تتعرض له، وتمسك به، وتشده إليك! وإنك لتعلم أنه ما عليك إلا البلاغ، وأنه ليس من همك أن تحمل الناس حملا على الإيمان، فإنه لا عليك من لوم، إذا لم يؤمن، ولم يتطهر بالإيمان، من إذا دعوته، وبلغته رسالة ربك- فلم يستجب إليك.. هذه حال دعاك الحرص فيها على هداية الناس، إلى أن جاوزت حدود الخط المرسوم لدعوتك..
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى، فإنك وقفت موقفا مخالفا لموقفك الأول، فبينما أنت تقبل على من أعرض عنك، وزهد فيما معك، إذا أنت تعرض عمن أقبل عليك، ورغب فيما بين يديك من نور الله!! «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى» .
أليس ذلك كذلك؟ ألم يكن هذا موقفك؟
وكلّا.. إن الأمر ليس على هذا الوجه.. كما سنبين لك.
وفى قوله تعالى: «جاءك يسعى» إشارة إلى الرغبة المنبعثة من صدر هذا الأعمى، والتي تدفعه دفعا إلى أن يحثّ الخطا، وأن يسعى إلى النبي فى انطلاق وشوق، مع أنه قى قيد العمى والعجز.
وقوله تعالى: «وهو يخشى» حال أخرى، من فاعل: «جاءك» أي تلك حال هذا الأعمى، إنه جاءك ساعيا إليك، خاشيا لله..
وقوله تعالى: «فأنت عنه تلهى» .. إشارة إلى أن ما كان فيه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حديث مع هؤلاء المشركين المعاندين من قومه، وأنه حديث لا محصّل له، ولا ثمرة من ورائه، إذ كان القوم معرضين عنه،(16/1450)
متكرهين له.. فكأنه إنما يتلهى بهذا الحديث، الذي لا يجىء بثمر.. وإن كان- صلوات الله وسلامه عليه- جادّا فى هذا الحديث كل الجد، مقبلا عليه كل الإقبال، ولكنه إنما يضرب فى حديد بارد، أشبه بمن يريد أن بستنبت الزرع فى الصخر الصلد.. فمن رآه على تلك الحال لم يقع فى نفسه إلا أنه يتلهى بما يعمل..
قوله تعالى:
«كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» ..
أي ليس الأمر كما تصورته أنت أيها النبىّ، ولا على الموقف الذي وقفته هنا..
«إِنَّها تَذْكِرَةٌ» أي إن دعوتك، هى تذكرة للناس، وتنبيه للغافل، وحسب..
وليس لك أن تذهب إلى أبعد من هذا.. فمع كل إنسان عقله الذي يهديه، ومع كل إنسان فطرته التي من شأنها أن تدعوه إلى الحق والخير، وتصرفه عن الضلال والشر..
إن رسالة الرسل ليست إلا إيقاظا لهذا العقل إذا غفل، وإلا تذكيرا لهذه الفطرة إذا نسيت.. وإنه ليكفى لهذا أن يؤذّن مؤذّن الحقّ فى الناس، فمن شاء أجاب، ومن شاء أعرض!.
والضمير فى «ذكره» وهو الهاء، يعود إلى الله سبحانه وتعالى، فمن شاء ذكر ربه بهذه التذكرة التي جاءته من آيات الله، التي يتلوها عليه رسول الله..
قوله تعالى:
«فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» ..(16/1451)
أي هذه التذكرة- وهى آيات الله- هى فى صحف مكرمة عند الله، وهى صحف مطهرة فى مقام عال لا يرقى إليها فيه دنس.. والصحف المكرمة المطهرة، صحف اللوح المحفوظ..
قوله تعالى: «مرفوعة» أي عالية القدر، مطهرة من كل نقص أو عيب..
وقوله تعالى: «بأيدى سفرة» أي أنها محمولة من اللوح المحفوظ إلى رسل الله بأيدى ملائكة، يسفرون بها بين الله سبحانه وتعالى، وبين رسله، فهم سفراء الله إلى الرسل..
والبررة، جمع بارّ، وهو التقىّ النقي، المبرأ من الدنس والرجس..
هذا، وفى هذه الآيات التي ووجه فيها النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا العتاب الرحيم الرفيق من ربه- ما نود أن نقف عنده:
فأولا: أن قدر الإنسان ومنزلته، هى فيما فى عقله من بصيرة، وما فى قلبه من استعداد لتقّبل الخير والإقبال عليه.. وأن رجلا فقيرا أعمى يحمل مثل هذا العقل وذلك القلب، ليرجح ميزانه المئات والألوف من الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، ولو كانوا فى الناس سادة، وقادة، بمالهم، وجاههم وسلطانهم..
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تألف من تألف من قادة قريش وزعمائها مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، مثل عيينة بن حصن، وأبى سفيان، ومعاوية، والأقرع بن حابس وغيرهم- سأله بعض أصحابه فى شأن جعيل بن سراقة، وأنه من فقراء المسلمين، ومن أهل البلاء فيهم..
فقال صلوات الله وسلامه عليه:(16/1452)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
«أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع «1» الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» ..
وثانيا: أن هؤلاء المشركين من قريش، لا يرى فيهم الإسلام شيئا يحرص عليه، ويشتدّ طلبه له، وأن أي مسلم من الجماعة التي دخلت فى دين الله، وآمنت به، وصدق إيمانها، هو- فى ميزان الإسلام شىء- عظيم، وأن بشاشة النبىّ فى وجهه لا يحرمه منها طمع فى إسلام هؤلاء المشركين الذين ما زالوا فى قبضة الشرك.. فالأمر هنا موازنة بين مؤمن، تحقّق إيمانه، وبين مشركين مطموع فى إيمانهم.. ومع هذا فإن سبقه إلى الإيمان- وبصرف النظر عن تقبّل هؤلاء المشركين للإيمان أو إعراضهم عنه- يجعل كفّته راجحة عليهم أبدا، ولن يلحقوا به حتى ولو وقع الإيمان فى قلوبهم مثل ما وقع فى قلبه، ففضل السبق إلى الإيمان، منزلة لا يبلغها إلا أهل السبق..
الآيات: (17- 32) [سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
__________
(1) من طلاع الأرض: من ملء الأرض.(16/1453)
التفسير:
تعود هذه الآيات إلى الكشف عن نفوس أهل الكفر والضلال، وأنها نفوس منطوية على فساد قاتل لكل معنّى من معانى الحق والخير فيها..
وقوله تعالى: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» !! هو تعجب من أمر هذا الإنسان الذي يحمل فى كيانه الكفر والضلال.. والدعاء عليه بالقتل هنا هو جار على مألوف عادة العرب من دعائهم على من يكون على بدع من الأمر، وذلك فى الاستهجان، أو الاستحسان على السواء..
وقوله تعالى «ما أكفره» أي ما أشد كفره، وضلاله.. ويجوز أن تكون «ما» للاستفهام.. أي قتل الإنسان ماذا دعاه إلى الكفر؟
والمراد بالإنسان هنا، هو جنس هذا الإنسان الضال العنيد، لا كل الإنسان على إطلاقه..
قوله تعالى:
«مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟» هو كشف عن شناعة ضلال هذا الضال، وكفره بربه.. إنه من ضلاله البعيد، ينسى أن له خالقا خلقه من عدم أو ما يشبه العدم.
قوله تعالى:
«مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» هو جواب على هذا السؤال، الذي كان من شأن الإنسان أن يجيب عليه، ولو أنه أجاب على هذا السؤال الجواب الصحيح لآمن بربه، وشكر له.. ولكنه لم يسأل نفسه، هذا السؤال، ولم يجب أو لم يحسن الإجابة على هذا السؤال إذا(16/1454)
سئل.. وألا فليسمع الجواب الصحيح، إن كانت له أذنان يسمع بهما ...
«مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ، فَقَدَّرَهُ» .. فهذا هو الجواب وقوله تعالى: «فقدره» أي فقدر خلقه، وحدد صورته، وشكّل ذاته من تلك النطفة على الوجه الذي اقتضته إرادة الخالق جل وعلا فيه.. فكان ذكرا أو أنثى، جميلا أو قبيحا، ذكيّا أو غبيّا، غنيّا أو فقيرا.. إلى غير ذلك مما يتصل بالإنسان، ذاتا، وحياة..
قوله تعالى:
«ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» أي ثم بعد أن تمّ تكوينه وخلقه، يسّره الله سبحانه وتعالى إلى الطريق الذي يسلكه فى الحياة، من استقامة وعوج، ومن هدى وضلال، ومن إيمان وكفر، كما يقول سبحانه: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» (10: البلد) قوله تعالى:
«ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» ثم أمات الله هذا الإنسان بعد أن انتهى أجله المقدور له فى الحياة الدنيا، وجعل له بعد الموت قبرا يدفن ويوارى جسده فى ترابه، فلا تظهر الأحوال التي تعرض له بعد الموت، من تعفن، وتفسخ وتحلل، والتي من شأنها أن تثير الاشمئزاز والهوان للكائن الإنسانى كله.. فكان هذا الدفن فى القبر مواراة لهذه السوءات، ولهذا قيل: «من تكريم الميت التعجل بدفنه» .
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» .(16/1455)
أي أنه حين يشاء الله نشر هذا الميت، وبعثه من قبره- نشره بقدرته التي لا يعجزها شىء والنشر لا يكون إلا بعد طىّ، وقد كان الإنسان حيّا، ثم طويت حياته بالموت، ثم ها هو ذا ينشر بعد طىّ، بالبعث والحياة بعد الموت.
قوله تعالى:
«كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» وهذا النفي فى قوله تعالى: «كلا» هو جواب على سؤال يرد عند عرض هذه الآيات التي تتحدث عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وعن آثارها فى هذا الإنسان الذي كفر بربه، بعد أن خلقه من نطفة، ثم سوّاه رجلا..
والسؤال هو: هل آمن هذا الكافر الذي تتمثل فيه وجوه هؤلاء المشركين جميعا، بعد أن عرضت عليه هذه الآيات؟
فكان الجواب: كلا.. لمّا يقض ما أمره الله به، ودعاه إليه، من الإيمان والعمل الصالح.. وفى نفى هذا الخبر عن الإنسان بحرف النفي «لما» التي تفيد امتداد النفي إلى الوقت الحاضر، ولا تتجاوزه إلى المستقبل، الذي لم يحكم عليه إلى الآن بالنفي أو الإيجاب- فى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المخاطبين من المشركين فى شخص هذا الإنسان، وإن كانوا لم يؤمنوا بالله بعد، فهم ما زالوا فى معرض الإيمان، لم ينقطع بهم الطريق إليه، وأنه يرجى منهم أن يؤمنوا، أو أن يؤمن معظمهم.. وقد كان.. فهؤلاء المشركون، قد آمنوا بالله بعد هذا، ودخلوا فى دين الله أفواجا، ولم يبق منهم بعد الفتح مشرك.
والمراد بالأمر فى قوله تعالى: «ما أمره» - هو الأمر التكليفي،(16/1456)
لا الأمر الخلقي التقديري.. إذ لو كان أمرا تقديريّا لكان نافذا لا يرد، ولما كان للمأمور أن يخرج عن هذا الأمر..
قوله تعالى:
«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا» وفى هذه الآيات لقاء مع الإنسان أمام معرض آخر من معارض قدرة الله، بعد أن عرضت عليه ذاته الإنسانية، وما لله سبحانه وتعالى فيها من عجيب الخلق وبديع الصنع، فلم يحدث له ذلك ذكرا، ولم يفتح له طريقا إلى الإيمان بالله.
وفى هذا المعرض، يرى الإنسان دلائل قدرة الله، فبما هو خارج عن ذاته الإنسانية، إذ قد يرى الإنسان ما هو خارج عن ذاته، دون أن يرى هذه الذات ولا ما بداخلها..
فهذا الطعام الذي يأكله الإنسان.. من أين جاء؟ ومن جاء به؟
فلينظر الإنسان إلى هذا الطعام، ولينظر إلى أنا قد صببنا الماء صبّا، أي أنزلناه من السماء، ثم شققنا الأرض شقّا بما يخرج منها من نبات، فخرج من هذه التشققات الحبّ، وهو كل ما حصد من برّ، وأرز، وشعير، وذرة، ونحوها..
كما خرج منها العنب، والقضب، وهو ما يؤكل من النبات رطبا، كالبصل، والفجل، ونحوها.
وخرج منها الزيتون، الذي يستخرج منه الزيت، ليكون إداما، والنخل الذي يثمر النمر الذي يتفكّه به بعد الطعام م 92- التفسير القرآن ج 30(16/1457)
فالحب يتخذ منه الخبز، والعنب يتخذ منه الخل، والقضب- كالخس، والبصل ونحوهما- تتخذ منه المخللات، والزيتون، يتخذ منه الزيت، والنخل، يؤخذ منه التمر.. ومن هذا جميعه تنتصب مائدة كاملة بين يدى الإنسان، فيها طعامه وإدامه، وما يتخلل به أثناء طعامه، وما يتفكه به بعد الطعام!! كذلك خرج من هذه الأرض الحدائق الغلب، أي كثيرة الأشجار ذات الظلال، والفواكه، وفى هذه الحدائق متعة العين، وبهجة النفس، ومسرة القلب، يجىء إليها الإنسان، لينعم، ويهنأ بالاستظلال بظلها، بعد أن يستوفى حاجته من الطعام.. فتتم بذلك النعمة، ويكمل النعيم.
وفى هذه الحدائق الغلب، ذات الظلال الممدودة، والفواكه الدانية القطوف، بسط ممدودة من العشب، الذي يكسو أرض هذه الحدائق بهجة، وجمالا..
وهذا العشب هو «الأبّ» الذي يمسك بالأرض، ويلتصق بها، ويتأبّى- مع صغره، وضعف سوقه- على الرياح والعواصف أن تنتزعه من مكانه.. هذا، وفى تلك النعم التي ينعم بها الإنسان، جانب تناله الأنعام وتأكل منه، كورق الشجر، والعنب، والقضب ونحوه. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه النعم: «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» .
وقد اختلف العلماء فى معنى كلمة «الأبّ» وتواردت عليها كثير من الآراء، والروايات، لما رأوا من غرابة هذه الكلمة، وقلة دورانها على الألسنة، ومجيئها فى سياق كلمات معروفة، كثيرة التداول، كالحبّ والعنب، والقضب، والزيتون والنخل.
وحين تكثر الآراء حول معنى كلمة من الكلمات، تجلب لها الروايات التي تضيف أقوالا إلى صحابة رسول الله، بل إلى رسول الله أحيانا، يسند بها كل(16/1458)
ذى رأى رأيه، حتى ليجد المرء نفسه بين هذه الآراء المتعارضة المتضاربة، أن الأولى به أن يدعها جميعها، وأن يجعل هذه الكلمات من كتاب الله، من المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا الله!! ومن الروايات التي رويت حول كلمة «الأبّ» ما يروونه مضافا إلى أبى بكر رضى الله عنه، وقد سئل عن معنى الأب، فقال: «أي سماء تظلنى، وأي أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب الله ما لا علم لى به» !! كذلك يروون أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قرأ هذه الآية مرة، فقال:
«كلّ هذا قد عرفنا.. فما الأب» ؟ قالوا: «ثم رفض عمر عصا كانت بيده- أي كسرها غضبا على نفسه، ولوما لها- وقال: «هذا لعمرو الله التكلف..
وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدرى ما الأب؟» .. ثم قال: «اتّبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، ومالا، فدعوه!!» .
ونحن نقطع بتلفيق هذين الخبرين، وإلا كان علينا أن نلغى عقولنا، وأن نعطل مداركنا، ولنا على القطع بتلفيق هذين الخبرين أكثر من شاهد:
فأولا: هذه الآية، فى سورة مكية، ومن أوائل ما نزل بمكة من آيات الله.. وهذا يعنى أن هذه الآية كانت على ألسنة السابقين الأولين من المسلمين، كأبى بكر وعمر- رضى الله عنهما- وأنها كانت مما يتلى من آيات الله كل يوم مرات كثيرة، وليس يعقل- مع هذا- أن تظل كلمة «الأب» خفية الدلالة، بين هذه المجموعة من الكلمات التي تعدد نعم الله، والأب لا شك نعمة من تلك النعم، وصنف من أصنافها- نقول لا يعقل أن تظل هذه الكلمة- وهذا شأنها- خفيّة الدلالة على أصحاب رسول الله، ثم لا يتوجهون إليه- صلوات الله وسلامه عليه- بالسؤال عنها، إن كان معناها غائبا عنهم! وثانيا: لا يعقل أيضا أن يمضى العهد المكي، ثم العهد المدني، دون أن(16/1459)
تحدّث عمر نفسه هذا الحديث الذي تحدث به عن الأبّ، إلا بعد أن يفارق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، ثم يجد عمر هذه الكلمة، وكأنه يتلوها لأول مرة!! وثالثا: لا يعقل أيضا أن يأتى القرآن الكريم فى معرض آياته التي تحدث المشركين عن نعم الله التي أفاضها عليهم، بكلمة لا يعرفون لها مدلولا، ولا يجدون لها فيما بين أيديهم من نعم- مكانا!!.
ورابعا: ورد فى الشعر العربي الجاهلى، أكثر من شاهد، يدل على أن العرب كانوا يعرفون كلمة الأب فى قاموس لغتهم، وكانوا يستعملونها فى المعنى المناسب لها..
ومن الأشعار المروية، ما يروى عن الأعشى من قوله فى الفخر:
جذمنا قيس وسعد دارنا ... ولنا الأبّ بها والمكرع «1»
هذا، ويعلق الإمام محمد عبده، على الرواية المنسوبة إلى سيدنا عمر ابن الخطاب- على فرض التسليم بصحتها- فيقول:
«إذا سمعت هذه الروايات، فلا تظنّ أن سيدنا عمر بن الخطاب ينهى عن تتبع معانى القرآن، والبحث عن مشكلاته، ولكنه يريد أن يعلمك أن الذي عليك من حيث أنت مؤمن، إنما هو فهم جملة المعنى.. فالمطلوب منك فى هذه الآيات، هو أن تعلم أن الله يمنّ عليك بنعم أسداها إليك فى نفسك، وتقويم حياتك، وجعلها متاعا لك ولأنعامك.. فإذا جاء فى سردها لفظ لم تفهمه، لم يكن من جدّ المؤمن- أي من حظه- أن ينقطع لطلب هذا المعنى، بعد فهم
__________
(1) الجذم: الأصل: ويروى جدنا بدلا من جذمنا، والمكرعات: النخل التي على الماء، والمكرع: الماء نفسه، والمهل الذي يروى منه.(16/1460)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
المراد من ذكره، بل الواجب على أهل الجد والعزيمة، أن يعتبروا بتعداد النعم وأن يجعلوا معظم همهم الشكر، والعمل..
ثم يمضى الإمام فيقول:
«هكذا كان شأن الصحابة- رضى الله عنهم- ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ، وجعلوها شغلا شاغلا، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر، وأعضاء هم معطلة عن العمل الصالح والشكر» ! ..
الآيات: (33- 42) [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» الصاخة: هى الطامة الكبرى، التي جاء ذكرها فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» (34: النازعات) وهى تلك الأحداث المزلزلة التي تقع يوم القيامة..
وسميت صاخة، لأنها تصخّ الآذان، أي تقرعها قرعا شديدا عاتيا، بما يكون من صراخ وعويل، وصرير أسنان.. فى هذا اليوم العظيم.(16/1461)
وقوله تعالى:
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ، وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» يوم، هو الظرف، الذي تجىء فيه هذه الصاخة، المدويّة، المرعبة..
وفى هذا اليوم: «يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.»
يقر من كل هؤلاء الذين كانوا ملاذه، وعونه، وأمنه، طالبا النجاة لنفسه من هذا الهول، الذي لا يدع فرصة لأحد أن ينظر إلى غير نفسه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» : فكل إنسان فى هذا اليوم همّه الذي يشغله، ويستغرق كل ذرة فى كيانه، فلا يبقى عنده فضل لغيره، ولو كان أحب الناس إليه وآثرهم عندهم.
ومن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم فى هذه الآيات، أنه غاص فى أعماق النفس الإنسانية، وأقام مشاعرها على ميزان دقيق محكم، فجاء هذا الترتيب لموقف الإنسان ممن يقر منهم فى زحمة هذا البلاء، حسب درجة شعوره بهم، ووزنه لكل منهم..
إنه يفرّ أولا من الناس جميعا.. جملة واحدة. لا ينظر إلى أحد..
ثم هو يجد نفسه مع أشخاص قد ارتبط بهم ارتباط الجسد بأعضائه.. هم أهله، الذي هو فرع من شجرة جمعتهم وإياه.. أخوه، وأمه وأبوه، وزوجه وبنوه! ثم هو من جهة أخرى محمول بالإكراه- تحت قسوة الموقف- أن يفر منهم جميعا.. ومع أن زحمة الأحداث، وشدة البلاء- لا تدع له فرصة للاختيار، إلا أنه فى لحظة خاطفة، من أجزاء الزمن، أشبه بالذرات- يفرّ منهم على صورة تأخذ هذا الترتيب التصاعدى، القريب، فالأقرب، فمن هو أشد قربا..
فيفر أولا من أخيه، ثم أمه وأبيه، ثم زوجة، ثم يكون آخر من ينفصل عنه(16/1462)
أبناؤه الذين هم بضعة منه، والذين لا يبقى بعدهم من ينفصل منه إلا بعض أجزاء جسمه هو!! وليس هناك- كما قلنا- زمن يقع فيه هذا الفرار على آنات متتابعة، وإنما هى وحدة شعورية بالفرار، انقسمت فى داخلها، كما تنقسم الذرة! ويلاحظ أن الزوجة، لم تأخذ مكانها من هذا الترتيب، ولم تفضل الأبوين، إلا وهى زوجة ذات صفات خاصة، وهى أنها صاحبة وزوج معا، والزوجة حين تكون بهذه الصفة هى أقرب مخلوق إلى نفس الإنسان وآثره، بعد الأبناء! هذه هى حركة النفس الإنسانية، وتلك معطيات شعورها فى حال الفرار من الخطر، والتماس سبيل النجاة..
فإذا كان الإنسان واقعا ليد الخطر فعلا، وقد أحاط به من كل جانب، وعلقت به النار من رأسه إلى أخمص قدمه- فما الحركة الشعورية للنفس فى دفع هذا الخطر، وإطفاء تلك النار المشتعلة فيه؟
نجد الجواب على هذا فى قوله تعالى، فى سورة المعارج، إذ يقول سبحانه:
«يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى» . (11- 15)
إن الحركة الشعورية للإنسان هنا تأخذ اتجاها عكس الاتجاه الأول، الذي أخذته فى موقف الفرار..
ففى موقف الفرار، هناك شىء من السعة، يتيح للإنسان أن يتحرك(16/1463)
فيه، نحو الجهة التي يتوهم أن له سبيلا إليها، وإن لم يكن ثمّة سبيل..
أما فى موقفه وقد أحاط به البلاء، واشتملت عليه النار، فإنه ليس ثمة إلا أن يمد يده إلى أقرب شىء يمكن أن يصل إليه، ليقيم منه ستارا على جسده الذي تأكله النار، وقد يكون هذا الشيء بعض أعضاء جسده هو، كيده، التي يدفع بها النار عن وجهه مثلا!! وأقرب شىء إلى الإنسان بعد أعضائه، هم بنوه، ثم صاحبته (زوجه) ثم.. ثم أسرته من أعمام، وأبناء أعمام.. ثم أهل الأرض جميعا.. كل هؤلاء يتخذ منهم دروعا واقية له، يرمى بهم فى وجه البلاء واحدا بعد واحد، ولكن هيهات أن يجد من أىّ وقاية من هذا البلاء..
إنه مجرد أمل يراوده لو أمكنته الفرصة من تحقيقه، ولكن ليس إلى ذلك من سبيل..!
فهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، الذي يستولى ببيانه على حقائق الأشياء، وينفذ إلى أعماقها وخفاياها، فإذا هى فى وجه صبح مشرق مبين!! .. «1»
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» ..
هو جواب «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» أي فإذا جاءت القيامة، فأمر الناس مختلف، فهم فريقان:
- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» أي مشرقة بالبهجة والمسرة، تضحك استبشارا بما لاح لها من دلائل الفوز، وما هبّ عليها من أنسام الرضوان والجنان..
«وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» أي عليها غبرة الكمد والحسد، وسواد الكآبة والمذلة.. «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» .. أي يعلوها الشحوب، ويعتصر ماءها
__________
(1) انظر أيضا عرضنا لهذا الموضوع فى تفسيرنا لسورة المعارج.(16/1464)
الرّهق والتعب.. «أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» أي أن أصحاب هذه الوجوه المغبرة الكالحة الشاحبة، هم الكفرة الفجرة، أي الذين جمعوا بين الكفر بالله، وبين المبالغة فى الضلال، والفجور.. فالكفر ظلمات بعضها أشد ظلاما من بعض، والكفار أصناف، بعضهم أشد إيغالا فى الكفر والضلال من بعض، وشتان بين كفر أبى لهب، وأبى جهل، وبين كفر غيرهم من حواشى القوم.
والحديث عن الوجوه عوضا عن أصحابها- هو- كما قلنا فى غير موضع- لما فى الوجوه من قدرة على التعبير عما فى النفوس من مشاعر وعواطف.. حيث ينطبع عليها كلّ ما يقع على الإنسان مما يسوء أو يسرّ..(16/1465)
(81) سورة التكوير
ولها: نزلت بمكة بعد سورة المسد.
عدد آياتها: تسع وعشرون.. آية.
عدد كلماتها: مائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها: خمسمائة وثلاثة وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة «عبس» عرض ليوم القيامة، وللعذاب الشديد الذي يحيط بالكافرين، حتى ليفر الكافر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه..
وقد جاءت سورة «التكوير» بعدها، عارضة المشاهد التي تسبق هذا اليوم، لتخرح بالمشركين وراء دائرة العذاب قليلا، ليلقوا نظرة على الحياة الدنيا، التي كانوا فيها، والتي يودون الفرار إليها..
فهل إذا أتيحت لهم فرصة الفرار من هذا العذاب، وعادوا إلى الدنيا، أيصلحون ما أفسدوا من حياتهم؟ أيؤمنون بهذا اليوم، وما يلقى الكافرون فيه؟ وإنهم لفى هذا اليوم فعلا، إنهم لم يبرحوا هذه الدنيا بعد.. فماذا هم فاعلون؟ .. هذا سؤال ستكشف الأيام عن الجواب الذي يعطيه هؤلاء المشركون عنه..(16/1466)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 14) [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
التفسير:
قوله تعالى: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ... »
تكوير الشمس: ظهورها كالكرة فى أعين الناس يومئذ أي يوم القيامة، حيث يشرف عليها الإنسان من عل فيراها من جميع وجوهها، لا من وجه واحد، كما تبد ولنا الآن وكأنها قرص مسطّح.
وانكدار النجوم: انطفاء بريقها، حيث أن بريق هذا الضوء الذي نراه منها، إنما هو بسبب الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا جاوز الإنسان الغلاف الهوائى للأرض بدت النجوم كرات لا معة معلقة فى القضاء، لا يشع منها ضوء..(16/1467)
وتعطيل العشار، وهى النوق الحوامل، هو إلقاء ما فى بطونها من أجنة، ثم عدم تعرضها للحمل، حيث يصرفها الهول عن الاستجابة لداعى الغريزة الطبيعية فيها..
يقول الإمام القرطبي: «إن تعطيل العشار تمثيل لشدة الكرب، وإلا فلا عشار ولا تعطيل» ..
ونقول: إن هذا وإن كشف عن حال الشدة والكرب فى هذا الوقت، فإنه لا يمنع من أن تكون هناك العشار، وأن يكون تعطيلها عن الحمل..
فهذا خبر جاء به القرآن، ولا بد أن يقع على ما جاء به.
وحشر الوحوش: هو جمع بعضها إلى بعض، وسوقها إلى أكنانها، حيث يدفعها البلاء إلى الفرار، وطلب النجاة مما تراه من أحداث القيامة، فترتدّ عن مسارحها مسرعة إلى حيث ما تظن عنده الاختفاء من الخطر المحدق بها، فتجىء من كل وجه، ويلوذ بعضها ببعض، حيث يذهب الهول بكل ما فيها من نوازع الشر والعدوان.
أما ما يقال من حشر الوحوش بمعنى بعثها، وسوقها إلى الحساب والجزاء، كما يفعل بالناس، فذلك ما لا يقوم عليه دليل من كتاب الله، حيث أن الدنيا هى دار ابتلاء وتكليف للإنسان وحده من بين سائر المخلوقات التي على الأرض، وأن هذه البهائم لم تكلف بشىء، ولم تدع ألى شىء، وإنما هى مما خلق الله سبحانه للإنسان، لينتفع بها، أو ليبتلى بالضار منها، كما فى النبات أو الجماد من نافع وضار..
ويقول الإمام محمد عبده: «وحشر الوحوش، إما جمعها لاستيلاء الرعب عليها، وخروجها من أجحارها وأوكارها، ونسيانها ما كانت تخافه، فتفر منه.. فتحشر هائمة، لا يخشى بعضها بعضا، ولا يخشى جميعها سطوة الإنسان.. وقيل حشر الوحوش هلاكها..»(16/1468)
قوله تعالى:
«وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» .. أي رؤيت وكأنها بحر واحد، محيط بالأرض، لا حركة له، وكأنه مسجور، أي مربوط بالأرض.. أما ما يقال بأن تسجير البحار هو تضرّمها، وتلهبها، حيث تصبح كتلة من نار، فهذا لا مفهوم له، إلا أن يقال- كما قيل- إن هذا دليل على قدرة الله سبحانه، وأنه كما أنبت الشجر فى أصل الجحيم، أخرج النار من قلب الماء.. وقدرة الله سبحانه لا تحتاج للدلالة عليها إلى مثل هذه الصور الشوهاء التي تفسد نظام الوجود، وتذهب بجلال الحكمة الممسكة به فى دقة وروعة، وإحكام..
قوله تعالى:
«وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» أي زوجت الأبدان التي كانت فيها، وردّت إليها، لتخرج من قبورها للبعث والحساب، والجزاء.. فالمراء بالنفوس هنا الأرواح.
وقوله تعالى:
«وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» ؟
الموءودة، من توءد من البنات، وتدفن حية، بيد أهلها، كما كان كذلك عادة عند بعض قبائل العرب فى الجاهلية.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ؟ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (58- 59 النحل) ..
وسؤال الموءودة يوم القيامة، فى مواجهة من وأدها، مع أن الأولى-(16/1469)
فى ظاهر الأمر- أن يسأل الجاني لا المجنى عليه- فى هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها، ووضعها بين يديه، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة، وليسمع من قتيلته التي ظنّ أنه سوّى حسابه معها، ليسمع منطقها الذي يأخذ بتلابيبه، ويملأ قلبه فزعا ورعبا..
أرأيت إلى قتيل يظهر على مسرح القضاء، هذ وقاتله فى موقف المحاكمة؟ ثم أرأيت إلى هذا القتيل، وهو يروى للقاضى: لم قتل؟ وكيف قتل؟ ثم أرأيت إلى القاتل، وقد أذهله الموقف، فخرس لسانه، وارتعدت فرائصه، وانهار كيانه؟ ذلك بعض من هذا المشهد الذي يكون بين الموءودة ووائدها يوم القيامة!.
وقوله تعالى:
«وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» .
أي صحف الأعمال، حيث يقرأ كل إنسان ما سجل فى كتابه المسطور بين يديه..
قوله تعالى:
«وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» ..
وكشط السماء، هو زوال هذه الصورة التي تبدو منها لنا فى الدنيا، وكأنها سقف سميك، فتبدو السماء حينئذ، وكأنها قد أزيلت من مكانها، فكانت أبوابا مفتحة تنطلق فيها الأرواح إلى ما شاء الله من علوّ، دون أن تصطدم بشىء يردّها..
قوله تعالى:
«وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ» .(16/1470)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
سعرت: أي توقدت، وتسعر جمرها، وعلا لهيبها.
وأزلفت: أي قربت ودنت من أهلها..
قوله تعالى:
«عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» هو جواب «إذا» الشرطية الظرفية التي تواردت على هذه الأحداث التي تقع بين يدى الساعة، وفى يوم مجيئها..
ففى هذا اليوم تعلم كلّ نفس ما أحضرت معها من أعمال عملتها فى الدنيا من خير أو شر..
الآيات: (15- 29) [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ» .(16/1471)
قلنا، فى غير هذا الموضع، إن هذه الأقسام المنفية، يراد بها التعريض بالقسم، لا وقوع القسم ذاته.. إذ كان الأمر الواقع فى معرض القسم أظهر من أن يحتاج إلى توكيد وجوده بقسم.
والخنس: هى الكواكب، إذا طلع عليها النهار خنست أي غابت، واختفت معالمها عن الأنظار..
والجوار الكنس، هى هذه الكواكب فى حال ظهورها بالليل، ثم تغيبها فى الأفق الغربىّ، بفعل حركة الأرض، ودورانها اليومي من الغرب إلى الشرق.. والكناس، مأوى الظباء، وبيتها الذي تسكن إليه.
والخنس: جمع خنساء، وهى الظبية، تدخل فى كناسها، ومن هذا سمّى العرب به بعض بناتهم، ومنهن الخنساء الشاعرة المعروفة تشبيها بالظبية فى جمالها وتناسق أعضائها، ثم فى خفرها، وحيائها، وصونها.
هذا، ومن أسماء الشمس عند العرب «الغزالة» تشبيها لها بالغزالة فى جمالها وتحركها الرتيب الهادئ على مسرح مرعاها، حتى إذا غربت الشمس، عادت إلى كناسها، واختفت فيه. وخنست.. قال المعرى:
ولم أرغب عن اللذات إلّا ... لأنّ خيارها عنّى خنسنه
والفاء فى قوله تعالى: «فلا أقسم» هو مرتبط بما وقع جوابا للشرط «إذا» فى أول السورة وهو قوله تعالى «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» أي إن هذا الحق واقع، فلا أقسم لكم على توكيده بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ» .
قوله تعالى «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» ..
عسعس الليل، أي قفل راجعا، وذهب ظلامه الذي كان مخيما على الكون.. ومنه العسس، وهم حراس الليل من الجنود، يعسّون فى الطرقات(16/1472)
أي يتحركون تحت جنح الظلام، ليروا ماذا يجرى من أحداث يحدثها أهل الشرّ تحت هذا الستار من الظلام.. فالليل، متحرك، وليس ثابتا.. إنه يجرى إلى كناسه، كما تجرى الكواكب إلى كناسها..
قوله تعالى:
«وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» معطوف على قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» وتنفس الصبح، ظهوره، ودبيب الحياة فيه.
وفى التعبير عن ظهور الصبح بالتنفس، إشارة إلى أنه مولد حياة للأحياء جميعها، حيث تبعث الحياة من جديد فى الأحياء، مع الصباح، بعد أن غشيها النوم، وحبسها عن الحركة، فبدت وكأنها فى عالم الموتى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» (60: الأنعام) قوله تعالى:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» هو جواب القسم المنفي: «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ... » أي فلا أقسم لكم بالخنس، الجوار الكنس، ولا بالليل إذا عسعس، ولا بالصبح إذا تنفس- بأن أخبار يوم القيامة وأحداثها، واقعة لا شك فيها، وأن هذه الأخبار التي تحدثكم عن هذا اليوم، هى قول رسول كريم، هو رسول الوحى، جبريل عليه السلام، بلّغ به كلمات ربه إليه.. لا أقسم لكم بهذه العوالم على وقوع هذا الخبر، فإنه بيّن ظاهر..
(م 93 التفسير القرآنى- ج 30)(16/1473)
ونسبة القول، وهو القرآن، إلى جبريل، لأنه هو المبلّغ له، القائل لما قيل له من ربه سبحانه وتعالى..
وقوله تعالى: «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» هو من صفة جبريل عليه السلام، وهو أنه ذو مكانة مكينة عند ذى العرش، وهو الله سبحانه وتعالى..
وقوله تعالى: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» ومن صفات جبريل أيضا أنه مطاع هناك من ملائكة الرحمن، أمين على ما يحمل من كلمات الله إلى رسل الله، لا يبدل، ولا يحرّف.
قوله تعالى:
«وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» وإذن فما صاحبكم هذا، وهو محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ما هو بمجنون كما تقولون عنه، وإنما هو يتلقى هذا القول الذي يقوله لكم، من رسول أمين ممن السماء، يبلغ النبىّ رسالة ربه اليه.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ» المفسرون على أن الهاء فى قوله تعالى: «ولقد رآه» يعود إلى جبريل، عليه السلام، وأن المرئي لجبريل، هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأفق المبين، هو الأفق العالي، أي أفق السموات العلا، حيث عرج بالنبي، فظهر له جبريل على صورته الملكية..
وإنه الأولى عندنا، أن يكون هذا الضمير عائدا على القرآن الكريم،(16/1474)
وهو هذا القول الذي تلقاه النبي من جبريل.. فلقد رأى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- القرآن الكريم بالأفق المبين، العالي الواضح، فى معراجه إلى الملأ الأعلى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» (18: النجم) فالقرآن هو بعض ما رأى النبي الكريم فى معراجه.. حيث كان القرآن قد نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر، كما يذهب إلى ذلك أكثر العلماء فى تفسير قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» قوله تعالى:
«وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» أي وليس النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بالذي يضن بأنباء الغيب التي يتلقاها من ربه، فيما تحمل إليه آيات الله من أحداث يوم القيامة، وغيرها، مما جاء فى القرآن الكريم، وإنما هو رسول من عند الله، ومطلوب منه أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (67: المائدة) فالمراد بالغيب هنا، هو القرآن الكريم، وآياته التي حملت إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كثيرا من أنباء الغيب، من قصص وغيره، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (49: هود) وقرىء: بضنين، بظنين، أي بمتهم.. أي ليس النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بمتهم فيما يبلغ من آيات ربه.
قوله تعالى:
«وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» ؟(16/1475)
أي أن هذا القرآن هو من قول الله سبحانه وتعالى، الذي نقله رسول الوحى جبريل، وليس من وساوس الشيطان، ولا من مقولاته.. «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (210- 212: الشعراء) وقوله تعالى:
«فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» ؟
أي فإلى أي مذهب من مذاهب الضلال تذهبون، بعد هذا البيان المبين، وبعد تلك الحجة الواضحة؟
أهناك مذهب لكم إلى غير الله، وإلى غير ما تدعوكم إليه آيات الله؟ إن أي طريق آخر غير هذا الطريق هو الضلال والهلاك وقوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» أي هذا القرآن، ما هو إلا ذكر، وهدى، للعالمين وقوله تعالى:
«لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» هو بدل بعض من كلّ من قوله تعالى: «للعالمين» أي هذا القرآن هو ذكر للعالمين جميعا.. وهو ذكر لمن شاء منكم أيها المشركون، أن يتلقى منه الموعظة والهدى، ويستقيم على طريق الحق ويسلك مسلك النجاة..
وقوله تعالى:
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .(16/1476)
الواو هنا للحال، أي من شاء منكم أن يستقيم، فليطلب الاستقامة، وليرد مواردها، وليأخذ بالأسباب إليها.. ثم إن مشيئتكم تلك مرتهنة بمشيئة الله العامة الشاملة، التي كل مشيئة منطوية تحتها، دائرة فى فلكها..
فالإنسان- وإن كانت له مشيئة- ليس بالذي يستقلّ بمشيئته عن مشيئة الله، فهو إذ يشاء شيئا، وإذ يمضى هذا الشيء، فإنما ذلك من مشيئة الله فيه..
وهذا ليس بالذي يدعو الإنسان إلى أن يعطل مشيئته، منتظرا مشيئة الله فيه، لأنه لا يعلم ما مشيئة الله فيه.. بل إن عليه أن يعمل مشيئته، كما يعمل جوارحه جميعها، فإذا وافقت مشيئته مشيئة الله، مضت ونفذت، وإن خالفت مشيئة الله لم تمض، ولم تنفذ، ومضت مشيئة الله! هذا هو المطلوب من العبد.. فإن أعطى مشيئته ما ينبغى أن يقدّمه بين يديها من بحث- ونظر، وعقل- جاءت مشيئته قائمة على طريق الحق، مثمرة له أطيب الثمر، تماما، كما إذا أيقظ حواسه، وعمل بها فى المحسوسات، كان له من معطياتها ما يصله بالحياة وصلا وثيقا، ويقيمه على طريقها دون أن يتعثر، أو يضلّ!(16/1477)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
(82) سورة الانفطار
نزولها: نزلت بمكة بعد سورة النازعات.
عدد آياتها: تسع عشرة آية..
عدد كلماتها: مائة كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وتسعة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة الكريمة، هى على شاكلة سابقتها «التكوير» .. كل منهما حديث عن يوم القيامة وإرهاصاتها.. فكان جمعهما فى هذا السياق من جمع النظير إلى نظيره، ليتأكد ويتقرر فى الأذهان..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 12) [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)(16/1478)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» .
هو مشابه لقوله تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» ، وانفطار السماء هو تشققها وزوال هذا السقف الذي يبدو منها فى مرأى العين.. وقد أشرنا إلى هذا من قبل.. وقلنا إن هذا التغير فى نظام الوجود يوم القيامة، هو بسبب تغير حواسنا ومدركاتنا، وانتقالنا من عالم إلى عالم..
وقوله تعالى:
«وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» ..
وتناثر الكواكب: هو ظهورها لنا على حقيقتها، فهى تبدو الآن- فى موقع النظر- أشبه بالمصابيح المعلقة فى السقف.. فإذا كان يوم القيامة ظهرت لنا على حقيقتها، وهى أجرام هائلة، معلقة فى الفضاء، كذلك تبدو لنا يوم القيامة فى منازل مختلفة فى علوّها، فبعضها أعلى من بعض علوّا سحيقا يقدر بألوف السنين الضوئية، على حين تظهر لنا اليوم، وكأنها على درجة واحدة فى علوها، حيث تأخذ- كما يبدو لنا- مكانها من هذا السقف المرفوع فوقنا، وكأنها مصابيح مضيئة فى سقف مرفوع، على سمت واحد.
وقوله تعالى:
«وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» وتفجير البحار، هو ما يبدو يومئذ من إحاطتها بالكرة الأرضية من جميع جوانبها، على بحين تبدو هذه القارات وكأنها جزر صغيرة غارقة فى الماء وقوله تعالى:
«وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ»(16/1479)
وبعثرة القبور، هو إخراج ما فيها من أموات، حيث تنطلق منها الحياة التي كانت مندسّة فيها، وكأنها قذائف تنفجر من باطن الأرض..
قوله تعالى:
«عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» ..
هو جواب «إذا» الشرطية الظرفية، وما بعدها من معطوف عليها..
أي إذا حدثت هذه الأحداث، علمت كل نفس ما قدمت من عمل صالح للآخرة، وما فاتها أن تعمله فى الدنيا من خير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (23: 24 الفجر) .. وفى تنكير «نفس» - إشارة وحدة النفوس فى هذا اليوم من حيث العلم بما لها وما عليها، فالنفوس جميعها سواء فى هذا العلم الذي يكشف كل شىء، حتى لقد أصبحت نفوس الناس جميعا أشبه بنفس واحدة..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» ..
الخطاب بيا أيها الإنسان، استدعاء لمعانى الإنسانية التي أودعها الله سبحانه وتعالى فى الإنسان، من قوى عاقلة مدركة، من شأنها أن تميز بين الخير والشر، وتفرق بين الإحسان والإساءة، وأن تضع بين يدى الإنسان ميزانا سليما يضع فى إحدى كفتيه ما أحسن الله به إليه، ويضع فى الكفة الأخرى ما يقدر عليه من شكر، وذلك بإحسان العمل، كما يقول سبحانه: «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» . (77: القصص) فإذا رأى الإنسان الكفة التي وضع فيها إحسان الله إليه ملأى بالعطايا والمنن، ثم لم يضع فى الكفة الأخرى شيئا فى مقابل هذا الإحسان، بل وتجاوز هذا، فملأ الكفة كفرا بالله، ومحادة لله ولأوليائه- فأىّ إنسان هو؟ وأي جزاء يجزى به؟(16/1480)
وفى اختيار صفة «الكريم» لله سبحانه وتعالى فى هذا المقام، من بين صفاته الكريمة جل شأنه- فى هذا إلفات إلى هذا الإحسان العظيم الذي أفاضه الله على الإنسان، وإلى مقدار جحود الإنسان وكفرانه، وضلاله، مع هذا الفضل الغامر، الذي يجده الإنسان فى كل ذرة من ذراته، ومع كل نفس من أنفاسه..
وفى قوله تعالى: «ما غرك» إنكار على الإنسان أن يدعوه توالى الإحسان عليه، وتكاثر النعم بين يديه، إلى أن يتخذ من ذلك أسلحة يحارب بها ربه المحسن الكريم..
وكرم الكريم، وإحسان المحسن، إذا قوبل ممن أكرم وأحسن إليه، بالاستخفاف، ثم النكران والجحود، ثم بالحرب والعدوان على الحدود- كان من مقتضى الحكمة والعدل معا، أن يؤدّب هذا الجاحد المنكر، وأن يذوق مرارة الحرمان، كما ذاق حلاوة الإحسان.. وإلا فقد الإحسان معناه، وذهب ريحه الطيب، الذي يجده الذين يعرفون قدره، ويؤدون حقه..
يقول المتنبى:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
وقد تأول بعض المتأولين هذه الآية تأويلا فاسدا، حين أقاموا منها حجة لأهل الزيغ والضلال، يلقون بها ربهم، إذا سئل أحدهم من ربه: «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟» فيقول فى قحة، وبلا حياء: «غرّنى كرمك» !! إن ذلك مكر بالله، والله أسرع مكرا! ونعم، إن الله كريم كرما لا حدود له.. ولكن هذا الكرم، لا يقع إلا حيث المواقع التي تحيا به، وتثمر أطيب الثمر فى ظله.. إنه كرم بحكمة،(16/1481)
وحساب وتقدير.. «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8: الرعد) ولقد وسع كرمه سبحانه، سيئات المسيئين، فتقبل توبتهم، وجعل السيئة سيئة، والحسنة عشرا، إلى سبعمائة، وأضعاف السبعمائة: «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» . (261: البقرة) ثم كيف يعرف كرم الكريم، ويطمع فى أن ينال منه، من لا يعرف الكريم ذاته، ومن لا يرجو له وقارا؟ إن حجة هؤلاء داحضة، ومكر أولئك يبور! قوله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» .
هو بيان لبعض كرم الكريم، سبحانه وتعالى، على الإنسان، وإحسانه إليه.
فلقد خلق الله سبحانه هذا الإنسان فى أحسن تقويم، فعدل خلقه، وأحسن صورته، ومنحه عقلا امتاز به على كثير من المخلوقات: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» (70: الإسراء) .
وقوله تعالى: «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» - «ما» هنا للتفخيم، الذي يشير إلى قدرة الصانع، وما أودع فى جرم الإنسان الصغير، من قوى عمر بها هذه الأرض، وفتح بها مغالق كنوزها، واستأهل أن يكون خليفة الله عليها..
قوله تعالى:
«كَلَّا.. بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» .(16/1482)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
«كلا» رد على جواب مفترض، ينبغى أن يجيب به الناس على قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» وهو قولهم: لم نغتر بكرمك يا كريم.. فجاء الرد عليهم «كلا» لقد غرّكم كرمى.. وإلا فلماذا «تكذّبون بيوم الدين» ؟ أليس تكذيبكم بما جاءت به رسل الله إليكم، مع مواصلة إحسانى إليكم، وتوالى نعمى عليكم- أليس ذلك منكم اغترارا بكرمى؟
وعلى هذا يكون الإنسان المخاطب فى قوله: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» - هو ذلك الإنسان الكافر بالله، المكذب بآياته.. وهو الغارق فى المعاصي، الذي لم يلتفت إلى ما وراء الحياة الدنيا، ولم يعمل للآخرة حسابا، كأنه مكذب بها..
والحافظون، هم الملائكة الموكلون بالناس، وبتسجيل ما يعملون من خير أو شر.. وهم الكرام عند الله، المكرمون بفضله وإحسانه، الكاتبون لما يعمل الناس..
الآيات: (13- 19) [سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» .(16/1483)
هو بيان لحال من لا يغترون بكرم الله، ومن يغترون به.
فالذين قدروا الله قدره، وعرفوا فضله وإحسانه، فآمنوا به، واستقاموا على شريعته، ولزموا حدوده- هؤلاء فى نعيم يوم القيامة، حيث ينزلهم الله فى جنات، ينعمون فيها بما يشتهون..
والأبرار: جمع برّ، وهو الذي عمل البر، والبرّ هو كل عمل طيب فى ظل الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين.. وسمى البرّ برّا، لأنه برّ بما عاهد الله عليه، وبالميثاق الذي واثقه به.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» .
والفجار: جمع فاجر، والفاجر من يفجر عن أمر الله، ويتعدى حدوده..
قوله تعالى:
«يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» .
أي هذه الجحيم، التي يلقى فيها الفجار، إنما يصلونها ويعذبون بها يوم الدين، أي يوم القيامة، الذي يكذبون به.
وقوله تعالى:
«وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» .
أي لا يغيبون عنها، ولا يخرجون منها أبدا، بعد أن يدخلوها..
ويجوز أن يكون المعنى أنهم ليسوا غائبين عنها فى هذه الدنيا، فهم مشرفون عليها، مسوقون إليها بفجورهم، وإن لم بروها..(16/1484)
قوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» .
استفهام يراد به عرض هذا اليوم على ما هو عليه من هول لا يوصف، ولا يعرف كنهه، لأنه شىء لم تره العيون، ولم تحم حوله الظنون.
قوله تعالى:
«يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» أي أن هذا اليوم المهول، هو يوم يتعرّى فيه الناس من كل قوة وسلطان، فلا يملك أحد لأحد شيئا، ولا يدفع أحد عن أحد مكروها.. فالأمر كله بيد الله، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
وفى قيد الأمر لله بيوم القيامة، مع أن الأمر كله لله فى جميع الأزمان والأحوال- إشارة إلى أن الناس وإن كانوا فى الدنيا يظنون أنهم يملكون شيئا، وأنهم يملكون فيما بينهم الضر والنفع- فإن هذا الظاهر من أمرهم فى الدنيا، لن يكون لهم منه شىء فى الآخرة.. كما يقول سبحانه: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (16: غافر)(16/1485)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
(83) سورة المطففين
نزولها: نزلت بمكة، بعد العنكبوت.. وهى آخر ما نزل بمكة..
وقيل أول ما نزل بالمدينة عدد آياتها: ست وثلاثون.. آية عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات عدد حروفها: أربعمائة وثلاثون.. حرفا
مناسبتها لما قبلها
أجملت سورة الانفطار التي سبقت المطففين مصير الفجار، ومصير الأبرار..
فجاءت سورة المطففين. مفصلة شيئا من هذا المصير، كما جاءت كاشفة مبينة عن وجوه من فجر الفجار، كالتطفيف فى الكيل والميزان، والتكذيب بيوم الدين، والاتهام لرسول الله، ولآيات الله..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 17) [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)(16/1486)
التفسير قوله تعالى:
«وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» التطفيف: الخروج عن سواء السبيل فى الكيل والميزان، زيادة أو نقصا..
وقد بين الله ذلك فى قوله تعالى: «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» .. فهؤلاء هم المطففون، قد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل والعذاب الشديد فى الآخرة، لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، فيأخذون أكثر مما لهم إذا كالوا أو وزنوا، أو يأخذونه كاملا وافيا «يستوفون» على حين يعطون أقل مما عليهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم «يخسرون» .. إنهم اؤتمنوا فخانوا الأمانة، ووضع فى أيديهم ميزان الحق، فعبثوا به، واستخفوا بحرمته.. فيستوفون حقهم كاملا إذا أخذوا، ويعطونه مبخوسا ناقصا إذا أعطوا!! وفى قوله تعالى: «اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ» وفى تعدية الفعل بحرف الجر «على» - إشارة إلى أن هذا الذي يكيلونه هو شىء لهم على غيرهم..(16/1487)
أمّا تعدية الفعلين «كالوهم ووزنوهم» بدون حرف الجر «إلى» - فهو إشارة إلى أنهم فى تلك الحال هم الذين يكيلون ويزنون، فكأنه قيل: وإذا أعطوهم مكيلا أو موزونا يخسرون..
قيل إن أهل المدينة، كانوا قبل الإسلام أخبث الناس كيلا، فلما جاء الإسلام، وكشف لهم عن شناعة هذا العمل، وما يجر على مقترفيه من نقمة الله وعذابه- أصبحوا أعدل الناس كيلا ووزنا إلى اليوم..
والقول بأن هذه السورة هى آخر ما نزل بمكة، أولى من القول بأنها نزلت فى المدينة.. ذلك أن نزولها بالمدينة، وفى أول مقدم الرسول إليها، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة، والتشنيع، على هؤلاء القوم الكرام، الذي استجابوا لدين الله، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش.. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر، الذي قيل إنه كان فاشيا فى أهل المدينة- الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه فى هذا الأمر، وحكمه على فاعليه، بعيدا عن موقع المواجهة، وأن يرمى به فى وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة، انخلعوا من هذا المنكر، واستقبلوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث.
والخيانة فى الكيل والميزان، ليست كما يبدو فى ظاهرها، أمرا عارضا هينا، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال فى نظام حياتها.. وكلّا، فإن هذا الداء، إذا تفشّى فى مجتمع من المجتمعات،(16/1488)
أفسد نظامه كله، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع، مادياتها ومعنوياتها جميعا.. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا، أن تفقد الثقة فى معاملاتها، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها، أخذا، وإعطاء..
ونتصور هنا جماعة قد شاع فى معاملاتها النقد الزائف، واختلط بالنقد الصحيح.. فهل يجتمع لهذه الجماعة شمل، أو يستتب فيها نظام، أو تغشاها سكينة واطمئنان؟ ..
إن حياة الناس قائمة على التبادل، والأخذ والعطاء، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شىء، انحلّ عقد نظامهم، وتقطعت عرا أوثق رابطة تربط بين الناس والناس، وتجمع بعضهم إلى بعض وهى الثقة.
وفى القرآن الكريم، إشارة صريحة إلى خطورة التبادل، القائم بين الناس- أخذا وعطاء، والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان، أتى على كل صالحة فى حياة الناس.. وهذا ما نراه فى دعوة نبى الله شعيب- عليه السلام- ورسالته فى قومه..
إنها رسالة، تعالج هذا الداء الذي استشرى فى القوم وتطبّ له قبل أي داء آخر، بعد داء الكفر.. فإنه لا يقوم بناء، ولا يستنبت خير، إلا إذا اقتلع هذا الداء، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها، وغرص البذور الطيبة فيها..
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان شعيب إلى قومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ.. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ.. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» (84: هود) ويقول سبحانه على لسانه أيضا: م 94- التفسير القرآنى ج 30(16/1489)
«أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (181- 183 الشعراء) .
إنها قضية حق وعدل.. فإذا افتقد الحق مكانه فى قوم، وإذا اختلت موازين العدل فى أيديهم، فليأذنوا بتصدع بنيانهم، وانهيار عمرانهم، وبوار سعيهم، وسوء مصيرهم..
وقوله تعالى:
«أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ..
هو استفهام إنكارى، لهذا الأمر المنكر الذي يأتيه المطففون فى الكيل والميزان.. إن هؤلاء المطففين لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم، فيه حساب، وجزاء.. ولو كانوا يظنون هذا ما اجترءوا على أكل حقوق الناس بالباطل، ولحجزهم عن ذلك حاجز الخوف من الله، ومن لقائه بهذا المنكر الشنيع..
وفى التعبير بفعل الظن، بدلا من فعل الاعتقاد فى البعث، إشارة إلى أن مجرد الظن بأن هناك بعثا، وحسابا، وعقابا- يكفى فى العدول عن هذا المنكر، وتجنبه، توقّيا للشر المستطير، الذي ينجم عنه.. فكيف بمن يعتقد البعث، ويؤمن به؟ إنه أشد توقيا للبعث، ومحاذرة منه، وإعدادا له..
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» ..
كلّا هو رد على قوله تعالى: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ؟» ..
وكلا.. إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون، ولو ظنوا أنهم مبعوثون ما فعلوا هذا الذي فعلوه من التطفيف فى الكيل والميزان..(16/1490)
وقوله تعالى: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» - هو إشارة إلى أن هؤلاء المطففين من الفجار، الذين خرجوا على حدود الله، وأن كتابهم الذي سجلت فيه أعمالهم المنكرة، كتاب منكر، فى مكان منكر.
والسجّين: مكان مطبق، مغلق على هذا الكتاب، وهو مبالغة من السجن، وهو الحبس.. وفى هذا إشارة إلى أن هذا الكتاب- لما يضم من شنائع ومنكرات- قد ألقى به فى مكان بعيد عن الأعين، كما تلقى الجيف، أو يردم على الرمم.
وقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ» تهويل، وتشنيع، على هذا المكان الذي ضمّ هذا الكتاب العفن، الذي تفوح منه رائحة هذه المنكرات الخبيثة..
وقوله تعالى: «كِتابٌ مَرْقُومٌ» هو بدل من «سجين» .. حيث يدل ذلك على أن هذا الكتاب المنكر، والمكان الذي ألقى فيه، قد صار شيئا واحدا، هو هذا الكتاب المرقوم، أي الموسوم بتلك العلامات، والشواهد الدالة على ما ضم عليه من آثام ومنكرات..
قوله تعالى:
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يكذبون بالبعث، ولا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم.. إن لهم الويل، والهلاك، والعذاب الأليم فى هذا اليوم العظيم، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين..
وقوله تعالى:
«وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ(16/1491)
الْأَوَّلِينَ»
أي أنه لا يكذب بهذا اليوم إلا كل معتد على حرمات الله، غارق فى الإثم والضلال..
وإن من كان هذا شأنه من التهالك على المنكر، ولا ستغراق فى الإثم، هو فى سكرة مما هو فيه، لا يود أن يفيق منها أبدا، ولا ينتظر لليلة سكره صباحا، يقطع عنه أضغاث أحلامه، وهذيان خماره.
إن آفة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ليست عن حجة من عقل أو منطق، وإنما هى كامنة فى تلك الشهوات المستبدة بهم، والمتسلطة عليهم، والتي من شأنها- لكى تضمن وجودها، وتدافع عن بقائها- أن تدفع كل خاطر يزحمها، أو طارق يتهدد وجودها.. فإذا اتجهت النفس إلى الإيمان باليوم الآخر، بدا لها هذا القيد الذي يقيدها به الإيمان، ويحول بينها وبين هذا المرعى الذي تنطلق فيه هائمة على وجهها.. وهنا يضعف ذوو النفوس الخبيثة عن قبول هذا الالتزام بالوقوف عند حدود الله، فيتهمون هذا الهاتف الذي يهتف فى ضمائرهم بالإيمان بالله واليوم الآخر ليظلّوا عاكفين على ما هم فيه من آثام ومنكرات. روى أن الأعشى الشاعر الجاهلى، حين سمع بأمر النبىّ، جاء يريد الإسلام، فتلقته قريش، وقالوا له إن محمدا يحرّم الزنا، فقال: هذا لا إربة لى فيه، فقالوا: إنه يحرم الخمر، فقال: أما هذه، فإنها شهوة نفسى، وعندى خابية منها، سأروى نفسى منها سنة، ثم أعود فأدخل فى دين محمد.. فرجع ولكنه لم يعد، فقد مات فى عامه هذا!! وهكذا يتعلل أصحاب المنكرات بالعلل والمعاذير، حتى يموتوا على ما هم عليه من ضلال..
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» .
كلا، هو ردّ على قول هذا المعتدى الأثيم، الذي إذا تتلى عليه آيات الله(16/1492)
قال: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. إنه يغمض عينيه عن هذا النور المشع، الذي يبدّد ظلام ليله الغارق فى. لذاته، بتلك القولة الضالة التي يقولها عن كتاب الله:
«أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» !! وكلا.. ليس الأمر كما زعم، ضلالا، وافتراء.. وإنما قد ران على قلبه هذا الإثم الذي غرق فيه، فلم يعد يرى حقّا، أو يهتدى إلى حقّ! و «رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ» أي غطى على قلوبهم.. والرّين على الشيء حجبه، وتغطيته.
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» .
هو توكيد لهذا الرّين الذي غطى قلوبهم، وأنه قد صحبهم إلى الآخرة، فحجبهم الله سبحانه وتعالى عن رؤيته، وعن موقع رحمته وإحسانه، كما حجبوا هم أنفسهم بآثامهم عن رؤية الحقّ فى الدنيا.
وقوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .
أي وليس حجبهم عن الله سبحانه وتعالى فى الآخرة، وبعدهم عن مواقع رحمته، هو كل جزائهم فى الآخرة، وإن كان جزاء أليما، وعقابا زاجرا، بل إن وراء هذا نارا تلظّى، يلقون فيها، ويكونون حطبا لها.. ثم لا يتركون هكذا للنار تأكلهم، وترعى فى أجسامهم، بل ينخسون بهذه القوارع، بما يرجمون به من كل جانب، من ملائكة جهنم وخزنتها بقولهم لهم: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» فذوقوه لتعلموا إن كان ما كذبتم به حقا أو غير حق، واقعا أو غير واقع: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟
(44: الأعراف)(16/1493)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
الآيات: (18- 28) [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
التفسير:
قوله تعالى:
«كَلَّا.. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» ..
هو رد على هؤلاء الفجار الذين أجرموا، الذين ظنوا أن مصير الناس جميعا كمصيرهم هذا، الذي يلاقون فيه أشد الهوان، وأقسى العذاب.. وكلا..
فهناك الأبرار، أهل الإيمان والإحسان.. وأنه إذا كان كتاب الفجار، قد جمع المخازي والموبقات، وأودع فى سجين، فإن كتاب الأبرار، قد حوى المكارم والطيبات، فأخذ مكانه فى عليين.
وقوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» ..
المراد بالاستفهام هنا، النفي، هو تنويه بهذا الكتاب، ورفع لقدره، وقدر المكان الذي أودع فيه.. وكما رقم كتاب الفجار، ووسم بميسم التجريم، فقد رقم كتاب الأبرار، وختم بخاتم الرحمة، والمغفرة، بمحضر من(16/1494)
المقربين من ملائكة الرحمن.. إنهم يطالعون صفحاته، ليروا فيها كيف طاعة المطيعين، وإحسان المحسنين، من عباد الله.
وقوله تعالى:
«إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» .
وكما قاد كتاب الفجار أصحابه إلى جهنم وعذابها، فإن كتاب الأبرار قاد أصحابه كذلك، ولكن إلى الجنة ونعيمها، وإنهم ليأخذون مجالس نعيمهم فيها على الأرائك، وهى الأسرة ذات السّتر، حيث يسرحون بأبصارهم فى هذا النعيم المحيط بهم، ويتحملون محاسنه ومباهجه، فيعظم نعيمهم، وتتضاعف مسراتهم..
وقوله تعالى:
«تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» أي أن آثار النعيم الذي هم فيه، تراه ظاهرا على وجوههم المشرقة بنضرة النعيم ورونقه وبشاشته.
وفى التعبير بقوله تعالى: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» بدلا من «ترى على وجوههم» - إشارة إلى أثر هذا النعيم الواضح على الوجوه، وأن مجرد النظر إلى هذه الوجوه يفيد علما ومعرفة، بما يلقى أصحاب هذه الوجوه من ألوان النعيم..
وقوله تعالى:
«يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ»(16/1495)
أي أن هؤلاء الأبرار، الذين أخذوا منازلهم فى الجنة، واتكئوا على الأرائك المعدّة لهم، وسرحوا بأبصارهم فى ألوان هذا النعيم الممدود بين أيديهم إنه يطاف عليهم بالرحيق، وهو الشراب الخالص من كل كدر، المبرأ من كل سوء، وقد ختم بخاتم من المسك، فإذا فضّ ختامه عبقت منه رائحة المسك، فعطرت الجو من حوله، فتنتعش النفوس لشرابه، وتهشّ لاستقباله. «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» أي لمثل هذا فليعمل العاملون، ويجد المجدون، ويتنافس المتنافسون..
فهذا هو الذي ينبغى أن يطلب، ويشتد الطلب عليه، ويكثر التنافس فيه، وأما ما سواه، فهو هباء وقبض الريح.
قوله تعالى:
«وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» أي أن هذا الرحيق الذي يسقى منه الأبرار فى الجنة، والذي تعبق منه رائحة المسك، هو ممزوج بتسنيم!! وقد بين الله تعالى هذا التسنيم الذي يمزج بهذا الرحيق، وهو عين من عيون الجنة، لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، قد أعدها- جل شأنه- ليشرب منها عباد الله المقربون، أي أهل القرب منه، وأهل الكرامة عنده..
وفى تعدية الفعل يشرب بالباء، بدلا من حرف الجر «من» كما يقضى بذلك وضع اللغة- فى هذا إشارة إلى أن هذه العين هى شراب، وأداة للشراب أيضا، فهم يشربون بهذه العين من العين!! .. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (6: الإنسان)(16/1496)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
الآيات: (29- 36) [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» هو عودة بالمشركين، المجرمين إلى الحياة الدنيا، وإلى مكانهم الذي زايلوه فيها، بعد هذه النّقلة السريعة التي انتقلوا بها إلى الدار الآخرة، وشهدوا فيها ما أعد لهم هناك من عذاب ونكال..
وإذ يعود المجرمون إلى مكانهم من دنياهم، يرون بين أيديهم مشهدا من تلك المشاهد المتكررة التي يعيشون فيها مع أهل الإيمان والإحسان.. إنهم يتخذون من المؤمنين مسرحا للضحك منهم، والسخرية بهم، فإذا مرّ بهم المؤمنون تغامزوا، أي غمز بعضهم بعضا، بإشارات من أعينهم، أو غمزات بأكتافهم، وكأنهم أمام مشهد عجيب غريب، يثير العجب والضحك..(16/1497)
وقوله تعالى:
«وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» وهذا شأنهم بعد أن ينفض مجلسهم الآثم الذي جرحوا فيه المؤمنين بتغامزهم وتلامزهم.. إنهم يعودون من هذا المجلس إلى أهلهم، وعلى أفواههم طعم هذا المنكر الذي طعموه فيها، يتشدقون به ويقصّون على أهلهم ما دار على ألسنتهم من فجور، وما رموا به المؤمنين من هجر القول، وفجره، يجعلون ذلك مادة للتندر والتفكه.
والفكه: كثير الفكاهة والمزاح..
قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» أي وليس هذا كل ما عند المجرمين من كيد للمؤمنين، بل إنهم كلما رأوا أحدا من المؤمنين أشاروا إليه كمعلم من معالم الضلال، وكأنهم يشفقون عليه من هذا الطريق الذي يسير فيه.. فيقول بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المسكين المغرور، الذي يمنّيه محمد بالجنة ونعيمها!! إنه مسكين.. لقد وقع فريسة لخداع محمد وتمويهه!! وقوله تعالى:
«وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» هو ردّ على هؤلاء المجرمين، وعلى إنكارهم على المؤمنين ما هم فيه.. إنهم لم يرسلوا عليهم حافظين لهم، حارسين لما يتهددهم من سوء! وقد كان الأولى بهؤلاء المجرمين الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يحفظوها من هذا البلاء الذي اشتمل عليهم.. ولكن هكذا أهل السوء أبدا، يشغلون عن أنفسهم وعن حراستها من المهالك والمعاثر، بالبحث عن عيوب الناس، وتتبع سقطاتهم وزلاتهم، والتشنيع بها عليهم..(16/1498)
قوله تعالى:
«فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» هو عودة بالمجرمين من موقفهم هذا فى الحياة الدنيا، إلى موقف الحساب والجزاء مرة أخرى، وإنزالهم منازلهم فى جهنم، حيث تتعالى صر خاتهم، على حين بنظر إليهم المؤمنون، ضاحكين منهم، ساخرين بهم، كما كانوا هم يسخرون من المؤمنين ويضحكون منهم فى الدنيا..
وقوله تعالى:
«عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» هو بيان للحال التي عليها المؤمنون، وهم يضحكون من الكفار.. إنهم يضحكون وهم جالسون، مستريحون على الأرائك، على حين يتقلب المجرمون على جمر جهنم.
وقوله تعالى: «ينظرون» حال أخرى من أحوال المؤمنين، وهم يضحكون من الكفار، حال جلوسهم على الأرائك، ينظرون، أي يملئون عيونهم من نعيم الجنة الذي يحفّ بهم..
وقوله تعالى:
«هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» يجوز أن يكون معمولا لقوله تعالى: «ينظرون» أي ينظر المؤمنون وهم على أرائكهم ليروا هل ثوب الكفار، أي هل جوزوا بما كانوا يفعلون؟
وذلك ليتحقق لهم وعيد الله فى أهل الضلال، كما تحقق لهم وعده فى أهل الإيمان..
ويجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، يراد به تبكيت الكفار، وهل جوزوا للجزاء الذي يستحقونه، أم أن هناك مزيدا من العذاب يريدونه إن كان فوق ما هم فيه مزيد؟ ..(16/1499)
(84) سورة الانشقاق
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الانفطار عدد آياتها: خمس وعشرون آية عدد كلماتها: مائة كلمة وسبع كلمات.
عدد حروفها: أربعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا
مناسبتها لما قبلها
تعد هذه السورة، وما سبقها، وما يأتى بعدها، حديثا متصلا عن القيامة وأحداثها.. فكل سورة منها معرض من معارض هذا اليوم المشهود..
فإذا ذهبنا نلتمس مناسبة لترتيب هذه السور، كان ذلك أشبه بالتماس المناسبة بين ترتيب الآي فى السورة الواحدة.. والمناسبة هنا وهناك قائمة أبدا..(16/1500)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 15) [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» هو مثل قوله تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» - وتشقق السماء وانفطارها يوم القيامة، هو- كما قلنا- لما يكون فى قدرة الإنسان يومئذ على التصعيد فى آفاق السماء، دون أن يجد لهذا السقف الذي يراه فى الدنيا، أثرا.. فهى أبواب مفتحة، ينطلق فيها إلى ما لا حدود له..
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» (19: النبأ) وقوله تعالى:
«وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ»(16/1501)
أي أصغت، واستجابت لأمر ربها.. يقال أذن فلان لفلان، أي أصغى إليه، وأعطاه أذنه، متقبّلا ما يتحدث به إليه.. «وحقت» أي لزمتها الطاعة، وحقّ عليها الولاء والخضوع لأمر الله.. وهل تملك غير هذا؟ فإن لم تستجب لذلك طوعا أجابت كرها.. «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) قوله تعالى:
«وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» ومدّ الأرض، هو ظهورها كالبساط الممدود، فلا ترى العين المحلقة بعيدا فوقها، جبالا ولا هضابا، وإنما تراها على مستوى واحد، لا عوج فيها ولا أمتا.
وإلقاء ما فى الأرض: هو إخراج ما فيها من موتى، كما يقول سبحانه:
«وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» (2: الزلزلة) وفى التعبير هنا بلفظ الإلقاء- إشارة إلى أنها تلفظ ما فيها لفظا، كما يلقى سقط الجنين من بطن أمه.
وقوله تعالى: «وتخلت» أي أنها تخلت عما ألقته من بطنها، فلم تمسك به على ظهرها، وهذا ما يشير إلى أن الحشر سيكون فى موضع آخر غير الأرض، الله سبحانه وتعالى أعلم به.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ»(16/1502)
هو جواب إذا الشرطية.. أي إذا حدث هذا، فاعلم يا أيها الإنسان أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ومعنى الكدح: السعى الشديد، وقد أكد بقوله تعالى: «كدحا» أي سعيا جادّا متصلا، لا ينقطع..
أي أنه إذا حدثت هذه الأحداث، فتلك هى أشراط الساعة، وهنا تبدأ مسيرتك إلى المحشر، أيها الإنسان، وإلى لقاء ربك، وذلك على طريق كله أهوال وشدائد، تشيب لها الولدان..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» أي وهناك فى موقف الحساب، يؤتى كل إنسان كتابه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» (13- 14: الإسراء) فأما من أوتى كتابه بيمينه، فهو من أهل السلامة والنجاة. إنه يحاسب حسابا يسيرا، لا رهق فيه، لا عسر.. فما هو إلا أن يعرض فى موقف الحساب، حتى يخلى سبيله. ففترة العرض والانتظار، هى هذا الحساب اليسير.. ففى الحديث عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حوسب يوم القيامة عذّب» قالت: فقلت يا رسول الله: أليس قد قال الله:
«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» فقال: «ليس ذلك الحساب: إنما ذلك العرض.. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب»(16/1503)
ثم ينقلب من هذا الحساب- وقد برئت ساحته- يزف إلى أهله من إخوانه المؤمنين بشرى نجاته وسلامته، وقد غمره السرور، وفاض عليه البشر فلا يملك إلا أن يهتف بكل من يلقاه من أهل المحشر: «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (19: الحاقة) قوله تعالى:
«وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» إشارة إلى أن المجرم حين رأى هذا الكتاب وما طلع به عليه من نذر الشؤم والبلاء- فرّ منه؟ وطرح يديه وراء ظهره بعيدا عنه، حتى لا يمسه، ولكن أنّى له أن يهرب منه، إنه لا بد أن يأخذه، فإن لم يمد يده هو إلى أخذه، لحق الكتاب به، وتعلق بشماله حيث بلغت مداها من الارتداد وراء ظهره.
وفى هذه الصورة ما يكشف عن حركات النفس، وما يتبعها من حركات ترتسم على الجوارح..!
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» أي أن من أوتى كتابه بهذا الأسلوب، من وراء ظهره، فسوف يصرخ صرخات الثبور، ويولول ولولات الهلاك، نادبا نفسه، ناعيا مصيره.. وكيف لا يكون منه هذا والنار قد فتحت أبوابها له.
وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً» إشارة إلى ما كان عليه هذا الضال فى الدنيا من غرور بنفسه، وإعجاب بحاله، وبما يسوقه إلى المؤمنين من كيد..(16/1504)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» (31: المطففين) وقوله تعالى: «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» أي أن هذا الضالّ ظن أن لن يرجع إلى الله، وأن يبعث بعد الموت، ويحاسب على ما كان منه..
وحار: يحور: أي رجع إلى المكان الذي بدأ منه مسيرته، فى حركة دائرية تصحبه فيها الحيرة والقلق، والاضطراب.. وهكذا مسيرة الإنسان فى الحياة، بتحرك فيها على طريق دائرى، ينتهى من حيث بدأ ويبدأ من حيث انتهى.
وقوله تعالى:
«بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» هو جواب بالإيجاب لما بعد النفي.. أي بلى ليحورنّ، ويرجعنّ إلى الله، الذي هو بصير بعباده، يعلم ما يصلحون له، وما يصلح لهم..
وهذه الحياة الأخرى، هى امتداد لحياة الإنسان الأولى على هذه الأرض..
والحياة على أية صورة نعمة من نعم الله، وهى على ما تكون عليه، خير من العدم.. ولو كانت الحياة الدنيا هى غاية حياة الإنسان، ثم عاد بعدها إلى العدم لكان شأنه فى هذا شأن أحط الحيوانات، من ديدان وحشرات.. وإرادة الله سبحانه وتعالى فى الإنسان أنه مخلوق مكرم مفضل على كثير من المخلوقات..
ومن مقتضى هذا التفضيل والتكريم أن تمتد حياته، وأن يتصل وجوده، وأن ينقل من عالم الأرض إلى عالم السماء! ولعل هذا هو بعض السر فى إضافة هذا الإنسان- على ضلاله- إلى ربه.. «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» ..
فليتحمل الإنسان الضالّ، هذه النار فى سبيل الحياة، وليتطهر من أدرانه بها..
فتلك هى ضريبة الحياة، وإن كانت فادحة على أهل الكفر والضلال، كما كانت الحياة الدنيا ثقيلة على أهل العدل والإحسان..
م 95- التفسير القرآن ج 30(16/1505)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
وأما ما يتمناه الكافر حين يلقى به فى النار من قوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
(40: النبأ) فتلك صرخة من صرخات العذاب، إنه ينطق بها، وهو ممسك بالحياة حريص عليها، كما يفعل ذلك كثير من الناس فى الدنيا، حين تشتد بهم خطوبها، فيتمنون الموت.. ولو جاءهم الموت لفرّوا منه، وتشبثوا بحياتهم تلك..
الآيات: (16- 25) [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» ..
قلنا- فى أكثر من موضع-: إن هذه الأقسام المنفية فى القرآن، إنما يقسم بها على أمور واضحة، لا تحتاج فى تقرير حقيقتها، وتوكيد وجودها، إلى قسم.. فالتلويح بالقسم هنا إشارة إلى أن ما يقسم عليه لا يحتاج إلى قسم(16/1506)
لمن عنده أدنى نظر، أو مسكة عقل، فهو فى الواقع قسم مؤكّد بهذا النفي الذي وقع عليه..
والشفق: هو الصفرة المشوبة بحمرة، تعلو وجه النهار عند الغروب..
وهو إيذان بدخول الليل، ولهذا جاء الليل معطوفا على الشفق.. «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» ..
وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» - إشارة إلى ما يحمل الليل من نجوم وكواكب، كما أنه يحمل كل هذه الكائنات التي كانت تتحرك بالنهار، فيضمها إلى جناحه ويحملها على صدره، كما تحمل الأم وليدها.. والوسق:
الحمل، الذي يوضع على ظهر الدابة.
وقوله تعالى: «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» أي إذا اكتمل، وصار بدرا..
يقال: اتسق الشيء: أي بلغ غاية تمامه..
وفى الجمع بين الشفق، والليل، والقمر، مراعاة للمناسبة الزمنية الجامعة بينها.. فالشفق أول الليل من الأفق الغربي، والقمر أوله من الأفق الشرقي.. (حيث يكون اتساقه وكماله وهو بدر فى الليلة الخامسة عشرة.)
فالمقسم به الواقع عليه النفي، هو هذا الظرف من الزمن، وهو ليلة انتصاف الشهر القمري، حيث تغرب الشمس، ويطلع القمر.. أو حيث يولّى سلطان الشمس، ويقوم سلطان القمر..
فالظرف الزمنى هنا، هو الليل الذي يقوم عليه سلطان القمر..
والليل، بمثل الإنسان فى جسده الترابي، المظلم المعتم..
والقمر، يمثل الضمير، أو الفطرة المركوزة فى هذا الإنسان، والتي(16/1507)
يهتدى بها إلى الحق والخير، حين تظلم شمس العقل، وتختفى فى ظلمات الحيرة، وبين سحب الشكوك والريب.
ولهذا وقع القسم على تلك الحال التي يركب فيها الإنسان غواشى الضلال، وتلقاه على طريقه المزالق والمعاثر: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» فلا يكون له مفزع حينئذ إلا فطرته، التي يهتدى بها إلى طريق النجاة، كما يفعل الحيوان فى تصريف أموره، على ما توجهه إليه غريزته.. فإذا افتقد الإنسان فطرته فى هذا الموطن، كان من الهالكين..
وقوله تعالى:
«لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» .
هو جواب لهذه الأقسام المنفية التي لوّح بها، والتي يخفيها النفي، ويظهرها للمقام..
وقوله تعالى: «طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» أي لتتحولن عن حالكم تلك إلى حال أخرى مطابقة لها، حيث تجدون وجودكم فى الآخرة، صادرا عن وجودكم فى الدنيا..
وفى التعبير بالركوب، عن التحول من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف- إشارة إلى أن ذلك لا يكون إلا على طريق شاق، يلاقى فيه الناس الأهول والمخاطر..
إنهم ينتقلون من نهار، كله سعى وعمل، إلى ليل بطل فيه كل سعى وعمل.. وفى الليل يلتقى المهمومون مع همومهم، على حين يتناجى السعداء مع آمالهم وأحلامهم! .. ثم إنهم ينتقلون من الحياة إلى الموت، ثم من الموت(16/1508)
إلى الحياة.. من الدنيا إلى الآخرة.. وهى رحلة طويلة شاقة يقطعها الإنسان فى جهد وعناء، متنقلا من حال إلى حال، ومتقلّبا فى صور مختلفة، ومنازل متبانية.
قوله تعالى:
«فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ..
أي ما لهؤلاء المكذبين باليوم الآخر، لا يؤمنون به، ولا يعملون له وقد جاعتهم؟؟ به النذر؟.
وماذا أضلهم عنه، أو حجبهم دونه؟ إنه ليس إلا الكبر والعناد.. وإلا التنكر لفطرتهم التي تهتف بهم أن آمنوا بالله!.
وقوله تعالى:
«وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ» .
ثم مالهم إذا تليت عليهم آيات الله، لا يسجدون لجلالها، ولا يخشعون لعظمتها؟ ..
وفى هذا إشارة إلى ما فى القرآن من جلال تعنو له الجباه، وتخشع لسلطانه القلوب.. «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (21: الحشر) ..
وقوله تعالى:
«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» ..
هو إضراب عن هذا السؤال، الذي يستحثهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى توقير آيات الله، والخشوع بين يديها.. فهذا التحريض لهم، لا ينفعهم، ولا يؤثر فيهم.. إنهم كافرون، والكافرون من شأنهم التكذيب:(16/1509)
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (96- 97: يونس) وقوله تعالى:
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» ..
هو تهديد لهؤلاء المكذبين بآيات الله، المنكرين للبعث.. فالله سبحانه أعلم بما يجمعون من محصول ضلالهم وكفرهم..
ويوعون: من أوعى يوعى.. أي جمع وحفظ ما جمع فى وعاء.. ومنه قوله تعالى: «وَجَمَعَ فَأَوْعى» (18: المعارج) ..
قوله تعالى:
«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
وهكذا يتحول النبي مع هؤلاء المشركين المكذبين، من منذر إلى مبشر، ولكنه مبشّر بالعذاب الأليم لهم.. فهذا ما يبشرهم به، على حين يبشر المؤمنين بجنات النعيم.. وفى التعبير بالبشرى عن بالعذاب الأليم بدلا من الإنذار به- إشارة إلى أنه لا شىء لهؤلاء الضالين المكذبين يبشرون به فى هذا اليوم، وأنهم إذا بشروا بشىء فليس إلا النار، والعذاب الأليم.. وفى هذا تيئيس لهؤلاء الضالين من أي خير!! قوله تعالى:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» ..
أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جزاؤهم من البر والإحسان، لا ينقطع أبدا.. فالاستثناء هنا منقطع..(16/1510)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
(85) سورة البروج
نزولها: مكية- نزلت بعد سورة الشمس.
عدد آياتها:: اثنتان وعشرون. آية..
عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات.
عدد حروفها. أربعمائة وثمانية وخمسون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
هى معرض من معارض يوم القيامة، فكان سياقها مع ما سبقها، سياق الجزء من كل..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 9) [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ» .(16/1511)
البروج: جمع برج، وهو القصر، أو الحصن، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» .
وبروج السماء، هى المنازل التي تنزل فيها الكواكب والنجوم فى مداراتها وبروج الشمس، هى منازلها فى حركتها على مدار السنة، وهى اثنا عشر برجا..
منها ستة شمال خط الاستواء، وستة فى جنوبه.. وقد رصد الفلكيون قديما وحديثا، هذه المنازل، وسموها بأسمائها.. وهى: الحمل، والثور، والجوزاء والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت..
قوله تعالى:
«وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» .. هو يوم القيامة، الذي وعد به الناس على لسان رسل الله.
وقوله تعالى:
«وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» ..
الشاهد: الرائي للأشياء، المحسّ بها، حيث يشهدها واقعة فى حواسه.
والمشهود: ما يقع عليه الحسّ البصري من عوالم المخلوقات، فى الأرض وفى السماء..
ففى هذه الأقسام الثلاثة جمع الله سبحانه وتعالى، عالم المخلوقات، علويّة، وسفلية، وغائبة وحاضرة، ومنظورة وناظرة..
لقد استحضر الله سبحانه وتعالى، الوجود كله، ليشهد هذا الجرم الغليظ، وليسمع حكمه سبحانه، على المجرمين الذين اقترفوه.(16/1512)
ومن هؤلاء المجرمون؟
إنهم أصحاب الأخدود!! وبماذا حكم الله عليهم؟
بالقتل بيده سبحانه، كما قتلوا المؤمنين، رجال الله، بأيديهم..
«قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» .
والأخدود: الشق فى الأرض، وجمعه أخاديد.
وأصحاب الأخدود، هم قوم كافرون بالله، كان لهم موقف مع المؤمنين بالله، شأنهم فى هذا شأن كل الكافرين مع المؤمنين فى كل زمان ومكان..
ولكن أصحاب الأخدود هؤلاء، قد جاءوا بمنكر لم يأته أحد من إخوانهم من أهل الضلال، ولهذا كانت جريمتهم أشنع جريمة، يستدعى لها الوجود كله، ليشهد محاكمتهم، وليسمع حكم الله عليهم.
لقد خدّوا أخاديد فى الأرض، أي حفروا حفرا عميقة فى الأرض، وملئوها حطبا، وأوقدوا فيها النار، حتى تسعرت، وعلا لهيبها، واشتد ضرامها، ثم نصبوا كراسى حولها يجلسون عليها، وجاءوا بالمؤمنين بالله يرسفون فى أغلالهم يعرضونهم على النار واحدا بعد واحد، ويلقونهم فيها مؤمنا إثر مؤمن..
والمؤمنون يرون هذا ويقدمون عليه، دون أن ينال هذا العذاب من إيمانهم، أو يردهم عن دينهم الذي ارتضوه.. وفى هذا شاهد من شهود الإيمان المتمكن من القلوب، الراسخ فى النفوس.. إنه أقوى من الجبال الراسيات، لا تنال منها الأعاصير، ولا تزحزحها عانيات العواصف! وقوله تعالى:
«النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» .
وهو بدل من «الأخدود» .. أي قتل أصحاب النار ذات الوقود.(16/1513)
وقوله تعالى:
«إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ» .
أي أن أصحاب الأخدود قعود على هذه النار، قائمون عليها، يشهدون تنفيذ حكمهم فى المؤمنين بالله، ويتشفون بما هم فيه من عذاب.
وقوله تعالى:
«وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» .
أي أنه ليس بين أصحاب الأخدود هؤلاء، وبين المؤمنين، من ذنب يأخذونهم به، إلا إيمانهم بالله العزيز الحميد.. إنهم يؤمنون بالله الذي لاقوة إلا قوته، ولا عزة إلا عزته، وأن ما يملكه أصحاب الأخدود من قوة، وما يجدونه فى أنفسهم من عزة، هو شىء محقر مهين إلى جانب عزة الله، التي يلوذ بها المؤمنون.. وهم- أي المؤمنون- يحمدون الله على السراء كما يحمدونه على الضراء، فهو سبحانه المستحق وحده للحمد فى جميع الأحوال.. وهو سبحانه، له ملك السموات والأرض وما فيهن، من عتاة وجبارين ومتكبرين، وهو يرى ويعلم كل شىء، فينتقم لأوليائه، ويأخذ لهم بحقهم ممن اعتدى عليهم..
ولقد انتقم الله لأوليائه، وهاهم أولاء المجرمون قد سيقوا إلى ساحة قضائه العادل، وقد صب الله عليهم لعنته، وألقى بهم فى عذاب الحريق! وفى التعبير عن إيمان المؤمنين بفعل المستقبل: «إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا» ، بدلا من الفعل الماضي، الذي يقتضيه المقام، والذي بسبب وقوعه كانت نقمة الناقمين عليهم- فى هذا إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي فى قلوب هؤلاء المؤمنين، هو إيمان ثابت فى قلوبهم، مصاحب لهم، لا يتحولون عنه، ولا يجليه عن قلوبهم وعد أو وعيد.(16/1514)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
هذا ولقد كثرت الأقوال فى أصحاب الأخدود، وفى الزمان الذي كانوا فيه، والوطن الذي ينتسبون إليه.. وكثرة هذه الأقوال وتعارضها يفقدها الأثر الذي لها، ويجعل كلّ قول غيرها- ولو كان من واردات الظن والافتراض- مثلها تماما فى النظر إليه عند تصوّر الحدث.
والقرآن الكريم، لا يذكر أسماء الأشخاص، أو تحديد الأماكن أو الأزمان، إلا إذا كان للشخص دلالة خاصة فى ذاته، لا ترى فى غيره، وإلا إذا كان للمكان أو الزمان، أثر خاص فى الحدث الذي حدث فيه، أو صفات لا توجد فى مكان آخر، أو زمن غير هذا الزمن.
أما حين لا يكون للشخص أو المكان أو الزمان وزن خاص فى ميلاد الحدث، وفى تكوين صورته، وطبعه بطابعه الخالص، فلا يعنى القرآن بذكر ذات الشخص، ولا موضع المكان، ولا حدود الزمان.. وذلك ليكون الحدث مطلقا من أي قيد، ليعطى دلالة وحكمة، حيث يلتقى بما يشبهه من ذوات الأشخاص، وملامح الزمان والمكان.
الآيات: (10- 22) [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)(16/1515)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» .
الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: أي الذين كادوا لهم فى دينهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم منه.
وهذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لكل من تعرض لأوليائه المؤمنين والمؤمنات، بأذى، يريد أن يصرفهم عن الإيمان، أو يصدّهم عنه.. فهؤلاء الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات بسبب إيمانهم، إذا لم ينزعوا عما هم فيه، ولم يرجعوا إلى الله مؤمنين تائبين، فقد أعدّ الله لهم عذاب جهنم، بما فيها من مقامع من حديد، ومن شدّ إلى السلاسل والأغلال، ومن حميم يصبّ فوق الرءوس، ومن غساق يقطع الأمعاء.. ثم لهم فوق ذلك كله عذاب الحريق، أي عذاب النار ذاتها، الذي يرعى أجسامهم، كما ترعى النار الحطب.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» .
هو فى مقابل ما يلقى الذي فتنوا المؤمنين والمؤمنات، من عذاب..
إذ ليس العذاب هو كل ما فى الآخرة، بل فيها إلى جانب النار للمجرمين، جنات تجرى من تحتها الأنهار للمؤمنين المتقين: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد)(16/1516)
قوله تعالى:
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» البطش الأخذ بالشدة الباطشة، كما فى قوله تعالى: «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» أي أن عقاب الله سبحانه للمجرمين عقاب شديد، متمكن منهم، لا يجدون سبيلا للفرار منه.. وفى هذا وعيد للمشركين، وشدّ لأزر النبىّ، وإلفاته إلى أن هؤلاء المشركين هم فى قبضة الله، لا يفلتون منه أبدا.
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» .
أي أنه سبحانه يبدىء الخلق ويعيده، فيحيى ويميت، ويميت ويحيى، وفى هذا دليل على القدرة الفعّالة الدائمة، القائمة على تدبير هذا الوجود، وتبدّل صوره حالا بعد حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29: الرحمن) .
وقوله تعالى:
«وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» .
أي ومن صفاته سبحانه أنه «الغفور» أي الكثير للغفرة لذنوب عباده المؤمنين، الذين يجيئون إليه تائبين مستغفرين: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (82: طه) .. وهو سبحانه «الودود» أي الكثير الودّ لمن وادّ الله ورسوله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» (96: مريم) وهو سبحانه صاحب السلطان الرفيع العظيم، الذي لا يساميه سلطان.
وهو- سبحانه- الفعال لما يريد.. أي يفعل ما يشاءدون معوق أو معقب..
فكل ما أراده سبحانه تمضيه قدرته..(16/1517)
وفى هذا العرض لصفات الله- سبحانه- الجامعة بين القدرة والبطش، وبين المغفرة والود- فى هذا وعيد ووعد، وتهديد وترغيب.. فمن خاف وعيد الله بالعذاب، تلقاه وعده بالرحمة والرضوان، ومن أفزعه التهديد بالنار وعذابها، آنسه للترغيب بالجنة ونعيمها وقوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» .
هو إلفات إلى طغمة من عتاة الناس وأشرارهم، من الذين استخفوا بقدرة الله، ولم يرهبوا سلطانه، فتسلطوا على العباد، وطغوا فى البلاد، فأكثروا فيها الفساد.
والاستفهام هنا: إما أن يكون على حقيقته، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقى من آيات ربه قبل ذلك، حديثا عن فرعون، وثمود، وما أخذهم الله به من بلاء ونكال، وعلى هذا يكون جواب الاستفهام محذوفا، تقديره.
نعم أنانى حديث الجنود فرعون، وثمود! ويكون التعقيب على هذا الجواب أظهر من أن بدل عليه، وهو: ألا ترى فى هذا الحديث ما أخذ الله به أهل البغي والتعدي؟ وهل قومك أعتى عتوّا وأشد قوة من فرعون وجبروته، وتمود وبطشهم؟
ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا به بالنفي، أي إنه لم يأتك حديث الجنود.. وإذن فسنقصه عليك فيما سينزل عليك من آياتنا بعد.. وفى هذا ما ببعث الشوق والتطلع إلى هذا الحديث العجيب، وانتظاره فى لهفة، وترقب.
وفى وصف القوم بالجنود، إشارة دالة إلى أنهم ذوو بأس وقوة،(16/1518)
كبأس أبطال الحرب وقوتهم، وأنهم فى حرب مع أولياء الله، يلبسون لباس الحرب دائما.
قوله تعالى:
«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» هو إضراب عن انتفاع المشركين بهذه العبر والمثلات، التي يقصها الله سبحانه وتعالى من أخبار القرون الأولى، وما أخذ به أهل الضلال والسفه والعناد.. فالذين كفروا «فى تكذيب» أي هكذا شأنهم دائما، هم فى سلسلة لا تنقطع من التكذيب لكل ما يسمعون من آيات الله، دون أن يصغوا إلى ما يسمعونه، أو يعقلوه.. فالتكذيب بآيات الله وبرسل الله، هو الظرف الذي يحتويهم فى كل زمان ومكان..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» تهديد لهم بأن الله سبحانه وتعالى محيط بهم، وهم فى غفلة عن هذا، وهم لهذا سيؤخذون دون أن يشعروا، لأنهم غافلون عن علم الله، وعن قدرته، ذاهلون عن عقابه الراصد للمجرمين الضالين..
وقوله تعالى:
«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» هو إضراب عن هذا الإضراب.. وذلك أن المشركين، وإن لم ينتفعوا بما فى القرآن، ولا بشىء من نوره الذي يملأ الآفاق.. فهو قرآن مجيد، أي عالى القدر، رفيع الشأن لا ينال منه هذا النباح، ولا يصل إلى سمائه هذا العواء، من المشركين الضالين.. أنه فى لوح محفوظ عند الله، وفى كتاب مكنون، ولا يمسّه، ولا يصافح نوره، إلّا من طهرت أنفسهم من دنس الكفر ورجس الضلال..(16/1519)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
(86) سورة الطارق
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة البلد عدد آياتها: سبع عشرة آية..
عدد كلماتها: إحدى وستون كلمة عدد حروفها: مائتان وتسعة وثلاثون حرفا
مناسبتها لما قبلها
هى نسق متّسق مع ما سبقها، فى عرض أحداث يوم القيامة، وإرهاصاتها، تقريرا، وتوكيدا لهذا اليوم..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 17) [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)(16/1520)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ» .
القسم هنا، بشيئين، هما: السماء، والطارق! ولأن السماء معروفة، وهى هذا البناء القائم ذو السقف المرفوع فوقنا- فلهذا لم يكشف القرآن عن وجهها..
أما «الطارق» فهو مما لا يعرف على وجه التحديد، فإن لفظ «الطارق» يحتمل معانى كثيرة.. فكل ما طرق الإنسان وجاءه على غير انتظار، فهو طارق، سواء أكان شخصا أم حدثا.. وفى الحديث الشريف: «أعوذ بك من طوارق الليل والنهار إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» .. ولهذا فقد جاء القرآن بهذا السؤال عنه: «وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ» ؟ حتى ينبّه إليه، ويبعث على التطلع إلى معرفته.. ثم بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: «النَّجْمُ الثَّاقِبُ» فهذا هو الطارق.. إنه النجم الثاقب! والنجم الثاقب: قد يكون نجما واحدا، وهو النجم القطبي، الذي يثقب ظلمة الليل بضوئه المشع، كما أشرنا إلى ذلك فى سورة النجم.
وقد يكون مرادا به، جنس النجم، أي كل ما يظهر فى السماء من نجوم، تثقب بضوئها أديم السماء المعتم.
وقد يكون المراد به تلك الشهب الراصدة، التي ترجم بها الشياطين، وهى النيازك التي ترى ساقطة من السماء إلى الأرض فى الليل، ثاقبة الظلام المنعقد بين السماء والأرض..
«م 96 التفسير القرآنى ج 30»(16/1521)
وهذا، هو الأنسب، لأنه يتّسق مع قوله تعالى بعد ذلك: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» أي أنه كما للسماء حفظة يحفظونها من أن تدخل الشياطين حماها، كما يقول سبحانه وتعالى على لسان الجن: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» (8: الجن) .. وكما يقول جل شأنه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» (5: الملك) وكما يقول سبحانه: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» (6، 7: الصافات) - أي كما جعلنا للسماء حفظة يحفظونها، كذلك جعلنا على كل نفس حافظا موكّلا بها من عندنا، يسجل أعمالها، كما يقول سبحانه:
«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ» (10، 11 الانفطار) وكما يقول تعالى:
«لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» (11: الرعد) .
وقوله تعالى:
«إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» .. هو جواب القسم..
أي ما كل نفس إلّا عليها حافظ، أي حارس أمين، ضابط لكل ما تعمل من خير أو شر، أو أن كل نفس يقوم عليها من كيانها ما يحفظ عليها وجودها، وذلك بما أودع الخالق جل وعلا فيها، من قوى مادية ومعنوية، تجعل منها جميعا أسلحة عاملة، تحمى الإنسان، وتدفع عنه ما يعترض طريقه على مسيرة الحياة، وإن أظهر حافظ يحفظ الإنسان هو عقله، الذي يميز به الخير من الشر، والخبيث من الطيب، ولعلّ هذا أقرب إلى الصواب، إذ جاءت بعد هذه الآية دعوة للإنسان إلى أن يستعمل عقله، وينظر فى أصل خلقه، ومادة وجوده..
وهو قوله تعالى:
«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» أي وإذ كان مع كل إنسان حافظ، هو عقله، فلينظر بهذا العقل الحافظ، إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، فى ذاته هو، وإلى قدرة الله سبحانه(16/1522)
فى إبداع هذه الذات وتصويرها.. فإنه لو نظر بهذا العقل إلى هذا الذي يوجّه إليه من حقائق، لعرف طريق الحق، وسلك مسالك الهدى.
فمن أين خلق هذا الإنسان، ذو العقل والبصر؟ خلق من ماء دافق، أي ماء سائل، جار، لا كون له، ولا تماسك بين أجزائه..
وقوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» - إشارة إلى مورد هذا الماء الدافق، وأنه ماء مخرجه من بين الصلب والترائب..
والصلب، فقار الظهر، والمراد به صلب الرجل، أي ظهره.
والترائب: جمع تريبة، وهى موضع القلادة من الصدر.. والمراد بالتربية هنا تريبة المرأة..
فالماء الذي يخلق منه الإنسان، هو ماء الرجل والمرأة معا، حين يلتقيان فى رحم المرأة..
وفى وصف الماء بالتدفق، إشارة إلى أنه ماء قد خرج خروجا طبيعيا، بعد أن استوى ونضج فى صلب الرجل، وتربية المرأة، وأنه ليس ماء انتزع انتزاعا من موضعه قبل أن ينضج ويستوى..
قوله تعالى:
«إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» .
أي أن الله سبحانه الذي خلق هذا الإنسان من هذا الماء الدافق، قادر على أن يرجعه إلى الحياة بعد الموت، ويخلقه خلقا آخر، كما خلقه أول مرة.. فهذا الماء لا يختلف- فى تقدير الإنسان- عن هذا التراب الذي الذي يبعث منه الإنسان بعد موته.. كلاهما شىء بعيد عن صورة الإنسان.. فما أبعد ما بين الإنسان، وبين الماء، أو التراب!(16/1523)
وقوله تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» إشارة إلى الوقت الذي يبعث فيه هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، فذلك هو يوم «تبلى السرائر» أي يوم يخرج كل ما انطوى فى سريرة الإنسان، وكل ما احتفظ به فى صدره من أسرار، فلا يبقى سر إلا ظهر على الملأ، يوم الحساب والجزاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» (9- 11: العاديات) .
قوله تعالى:
«فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ» .
أي فى هذا اليوم، يوم يكشف عما فى الصدور، ويوضع موضع الفحص والاختبار، ليتبين الخبيث من الطيب- فى هذا اليوم لا يكون للإنسان قوة من ذات نفسه، يدفع بها السوء عنه، كما أنه لا يجد ناصرا ينصره ويعينه..
فكل إنسان مشغول بما هو فيه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .
(37: عبس) وقوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» .
هو قسم بالسماء ذات الرجع، أي ذات المطر الذي ينزل من السحاب، وسمى المطر رجعا، لأنه خرج من الأرض، وإليها يرجع.. وقسم آخر بالأرض ذات الصدع، أي التي تتشقق ليخرج منها النبات، الذي يتخلق فى رحمها من هذا الماء المصبوب فيها..
فالسماء التي ينزل منها الماء، إنما تعيد هذا الماء إلى الأرض الذي خرج منها إلى السماء، والأرض التي تتصدع عن النبات تعيد هذا النبات الذي نقذ إليها من ظهرها- تعيد إلى ظهرها مرة أخرى. وفى هذا، وذاك، دليل على تلك الدورة(16/1524)
التي يدور فيها الإنسان، فينقل من ظهر الأرض إلى بطنها، ثم يعود من بطنها إلى ظهرها..
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» .
هو المقسم عليه بالقسمين السابقين، وهو أن هذا القول الذي تنطق به آيات الله، هو قول حقّ، واقع لا شك فيه، وليس هو بالهزل الذي لا تقصد به دلالاته ومعانيه..
وقوله تعالى:
«إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» - وهو فى موقع جواب عن سؤال هو: ماذا كان موقف المشركين من هذا القول الفصل؟
فكان الجواب: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً» أي يمكرون مكرا، ويستقبلون هذا القول بالمماحكة والجدل، وينصبون الشراك له، ويقيمون المعاثر فى طريقه، ليصدّوا الناس عنه.. إنهم فى حرب معه، يكيدون له بكل يقدرون عليه، مجتمعين، أو فرادى..
وقوله تعالى:
«وَأَكِيدُ كَيْداً» .
هو ردّ على كيد هؤلاء الكائدين، لإبطال كيدهم ولقتلهم بالسلاح الذي يحاربون به كلام الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .. فهم إذا كادوا للقرآن، ودبروا أمرهم بليل، فإن الله سبحانه وتعالى كيدا، حيث يأخذهم العذاب، وهم لا يشعرون.(16/1525)
قوله تعالى:
«فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» هو تهديد للمشركين بما ينتظرهم من وراء كيدهم هذا.. وإنه ليس إلا أيام قليلة يقضونها فى دنياهم، حتى يلقاهم اليوم الذي يوعدون، وحيث يأخذهم عذاب الله، وليس لهم من دون الله من ولى ولا نصير..
وفى هذا عزاء للنبى الكريم، وتثبيت لقدمه على طريق دعوته، التي تقوم على طريقها هذه الذئاب المتربصة بها.. إنه فى حراسة الله، فليمض فى طريقه وليدع لله سبحانه ردّ هذا الكيد الذي يكادله.
(87) سورة الأعلى
نزولها مكية.. نزلت بعد سورة المدثر.
عدد آياتها: تسع عشرة آية..
عدد كلماتها: ثمان وسبعون آية..
عدد حروفها: مائتان وواحد وسبعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الطارق» - قبل هذه السورة بقوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» وفى هذا- كما عرفنا- تهديد للمشركين، وتطمين لقلب النبي، وحماية له من هذا الكيد الذي يكاد له، فناسب أن تجىء بعد ذلك سورة «الأعلى» مبتدئة بقوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» ، ففى هذا الاستفتاح دعوة إلى تمجيد الله وتعظيمه، والتسبيح بحمده، على أن أخذ الظالمين بظلمهم، وأبطل كيدهم..(16/1526)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 19) [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» «اسم ربك» أي الاسم الذي يدل على ذات الله سبحانه وتعالى، ولله سبحانه وتعالى أسماء كثيرة، ذكرها فى القرآن الكريم، كما ذكرها النبي الكريم، فى حديث رواه البخاري، وهو قوله صلوات الله وسلامه عليه «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا..»(16/1527)
وأسماء الله تعالى، هى صفاته الموصوف بها، وهى وإن كانت مما قد نصف به ذواتنا، من العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، وغيرها، إلا أن لله سبحانه كمال هذه الصفات، كمالا مطلقا، على حين أن ما نتداوله نحن من هذه الصفات هو فى حدود وجودنا المحدود، فيقال فلان حفيظ، وعليم، وقادر، وكريم، وهو فى هذه الصفات كائن بشرى محدود، واتصافه بها إنما هو بالإضافة إلى غيره، ممن هو أقل منه حفظا، أو علما، أو قدرة، أو كرما..
فالتسبيح باسم الله، هو ذكره سبحانه بكل ما له من الأسماء الحسنى، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (180: الأعراف) والمراد بالتسبيح باسم الله، هو التسبيح لذاته سبحانه وتعالى.. ولكن الذات العلية لا يمكن تصورها، وإنما الذي يمكن تصوره- مهما بالغنا فى هذا التصور- هو ما تتصف به الذات من صفات الكمال التي تتجلى فى أسمائه الحسنى.
وقوله تعالى «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» هو مما نذكره من صفات الله سبحانه وتعالى، حين نذكر اسمه الكريم: «الخالق» .. فإذا ذكرنا اسم الله هذا، ذكرنا منه أن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق، لا يشاركه أحد فيما خلق فى السماء أو فى الأرض.. وهو سبحانه الذي سوّى ما خلق، فأقام كل مخلوق على أتم صورة له وأكملها، كما أقام من هذه المخلوقات جميعها صورة مسوّاة محكمة للوجود كله «ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت» (3: الملك) وقوله تعالى:
«وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى»(16/1528)
أي وهو سبحانه الذي قدّر لكل مخلوق ما هو مناسب له، ملائم لوجوده، محتفظ له بمكانه بين المخلوقات.. «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) فكل مخلوق، من إنسان، أو حيوان، أو نبات، أو جماد- ميسر لما خلق له.. كما فى الحديث الشريف: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» قوله تعالى:
«وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» ومن آثار الخالق سبحانه وتعالى، أنه أخرج من الأرض ما يأكل منه الناس والأنعام.. فكل ما على الأرض من نبات، هو مرعّى للناس، وللحيوان، وأنه إذا كان الإنسان بعقله قد أدخل الصنعة على هذا المرعى، فاتخذ من الحبّ خبزا، ومن الفاكهة شرابا- فإن ذلك لا يخرج بهذا النبات عن أن يكون مرعى لنا وللأنعام، يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» (30- 33 النازعات) فالناس والأنعام سواء أمام هذه المائدة الممدودة من فضل الله.
وقوله تعالى: «فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» - إشارة إلى أن هذا المرعى الأخضر، لا يثبت على حال واحدة، بل إنه يتنقل من حال إلى حال، فيتحول من الحياة والخضرة، إلى الجفاف، والموات، فيكون «غثاء» أي هشيما «أحوى» أي أسمر اللون، بعد أن يلوّحه الجفاف، ويذهب منه ماء الحياة الذي كان يسرى فى كيانه.. وهذا من إبداع القدرة، التي تبدي وتعيد.
قوله تعالى:
«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» .
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم فى أول السورة أن يسبح باسمه، وأن يذكره، وذلك بتلاوة آيات(16/1529)
الله التي يتلقاها وحيا من ربه، فإن خير ذكر لله، هو بتلاوة آياته سبحانه وتعالى، ولهذا كان أول ما تلقاه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من ربه، هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فهو مثل قوله تعالى:
«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» .
ولما كانت هذه السورة- سورة الأعلى- من أوائل ما نزل من القرآن، فقد كان النبي الكريم يحرص أشد الحرص على أن يحفظ حفظا موثّقا كلّ ما يتلقى من وحي.. فلما حمى الوحى وبدأت آيات الله تنزيل عليه تباعا، خشى أن يثقل على حافظته حفظ ما يوحى إليه، ولهذا كان يسمع الآية من جبريل عليه السلام فيعيد تكرارها على لسانه حتى يثبت حفظها فى قلبه، فنزل عليه قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
(16- 19: القيامة) .. ثم جاء قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» .. وذلك ليقطع على النبىّ كل خاطر يخطر له من أن شيئا مما نزل عليه من آيات الله، يكون فى معرض النسيان يوما ما..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» - إشارة إلى أن هذا الحكم المطلق المؤيد بعدم النسيان، هو رهن بمشيئة الله، وأن مشيئة الله مطلقة لا يقيدها شىء..
فلو شاء سبحانه أن يذهب بما حفظ النبىّ من آيات الله لذهب به، ولكنه، سبحانه لم يشأ، فهى مشيئة مقيدة بمشيئة، وكلا المشيئتين من الله، وإلى الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ»(16/1530)
(86: الإسراء) ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ هذه المشيئة! وبذلك يظل النبىّ مع هذا الوعد الكريم من ربه، على ثقة واطمئنان، بأن ما يتلقى من آيات ربه، سيكون محفوظا فى صدره، ثم هو فى الوقت نفسه لا يخلى نفسه من معاناة الحفظ، والتلاوة، ومراجعة ما حفظ، وذلك ليعطى وجوده حقه من الطلب والمعاناة، وإلا- وحاشاه- كان أشبه بآلة مسجلة، تملأ، ثم تدار، لتفرغ ما ملئت به..
ولهذا كان من بعض حكمة الله سبحانه فى نزول القرآن منجما، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» وذلك بمعايشة كلمات الله، وقتا كافيا، تقرّ فيه فى صدر النبىّ، وتثبت بالحفظ، والمراجعة والمعاناة..
والدليل على ما ذهبنا إليه، ما ثبت من تاريخ القرآن، من أن النبىّ عليه الصلاة والسلام، كان يعرض على جبريل كلّ عام ما نزل عليه من القرآن، فلما كانت السنة التي توفى فيها النبىّ، عرض على جبريل القرآن كله، مرتين، وقيل ثلاث مرات، وذلك لتأكيد ما حفظ النبىّ وتوثيقه..
وهذا يعنى أن سنن الله الكونية- وهى من مشيئته وحكمته- قائمة أبدا، وأن الأخذ بالأسباب مطلوب فى كل حال، ومع كل مخلوق، حسب وجوده فى عالمه..
وقوله تعالى: «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» هو تأكيد لهذا الوعد مع الاستثناء، وأن الله سبحانه، الذي وعد النبىّ بألا ينسى ما يحفظ، هو عالم الجهر والسر، وهو سبحانه الذي يملك خطرات النفوس، وخلجات الصدور، فيتصرف فيها كيف يشاء..
وقوله تعالى:
«وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى» ..(16/1531)
أي والله سبحانه وتعالى لا يشقّ عليك أيها النبىّ، ولا يكلفك ما لا تطيق، فهو ميسر لك أمرك جميعه، ومن أولى دلائل اليسر أنه أعانك على حفظ القرآن وتثبيته فى صدرك، فلا يذهب شىء منه.. ومن تيسيره عليك أنه جعل الشريعة التي أنت داع إليها وقائم بها شريعة يسر وسماحة، لا حرج فيها، ولا إعنات، كما يقول سبحانه: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» .. (78: الحج) قوله تعالى:
«فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» ..
أي وبهذه الشريعة السمحاء ادع الناس إليها، وذكّر بها، ووجه القلوب والعقول إلى الله بها..
وقوله تعالى: «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» - إشارة إلى أن يذكّر النبىّ ما وجد للذكرى نفعا، والذكرى لا تخلو من نفع أبدا، فإنها إذا لم تجد فى الناس من يستجيب لها، وينتفع بها، فإنها واجدة فيهم أيضا من يستجيب وينتفع، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (55: الذاريات) .
وهذا يعنى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لا يتخلّى عن مهمة التذكير أبدا..
فقيد الأمر بالتذكير، بنفع الذكرى قيد لازم، ومن لزوم هذا القيد أن يكون النبىّ مذكّرا بدعوته دائما، لأن مع كل ذكرى نفعا، وما دام النفع معها، فهى مطلوبة من النبىّ أبدا، وهو مذكر أبدا..
وقد اضطرب المفسرون فى تأويل هذه الآية، وفى تأويل القيد الوارد عليها فى هذا الشرط: «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» ، وبدا لهم من ذلك أن النبىّ لا يذكّر إلا فى حال يكون فيها للذكرى نفع، فإن لم يكن فيها نفع، فلا تذكير!! والنبىّ مطلوب منه أن يذكّر دائما نفعت الذكرى أو لم تنفع.. فكيف يتفق(16/1532)
هذا الدوام، مع هذا القيد، وهو التذكير فى حال النفع وحده؟
وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى فى حل هذا الإشكال، وخرجوه على وجوه قلّبت فيها مذاهب النحو، واللغة، على جميع وجوهها، دون أن يحصلوا من ذلك على طائل، نستريح له ونطمئن إليه..
وقد رأيت كيف كانت نظرتنا إلى الآية.. فلعلك تجد فيها ما تطمئن إليه وتستريح له..
قوله تعالى:
«سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى» ..
هو إشارة إلى أن الذكرى على أية حال نافعة، وأنه سيذكر بها من يخشى الله سبحانه وتعالى.. وأنه لن تخلو الإنسانية ممن يخشى الله ويتقيه، ويفتح قلبه للهدى المرسل فى آياته..
قوله تعالى:
«وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» ..
وهذا هو الوجه الآخر من الذكرى، وهو الوجه الذي لا يكون فيه منها نفع للأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم، فحرموا التهدى إلى الهدى..
ووصف النار بأنها الكبرى- إشارة إلى أنها ليست كنار الدنيا مع شدة ضرامها، وقسوة حرارتها، وإنما هى نار تأكل نار الدنيا، فى شدة ضرامها، وقسوة حرارتها.
وقوله تعالى: «ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» - إشارة إلى أن الأشقياء الذين(16/1533)
يلقون فى هذه النار، سيخلدون فيها، وهو خلود فى عذاب شديد- وقانا الله شره- وأن الحياة فى هذا العذاب ليست حياة يجد فيها الحي طعما للحياة، وليست موتا يستريح فيه من هذه الحياة.. فلا هو فى الأحياء، ولا فى الأموات، إنه فى حياة متلبسة بالموت، وفى موت ملبس بالحياة: «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» وهذا أقسى ألوان الحياة وأشدها..
قوله تعالى:
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» ..
الذين لا تنفعهم الذكرى، هم الأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم فلم تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.. فكان مصيرهم النار، لا يموتون فيها ولا يحيون.. ذلك، على حين قد أفلح من تزكى، أي تطهر من أوضار الكفر والضلال، فآمن بالله، وذكر اسم ربه، وأقام الصلاة.
وقوله تعالى: «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» - إشارة إلى أن الصلاة مرتبة على ذكر الله، فمن لم يذكر الله سبحانه، ويستحضر جلاله وعظمته فيما يذكر من أسمائه وصفاته- لا يخشع قلبه لله، ولا يصلّى له..
وفى ذكر الصلاة على أنها الأثر المترتب على ذكر الله- إشارة إلى أن الصلاة، بما فيها من ولاء، وخشوع، وركوع، وسجود، هى أكمل الوسائل وأعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، ومن هنا كانت رأس العبادات..
وملاك الطاعات.. وهى شريعة كل نبى، ودعوة كل رسول إلى قومه، بعد الإيمان بالله.. فيقول سبحانه عن إسماعيل: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» (55: مريم) ويقول سبحانه على لسان عيسى:
«وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (31: مريم) .
وفى ذكر الله سبحانه وتعالى بالربوبية من بين أسمائه الكريمة كلها-(16/1534)
إشارة إلى أن الذي يذكر الإنسان اسمه، هو مرييه، ومنشئه، والمنعم عليه بالإيجاد، والخلق على هذه الصورة السوية.
قوله تعالى:
«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» .
هو إضراب عن هذا الخبر: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» - حيث لم يستجب له معظم الناس، ولم يدخل فيه أكثرهم، إذ قد آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وشغلوا بها عن ذكر الله، وإقامة الصلاة على تمامها وكمالها، فى إخلاص، وخشوع، وإخلاء القلب لها من هموم الحياة وشواغلها..
فإن الصلاة إذا لم تستوف أركانها، ولم يدخل فيها المصلى بعد ذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته- كانت مجرد حركات، يخشع لها قلب، ولا تنتعش بها روح!! إنها إن لم تكن نفاقا مع الناس، كانت نفاقا مع الإنسان ونفسه واختيانا من الإنسان للأمانة التي اؤتمن عليها، ليؤديها إلى روحه، وقلبه، غذاء وضياء! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى وصف المنافقين: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»
(142:
النساء) .
وهؤلاء الذين قصروا فى ذكر الله، وفى الصلاة القائمة على ذكر الله، قد بخسوا أنفسهم، لأنهم آثروا الفانية على الباقية، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» .
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» .
الإشارة هنا إلى ما تحدثت به الآيات السابقة، من أن من آثر الحياة(16/1535)
الدنيا، واستغواه غيّها وضلالها، فإن النار مأواه، وأن من ذكر اسم ربه فصلى، فإنه من أهل الفوز والفلاح- فهذا الذي تحدثت به الآيات هو من الحقائق الكبرى الخالدة، التي حملتها كتب الأنبياء السابقين، ومنهم إبراهيم وموسى..
وفى اختيار إبراهيم وموسى من بين الأنبياء والرسل، إشارة إلى أن إبراهيم هو أبو الأنبياء، وشريعته من الشرائع الأولى، وعلى امتدادها جاءت شريعة موسى، ثم شريعة الإسلام..
(88) سورة الغاشية
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الذاريات..
عدد آياتها: ست وعشرون آية.
عدد كلماتها: اثنتان وتسعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الأعلى» بالحديث عن الآخرة، وعن أنها الحياة الخالدة الباقية، التي تستحق أن يعمل الإنسان لها، ويؤثرها على الدنيا، إيثار الحقّ على الباطل، والعظيم على الحقير، والباقي على الفاني.. ولكن حب الدنيا قد غلب على أكثر الناس، فصرفوا همهم كله إلى الدنيا، ولم يعطوا الحياة الآخرة شيئا من وجودهم، فجاءوا إلى يوم القيامة، مفلسين معدمين، ليس فى أيديهم زاد لها، بل كل ما يحملون هو أوزار وآثام، وضلالات.. فكان الحديث(16/1536)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
عن الغاشية، وهى القيامة، وعن أهوالها، تذكيرا للناس بها، وتنبيها لهم إلى ما يلقى المجرمون فيها من عذاب ونكال..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 16) [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟» سؤال، يراد به تشويق المسئول إلى المسئول عنه، وإثارة الرغبة عنده فى التطلع إليه، والبحث عن جواب له.
وما يكاد المسئول يبحث فى خاطره عن جواب هذا السؤال، حتى يرد عليه الجواب من خارج، فيلتقى مع ما تردد فى خاطره من أجوبة عليه.. فإذا كان «م 97 التفسير القرآنى ج 30»(16/1537)
ما وقع فى خاطره صحيحا، التقى مع هذا الجواب الوارد عليه التقاء متمكنا، وعانقه عناق الغائب المنتظر، وإلا أخذ الجواب الصحيح، وأقامه مقام مالم يصح من خواطره، وتصوراته..
والغاشية: ما يغشى الناس فى هذا اليوم، من أهوال، وما يطلع عليهم فيه من شدائد.. وأصله من الغشي، وهو السطو والهجوم..
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» .
هذا هو مطلع حديث الغاشية، وهذا هو الجواب على السؤال عنها.. إن ما تحدّث به الغاشية عن نفسها ليس كلاما، وإنما هو أفعال وأحداث.. ومن أحداثها، تلك الوجوه الخاشعة.. وخشوعها هو خشوع ذلة، وضراعة، ومهانة، وليس خشوع تقوى وتوقير وإجلال.. فللذل خشوع انكسار، وامتهان، تموت معه العواطف، والمشاعر، كما يقول تعالى فى أصحاب النار:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» .
وفى قوله تعالى: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» - إشارة إلى هذا الرهق الذي غشى تلك الوجوه الخاشعة، لأن أصحابها فى نصب دائم، وعمل مضن لا ينقطع، من موقفهم موقف المساءلة، والحساب، وعرض مخازيهم عليهم، إلى وضع الأغلال فى أعناقهم، إلى سحبهم على وجوههم فى جهنم، إلى صرخات الويل والثبور التي تملأ الآفاق من حولهم، فكل هذا وكثير غيره من الأهوال، تنطبع على وجوههم آثاره، قتاما وعبوسا، ورهقا..
وقوله تعالى:
«تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» .
هو صفة لهذه الوجوه، وما يرد عليها من مساءات.. إنها «تَصْلى ناراً(16/1538)
حامِيَةً»
أي تعذب بنار حامية.. وفى وصف النار بأنها حامية، إشارة إلى أنها نار ذات صفة خاصة، على خلاف المعهود من نار الدنيا.. فكل نار، حامية، وهذا الوصف الوارد على النار، يعطى وصفا جديدا لها.
وهذه الوجوه أيضا، تسقى من ماء حار، يغلى فى البطون كغلى الحميم.
وإسناد هذه الأفعال إلى الوجوه، لأن الوجوه، هى عنوان الذات الإنسانية، وهى وحدها التي تحدّث عن ذات الإنسان، وتدل عليه.. فالناس يتشابهون أجسادا، ولكن الذي يفرق بين إنسان وإنسان هو الوجه الذي يجعل لكل إنسان صورته التي يعرف بها بين الناس.. إن الوجه هو الذات الإنسانية بكل مشخصاتها ومقوماتها، ولهذا كان له هذا الشأن فى موقف الحساب والجزاء، وما يلقى الإنسان هناك من نعيم أو عذاب، إن كل صور العذاب والآلام تنطبع عليه..
قوله تعالى:
َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»
..
عدل هنا عن الحديث إلى الوجوه، واتّجه به إلى أصحابها، لأن الطعام لا يساق إلى الوجوه وإنما يساق إلى البطون، ثم تنطبع آثاره على الوجوه..
وفى هذا ما يعطى كل جزء من أجزاء الجسد نصيبه من هذا العذاب. فالعذاب الذي يقع على جزء من الجسد، يشيع فى الجسد كله، فإذا كان كل جزء من الجسد واقعا تحت لون من ألوان العذاب يتناسب مع طبيعته، كان ذلك أنكى وآلم، حيث يتحول الإنسان تحت وطأة هذا العذاب إلى طاقات كثيرة متعددة، يصبّ فيها العذاب الذي يحتوى كل ذرة فيها، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (69: الفرقات) .(16/1539)
والضريع، كما يدل عليه لفظه، طعام غثّ ردىء، لا تتولد عنه إلا الضراعة، والذلة، والمهانة..
وقد اختلف المفسّرون فى معنى «الضريع» والفصيلة الذي ينتمى إليه من فصائل النبات.. وقال كل ذى رأى برأيه فيه، وتكاف له التأويل والتخريج..
والرأى- والله أعلم- أنه من طعام أهل النار، لا يعرف له شبيه فى الحياة الدنيا، ولهذا وصفه الله سبحانه بأنه «لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» أي أنه لا تتقبله الأجسام، ولا تتفاعل معه، كما أنه لا يشبع جوع الجياع..
ولو كان معروفا عند العرب، لما وصف هذا الوصف الكاشف!.
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» ..
وهذا من حديث الغاشية أيضا..
فإذا كان من معارض يومها، وجوه خاشعة، عاملة، ناصبة- فإن من معارضها، كذلك، وجوه ناعمة، لسعيها راضية، فى جنة عالية..
والوجوه الناعمة، هى التي ترى عليها نضرة النعيم، وبشاشة الرضوان، فترقرق على صفحتها وضاءة البشاشة، ويجرى فى أديمها رونق البهاء، والصفا..
ولم تعطف هذه الوجوه على ما قبلها، مع أنها من حديث الغاشية، ليكون ذلك عزلا لها عن تلك الوجوه المنكرة، العاملة، الناصبة، التي تصلى نارا حامية..
فهذه وجوه، وتلك وجوه، ولا جامعة بينهما، إذ فريق فى الجنة وفريق فى السعير..
وقوله تعالى: «لسيعها راضية» .. أي راضية لأجل سعيها الذي قدمته بين يديها.. فاللام هنا للتعليل..(16/1540)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
وقوله تعالى: «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» حال من ضمير الوجوه فى قوله تعالى:
«راضية» .. والجنة العالية: أي عالية القدر، عظيمة الشأن..
وقوله تعالى: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» صفة لهذه الجنة العالية، التي علا مقامها وارتفع قدرها عن أن يطوف بها طائف من الهذر أو اللغو..
واللاغية: الكلمة التي لا يعتد بها، لإسفافها وسقوطها..
وقوله تعالى: «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» .. وحيث كان الماء كانت الحياة، وكان الخصب، والخير، وكانت البهجة والمسرة..
قوله تعالى:
«فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ» ..
هو عرض لما فى هذه الجنة العالية من ألوان النعيم.. ففيها سرر مرفوعة، أي عالية القدر، وأكواب موضوعة، أي معدة للشاربين، وفيها «نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ» أي وسائد، قد صفّ بعضها إلى جانب بعض، ليتكىء عليها الجالسون على هذا النعيم.. واحدتها نمرقة.. وفى هذه الجنة «زرابى مبثوثة» أي بسط متناثرة على أرض هذه الجنة، كأنها النجوم..
الآيات: (17- 26) [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)(16/1541)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» ..
هو إلفات لهؤلاء المشركين المكذبين بالغاشية، إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، تلك القدرة القادرة على أن تعيدهم إلى الحياة بعد الموت، وأن تردّهم إلى الله سبحانه، للحساب والجزاء..
وفى إلفاتهم إلى الإبل، وإلى ضخامتها، وقوتها، وما أودع الخالق فيها من قوى قادرة على حمل الأثقال، والمشي فى الرمال، وإلى الصبر على الجوع والعطش- كل هذا يكشف عن صانع عظيم، عليم، حكيم، خلق فسوى، وقدر فهدى..
ولأن أول ما يلفت النظر إلى الإبل، هو قاماتها العالية، ورقابها المرفوعة، فقد ناسب ذلك أن يلفتوا إلى السماء، وإلى هذا العلو الشاهق الذي لا حدود له..
«وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» .. كذلك ناسب أيضا أن يلفتوا إلى الجبال، وقد مدت رقابها فوق الأرض كأنها رقاب الإبل، أو أسنمتها.. «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» .. ثم إن الشأن ليس فى رفع الشيء وعلوه، فما رفع الشيء إلا لحكمة، كما أنه ما خفض شىء إلا لحكمة.. فهذه الأرض المبسوطة الممدودة، لو كانت كلها أسنمة كأسنمة الإبل، أو رقابا كرقابها، لما أمكن الانتفاع بها، والسير فيها.. فهى مع ارتفاع بعض أجزائها، قد انبسط(16/1542)
بعض أجزائها الأخرى، لتكون مهادا للناس، وبساطا ممدودا.. وبهذا تذلّل لهم وتستجيب لحركتهم عليها.. «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (15: الملك) .
وقوله تعالى:
«فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» .
هو دعوة إلى النبي الكريم أن يعرض هذه الآيات التي تحدثت عن قدرة الله سبحانه، وعن حكمته، ليكون فيها تذكرة لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر..
فوظيفة النبىّ، هى التذكير بالله، وإلفات العقول والقلوب إلى قدرته، وعلمه، وحكمته، وإلى ماله سبحانه من نعم سابغة على عباده..
وقوله تعالى: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» أي لست أيها النبي بمتسلط على الناس، تقهرهم بسلطان قوى، وبقوة قاهرة، على أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لما تدعوهم إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» (45: ق) .
وفى هذا إطلاق للإنسان، وتحرير لذاته وشخصيته من أي سلطان، إلا سلطان عقله وضميره، وفى هذا تكريم للإنسان، واعتراف بمكانه فى الوجود، وأنه لا وصاية عليه من أحد حتى الأنبياء والرسل.. إنهم ليسوا أوصياء عليه، وإنما هم هداة يرفعون لعينيه مشاعل الهدى فى طريق حياته، فإن شاء سار فى الطريق الذي يكشف عنه هذا النور، وإن شاء أخذ الطريق الذي اختاره له عقله، وارتضاه ضميره.. ولو كان كفرا وضلالا، فتلك مشيئته التي شاءها لنفسه!.
قوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» ..(16/1543)
إلا هنا استثناء من عموم الأحوال التي تدخل فى السيطرة الواقع عليها النفي.. أي لست مسيطرا على الناس إلا فى حال واحدة، وهى حال من تولى وكفر، فإنه فى هذه الحال واقع تحت سلطان العذاب الذي أنذرته به.. وهذا العذاب فى يد الله، يعذب به هؤلاء الذين تولوا وكفروا.. فالسلطان الواقع على الإنسان هنا، هو سلطان الله سبحانه، وليس الرسول إلا منذرا بهذا السلطان، محذرا منه..
والعذاب الأكبر، هو عذاب يوم القيامة.. ووصف العذاب بهذه الصفة التي تحصر غاية العذاب وصوره كلها فيه- لأن كل ما عرفه الناس فى الدنيا من عذاب، هو عذاب دون هذا العذاب قدرا وأثرا.. فهو العذاب الأكبر كبرا مطلقا، لا حدود له.
وقوله تعالى:
«إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» ..
أي أن هؤلاء الذين تولوا وكفروا، ولا يفلتون من هذا الذي أنذروا به- إنهم سيعودون إلى الله، وسيحاسبون على ما اجترحوا من آثام.. وليس وراء هذا الحساب إلا العذاب الأليم.. العذاب الأكبر! وأنهم إذا كانوا قد خرجوا من سلطان النبىّ، فإنهم لن يخرجوا من سلطان الله الذي يلقاهم بهذا العذاب..
والإياب الرجوع إلى المكان الذي خرج منه الإنسان.. كالمسافر يئوب من سفره.. وفى هذا إشارة إلى أن البعث هو عودة إلى الحياة التي فارقها الإنسان فى رحلته التي بدأت بالموت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى..»
(8: العلق) .(16/1544)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
(89) سورة الفجر
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الليل عدد آياتها: ثلاثون آية..
عدد كلماتها: مائة وسبع وعشرون كلمة..
عدد حروفها: خمسمائة وتسعة وتسعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة، هى امتداد لعرض آيات من قدرة الله سبحانه وتعالى، وما أخذ به المكذبين بالحياة الآخرة، الذين لم يؤمنوا بالله، ولم يصدقوا بما جاءهم على يد رسل الله من آيات مبصرة..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 14) [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)(16/1545)
التفسير:
[الليالى العشر.. ما تأويلها] قوله تعالى:
«وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» ؟
هذه خمسة أقسام، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، مفتتحا بها هذه السورة الكريمة..
وهى: الفجر، والليالى العشر، والشفع، والوتر، والليل..
والفجر، معروف فى اللغة، ودلالته محددة لا اختلاف عليها.. وهو أول مطلع النهار، فى جلد الليل الأسود..
أما الشفع، فهو الزوج من كل شىء.. فالاثنان فى العدد شفع، والاثنان من الناس، أو الأنعام، أو الشجر، شفع.. وذلك على خلاف الوتر، الذي يدل على واحد فرد، لم يشفع بواحد آخر من جنسه..
ولكن ما دلالة: «ليال عشر» .. إنها إذا أخذت على إطلاقها، صحّ أن يقال إنها أي ليال عشر مقتطعة من ليالى الزمن على امتداده، فهى إذن ليست ليال على صفة خاصة، ولهذا جاءت منكّرة، ومع هذا فقد كثرت فيها أقوال المفسرين، فقيل هى الليالى العشر الأولى من ذى الحجة، وقيل هى العشر الأواخر من رمضان، التي بدىء بنزول القرآن فيها، والتي فيها ليلة القدر، وقيل هى عشر ليالى موسى التي كانت من الليالى الأربعين التي واعده الله سبحانه(16/1546)
وتعالى فيها، كما يقول تبارك اسمه: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» (142: الأعراف) ..
وقيل، وقيل كثير غير هذا..
وكذلك كانت المقولات فى الشفع، والوتر.. فقيل إن الشفع صلاة الصبح، والوتر صلاة المغرب، وقيل إن الشفع هو الخلق، وما فيه من تزاوج بين المخلوقات، كالذكر والأنثى، والليل والنهار، والأرض، والسماء، والخير والشر.. ونحوها.. والوتر، هو الخالق سبحانه وتعالى، لأنه جل شأنه الواحد، المتفرد بالوحدانية..
ولم يخل من هذا الاختلاف إلا «الليل» فهو الذي أجراه المفسرون على إطلاقه.. حتى «الفجر» الذي قلنا إن دلالته محدودة فى اللغة، لم يسلم من هذا الخلاف، فالذين قالوا إن الليالى العشر، هى العشر الأواخر من ذى الحجة- قالوا إن الفجر هو فجر الليلة العاشرة التي تمّ فيها مناسك الحج، وتنحر مع فجرها الأضحيات.
وتقطيع الوحدة الزمنية مع هذه الأوقات التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، يجعل الجمع بينها خلوا من المناسبة التي تجمع بينها، وتؤلف منها كيانا متسقا متلاحما، الأمر الذي لا يفوت النظم القرآنى، فى أىّ موضع يجتمع فيه شىء إلى شىء، سواء أكان هذا الجمع على سبيل التوافق أو التضاد.
ولعل خير موقف نأخذه عند النظر فى هذه الأقسام، للخروج من هذا التضارب فى دلالاتها، هو أن نقف بها عند مدلولها اللفظي، مطلقا من كل قيد.
فالفجر، هو الفجر.. أي فجر يكون!(16/1547)
والليالي العشر: هى ليال عشر، من أي ليالى الزمن كله على امتداده.
والشفع والوتر، هو العدد الزوجى، أو الفردى، من الليالى.
والليل، هو أي ليل يقابل النهار، من أي يوم من أيام الزمن.
وفى هذا نجد أن المقسم به هنا هو الزمن، فى وحدات زمنية منه، هى:
الفجر، والليل، وعشر ليال من هذا الليل.
أما الشفع والوتر، وإن لم يكن من المتعيّن أن المعدود بهما قطع من الزمن، فإن السياق الذي جاءا فيه، يقضى بأن يكون المعدود- زوجا أو فردا- قطعا من الزمن، وأقرب هذه القطع أن تكون من الليالى، شفعا أو وترا..
إذ سبقهما قوله تعالى: «وليال عشر» وهى عدد شفع، وتلاهما قوله تعالى:
«وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» وهو عدد وتر! ويكون القسم بالليالي العشر جملة، ثم القسم بها ليلتين ليلتين، وليلة ليلة.
فإذا ذهبنا- وهذا من التكلف الذي لا بأس به- إذا ذهبنا نلتمس الحكمة فى القسم بهذه القطع من الزمن، دون غيرها: فإنا نقول- والله أعلم- إن القسم بالفجر إشارة إلى تفجر النور من أحشاء هذا الظلام الموحش، الذي يطبق على الوجود ويلفه فى رداء ثقيل، أشبه بالأكفان التي يلف فيها الموتى..
إنه إشارة إلى بعث جديد للحياة، ودعوة مجددة للأحياء أن يكتحلوا بهذا النور، وأن يأخذوا مواقفهم فيه على طريق العمل.
والليالى العشر، هى الليالى العشر الأولى من أول كل شهر قمرى، وهى الليالى العشر فى وسطه، ثم هى الليالى الأخيرة منه، فهى عشر فى أول الشهر القمري، وعشر فى وسطه، وعشر فى آخره.
ويكاد يكون سلطان القمر فى العشر الليالى الأولى من الشهر، وفى العشر(16/1548)
الأواخر منه- يكاد يكون سلطانه على حدّ سواء فيهما، من حيث غلبة الظلام عليه.. أما عشر الليالى المتوسطة بين العشر الأولى والأخيرة، فهى التي يكون سلطان القمر فيها غالبا على ظلام الليل.
وعلى هذا يكون الشفع، هو العشر الليالى الأولى، والعشر الأخيرة من كل شهر قمرى. باعتبارهما وحدتين زمنيتين متماثلتين.
وأما الوتر، فهو العشر الليالى المتوسطة من الشهر، باعتبارها وحدة زمنية واحدة! ومن هذا يكون القسم بالليالي العشر، واقعا على الليالى كلها، فى امتداد الزمن، ولكن مع دعوة إلى مراقبة الزمن، وملاحظة التغيرات التي تجرى على الليل.. ليلة ليلة.. فالليل يلبس فى كل ليلة ثوبا جديدا مع القمر على مدى ثلاثين ليلة.. ثم يعود فيبدأ دورته من جديد معه، من هلال إلى بدر، إلى محاق..
وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» - هو إطلاق لليل من هذا القيد الذي شدّه إلى القمر ودورته معه.. فهو ليل مطلق، يسرى فى غلالته السوداء، مع القمر فى كل منزل من منازله منه.. فهو فى كل حال، ليل يسرى، وببسط سلطانه على الكائنات، وأنه لا يوقف مسيرة الليل إلا الفجر..
وفى التعبير عن حركة الليل بالسّرى: «إذا يسر» إشارة إلى أنه يتحرك فى مسيرته والأحياء نيام لا يشعرون به، كما يتحرك الذين يسيرون فيه دون أن يشعر بهم أحد..
فالأقسام- كما ترى- هى أقسام بوحدات من الزمن، وفى هذه الوحدات، يبدو الزمن كائنا حيّا، يعايش الناس، ويشاركهم تقلبهم فى الحياة، وفى هذا ما يبعث على النظر، والتدبر، والتفكر، مما يكشف عن قدرة الخالق وعظمته، وحكمته.(16/1549)
وبهذه المراقبة للزمن، والالتفات الواعي إلى حركته، يعرف الإنسان قيمة الزمن- ويحرص على الانتفاع بكل لحظة تمر منه.
وقوله تعالى:
«هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» الحجر: العقل، وسمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه ويحميه من الضلال والضياع، ومنه الحجر على السفيه، صيانة لما له، من تصرفاته الحمقاء.. ومنه سميت الحجرة، لأنها تحجر من يداخلها، وتحميه من الحر، والبرد، ومن أيدى اللصوص، ونظرات المتلصصين.. والاستفهام هنا دعوة إلى أصحاب العقول أن ينظروا فى هذه الأقسام التي تمجد من شأن الزمن، وتجعل من كل قطعة منه آية من آيات القدرة الإلهية، لا يراها إلا أصحاب العقول، ولا يدرك سر القسم بها إلا أولو البصائر والأبصار وفى دعوة العقول إلى النظر والملاحظة لسير الزمن وحركاته بالليل، إشارة إلى أن الليل هو الوقت الذي تهدأ فيه النفس، وتسكن الجوارح، فيجد العقل فيه فرصته للانطلاق، والقدرة على التأمل، والتفكير.. كما أن أكثر الناس يغفلون عن الليل، ولا يرونه إلا قبرا يحتوى أجسامهم، فلا يكون لهم وجود فيه، ولا يكون لعقولهم تعامل معه، فى حين أنه يمثل جزءا كبيرا من حياتهم يعادل نصف هذه الحياة.. وإنه لخسران عظيم للإنسان أن يدع هذا النصف من عمره يذهب هباء، فكيف بمن يخسر عمره كلّه؟
وقوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ»(16/1550)
الاستفهام هنا تقريرى، تهديدى.. أي انظر كيف فعل ربك بعباد..
وكذلك يفعل ربك بالطاغين والمتجبرين.
وعاد، قبيلة قديمة من العرب البائدة، وكانت ديارهم بالأحقاف، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» (21. الأحقاف) وإرم، هى موطن عاد، وهى بدل من كلمة «عاد» أي ألم تر كيف فعل ربك بأرم ذات العماد، التي عمرتها قبيلة عاد، وأعملت فيها قوتها الجسدية، وجلبت لها كل ما قدرت عليه من مل، ومتاع.. فكانت كما وصفها الله سبحانه: «لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ» أي لم يكن لها مثيل فيما جاورها من بلاد..
وكان النبي الذي أرسله الله إليهم، هو «هود» عليه السلام، وقد دعاهم إلى الله، وترفق بهم، وذكّرهم بآلاء الله عليهم، وإحسانه إليهم، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وفيما كان يقول «هود» لهم، ما جاء فى قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (69: الأعراف) وقد أهلكهم الله بريح صرصر عاتية، كما يقول سبحانه: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) وسمى بناء المدينة وإقامتها على هذه الصورة العجيبة من القوة، والضخامة، والإحكام- سمى هذا خلقا، لأنها من عمل مخلوقات لله، وكل ما يعمل فيه الناس، هو من خلق الله، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» (96: الصافات) ومناسبة قصة عاد وثمود وفرعون، لما قبلها، هى أنها تعرض قضية من(16/1551)
القضايا التي تستحق من العقل أن يناقشها، وان يستحضر وجوده كله لها، وذلك بعد أن استدعى هذا الاستدعاء القوى الذي شدّ إليه بالقسم، لينظر فى الزمن، وما تلد آناته ولحظاته من عجائب.
والقضية التي يدعى إليها العقل هنا، هى سنة من سنة الله سبحانه وتعالى، فيما يأخذ به أهل الزيغ والضلال، من بأساء وضراء فى الدنيا، وما أعد لهم فى الآخرة من عذاب السعير..
وفى عاد وثمود وفرعون، يتمثل وجه كريه من وجوه الكفر والضلال، والعتوّ.. وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فاقتلعهم من جذورهم، وقطع نسلهم، وأتى على ما بنوا، وشيدوا.
وقوله تعالى:
«وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ» معطوف على قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ» وكيف فعل ربك بثمود؟ وثمود، هم قوم صالح عليه السلام، وهم من العرب البائدة، وديارهم بالحجر بين الشام والعراق، وقد مر بها النبي، صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك فسجّى ثوبه على وجهه، وأمر أصحابه أن يمروا بها مسرعين، وقال:
«لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وقوله تعالى: «جابوا الصخر» أي قطعوه، وشقوه كما يشق الجيب، وهو فتحة الثوب التي يلبس منها.. ومعنى ذلك أنهم نحتوا الصخر فى الوادي الذي يسكنون فيه، وجعلوا بيوتهم منحوتة فى كيان الصخر، فكانت(16/1552)
أشبه بحصون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» (149: الشعراء) قوله تعالى:
«وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ» معطوف على «وثمود» ..
والأوتاد جمع وتد، وهى تلك الأهرامات العظيمة التي أقامها فراعين مصر، فكانت أشبه بالجبال، التي هى أوتاد الأرض، كما يقول سبحانه: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (6، 7: النبأ) وقوله تعالى:
«الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ» هو وصف لعاد، وثمود، وفرعون.. فهم جميعا من الطغاة الباغين، الذين استبدوا بالبلاد، وبالعباد، فأشاعوا الفساد حيث كانوا، ولهذا أخذهم الله جميعا بالعذاب فصّبه صبّا عليهم.
والسوط: أصله من ساط الشيء يسوطه، أي خلطه بغيره، لأن السوط يختلط بالجلد، حين يضرب به..
وسوط العذب، هو خليط من ألوان العذاب، وقد أخذ الله سبحانه كلّ جماعة من أهل الضلال بلون من ألوان الهلاك كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» (40: العنكبوت) (م 98 التفسير القرآنى- ج 30)(16/1553)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وإذ قد جمع الله سبحانه وتعالى بين عاد، وثمود، وفرعون، فى سياق قصة واحدة- فكان من إعجاز النظم القرآنى أن يجمع عذابهم، وما أخذ به كل فريق منهم، فى إناء واحد، وأن يصبّه عليهم جميعا، فإذا وقع بهم، أخذ كل فريق لون العذاب المسلّط عليه! وقوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» المرصاد: المكان العالي، الذي يقوم فيه الراصد، ليرقب ما يجرى هنا وهناك.
وفى هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى رقيب على أعمال الناس، يرى كل ما يعملون، وسيحاسبهم على ما عملوا، دون أن يقلت أحد منهم، لأن الله سبحانه متمكن منهم، بهذا العلو الذي لا يدانى..
الآيات: (15- 30) [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)(16/1554)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» الفاء هنا للتفصيل والإفصاح عما أجمله قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» فكونه سبحانه وتعالى بالمرصاد، يرقب العباد، ويرى ما يعملون من خير أو شر- يقتضى أن هناك أعمالا مرصودة مسجلة على الناس، وأن الناس بحسب أعمالهم وإيمانهم بالله، وتصور هم لجلاله وعظمته وحكمته- ليسوا على حال واحدة، بل هم أحوال شتى وأنماط مختلفة، ترجع جميعها إلى أمرين: الشكر، أو الكفر.
ولما كان المال، هو محكّ الإنسان، الذي يختبر به دينه وخلقه- فقد وضع الله سبحانه الإنسان فى امتحان إزاء المال، منحا ومنعا، وإعطاء وحرمانا..
فماذا كان موقف الإنسان فى هذين الحالين؟.
إنه موقف مختلف، كما يتيّن ذلك من آيات الله.
«فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» ففى الحال التي يفيض الله سبحانه وتعالى فيها المال على الإنسان، ويسوق إليه الكثير منه، لا يرى أن ذلك ابتلاء واختبار، كما يرى ذلك عباد الله المتقون، وكما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ(16/1555)
رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ»
؟ (40: النمل) - بل إنه يرى أن ذلك الإحسان المسوق إليه من عند الله، هو حقّ اقتضاه من الله سبحانه، لما يرى فى نفسه من ميزات استحق بها هذا الإحسان دون الناس، فيقول كما يقول أهل الزيغ والضلال، فيما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (50: فصلت) .
فالإنسان ضعيف أمام سلطان المال، وتسلطه عليه، فإذا لم يحضّ نفسه على مراقبة الله، وإذا لم يقم على نفسه وازعا يزعه من غلبة الهوى، استبدت به شهوة المال، وصرفته عن الله، وأرته الحياة الآخرة سرابا خادعا، لا ينبغى له أن يدع هذا الحاضر الذي بين يديه، ويتعلق بهذا السراب الخادع الذي لا يدرى ما وراءه!! والإنسان هنا، هو مطلق الإنسان، إلا من عصم الله، وهم قليل..
وفى قوله تعالى: «ابْتَلاهُ رَبُّهُ» إشارة إلى أن هذا المال المسوق إلى الإنسان، وتلك النعم التي ملأ الله بها يديه، هو ابتلاء وامتحان له من الله، يكشف به عن شكره أو كفره، وأن ذلك ليس لميزة امتاز بها على الناس، فكما يبتلى الله أولياءه بالمال، يبتلى أعداءه به أيضا، فيعطى كلّا من الأولياء والأعداء ما يشاء.. أما الأولياء فيحمدون، ويشكرون، وأما الأعداء فيزدادون كفرا وعنادا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» (35: الأنبياء)(16/1556)
وفى قوله تعالى: «فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ» - إشارة إلى أن الابتلاء بالإعطاء والمنح، هو- عند من يعرف قدره، ويحسن استقباله- فضل وإكرام من الله، وإنه لجدير بالعاقل ألا ينزع عن نفسه هذا الثوب الذي كساه الله إياه، ويلبس نفسه لباس الشقاء والبلاء..
فالذين أنعم الله عليهم من عباده المكرمين بالملك والجاه والمال والسلطان- يرون فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، فلا يكون همّهم إلا إفراغ جهدهم كله فى القيام بواجب الشكر لله، والحمد لله، أن أكرمهم بهذا العطاء، وعافاهم من المنع والحرمان. وفى هذا يقول سليمان عليه السلام: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» (16: النمل) .
إنه يهتف من أعماقه، محدّثا بنعمة الله عليه، داعيا الناس أن يشهدوا عليه، وهو بين يدى نعم الله السوابغ عليه، وأنه إذا لم يقم فى مقام الشاكرين لله، فليعدّوه جاحدا، بل وليخرجوا عن سلطانه الذي مكن الله سبحانه وتعالى به على الناس.. ويقول سليمان فى موضع آخر، وقد رأى عرش ملكة سبأ ما ثلا بين يديه: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (40: النمل) .
هكذا النفوس الكريمة الطيبة، تستقبل الإحسان بالإحسان، وتتلقىّ الخير بالخير..
بل إنها لتضيق بالإحسان، وتراه حملا ثقيلا عليها، إذا هى وجدت ضعفا عن القيام بشكره.. يقول الشاعر مخاطبا أحد ممدوحيه الذين أضعفوا عطاياهم له، وأضفوا إحسانهم عليه.. يقول:
لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
أنت الذي جللتنى مننا ... أوهت قوى ظهرى فقد ضعفا(16/1557)
وهذا وإن كان شعرا، وكان للخيال منه مكان- فإنه يقوم على أصل أصيل من مشاعر الفطرة الإنسانية السليمة، التي لم يفسدها الهوى، ولم يغلبها الطبع الحيواني المتوحش الكامن فى الإنسان..
فالمال نعمة من نعم الله، وإحسان من إحسانه، وإنه لمن الغبن لمن أنعم الله به عليه، بفضله وإحسانه، أن يشترى به عداوة الله، وأن يفتح به إلى جهنم بابا من أبوابها!! فالمال نعمة، يمكن أن ينال بها العاقل طيبات الحياة الدنيا، وحسن ثواب الآخرة..
ولكنه حين يقع ليد الأغبياء المغرورين، يكون عليهم وبالا، وشقاء، فى الدنيا والآخرة جميعا.. وفى «قارون» شاهد عبرة وعظة! وقوله تعالى:
«وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» ..
قدر عليه رزقه: أي ضيّقه عليه، ولم يوسع له فيه، بالنسبة لما يراه فى غيره من الناس..
وفى هذه الحال يحاجّ هذا الإنسان الغافل الكفور- يحاجّ ربّه، ويلقاه متسخطا متبرما، متّهما خالقه بأنه لم يعرف قدره، ولم يؤد له ما هو جدبر به، وأنه ليس أقلّ من فلان، وفلان، من أصحاب الغنى والثراء!! وهذا ضلال مود بأهله، ومورد إياهم موارد التهلكة..
فالامتحان بالفقر، والضيق، والشدة، كالامتحان بالغنى، والثراء والنعم.
فإذا كان الامتحان بالغنى يضع الإنسان أمام شهوات عارمة، وأهواء غالبة،(16/1558)
تحتاج لقهرها إلى رصيد عظيم من العزم، وقوة الإرادة- فإن الامتحان بالفقر والشدة، يضع الإنسان أمام عدوّ يريد أن نزعزع إيمانه، ويغتال صبره لحكم ربه، ورضاه بما قضى الله فيه.
قوله تعالى:
«كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا» .
هو رد على ما يقوم فى نفوس كثير من الناس من تلك المفاهيم الخاطئة فيما يبتليهم الله سبحانه وتعالى به، من غنى أو فقر، فليست التوسعة فى الرزق، بالتي تعطى العبد حجة بأنه من المكرمين عند الله، وليس التضييق فى الرزق، بالذي يدلّ على إهانة الله سبحانه لمن قدر عليه رزقه.. إن هذا وذاك، امتحان وابتلاء، وليس كما يظن الجاهلون بأن الله إنما يرزق الناس فى الدنيا بحسب مكانتهم عنده، فيوسّع على أوليائه، ويضيّق على أعدائه، وأن هؤلاء الذين أفقرهم الله، لو كانوا من المكرمين عنده لما ضيق عليهم فى الرزق، ولما وضعهم بموضع الحاجة إلى الأغنياء، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى فضح منطقهم الفاسد، إذ يقول سبحانه على لسانهم: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» ؟
(47: يس) ..
وكلا.. فإن هذا منطق ضالّ، ورأى فاسد سقيم!! ولقد أحالهم هذا الفهم الضال إلى حيوانات، لا تعرف غير ما تملأ به بطنها من طعام، فلقد جفّت فيهم عواطف الإنسانية، وانتزعت من قلوبهم مشاعر الرحمة..
فلم يكرموا اليتيم، كما أكرمهم الله، ولم يحسنوا إلى الفقير، كما أحسن الله إليهم.
بل اغتالوا حق اليتيم، ولم يمدّوا أيديهم بإحسان إلى مسكين، وأكلوا ما يرثون(16/1559)
أكلا جامعا، غير مستبقين شيئا لما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم فى هذا الميراث الذي جاءهم من غير كدّو لا عمل، فهو ليس لهم وحدهم، وإنما هو أشبه بلقطة يلتقطونها من عرض الطريق، وأن من حق من يحضرهم وهم يمدون أيديهم إلى هذا المال أن ينال نصيبا منه، إذا كان من أهل العوز والحاجة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (8: النساء) .. والمراد بالقسمة هنا قسمة الميراث.. والمراد برزق أولى القربى واليتامى والمساكين من هذا الميراث- هو إعطاؤهم نصيبا منه، غير مقدّر بقدر محدود، وإنما هو فضل وإحسان.. ولقد أنكروا هذا الحق، وأكلوا الميراث كله!! وفى قوله تعالى: «أَكْلًا لَمًّا» إشارة إلى أنهم أكلوا ما لهم من حق فى هذا الميراث، مع مالذوى القربى واليتامى والمساكين من حق فيه، وجمعوا هذا إلى ذاك، وأكلوه جميعه.
وقوله تعالى:
«كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» .
كلا، هو ردّ على موقف هؤلاء الذين لا يكرمون اليتيم، ولا يتحاضّون على طعام المسكين، ويأكلون التراث أكلا لمّا، ويحبون المال حبّا جمّا.. إن ذلك ليس هو طريق الفلاح والنجاة، بل هو طريق الخسران، والهلاك، وإن ذلك ليبدو لهم جليّا وضحا «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا» أي إذا جاء يوم القيامة، وتبدلت معالم هذه الحياة الدنيا، وذهب كل ما جمعوا فيها، وما أقاموا(16/1560)
من دور وقصور.. وفى التعبير عن يوم القامة، بدكّ الأرض «دكا دكا» - إشارة الى أن ما بين أيديهم من متاع الحياة الدنيا سيتحول إلى حطام وأنقاض، فيكون بعضا من هذه الأرض التي لا يبقى على وجهها شىء، مخلّفا وراءه الويل لهم، والحساب العسير على ما أكلوا من حقوق، وما ضيعوا من واجبات.
وقوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» - أي جاء أمر الله وسلطانه ونصبت موازين الحساب، ووقف الملائكة فى المحشر جندا حراسا، ينفذون أمر الله، ويسوقون أهل الضلال إلى النار، وأهل الإيمان إلى الجنة..
«ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (103: هود) وقوله تعالى: «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» - برزت جهنم لأهلها، فهذا هو يومها، ويوم المنذرين بها، المعذبين فيها.. «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى»
(36: النازعات) وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى» - أي فى هذا اليوم يعقل الإنسان كل شىء، ويعلم عن يقين ما فاته علمه فى الدنيا من حق.. ولكن لا ننفعه الذكرى، ولا يفيده العلم، فقد طويت صحف الأعمال، ولا سبيل إلى تدارك ما فات! وقوله تعالى: «يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» إنه الندم الذي يملأ القلب حسرة وكمدا، وإنه النظر اليائس المتحسر إلى سقاء الماء وقد أربق كل ما فيه، فى وسط صحراء ليس فيها قطرة ماء!! وفى قوله «لحياتى» - إشارة إلى أن هذه الحياة- حياة الآخرة- هى حياة الإنسان حقا، وأن الحياة الدنيا ليست إلا معبرا إلى هذه الحياة..(16/1561)
قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» - أي فى هذا اليوم لا يشهد الناس عذابا كهذا العذاب الذي يعذب الله به أهل الضلال، ولا قيدا محكما وثيقا كهذا القيد الذي يقيدهم الله به، فلا يجدون سبيلا للإفلات والهرب! والضمير فى عذابه، يرجع إلى الله، ومثله الضمير فى وثاقه.
وقوله تعالى:
«يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» هذا النداء الكريم، الذي يدعو به الله سبحانه وتعالى أهل ودّه، من وسط هذا البلاء الخالق، المحيط بالناس يوم القيامة- هو قارب النجاة، الذي يخفّ مسرعا إلى تلك السفينة الغارقة فى هذا البحر اللّجى، فيحمل هؤلاء الذين أكرمهم الله بفضله وإحسانه، فنجاهم من شر هذا اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا.. إن هذا النداء الذي يجىء على فجاءة وسط هذا البلاء، لهو أوقع أثرا، وأبلغ فى إدخال المسرة على النفس، من أن يجىء مسبوقا بمقدمات تشير إليه، وتبشّر به..
والنفس المطمئنة، هى النفس المؤمنة، التي لا يستبد بها القلق فى أي حال من أحوالها، فى السراء أو الضراء، إنها فى حال واحدة أبدا من الرضا بما قسم الله لها..، فهى فى السراء شاكرة، حامدة، وفى الضراء صابرة راضية، فلا الغنى يطغيها، ويخرج بها عن طريق الاستقامة، ولا الفقر يسخطها، ويعدل بها عن الاطمئنان إلى قضاء الله فيها، وحكمه عليها.. إنها نفس مطمئنة ثابتة، على حال واحدة فى إيمانها بالله، ورضاها بما قسم لها.. وهذا الاطمئنان وذلك الرضا، لا يجد هما إلا المؤمنون بالله، المتوكلون عليه، المفوضون أمورهم(16/1562)
إليه.. فالاطمئنان الذي تصيبه بعض النفوس، ويكون صفة غالبة عليها، هو ثمرة الإيمان الوثيق بالله، القائم على أصول ثابتة من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وما له جل شأنه من سلطان مطلق متمكن، قائم على كل ذرة فى هذا الوجود، وأنه لا يقع فى هذا الوجود شىء إلا بتقديره سبحانه، وبمقتضى حكمته وعلمه، وعدله.
وقد نودى الإنسان هنا بنفسه ولم يناد بذاته، لأن النفس هى جوهره السماوي، وهى التي كانت موطن الإيمان والاطمئنان.. وهى لهذا استحقت أن ترجع إلى ربها، وأن تنزل منازل رضوانه، إذ لم تغرق فى تراب الأرض، ولم تضع معالمها فيه، كما ضاعت نفوس الضالين والغاوين..
وقوله تعالى: «راضِيَةً مَرْضِيَّةً» أي راضية بما أرضاها الله سبحانه به من فضله، مرضيّا عنها من ربها.. فالكلمتان حالان من أحوال النفس، وقد دعيت من ربها إلى الرجوع إليه.. إنها ترجع إلى ربها، وقد رضيت بما لقيها به ربّها من إكرام وإحسان، وقد رضى ربها عنها بما قدمت من أعمال طيبة..
فالله سبحانه وتعالى يرضى ويرضى، يرضى عن عباده المحسنين، ويرضيهم بإحسانه، كما يقول سبحانه: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .. وفى الجمع بين صفة الرضا للنفس، والرضا من الله عنها- إشارة الى أن هذا الرضا الذي تجده النفس هو رضا دائم متصل، لأنه مستمد من رضا الله عنها، وأنه ليس مجرد شعور يطرقها، أو خاطر يطوف بها، ثم يذهب هذا الشعور، ويغيب هذا الخاطر، مع موجات الخواطر، والمشاعر التي تموج فى كيان الإنسان..!! كلا إنه رضا لا ينقطع أبدا..(16/1563)
وقوله تعالى: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي» - هو دعوة إلى هذه النفس المطمئنة، بعد أن عادت إلى ربها، أن تأخذ مكانها بين عباده الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه، وجعلهم فى مقام كرمه وإحسانه، وأدخلهم جنته التي أعدها لهم، فلتأخذ هى مكانها معهم من تلك الجنة، ولتنعم بما ينعم به عباد الله المكرمون، من نعيم لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. جعلنا الله منهم، وألحقنا بهم، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة
(90) سورة البلد
نزولها: مكية.. بإجماع.. نزلت بعد سورة «ق» .
عدد آياتها: عشرون آية.
عدد كلماتها: اثنتان وثمانون. كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
الإنسان الذي ابتلاه الله فأكرمه ونعمه، فلم يحمد الله، ولم يشكر له فضله وإحسانه، والإنسان الذي قدر الله عليه رزقه، فساء ظنّه بالله، وغيّر موقفه منه- هذا الإنسان- فى حاليه اللذين عرضتهما سورة «الفجر» - يرى فى أوضح صورة فى إنسان هذا البلد، وهو مكة، البلد الحرام الذي رفع الله قدره، وجعله حرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شىء، وجعله موضعا(16/1564)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
لأول بيت يعبد فيه على هذه الأرض- هذا الإنسان الذي يعيش فى هذا البلد الأمين، كان جديرا به أن يكون أعرف الناس بربه، وأرضاهم لحكمه، ولكنه لم يرع حرمة هذا البلد، فلم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، وأكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جمّا، أعماه عن طريق الحق، وأضله عن سبيل الرشاد.. فهل هو بعد هذه النّذر عائد إلى ربه، داخل فى عباده؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام منه، مع دعوة الحق التي يحملها رسول الله إليه.. فالمناسبة بين السورتين قريبة دانية.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 20) [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(16/1565)
التفسير [لا أقسم بهذا البلد.. ما تأويله؟] قوله تعالى:
«لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» قلنا- فى غير موضع- إن القسم المنفي فيما ورد فى القرآن الكريم، هو تعريض بالقسم، وتلويح به، دون إبقاعه، إذ كان الأمر الواقع فى حيزّ القسم، أوضح وأظهر من أن يقسم عليه، توكيدا، أو تقريرا.. ونفى القسم هنا هو لعلة فى المقسم به، لا بالمقسم عليه، كما سنرى.. والبلد، هو البلد الحرام، مكة المكرمة، وقد أقسم الله به فى غير هذا الموضع، فى قوله تعالى: «وَالتِّينِ. وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» .
وقوله تعالى:
«وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» الواو هنا للحال، والجملة حال من فاعل لا أقسم، وهو الله سبحانه وتعالى.. أي لا أقسم بهذا البلد فى تلك الحال التي أنت حلّ به، فالضمير «أنت» خطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه. والحلّ: الحلال، المستباح..
والمراد بالحلّ، هنا هو النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنّ المشركين لم يرعوا فيه حرمة القرابة، ولا حرمة البلد الحرام الذي يأوى إليه، بل أباحوا سبّه وشتمه، وأطلقوا ألسنتهم بكل قالة سوء فيه، بل وتجاوزوا هذا إلى التعرض له بالأذى المادي، حتى لكادوا يرجمونه..
وهنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالبلد الحرام.. لقد جعله المشركون بلدا غير حرام، وغيّروا صفته التي له، حتى لقد صار هذا البلد غير أهل لأن(16/1566)
يقسم به من الله سبحانه، لأن القسم من الله هو تشريف وتكريم لما يقسم به سبحانه، وإن الله سبحانه لن يقسم بهذا البلد ما دام النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا ترعى له حرمة فى البلد الحرام.. فإن حرمة هذا البلد من حرمة النبي، وأنه إنما أقيم من أول وجود للمجتمع الإنسانى، ليستقبل دين الله وقد كمل، وليكون مطلعا لخاتم المرسلين وقد ظهر.
وفى نفى القسم بالبلد الحرام، تجريم للمشركين، وتشنيع على جنايتهم الغليظة التي اقترفوها فى حق رسول الله، وفى حق البلد الأمين، وأن تلك الجناية الشنعاء قد امتدت آثارها إلى البلد الحرام، فسلبته حرمته، وأن الله سبحانه وتعالى رافع عنه هذه الحرمة، حتى ينتقم لنبيه الكريم من هؤلاء المجرمين، ويردّ إليه اعتباره من التوقير والتكريم فى رحاب البلد الحرام. وعندئذ تعود للبلد حرمته!! وإنا لنذهب إلى أبعد من هذا، فنقول إن رفع الحرمة عن البلد الحرام قد ظلّ معلقا هكذا إلى أن خرج منه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مهاجرا ثم عاد إليه فاتحا فى السنة الثامنة من الهجرة، وأنه قد أبيح له من هذا البلد يوم الفتح، ما كان حراما، فأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل بعض المشركين، وهم متعلقون بأستار الكعبة، يومئذ، وهم ابن خطل، وميّس بن صبابة، وغير هم وفى هذا يقول الرسول الكريم عن هذا البلد يوم الفتح: «إن الله حرم مكة، يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد من بعدي، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار» وإنه ما إن يقرغ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حساب هؤلاء المتاكيد الذين أمر بقتلهم فى المسجد الحرام، بالبلد الحرام، حتى تعود للبلد الحرام حرمته ويطّهر من الشرك والرجس، ومن الأصنام وعبّاد الأصنام.
هذا، ولا يفهم مما قلناه: من أن البلد الحرام، قد رفعت عنه حرمته منذ(16/1567)
أحل المشركون من النبي ما أحلّوا- لا يفهم من هذا، أن ذلك بالذي ينقص من قدر هذا البلد، أو يجور على شىء من مكانته، وعلو مقامه.. فهو هو على ما شرفه الله به، ورفع قدره، ولكن رفع الحرمة عن هذا البلد، هو عقاب لهؤلاء المشركين الذين آواهم هذا البلد، وجعله حرما لهم.. فلما استباحوا حرمته، باستباحة حرمة النبي، عرّاهم الله من هذه الخلية الكريمة التي خلعها عليهم البلد الحرام..! ولهذا أقسم الله سبحانه بهذا البلد الذي أبيحت حرمته من المشركين، ووصفه بالبلد الأمين فى قوله تعالى: «وَالتِّينِ، وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» .
قوله تعالى:
«وَوالِدٍ وَما وَلَدَ» - معطوف على قوله تعالى: «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» ..
والمراد بالوالد وما ولد- والله أعلم- هو هذا التوالد الذي يقع بين الناس..
فكل والد، هو مولود، وكل مولود، سيكون والدا، وبهذا، يتصل النسل، وتكثرا المخلوقات، وتعمر الأرض..
وفى عملية التوالد، تتجلى قدرة الخالق جل وعلا، وعلى مسرح هذه العملية مراد فسيح للدراسة، والتأمل، والبحث، وجامعة علم غرير للعلماء والدارسين، ومعلم من معالم الهدى واليقين للمؤمنين والمتوسمين..
وفى نفس القسم بالوالد، وما ولد (وهو الإنسان) - إشارة إلى أن الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى، ورفع قدره على كثير من المخلوقات، كما رفع قدر هذا البلد الأمين على سائر البلدان- هذا الإنسان، قد خلع هذا الثوب الكريم الذي ألبسه الله إياه، وتخّلى عن المعاني الإنسانية الشريفة التي(16/1568)
أودعها الخالق جل وعلا فيه، فأحلّ حرمات الله، واعتدى على حدوده، وبهذا لم يصبح أهلا لأن يقسم الله به، وأن يعرضه فى معرض التشريف والتكريم.
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 6: التين) ومن هنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالوالد وما ولد.. فإن الله سبحانه أقسم بكثير من مخلوقاته، من سماء وأرض، وما فى السماء، من شمس وقمر، ونجوم، وما فى الأرض من تين وزيتون، وخيل عادية، ورياح عاصفة، وغير هذا، مما أقسم الله سبحانه وتعالى به، من عوالم الجماد، والنبات، والحيوان.
فهذه المخلوقات قائمة على ما خلقها الله سبحانه وتعالى عليه، لم تخرج عن طبيعتها، ولم تحد عن طريقها المرسوم لها، على خلاف الإنسان، الذي غير وبدل، وانحرف عن سواء السبيل..
وأما حين أقسم الله سبحانه وتعالى بالإنسان، فإنما أقسم به فى فطرته التي أودعها الله سبحانه فيه، تلك الفطرة التي جعلها الله تعالى أمانة بين يدى الإنسان، فلم يرعها، ولم يحفظها. وفى هذا يقول سبحانه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» .. فهذه النفس، هى الفطرة التي فطر الله الناس عليها «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» ..
والصورة الكاملة للإنسانية، التي احتفظت بهذه الفطرة، وزكتها التزكية المطلوبة لها، هو رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وقد ألبسه الله سبحانه الشرف كله، وتوجه بتاج العظمة على المخلوقات جميعها، إذ أقسم به الحق جل وعلا، مضافا إلى ذاته الكريمة، فقال تعالى:
م 99- التفسير القرآنى ج 30(16/1569)
«فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» (92- 93: الحجر) ..
وقد وزنه الله سبحانه وتعالى بهذا القسم، فرجح ميزانه ميزان السموات والأرض، إذ أقسم بهما الحق جل وعلا مضافين إلى ذاته العلية فى قوله جل شأنه: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ» (23: الذاريات) ..
ولكن شتان بين قسم الله سبحانه وتعالى بذاته مضيقا إليها الرسول الكريم، فى مقام الخطاب، وبين قسمه سبحانه بالسماء والأرض، مضافتين إلى ذاته- جل وعلا- فى مقام الغيبة..! فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، صلاة تنال بها شفاعتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قوله تعالى:
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» ..
هو جواب للقسم المطوىّ، فى كيان القسم المنفي..
والإنسان هو ثمرة من ثمرات التوالد بين الأحياء، سواء فى هذا، الوالد، والولد..
والكبد: المعاناة والشدة..
والظرف: «فى» هو المحتوى الذي يضم الإنسان، وما يلاقى فيه من كبد..
فحياة الإنسان- كل إنسان- فى هذه الدنيا، هى شدائد، ومعاناة.
فما يسلم إنسان أبدا من هموم الحياة وآلامها، النفسية، أو الجسدية، فكم يفقد الإنسان من صديق وحبيب؟ وكم يتداعى على جسده من أمراض وعلل؟ وكم؟
وكم؟ مما يطرق الناس من أحداث على مر الأيام، وكر الليالى؟ فالشباب يذبل(16/1570)
ويولّى، والقوة تتبدد وتصبح وهنا وضعفا، وهذا الجسد الذي ملأ الدنيا حياة وحركة سيعصف به الموت يوما، ويلقى به فى باطن الأرض، جثة هامدة متعفنة، لا تلبث أن تصير ترابا!.
فالإنسان وحده من بين المخلوقات- فيما نعلم- هو الذي تستبدّ به هذه المخاوف، وتطرقه هذه التصورات، على خلاف سائرا لأحياء التي تقطع مسيرتها فى الحياة، فى غير قلق أو إزعاج من المستقبل الذي ينتظرها.. إنها لا تنظر إليه، ولا تتصوره، ولا تعيش فيه قبل أن يصبح واقعا..
أما الإنسان، فإنه يعيش فى المستقبل أكثر مما يعيش فى الواقع، حتى إنه ليرى بعين الغيب فى يوم مولده، ما هو مقبل عليه من آلام ومكابدات فى مستقبل حياته.. يقول ابن الرومي.
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلّا فما يبكيه منها، وإنها ... لأرحب مما كان فيه وأرغد
هذا هو الإنسان، وتلك هى مسيرته فى الحياة، فلا يفترنّ جاهل بقوته، ولا يركننّ مغرور إلى ما بين يديه من مال وسلطان.. فكل زائل وقبض الريح! ..
قوله تعالى:
«أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» ؟
هو إلفات لهذا المغرور بقوته، المعتزّ بسلطانه وجاهه، المفتون بنفسه، المتشامخ بذاته، حتى ليحسب أن أحدا لن يقدر عليه، ولن يسلبه شيئا مما معه..
إنه أضعف من أن يثبت لنخسة من نخسات الحياة، كما يقول سبحانه:(16/1571)
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً» (54: الروم) ويقول سبحانه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28: النساء) وإن بعوضة تلسعه لتحرق جسده بالحمى، وإن جرثومة تتدسس إلى كيانه لتهدّ بنيانه، وتقوض أركانه!! ثم ما قوة هذا الإنسان؟ أهو أقوى من خالقه الذي خلقه من نطفة ثم سواه رجلا؟
فما أضعف الإنسان، وما أخف وزنه، إذا كان معياره قائما مع هذا الجسد، دون أن يكون لروحه حساب، أو لنفسه اعتبار! وقوله تعالى:
«يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» هكذا يقول الإنسان مباهيا مفاخرا بما أنفق من مال..
واللبد: الكثير، الذي جمع بعضه إلى بعض، فكان أكداسا مكدسة..
وفيم أهلك هذا السفيه المغرور هذا المال الكثير؟ أفي ابتناء محمدة، أو اكتساب مكرمة؟ أو إغاثة ملهوف؟ أو إطعام جائع؟ كلّا.. إنه لا يعرف وجها من هذه الوجوه ولا تنضح يده لها بدرهم، من هذا المال الكثير الذي أهلكه.. إنه أهلكه فى مباذله، وفى استرضاء شهواته، وإشباع نزواته.. ولهذا فهو مال هالك، ومهلك لمن أنفقه وهذا بعض السرّ فى قوله تعالى: «أهلكت» الذي يدل على أن هذا المال ذهب فى طريق الضياع والفساد.
وقوله تعالى:
«أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟» أي أيحسب هذا السفيه المفتون، أن عين الله لا تراه، ولا تكشف عن هذه الوجوه المنكرة التي يهلك فيها هذا المال اللبد؟ وكلّا، فإنه محاسب على هذا المال الذي أهلكه فى وجوه الضلال، والبغي والعدوان..(16/1572)
قوله تعالى:
«أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ؟» هو تعقيب على موقف هذا الجهول المفتون، الذي ظن أن قدرته لا تغلب، وأن ماله لا ينفد، وأنه لا يحاسب على ما يفعل، ولا يراجع فيما يقول، وأنه عند نفسه أكبر من أن يحاسب، وأعظم من أن يراجع!! وإذا سلّم لهذا الغبىّ الجهول، أن جاهه وسلطانه من كسب يده، وأن المال الذي ينفق منه بغير حساب على شهواته وأهوائه، هو من ثمرة عمله- إذا سلّم له بهذا، فهل يجرؤ على أن يدّعى- ولو تجرد من كل حياء- أنه هو الذي أوجد وجوده، وأودع فيه هذه القوى التي يعمل بها؟ أيجرؤ على أن يقول إنه هو الذي خلق هاتين العينين اللتين ببصر بهما، أو هو الذي خلق جهاز النطق الذي ينطق به، من لسان وشفتين؟ فإذا كان لا يملك تلك القوى المودعة فيه، فهل يملك ما تحصّله له تلك القوى من جاه، ومال، وسلطان؟ إنه يستطيع- ولو جدلا وسفها- أن يقول مشيرا إلى نفسه: هذا مالى قد جمعته، وهذا جاهى وسلطانى قد أقمته ولكن لا يستطيع أبدا أن يقول ها هو ذا أنا الذي أو جدته!! [وهديناه النجدين. ما تأويله] ؟
قوله تعالى «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» النجد: ما ارتفع من الأرض، أشبه بالنّهد البارز على الصدر، وجمعه نجود، وبه سمى الصّقع المعروف من بلاد العرب، بنجد، لأنه عال بارز على ما حوله من الأماكن، مثل تهامة وغيرها..
والنجدان هنا، هما جانبا الخير والشر فى الإنسان.. وسميا نجدين لأنهما أمران بارزان بين ما يتقلب فيه الإنسان من أمور. فالخير واضح الملامح،(16/1573)
بيّن السّمات، وكذلك الشر، أمره ظاهر لا يخفى،.. ولن يخطىء أحد التفرقة بين ما هو خير وما هو شر، كما لا يخطىء أحد التفرقة بين النور والظلام، والنهار والليل، والحلو والمر.. اللهم إلا من فسد عقله، واختل تفكيره، فيرى الأمور على غير وجهها، تماما، كمن تعطلت حاسة من حواسه، من سمع أو بصر، أو شم، أو ذوق، فلا يميز بين المسموعات أو المبصرات، أو المشمومات أو المذوقات.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله: «إن الحلال بين وإنّ الحرام بيّن.. وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس» .
والإنسان السوىّ، يعرف الخير والشر، والهدى والضلال، والنافع والضار، ويهتدى إلى ذلك بنفسه، كما يتهدّى الحيوان إلى مسالكه فى الحياة، وإلى ما يحفظ وجوده بين الأحياء..
ومن هنا كانت دعوة الإسلام- كما كانت دعوة الشرائع السماوية كلها- هى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.. والمعروف هو ما عرف الناس بفطرتهم أنه ملائم لهم، فاتجهوا إليه، وتجاوبوا معه، وأخذوا وأعطوا به..
والمنكر، ما أنكره الناس بفطرتهم، واستوحشوه، ونفروا منه، ونأوا بأنفسهم عنه.. ومن هنا أيضا كان الإجماع فى الشريعة الإسلامية أصلا من أصول هذه الشريعة، يقوم إلى جانب أصليها: الكتاب والسنة.. وليس الإجماع فى حقيقته إلا توارد العقول وتلاقى الفطر على أمر ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله نصّ فيه..
وهذا يعنى أن الرأى العام حكم يقضى بين الناس، وفيصل فيما لم يجدوا له حكما فى الكتاب أو السنة..
وأكثر من هذا، فإن أحكام الكتاب والسنة، إنما هى موزونة بميزان الفطرة السليمة، والعقل الصحيح، أو قل إن أحكام الكتاب والسنة ضابطة(16/1574)
لمسيرة الفطرة السليمة، والعقل الصحيح. ومن هنا لا تجد النفوس السويّة حرجا، ولا ضيقا، فى التزامها حدود الشريعة والوفاء بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) فمعنى قوله تعالى: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» أي عرّفناه وجهى الخير والشر، وأعطيناه الميزان الذي يزنهما به، ويضع كلّا منهما موضعه الذي هو له.. وكما يشير النجدان إلى أن كلّا من الخير والشر بالمكان البارز الذي لا يخفى وجهه ولا تخطىء الأنظار الاستدلال عليه- كذلك يشيران إلى أن الاتجاه إلى أي منهما، وأخذ الطريق إليه، هو مرتقى صعب، يحتاج إلى جهد ومعاناة! فالذى يتجه إلى الخير، ويحمل نفسه على معايشته، إنما يغالب أهواء جامحة، ويدافع شهوات معربدة.. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره» .. ولهذا كان الصبر من عدّة المؤمنين، ومن زادهم على طريق الحق والخير.. فمن لم يرزق الصبر، لم يقو على السير فى طريق الهدى والإيمان.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (2- 3: العصر) .. «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (35: فصلت) والشرّ، وإن بدا فى ظاهر الأمر أنه أخفّ محملا، وأيسر سبيلا، لأن مسيرته متجهة مع أهواء النفس، مندفعة مع تيار الشهوات- إلا أنه فى واقع الأمر على خلاف الظاهر، فليس محمل الشر خفيفا، ولا طريقه سهلا معبّدا..
فما أكثر المزالق والعثرات التي يلقاها الأشرار فى طريقهم، وما أكثر الآلام التي تتولد من اقتراف الآثام، وإشباع الشهوات.. وإن اللذة العارضة لشهوة من الشهوات، أو إثم من الآثام، لتعقبها دائما آلام مبرّحة، وأوجاع قاتلة، إن لم يكن ذلك فى يومها، ففى غد قريب أو بعيد.. فما أكثر العلل(16/1575)
الجسدية التي تخلّفها الآثام، وما أكثر العلل والأوجاع التي يرثها أولئك الذين يزرعون الشر، ويستكثرون منه! هذا، وللإنسان- كل إنسان، حتى أكثر الناس جرأة على الشر ومقارفة له- لحظات يصحو فيها من غفلته، ويفيق فيها من سكرته، ويتنبه من ذهوله، وعندها يجد بين يديه هذا الحصاد المشئوم، الذي تنبعث منه روائح كريهة عفنة، حتى لتكاد تخنق أنفاسه، وتزهق روحه! وكم لأهل الضلال، ومقتر فى الآثام من ساعات، يحترقون فيها بنار الندم والحسرة، ويتقلبون فيها على جحيم التقريع واللوم، ولكن بعد فوات الأوان، وإفلات الفرصة.. وأىّ عزاء يعزّى به نفسه رجل كأبى نواس مثلا، حين يذهب شبابه، وتموت نوازعه وشهواته، ثم يتلفت فيجد بين يديه أشباح آثامه وفجوره، تتراقص من حوله، بوجوهها الكالحة، وأنيابها المكثرة، ومخالبها الحادة، وكأنها الحيات تطل من أجحارها، وتهجم عليه من كل جانب؟
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام!
هكذا يلقى أبو نواس نفسه فى صحوة الموت، وقد بلغت الروح الحلقوم!! وأي حسرة وأي ألم فاضت بهما نفس رجل كالحجاج، وقد قام على منبر سلطانه فى العراق، يرمى الناس بالصواعق من كلماته، فتنخلع منها القلوب، وتضطرب النفوس، ويشهر سيفه بيد هذا السلطان المطلق، ويقول: «إنى لأرى رؤسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وكأنى أنظر إلى الدماء بين العمائم وللحى..» ثم ينفذ هذا الوعيد، فيقطع رءوسا بريئة، وبريق(16/1576)
دماء طاهرة.. ثم تختم صفحته الملطخة بالدماء، بدم «سعيد بن جبير» بقية السلف الصالح، والنبتة الكريمة الباقية من رياض التابعين؟
والذين شهدوا الحجاج وهو على فراش الموت، يعانى سكراته، وينظر نظرات الفزع والرعب إلى ماضيه الذي حضر كلّه بين يديه- الذين شهدوا الحجاج وهو فى تلك الحال، فاضت نفوسهم أسّى عليه، ورحمة به، حتى أولئك الذين كانوا أشد الناس بغضا له، واستعجالا ليومه هذا! فكم يساوى سلطان الحجاج، وجبروته، وما أرضى به نفسه من هذا السلطان، وذلك الجبروت- كم يساوى كل هذا من آلام ساعة من ساعاته الأخيرة، وهو يرى حصاد هذا السلطان، وثمر هذا الجبروت؟
هذا حساب الإنسان مع نفسه، فكيفّ حسابه مع الله، إذا كان قد أخذ طريقا غير طريق الله؟.
وقوله تعالى:
«فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» العقبة، هى الطريق الوعر فى الجبل، تحف بسالكها المخاوف والمهالك..
والاقتحام، هو الإقدام من المرء على الأمر فى قوة وعزم، دون مبالاة بما يعترضه من صعاب.. والمخاطب باقتحام العقبة هنا، هو هذا الإنسان الذي هداه الله النجدين، وعرّفه- بما أودع فيه من عقل، وما غرس فيه من فطرة- التهدّى إلى طريق الخير أو الشر، ثم لم يقتحم العقبة إلى موارد الخير، ومواقع الإحسان، وآثر أن يأخذ طريق الشر، ويتقحّم عقبته تحت غواشى ضلاله، وغمرة شهواته.. ومطوة نزواته..
وقوله تعالى.
«وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ» سؤال يثير العقل، ويحرك الفكر، نحو هذا المجهول الذي يسأل عنه.(16/1577)
وقوله تعالى:
«فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» : المسغبة: المجاعة، والمتربة: التراب، ويراد بها الفقر الشديد، كأن المتصف بها لا يملك غير التراب! هذه هى العقبة التي كانت موضوع السؤال: «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ» ؟
إنها عقبة، تقوم بين يدى من يريد اجتيازها إلى مواقع الخير- عقبات:
منها: «فك رقبة» أي عتق رقبة، وفكها وإطلاقها من أسر العبودية، والرق، وتحريرها من البهيمية التي اغتالت معالم الإنسانية فيها..
إن الإنسان- مطلق الإنسان- له حرمته عند الله، وإن الاستخفاف بهذه الحرمة عدوان على حمى الله.. ولهذا كان من أعظم القربات عند الله سبحانه وتعالى، هو رد اعتبار هذا الإنسان، وتصحيح وجوده بين الناس..
إنه خليفة الله فى الأرض! ومن العقبات التي يقتحمها من يأخذ طريقه إلى الله: «إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» أي بذل الطعام فى المجاعات، وفى أيام الجدب والقحط، للجياع والمحرومين.. وأولى هؤلاء الجياع بالإطعام، الأيتام الفقراء، لضعفهم، وعجزهم عن الكسب.. وأحق الأيتام بهذا الإحسان، ذوو القربى، إذ كان للقرابة حق يجب أن يرعى، فمن قصّر فى حق ذوى قرابته، فهو مع غير هم أكثر ضنّا، وأشد تقصيرا.. والمسكين الفقير، هو أشبه باليتيم، فى ضعفه، وقلة حيلته، وإطعامه- حين لا يجد الطعام- أولى من غيره! وفرق بين الفقير، والمسكين.. فقد يكون المسكين فقيرا، وقد يكون(16/1578)
الفقير غير مسكين.. والمسكين هو الذليل، المهين.. سواء أكان فقيرا أم غير فقير، ومن هنا لم يكن فى المؤمنين مسكين. إذ لا يجتمع الإيمان، وذلة المسكين ومهانته..
وعلى هذا يكون المسكين، هو الّذي، الذي يعيش فى دار الإسلام، ويكون من حقه على المسلمين إذا كان فقيرا أن تسدّ مفاقره، وأن يكون له نصيب من البر والإحسان. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... » أما الفقير على إطلاقه، فهو من كان من المؤمنين، ولا مال معه، وهذا الفقر لن يلبسه لباس المسكنة أبدا.. وكيف، وهو العزيز بإيمانه، القوى بالثقة فى ربه؟
وسميت هذه الأمور عقبة، لأن الذي يتخطاها، إنما يغالب نوازع نفسه، من الأثرة، وحب المال، وإنه ليس من السهل على الإنسان أن ينزع من نفسه الأنانية والأثرة، وحبّ المال، وإن ذلك ليحتاج إلى معاناة وجهاد ومغالبة، حتى يقهر المرء هذه القوى التي تحول بينه وبين البذل والسخاء..
وقوله تعالى:
«ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» ..
إشارة إلى أن هذه الأعمال المبرورة، لا ينزلها منازل القبول من الله إلا الإيمان بالله. فإذا فعلها المرء غير مؤمن بالله، وغير راغب فى ثوابه، طامع فى حسن المثوبة منه- لم يكن لها عند الله وزن.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (23: الفرقان) وقوله سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) .(16/1579)
وقوله تعالى: «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» - إشارة إلى أن الإيمان- مجرد الإيمان- لا يمكّن المرء من اقتحام هذه العقبة، وإن كان يدعو إلى اقتحامها، ويشدّ البصر نحوها.. إذ لا بد من أن يقوم مع الإيمان، دعوة موجّهة إلى الصبر، وإلى الرحمة، وأن يتزود المرء بزاد عتيد منها.
والتواصي بالصبر والمرحمة، هو إلحاح المرء على نفسه بالدعوة إليهما، والتمسك بهما، فإذا جزع فى مواجهة مال يخرج من يده، حمل نفسه على الصبر على ما تكره، واستدعى من مشاعره دواعى الحنان والرحمة.. فذلك مما يعينه على مغالبة أهوائه، وقهر شحّه وبخله.. ثم لا يقف المرء عند هذا، بل ينبغى أن يكون هو داعية إلى الصبر وإلى الرحمة، يبشر بهما فى الناس، ويدعو إليهما فى كل مجتمع، فذلك من شأنه أن يترك آثاره فيه، إلى جانب ما يتركه من إشاعة هذا المعروف بين الناس..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» ..
أي أن هؤلاء الذين آمنوا، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، وتخطوا هذه العقبة، ففكوا الرقاب، وأطعموا الجياع من الأيتام والمساكين- هؤلاء «أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» أي أصحاب اليمين، والفوز، والفلاح، وأنهم من أهل اليمين، الذين وعدهم الله جنات النعيم..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ» ..
أي والذين لم يؤمنوا بالله، ولم يقتحموا العقبة، سيأخذون الجانب الآخر(16/1580)
المقابل لأصحاب الميمنة، وهو جانب الشؤم، والبلاء.. حيث نار جهنم، يصلونها وبئس المصير..
قوله تعالى:
«عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» ..
أي هذا هو المساق الذي يساق إليه أصحاب المشئمة، حيث تشتمل عليهم النار، وتغلق عليهم أبوابها، فلا مهرب، ولا إفلات لهم منها..
(91) سورة الشمس
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «القدر» ..
عدد آياتها: خمس عشرة آية..
عدد كلماتها: أربع وخمسون كلمة..
عدد حروفها: مائتان وأربعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
أشارت سورة «البلد» إلى الإنسان، وإلى ما أودع الله سبحانه وتعالى فيه من قوى تميز بين الخير والشر، إذ يقول سبحانه: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» ..
وفى سورة «الشمس» بيان شارح للنجدين، إذ يقول سبحانه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» ثم أشارت الآيات بعد هذا إلى موقف الإنسان من هذين النجدين، إذ يقول جل شأنه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة.(16/1581)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 15) [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
التفسير:
قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحاها..)
هذه أقسام عدّتها أحد عشر قسما، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، مفتتحا السورة الكريمة.. الشمس، وضحى الشمس، والقمر، والنهار، والليل، والسماء، وبناؤها، والأرض، وبسطها. ثم النفس، وما ركّب فيها..
وفى هذه الأقسام نرى ستة منها متزاوجة، متقابلة.. فالشمس يقابلها القمر، والنهار يقابله الليل، والسماء تقابلها الأرض.. ثم نرى الشمس، والنهار، والسماء، يقابلها على التوالي: القمر، والليل، والأرض..(16/1582)
وإذ نبحث عن مقابل للنفس، لا نجد هذا المقابل، الذي يستدعيه سياق النظم فى ظاهره..
فإذا أمعنا النظر قليلا، نجد أن النفس تضمّ فى كيانها شيئين متقابلين، هما: الفجور والتقوى، أو إن شئت فقل، الشمس والقمر، أو النهار والليل، أو السماء والأرض..
ففى كيان النفس، نور وظلام، ونهار وليل، وعلوّ وسفل.
فإذا تعمقنا النظر، وجدنا الشمس تمثل العقل، والقمر يمثل الضمير، الذي تستضىء بصيرته من العقل، كما يستمد القمر نوره من الشمس.. وللعقل شروق وغروب. فإذا اتجه إلى الحق أسفر عن وجهه وكان نهارا مبصرا، يتحرك الإنسان فيه على هدى وبصيرة.. وإذا اتجه إلى الباطل غربت شمسه، وأطبق ليله، وعمّيت على صاحبه السبل، ودرست معالمها..
ثم إذا أخذ الإنسان طريق الحق اتجه صعدا نحو معالم النور، فكان أقرب إلى عالم السماء منه إلى عالم الأرض.. أما إذا ركب مركب الضلال، فإنه يهبط منحدرا حتى تغوص أقدامه فى التراب، وقد يتدلّى حتى يكون حشرة من حشرات الأرض، أو دودة من ديدانها..
وننظر فى أجزاء هذه الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية للإنسان من داخل نفسه كما تحدثت عنها آيات الكتاب الكريم..
«وَالشَّمْسِ وَضُحاها» ..
الواو هنا للقسم، وما بعدها من واوات هى حرف عطف، تعطف هذه الأقسام بعضها على بعض..(16/1583)
هكذا يكون الإنسان حين مولده.. إنه أشبه بالشمس فى إشراقه ووضاءته..
إنه الإنسان فى أحسن تقويم، كما خلقه الخالق جل وعلا، قبل أن تنعقد فى سمائه سحب الضلالات، وتهبّ عليه أعاصير الحياة محملة بالغثاء والتراب.
«وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها..»
هو الإنسان الذي خيمت عليه موروثات الآباء والأجداد فى بيئة الكفر والضلال، فلعبت بعقله، وحجبت شمس فكره، ثم بقي معه بعد ذلك شىء من شعاع العقل، يجده مندسّا فى ضميره، مختزنا فى فطرته.. فيقف فى مفترق الطريق بين الهدى والضلال، بين أن يرجع إلى عقله، ويحتكم إلى رأيه، أو ينساق مع هواه، ويتّبع ما كان عليه آباؤه «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها» ..
فإذا غلب الرأى على الهوى، وأخذ الإنسان طريق الحق، عاد إلى العقل سلطانه، وتجلت فى الإنسان آيات شمسة، فأضاءت كل شىء حوله..
«وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» ..
وأما إذا غلب الهوى على الرأى، وأخذ الإنسان طريق الباطل، فقد غربت شمس العقل، وعميت بصيرة الإنسان، واشتمل عليه ليل دامس، لا نجم فى سمائه ولا قمر..
«وَالسَّماءِ وَما بَناها» والإنسان الذي أمسك بعقله، واستجاب لسلطانه، هو- كما قلنا- إلى عالم(16/1584)
السماء أقرب منه إلى عالم الأرض.. إنه الإنسان الذي خلقه الله فى أحسن تقويم..
«وَالْأَرْضِ وَما طَحاها» هو الإنسان الذي زهد فى عقله، وأسلم زمامه لهواه، فكان بعضا من هذه الأرض..
إنه الإنسان الذي ردّه الله أسفل سافلين..
«وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» هى النفس الإنسانية على إطلاقها.. إنها مستعدة الهدى والضلال، فاردة قلاعها إلى جهتى الخير والشر.. هكذا صاغها الخالق جل وعلا، من النور والظلام، من نفحات السماء، ومن تراب الأرض. «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» أي آتاها الله سبحانه وتعالى القدرة على الاتجاه نحو اليمين أو الشمال، نحو الخير أو الشر، نحو الإيمان أو الكفر.. هكذا يرى الإنسان القدرة من نفسه على التحرك فى هذين الاتجاهين..
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .. هو الواقع عليه هذه الأقسام، فهو جوابها.. إن السعيد من الناس، من زكّى نفسه وطهرها فحلصها من تراب الأرض، وأطلق روحه من أسر المادة، فحلّقت به فى عالم الحق والنور.
وإن الشقي من دسّى نفسه، أي أخفاها، وغطّى عليها بكثافة المادة وظلامها، وعاش حبيسا داخل هذه القوقعة التي نسجها حول نفسه، لا يرى، ولا يسمع، ولا يتحرك.
و «ما» فى قوله تعالى: «وَالسَّماءِ (وَما) بَناها، وَالْأَرْضِ (وَما) طَحاها وَنَفْسٍ (وَما) سَوَّاها» م 100- التفسير القرآنى ج 30(16/1585)
هى «ما» المصدرية، أي والشمس، وبنائها، والأرض وبسطها، والنفس وتسوية خلقها..
فقوله تعالى: «وَما بَناها» أي وما بنى السماء، وأقامها من غير عمد..
وهو ما أودع الله سبحانه وتعالى فيها من قوى ممسكة بها، ضابطة لنظامها، حافظة لوجودها..
وقوله تعالى: «وَما طَحاها» أي وما طحا الأرض، أي بسطها، وأمسك بها أن تميد.. وهو النظام الذي يمسك كيانها ويحفظ وجودها..
وقوله تعالى: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» أي وما سوى خلقها، وأمدها بالقوى العالمة فيها..
فالقسم هنا، قسم بالشيء، والصفة التي قام عليها.. وهذا يعنى مزيدا من التشريف والتكريم للشىء المقسم به إذ كان فى ذاته أهلا للقسم، ثم كانت صفاته أهلا للقسم أيضا.
وقوله تعالى:
«كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» .
هو عرض للمواجهة الضالة التي اتجه إليها أهل الضلال، مؤثرين إياها على طريق الحق والهدى.. إنهم لم يزكّوا أنفسهم، ولم يرتفعوا بالجانب الطيب المشرق منها، بل آثروا جانب الفجور، وأفردوا قلوع سفينتهم فى اتجاه ريحه العاصفة.
«ثمود» ، هم قوم صالح عليه السلام، دعاهم نبيهم إلى الإيمان بالله فبهتوه، وكذبوه.. «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» (62: هود) وقد توعدهم نبيهم بالعذاب، وأنذرهم به، ووضع بين أيديهم آية من(16/1586)
آيات الله، هى الناقة، وجعل وقوع العذاب الذي أنذروا به رهنا بأن يتعرضوا لتلك الناقة بسوء: «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ، فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» (64- 65 هود) وقوله تعالى: «بطغواها» أي بسيب طغواها، أي بطغيانها، ومجاوزتها الحد فى العدوان على حرمات الله- كان تكذيبها برسول الله وبآيات الله..
وقوله تعالى:
«إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» أي ولقد بلغت ثمود غاية الطغيان والعدوان، حين «انبعث أشقاها» أي اندفع هذا الشقي من أبنائها فى جنون صارخ، نحو الناقة، يريد عقرها، فلم يقف فى طريقه أحد، ولم ينصح له ناصح، بل تركوه يمضى إلى حيث سوّلت له نفسه، عقر الناقة، فعقرها، فعمهم البلاء، جميعا، وكان صاحبهم هذا أشقى هؤلاء الأشقياء الذين تركوه، ولم يأخذوا على يده..
قوله تعالى:
«فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» أي حين رأى صالح ما يريد هذا الشقي بالناقة من سوء، حذّر القوم من أن يرتكبوا هذه الحماقة المهلكة.. فقال لهم: «ناقة الله» أي احذروا ناقة الله، وإياكم أن تمسوها بسوء، أو تعرضوا لها يوم شربها، وأن تمنعوها السّقيا فى يومها المرسوم لها..(16/1587)
وقوله تعالى:
«فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها» ..
أي أنهم لم يستمعوا نصح صالح لهم، ولم يصدقوا ما أنذرهم به، ولم يأخذوا على يد هذا الشقي، بل تركوه حتى عقر الناقة! وقوله تعالى: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ» أي أخذهم الله جميعا بالعذاب، فلم يبق منهم باقية بسبب هذا الجرم الغليظ الذي كان منهم..
والدمدمة: الإهلاك لجماعى، الذي لا يبقى ولا يذر..
وقوله تعالى: «فسواها» أي أطبق عليهم الأرض، فلم يبق لهم ولا لديارهم أثر عليها، بل سويت الدور بالأرض، كأن لم يكن عليها شىء..
والضمير وهو «ها» فى قوله تعالى «فسواها» يعود إلى الأرض، التي يشير إليها قوله تعالى: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ» لأن الدمدمة، أي التسوية مما يفعل بالأرض، لا بالناس.
وقوله تعالى:
«وَلا يَخافُ عُقْباها» ..
أي أن الله سبحانه فعل بهم ما فعل، واقتلعهم من الأرض اقتلاعا، دون أن يحول بينه وبين ما فعل بهم حائل، أو يحاسبه محاسب.. إنه فعل ذلك بعدله وقوته، وسلطانه، الذي لا معقب عليه..
وذكر الخوف هنا تمثيل، يراد منه الإشارة إلى هذا التدمير الشامل، المتمكن، فإن الذي يخاف عاقبة أمر لا تتسلط عليه يده تسلطا كاملا، بل يحول بينه وبين تصرفه المطلق فيه، خوف الحساب والجزاء، ممن يحاسبه ويجازيه..
وتعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا..(16/1588)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
(92) سورة الليل
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الأعلى» .
عدد آياتها: إحدى وعشرون آية.
عدد كلماتها: إحدى وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وعشرة أحرف
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الشمس» بهذا العذاب الذي أوقعه الله سبحانه بثمود، فغشيهم العذاب واشتمل عليهم، ولفّهم برداء أسود كئيب..
وبدئت سورة «الليل» بالقسم بالليل إذا يغشى، فكان ظلام هذا الليل كفنا آخر لثمود، يصحبهم فى قبورهم التي ابتلعنهم، ويقيم عليهم راية سوداء تحوّم عليهم، كما تحوّم الغربان على الجيف!! بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 21) [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)(16/1589)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» قسم بالليل حين يغشى ظلامه الكائنات، ويغطّى سواده وجه الأرض..
وبدء السورة بهذا القسم- كما قلنا- هو أشبه براية سوداء تحوّم على مواطن ثمود، التي دمدم الله عليها، كما تحوم الغربان على الرمم.. ثم إنه من جهة أخرى، يمثل الجانب الأعظم من جانبى الإنسانية، جانبى الكفر والإيمان، والضلال، والهدى، والظلام والنور.. فأغلب الناس على ضلال، وقليل منهم المهتدون، كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وفى التعبير بفعل المستقبل «يغشى» عن ظلام الليل- إشارة إلى أن الظلام عارض دخيل، يعرض للنور الذي هو أصل الوجود، كما يعرض الضلال للفطرة الإنسانية التي خلقها الله تعالى صافية لا شية فيها.(16/1590)
وقوله تعالى:
«وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» معطوف على قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» .. وهو قسم بالنهار إذا ظهر، وتجلّى على الوجود ضوءه..
وفى تقديم الليل على النهار، إشارة إلى هذا الظلام الذي كان منعقدا فى أفق الحياة الإنسانية حين كانت ثمود تتحرك بطغيانها على الأرض، فلما دمدم الله عليهم الأرض، ورمى فى أحشائها بهذا الظلام- عاد إلى الحياة صفاؤها، وطلع نهارها!! وقوله تعالى:
«وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» :
معطوف على قوله تعالى: «وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» و «ما» هنا مصدرية.. أي وخلق الذكر والأنثى، وما أودع الخالق فى كلّ منهما من آيات علمه، وحكمته، ورحمته..
والذكر والأنثى، هو مطلق كل ذكر، وكل أنثى، فى عالم المخلوقات..
والذكر والأنثى تتم دورة الحياة وتعاقب الأجيال، كما بالليل والنهار يتولد الزمن، وبتكاثر نسله من الليالى والأيام! وقوله تعالى:
«إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» هو جواب القسم، وهو المقسم عليه..
والسعى: العمل فى كل وجه من وجوه الحياة.. «وشتّى» أي شتيت مختلف الوجوه، متغاير الألوان.. فلكل إنسان وجهته التي هو مولّيها، وطريقه(16/1591)
الذي يسلكه، وهيهات أن يتطابق إنسان وإنسان تطابقا تاما، حتى ولو أخذا وجها واحدا، ودانا بدين واحد..
ففى الناس المؤمن والكافر، وفى الناس المنافق الذي يجمع بين الكفر ولإيمان.. والمؤمنون، درجات، ومنازل، والكافرون، أنماط وصور، والمنافقون وجوه وأشكال..
واختلاف سعى الناس، أمر بدهىّ، يراه كل إنسان: المؤمنون والكافرون، والمحسنون والمسيئون جميعا.. فكل ذى عينين يشهد أن الناس طرائق قدد، وإلّا لاجتمعوا على عقيدة واحدة، ومذهب واحد، واتجاه واحد، فيما يأخذون أو يدعون من أمور.. هذه بديهة لا تحتاج إلى توكيد- فلم جاءت الآيات القرآنية مؤكدة لها بهذا القسم؟
والجواب على هذا، هو أن التوكيد بالقسم وإن وقع على المقسم عليه، وهو اختلاف سعى الناس- إلا أن المنظور إليه هو ما وراء هذا الاختلاف فى المسعى، وهو أن هناك محسنين ومسيئين.. وهذا أمر يدعو العاقل إلى أن ينظر إلى نفسه وأن يفتش عن مكانه فى المحسنين أو المسيئين، إذ كل إنسان عند نفسه أنه محسن، وحتى المحسن حقيقة، يقدر أن إحسانه مطلق لا تقع منه إساءة، وهذا غير واقع، فالمحسن ليس سعيه كله قائما على ميزان الإحسان، بل إن سعيه مختلف، فيه الحسن، وفيه السيّء، فلا ينبغى أن يسوّى حساب أعماله بينه وبين نفسه على ميزان الإحسان دائما.. بل يجب أن ينظر فى كل عمل، ويعرضه على ميزان الحق، والعدل، والخير، فإن اطمأن إليه، ورضى عنه، أمضاء، وإلا عدل عنه.(16/1592)
قوله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» .
والناس فى عمومهم، يدخلون تحت وصفين عامّين: مؤمنون وكافرون، أو محسنون ومسيئون..
فأما من أعطى، أي أنفق فى سبيل الله، وفى وجوه الخير والإحسان، متّقيا بذلك ربّه، خائفا عذابه، طامعا فى ثوابه «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى» أي مؤمنا بما للعمل الطيب من قدر، معتقدا أنه العمل الأفضل والأحسن، لا أن يكون ما يصدر منه من أعمال الخير تلقائيا، وعفوا، لا تشده إليه إرادة صادقة، أو قصد محسوب حسابه، مقدرة آثاره.. وهذا يعنى أن الأعمال إنما تحكمها النيات الباعثة لها، الداعية إليها.. أما العمل الذي لا تنعقد عليه نية، ولا ينطلق من إرادة، فإنه سهم طائش، ورمية من غير رام.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله:
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرى ما نوى» ..
وفى إطلاق الفعل «أعطى» من قيد الشيء المعطى- إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن ما يعطى لا بد أن يكون شيئا طيبا نافعا لأن الإعطاء يقابله الأخذ، والإعطاء والأخذ لايتّمان إلا برغبة متبادلة بين المعطى والآخذ.. والآخذ لا يأخذ إلا ما ينفعه ويرضيه..
والأمر الآخر الذي يشير إليه إطلاق الفعل، هو أنه لا حدود للإعطاء، قلّة أو كثرة، كما يقول سبحانه: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» .. (91: التوبة) وقوله تعالى: «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» أي أن من أخذ طريق الحق، وشدّ عزمه عليه، وصرف همه نحوه، يسّر الله له طريقه، وأعانه على المضي فيه، لأنه طريق الله، ومن كان على طريق الله، لم يحرم عونه، وتوفيقه..(16/1593)
وقوله تعالى:
«وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» .
وعلى عكس هذا من يبخل بماله، ويضنّ ببذله فى سبيل الله، وفى وجوه الخير، ومن وراء هذا البخل تكذيب بالإحسان، وبخس لقدره، واعتقاد بعدم جدواه- من يفعل هذا، فهو على طريق الضلال، يرصده عليه شيطان يغريه ويغويه، ويدفع به دفعا على هذا الطريق.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى ييسّر لكل إنسان طريقه الذي يضع قدمه عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) أي من يشأ الله إضلاله، أخلى بينه وبين نفسه، على طريق الضلال، وقيض له شيطانا، فهو له قرين، ورفيق، على هذا الطريق كما يقول سبحانه: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (36: الزخرف) .. ومن يشأ الله هدايته أقام وجهه على طريق الهدى، وزوده بالزاد الطيب الذي يعينه على مواصلة السير فيه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له..»
والعسرى: ضد اليسرى.. وهى من العسر، والتعقيد، بخلاف اليسرى فإنها من اليسر والسهولة.. وسميت طريق الضلال «عسرى» لأنها طريق مظلم، لا معلم من معالم الهدى فيه، وإن صاحبه ليظل يخبط فى ظلام، ويتردّى فى معاثر حتى يرد مورد الهالكين.. أما طريق الهدى، فهى طريق واضحة المعالم، لا يضل سالكها أبدا.. «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (22: الملك)(16/1594)
وقوله تعالى:
«وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» أي أن الذي يخل بماله، وضمن بالإنفاق منه فى وجوه الخير، لن ينفعه هذا المال الذي أمسكه، ولن يجد منه عونا، إذا هو تردّى فى هاوية الجحيم!.
والتردي: الهوىّ والسقوط من عل.
وقوله تعالى:
«إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» أي إن علينا أن نبين للإنسان طريق الهدى، ونكشف له عنه، بما أودعنا فيه من عقل، وما بعثنا إليه من رسل، وما أنزلنا من كتب.. فهذه كلها أنوار كاشفة تكشف للإنسان عن وجه الحق والخير، وعن وجوه الضلال والشر..
ثم إن للإنسان أن يختار الطريق الذي يسلكه..
فالهدى، غير الهداية.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» ولو جاء هكذا: «إن علينا للهدآية» لكان على الله أن يهدى الناس جميعا، وأن يكون ذلك على سبيل القهر والإلزام، وهذا مالم يقع فى حكمة الله، ولم يكن من تدبيره سبحانه وتعالى.. بل جعل الله للإنسان كسبا يكسبه بإرادته، وعملا بعمله باختياره، حتى يحقق وجوده كإنسان، ويثبت ذاتيته كخليفة الله على الأرض.. وبهذا يستأهل الثواب والعقاب!، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (13: السجدة) .. وهذا لا يتعارض مع مالله سبحانه من مشيئة مطلقة غالبة.. ولكنّ مشيئة الله تدور فى فلكها مشيئة الإنسان، التي بها يقضى فى أموره، ويأخذ الطريق الذي يختاره ويرضاه.(16/1595)
فالإنسان- فيما يرى نفسه- مطلق المشيئة، وإن كان مقيدا، حرّ الإرادة، وإن كان مجبرا..
وقوله تعالى:
«وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى» ..
للمفسرون مجمعون على أن الآخرة، هى الحياة الآخرة، وأن الأولى هى الحياة الدنيا..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن الآخرة والأولى، هما اليسرى والعسرى، اللتان أشار إليهما سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة.. وفى ذلك إشارة إلى أن اختيار الإنسان لليسرى أو العسرى، وإن بدا أنه اختيار مطلق، هو مقيد بمشيئة الله، محكوم بإرادته، إذ كلّ مردّه إلى الله، فى واقع الأمر، وكلّ صائر إلى حكمه، وما قضى به فى عباده: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (29: التكوير) .. ربّ العالمين «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) ..
وقوله تعالى:
«فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» ..
وهذا مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» .. ومن هذا الهدى ما أنذر الله به عباده، على يد رسله، من عذاب أليم فى الآخرة، لمن رأى الضلال، وسلك مسالكه، ورأى الهدى، فحاد عنه، وصرف نفسه عن طريقه..(16/1596)
وقوله تعالى:
«وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى» ..
والسلامة من هذا البلاء، والنجاة من ذلك العذاب، إنما هى لمن اتقى الله، وخاف عذابه، وأنفق المال طالبا زكاة نفسه، وتطهيرها، مبتغيا بذلك وجه ربه الأعلى، المالك كلّ شىء، القائم على كل شىء، لا يريد بما أنفق جزاء ولا شكورا من أحد من عباد الله.. فمن فعل ذلك ابتغاء وجه الله، أرضاه لله وأقرّ عينه بما عمل.. إنه أرضى ربه، فكان حقّا على الله أن يرضيه..
وفى لفظ «الأشقى» و «الأتقى» ما يفيد المبالغة فى كل من الشّقوة والتقوى، وفى هذا ما يدعو الشقي إلى التخفف مما يزيد فى شقوته، حتى لا يزداد بذلك عذابه، كما يدعو التقىّ أن يزداد فى تقواه ما استطاع، حتى يزداد بذلك بعدا من النار، وقربا من الجنة..(16/1597)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
(93) سورة الضحى
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الفجر..
عدد آياتها: إحدى عشرة آية..
عدد كلماتها: أربعون كلمة..
عدد حروفها: مائة واثنان وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
أقسم سبحانه فى سورة «الليل» ، بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلى..
وبدأ بالقسم بالليل، ثم أعقبه بالقسم بالنهار..
وهنا يقسم الله سبحانه بالنهار أولا «والضحى» ثم بالليل ثانيا.. «ولليل إذا سجى» وبهذا يتوازن الليل والنهار، فيقدّم أحدهما فى موضع ويقدم الآخر فى موضع، ولكل من التقديم والتأخير فى الموضعين مناسبته.. وقد أشرنا من قبل إلى المناسبة فى تقديم الليل على النهار فى سورة الليل، وسترى هنا المناسبة فى تقديم النهار على الليل..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 11) [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)(16/1598)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» الضحى، أول النهار وشبابه، حيث تعلو الشمس على أفقها الشرقي، فتبسط ضوءها على الوجود..
«وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» .. سجا الليل، يسجو، سجوّا، وسجوّا، أي سكن، وهدأ، حيث تسكن فيه حركة الحياة، كما يسكن موج البحر، وينطوى صخبه وهديره، وهذا يعنى الدخول فى الليل إلى حدّ استوائه، كالدخول فى النهار إلى وقت الضحى، حيث يسفر وجه النهار على تمامه وكماله..
قيل إن هذه السورة نزلت بعد فترة انقطع فيها الوحى عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لقد اتخذ المشركون من ذلك مادة للسخرية من النبي، وأن ربّه- الذي يقول إنه يوحى إليه بما يحدثهم به- قد قلاه، أي هجره، كرها له وبغضا!! وفى القسم بالضحى، إشارة إلى مطلع شمس النبوة، وأن مطلعها لا يمكن أن يقف عند حد الضحى الذي بلغته فى مسيرتها، بل لا بد أن تبلغ مداها، وأن تتم دورتها.. فالشمس فى مسيرتها، لا يمسكها شىء إذا طلعت.
وفى القسم بالليل بعد الضحى، وإلى سجوّ هذا الليل وسكونه- إشارة أخرى إلى أن فترة انقطاع الوحى، ليست إلا فترة هدوء، واستجمام يجمع فيها النبي نفسه، ويلمّ فيها خواطره، بعد هذا النور الغامر الذي بهره، وهز أعماق نفسه.. وإن بعد هذا الليل الهادئ الوادع نهارا، مشرقا وضيئا.. فهكذا يجرى نظام السكون، على ما أقامه الصانع الحكيم.(16/1599)
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: «وليس فى نسق السورة ما يشير إلى أن المشركين أو غير هم بغرض من الخطاب.. ومن أين كان للمشركين أن يعلموا فترة الوحى، فيقولوا أو يطعنوا، ولكن ذلك كان شوق النبي- صلى الله عليه وسلم إلى مثل ما رأى وما فهم عن الله، وما ذاق من حلاوة الاتصال بوحيه.. وكل شوق يصحبه قلق، وكل قلق يشوبه خوف» ..
وهذا ما نقول به، ونرضى عنه.. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل، لم لا يداوم الاتصال به ويكثر من الوحى إليه، فنزل قوله تعالى:
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ..» (64: مريم) وقوله تعالى: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» هو المقسم عليه، وهو أن الله سبحانه لم يودع النبي، وداعا لا لقاء بعده، بل إن الله معه، فى كل لحظة من لحظات حياته، ومع كل نفس من أنفاس صدره.
وأن انقطاع الوحى فى تلك الفترة لم يكن عن قلى وهجر من الله سبحانه وتعالى له، فهو الحبيب إلى ربه، المجتبى إليه من خلقه..
وفى توكيد الخبر بالقسم، مزيد من فضل الله ورحمته، للنبى الكريم، ورفع لمنزلة النبىّ عند ربّه، حتى لينزل منزلة الحبيب من حبيبه.
وقوله تعالى:
. «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» الآخرة، خاتمة أمر النبي مع النبوة، والأولى، مبدأ أمره معها..
أي أن آخرة أمر النبي مع رسالته، خير من أولها.. فإذا بدأت رسالته بهذا العناء المتصل، الذي واجهه من عناد قومه، ومن تأتيهم عليه، وتكذيبهم له، وملا حقته هو والمؤمنون معه بالأذى، والضر، وبالحرب والقتال- فإن خاتمة هذه الرسالة ستكون نصرا مؤزّرا له، وفتحا عظيما الدعوة، وخزيا وإذ لا لا للضالين المعاندين..(16/1600)
قوله تعالى:
«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» أي ولسوف يلقاك ربك بالعطايا والمنن، حتى تقر عينك، وينشرح صدرك، وذلك بما ينزل عليك من آيات ربك، وبما يحقق لدعوتك من نصر وتمكين.
وقوله تعالى:
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» هذا من بعض ما أعطى الله النبي، فيما مضى، ولسوف يعطيه أكثر وأكثر فيما يستقبل من الحياة..
فإذا نظر النبي إلى نفسه، من مولده إلى يومه هذا الذي لقيته فيه تلك الآيات- وجد أنه ولد يتيما، فكفله الله، وأنزله من جده عبد المطلب، وعمه أبى طالب، منزلة أعز الأبناء وأحبهم إلى آبائهم.. ثم إذا نظر مرة ثانية إلى شبابه، وجد أنه كان قلق النفس، منزعج الضمير، مما كان يرى من الحياة الضالة التي يعيش فيها قومه، ولم يكن يدرى كيف يجد لنفسه سكنا، ولقلبه اطمئنانا وسط هذا الجوّ الخانق، فهداه الله إلى الخلوة إلى نفسه فى غار حراء، والابتعاد عن قومه، والانقطاع إلى ربه متحنّثا متعبدا، متأملا متفكرا.. وقد ظل هذا شأنه إلى أن جاءه وحي السماء، فسكب السكينة فى قلبه، والطمأنينة فى نفسه.. إنه صلوات الله وسلامه عليه، كان يرى أن ما عليه قومه ليس مما يدين به عاقل، أو تستقيم به حياة العقلاء، ولم يكن يدرى- صلوات الله وسلامه عليه- كيف م 101 التفسير القرآنى ج 30(16/1601)
يغير من مسيرتهم الضالة، ولا كيف يقيم هو نفسه هو على شريعة يبشّر بها فى الناس، كما يقول سبحانه: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ..» (52: الشورى) ثم إذا أعاد النبي النظر إلى نفسه مرة ثالثة، وجد أنه كان فقيرا عائلا، أي كثير العيال، فأغناه الله، وسدّ حاجة عياله، من مال زوجه، وأم أبنائه، السيدة خديجة رضى الله عنها.. وفى هذا ما يشير إلى فضل السيدة خديجة، وإلى أنها نعمة من نعم الله على النبي.. هذا كله يراه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من نفسه، ماضيا، وحاضرا..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» ..
هو تعقيب على هذا الإحسان الذي أفاضه الله وما سيفيضه على نبيه، وأن من حق هذا الإحسان أن يقابل بالحمد والشكران لله رب العالمين.. وقد صرف الله سبحانه وتعالى هذا الحمد، وذلك الشكران إلى الضعفاء، والمحتاجين من عباده، فيكون حمده وشكره، بالإحسان إليهم، والرعاية لهم.. فلا نهر لليتيم، ولا كسر لخاطره، ولا ترك لمرارة اليتم تنعقد فى فمه.. وإن أولى الناس برعاية اليتيم، وجبر خاطره، من عرف اليتم، ثم كفله الله.. وإنه لا نهر أي لا زجر للسائل، وهو من يقف موقف من يسأل، عما هو محتاج إليه، من طعام يسد به جوعه، أو علم يغذى به عقله، أو هدى يعرف به طريق الخلاص لروحه..
فإن السائل ضعيف أمام المسئول، ومن حقه على القوى أن يتلطف معه،(16/1602)
ويرفق به.. إنه أشبه بالضالّ الذي لا يعرف الطريق، والمسئول هو موضع أمله، ومعقد رجائه، فى أن يخرجه من هذا الضلال، وأن يقيمه على الطريق المستقيم..
وأولى الناس بهذا من عرف الحيرة، ونشد وجه الهداية، فأصابها وقدرها قدرها..
وقوله تعالى:
«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» .
نعمة الله هنا، هو القرآن الكريم، وهو من أجلّ وأعظم ما أنعم الله به على النبي، وهو نعمة عامة شاملة، وإنه لمطلوب من النبي أن ينفق منها على الناس، وأن يسعهم جميعا فيها..
فهى نعمة سابغة، لا تنفد على الإنفاق. فليحدّث النبي الناس بها، وليكثر من هذا التحديث بها، والإنفاق منها: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» (9: الأعلى) .. «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» (45: ق) .. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» (21: الغاشية) .. فهذا التحديث بالقرآن، هو التذكير به، وفى التذكير به هدى ورحمة للناس، حيث يجدون فى آياته شفاء الصدور، وجلاء البصائر، وروح النفوس.(16/1603)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
(94) سورة الشرح
وتسمى سورة الانشراح نزولها: نزلت بمكة بعد سورة «الضحى» عدد آياتها: ثمان آيات عدد كلماتها: ست وعشرون كلمة.
عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة متمة لسورة «الضحى» قبلها، فكلتاهما عرض لما أنعم الله به على النبي، وتذكير له بهذه النعم، وتوجيه له إلى ما ينبغى أن يؤديه لها من حقّ عليه.. وهكذا شأن كل نعمة ينعم الله بها على الإنسان، لا تتم إلا بالشكر للمنعم، وبالإنفاق منها على كل ذى حاجة إليها.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)(16/1604)
التفسير:
«أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» الاستفهام هنا تقريرى، يفيد توكيد الخبر الواقع عليه الاستفهام.. فهو خبر، ولذلك عطف عليه الخبر وهو قوله تعالى بعد ذلك: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» .. أي «شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك» وشرح الصدر، هو إخلاؤه من وساوس الحيرة والقلق، وإجلاء خواطر الهمّ، والغم التي تعشش فيه.. وبهذا يتسع لبلابل الفرح والبهجة أن تصدح فى جنباته، وأن تغرد على أفنانه..
وإنه ليس كالهمّ قبضا للصدور، وخنقا للأنفاس، وإظلاما للمشاعر، وتجميدا للعواطف..
إن المهموم المكروب، مكظوم الصدر، مبهور الأنفاس.. على عكس الخلىّ من الهموم، المعافى من الآلام.. إن صدره منبسط يستقبل أنسام الحياة فيرتوى بها، وينتعش بأندائها العطرة، ثم يحسو منها كما يحسو الطير من جداول الربيع، تسيل من عيون الجبال! هذا هو ما نفهم من قوله تعالى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» أما ما يروى من أخبار شرح صدر الرسول الكريم، بما يشبه العملية الجراحية، على يد ملكين كريمين يقال إن الله سبحانه بعثهما لهذه المهمة، فشقّا صدر النبي، وفتحا قلبه، وغسلاه، وملآه حكمة وعلما، فهذا مما ينبغى مجاوزته، وعدم الوقوف طويلا عنده، إذ ليس هذا القلب الصنوبري من اللحم والدم، هو مستودع العلم والحكمة، وعلى فرض أنه هو مستودع العلم والحكمة، فإنه ما كانت قدرة الله تعالى بالتي تعالج هذا الأمر مع النبي على هذا الأسلوب(16/1605)
الذي توصل العلم الحديث إلى ما هو خير منه.. ولا ندرى كيف تحمل كتب التفسير والحديث مثل هذه الأخبار، التي إذا وزنت بميزان العقل لم يكن لها وزن فى معابير الحقيقة والواقع، الأمر الذي إذا وقف عليه غير الراسخين فى العلم، أشاع الشك عندهم فى حقائق هذا الدين كلها، وغطى دخان مثل هذه المقولات الساذجة الملفقة على حقائقه، وحجب الرؤية الصحيحة عن كثير من الأبصار!! إن الأمر يحتاج إلى نظرة فاحصة من علماء المسلمين جميعا، وإلى كلمة سواء بينهم فى هذه المرويات المتهافتة، التي تضاف إلى الصفوة المختارة من صحابة رسول الله، والذين اتخذ الوضّاع والمنافقون من مكانتهم فى نفوس المسلمين، مدخلا يدخلون به عليهم، ويروّجون عندهم هذا الزور من القول، معزوّا إلى كبار صحابة رسول الله، وإلى أعلام الإسلام، ومصابيح هداه!! وفى القرآن الكريم أكثر من آية تدل على أن شرح الصدر، هو تفتّحه للحياة، وإقباله على معالجة أمورها، فى رضا، وشوق، وإقبال.. وفى هذا يقول الله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» (22: الزمر) ويقول سبحانه: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) وعلى لسان موسى عليه السلام، يقول الله تعالى: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» (25- 27: طه) وشرح الصدر فى هذه المواضع كلها، هو بمعنى استجابته للخير الذي يدعى إليه، وتقبله له، واتساعه للكثير منه.. وضيقه، هو عدم تقبله للخير، واختناقه به، كما يختنق الصدر بالروائح الخبيثة المنكرة! فلم إذن يكون شرح الله سبحانه وتعالى لصدر رسول الله على هذه الصورة التي تشبه الملهاة، أو المأساة؟(16/1606)
وأكثر من هذا، فإن قوله تعالى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» يقابله فى آية أخرى قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» (97: الحجر) فهل كان ضيق الصدر بعملية جراحية كعملية شرحه؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! وعلى أىّ، فإنه إذا صحت هذه المرويات عن شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغى ألا تحمل على محاملها المادية الظاهرة، بل ينبغى أن يلتمس لها وجه من التأويل تقبل عليه.
وقوله تعالى:
«وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ.»
الوزر: الحمل الثقيل، من الهموم، ونحوها..
ونقض الظهر: هو نوءه بالحمل الثقيل، وانحناؤه تحته..
وهنا سؤال: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل أثقالا على ظهره، أم أنها أثقال المعاناة النفسية التي كان يعانيها من عناد قومه، وخلافهم عليه؟
وإذا كان الله سبحانه، قد شرح صدر النبي هذا الشرح المادي الذي شق به صدره، وفتح به قلبه- فهل فعل سبحانه مثل هذا بظهره، فشدّ أعصابه، وقوّى فقاره؟ أليس هذا من ذاك؟
وقوله تعالى:
«وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» أي أجرينا ذكرك الحسن على الألسنة، وجعلنا لك ذكرا عاليا باقيا على الزمن.. فما آمن مؤمن بالله إلا جعل الإيمان بنبوّتك من تمام إيمانه بالله، وإنه لا يؤمن بالله من لم يؤمن بأنك رسول الله، يقرن ذكرك بذكر الله.(16/1607)
فأىّ ذكر أعظم من هذا الذكر؟ وأي قدر مثل هذا القدر لبشر غيرك؟
وإنا إذ ننظر فى قوله تعالى فى سورة: «الضحى» :
«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى؟ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى؟» ثم ننظر فى قوله تعالى فى سورة «الانشراح» :
«أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ؟» :
إذ ننظر فى هذه الآيات وتلك معا، نجد تطابقا فى المعنى، وتقريرا له..
فهذا اليتيم الفقير، يؤويه الله سبحانه، ويرفع ذكره فى العالمين، ويجرى الحديث الطيب عنه على كل لسان، أبد الدهر..
والعهد باليتم والفقر، أن يقيما الإنسان فى أدنى درجة فى سلم المجتمع الإنسانى، حيث يلّفه الخمول والضياع، من مولده إلى مماته..
وهذا الضال الذي استبدّت به الحيرة، ورهقه البحث عن طريق الخلاص والنجاة، قد هداه الله، وجعله مصباح هدى للعالمين، فوضع بذلك عن كاهله هذا العبء الثقيل الذي كان ينوء به، من حيرته فى أمره وأمر الظلام المنعقد على قومه.. والعهد بالحائرين أن تعلق بهم الحيرة، وأن تترك بصماتها الواضحة عليهم، حتى بعد شفائهم مما كان قد ألمّ بهم من حيرة وقلق.
وهذا الفقير المعيل، وكان حسبه أن يجد الغنى الذي يسد مفاقره، ويشبع جوعه وجوع عياله- قد أغناه الله، وكفل له ولعياله لقمة العيش.. ثم لم يقف غناه عند هذا، بل شرح الله صدره، وأودع فيه مالا تتسع له كنوز الدنيا كلها، بما نزل عليه من آيات ربه، وبما أراه ربه من مقامه عنده، وبما بارك عليه فى أسرته التي تضم كل مسلم ومسلمة فى مشارق الأرض ومغاربها، يمدّها على(16/1608)
الزمن بهذا الغذاء الذي لا ينفد أبد الدهر، من ثمرات الإيمان، وزاد التقوى..
فأى شرح للصدر، وأي غبطة ورضا ومسرة تعمر جوانبه، أكثر من هذا وأعظم، وأبقى؟
قوله تعالى:
«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
العسر: الضيق، والشدة.. واليسر: السعة والرخاء..
وهكذا كان تدبير الله سبحانه وتعالى مع النبي الكريم، بدأ أمره بالعسر والضيق، ثم كانت عاقبة أمره إلى اليسر والسعة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» ، وإنما الأمور بخواتيمها.. فما أجمل العافية بعد المرض، وما أطيب الصحة بعد الاعتلال، وما أهنأ الشبع بعد الجوع، والرىّ بعد الظمأ!! وهكذا فى كل ما يسوء ويسر.. إذا جاءت المسرة بعد السوء، عظم وقعها، وجمل أثرها، وعفّى على كل أثر للمساءة والمضرة:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا!
وعكس هذا صحيح.. فإنه ما أثقل المرض بعد العافية، والاعتلال بعد الصحة، وما أقسى الجوع بعد الشبع، والظمأ بعد الري.. وهكذا فى كل مساءة تعقب المسرة، حيث يذهب بها كل شىء كان جميلا طيبا، ثم لا يبقى إلا وجهها الكريه البغيض، يؤلم، وبورق، ويعضنى..
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فالذين يمشون فى أول حياتهم على الشوك، ويغسلون أجسادهم بعرق الكفاح والصبر، يجنون أطيب الثمرات، ويضعون أقدامهم على مواقع العزة والمجادة،(16/1609)
ويتحلّون بحلل الكرامة والفخار.. أما الذين يستقبلون الحياة مستنيمين فى ظلها، متجنبين الخواض فى غمراتها، متخففين من حمل أعبائها وأثقالها، فهيهات أن تسلمهم الحياة آخر الأمر إلى غير المهانة والضياع..
تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل!
وهكذا الشأن فيما بين الدنيا والآخرة.. فمن حمل نفسه على المكروه فى الدنيا، نزل منازل النعيم والرضوان فى الآخرة.. ومن وضع فمه فى ثدى الدنيا يرضع منها حتى يضع قدمه على طريق الآخرة- انقطع به مورد فطامه هناك، وكان من الهالكين..
وفى تكرار الآية، بدون حرف عطف، توكيد للخبر الذي ساقته، وتقرير للحكم الذي قضت به.. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
يقول المفسّرون والبلاغيّون: إن المعرفة إذا كررت كانت هى هى، وأن النكرة إذا كررت كان اللفظ الثاني غير الأول.. وهنا يقولون: إن كلمة «العسر» - وهى معرفة- هى عسر واحد بعينه فى الموضعين، وأما كلمة «يسر» - وهى نكرة- فإنها يسر بعينه فى كل موضع، ومن هنا قالوا «لن يغلب عسر يسرين» - يعنون بذلك أن العسر دائما يواجهه يسران، وأنهما لا بد أن يقهراه ويغلباه، ويأتون على هذا بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يغلب عسر يسرين» .
هذا وجه يراه العلماء فى هذا التكرار..
ووجه آخر، نراه نحن- والله أعلم- وهو هذه المعيّة «مع» ، التي تحمل مع كل عسر يسرا مصاحبا له، مندسّا فى كيانه.. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» - أي إن العسر- أىّ عسر- لا يلقى الإنسان إلا ومن محامله اليسر، الذي يعمل على مقاومته، ومصارعته حتى يقهره آخر الأمر، ويتركه صريعا، ليأخذ اليسر(16/1610)
مكانه، متمكنا، لا ينازعه عسر! هكذا الشدائد تتولّد منها دائما مواليد الخير، وتستنبت فى أرضها أطيب الثمرات، وأكرمها، وأهنؤها..
وهناك سؤال: إذا كان مع العسر يسر، فهل العكس صحيح، وهو أن يكون مع اليسر عسر؟
وكلا.. فإن العسر رحمة من رحمة الله.. إنه من موارد الحق، والخير..
وما كان كذلك كان صفوا من كل كدر، خالصا من كل سوء.. فاليسر لا يحمل فى كيانه أبدا شيئا ما يكدره.. إنه من العالم العلوي، أشبه بماء المطر، لا يخالطه شىء من الملح.. أما العسر فهو أشبه بالماء الملح، يحمل فى كيانه الماء العذب..
اليسر جوهر، والعسر عرض! ومن هنا نجد مع كل عسر يسرا، ولا نجد مع كل يسر عسرا.. ومن هنا أيضا بلد العسر يسرا، ولا يلد اليسر إلا يسرا.
ومفهوم العسر واليسر هنا، هو المفهوم العالم المطلق لهما، لا المفهوم الذي يوزن بميزان شخصى، ويقوم على اعتبار فردى.. وهذا المفهوم المطلق- للعسر واليسر- إذا أمعنا النظر فيه، نجد أنه لا عسر أصلا، وأنه لا يدخل فى نظام الوجود العام، الذي ينتظم الموجودات كلها، ويجعل منها جميعا نغما متسق الألحان.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. (3: الملك) وقوله تعالى:
«فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» أي أنه إذا كان من شأن العسر أن يصحبه يسر، ومن شأن النّصب والتعب أن تعقبمها الراحة والرضا، فجدير بك أيها النبي- كما هو جدير بكل إنسان-(16/1611)
أنك إذا فرغت من أي موقع من مواقع الكفاح، والجهاد، فلا تركن إلى الراحة، بل افتح جبهة جديدة للكفاح والجهاد، فإنه بقدر ما يمتد بك هذا الطريق الشاق العسر، بقدر ما تحصل من خير، وبقدر ما تبلغ من علو شأن ورفعة قدر..
وقوله تعالى: «وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ» - إشارة إلى أن هذا الجهاد والكفاح، وما تحتمل فيه النفس من نصب وتعب- إنما يعطى هذا الثمر الطيب، إذا كان متجهه إلى الله، وكانت غايته مرضاة الله، والرغبة فيما عنده..
أما النصب والتعب فيما لا يراد به وجه الله، والدار الآخرة، فهو عناء، وبلاء.
إن النصب والتعب فى مغارس الحق والخير، يزكو نباته، ويطيب ثمره، ويكثر خيره، وأما النصب والتعب فى أودية التيه والضلال، فذلك ما لا ينبت- إن كان له نبات- إلا الشوك والحسك.
(95) سورة التين
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «البروج» .
عدد آياتها: ثمانى آيات.
عدد كلماتها: أربع وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الانشراح» بالدعوة إلى الكد والنصب، فى الحياة الدنيا، ليبنى الإنسان بذلك دار مقامه فى الآخرة، ويعمرها بما يساق إليه فيها من نعيم الله ورضوانه.(16/1612)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
وبدئت سورة «التين» بهذه الأقسام من الله سبحانه وتعالى، لتقرير حقيقة الإنسان وتذكيره بوجوده، وأن الله سبحانه خلقه فى أحسن تقويم، وأودع فيه القوى التي تمكّن له من الاحتفاظ بهذه الصورة الكريمة، وأن يبلغ أعلى المنازل عند الله، ولكن ميل الإنسان إلى حب العاجلة، قد أغراه باقتطاف الذات الدانية له من دنياه، دون أن يلتفت إلى الآخرة، أو يعمل لها، فردّ إلى أسفل سافلين.. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر أنفسهم، فعلوا بها عن هذا الأفق الضيق، ونظروا إلى ماوراء هذه الدنيا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» اختلف فى معنى التين والزيتون، وكثرت مقولات المفسرين فيهما، ويرون عن ابن عباس أنه قال فيها: «هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم(16/1613)
الذي تعصرون منه الزيت، قال تعالى: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» (40: المؤمنون) .
ويروى عن أبى ذرّ أنه أهدى إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم سل من تين، فقال: «كلوا» وأكل منه، ثم قال: «لو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم «1» ، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النّقرس» .. وقيل التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى، وقيل: هما جبلان بالشام.. وقيل كثير غير هذا.
ويرجّح القرطبي أنهما التين والزيتون على الحقيقة، وقال: «لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل» !.
ولكن إذا أخذنا بالقول بأن التين والزيتون هما هاتان الثمرتان- لا نجد جامعة بين التين والزيتون، وبين طور سينين والبلد الأمين.. وعادة القرآن أنه لا يجمع بين الأقسام إلا إذا كانت بينها علاقة تشابه أو تضادّ، وهنا لا نجد علاقة واضحة بين هاتين الفاكهتين، وبين طور سينين والبلد الأمين، اللهم إلا إذا قلنا: إن طور سيناء ينبت فيه التين والزيتون، ويطيب ثمره، فتكون العلاقة بينهما علاقة نسبة إلى المكان، ويقوّى هذه النسبة أن القرآن الكريم أشار فى موضع آخر إلى منبت شجرة الزيتون، وأن طور سيناء هو أطيب منبت لها، إذ يقول سبحانه: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» . (20: المؤمنون) وقيل: إن التين والزيتون فاكهتان، ولكن لم يقسم بهما هنا لفوائدهما، بل لما يذكّران به من الحوادث العظيمة التي لها آثارها الباقية
__________
(1) أي بلا نوى
.(16/1614)
وذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يذكّرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل، من أول نشأته إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
فالتين، إشارة إلى عهد الإنسان الأول، فإن آدم- كما تقول التوراة- كان يستظل فى الجنة بشجر التين، وعند ما بدت له ولزوجه سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين.. فهذا أول فصل من فصول حياة الإنسان..
والزيتون، إشارة إلى الفصل الثاني، وهو عهد نوح، وذلك أنه بعد أن فسد البشر، وأهلك الله من أهلك بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه فى السفينة، واستقرت السفينة على اليابسة- نظر نوح- كما تقول التوراة- إلى ما حوله، فرأى الحياة لا تزال تغطى وجه الأرض، فأرسل حمامة تأتى له بدليل على انحسار المياه عن وجه الأرض، فجاءت إليه وفى فمها وريقات من شجر الزيتون، فعرف أن المياه بدأت تظهر على وجه الأرض من جديد! أما طور سينين، فهو إشارة إلى الفصل الثالث من حياة الإنسان، وهو ظهور الشريعة الموسوية، وقد كانت تلك الشريعة دعوة لكثير من أنبياء الله ورسوله إلى عهد المسيح عليه السلام، الذي كان خاتمة هذه الشريعة.
وأما البلد الأمين- وهو مكة- فقد كان مطلع الرسالة الخاتمة لما شرع الله للناس، وبها يختم الفصل الأخير من حياة الإنسان على هذه الأرض..
وهذه كلها أقوال متقاربة، يمكن أن يؤخذ بأيّ منها، أو بها جميعها.
[مسيرة الإنسان.. إلى أمام، أم وراء؟] وقوله تعالى:
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ(16/1615)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» .
هو جواب القسم، وهو المقسم عليه، لتوكيده، وتقريره بالقسم.
وفى توكيد هذا الخبر، وهو خلق الإنسان فى أحسن تقويم- إشارة إلى كثير ممن تشهد عليهم أفعالهم بأنهم ينكرون خلقهم القويم هذا، ولا يعرفون قدره فينزلون إلى مرتبة الحيوان، ويسلمون قياد وجودهم إلى شهواتهم البهيمية، غير ملتفتين إلى ما أودع الخالق فيهم من عقل حمل أمانة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فضيع الإنسان هذه الأمانة، ولا كها فى فمه كما تلوك البهيمة العشب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» .. فلقد ردّ الإنسان بهذه الغفلة عن وجوده الحقيقي، إلى الوراء، منكّسا فى خلقه، حتى بلغ أدنى مراتب الحيوانية، وصار وراء الحيوان الأعجم الذي تسيره طبيعته التي ركبت فيه، على خلاف هذا الإنسان الذي غيّر فطرته، وانتقل من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان، فلم يصبح حيوانا، ولم يعد إنسانا! يقول الأستاذ الإمام محمد عبده عن الإنسان وخلقه فى أحسن تقويم، ورده إلى أسفل سافلين: «وما أشبهه- أي الإنسان- فى حاله الأولى- بثمرة التين، تؤكل كلها، لا يرمى منها شىء.. والإنسان- أي فى حاله الأولى- كان صلاحا كله، لم يشذّ عن الجماعة منه فرد، تلك كانت أيام القناعة بما تيسر له من العيش، وشدة الإحساس بحاجة كل فرد إلى الآخر فى تحصيله، وفى دفع العوادي عن النفس.. تنّبهت الشهوات بعد ذلك وتخالفت الرغبات، فنبت الحسد والحقد، وتبعه التقاطع، واستشرى الفساد بالأنفس، حتى صارت الأمانة عند بعض الحيوان، أفضل منها عند الإنسان، فانحطت بذلك نفسه عن مقامها الذي كان لها بمقتضى الفطرة، وقد كان ذلك- ولا يزال- حال أكثر(16/1616)
الناس. فهذا قوله: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» ! ونظرة الأستاذ الإمام هنا، قائمة على أن الإنسان فى حال التذاجة والبدائية كان خيرا منه فى حال الحضارة والمدينة، أو بمعنى آخر، أنه كان فى حياة الغابة بين الحيوان، لا يتكلف لحياته أكثر ممّا يتكلّف الحيوان، حيث يأكل مما يأكل الحيوان، ويسكن فى كهوف، وأجحار كما يسكن الحيوان- كان فى هذه الحياة خيرا منه فى حياة المدن، وما ولّد له عقله فيها من قوّى سخّر بها الطبيعة، واستخرج منها كنوزها المودعة فى كيانها، وأمسك بمفاتح أسرارها، فاستضاء بالكهرباء، واتخذ الهواء مركبا له، بل وصعّد فى السماء حتى وضع قدميه على القمر، وهو بسبيل أن يضع أقدامه على الكواكب الأخرى!! ولو صحّ هذا الذي يقوله الأستاذ الإمام، لكان معناه أن الحياة الإنسانية تسير إلى الوراء، وهذا ما لا تسير عليه الحياة، ولا ما تقتضيه سنّة التطور فى الكائن الحىّ نفسه.. فالإنسان بدأ من طين، ثم صار خلقا سويّا، فى أطوار ينتقل فيها من أسفل إلى أعلى.. من التراب، ثم النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة.. ثم.. ثم.. إلى أن يكون طفلا، ثم غلاما، ثم شابّا، ثم رجلا.. كذلك الشأن فى عالم النبات.. البذرة، ثم النّبتة، ثم الشجرة، ثم الدّوحة العظيمة.. وهكذا.. حتى فى عالم الجماد.
وإنه لأولى من هذا أن تكون هذه النظرة مقصورة على الأفراد فى أنواعها، لا على الأنواع فى أفرادها، بمعنى أن الأفراد تدور فى فلك محدود يكون لها فيه شروق وغروب، وصعود وهبوط، وازدهار وذبول، ونضج وعطب.. أما الأنواع- مع ما يقع فى أفرادها من تحول وتبدّل- فهى سائرة إلى الأمام أبدا، متطورة إلى ما هو أحسن وأكمل.. وشاهد (م 102- التفسير القرآنى ج 30)(16/1617)
هذا الشرائع السماوية نفسها، فما كملت شريعة السماء إلا فى الشريعة الإسلامية، التي التقت مع الإنسان بعد هذه الدورات الطويلة الممتدة من مسيرة الحياة الإنسانية- فهذا هو معيار الإنسان، ووزنه الذي يوزن به! ودورة الإنسان هذه على هذه الأرض هى دورة جزيئة فى فلك الوجود، إذا غربت شمسه على هذه الأرض، طلعت من جديد فى عالم آخر، هو عالم الخلود!.
أما قوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» - فهذا حكم على الإنسان فى أفراده، لا فى نوعه، فالإنسان- كفرد- يولد- فى أىّ زمن من أزمان الحياة الإنسانية «فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» بما أودع الخالق فيه من عقل مبصر، وفطرة سليمة، ثم إن كثيرا من الناس يطفئون نور عقولهم بأيديهم، ويغتالون فطرتهم بشهواتهم، فيفسدون وجودهم الإنسانىّ ويردّون إلى عالم الحيوان، وقليل منهم يحتفظون بوجودهم الإنسانىّ- عقلا وفطرة- فيكونون شاهدا قائما على أن الإنسان- فى كل زمن هو خليفة الله فى هذه الأرض، وهو سيّد ما عليها من مخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» .. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الإنسان، وهؤلاء هم الإنسان الذي يتناول من ربّه أجره الإنسان كاملا فى الدنيا والآخرة، وإنه لأجر يتكافأ مع هذا الخلق العظيم الذي خلق عليه فى أحسن تقويم، لا يناله غيره من عالم الأحياء.. إنه أجر مقدّر بقدره محسوب بشرف خلقه.. أما من نزلوا عن هذا القدر وتخلّوا عن هذا الشرف، فلهم الأجر الذي هم أهله: «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» وهل للأنعام إلا أن تسمّن، وتذبح، ثم تكون وقودا للبطون الجائعة؟.
إن الوجود فى تطور، وفى نماء، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى:(16/1618)
«يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» .. (1: فاطر) .. وإن نظرة فى تاريخ الإنسانية لترينا أن الإنسان فى أول ظهوره على هذا الكوكب الأرضى، كان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، يسكن الغابات والكهوف، ويعيش عاريا أو شبه عار، لا يستره إلا ورق الشجر أو نحوه، كما لا تزال شواهد من هذا قائمة فى البيئات المتخلّفة، كما فى الزنوج، والهنود الحمر..
فهذا الإنسان البدائى كان- ولا يزال- محكوما يغرائزه الحيوانية..
أما هذا الإنسان الذي شهد عهد النبوّات، فهو وليد حياة متطورة، قطع الإنسان مسيرتها فى مئات الألوف من السنين، حتى أصبح أهلا لأن يخاطب من السماء، وأن تناط به التكاليف الشرعية، وأن يكون محلّا للحساب، والثواب، والعقاب.
والنظرة التي ينظر بها إلى الإنسان على أن أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده، وأنه سائر فى طريق يتدلّى به سلّما سلّما من السماء إلى الأرض- هذه النظرة خاطئة من وجوه:
فأولا: أنها نظرة محصورة فى الوجود الذاتي للإنسان.. فالإنسان فى نظرته إلى نفسه يرى أن واقعه الذي يعيش فيه، غير محقّق لرضاه عنه، أيّا كان هذا الوجود، وأيّا كان حظّه مما لم يظفر به غيره.. إنه يتطلع دائما إلى ما هو أفضل..
وثانيا: وتأسيسا على هذا، أن عدم رضا الإنسان عن واقعه، وتطلعه إلى المستقبل الذي لا يجد فيه ما يرضيه- هذا التطلع- يشرف به على عالم مجهول، لا يدرى ما سيطلع عليه منه، فلا يجد إلا الماضي الذي يعيش فى ذكرياته، وإنه حين ينظر إلى هذا الماضي لا يذكر منه إلّا ما كان موضع مسرّته ورضاه.. أما ما يسوءه منه فإنه يختفى من حياته، ولهذا كان الحنين إلى الماضي رغبة منبعثة من صدور كل إنسان.(16/1619)
وثالثا: وتأسيسا على هذا أيضا- كان هذا الإحساس الذي يجده الإنسان دائما من تقديس الماضي وتمجيده، وأنه بقدر ما يبعد الزمن فى أغوار الماضي، بقدر تعدّد ما يلبس من أثواب التقديس والتمجيد.
فالحياة بخير، والإنسانية فى طريقها من الأرض إلى السماء، وليست فى هبوط من السماء إلى الأرض!! قوله تعالى:
«فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» .
الدّين هنا، هو ما يدين به الإنسان لخالقه الذي خلقه فى أحسن تقويم، وهو الاحتفاظ بهذه المنزلة العالية التي له فى عالم المخلوقات، بما له من عقل مبصر، ونظرة سليمة.
والمراد بالتكذيب، هو إنكار هذا العقل، وعدم الإصغاء إليه.
والتخلّي عن هذه الفطرة، وتعطيل وظيفتها.
والاستفهام إنكارى، بكشف عن حال أولئك الذين خرجوا عن إنسانيتهم تلك، وتحوّلوا إلى دنيا الحيوان، بلا عقل، ولا قلب!! وقوله تعالى: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» هو إنكار بعد إنكار، لمن زهدوا فيما أودع الخالق فيهم من آياته، فردّوها، وعرّوا أنفسهم منها، كأنهم لا يرضون بما زيّنهم الله به، وكأنهم يرون أن ما صنع الله بهم ليس على التمام والكمال، فهم يزهدون فيه، ويطلبون لأنفسهم ما هو أحكم وأكمل!! فالتكذيب بالدين لا يكون من إنسان عاقل رشيد، وإنما يكون ممن سفه نفسه وجهل قدره!(16/1620)
(96) سورة العلق
نزولها: مكية.. أول ما نزل من القرآن الكريم.
عدد آياتها: تسع عشرة آية.
عدد كلماتها: اثنتان وتسعون كلمة.
عدد حروفها: مائتان وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها كانت سورة «التين» مواجهة للإنسان فى خلقه القويم، الجليل، الذي خلقه الله عليه، وأن هذا الإنسان إذا استطاع أن يحتفظ بهذا الخلق الكريم، كان فى أعلى عليين.. أما إذا لم يحسن سياسة هذا الخلق، ولم يحسن تدبيره فإنه يهوى إلى أسفل سافلين.
وتبدا سورة «العلق» بهذه الواجهة مع الإنسان فى أعلى منازله، وأكرم وأشرف صورة له، وهو رسول الله «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، مدعوّا من ربه إلى أكمل كمالات الإنسان، وأكرم ما يتناسب مع كماله وشرفه، وهو القراءة، التي هى مجلى العقل، ومنارة هديه ورشده.
وبهذا تكون المناسبة جامعة بين السورتين، ختاما، وبدءا.(16/1621)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 19) [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
التفسير:
قوله تعالى:
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .
يكاد إجماع العلماء والمفسرين ينعقد على أن هذه الآيات الخمس، هى أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول ما استفتحت به الرسالة المحمدية.
وقد نزل بها جبريل على النبىّ وهو يتعبد فى غار حراء، وقد فجئه الوحى بقوله(16/1622)
تعالى: «اقرأ» . ففى الصحيحين عن السيدة عائشة، رضى الله عنها، قالت: «أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يخلوا بغار حار، يتحنث فيه الليالى ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لمثل ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق، وهو فى غار حراء، فجاء الملك، فقال: «اقرأ» فقال: «ما أنا بقارئ» قال فأخذنى فغطّنى «1» حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: «اقرأ» فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال:
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .
هذه هى الآيات الخمس الأولى، التي استفتح بها كتاب الله الذي نزل على النبىّ..
والنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أمّى، لا يقرأ، وأمره بالقراءة، إنما هو قراءة من هذا الكتاب السماوي، الذي يقرأ منه جبريل، فيقرىء النبىّ منه.. فهى قراءة متابعد لقارىء السماء، جبريل، من كتاب الله.
وقوله الملك لنبى: «اقرأ» هو دعوة إلى قراءة من كتاب، والنبي صلوات الله وسلامه عليه، لا يقرأ، ثم إنه ليس هناك كتاب يقرؤه لو كان قارئا..
ولهذا كان ردّ النبي: «ما أنا بقاري» ! .. وقد تكرر هذا الموقف بين
__________
(1) صمنى إليه ضما شديدا.(16/1623)
جبريل، وبين النبي ثلاث مرات: «اقرأ» .. «ما أنا بقاري!» أي لا أعرف القراءة..
وفى هذا تنويه بشأن القراءة. وأنها السبيل إلى المعرفة والعلم..
ثم إن الأمية، وإن كانت حائلة بين المرء وبين أن يقرأ فى كتاب، فإنها لا تحول بينه وبين العلم والمعرفة، فهناك كتاب الوجود، الذي يقرأ الإنسان آياته بالنظر المتأمل فيه، والبصيرة النافذة إلى أسراره، وعجائبه.. ثم هناك التلقي عن أهل العلم، ممن يقرءون ويدرسون.. فليكن الإنسان قارئا أبدا، على أي حال من أحواله، قارئا بنفسه، أو قارئا متابعا لغيره.
أما أمية النبي الكريم، فهى أمية مباركة، قد فتحت عليه خزائن علم الله، إذ بعث الله سبحانه وتعالى إليه رسولا من عنده يقرأ عليه كتاب الله، ويملا قلبه هدى ونورا منه..
ولهذا كان النبي قارئا، فقرأ حين أقرأه جبريل: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .
وقوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» أي اقرأ بأمر ربك، أي أن جبريل يقول: هذا الأمر الذي آمرك به ليس بأمرى، وإنما هو بأمر ربك، الذي يدعوك إلى أن تقرأ ما أفرئك إياه، من كتاب ربك.. وهذا مثل قوله تعالى:
«وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» (27: الكهف) . وقوله تعالى:
«فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
(18: القيامة) .
وقوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» - هو بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه هو الذي بقدرته(16/1624)
خلق الإنسان، هذا الخلق السوىّ «من علق» أي من دم لزج، متجمد.
فالذى خلق الإنسان من هذا العلق، وسوّاه على هذا الخلق، لا يقف به عند هذا الحد، بل هو سبحانه، بالغ به منازل الكمال، بما يفتح له من أبواب العلم والمعرفة..
وقوله تعالى: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» أي خذ ما أعطاك ربك من علم، وما دعاك إليه من معرفة، فإن ربك كريم واسع العطاء، لا ينفد عطاؤه.
فقوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» - جملة خبرية، تقع موقع الحال من فاعل «اقرأ» وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أي اقرأ مستيقنا أن ربك هو الأكرم.. أي ذو الفضل العظيم، والكرم الذي لا حدود له..
وفى تعريف طرفى الجملة الخبرية، ما يفيد القصر، أي قصر صفة الكرم على الله وحده..
وقوله تعالى: «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. أي ومن كرمه سبحانه أنه جعل من القلم الذي هو قطعة جامدة من الحطب، أو الخشب، أداة للعلم والمعرفة، ففتح به على الإنسان أبواب العلوم والمعارف، وجعل من ثماره هذه الكتب التي حفظت ثمار العقول، فكانت ميراثا للعلماء، يرثها الخلف عن السلف، وينميها ويثمرها العلماء جيلا بعد جيل.. وبهذا تعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وبعلمه هذا المستفاد من سلفه، فتح أبوابا جديدة من العلم يتلقاها عنه من بعده، ويفعل فعله، بما يفتح من أبواب جديدة للعلم.. وهكذا تتسع معارف الإنسان، ويزداد علمه على مدى الأجيال..
وهذا يعنى أن الإنسانية متطورة، وسائرة نحو الأمام، بما تتوارث أجيالها من ثمار العقول، التي يتركها السلف للخلف، جيلا بعد جيل..(16/1625)
وهكذا يذهب الناس، كأجساد، وتبقى غراس عقولهم، وثمار أفكارهم.
وقوله تعالى:
«كَلَّا. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» .
هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» ..
ومع أن هذه الآية وما بعدها، قد نزلت بعد خمس الآيات التي افتتحت بها السورة بزمن ممتد، إلا أن المناسبة جامعة بينها وبين ما قبلها، وهذا هو السر فى سردها فى سياقها.. فقد قلنا: إن قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» - هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. والسؤال هو: هل أدّى الإنسان حق هذه النعمة التي أنعمها الله عليه؟ وهل كان له من علمه هذا الذي تعلمه، نفع له، وللناس معه؟ والجواب على هذا: «كلّا» .. فإن هذا العلم الذي فتح على الناس وجوه المنافع، وملأ أيديهم من ثمرات الحياة، بمامكن لهم به من الأرض، وما سخر لهم من قوى الطبيعة- هذا العلم، قد فتنهم سلطانه، وأغرى بعضهم ببعض، فاتخذوا منه سلاحا للبغى والعدوان، والتسلط والقهر.. وبهذا طغى الإنسان، وتجبر وظلم، حين رأى نفسه بمنقطع عن الناس، مستغنيا عنهم بجاهه وسلطانه..
وهذا مما لا يعيب العلم، ولا ينقص من قدره.. فإنه وإن يكن استحدث به الإنسان كثيرا من أدوات الإهلاك والتدمير، فلقد استنبط منه ما لا يحصى من النعم الجليلة التي كشفت للإنسان عن فضل الله وإحسانه على الناس، كما أقام من آيات الله شواهد ناطقة تشهد بجلاله، وعظمته، وحكمته، وتضع الناس وجها لوجه أمام أسرار هذا الكون، وما تنطوى عليه تلك الأسرار من سعة علم الله، وعظمة جلاله وقدرته..
وفرق كبير بين الإنسان البدائى، وبين رجل العلم فى العصر الحديث، فى(16/1626)
موقفهما إزاء الوجود، وفى نظرتهما إلى عظمة الله وقدرته.. فالبدائى ينظر إلى عوالم الوجود بنظر شارد تائه، لا يبعد كثيرا عن نظر بعض الحيوانات أمام مشرق الشمس أو مغربها.. أما رجل العصر الحديث فإنه ينفذ بنظره إلى أعماق بعيدة فى الموجودات، حيث يطلع على أسرار لانهاية لها، يروعه جلالها، ويبهره نظامها وإحكامها..
وشتان بين الإنسان البدائى الذي خاف الطبيعة وظواهرها، فعبدها، وتخاضع بين يديها، وبين الرجل العصرى، الذي أمسك بزمام الطبيعة، وسخرها لخدمته، ونظر إليها نظرة السيد المالك لها.. ثم كان عليه بعد هذا أن يبحث عن السيد المالك له هو، ولهذا الوجود كلّه.. وهو لا بد مستدل بعقله على خالق هذا الوجود وسيده، وذلك هو الإيمان الذي لا زيغ معه ولا ضلال..
ولعل هذا يفسر لنا كثرة الأنبياء والرسل فى الأزمان السالفة.. ثم قلّتهم شيئا فشيئا كلما تقدم الزمن، وتقدم معه العقل الإنسانى، الذي يقوم مقام الرسول فى الدعوة إلى الله، والهداية إليه.، ثم انقطاع الرسل والأنبياء بخاتم سيد الرسل ونبى الأنبياء، محمد رسول الله، بعد أن بلغت الإنسانية رشدها..
وقوله تعالى:
«إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» .
هو تهديد لهذا الإنسان الذي جحد نعمة الله عليه، واتخذ منها أسلحة يحارب بها الفضيلة، ويقطع بها ما أمر الله به أن يوصل.. إن هذا الإنسان راجع إلى ربه يوما، وسيلقى جزاء بغيه وعدوانه..
وقوله تعالى:
«أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» ..
وهذه صورة لهذا الإنسان الذي طغى، حين رأى نفسه ذاقوة وسلطان..(16/1627)
إنه لا يؤمن بالله، ولا يقف موقف الأولياء منه، بل إنه ليحارب المؤمنين بالله، ويحول بينهم وبين أداء ما لله سبحانه وتعالى عليهم من حق.. فجرم هذا الطاغية جرم مضاعف.. فلا هو يؤمن بالله، ولا يؤدى حق ربه عليه، ولا يدع المؤمنين يؤدّون حق ربهم عليهم.. والاستفهام هنا تعجب من الأمر المستفهم عنه، وتشنيع على فاعله، ودعوة الناس إلى ضبطه وهو قائم على هذا المنكر، متلبس به!! وفى جعل فاصلة الآية الفعل: «ينهى» وفى قطع الفعل «ينهى» عن معموله، وهو «عبدا إذا صلى» - فى هذا تشنيع على طغيان هذا الطاغية فإذا..
استمع مستمع إلى قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى» - وقع فى تفكيره لأول وهلة، أن هذا الإنسان إنما ينهى عن منكر، لأن هذا هو شأن ما ينهى عنه.. فإذا فاجأه الخبر بأن ما ينهى عنه هذا الآثم، إنما هو الصلاة والولاء لله رب العالمين اشتد إنكاره له، وتضاعفت جريمته عنده..
والنهى هنا بمعنى المنع، لأن الذي يملك النهى عن فعل الشيء، يملك منع المنهىّ عن فعله، إذ النهى فى حقيقته لا يكون إلا من ذى سلطان متمكن ممن ينهاه، ويقدر على منعه مما نهاه عنه.
وفى قوله تعالى: «عبدا» - إشارة إلى أن هذا المنهي عن الصلاة، هو فى مقام العبودية والولاء لربه.. فهو عبد، ولكنه سيد الأسياد جميعا فى هذه الدنيا، إذ كان عبد الله رب العالمين..
وقوله تعالى:
«أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟» «أرأيت» هنا، استفهام إنكارى، بمعنى ماذا ترى من حال هذا الأثيم(16/1628)
الذي ينهى عبدا عن الصلاة، ويحول بينه وبينها؟ ثم أرأيت لو أنه كان فى موقف آخر غير هذا الموقف، فكان قائما على طريق الهدى، مؤمنا بربه، مواليا له، آمرا بالبر والتقوى بدلا من نهيه عن البر والتقوى؟ فاىّ حاليه كان خيرا له وأهدى سبيلا؟ أحال الضلال، والعمى، والصد عن سبيل الله، أم حال الاستقامة والهدى والدعوة إلى الله؟ وشتان بين الظلام والنور، والشر والخير، والكفر والإيمان! وقوله تعالى:
«أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» .
أي ثم ماذا ترى من حال هذا الضال، وقد أبى أن يكون على الهدى أو يأمر بالتقوى، بل كذب بآيات الله، وتولى معرضا عمن دعاه إلى الله، ورفع لعينيه مصابيح الهدى؟ فأى إنسان هذا؟ وبأى نظر ينظر، وبأى عقل يفكر ويميز بين الخير والشر؟ «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ؟ أسفه نفسه حتى أنكر أن لهذا الوجود إلها قائما عليه، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟ ألا يخاف بأس الله؟ ألا يخشى عقابه؟
وقوله تعالى:
«كَلَّا.. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» .
هو ردّ على هذا السؤال فى قوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» . وكلا، إنه لا يعلم بأن الله مطلع على كل شىء، ولو كان يعلم هذا علما مستيقنا لخاف ربه وخشى بأسه، ولكن ضلاله أعمى قلبه، وأظلم بصيرته، فلم يرى جلال الله، ولم يشهد عظمته، ولم يخش بأسه! وقوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» هو وعيد وتهديد لهذا الضال(16/1629)
إن لم ينزع عن ضلاله، ويرعو عن غيه، ويثوب إلى رشده، ويؤمن بربه، ويستقم على الهدى- لنسفعن بناصيته، أي لنجرنّه من رأسه جرّا إلى جهنم كما يقول سبحانه: «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ» ..
وفى هذا امتهان أي امتهان، وإذلال أي إذلال لهذا المتشامخ بأنفه، المتطاول برأسه! وقوله تعالى: «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» أي هى رأس فارغة من كل خير، حشوها الكذب والضلال، ونبتها الخطيئة والإثم، فكانت النار أولى بها، حطبا ووقودا.
وقوله تعالى:
«فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» .
أي ها نحن أولاء آخذون بناصية هذا العتلّ الأثيم إلى جهنم كما يؤخذ برأس الكبش من قرونه، فليهتف بناديه أي أهل النادي الذي يأخذ مجلسه بينهم، ويدير أحاديث الإثم والضلال عليهم.. أما نحن فسندعو الزبانية الذين يأخذون بناصيته إلى جهنم.. فهل من أصحابه من يخفّ له، ويسعى إلى تخليصه من يد الزبانية؟ هيهات هيهات.. لقد علقت أيديهم به، ولن يفلت حتى يلقى به فى جهنم، مع جماعة السوء الذين انضوى إليهم، واعتزّ بهم..
وقوله تعالى:
«كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» ..
هو رد على قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» أي لا تسمع لنهى هذا الغوى، ولا تخش بأسه.. إنه مأخوذ بناصيته إلى جهنم بيد(16/1630)
الزبانية.. وإذن فاسجد لربك واقترب منه بهذا السّجود.. كما يقول الرسول الكريم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» .
والزبانية، جمع زبنيه، أو زبنى.. وأصله من الزّبن، وهو الدفع..
يقال زبنه، أي دفعه ليزيله عن موضعه.. وهم ملائكة العذاب الموكلون بأهل النار يدعّونهم إلى جهنم دعّا..
قيل إن هذه الآيات نزلت فى أبى جهل، وقد كان يعترض النبىّ فى الصلاة، ويترصد له، ويتهدده كلما ألمّ بالبيت الحرام.. وقد جاء فى الخبر أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمد يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه.. فجاءه من يقول له:
إن محمدا يصلى فى الكعبة، فاتجه إليه يريد أن يفعل فعلته، فما كاد يقارب النبىّ حتى رأى فحلا هائجا يريد أن ينقض عليه، فولّى مذعورا مبهورا.. فلما رأى القوم منه ذلك، سألوه ما به.. فقص عليهم ما رأى.. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «لو فعل لأخذته الملائكة» !! والخطاب مع هذا عام، لكل من هو أهل للخطاب.(16/1631)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
(97) سورة القدر
نزولها: مكية، وقيل مدنية.. نزلت بعد سورة «عبس» .
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة واثنا عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «العلق» بقوله تعالى: «كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» وجاءت بعد ذلك سورة القدر، وفيها تنويه بشأن هذا القرآن الذي أنزل على النبي، والذي هداه ربه، وملأ قلبه إيمانا ويقينا بعظمته وجلاله.. وبهذا الإيمان الوثيق يتجه النبي إلى ربه لا يخشى وعيدا، ولا يرهب تهديدا..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)(16/1632)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ..
الضمير فى «أنزلناه» يعود إلى القرآن الكريم، وهو وإن لم يجر له ذكر سابق فى السورة، إلا أنه مذكور بما له من إشعاع يملأ الوجود.. فإذا نزل شىء من عند الله، فهو هذا القرآن، أو فيض من فيض هذا القرآن..
وليلة القدر، هى الليلة المباركة، التي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله:
«إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (3- 6:
الدخان) . وهى ليلة من ليالى رمضان، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» . (185: البقرة) ومعنى «أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» أي ابتدأنا إنزاله فى ليلة القدر، وهى الليلة التي افتتح فيها الوحى، واتصل فيها جبريل بالنبي، قائلا له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» .
وقد اختلف فى أي ليلة من ليالى رمضان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها فى العشر الأواخر من رمضان.. واختلف كذلك أي ليلة هى فى الليالى العشر، وأصح الأقوال كذلك أنها فى الليالى الفردية، أي فى الليلة الحادية والعشرين، أو الثالثة والعشرين، أو الخامسة والعشرين أو السابعة والعشرين أو التاسعة والعشرين.. وأصح الأقوال هنا أنها الليلة السابعة والعشرون، أي الليلة السابعة من العشر الأواخر من رمضان.. وهذا ما يروى عن ابن عباس من أنه «م 103 التفسير القرآنى ج 30»(16/1633)
قال: «هى سابعة تمضى أو سابعة تبقى من العشر الأواخر من رمضان، وقد سئل فى هذا فقال: نظرت فى كتاب الله فرأيت أن الله سبحانه قد جعل خلق الإنسان فى سبع، فقال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» (12- 14: المؤمنون) ورأيت أن الله سبحانه وتعالى جعل رزقه فى سبع، فقال تعالى: َأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ»
(27- 32: عبس) ورأيت أن الله خلق سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام» ..
هذا وقد استظهر بعضهم أنها الليلة السابعة والعشرون، وذلك بأن عدد كلمات السورة من أولها إلى قوله تعالى: «هى» سبع وعشرون كلمة..
وهذا يعنى أن كل كلمة تعدل ليلة من ليالى رمضان، حتى إذا كانت ليلة القدر جاءت الإشارة إليها بقوله تعالى: «هى» أي هى هنا عند الكلمة السابعة والعشرين، أو الليلة السابعة والعشرين..
وفى محاولة تحديد هذه الليلة تكلف، لا تدعو إليه الحاجة، فهى ليلة من ليالى رمضان، وكفى، ولو أراد سبحانه وتعالى بيانها لبينها، وإنما أراد سبحانه إشاعتها فى ليالى الشهر المبارك كله، ليجتهد المؤمنون فى إحياء ليالى الشهر جميعه! ..
وسميت ليلة «القدر» بهذا الاسم، لأنها ذات شأن عظيم، وقدر جليل، لأنها الليلة التي نزل فيها القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان،(16/1634)
إنها الليلة التي توزن فيها أقدار الناس حسب قربهم وبعدهم من كتاب الله، ويفرق فيها بين المحقّين والمبطلين..
وقد أشار إليها الله سبحانه وتعالى فى سورة أخرى بقوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي يبين فيها حكم الله فيما هو حلال أو حرام، وحق أو باطل، وهدى أو ضلال، وذلك بما نزل فيها من آيات الله..
وقوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؟
تنويه بشأن هذه الليلة، وتفخيم لقدرها، وأنها ليلة لا يدرى أحد كنه، عظمتها، ولا حدود قدرها..
قوله تعالى:
«لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» .
اختلف فى تحديد المفاضلة بين هذه الليلة وبين الألف شهر.. وقد تواردت على هذا مقولات وأخبار شتى..
ونقول- والله أعلم- إنه ليس المراد من ذكر الألف شهر وزن هذه الليلة بهذا العدد من الأيام والليالى والسنين، وأنها ترجح عليها فى ميزانها، وإنما المراد هو تفخيم هذه الليلة وتعظيمها، وأن ذكر هذا العدد ليس إلا دلالة على عظم شأنها، إذ كان عدد الألف هو أقصى ما تعرفه العرب من عقود العدد.
عشرة، ومائة، وألف، ومضاعفاتها.
وإذن فهى ليلة لا حدود لفضلها، ولا عدل لها من أيام الزمن ولياليه، وإن بلغت ما بلغت عدّا.
وقدر هذه الليلة، إنما هو- كما قلنا- فى أنها كانت الظرف الذي نزل فيه القرآن، والوعاء الذي حمل هذه الرحمة العامة إلى الإنسانية كلها.. إنها الليلة(16/1635)
الولد التي بزغت فيها شمس الهدى، على حين أنه قد تمضى مئات وألوف من الليالى عقيما لا تلد شيئا ينتفع به، ولا تطلع على الناس ببارقة من خير يتلقونه منها:..
إن شأن هذه الليلة فى الليالى، شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإنسانية..
إنه- صلوات الله وسلامه عليه- واحد الإنسانية، ومجدها وشرفها، وهى واحدة ليالى الزمن، ومجده، وشرفه.. فكان التقاؤها بالنبي على رأس الأربعين من عمره- وقد توجه ربه بتاج النبوة- كان، التقاء جمع بين الزمن مختصرا فى ليلة، وبين الإنسانية مختصرة فى إنسان، هو رسول الله..
وكان ذلك قدرا مقدورا من الله العزيز الحكيم.
وقوله تعالى:
«تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» أي يتنزل فيها جبريل عليه السلام، الذي هو مختص بتبليغ الوحى، والاتصال بالنبيّ.. أما الملائكة الذين يحفون به، فهم وفد الله معه لحمل هذه الرحمة إلى رسول الله، وإلى عباد الله.. وهم إنما يتنزلون بأمر الله كما يقول سبحانه: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» (64: مريم) فجبريل لم يكن ينزل وحده بالوحى، وإنما كان ينزل فى كوكبة عظيمة من الملائكة تشريفا وتكريما، لما يحمل إلى رسول الله من آيات الله..
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده:
«وإنما عبر بالمضارع فى قوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ» وقوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» - مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدإ نزول الوحى- لوجهين:(16/1636)
الأول: لاستحضار الماضي، ولعظمته على نحو ما فى قوله تعالى: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ» (214: البقرة) .. فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا..
والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب، وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام- كان فيما بعد.. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر فى مستقبل الزمان، حتى يكمل الدين» !! وقوله تعالى: «من كل أمر» أي تتنزل الملائكة حاملة من كل أمر من أوامر الله، ومن أحكامه، ما يأذن الله لها به، كما تقضى بذلك حكمته..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (4- 5: الدخان) .
وقوله تعالى:
«سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» .
أي أنها ليلة ولد فيها الأمن والسلام.. من بدئها إلى ختامها.. فهى ليلة القرآن.. والقرآن من مبدئه إلى ختامه سلام وأمن كلّه، ورسالة القرآن هى «الإسلام» الذي هو السلام، والنجاة، لمن طلب السلامة والنجاة.!(16/1637)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
(98) سورة البيّنة
نزولها: مدنية- وقيل مكية- نزلت بعد سورة الطلاق عدد آياتها: ثمانى آيات.
عدد كلماتها: أربع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «القدر» التي سبقت هذه السورة تنويها بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم، فنالت بشرف نزوله فيها هذا القدر العظيم الذي ارتفعت به على الليالى جميعا.. فالتنويه بليلة القدر هو- فى الواقع- تنويه بالقرآن الكريم، وأن الاتصال به يكسب الشرف ويعلى القدر للأزمان والأمكنة والأشخاص.
وسورة «البيّنة» تحدّث عن هذا القرآن، وعن رسول الله الحامل لهذا القرآن، وموقف الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، من القرآن، والرسول الداعي إلى الله بالقرآن.. ومن هنا كان الجمع بين السورتين قائما على هذا الترابط القوىّ، الذي يجعل منهما وحدة واحدة.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)(16/1638)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» .
«من» فى قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» بيانية، وفيها معنى التبعيض أيضا، إذ ليس كلّ أهل الكتاب كافرين، بل هم كما يقول الله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) .
فالمراد بالذين كفروا هنا ليس الكافرين على إطلاقهم، وإنما هم الكافرون من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وهم بعض من أهل الكتاب، أو معظم أهل الكتاب.
والمشركون، هم مشركو العرب، وعلى رأسهم مشركو قريش.(16/1639)
ومعنى الانفكاك فى قوله تعالى: «منفكّين» هو حلّ تلك الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم جميعا على الكفر والضلال.
فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون، على سواء فى الضلال، وفى البعد عن مواقع الحق.. فهم وإن اختلفوا دينا ومعتقدا، وجنسا وموطنا- على سواء فى الضلال وفساد المعتقد، وهم لهذا كيان واحد، وقبيل واحد، ينتسبون إلى أب واحد، هو الكفر والضلال.
أما الكافرون من أهل الكتاب، فقد كان كفرهم بما غيّروا، وبدّلوا من شرع الله، وبما تأوّلوا من كتب الله التي بين أيديهم، فحرّفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا عن الله سبحانه ما لم يقله.
وأما المشركون، فقد اغتال جهلهم وضلالهم كل معانى الحق، التي تركها فيهم أنبياؤهم الأولون، كهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، عليهم السلام..
فانتهى بهم الأمر إلى الشرك بالله، وعبادة الأصنام من دون الله.
ومجمل معنى الآية الكريمة: أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون لن تنحلّ منهم هذه الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم على الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة.. فإذا أتتهم البينة تقطع ما بينهم، وانحلت وحدتهم، وأخذ كلّ الطريق الذي يختاره..
و «البينة» هى ما أشار إليها قوله تعالى: «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» فالرسول صلوات الله وسلامه عليه- هو «البينة» ، أي البيان المبين، الذي يبين طريق الحقّ بما يتلو من آيات الله على الناس..
وفى جعل الرسول هو البينة- مع أن البينة هى آيات الله- إشارة إلى أن الرسول الكريم، هو فى ذاته بينة، وهو آية من آيات الله، فى كماله، وأدبه، وعظمة خلقه، حتى لقد كان كثير من المشركين يلقون النبي لأول مرة فيؤمنون(16/1640)
به، قبل أن يستمعوا إلى آيات الله منه، وقبل أن يشهدوا وجه الإعجاز فيها..
وأنه ليكفى أن يقول لهم إنه رسول الله، فيقرءون آيات الصدق فى وجهه وفى وقع كلماته على آذانهم.. وقد آمن المؤمنون الأولون، ولم يكن قد نزل من القرآن قدر يعرفون منه أحكام الدين، ومبادئه، وأخلاقياته.. بل إن إيمانهم كان استجابة لما دعاهم إليه رسول الله، لأنه لا يدعو- كما عرفوه وخبروه- إلا إلى خير وحق.
والصحف المطهرة، هى آيات القرآن الكريم، التي يتلوها الرسول الكريم، كما أوحاها إليه ربه، وكما تلقاها من رسول الوحى، على ما هى عليه فى صحف اللوح المحفوظ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» (11- 16: عبس) .
وطهارة هذه الصحف، هو نقاء آياتها، وصفاؤها، من كل سوء.. فهى حق خالص، وكمال مطلق.. «إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» . (42: فصلت) .
وقوله تعالى:
«فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» .
والكتب القيمة التي فى هذه الصحف، هى الكتب التي نزلت على أنبياء الله ورسله، كصحف إبراهيم وموسى.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18- 19: الأعلى) .
فالقرآن الكريم جمع ما تفرق فيما أنزل الله من كتب على أنبيائه، فكان به تمام دين الله، الذي هو الإسلام، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) .(16/1641)
وكون الصحف تحوى فى كيانها الكتب، مع أن العكس هو الصحيح، كما هو فى معهودنا، إشارة إلى أن صحف القرآن، هى بالنسبة إلى الكتب السماوية السابقة، كتب.. وأن الصحيفة، أو مجموعة الصحف منه تعادل كتابا من تلك الكتب إذ جمعت فى كلماتها المعجزة ما تفرق فى هذه الكتب.
وفى هذا ما يدل على قدر هذا القرآن العظيم، وأنه كان لهذا جديرا أن ينزل فى ليلة القدر، التي هى ليلة الزمن كله، كما أن هذا الكتاب هو شرع الله كله.
وقوله تعالى:
«وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» .
الخطاب هنا إلى أهل الكتاب جميعا، لا إلى الذين كفروا منهم.. فأهل الكتاب جميعا، هم فى هذا المقام فى مواجهة البينة.. وقد اختلف موقفهم منها، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.. وهنا تفرق أمرهم، وأخلى الذين آمنوا منهم مكانهم فيهم..
والسؤال هنا:
ألم يكن أهل الكتاب متفرقين قبل أن يأتيهم رسول الله، ويدعوهم إلى الإيمان بالله؟
ألم يكن منهم مؤمنون وكافرون، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..» ؟. ألم يكن هذا الإخبار عنهم بهذا الوصف، قبل أن تأتيهم البينة؟ فما تأويل هذا؟
نقول- والله أعلم- إن أهل الكتاب، وإن كان فيهم المؤمنون الذين استقاموا على شريعة الله، كما جاء هم بها أنبياؤهم، غير متبعين ما دخل عليهم من تبديل وتحريف- إلا أن هؤلاء المؤمنين، هم فى مواجهة الشريعة الإسلامية(16/1642)
غير مؤمنين، إذا لم يصلوا إيمانهم هذا، بالإيمان بدين الله (الإسلام) الذي كمل به الدين.. فالمؤمنون حقّا من أهل الكتاب، لا يجدون فى الإيمان بالإسلام حجازا يحجز بينهم وبينه، إذ كان دينهم بعضا من هذا الدين، وبعض الشيء ينجذب إلى كله، ولا يأخذ طريقا غير طريقه! فأهل الكتاب جميعا- المؤمنون منهم والكافرون- على سواء فى مواجهة الدين الإسلامى، كلّهم مدعوون إلى الإيمان به، فمن لم يؤمن به فهو كافر.
وأهل الكتاب، إذ دعوا إلى الإيمان بدين الله، تفرقوا، فآمن قليل منهم، وكفر كثير.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» (121: البقرة) وبقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» (52- 53:
القصص) .
وأما المشركون، فقد انفكوا، وانفصلوا عن الكافرين من أهل الكتاب، بعد أن جاءتهم البينة إذ أنهم آمنوا بالله، ودخلوا فى دين الله جميعا، بعد أن تلبثوا على طريق العناد والضلال! وقوله تعالى:
«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» .
أي أن أهل الكتاب الذين دعوا إلى الإيمان بشريعة الإسلام، لم يدعوا إلى أمر لا يعرفونه، ولم يؤمروا بأمر لم تأمرهم به شريعتهم التي هم بها يؤمنون..
إنهم ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، لا يعبدون إلها غيره «حنفاء»(16/1643)
أي مائلين عن أي طريق غير طريق الله.. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
فهذا هو شرع الله، وتلك أحكام شريعته لكل المؤمنين بشرائع السماء.. إنها جميعا تقوم على هذه الأصول الثابتة:
وأولها الإيمان بالله وحده، إيمانا خالصا من كل شرك، مبرأ من كل ما لا يجعل لله سبحانه وتعالى التفرد بالخلق والأمر.
ثم إقام الصلاة، التي هى مظهر الولاء لله، وآية الخضوع لجلاله وعظمته..
ثم إيتاء الزكاة، التي هى أثر من آثار الإيمان بالله، الذي من شأنه أن يقيم المؤمنين بالله على التوادّ والتراحم، والتعاطف فيما بينهم، كما يقيمهم الولاء لله، والخضوع لجلاله وعظمته، كيانا واحدا فى محراب الصلاة له..
وإذا كان هذا هو ما تدعو إليه الشرائع السماوية جميعا، وإذا كان هذا ما تدعو إليه شريعة الإسلام- فإن الذي يفرق بين هذه الشرائع وبين شريعة الإسلام، هو جائر عن طريق الحق، معتد على حدود الله.. إذ كانت شرائع الله كلها- سابقها ولا حقها- حرم الله وحدوده التي حدها لعباده: «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. ولهذا كانت دعوة الإسلام قائمة على الإيمان بشرائع الله كلها، وبرسل الله كلهم: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (136: البقرة) قوله تعالى:
«وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» ..
أي الدين القيم، أي المستقيم، أو دين الملة أو الأمة المستقيمة على الحق القائمة بالقسط- فكل من خرج على هذا الدين فهو على غير دين الله، كما يقول(16/1644)
سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» (159: الأنعام) ومن معانى «الدّين» هنا، دين الله، وهو الإسلام..
والقيّمة: مذكّر القيّم، بمعنى المستقيم، كما يقول تعالى: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» (36: التوبة) .
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» ..
هو مواجهة للذين ظلّوا على كفرهم من أهل الكتاب، والذين أقاموا على شركهم من المشركين بعد أن جاءتهم البينة.. فهؤلاء وأولئك جميعا سيلقون فى نار جهنم خالدين فيها.. وهؤلاء وأولئك هم شر البرية، أي شر الخلق.. لأنهم لم يؤمنوا وقد جاءتهم البينة، التي جمعت البنيان كله، واشتملت على الهدى جميعه، فكانت آياتها قائمة بين الناس، يلقونها فى كل لحظة، ويديرون عقولهم وقلوبهم إليها فى كل زمان ومكان، ولم تكن آياتها آيات عارضة، تلقاها حواسّ من يشهدونها ساعة من نهار، ثم نزول فلا ترى أبد الدهر، كما رأى الراءون من آيات موسى، وعيسى عليهما السلام.. وإنما هى آيات تعايش الإنسان، وتصحبه ما شاء أن تصحبه وتعيش معه..
والحق حين تتضح آياته هذا الوضوح المشرق، وحين يتجلّى وجهه هذا التجلي المبين، يكون منكره، والحائد عنه، أشدّ الناس ضلالا، وأكثرهم عنادا، وأبعدهم عن الخير، وأقربهم إلى الشر.. «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» ..
وقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» .(16/1645)
أي الذين آمنوا بهذا الدّين وعملوا الصالحات، أولئك هم خير الخلق جميعا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ، إذ ألبسهم إيمانهم بالله، وأعمالهم الصالحة فى ظل هذا الإيمان- لباس التقوى، فكانوا هم عباد الله، وكانوا أهل ودّه، ولهذا كان جزاؤهم عند ربهم هذا الجزاء الكريم: «جنات عدن» أي جنات خلود واستقرار، تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، لا يتحولون عنها.. «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» فأدخلهم فى جنّاته، وأفاض عليهم من نعيمه. «وَرَضُوا عَنْهُ» أي رضوا عن ربّهم، وحمدوه، وشكروا له هذا النعيم الذي هم فيه.. وذلك النعيم والرضوان، إنما هو لمن خشى ربّه، واتقاه، وخاف مقامه.
هذا، ويلاحظ هنا أمران:
أولهما: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد جاء الحديث عنهم مطلقا من غير قيد الإضافة إلى أهل الكتاب، أو المشركين، فلم يجىء النظم القرآنى هكذا: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أهل الكتاب والمشركين» .. كما جاء فى الآية السابقة: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» - وذلك لأن الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات فى جميع الأحوال والأزمان داخلون فى ساحة المؤمنين بشريعة الإسلام..
سواء أكان هذا الإيمان عن دعوة رسول وكتاب، أو عن دعوة العقل، وإلهام الفطرة، فالمؤمن بالله حيث كان، وحيث كان مصدر إيمانه، هو لا حق بهؤلاء المؤمنين، وهو ملاق هذا الجزاء الذي يجزى به المؤمنون..
أما حصر الكافرين هنا فى الذين كفروا من أهل الكتاب، والذين كفروا من المشركين، بعد أن جاءتهم البينة- فهو تشنيع على هذا الوجه الكريه الغليظ من وجوه الكفر، فى مواجهة هذا الصبح المشرق، الذي(16/1646)
لا ينكره إلا مكابر، ولا يكفر به إلا من ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، ومن هنا كانوا شرّ البريّة على الإطلاق، كما كان المؤمنون بشريعة الإسلام خير البرية على الإطلاق كذلك.
وثانى الأمرين: هو أن وعيد الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالخلود فى النّار- لم يقيّد بلفظ التأبيد «أبدا» بل جاء مطلقا هكذا: «خالِدِينَ فِيها» على حين جاء وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود فى الجنة مؤبدا.. هكذا «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» .
فما تأويل هذا؟
نقول- والله أعلم- إن تأبيد الخلود فى الجنة، هو أمر عام لكل من أكرمه الله بدخول الجنة، وأخذ مكانه فيها، ونزل منزله منها.. فإنه لا يتحول أبدا عن هذا المنزل، وإن كان ثمة تحول فهو إلى منزل آخر فى الجنة، أعلى من منزله الذي هو فيه.. فخلود أهل الجنة فى الجنة، خلود مؤبد لكل من دخلها.. أما أهل النار.. فإن كثيرا ممن يدخلها من عصاة المؤمنين، لا يخلدون فيها، بل يتحولون عنها إلى الجنة، بعد أن ينالوا جزاءهم من العذاب فى النار، وأما الذين يخلدون فى النار فهم أهل الكفر، وحسبهم من العذاب أن يكون خالدا، أي طويلا ممتدّا إلى ما شاء الله.. فمعنى الخلود هنا هو امتداد الزمن وطوله، كما يفهم من قوله تعالى: «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» أي يخلده، ويمد له فى عمره زمنا طويلا..
ثم إن هؤلاء الخالدين فى النار، هم بعد ذلك إلى مشيئة الله، فى تأييد هذا الخلود أو توقيته، وهذا ما يفهم من قوله تعالى فى أصحاب النار: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» وقوله تعالى بعد ذلك فى أصحاب(16/1647)
الجنة: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» (106- 108: هود) .
ففى جانب المخلدين فى النار جاء قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» مؤذنا بأن لله سبحانه وتعالى فعلا آخر فى أهل النار غير هذا الخلود، بعد أن يستوفوه.. ولا ندرى ما هو.. غير أن رحمة الله التي وسعت كل شىء لا تقصر عن أن تنال هؤلاء الخالدين فى النار ببعض آثارها.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
أما فى جانب المخلدين فى الجنة، فقد جاء قوله تعالى: «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» مؤذنا بأن هذا العطاء الذي أعطوه فى الجنة، لن ينقطع أبدا.. والله أعلم.
(99) سورة الزلزلة
نزولها: مدنية.. نزلت بعد سورة «النساء» عدد آياتها: ثمانى آيات..
عدد كلماتها: خمس وثلاثون..
عدد حروفها: مائة وتسعة عشر حرفا..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «البينة» قبل هذه السورة بما يلقى الكافرون، من عذاب، خالدين فى النار، وبما يلقى المؤمنون، من نعيم، خالدين فيه خلودا مؤبدا فى الجنة..
وجاءت سورة الزلزلة محدثة بهذا اليوم الذي يجزى فيه كل من الكافرين والمؤمنين هذا الجزاء الذي يستحقه كل فريق منهم، فكان عرض هذا اليوم،(16/1648)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وإخراج الناس فيه من قبور هم للحساب والجزاء- كان عرض هذا اليوم منظورا إليه من خلال صورتى النار والجنة اللتين تحدث عنهما السورة السابقة- كان أبعث المرهبة منه، والخشية من لقائه.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟» هذا من إرهاصات يوم البعث والنشور، حيث تزلزل الأرض وتضطرب، وهذا الزلزال الذي سيقع لها يوم البعث، هو زلزال خاص بهذا اليوم، ولهذا أضيف إليها فى قوله تعالى «زلزالها» وكأنه هو الزلزال الوحيد الذي تزلزله، م 104- التفسير القرآنى ج 30(16/1649)
«إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1: الحج) . أما ما يحدث من زلزال للأرض فيما قبل هذا الزلزال، فلا حساب له، إذا نظر له من خلال هذا هذا الزلزال العظيم..
وفى هذا اليوم تخرج الأرض أثقالها، أي ما حملت فى بطنها من أموات، فكأنها تلدهم من جديد، كما تلد الأم أبناءها، بعد أن يتم حملها، وتثقل به بطنها.. كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (189: الأعراف) ..
وقوله تعالى: «وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها» ؟ هو سؤال عجب ودهش، يسأله الإنسان نفسه بعد أن تلفظه الأرض من بطنها، وتلقى به على ظهرها.. إنه ينكر هذا الذي حدث.. لقد كان فى بطن الأرض، فماذا أخرجه منها؟ وماذا يراد به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا»
؟ (51- 52 يس) .
وقوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» - هو جواب الشرط «إذا» فى قوله تعالى: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» أي فى هذا اليوم، يوم البعث والنشور، الذي تزلزل فيه الأرض- تحدث الأرض «أخبارها» أي تظهر الأرض أخبارها التي كانت مكنونة فى صدرها..
وفى التعبير عن إظهار أخبارها بالتحديث- إشارة إلى أن أحداثها التي يراها الناس يومئذ، هى أبلغ حديث، وأظهر بيان، فهو شواهد ناطقة بلسان الحال، أبلغ من لسان المقال..(16/1650)
وفى التعبير عن خبء الأرض، وما تخرجه من بطنها بلفظ الأخبار- إشارة أخرى إلى أن هذه الأسرار المضمرة التي كانت مخبوءة فى صدر الأرض، قد أعلنت وأصبحت أخبارا يعلمها الناس جميعا.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله، وقد سئل صلوات الله وسلامه عليه عن معنى قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» .. فقال: «أتدرون ما أخبارها» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها..
تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا..»
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» أي تنشر أخبارها، وتظهر أسرارها، وتخرج خبأها..
«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» .. فالضمير «ها» الذي يعود إلى الأرض فى «زلزالها» و «أثقالها» و «ما لها» و «أخبارها» يشير إلى أمور خاصة بالأرض فى هذا اليوم، يوم ينفخ فى الصور، للبعث والنشور.. فللأرض فى هذا اليوم زلزالها الذي ينتظرها، ولها أثقالها التي تخرجها، ولها هذا التساؤل الذي يتساءله الناس عنها، ولها حديثها الذي تحدثه للناس، وعن الناس، فى هذا اليوم الموعود.
وليس هذا الذي رآه الناس من أحداث الأرض يومئذ هو من تلقاء نفسها، وإنما ذلك بما أوحى به إليها ربّها، وما أمرها الله به، فامتثلت له، وأمضته كما أمر الله..
وفى قوله تعالى: «أوحى لها» - إشارة إلى أنها بمجرد الإشارة إليها من الله، خضعت لمشيئة الله.. فلم تكن فى خضوعها لربها محتاجة لأن يردّد عليها القول، أو يؤكد لها الأمر.. بل هو مجرد اللمح والإشارة.. وهذا هو شأن(16/1651)
الخاضع المطيع، الذي لا إرادة له مع من يأمره.. إنه لا يحتاج إلى أمر صريح مؤكد، بل تغنى الإشارة عن العبارة..
فالوحى هنا، هو التلميح، دون التصريح، والإشارة دون العبارة.. وهذا من معنى قوله تعالى: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» أي حق ووجب عليها الامتثال والطاعة.
قوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» .
أي فى هذا اليوم، يوم البعث، يصدر الناس، أي يجىء الناس، صادرين من قبورهم «أشتاتا» أي أفرادا، متفرقين، كأنهم جراد منتشر، إلى حيث يردون على المحشر فى موقف الحساب.. فللناس فى هذا اليوم صدور، وورود..
صدور من القبور، وورود إلى المحشر.
وقوله تعالى: «لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» هو تعليل لهذا الصدور، أي وذلك ليروا أعمالهم التي عملوها فى الدنيا. «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» .
وقوله تعالى:
«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .
أي فمن يعمل فى هذه الدنيا مثقال ذرة من خير، يره خيرا فى الآخرة، ومن يعمل فى دنياه مثقال ذرة من شر، يره شرا يوم القيامة.. فليس المراد برؤية الأعمال تجرد الرؤية، وإنما المراد هو ماوراء هذه الأعمال من جزاء.. فالعمل الطيب إذا رآه صاحبه سرّ به، ورأى فى وجهه البشير الذي يحمل إليه رحمة الله ورضوانه فى هذا اليوم العظيم.. والعمل السيء إذا رآه صاحبه حاضرا بين يديه فى مقام الحساب، ساءه ذلك، وملأ نفسه حسرة وغما، إذ كان هو الشاهد الذي يشهد بتأثيمه وتجريمه.(16/1652)
ومثقال الذرة: وزنها.
والذرة: هباءة من غبار، لا ترى إلا فى ضوء الشمس المتسلل من كوّة فى مكان مظلم.. وعن ابن عباس: الذرّ ما يلتصق بيدك إذا مست التراب.
(100) سورة العاديات
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة العصر.
عدد آياتها: إحدى عشرة آية..
عدد كلماتها: أربعون كلمة..
عدد حروفها: مائة وستون حرفا
مناسبتها لما قبلها
الزلزلة التي تزلزلها الأرض يوم البعث، وإخراج الأرض أثقالها وما فى جوفها من الموتى، وصدور الناس أشتاتا من القبور إلى موقف الحشر، والمواجهة هناك بين الكافرين والمؤمنين- كل هذا تمثله صورة واقعة فى الحياة، نجدها حين تقوم حالة حرب بين الناس، فتزلزل الأرض تحت أقدام الجيوش الزاحفة نحو ساحة القتال، بما يركبون من خيل، وما يحملون من عدد القتال، وهم يصدرون من بيوتهم فى سرعة الرياح العاصفة إلى لقاء العدو، لا يمسكهم شىء عن الانطلاق حتى يبلغوا ساحة الحرب..
قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
هكذا يوم الحرب.. إنه من يوم القيامة قريب فى أهواله، وشدائده، وما يلقى الناس منه، من هول وشدة.(16/1653)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
ففى ميدان الحرب، حساب وجزاء، وربح وخسران، وهول وفزع، يشمل المحاربين جميعا.
فالحرب، وميدانها فى الدنيا، هى أقرب شىء يمثّل به المحشر، والحساب، والجزاء فى الآخرة..
ولهذا جاءت سورة العاديات تالية سورة الزلزلة، لهذه المشابه التي بينهما.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 11) [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً..»
العاديات: جمع عادية، وهى الخيل تعدو فى خفّة، وسرعة، كما يعدو خفيف الوحش.
والضبح: ما يخرج من صدور الخيل من أصوات وهى تعدو، أشبه بأنفاس(16/1654)
الإنسان وهو يلهث أثناء الجري.. وسمى ضبحا حكاية لصوت الخيل الذي يشبه صوت هذا اللفظ عند النطق به «ضبح» .
والمقسم به هنا، هو الخيل، فى حال عدوها، حاملة فرسانها إلى ميدان القتال.. فهى تعدو ضابحة، وهى فى عدوها تورى نارا تنقدح من احتكاك حوافرها بالحجارة التي تعدو عليها..
وفى هذا ما يشير إلى أنها تسير تحت جنح الظلام بفرسانها حتى لا تراها عين العدوّ، وحتى لا ينذر بها هذا العدوّ، ويأخذ حذره من المفاجأة حين تطلع عليه على غير انتظار، ولهذا يظهر هذا الشرر الذي ينقدح من احتكاك حوافرها بالصوّان.. كما يقول الشاعر فى وصف سيوف الأبطال فى الحرب:
تقدّ السلوقىّ المضاعف نسجه ... وتوقد بالصّفاح نار الحباحب «1»
فإذا بلغت الخيل المكان الذي تشرف به على عدوّها، أمسكت عن السير، حتى تهجم عليه وتبغته على حين غفلة منه، مع مطلع الصبح، قبل أن يدبّ دبيب الحياة فى الأحياء.
فهذه ثلاثة أقسام بالحيل فى مسيرتها نحو الحرب.. فأقسم بها سبحانه، وهى فى أول طريقها إلى القتال، ثم أقسم بها، وهى تكيد العدو، فتسير إليه ليلا، وتستخفى نهارا، ثم أقسم بها، وهى تلقى العدوّ بغتة مع أول النهار.
وفى هذا تعظيم لمسيرة هذه الخيل فى كل حال من أحوالها، وإنها لجدير بها أن تكون خيل المؤمنين، التي تسير هذه المسيرة المباركة للجهاد فى سبيل الله،
__________
(1) السلوقي: الدرع السابغة، نسبة إلى سلوق، بلدة باليمن. الصفاح:
الحجارة، والحباحب. قيل إنه نوع من الحشرات إذا طار بالليل وتلامست أجنحته بعضها ببعض، ندّ عن ضوء أشبه بالشرر.(16/1655)
وإن هذا التدبير لجدير أن يكون من تدبير المؤمنين فى لقاء العدوّ، فيلقون عدوّهم بالعدد، والعدد، وبالتدبير والمكيدة.
وبهذا يكتب لهم الغلب، ويتحقق لهم النصر.
قوله تعالى: «ضَبْحاً، وقَدْحاً، وصُبْحاً» منصوبة على الحال من العاديات.. بمعنى ضابحة، وقادحة، ومصبحة العدوّ..
قوله تعالى:
«فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» .
هو إلفات إلى موقف الخيل، وقد دخلت ميدان القتال، إنها تثير فيه النقع، أي الغبار بحركاتها، وتنقّل فرسانها عليها، بين كرّ وفرّ، ومحاورة ومداورة، انتهازا للفرصة التي تمكّن من العدو، وتصيبه فى مقاتله.
والضمير فى «به» يعود إلى ميدان القتال المفهوم من مسيرة هذه الخيل العادية.. إنها الخيل تعدو إلى جهاد فى سبيل الله، وليست الخيل التي تعدو للصيد واللهو، ونحو هذا.
قوله تعالى: «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» .. إشارة إلى أنها وإن جاءت فرادى، وهى متجهة إلى ميدان القتال، فإنها لا تشتبك مع العدوّ فى الحرب إلا مجتمعة، حيث يضرب المغيرون عليها عدوّهم بيد مجتمعة قوية متمكنة.
وفى قوله تعالى: «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» إشارة أخرى إلى أنّ هذه الخيل إنما تدخل المعمعة بفرسانها، وتهجم على قلب العدوّ، وتدخل فى كيانه، لا أنها تخطف الخطفة من بعد، دون أن تلتحم بالعدوّ، وتختلط به، وفى العطف بالفاء فى قوله تعالى: «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» - فى هذا ما يشعر بأن هذين الفعلين من أفعال الخيل العاديات، وأنهما داخلان فى حيّز القسم بها، والتقدير: والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فالمثيرات به نقعا، فالمتوسطات به جمعا.(16/1656)
وكل هذا الذي يشير إليه القرآن الكريم، هو تخطيط للحرب، ولما ينبغى أن يكون من تدبير جيش المسلمين فى لقاء العدوّ.. فهو درس بليغ فى الحرب، يأتى عرضا، فيكون أثره أبلغ وأوقع من الدرس المباشر، الذي يواجه الإنسان مواجهة الأستاذ لتلميذه.. فلقد جاء العرض للخيل، وفرسانها، وأفعالهم فى الحرب، والمسلمون محصورون فى مكة، واقعون تحت قبضة المشركين، لا يدور فى تفكيرهم أبدا أنهم سيكونون يوما هم فرسان هذه الخيل، وهم جنود الله، تعدو بهم هذه العاديات إلى الجهاد فى سبيل الله، فيمكن الله لدينه بهم فى الأرض، ويقيم بهم دولة الإسلام!.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده، معلقا على هذا الدرس الذي يلقّنه القرآن الكريم لأتباعه فى الإعداد للحرب، والتمكن من وسائلها:
«أفليس من أعجب العجب أن ترى أمما- وخير من هذا أن يقال أمّة، لأن المسلمين أمة لا أمم- هذا كتابها، قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزء والسخرية، وأخذت كرام الخير تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى؟.
«أليس من أغرب ما يستغرب أن أناسا يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم، يكون طلاب العلوم الدينية منهم أشدّ الناس رهبة من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولة، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليه بالبنان، عند ما كنت أكلّمه فى منافع بعض العلوم وفوائدها فى علم الدين- أن قال لى: «إذا كان كل ما يفيد فى الدين نعلّمه لطلبة العلم، كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل؟! «يقول هذا ليفحمنى، وتقوم له الحجة علىّ، كأنّ تعليم ركوب الخيل مما لا يليق ولا ينبغى لطلبة العلم، وهم يقولون: إن العلماء ورثة الأنبياء..(16/1657)
فهل هذه الأعمال، وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب؟
أنصف واحكم» !.
والحق ما قال الإمام، فإن فرسان الحرب فى الإسلام، كانوا أئمة المسلمين، والقمم العالية فيهم، وحسبنا أن نذكر هنا على بن أبى طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وعبيدة بن الجراح، وطلحة والزبير، وسعد ابن أبى وقاص، وغيرهم وغير هم كثير كثير! ولو أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدوا عصر الدبابات، والطائرات، والصواريخ، لكانوا أساتذة هذا الميدان، إبداعا واستعمالا، ولكانت الأمم التي تملك الصواريخ اليوم أمما متخلفة، بالنسبة إليهم.. ذلك أن نفوسهم أشرقت بنور الحق، وقلوبهم امتلأت بقوة الإيمان وعزته، فعظمت نفوسهم، واتسعت آمالهم، وأبت عليهم نفوسهم العالية، وهممهم العظيمة أن يسبقها سابق فيما يكسب العزة والسيادة، والمجادة.. فإذا صغرت النفوس، وضعفت الهمم، رضيت بالدّون، واستغنت بالتافة الحقير من الأمور..
فليس بالمؤمن من صغرت نفسه، وضؤل شخصه، وأمسك من دنياه بقبض الريح منها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» ..
وإنه لا عزة مع الضعف، ولا إيمان بغير القوة والعزة.. القوة فى المادة والروح جميعا.
وقوله تعالى:
«إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» .
هو جواب القسم بالعاديات..
والكنود: الجاحد لنعمة ربه، المنكر لإحسانه إليه..!(16/1658)
وهذا شأن كثير من الناس، بل هو شأن معظم الناس، ولهذا جاء الحكم مطلقا، إذ ليس فى الناس إلا قلة قليلة هى التي تعرف فضل الله عليها، وإحسانه إليها، ومع هذا فإنها لن تبلغ مهما اجتهدت، ما ينبغى لله سبحانه من حمد وشكر.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ»
- استدعاء للإنسان أن يستحضر وجوده، وأن يحاسب نفسه، وسيرى- إن كان على علم وحق- أنه مقصر فى حق الله، جاحد لفضله عليه.. وأن حبه الشديد لتحصيل المال، والاستكثار منه، هو آفته التي تنسيه فضل الله عليه، فيغمط حقوق الله، ويعمى عن وجوه الإنفاق فى سبيل الله.. وفى التعبير عن المال بلفظ الخير- إشارة إلى أنه خير فى ذاته، ولكنه قد يتحول فى أيدى كثير من الناس إلى شر مستطير يحرق أهله!! وقوله تعالى:
«أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» .
أي أفلا يعلم هذا الإنسان الكنود، وهو يحاسب نفسه، أنّه إذا بعثر ما فى القبور، وخرج الموتى من قبورهم إلى المحشر، «وحصّل» أي جمع ما فى صدورهم من خفايا أعمالهم، ورأوه عيانا بين أيديهم- أفلا يعلم ما يكون عليه حاله يومئذ، وما ينزل به من عذاب الله؟.
وفى حذف مفعول الفعل «يعلم» .. استدعاء للعقل أن يبحث عن هذا المفعول، وأن يستدلّ عليه، وفى هذا ما يدعوه إلى إعمال فكره، فيجد العبرة والعظة.. أي أفلا يعلم ما يكون فى هذا اليوم؟ إنه لو علم لكان له مزدجر عن غيّه وضلاله.(16/1659)
وقوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .
هو تعقيب على هذا السؤال: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» .. أي فإذا لم يكن يعلم ماذا يكون فى هذا اليوم، فليذكر هذه الحقيقة المطلقة، التي ينادى بها فى الوجود كله، وهى حقيقة ثابتة: «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .. إذا علم هذه الحقيقة، وآمن بها، علم ماذا يكون عليه حاله يومئذ.. إن ربه الذي يعلم كل شىء، قد علم ما كان منه فى الدنيا، وأنه محاسبه على ما عمل..
وليس الظرف فى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» قيد لعلم الله وحصره فى هذا اليوم، بل إن علم الله بما يعمل الناس، هو علم دائم متصل، ولكن علمه فى هذا اليوم بأعمال الناس، يقتضى محاسبتهم عليها، وجزاءهم بما عملوا.. فهذا يوم الجزاء لعمل كل عامل..
(101) سورة القارعة
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «قريش» .
عدد آياتها: إحدى عشرة آية.
عدد كلماتها: ست وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «العاديات» بقوله تعالى: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .. وفيها دعوة إلى الناس(16/1660)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
أن يحاسبوا أنفسهم فى الدنيا، قبل يوم الحساب والجزاء فى الآخرة.. وجاءت سورة القارعة تقرع الناس بهذا اليوم، يوم الجزاء، وتدعوهم إلى الحساب والجزاء، بعد أن أخذوا الفرصة الممكّنة لهم من حساب أنفسهم، وإعدادها لهذا اليوم..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 11) [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
التفسير قوله تعالى:
«الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» .
القارعة: هى يوم القيامة، لأنها تقرع القلوب بهولها، كأنها المقرعة التي تقع على الرأس بضربة مفاجئة.. فهى كالحاقة، والصاخة، والطامة، والغاشية..(16/1661)
والاستفهام عنها هنا، هو تهويل لها، وليومها، وأنها مما لا تحيط العقول بكنهها..
وقوله تعالى:
«يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» ..
هو خبر عن القارعة، أي هى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش.. أي فى هذا اليوم يكون الناس كالفراش المنتشر، فى انطلاقهم إلى الحشر، وفى حومهم حول النار كما يحوم الفراش.. وتكون الجبال فى هذا اليوم كالصوف المنفوش، أي الذي تفككت شعيراته بعضها عن بعض.. وقد عرضنا لهذا فى مبحث خاص «1» وقوله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» - المراد بثقل الموازين هنا هو اعتبار الأعمال، وإقامة وزن لها، حتى إذا وزنت كان لها رجحان على غيرها من الأعمال التي لا قدر لها ولا وزن، كما يقول سبحانه وتعالى عن أعمال الكافرين: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) لأن أعمالهم لا قيمة لها ولا قدر..، لأنها لم تقم فى ظل الإيمان بالله.
فأصحاب الأعمال الحسنة التي رجحت بها موازينهم وارتفعت بها أقدارهم على الناس يومئذ، هم فى عيشة راضية، حيث ينعمون فى جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين..
__________
(1) انظر صفحة 549 الكتاب الرابع عشر من التفسير القرآنى.(16/1662)
وفى وصف المعيشة بأنها راضية، مع أن الرضا إنما يكون لمن يعيشون فيها- فى هذا إشارة إلى أنها راضية فى ذاتها، بحيث تبدو وكأنها كائن حىّ قد اجتمع له كل ما يرضيه.. فهذه المعيشة قد اجتمع لها كل أسباب الرضوان لجميع الناس على اختلاف مطالبهم..
وقد عرضنا لهذا فى تفسير سورة «الحاقة» .
قوله تعالى:
«وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ» وهؤلاء هم الكافرون الذين حبطت أعمالهم، فلم يكن لهم ولا لأعمالهم وزن- هؤلاء أمّهم. التي تضمهم إليهم، وتحنو عليهم، هى هاوية، حيث تهوى بأصحابها إلى قرار الجحيم.. إنها نار حامية، تأكل أهلها كما تأكل النار الحطب..
وفى جميع الموازين، إشارة إلى أن كل عمل من أعمال الإنسان له ميزانه الذي يوزن به، حسب قدره، وقيمة..
أما الميزان الذي توزن به الأعمال، فهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولا ينبغى لنا أن نتكلف له تصورا، وحسبنا أن نؤمن بأن هناك ميزانا توزن به الأعمال، وتتبين به قيمة كل عمل، صغر أو كبر.. أما هيئة هذا الميزان وكيفيته، وكيف توزن الأعمال به- فهذا مما يتولاه الله عنا، ولا شأن لنا به.. إنه سبحانه يحاسب، ويقضى، ويحكم، وهو أحكم الحاكمين.(16/1663)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(102) سورة التكاثر
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الكوثر» ..
عدد آياتها: ثمانى آيات..
عدد كلماتها: ثمان وعشرون كلمة..
عدد حروفها: مائة وعشرون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
الحديث فى هذه السورة، متصل بما قبلها من الحديث عن القيامة، وعما يذهل الناس عنها، ويشغلهم عن الإعداد لها.. وهو المال والتكاثر منه.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات (8- 1) [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» ..(16/1664)
أي أيها الناس، قد شغلكم التكاثر فى الأموال والمتاع، فقطعتم حياتكم فى جمع المال وكنزه، وفى تحصيل الجاه والسلطان، دون أن تلفتوا إلى ما يجمّل العقل، ويغذى الروح، ويكمل النفس.. «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» أي نزلتم فى قبوركم، وإنها ليست دار مقام لكم، وإنما هى إلمامة تلمّون بها، أشبه بالزائر يطرق مكانا، ثم يرحل عنه. وهكذا أنتم فى هذه القبور التي ستضمكم يوما..
إنها زورة، ثم تحوّلون عنها إلى الحياة الآخرة.. إنها منزل على الطريق إلى البعث، والحساب والجزاء..
فالخطاب هنا عام للناس جميعا، والمؤمنون منهم أولى بهذا الخطاب من غيرهم، إذ كان يرجى منهم أن ينتفعوا به، وأن ينظروا إلى أنفسهم نظرا مجدّدا على ضوئه.
وقوله تعالى:
«كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» .
وكلا، فليس هذا هو الموقف السليم الذي ينبغى أن يقفه الإنسان فى الحياة، وليس هو الطريق القويم الذي يحق له أن يسلكه.. فإن جمع المال للتلهى به، وإشباع شهوات النفس منه، وإرضاء غرورها بالتعالي والتشامخ على الناس، لا لكسب محمدة، أو قضاء حق لله أو للناس- هو ضلال ووبال.. وستعلمون حقيقة هذا لو أنكم نظرتم نظرا عاقلا مستبصرا، ثم كلا.. إنكم لم تحسنوا النظر، ولم تمعنوا الفكر، فما زال علمكم بما أنتم عليه من ضلال، علما لا يحرك شعورا، ولا يثير خاطرا، ولا ينزع بكم إلى أخذ اتجاه غير اتجاهكم.. فأعيدوا النظر، وجددوا البحث فى حالكم تلك، وسوف تعلمون.. وكلا.. فهذا العلم الجديد الذي علمتموه لا يعدّ علما، فما زلتم فى شك وريب من البعث والحساب م 105- التفسير القرآنى ج 30(16/1665)
والجزاء، ولو كان علما عن يقين، لتغير حالكم، ولما كان هذا موقفكم فى الحياة..
فلو كنتم تعلمون علم اليقين «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» ، وأنتم فى هذه الدنيا، ولعلتم أن العذاب هو جزاء أهل الضلال، وأن العاقل ليرى جهنم فى الدنيا وكأنها ماثلة بين عينيه، فيتوقاها بالإيمان بالله، والعمل الصالح، ويخاف مقام ربه، ويخشى لقاءه بما يجنى من منكرات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» (18:
فاطر) .
وقوله تعالى: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» أي لرأيتم الجحيم فى الدنيا رؤية علمية يدلكم عليها العقل، فكأنها ماثلة بين أعينكم.. ثم إنكم بعد ذلك: «لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» أي رؤية بصرية، واقعية، حيث يشهدها كل من فى المحشر، ويراها رأى العين، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» (71: مريم) وكما يقول جل شأنه: «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» (36: النازعات) وتوكيد جواب «لو» هنا لتحقق وقوعه مستقبلا..
وذلك لأن «لو» حرف يمتنع جوابها لامتناع شرطها.. وذلك محقق فى الماضي، لأن الشرط لم يقع، فامتنع لذلك وقوع الجواب..
فإذا جاء الشرط والجواب مضارعين، كان الحكم معلقا، فقد يقع الشرط فيقع تبعا لذلك الجواب، وقد لا يقع الشرط فلا يقع الجواب.. تقول لو جاء الضيف لأكرمته.. وهذا يعنى أن الضيف لم يجىء وبالتالى لم يقع إكرامه..
وتقول لو يجىء الضيف لأكرمنّه.. فالضيف لم يجىء بعد، وقد يجىء، فإذا جاء لم يكن بدّ من إكرامه.. والتوكيد للفعل هنا واجب، لأنه حلّ محل(16/1666)
فعل غلب أن يكون ممتنعا وقوعه، وهو جواب لو الماضي الذي يجىء أكثر ما يجىء فعلا ماضيا، فلزم توكيد الجواب هنا، ليقطع كل احتمال لامتناع وقوعه.
وقوله تعالى:
«ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» .
أي ثم إذ ترون الجحيم فى المحشر، تحاسبون على ما أنعم الله به عليكم من نعم، وأجلّها العقل، والرسول، والقرآن.. فمن رعى هذه النعم، وأدى واجب الشكر عليها، نجا من هذه النار، ونزل منازل المؤمنين فى الجنة، ومن كفر يهذه النعم، حرم نعيم الجنة، وألقى به فى عذاب الجحيم.
(103) سورة العصر
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الانشراح.
عدد آياتها: ثلاث آيات.
عدد كلماتها: أربع عشرة كلمة.
عدد حروفها: ثمانية وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
الإنسان الذي ألهاه التكاثر بالأموال، والتفاخر بالجاه والسلطان، دون أن يتزود للآخرة بزاد الإيمان والتقوى، هو هذا الإنسان الخاسر.. وأي خسران أكثر من أنه اشترى الدنيا بالآخرة؟ وهذا ما جاءت سورة العصر لتقرره..(16/1667)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 3) [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالْعَصْرِ» .
هو قسم بهذا الوقت من أوقات الزمن، وهو الساعات الأخيرة من النهار..
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بأجزاء من الزمن، كالفجر، والضحى، والليل، والنهار..
وفى القسم «بالعصر» تنويه بشأن هذا الوقت من الزمن، الذي تبدأ فيه الأحياء تجمع نفسها، وتعود إلى مأواها بما حصّلت وجمعت فى سعيها فى الحياة..
وإنه لجدير بالعاقل أن يحاسب نفسه على ما عمل فى يومه هذا، وما حصل فيه من خير، وما اقترف فيه من إثم.. إنه وقت محاسبة ومراجعة لأعمال اليوم، وتصحيح للأخطاء التي وقع فيها، فلا يستأنفها فى غده.. ولهذا كانت صلاة العصر هى الصلاة الوسطى- على ما جاءت به الأخبار الصحيحة، وقرره معظم أهل العلم- تلك الصلاة التي نوه الله سبحانه وتعالى بها، فقال تعالى: «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» (238: البقرة) .(16/1668)
وقوله تعالى:
«إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» .
هو المقسم عليه، وهو جواب القسم..
والإنسان فى خسر، أي فى ضلال، لأنه لم يعرف قدره، ولم يرتفع بإنسانيته إلى المقام الذي أهّله الله سبحانه وتعالى له.. فلقد خلق الله سبحانه الإنسان فى أحسن تقويم، ولكن الإنسان لم يلتفت إلى هذا الخلق، ولم يقدره قدره، ولم يأخذ الطريق الذي يدعو إليه العقل، بل انقاد لشهواته، واستخف بإنسانيته، وتحول إلى عالم البهيمة، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام..
ذلك هو شأن الإنسان فى معظم أفراده وأحواله.. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر إنسانيتهم، وما أودع الله سبحانه وتعالى فيهم من قوى قادرة على أن ترتفع بهم إلى الملأ الأعلى، لو أنهم أحسنوا استعمالها، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .
فهؤلاء هم الإنسان الكريم عند الله، الذي يلقاه ربه بالرضا والرضوان..
إنهم هم الذين آمنوا بالله، وعرفوا ما لله سبحانه وتعالى، من كمال وجلال..
فاستمسكوا بالحق، وهو الإيمان، وما يدعو إليه، وما ينهى عنه.. ثم تواصوا به فيما بينهم، فنصح بعضهم لبعض بالاستقامة عليه، والتمسك به، وفى هذا ما يقوّى من جبهة الحق، ويكثّر من أتباعه.
وفى قوله تعالى: «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» - إشارة إلى أن طريق الإيمان، والاستقامة على شريعته ليس أمرا هينا، فإن ذلك إنما يحتاج إلى معاناة وصبر على مغالبة الشهوات، وقهر دواعى الأهواء، ووساوس الشيطان.. فطريق الحق طريق محفوف بالمكاره، والصبر هو زاد الذين يسلكون طريقه، ويبلغون به غايات الفوز والفلاح..(16/1669)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
(104) سورة الهمزة
نزولها: نزلت بمكة.. بعد سورة القيامة.
عدد آياتها: تسع آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة وثلاثون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
فى سورة العصر أقسم الحقّ جلّ وعلا «بالعصر» على أن الإنسان فى خسر، مستثنيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
وفى هذه السورة (سورة الهمزة) عرض للإنسان الخاسر، ومن أبن كان خسرانه، وإلى أين يكون مصيره.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 9) [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)(16/1670)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» .
«الهمزة» هو الذي يهمز الناس، أي يؤذبهم بقوارص الكلم جهرة، فيخدش حياءهم، ويمتهن كرامتهم، ليزداد هو علوّا وتطاولا على الناس، ولتخفّ موازينهم إزاء ميزانه، فلا يرتفع أمامه رأس، ولا يشمخ أنف.
و «اللمزة» هو الذي ينقص من أقدار ذوى الأقدار، فى غير مواجهتهم، إذ كان لا يستطيع أن يلقاهم وجها لوجه. فيشيع الفاحشة فيهم، ويذيع قالة السوء عنهم.
فالهمز واللّمز غايتهما واحدة، وهى الحطّ من أقدار الناس، ومحاولة إنزالهم منازل الدّون فى الحياة.. وإن كان الهمز بأسلوب العلانية، واللمز بأسلوب السرّ والخفاء.. ومن كان من شأنه الهمز كان من شأنه اللمز كذلك، والعكس صحيح.. إذ هما ينبعان من طبيعة واحدة.
وقوله تعالى:
«الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ» هو من أوصاف هذا الهمزة اللّمزة، الذي توعّده الله سبحانه وتعالى بالويل والعذاب..
فأكثر الناس همزا ولمزا للناس، هو الذي يحرص على جمع المال، ويجعل هذا الجمع كلّ همّه فى الدنيا..
وإنه لكى ينفسح له طريق الجمع، ويخلو له ميدان الكسب، يحارب الناس بكل سلاح، فلا يدع فى الميدان الذي يعمل فيه إنسانا إلا طعنه(16/1671)
الطعنات القاتلة متى أمكنته الفرصة فيه.. بالهمز حينا، وباللمز أحيانا.
ثم إنه من جهة أخرى- إذ يجمع ما يجمع من مال- حريص على أن يدفع عن هذا المال كل عادية يراها بأوهامه وظنونه، فهو لشدة حرصه على ما جمع، يحسب أن كل الناس لصوص يريدون أن يسرقوه، أو قطاع طرق يتربصون به.. وهو لهذا يرمى الناس بكل سلاح، ويطعنهم بكل ما يقع ليده.. وكأنهم متلبسون بسرقة ماله الذي جمع!! ثم هو من جهة ثالثة، حريص على أن يقيم له من هذا المال الذي جمعه، سلطانا على الناس، لا بما ينفق عليهم منه فى وجوه الخير، ولا بما يمدّ به يده إليهم من معروف، بل بما يرى الناس من غناه وكثرة أمواله.. وهو لهذا يعمل على إعلاء نفسه بهدم غيره، والحطّ من منزلته.. وهذا هو الإنسان فى أسوأ أحواله، وأخسّ منازله.. إنه لا يسمو بذاتيته، ولا يرتفع بسعيه فى وجوه الخير والفلاح، بل إنه يرتفع على حطام الناس، ويعلو على جثث ضحاياه، الذين يريق دمهم بهمزه ولمزه.
وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى الجمع هنا بين الهمزة، اللّمزة، وجامع المال ومكتنزه.
فالهمز واللمز، وإن كان طبيعة غالبة فى الناس من أغنياء وفقراء، إلّا أنه عند الذين همّهم كلّه هو المال، يعدّ سلاحا من الأسلحة العاملة لهم فى جمع المال، وفى حراسته، وفى التمكين لهم من التسلط على الناس به.
وعدّد المال: جمع بعضه إلى بعض فى صفوف مترصّة، وفى صنوف متعددة، كل صنف منها يأخذ مكانا خاصّا به، فهذا ذهب، وذاك فضة، وذا جواهر ولآلىء، وتلك أنعام وزروع، ورياض، وهذه دور وقصور، وأثاث ورياش، إلى غير ذلك مما يعدّ من عالم المال، ويحسب بحسابه.(16/1672)
وقوله تعالى:
«يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» جملة حالية تكشف عن ظنون هذا الإنسان وأوهامه، وهو أنه على ظنّ من أن هذا المال الذي جمعه، سيخلّده، ويمدّ له فى الحياة، وأنه بقدر ما يستكثر من المال بقدر ما يكون له من بقاء فى هذه الدنيا.. هكذا شأن الحريصين على المال، الذين اتجه همهم كلّه إلى جمعه.. إنهم لا يذكرون الموت أبدا، ولا يغشون مكانا يذكّرهم به، ولا يستمعون إلى حديث يذكر فيه.. إن الموت عندهم هو عدوّ قد قتلوه بأمانيّهم الباطلة، وأراحوا أنفسهم منه، فما لهم والحديث عنه؟ وما لهم وما يذكّرهم به؟
وقوله تعالى:
«كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ» .
أي كلّا، إنه فى وهم خادع، وفى ضلال مبين، إذ يحسب أن المال يخلّد صاحبه ويمدّ له فى العمر.. وكلا إنه سيموت، وسيبعث، وسينبذ أي يرمى فى الحطمة، أي جهنّم، التي تحطمه حطما، وتدقّه دقّا، وتهشمه هشما..
ونبذ الشيء: طرحه فى غير مبالاة، هوانا له واستخفافا به.. كما تنبذ النواة من النمرة بعد أن تؤكل.
وقوله تعالى:
«وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ؟ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ» .
استفهام عن الحطمة، يلفت النظر إليها، ويدير العقل للبحث عن حقيقتها..(16/1673)
وجواب يجيب عن هذا السؤال، ليكشف عن حقيقة هذه الحطمة، ليلتقى مع ما وقع فى النفس من تصورات لها، فتزداد حقيقتها وضوحا وبيانا.
إنها نار الله الموقدة.. قد أوقدها الله فكانت نار لله، وليست من تلك النار التي يوقدها الناس!.
وقوله تعالى:
«الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» .
أي أنها نار ذات شأن عجيب، ليس فى نار الدنيا شىء من صفاتها وآثارها.. إنها تطلع على الأفئدة، أي أنها لا تتسلط على الأجسام وحسب، بل إنها تتسلط كذلك على المشاعر والوجدانات، فتشتعل بها المشاعر، ونحترق بها الوجدانات.. وقد يكون فى هذا ما يشير- والله أعلم- إلى أن عذاب أهل النار نفسىّ، أكثر منه مادىّ.
وقد قيل إن معنى الاطلاع على الأفئدة، هو أن هذه النار العجيبة تعرف أهلها، وكأنّها اطلعت على سرائرهم، وما عملوا من منكرات، فتدعوهم إليها، وتمسك بهم، وتشتمل عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى» (17- 18 المعارج) وقوله سبحانه: «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» (12: الفرقان) .
قوله تعالى:
«إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» .
أي أن هذه النار مؤصدة، أي مغلقة على أهلها، مطبقة عليهم، لا يجدون لهم فيها منفذا إلى العالم الخارجي.. أما هم، فهم مشدودون إلى عمد ممددة، قد شدت أغلالهم إليها.. فهم بهذه القيود فى سجن، داخل هذا السجن!(16/1674)
وقد قلنا فى غير موضع إن هذه الأوصاف التي توصف بها أدوات العذاب، فى النار، وتلك الأوصاف التي توصف بها ألوان النعيم فى الجنة، هى مما فتمثله فى الدنيا، ونرى مشابه منه كما نطق به القرآن الكريم، أما كنه هذه الأشياء وحقيقتها، فلا يعلمها إلا الله، سبحانه، وعلينا أن نصدق بها كما وردت، دون أن نبحث عن صفاتها، وحدودها
(105) سورة الفيل
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الكافرون» .
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
فى سورة «الهمزة» عرض لمن جمع المال، واتخذ منه سلاحا يغمز به الناس، ويهمزهم، ويمزق أديمهم، ويزبل وجودهم الإنسانى بين الناس..
وسورة «الفيل» تعرض لجماعة من تلك الجماعات، التي اجتمع ليدها قوة من تلك القوى المخيفة، هى الفيل، الذي يشبه قوة المال فى طغيانه، حين يجتمع ليد إنسان جهول غشوم، طاغية، فيتسلط على الناس، كما يتسلط صاحب الفيل على صاحب الحمار، أو الحصان، مثلا.. فكان عاقبة صاحب هذا الفيل الهلاك والدمار، كما كان عاقبة صاحب هذا المال، الذلّ والخزي، والخسران..(16/1675)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
التفسير:
فيما يحدث به التاريخ، وتتوارد عليه الأخبار الصحيحة، تلك الحادثة التي تسمى حادثة الفيل، والتي أرخ بها العرب الجاهليون، كما كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة، التي تقع لهم فى مسيرة حياتهم.. فاتخذوا عام الفيل مبدأ لمرحلة من مراحل التاريخ عندهم..
وحادثة الفيل- كما تروى كتب التاريخ والسير- كانت عام ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.. وأن مسرحها كان مكة، البلد الحرام، وأن مقصدها كان هدم الكعبة والبيت الحرام! قيل إن قائدا حبشيا اسمه «أبرهة» ، كان قد غلب على اليمن، ثم رأى تعظيم العرب للكعبة، وإقبالهم عليها، وتمسحهم بها، فأراد أن يجعل وجهة العرب إليه، فبنى بنيّة، أراد بها أن يحج العرب إليها، وأن ينصرفوا عن الكعبة.. فلما لم يجد منهم استجابة لدعوته، ولا التفاتا إلى بنيته، قرر أن يهدم الكعبة، ويزيل معالمها، حتى لا يكون للعرب متجه إليها، فيخلو بذلك وجههم لهذه البنية التي بناها.. فسار يجيش كثيف، يتقدمه فيل عظيم، كان(16/1676)
عدة له من عدد الحرب التي يرهب بها أعداءه.. فلما سمعت قريش بمقدم أبرهة بهذا الفيل الذي يتهددهم به، فزعت، وهالها الأمر..
قالوا: ونزل أبرهة بجيشه وفيله بمكان اسمه «المغلّس» على مشارف مكة، وحط رحاله هناك، استعدادا لدخول مكة، وهدم الكعبة..
ثم إنه استدعى إليه صاحب كلمة قريش يومئذ، وكان عبد المطلب بن هاشم، جدّ النبي.. فجاء إليه، فكلمه أبرهة فيما جاء له، وأنه لا يريد شرا بالناس، وإنما جاء ليهدم الكعبة، فإن أخلت قريش بينه وبين الكعبة لم يعرض لهم بسوء، وإلا فقد عرفوا ما سوف ينزل بهم من بلاء!! فقال له «عبد المطلب» :
دونك وما تشاء.. ولكن ردّ إلينا ما احتواه جيشك من أموالنا.. وكان جيش أبرهة قد ساق كل ما صادفه فى طريقه من إبل وشاء، وعبيد، مما كان على مواقع المراعى لقريش.. فقال أبرهة: أحدثك فى شأن الكعبة، وتحدثنى عن الإبل والشاء؟ أترى هذه الأنعام أكرم عندكم وأغلى من هذا البيت الذي تعظمونه؟ فقال «عبد المطلب» هذه الأنعام لنا، أما البيت فله ربّ يحميه!! قالوا: ودعا عبد المطلب قريشا إلى أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، وجبالها، وأن يدعوا أبرهة والبيت الحرام..
وفى صبيحة اليوم الذي تأهب فيه أبرهة لدخول البلد الحرام، فشا فى جيشه الجدري، فهلك الجيش جميعه.
قالوا، وكان ذلك أول عهد العرب بهذا الداء، الذي لم تعرفه من قبل..
وقالوا: إن هذا الداء كان يهرى جسد من يلمّ به، حيث يتناثر لحمه، ويتساقط، قطعا قطعا، كما تتساقط الرمم المتعفنة..
وهكذا قضى على الجيش كله، ولم تبق منه إلا تلك الأشلاء الممزقة، المتناثرة.(16/1677)
والقرآن الكريم، لا يشير إلى هذا الداء- داء الجدري- الذي يقال إنه هو الذي هلك به أبرهة وجيشه، وإنما يتحدث عن طير أبابيل، رمت القوم بحجارة من سجيل، فجعلتهم كعصف مأكول، كما يقول سبحانه:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» وهو استفهام تقريرى تنطق به الحال المشاهدة..
والتضليل: الضياع، والخيبة، والبوار..
وقوله تعالى:
«وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» ..
الأبابيل: الجماعات، والأسراب التي يتبع بعضها بعضا..
وقوله تعالى:
«تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ..» .
أي أن هذه الأسراب من الطير كانت ترمى القوم بحجارة من سجيل..
وهذه الحجارة لا يدرى حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والأوصاف التي يصفها بها المفسرون والمحدّثون لا ينبغى الوقوف عندها.. وهل يسأل عن عصا موسى وكيف كانت تنقلب حية؟ وعن يد عيسى وكيف كانت تبرئ الأكمه والأبرص، وعن كلمته، وكيف كانت تحيى الموتى؟ .. إنها آيات من عند الله، وآيات الله، وإن لبست فى الظاهر صورا حسية، فإن فى كيانها أسرارا لا يعلمها إلا علام الغيوب.. وهذه الطير، هى طير، والذي كانت تحمله وترمى يه القوم، هو حجارة من سجيل.. أما جنس هذا الطير، وصفته، وأما الأحجار وصفتها فذلك ما لا يعلمه إلا الله، والبحث عنه رجم بالغيب..(16/1678)
هذا، ويطلق الطير على كل ما طار بجناحين، سواء أكان بعوضا، أم ذبابا، أم نسورا، وعقبانا..
والسجيل: الحجارة الصلدة، وأصل السجيل، الطين المطبوخ.
والعصف: الكمّ الذي يضم الحب فى كيانه، كحب القمح، والشعير، ونحوه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» .
والعصف المأكول: أي الذي أكل منه الحب، وبقي هذا القشر الرقيق الذي كان يغلّقه.. ولا شك أن هذا الذي أخذ الله سبحانه وتعالى به هذا الطاغية الذي جاء ليهدم بيت الله، هو آية من الآيات الدالة على ما لهذا البيت عند الله من حرمة، وأنه بيته على هذه الأرض، الذي كان أول بيت وضع للناس، وسيكون آخر بيت يبقى على وجه الأرض.. وأنه لا يزول حتى تزول معالم الحياة من هذا العالم.. ثم إن وقوع هذه الآية مع مطلع ميلاد النبي، هو آية من آيات الله، على ما لرسول الله عند ربه من مقام كريم، فلا ينزل سوء ببلد هو فيه.. إنه صلوات الله وسلامه عليه- رحمة حيث كان.. رحمة للناس، وبركة على المكان والزمان.. فرحم الله قومه، وأكرمهم من أجله، فلم ينزل به ما نزل بالأقوام الضالين الذين عصوا رسلهم، بل عافاهم الله سبحانه من هذا البلاء وأخذ بهم إلى طريق الهدى والإيمان. وكذلك فعل سبحانه بالبلد الحرام، مطلع نبوته، ومبدأ رسالته، فحماها من كل سوء، ودفع عنها كل مكروه.. فى ماضيها، وحاضرها ومستقبلها، وستبقى هكذا إلى يوم الدين، البيت المعمور، الذي تتجه إليه أبدا قلوب الأمة الإسلامية ووجوهها.(16/1679)
(106) سورة قريش
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة التين..
عدد آياتها: أربع آيات..
عدد كلماتها: تسع عشرة كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
أشارت سورة «الفيل» إلى هذه المنّة العظيمة التي امتن بها الله سبحانه وتعالى على «قريش» إذ دفع عن بلدهم الحرام، وعن بيته الحرام هذا المكروه، وردّ عنهم هذا البلاء، وأخذ المعتدى على حرمة هذا البيت أخذ عزيز مقتدر.. وبهذا وجدت قريش فى هذا البلد أمنها، ووجدت فى جوار البيت الحرام حماها، وصار لها فى قلوب العرب مكانة عالية، وقدر عظيم، لا يستطيع أحد أن يحدّث نفسه بسوء ينال به أحدا من أهل هذا البلد الحرام، وقد رأى ما صنع الله بمن أراد به أو بأهله سوءا..
وجاءت سورة «قريش» بعد هذا، وكأنها تعقيب على حادثة الفيل، ونتيجة لازمة من نتائج هذه الحادثة.. ولهذا وصل كثير من العلماء هذه السورة بسورة الفيل، وجعل اللام فى قوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» لام تعليل، متعلقا بقوله تعالى «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .. أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش.. كما سنرى ذلك بعد..(16/1680)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 4) [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
التفسير:
الإيلاف: من التأليف، والجمع، فى تجانس وألفة، ومودة..
فقوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» أي لأجل أن تألف قريش رحلة الشتاء والصيف، ولكى تعتاد تنظيم حياتها على هاتين الرحلتين- كان هذا الذي صنعه الله بهذا العدوّ صاحب الفيل، الذي جاء يبغى إزعاجهم عن البلد الحرام، ونزع ما فى القلوب من مكانة لهم، وتعظيم لشأنهم، باعتبارهم سدنة البيت الحرام الذي كانت تعظمه العرب، وتعظم ساكنيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (25: الحج) .
وقوله تعالى: «إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ» .. هو بدل من قوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» .. أي لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، كان هذا الذي فعلناه بهذا العدو المغير الذي جاء يزعج أهل هذا البلد الآمن.. فكانوا فى رحلتيهم التجاربتين، فى الشتاء والصيف، فى أمن وسلام، لا يعرض لهم أحد «م 106 التفسير القرآنى ج 30»(16/1681)
بسوء، فحيث نزلوا وجدوا الألفة والمودة من كل من يلقاهم، ويعرف أنهم أهل هذا البلد الحرام..
فقوله تعالى: «رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ» مفعول به للمصدر «إيلافهم» .
وقد كان لقريش رحلتان للتجارة.. رحلة فى الشتاء، إلى اليمين، ورحلة فى الصيف، إلى الشام..
والذي يعرف الحياة الجاهلية، وما كان يعرض للمسافرين فى طرقها وشعابها من أخطار، وما يترصدهم على طريقهم من المغيرين وقطاع الطرق، يدرك قيمة هذا الأمن الذي كان يصحب قريشا فى قوافلها المتجهة إلى اليمن أو الشام، محملة بالأمتعة، والبضائع، دون أن يعرض لها أحد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (67: العنكبوت) ولهذا جاء قوله تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» - جاء تعقيبا على هذه النعمة العظيمة التي أنعمها الله على قريش، وجعل من حقّ شكرها أن يعبدوا رب هذا البيت، فهو- سبحانه- الذي حفظه لهم مما كان يراد به من سوء، وحفظ عليهم أمنهم وسلامتهم فيه.. فلقد أطعمهم الله سبحانه من جوع، بما فتح لهم من طرق آمنة يغدون فيها ويروحون بتجاراتهم، وألبسهم لباس الأمن حيث كانوا، داخل هذا البلد الحرام أو خارجه.. وإنه لا أجلّ من نعمة الأمن بجده الإنسان وسط غابة، تزأر فيها الأسود، وتعوى الذئاب! وفى إضافة البيت إلى الله سبحانه وتعالى، تشريف لهذا البيت، ورفع لقدره وتنوبه به..
فالله سبحانه وتعالى، هو رب هذا البيت، ورب كلّ شىء فى هذا الوجود، ولكن إضافة هذا البيت وحده إلى ربوبيته سبحانه وتعالى، تجعل لهذا البيت(16/1682)
شأنا غير شأن عوالم المخلوقات كلّها.. فهل يعرف المشركون قدر هذا البيت؟
وهل يحفظون حرمته، ويرعونها حق رعايتها؟
وقد أشرنا من قبل- فى تفسير سورة القدر- إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يضف إلى ذاته سبحانه فى مقام القسم- من عالم البشر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الإضافة، تضع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى كفة، وعالم المخلوقات كلها فى كفة، وأن كفته ترجح كفة المخلوقات جميعها، فى سمائها وأرضها، وما فى سمائها وأرضها.
ونقول هنا، إن الله سبحانه لم يضف إلى ذاته الكريمة- فى مقام الربوبية- بيتا، غير هذا البيت الحرام..َبَّ هذَا الْبَيْتِ»
.. وهذا يعنى أن هذا البيت، يرجح فى ميزانه بيوت الله جميعها.
(107) سورة الماعون
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة التكاثر.
عدد آياتها: سبع آيات..
عدد كلماتها: خمس وعشرون كلمة..
عدد حروفها: مائة وخمسة وعشرون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة «قريش» تنويه عظيم بشأن الشّبع من الجوع، والأمن من الخوف، حيث لا حياة بغير طعام، ولا طعم لحياة بغير أمن! وجاءت سورة «الماعون» لتضرب- والحديد ساخن- كما يقولون- على أوتار هذه القلوب الجافية، ولتهزّ تلك المشاعر الجامدة، التي عرفت طعم الشّبع بعد الجوع، وذاقت هناءة الأمن بعد الخوف، حتى تندّ بالمعروف، وتسخو بالخير، قبل أن تنسى لذعة الجوع، ورعدة الخوف.(16/1683)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 7) [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
التفسير:
«أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟» .
خطاب للنبى، صلوات الله وسلامه عليه، ولكل من هو أهل للخطاب، ولتلقّى العبرة والعظة منه..
والاستفهام هنا يراد به إلفات الأنظار والعقول إلى هذا الإنسان الذي يكذب بالدين.. إنه إنسان عجيب، لا ينبغى لعاقل أن يفوته النظر إلى هذا الكائن العجيب وتلك الظاهرة النادرة! ففيه عبرة لمن يعتبر، وفيه ملهاة لمن يريد أن يتلّهى..
والدين: هو الدينونة، أي الحساب والجزاء فى الحياة الآخرة..
والذين يكذبون بالدينونة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، لا يؤمنون بالله، وإن آمنوا به فهم لا يوقرونه، ولا يعرفون قدره. ومن هنا فهم(16/1684)
لا يعلمون حسابا للقاء الله، ولا يقدّمون شيئا لليوم الآخر، فإنّ من خلت نفسه من شعور الثواب أو العقاب من الجهة التي يتعامل معها، فإنه لا يلقاها إلا فى تراخ وفتور، وعدم مبالاة.
وقوله تعالى:
«فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» .
الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر، يدل عليه الاستفهام فى قوله تعالى:
«أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» ؟ أي إذا لم تكن رأيته، فها هو ذا، فانظر إليه، وشاهد أحواله، فهو ذلك الذي يدعّ اليتيم..
والإشارة مشاربها إلى هذا الذي يكذب بالدين.. إنه ذلك الذي «يَدُعُّ الْيَتِيمَ» أي يقهره، ويذله، وينزع عنه لباس الأمن والطمأنينة إذا وقع ليده، وعاش فى ظله.. إن اليتيم ضعيف، عاجز، أشبه بالطير المقصوص الجناح، يحتاج إلى اللطف، والرعاية، والحنان.. فإذا وقع ليد إنسان قد خلا قلبه من الرحمة، وجفت عواطفه من الحنان والعطف- كان أشبه بفرخ الطير وقع تحت مخالب نسر كاسر، فيموت فزعا وخوفا، قبل أن يموت تمزيقا ونهشا..
وقوله تعالى:
«وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» .
أي لا يدعو إلى إطعام المسكين، ولا يجعل من رسالته فى الناس إطعام الجياع.. فإن من لا يحمل همّ الجياع، ولا يدعو الناس إلى إطعامهم، لا يجد من نفسه الدافع الذي يدفعه إلى إطعامهم من ذات يده.. ذلك أن الذي يعرف عنه فى الناس أنه يحضّ على هذه المكرمة وينادى بها فيهم- يستحى أن يدعو إلى فعل ولا يفعله..(16/1685)