ففى السماء، النجوم، والكواكب.. وهى مسخرة بأمر الله سبحانه وتعالى، فى دورانها فى أفلاكها، على ما يرى الناس منها، فى جميع الأوقات..
وهى قائمة على ما أقامها الله عليه، من إرسال أضوائها، وأنوارها على الأرض، دون أن يكون للناس شأن، أو حول، فى تحويل مداراتها، أو تغيير نظامها..
ثم إن للناس مع هذا أن ينتفعوا بكل ما أمكنهم الانتفاع به منها.. فإذا كشف لهم العلم عن إمكان اختزان الطاقة الحرارية للشمس، واستخدام هذه الطاقة فى إدارة المحركات، وتسيير البواخر، والقاطرات، والسيارات، وغيرها- فذلك مما سخر الله للناس، ويسر لهم الانتفاع به.. وقل مثل هذا فى كل ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من عالم السماء..
وفى الأرض.. ما لا يحصى من قوى الطبيعة المختزنة فيها، والتي جعل الله مفاتحها فى يد الإنسان، بما يكشف له العلم من أسرار..
فهذا البناء الشامخ للمدنية، وما تزخر به الحياة فى هذا العصر من ألوان لا حصر لها- هو مما أودعه الله سبحانه وتعالى فى هذه الأرض، وهو ما استطاعت يد الإنسان أن تطوله.. وهناك ذخائر كثيرة لا تزال مطوّية فى صدر الطبيعة، تنتظر يد الإنسان القادر على الوصول إليها، وكشف الستر عنها..
وقوله تعالى: «جَمِيعاً مِنْهُ» حالان من لفظ «ما» فى قوله تعالى: «ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» أي سحر كل هذا مجتمعا، فى حال أنه من الله سبحانه وتعالى.. أي من فضله وإحسانه..
هذا وقد رأى بعض أصحاب الجدل والمراء، من طوائف المعتزلة والمتصوفة وغيرهم، أن فى قوله تعالى: «مِنْهُ» يشير إلى أن هذا الوجود فى أرضه وسمائه، هو من ذات الله، وأن هذه العوالم هى ظل الله، وتجلّياته، أو هى الله ذاته.. إلى(13/231)
غير ذلك من المقولات، التي تنتهى إلى القول بوحدة الوجود، وأنه ليس ثمة خالق ومخلوق..
ولا شك أن هذا تعسف فى التأويل، فضلا عن فساد المعنى المستنبط من هذا التأويل.. فإن الجار والمجرور «منه» متعلق بمحذوف، هو مضاف إلى الله سبحانه وتعالى، أي ذلك كله، من فضل الله، ورحمته..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» دعوة إلى إعمال الفكر، فى مواجهة هذه القوى المسخرة، حتى ينسج الإنسان من هذه الخيوط المتنائرة هنا وهناك، ثوبا قشيبا، يتزين به، ويكون سمة له، وشارة تفرق بينه وبين عالم الحيوان، الذي يعيش على ما تعطيه الطبيعة، دون أن يكون له أثر يذكر فى تحوير شىء أو تبديله..
قوله تعالى:
«قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن بعض الوجوه المنكرة من المشركين الذين إذا علموا من آيات الله شيئا اتخذوها هزوا، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يمسك رحمته عنهم، بل ساق إليهم آياته، تحمل إليهم الهدى، وتدعوهم إليه، وتغريهم بالإيمان بالله، بما تعرض عليهم من دلائل قدرته، وسوابغ نعمه..
ثم إنه لكى يكون من المشركين الضالين إصاخة إلى هذه الدعوة الكريمة من الله سبحانه وتعالى لهم، ثم يكون منهم نظر فيما يدعون إليه من النظر فى آيات الله، وفيما سخر للناس فى السموات وفى الأرض من نعم- لكى يكون من المشركين هذا، كان على المؤمنين ألا يدخلوا معهم فى مجال الخصومة الحادة،(13/232)
والجدل العنيف، فإن ذلك من شأنه أن يثير فى القوم دوافع الكبر والاستعلاء، وأن يشغلوا بالمؤمنين، وبالانتصار عليهم فى المقاولة والمصاولة- عن النظر فى أنفسهم والإفادة من آيات الله التي تتلى عليهم..
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» - جاء داعيا المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله، حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات الله، فى جوّ لا تنعقد فيه سحب الجدل والخصام، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات الله.. وبهذا تقام الحجة عليهم، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة الله.. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا، لم يكن لهم عذر يعتذرون به، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى آيات الله، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم، كى يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع، والنظر، والتأمل، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز يحجزهم عن الإيمان بالله، فهو من عند أنفسهم، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم، التي حجبوا بها نور الحق عنهم..
وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. وفى تنكير «قوم» إشارة إلى قوم بأعيانهم، وأن أمرهم مع تنكيرهم، أظهر من أن يدلّ عليه، وأن يعرّف به.. وهؤلاء القوم، هم أولئك المشركون، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم وسفاهاتهم..
فهؤلاء القوم قد امتنّ الله سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة، بفضل مقام رسول الله فيهم، فلم يعجّل الله سبحانه وتعالى لهم العذاب، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت،(13/233)
يصلحون فيها أنفسهم، ويصححون عقيدتهم.. ثم إنه- سبحانه- بعد أن أفسح لهم المقام فى هذه الحياة الدنيا، صرف عنهم الدواعي التي تشغلهم عن الاستماع إلى آيات الله التي تتلى عليهم، أو تحول بينهم وبين النظر فيها، فدعا الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا، أن يغفروا لهم، وألا يدخلوا معهم فى جدل..
وهذا كله دليل على مزيد من الفضل والإحسان إلى هؤلاء القوم.. فإذا لم يستقبلوا هذا الفضل وذلك الإحسان بالإقبال على الله، والاستجابة لما يدعوهم سبحانه وتعالى إليه، من هدى- لم يكن لهم بعد هذا إلا العقاب الأليم..
وأيام الله، التي لا يرجوها هؤلاء المشركون ولا يتوقعونها، هى الأيام الواقعة فى الحياة الآخرة، والمراد بها الحياة الآخرة، ذاتها، وإنما عبّر عنها بالأيام، لأن الأيام دلالة على وحدة من وحدات الزمن فى الحياة الدنيا، وهناك فى الحياة الآخرة أيام ذات دلالة على الزمن، وإن اختلفت تلك الأيام عن أيام الدنيا فى مقدارها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله عن أهل الجنة: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (62: مريم) .. وفى إضافة أيام الآخرة إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الأيام كلها هى أيام الله- إشارة إلى شرف هذه الأيام، وإلى عظم قدرها، وأن أيام الحياة الدنيا إذا ووزنت بها لا تساوى شيئا، كما يقول الله سبحانه: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» (64: العنكبوت) .. وكما يقول سبحانه: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (26: الرعد) .
فللأيام أقدار وأوزان عند الله، كأقدار الناس وأوزانهم، فالناس كلّهم عباد الله، ولكن الله سبحانه يضيف إلى ذاته أهل ودّه، ومحبته، تكريما لهم وتشريفا.. فيقول سبحانه: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (17- 18: الزمر)(13/234)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قوله تعالى:
«مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» .
هو تعقيب على الآيات السابقة، وما حملت إلى المشركين من دعوة إلى الإيمان، وما دعت إليه المؤمنين من الرفق بالمشركين والتجاوز عن جهلهم وسفاهتهم.. فمن استجاب لأمر الله، وعمل صالحا، فله جزاء عمله، ومن أعرض عن الله سبحانه وتعالى، وركب طرق الباطل والضلال، فسيلقى جزاء كفره وضلاله.. فهناك يوم يرجع فيه الناس جميعا إلى الله، ويحاسبون على كل ما عملوا، ويجزون عن الإحسان إحسانا ورضوانا، وعن السوء عذابا ونكالا..
الآيات: (16- 22) [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)(13/235)
التفسير: قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» .
مناسبة هذه الآية وما بعدها مما فيه ذكر لبنى إسرائيل، هى أن الآيات السابقة عليها قد وضعت بين يدى المشركين من قريش هذا الهدى الذي أرسله الله إليهم، وتلك الرحمة التي ساقها لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقفون من هذا الهدى وتلك الرحمة، موقف الشك، والاتهام، والتردد، وإن ذلك يوشك أن يعرّضهم لعقاب الله، وينزلهم منازل سخطه وغضبه- فناسب ذلك أن يلفتوا إلى بنى إسرائيل الذين يجاورونهم، ويعيشون بينهم، وإلى ما آتاهم الله من الحكم والنبوة، وما رزقهم من طيبات، حيث أنزل عليهم المنّ والسلوى، وكانوا بهذا مثلا فريدا فى الناس بكثرة الأنبياء الذين بعثوا فيهم، وبالملوك الذين جمعوا بين الملك والنبوة، فحكموهم بسياسة الملك، وحكمة النبوة.. ثم يتلك المعجزات الكثيرة التي جاءتهم من الله سبحانه على يد الأنبياء والرسل.. فهذه الألطاف والنعم لم تجتمع لمجتمع كهؤلاء القوم، ومع هذا فقد تحولت تلك النعم فى أيدى القوم إلى بلاء ونقم، حيث مكروا بآيات الله وكفروا بها، فرماهم الله سبحانه وتعالى، باللعنة، وأمطرهم برجوم من سخطه(13/236)
وغضبه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما مضطربا قلقا، لا يجدون فيه إلى الأمن والسلام سبيلا، إذ قطّعهم فى الأرض أمما، وسلّط عليهم الناس فى كل مجتمع يعيشون فيه، كما يقول سبحانه:
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» (167: الأعراف) .
فهذا التفضيل الذي فضّل الله به بنى إسرائيل، هو ابتلاء لهم، كشف عن نفوسهم الخبيثة، وطباعهم الشرسة، كما يكشف الغيث المنزّل من السماء عن معدن الأرض السبخة التي يصيبها الماء الغدق، فإذا هى بعد قليل قد أصبحت مستنقعا آسنا متعفنا، يؤذى كل من يلم به..
ففى هذا المثل، يرى المشركون عاقبة من يكفر بنعم الله، ويمكر بآياته..
وها هم أولاء بين يدى نعم الله وآياته.. فماذا هم فاعلون؟ أيكفرون ويمكرون، فيلقوا جزاء الكافرين.. الماكرين.. أم يشكرون ويؤمنون، فيكون لهم جزاء الشاكرين المؤمنين؟ ذلك ما تكشف عنه التجربة التي لم يخرجوا منها بعد..
قوله تعالى:
«وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... » أي وآتيناهم كذلك بينات من الأمر..
والبينات: هى المعجزات التي تكشف لهم الطريق إلى الأمر الذي يدعون إليه، ويؤمرون باتباعه، وهو دين الله وشريعته..(13/237)
وقوله تعالى: «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» - أي أن هذه الآيات البينات، وهذا العلم الذي تحمله تلك الآيات البينات، قد كان سببا فى اختلافهم، فآمن فريق منهم، وكفر فريق، وشكّ فريق، وقد كانوا من قبل هذا العلم على طريق واحد، هو طريق الغواية والضلال..
وفى قوله تعالى: «بَغْياً بَيْنَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الاختلاف والتفرق الذي حدث بينهم حين جاءهم العلم، إنما هو عن بغى وعدوان منهم، وإلا فقد كان من شأن هذا العلم أن يجمعهم على الهدى، وأن يقيمهم على طريق الحق، لو سلمت نفوسهم من داء البغي والعدوان.
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» أي أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم لن يذهب من غير حساب وجزاء، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فيجزى أهل الضلال بضلالهم، وأهل الإحسان بإحسانهم.
قوله تعالى:
«ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ» .. أي ثم بعد أن آتينا بنى إسرائيل ما آتيناهم من بينات من دين الله وشريعته، جعلناك أيها النبي على شريعة من الأمر، فاتبعها..
وفى العطف بثم، إشارة إلى تراخى الزمن، بين ما أنزل الله سبحانه(13/238)
على بنى إسرائيل من آيات ومعجزات، وبين بعثه الرسول، وما أنزل الله الله سبحانه وتعالى عليه من آياته وكلماته..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ» - إشارة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم يؤت مجرد آيات، وبينات من الدين، وإنما أوتى الدّين كلّه، وأنه قد جعل القائم على شريعة هذا الدين، حيث يرد الواردون إليه، فيجدون الرّى من هذا المورد، ويحمل كل وارد ما استطاع حمله منه..
والشريعة: مورد الماء.. وفى تشبيه الشريعة الإسلامية بمورد الماء، إشارة إلى أمور:
أولها: أن القرآن الكريم، الذي هو مصدر هذه الشريعة، هو شىء واحد، أشبه بالماء ... طبيعة واحدة، لا يختلف بعض عن بعض من حيث هو ماء يرده الواردون للسقيا منه.. وكذلك آيات الله وكلماته، كلها على سواء فى جلالها وإعجازها وما فيها للأرواح من حياة.
وثانيها: أن إعجاز القرآن، يبدو فى كل آية من آياته، كما يبدو فى القرآن كله.. كالماء تكشف القطرة منه عن جوهره كله..
وثالثها: أن ما أوتيه الرسل من المعجزات، هو بينات من الدين الذي يدعون إليه، وليس بيّنة واحدة، إذ كانت كل معجزة تختلف عن أختها فى صورتها، وفى آثارها فى الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملائه..: «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» (48: الزخرف) ..
أما ما أوتيه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فهو بيّنة واحدة، وآية واحدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا(13/239)
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ»
(1- 3: البينة) كما يشير إليه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى قوله: «ما من نبى من الأنبياء إلا أوتى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إلىّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن هذه الشريعة، لا يتجه إليها، ولا يرد مواردها إلا من كانت معهم عقولهم التي ينظرون بها إلى هذه الشريعة، ثم يؤديهم هذا النظر إلى العلم الذي يكشف لهم الطريق إليها.. أما من زهد فى عقله، وصحب هواه، فلن يتعرف إلى هذه الشريعة، ولن يرد مواردها.
قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» ..
الضمير فى «إِنَّهُمْ» يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى فى الآية السابقة «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .. وهم المشركون الذين استولى عليهم الجهل، واستبدّ بهم العمى، فانقادوا لأهوائهم، ولم يلتفتوا إلى هذا الهدى الذي يدعون إليه..
فهؤلاء الضالون، ينبغى على النبي أن يدعهم وما اختاروا لأنفسهم، بعد أن أنذرهم، ومدّ إليهم حبل النجاة، فأعرضوا عنه، وأن يستقيم هو على طريقه، وألا يشغل نفسه بهم.. فإنه مسئول عن نفسه أولا، وأن هؤلاء الضالين لن يغنوا عن النبي شيئا، إذا هو شغل بهم، وقصّر- وحاشاه-(13/240)
فى حق ربه.. وأنه إنما يتولى المؤمنين، الذين استجابوا لله وللرسول، ويعمل على ما يعينهم على البر والتقوى.. أما الظالمون فإنما يتولى بعضهم بعضا.. لا ولاية لهم من الله، ولا من رسوله، ولا من المؤمنين.. أما المؤمنون فإن بعضهم أولياء بعض، والله ورسوله أولياء لهم، كما يقول سبحانه:
«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» (55: المائدة) ..
قوله تعالى:
«هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» ..
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم، وهو الشريعة التي جعل الله- سبحانه وتعالى- النبىّ قائما عليها..
فهذا القرآن هو «بَصائِرُ لِلنَّاسِ» - أي مراد ومسرح للعقول، حيث يقيم لها من النظر فيه، بصائر، تتهدى إلى الحق، وتتعرف إلى مواقع الهدى..
والبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة، قوة من قوى الإدراك المستنير المشرق.. يرى بها الإنسان من عالم الحق، ما يرى البصر من عالم الحسّ..
وفى تسمية القرآن بأنه «بَصائِرُ» إشارة إلى أنه هو ذاته عيون مبصرة، وأنه بقدر ما يفتح الله للناس منه، بقدر ما يكون لهم من نور تستبصر به عقولهم، وبقدر ما يحصلون من «هُدىً» وما ينالون من «رَحْمَةٌ» .
وقوله تعالى: «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» - إشارة إلى أن هذا القرآن، وما فيه من بصائر للناس جميعا وهدى ورحمة لهم- لا يرد مورده، ولا يرتوى من هذا المورد إلا من جاء إليه بقلب سليم، مهيأ لاستقبال الخير وتقبله..(13/241)
قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ.. ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
..
هو تهديد لهؤلاء الذين دعوا إلى الحق، فلم يستجيبوا، ورفعت لهم معالم الاستبصار، فلم يبصروا- فهؤلاء لهم عذاب شديد، على حين أن الذين آمنوا واهتدوا سيلقون من الله سبحانه ورحمة ورضوانا.. فهذا هو ميزان الناس عند الله إنه ميزان عدل، لا يسوى فيه بين من «اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ»
أي اقترفوا الآثام والمنكرات، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك، فى الدنيا وفى الآخرة جميعا.. إنهم ليسوا سوآء عند الله فى الدنيا أو فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»
(28: ص) ..
فالمؤمنون على هدى من ربهم فى الدنيا، وفى الآخرة، يؤنسهم الإيمان فى الدنيا، ويملأ قلوبهم أمنا وطمأنينة، وهم بهذا الإيمان يلقون ربهم فى الآخرة، فينزلهم منازل رحمته ورضوانه.
أما الكافرون وأهل الضلال، فهم من كفرهم وضلالهم، لا يجدون برد الطمأنينة فى الدنيا، ولا ريح الرحمة فى الآخرة.. وذلك هو الخسران المبين..
وفى قوله تعالى: «اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ»
إشارة إلى أن اقتراف السيئات، لا يكون إلا بجرح فضيلة من الفضائل، وبعدوان على حق من الحقوق..(13/242)
فالاجتراح من الجرح، الذي يجىء عن طريق العدوان، والذي يوقع صاحبه تحت حكم القصاص منه، كما يقول سبحانه: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» (45: المائدة) .
قوله تعالى:
«وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» - يمكن أن يكون معطوفا على قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» وتكون الآيات الواقعة بين المتعاطفين، اعتراضا يراد به الإلفات إلى موقف الناس من آيات الله الكونية أو الكلامية، وأنهم ليسوا سواء فى موقفهم من تلك الآيات، فبعضهم مؤمن مهتد، وكثير منهم فاسقون..
ولكلّ من الفريقين حسابه عند الله، حيث لا يسوّى بين المؤمنين، وبين الكافرين الظالمين..
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» استكمالا لعرض آيات الله الدالة على قدرته، وعلمه، وحكمته..
ويجوز أن تكون الواو هنا للحال، لا للعطف، ويكون الحال من الفاعل، وهو الله سبحانه، فى قوله تعالى: «أَنْ نَجْعَلَهُمْ»
.. أي أيظن الذين كفروا بالله، واقترفوا ما اقترفوا من آثام- أن يجعلهم الله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات على سواء فى الحياة، وفى الممات، وفيما بعد الممات؟. أيظنون هذا وقد خلق الله السموات والأرض بالحق؟ إن هذا ظنّ فاسد، وما يبنى عليه من تصورات وأحكام لا يكون إلا فاسدا.. فإن هذا الوجود الذي خلقه الله من مادة الحق، وأقامه على الحق، لا يمكن أن يدخل عليه ما يغيّر صورة الحق.(13/243)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
وإن مما يغير صورة الحق أن يسّوى بين المحسنين والمسيئين.. وهذا ما لا يكون أبدا واقعا فى ملك الله.
وقوله تعالى: «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» معطوف على محذوف دلّ عليه السياق، أي وخلق الله السموات والأرض بالحقّ، وأرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولتقوم عليهم الحجة، «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» .
وقوله تعالى: «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» جملة حالية من فاعل الفعل «كَسَبَتْ» المراد به الناس جميعا.. أي أن الجزاء الذي يجزى به الناس، لا يدخل عليه جور، ولا يتلبس به ظلم.. فالمحسن ينال جزاء إحسانه، من غير أن ينقص منه شىء..
بل سيضاعف له الجزاء.. والمسيء سينال جزاء إساءته وما كسبت يداه، دون أن يؤخذ بجريرة أحد.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (164: الأنعام) .
الآيات: (23- 35) [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)(13/244)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .
هو عرض لصورة واحد من صور هؤلاء الضالين، الذين عموا عن آيات الله، بعد هذا العرض العام الذي لا حت فيه صور المبطلين، الذين خرجوا عن(13/245)
سنن الحق الذي خلق الله سبحانه وتعالى به السموات والأرض، والذي فرّق به الله سبحانه بينهم وبين المؤمنين، فى الحياة الدنيا وفى الآخرة..
ففى هذه الصورة المفردة لواحد من آحاد الضالين المكذبين، يرى كلّ واحد من أهل الزيغ والضلال وجوده فى هذه الصورة، وينكشف له الداء المسلط عليه..
فهذا المكذب بآيات الله، المعرض عن دعوة الهدى التي يدعوه إليها رسول الله- إنما يتبع هواه، وينقاد له، انقياد المؤمنين لله.. فالإله الذي يعبده هذا السفيه الضال، هو ما يقيمه له هواه، ويصوره له سفهه، من معبودات يتخذها من دون الله، من أصنام وغير أصنام.
والاستفهام هنا تعجبى، يراد به الاستهزاء والسخرية من هذا الضال، وفضحه على الملأ وهو عاكف على هذا الضلال الذي يعبده من دون الله..
أي إن لم تكن قد رأيت هذا الإنسان المنكود الضال الذي يعبد هواه، فها هو ذا، فانظر إليه!! واتخاذ الهوى إلها، إنما هو بالانقياد لهوى النفس، والامتثال لما تأمر به..
وفى الأثر: «الهوى إله معبود» .
وقوله تعالى: «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» جملة حالية من فاعل «اتَّخَذَ» وهو هذا الذي اتخذ هواه إلها معبودا من دون الله.. أي أنه قد اتخذ إله هواه، فى الحال التي أضله الله فيها على علم.. وهذا يعنى أنه، مع ما جاءه من العلم الذي بلّغه الرسول إياه، وكشف له به معالم الطريق إلى الله- قد اتبع هواه، وركب مركب الضلال..
وفى إسناد الإضلال لهذا الضال إلى الله سبحانه وتعالى، إنما هو بسبب(13/246)
ما كان من إعراض هذا الضال عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءه منها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) وقوله سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5: الصف) .
وقوله تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» - معطوف على قوله تعالى:
«وَأَضَلَّهُ اللَّهُ» أي وأضله الله إذ دعاه إلى الهدى فلم يستجب لدعوته، وختم على سمعه وقلبه، أي أغلقهما، وأطبقهما على ما فيهما من ضلال، فلم تنفذ كلمة الحق إلى أذنه، ولم يدخل نور الهدى إلى قلبه..
فالختم على الشيء: إغلاقه على ما فيه..
وقوله تعالى: «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» .. الغشاوة ما يغشى العين من ظلام، فيحجبها عن أن ترى الأشياء رؤية كاشفة.. وهذا من الأدواء التي رمى الله سبحانه وتعالى بها أهل الضلال، حيث يحجب أبصارهم عن النظر فى آيات الله، نظرا يكشف ما فيها من حق، وهدى، يهدى إلى الله، وإلى طريق مستقيم..
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» ؟ أي أنه لا سبيل إلى هداية هذا الإنسان التعس الشقي، بعد أن أضله الله سبحانه وتعالى، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة! إن الله سبحانه قد رماه بهذه الآفات، وحال بينه وبين أن ينال خيرا من هذا الخير الممدود على مائدة الهدى..
فمن ذا الذي يمكن أن يرد بهذا الضال موارد الهدى؟ ومن ذا الذي يفضّ هذا الختم الذي ختم الله به على سمعه وقلبه؟ ومن ذا الذي يرفع هذه الغشاوة التي ضربها الله على بصره؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف)(13/247)
وقوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» - دعوة إلى الوقوف عند هذا المشهد، الذي يرى فيه هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه، وأضلّه الله بعد أن جاء العلم، وختم الله على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة..
فليأخذ كل إنسان لنفسه عظة من هذا المشهد، ولينظر إلى نفسه، فإن كان بالمكان الذي فيه هذا الضّال فليحاول أن ينخلع عن هذا المكان، وليمدّ يده إلى الله طالبا العون منه.. فإنه لا يطلب العون إلا منه، ولا يرحى الخلاص إلا على يده سبحانه.
قوله تعالى:
«وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» .
تلقى هذه الآية أصحاب الزيغ والضلال، بعد أن أرتهم أنفسهم فى واحد منهم، قد رماه الله بتلك الآفات المهلكة، التي حجبته عن كل هدّى، وحالت بينه وبين كل سبيل إلى النجاة..
والآية الكريمة معطوفة على محذوف، يفهم من قوله تعالى:
«أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .
أي أن هؤلاء المشركين الضالين، لم يستجيبوا لهذه الدعوة التي تدعوهم إلى التذكر والتدبّر فى أمرهم.. فلم يتذكروا ولم يتدبروا، بل أمسكوا بكل ما فى كيانهم من ضلال، وقالوا ما كانوا يقولونه من قبل، من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، وأنه ليس إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعدها.
«وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» .
أي إن حياتنا ما هى إلا هذه الحياة الدنيا.. «نَمُوتُ وَنَحْيا» .. أي(13/248)
لا نرى فيها إلا هذه الصور المكررة من حياة وموت، وموت وحياة..
أحياء يموتون، ومواليد يردّون إلى الحياة..! ولا شىء غير هذا..
«وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وهكذا تمضى بنا الأزمان والدهور، فتحتوى كلّ حىّ، وتضمّه فى كيانها، وتدرجه فى أكفان العدم الأيدى..
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وقوله تعالى: «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» أي إن هذا القول الذي يقولونه، ويقيمون تصوراتهم وأفكارهم عليه، إنما هو من واردات الظنّ الذي لا يستند إلى شىء من العلم. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (36: يونس) قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
أي ومن مقولات هؤلاء الضّالين، القائمة على الظّن الفاسد، أنهم إذا تليت عليهم آيات الله تحدّثهم عن البعث، والحساب والجزاء أنكروا هذا الحديث، وردّوه بلا حجّة، إلا هذه الحجة الفاسدة، وهى أنهم لن يصدّقوا هذا الحديث، ولن يأخذوا به إلا إذا ردّ إليهم آباؤهم الذين ذهبوا، وأن يروهم رأى العين أحياء بينهم! وهذا منطق لا يقبله عقل.. إذ كيف يقوم الأموات من القبور، ويعودون إلى الحياة مرة أخرى، ويعيشون فى الناس، ويشاركونهم الحياة فى هذه الدنيا؟ أهذا مما تحتمله الحياة؟. وهل بعث الأموات من قبورهم ليكونوا فى هذه الحياة الدنيا مرة أخرى- مما لا تتسع له الحياة.؟.
إن الحياة الدنيا لا تتسع إلا لأهلها الأحياء فيها، فإذا ذهبوا جاء غيرهم ليأخذ(13/249)
مكانهم.. وهكذا.. ولو أنه كان من تدبير الله سبحانه أن يردّ الموتى إلى الحياة الدنيا، ويجعل لهم مقاما فيها لما كان من هذا التدبير أن يموتوا، ولظلوا أحياء أبد الدهر.. وهذا لا يكون إلا إذا لم يكن من هؤلاء الأحياء الخالدين توالد..
لأن التوالد معناه أن يبقى الخلف ويذهب السلف..
وانظر كيف يمكن أن تكون الحياة ليومنا هذا، لو طلع علينا الأموات الذين ضمتهم الأرض، واحتواهم التراب، منذ كان للناس وجود على هذه الأرض؟ يقول المعرّى، وقد وقع فى خاطره هذا التصور:
لو هبّ سكان القبور من الثرى ... أعيا المحل على المقيم الساكن
لغدوا وقد ملأ البسيطة بعضهم ... ورأيت معظمهم بغير أماكن!!
فأين هى الأرض التي تتسع لأجيال الناس، وهى تكاد تضيق بهذا الجيل من الناس؟.
فهذا القول الذي يقوله المشركون، ويتحدون به دعوتهم إلى الإيمان بالحياة الآخرة- قول فاسد، لا منطق له.. بل إن هؤلاء المشركين أنفسهم لهم أول الذين يدفعونه لو أنه تحقق، وطلع عليهم موتاهم من الآباء والأجداد..
وسمّى قولهم هذا حجة، لأنه لا حجة عندهم إلا هو.. فهو كل بضاعتهم فى هذا المقام..(13/250)
قوله تعالى:
«قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
هو ردّ على مقولة هؤلاء المشركين، وتقرير للحق الذي لا ريب فيه، دون إقامة وزن لهذه التّرهات التي يهذون بها..
«اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» أي هو سبحانه الذي أوجدكم فى هذه الحياة، وأخرجكم من عالم الموات إلى عالم الحياة، وأمسك عليكم هذه الحياة التي ألبسكم إياها «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وهو سبحانه الذي يميتكم، وينزع عنكم ثوب الحياة الذي ألقاه عليكم..
«ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» - وهو سبحانه الذي يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى، لا إلى هذه الدنيا، وإنما ليدعوكم إلى دار أخرى، غير تلك الدار ويجمعكم فيها..
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. أي أن أكثر الناس هم الذين يكذبون بالبعث، وينكرون اليوم الآخر.. وذلك لما ركبهم من جهل، وما غشيهم من ضلال..
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» ..
أي أن هذا الذي يكون من حياة وموت، وبعث، هو من تدبير الله، ومن تصريفه فى ملكه، لا يسأل عما يفعل.. فمن أسلم نفسه لله،(13/251)
فقد فاز ونجا، ومن أبى أن يسلم نفسه لله، فقد خاب وخسر.. وذلك يوم تنكشف له الحقيقة، ويجد اليوم الذي كان يكذب به، والنار التي توعّد الله بها المكذبين..
قوله تعالى:
«وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» أي وفى هذا اليوم- يوم القيامة- يخسر المبطلون، وفى هذا اليوم، «تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» ..
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل من هو من شأنه أن يرى فى هذا اليوم، ويجد من نفسه القدرة على النظر إلى ما حوله، فى هذا الهول الذي يشتمل على الناس..
والجثو: الإناخة على الركب.. حيث تنحلّ عزائم الناس من الهول المحيط بهم فى هذا اليوم، فلا تحملهم أرجلهم، فيجثون على ركبهم..
أي فى هذا اليوم ترى كل أمة قد اجتمعت، وجنت على ركبها..
وقوله تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» .. هو جواب عن سؤال يعرض لبيان سبب هذا الجثو، ولهذا وقع الفصل بين الجملتين..
فكأنه قيل: لم تجثو هذه الأمم؟ فكان الجواب: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» أي أن هذا الاجتماع، والاستشهاد من الأمم، لأن كل أمة مدعوة إلى كتابها، الذي تحاسب به، على حسب شريعتها التي دعيت(13/252)
إليها.. فلكل أمة شريعة، ولكل أمة حسابها على هذه الشريعة.. من حيث اتباعها والاستقامة عليها، أو تضييعها. والخروج عنها..
وقوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. لم تعطف هذه الجملة على ما سبقها، لأنها فى تقدير جواب على سؤال مقدر.. فكأنه قيل: لم تدعى الأمم إلى كتابها؟ فكان الجواب: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فهذا هو يوم الحساب والجزاء، بما تنطق به هذه الكتب التي فى أيدى الناس من كل أمة..
قوله تعالى:
«هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
أي أنه حين تجتمع الأمم، وتدعى كل أمة إلى تناول كتابها، يقال للناس وهم يأخذون كتبهم: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» أي يتحدث إليكم بالحق..
وفى تعدية الفعل ينطق بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنه ينطق من علوّ، لأنه حق، وحيث كان الحق، فهو على رأس كل أمر..
وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي أن فى هذا الكتاب الذي فى أيديكم أعمالكم التي عملتموها فى دنياكم، فلا تعجبوا أن تجدوا فى هذا الكتاب كل شىء كان منكم، لأننا كنا نكتب ما كنتم تعملون، كما يقول سبحانه فى موضع آخر: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى(13/253)
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»
(12: يس) ..
والاستنساخ، نقل من أصل ينسخ منه، ويؤخذ عنه ما ينقل..
والأصل هو اللوح المحفوظ.. وهذا يعنى أن الملائكة الموكلين يحفظ أعمال الناس وتسجيلها إنما ينسخون هذه الأعمال من اللوح المحفوظ، التي سبق علم الله بها، فهى تجرى على ما كان فى علم الله، وعلى ما سجّل فى الكتاب الإمام، وهو اللوح المحفوظ، كما يقول سبحانه. «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» ..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» ..
ويبدأ بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا ينتظر بهم حتى يفصل فى الكافرين والضالين، وذلك ليروا وجه الخلاص والنجاة من أول الأمر، وبذلك تخلو نفوسهم من هواجس القلق، والفزع، لما يرون مما يحلّ بالظالمين، من بلاء..
فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يدخلهم ربهم فى رحمته، ويفيض عليهم من إحسانه، وينزلهم منازل رضوانه. و «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» الذي لا فوز مثله..
قوله تعالى:
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» ..(13/254)
وإذ يدعى الذين آمنوا إلى جنات النعيم، وإذ يخلو الموقف إلا من من الضالين والمكذبين والكافرين- عندئذ يدعى الضالون والكافرون، يدعون إلى المساءلة والحساب، وقد عرفوا مقدما المصير الذي هم صائرون إليه، فيقال لهم على سبيل التقريع والتنديم: «أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» وفى هذا مواجهة لهم بالاتهام، وحكم عليهم بالإدانة فيما اتهموا به..
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» .
هو مما يقال للكافرين وأهل الضلال فى موقف الحساب.. وهو معطوف على قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» أي وكنتم إذا قيل لكم: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها» أنكرتم هذا القول، ورددتموه على قائليه، وقلتم فى تجاهل غبىّ: «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ؟» إنها لا تقع فى تصورنا إلا من قبيل الظن، الذي لا يبلغ بصاحبه مبلغ اليقين. فكيف ندع حياة نحن فيها، ونتعامل مع حياة أخرى، لا نراها إلا من وراء أوهام وظنون؟.
قوله تعالى:
«وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
أي أنه ظهر للكافرين ما كانوا يعملون من سيئات، وانكشف لهم وجهها القبيح الذي ينادى عليهم بالويل والثبور.. «وَحاقَ بِهِمْ» أي حل وأحاط بهم، هذا اليوم الذي كانوا يستهزئون به، وينكرون أن يكون واقعا أبدا..(13/255)
قوله تعالى:
«وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ..
أي ومما يقال للكافرين فى هذا اليوم، هذا القول الذي يملأ قلوبهم حسرة ويأسا.. إنهم سيتركون فى هذا الهول، كما يترك الشيء المنسيّ، وذلك لأنهم أهملوا النظر فى يومهم هذا، ولم يذكروا أبدا أنهم على وعد معه.. وإن النار لهى مأواهم، ومنزلهم الذي ينزلونه فى هذا اليوم، وإنه لا ناصر لهم يخرجهم من هذا البلاء النازل بهم..
قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .
الإشارة إلى هذا العذاب الذي يعذّب به الكافرون، وأنه إنما كان بسبب اتخاذهم آيات الله هزوا، حيث كانوا، إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، واستخفوا بها، وأطلقوا ألسنتهم بالهذر من القول فيها.. إنهم يفعلون هذا وملء كيانهم كبر وغرور بالحياة الدنيا، وما يتقلبون فيه منها من متاع..
وفى قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» وفى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى تنوع مواقع المساءات التي تأتيهم من كل جهة.. فتارة يواجهون بما يسيئهم، وتارة تجيئهم المساءات من حيث لا يشعرون..
فهم إذ يواجهون بهذا التقريع لما كان منهم من الهزؤ بآيات الله، والغرور بدنياهم- يجيئهم صوت من بعيد بهذه الصاعقة التي تنصب على رءوسهم:(13/256)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
«فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أي أنه لا خروج لهم من هذه النار التي ألقوا فيها، ولا يسمع منهم عذر، ولا يقبل لهم اعتذار.
الآيتان: (36- 37) [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
التفسير:
بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة، فيلتقى ختامها مع بدئها، ويكون أشبه بالتعقيب عليه.. فقد بدأت السورة بالإشارة إلى القرآن الكريم، وبأنه منزل من الله العزيز الحكيم. ثم تلا ذلك الإشارة إلى السموات والأرض وما فيهما من آيات المؤمنين.. وكان مؤدّى هذا، أن كثيرا من الناس، نظروا فى آيات الله القرآنية، والكونية، فرأوا فيها آيات من جلال الله، وعظمته، وقدرته، فآمنوا بالله، وانشرحت صدورهم، واطمأنت قلوبهم بهذا الإيمان، ومن أجل هذا فهم يحمدون الله، ويشكرون له، أن هداهم للإيمان..
فالحمد لله وحده، لا شريك له، هو سبحانه المستحق للحمد، لأنه رب السموات والأرض. وهو المتفرد بالحكم والسلطان فيهما، بعزته، وحكمته..
فالعزة، سلطان غالب قاهر، والحكمة، ميزان حق وعدل فى يد العزة الغالبة القاهرة، فلا ظلم ولا جور من سلطان العزة الغالبة القاهرة..(13/257)
46- سورة الأحقاف
نزولها: مكية بإجماع عدد آياتها: خمس وثلاثون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة عدد حروفها: ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الجاثية بحمد الله، من عباده المؤمنين، الذين نظروا فى آيات الله القرآنية والكونية، وفرأوا فيها دلائل قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. ومن ثمّ كان إيمانهم بالله، وحمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان..
وهنا تبدأ سورة الأحقاف، فتكشف عن الوجه الآخر من وجوه الناس، وموقفهم من آيات الله.. وهؤلاء هم المشركون، الكافرون، الذين عرضت عليهم آيات الله، فأعرضوا عنها، وتليت عليهم آياته، فصمّووا آذانهم عنها..(13/258)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. مضى تفسير هاتين الآيتين فى أول السورة السابقة: (الجاثية) .
قوله تعالى:
«ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» .
أي أن خلق السموات والأرض وما بينهما، كان خلقا قائما على الحق،(13/259)
متلبسا به، فما خلق شىء فى هذا الوجود إلا بحكمة وتقد. وما خلق شىء عبثا أو لهوا، كما يقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» .. فكل ذرة فى هذا الوجود، لها مكانها فيه، ولها وظيفتها التي تؤديها لانتظام نظامه، واتساق حركته: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (3: الملك) .
وقوله تعالى: «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «بِالْحَقِّ» أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وبتقدير أجل مسمّى لكل مخلوق خلق.. فكل مخلوق خلق لغاية، وحكمة.. وكل مخلوق له أجل ينتهى به دوره، كما يقول سبحانه وتعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» (49: يونس) وكما يقول سبحانه: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (38: الرعد) .
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» .. جملة حالية، تكشف عن موقف بعض مخلوقات الله التي خرجت عن سنن الحق الذي قام عليه الوجود كله.. فهؤلاء الذين كفروا، لم يقفوا عند حدّ كفرهم، وانحرافهم عن جادة الطريق، بل إنهم- مع كفرهم وضلالهم- لم يقبلوا دعوة الهدى، ولم يستمعوا إلى هذا النذير، الذي جاء ينذرهم ويحذرهم عاقبة كفرهم وضلالهم..
وفى الجمع بين كتاب الله المنزّل من الله العزيز الحكيم، وبين السموات والأرض والحق الذي خلقا به- فى هذا الجمع، إشارة إلى أن آيات الله القرآنية، وآياته الكونية، على سواء، فى أنها جميعا من الحق، وأن ما يتلوه أصحاب الألباب من صحف الكون، هو شبيه بما يتلونه من كتاب الله، وآياته.. فمن لم تنفذ العبرة والعظة إلى قلبه عن طريق السمع، بما يتلى عليه من(13/260)
آيات الله وكلماته كان له من نظره فى آيات الله الكونية، ما يفتح له الطريق إلى الله.. أما من أغمض عينيه عن آيات الله الكونية، وأصم أذنيه، عن آيات الله القرآنية فهيهات أن تنفذ إلى قلبه شعاعة من هدى، أو قبسة من نور..
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
المراد بالاستفهام فى قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» هو إلفات المشركين إلى هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دون الله، وإعادة النظر إليهم، نظرا فاحصا محقّقا، وذلك ليجيبوا على ما يسألون عنه فى شأن هؤلاء المعبودين.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، كانوا فى غفلة عن معبوداتهم تلك، وأنهم إنما يعبدونها عن تقليد، بلا وعى أو تفكير.. ولهذا طلب إليهم أن يعيدوا النظر فى معبوداتهم تلك، وأن يتحققوا من صفاتها، وما تملك بين أيديها من قوّى..
وقوله تعالى: «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» ..
هو السؤال الذي يطلب إلى المشركين الإجابة عليه، بعد أن استعدوا لهذا الامتحان، بالنظر إلى معبوداتهم، والكشف عن حقيقتها..
والسؤال هو: «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» ؟ أي ماذا لهؤلاء المعبودين من مخلوقات فى الأرض؟ وأىّ شىء خلقوه منها؟ «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟» إنه لا شىء لهم فيما على هذه الأرض من مخلوقات، كبر شأنها أم(13/261)
صغر.. إنهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» . (73: الحج) ..
وقوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» هو إضراب عن السؤال السابق، بعد أن عرف الجواب عنه، وهو الصمت والوجوم.. وإنشاء لسؤال آخر، فربما وجد المشركون جوابا له، بعد أن عجزوا عن الإجابة عن السؤال الأول..
«أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟» أي إذا لم يكن لهؤلاء المعبودين شىء مما خلق الله سبحانه وتعالى فى الأرض من مخلوقات.. فهل لهم شركة مع الله فيما خلق فى السموات؟ وإنه لا جواب على هذا إلا العجز الصامت، والوجوم المطبق! ..
فإن كان هناك من يكابر، ويأبى إلا أن يجعل لهذه المعبودات سلطانا فى السموات أو فى الأرض، فليأت بكتاب من عند الله من الكتب التي سبقت القرآن الكريم، وتقدمت نزوله.. فإن لم يكن كتاب فليكن «أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» أي أثر ولو قليل من علم، مصدره أهل الذكر والعلم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ»
(8: الحج) ..
وفى السؤال عما للمعبودين فى الأرض بلفظ «الخلق» وعما لهم فى السموات بلفظ «الشرك» - فى هذا مراعاة لمقتضى الحال التي عليها المشركون مع آلهتهم.. حيث يبدو لهم من معبوداتهم أن لها تدبيرا وتصريفا مستقلا فى شئون الحياة.. كما كان فرعون يدّعى أنه بألوهيته، هو الذي يمد قومه بأسباب الحياة، وما ينزل عليهم من مطر، أو ينبت من نبات.. وكما كان(13/262)
يدهى «النمرود» أنه يحيى ويميت، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» (258: البقرة) .
أما العالم العلوي، فإن دعوى خلق شىء من عوالمه، أكبر من أن يتسع لها ادعاء، على حين يمكن أن تدّعى الشركة، وأن ينسج لها ثوب ملفق من الوهم والخيال.. حيث لا يطالب الشريك بالتصريف فى شىء، منفردا عن شريكه..
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» ..
هو تعقيب على هذا الموقف الذي وقف منه المشركون مع معبوداتهم، موقف امتحان وابتلاء.. وقد تكشف لهم من هذا الامتحان أن معبوداتهم تلك، لا تملك شيئا من هذا الوجود فى أرضه أو سمواته.. وإذن فما أضل من يعبدها، ويرجو العون منها.. إنها لا تستجيب لمن يدعوها، ولو امتد دعاؤه، وطال وقوفه بين يديها إلى يوم القيامة.. إنها لا تملك شيئا، ولن تملكه، حالا أو مستقبلا.. وطلب شىء ممن لا يملك شيئا، هو السفه الجهول، والضلال المبين..
وقوله تعالى: «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» جملة حالية، تكشف عن غفلة هذه المعبودات، عن دعاء من يدعونها.. إنها لا تسمع، ولو سمعت ما استجابت، لأنها فى قيد العجز المطلق، الذي لا تملك معه من أمر الله فى عباده شيئا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» (56: الإسراء) ويقول سبحانه:(13/263)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
«إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» (14: فاطر) .
وفى التعبير عن عدم الاستجابة بالغفلة، إشارة إلى استخفاف هذه المعبودات بعابديها، وأنها لا تلتفت إليهم، ولا تأبه لدعائهم، حتى ولو كان من شأنها أن تسمع وتعقل.
قوله تعالى:
«وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» .
أي وليس هذا الذي تلقى به هذه المعبودات عابديها، من استخفاف بهم، وشغل عنهم- ليس هذا كل ما هنالك.. بل إن لهذا الحساب بقية فى الآخرة، حيث تنتظر هذه المعبودات من عبدوها فى موقف الحساب والجزاء، وهناك تقف منهم موقف العداوة والخصومة، حيث تشهد عليهم بأنهم كانوا كافرين بالله، مفترين عليها بتأليهها، وعبادتها، وجعلها أندادا لله سبحانه.. وهذه جريمة شنيعة، ألصقها هؤلاء المشركون بتلك المعبودات، وإن من حق هذه المعبودات أن تطلب القصاص من عابديها، الذين عرضوها فى معرض البهتان والضلال..
الآيات: (7- 14) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)(13/264)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
أي أن هؤلاء المشركين الذين انكشف لهم ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، من ضعف وعجز عن أن تملك لهم ضرا أو نفعا- لم يكن لهم من العقل والرأى ما يحولهم عن موقفهم هذا الذي جمدوا عليه مع آلهتهم، وحتى إنهم إذا تليت عليهم آيات الله بينة بيان الصبح، مشرقة إشراق الضّحى، خدعوا أنفسهم عنها، وقالوا هذا سحر(13/265)
مبين.. إذ لم يستطيعوا أن ينكروا سلطان هذه الآيات، أو يدفعوا حجتها القائمة عليهم، إذ كان سلطانها أكبر من أن يدفع، وكانت حجتها أقوى من أن ترد- فكان هروبهم منها وفرارهم من بين يديها، مستندا إلى هذا الادعاء الباطل، بأن هذه الآيات من السحر المبين، الذي يملك «محمد» من أعاجيبه وحيله، مالا يملكون..
وفى إظهار الضمير فى «عليهم» «وآياتنا» كشف للحقيقة المنطوية فيهما.. فضمير المشركين، يطوى تحت كيانه وجها منكرا من وجوه الناس، هم «الَّذِينَ كَفَرُوا» .. وضمير الآيات البينات، يضم تحت جناحيه، الحق المبين..
وفى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الحق الذي طلع على المشركين من تلك الآيات البينات التي تليت عليهم- كان من الظهور والبيان بحيث يرونه رأى العين، حتى إنه ليتمثل لهم منه كائن شخصى، عاقل، يجىء إليهم، ويخاطبونه، ويشيرون إليه قائلين «هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
هو إضراب عن مقولتهم عن القرآن، هذا سحر مبين» وعدول عن هذا القول إلى قول آخر، إذ لم يطمئنوا إلى هذا القول فى القرآن.. فهو آيات بينة المعنى، واضحة القصد، وكلمات محددة الدلالة، صريحة المعنى، فمن أين يكون بينها وبين السحر جامعة تجمعها به، والعهد بالسحر، أنه(13/266)
خفايا وأسرار، تطلع من وراء ستر محجبة، لا يعرف الطريق إليها إلا أصحابها، الذين يخيّلون للناس منها ما يخيلون..
فالقول بأن هذا القرآن مفترى على الله أقرب إلى القبول فى باب الجدل والمراء من القول بأنه سحر.. ولكن هذا القول لا يلبث أن ينكشف زيفه وبطلانه إذا وضع موضع الاختيار، إذا قيل لقائليه: ما لكم لا تأتون بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة مفتراة؟ وماذا يحول بينكم وبين الافتراء، والمجال فيه متسع فسيح لمن يشاء أن يرد موارده؟.
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على مقولتهم تلك، فى غير هذا الموضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» (13: هود) ..
وهنا، فى هذا الموقف يلقاهم، رد آخر فى قوله تعالى: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» .. وهذا الرد يتجه إلى الافتراء من حيث هو كذب على الله، وعدوان عليه سبحانه وتعالى، وأن من افترى على الله فقد تعرض لسخطه ونقمته، وأنه لا أحد يدفع عن المفترى على الله سخط الله، وعذاب الله! فلم يفترى النبي على الله، ولم يعرض نفسه لهذا البلاء؟
وما الثمن الذي أخذه من وراء هذه المجازفة؟.
وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» هو تهديد للمشركين بقولهم هذا الذي يقولونه فى كلمات الله وآياته..
وأفاض فى الحديث: توسع فيه، وأكثر منه.. حتى يجاوز الحدود، ويخرج عنها، كما يفيض السائل من الإناء، ويسيل فى كل مسيل..
وإفاضة القوم فى القرآن، هو مقولاتهم الكثيرة فيه، وهى مقولات(13/267)
باطلة لا حدود لها، وهذا يعنى أن مقولاتهم فى القرآن مقولات باطلة، تتسع لكل قول.. ولو أنهم قالوا قولا حقا، لما كان لهم إلا قولة واحدة، هى أن هذا القرآن من عند الله، وأنه الحق من ربهم..
وقوله تعالى: «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» .. تهديد ووعيد آخر للمشركين، وأنهم فى موضع الحساب والمسألة من الله تعالى، وأنهم مأخوذون بما يقولون من مفتريات على آيات الله، وعلى رسول الله.
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» - دعوة إلى هؤلاء المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يطلبوا النجاة من هذا الموقف المهلك الذي هم فيه، وأن يفرّوا إلى الله، وأن يطلبوا المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم..
وفى هذه الدعوة- إشارة إلى أن الرسول الكريم، إنما جاء رحمة للناس من ربه، وأنّ ربه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.. وأن هؤلاء المشركين فى معرض المغفرة والرحمة، إذا هم طلبوا مغفرة الله ورحمته..
قوله تعالى:
«قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
هو دعوة أخرى إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر فى هذا النبىّ، وفيما يدعوهم إليه.. إنه بشر مثلهم، شأنه فى هذا شأن المرسلين من قبله إلى أقوامهم.. وهو إنما يبلغ ما يتلقاه من ربه، شأنه فى هذا أيضا شأن كل رسول قبله.. فهو ليس بدعا من الرسل، أي ليس على صورة غريبة، خارجة عما(13/268)
جاء عليه الرسل من قبله، سواء فى شخصه، أو فى مضمون ما أرسل به.. فماذا ينكر القوم منه؟
وفى قوله تعالى: «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» .. هو تقرير لبشرية الرسول، وأنه ليس إلا عبدا من عباد الله، لا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه، ولا لأحد ضرّا ولا نفعا، إلا ما شاء الله..
«قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (188: الأعراف) ..
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
هو تحريض للمشركين من قريش على أن يسبقوا إلى هذا الخير الذي يدعوهم النبىّ إليه، وأن يسارعوا إلى أخذ حظهم منه، قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من أهل الكتاب الذين يعرفون أنه الحقّ من ربهم، وأن بعضا منهم- ممن لا يستبد به الحسد، ولا تغلبه شقوته- سيؤمن بهذا القرآن، ويهتدى بهديه..
وتحرير معنى الآية.. ماذا يكون موقفكم أيها المشركون، إذا كان هذا القرآن من عند الله، وقد كفرتم به، على حين أن بعضا من اليهود قد عرف وجه الحق فيه، ورأى من آيات الحقّ منه، مثل ما رأى فى الكتاب الذي معه، فآمن بالله، وصدق بهذا القرآن واستكبرتم أنتم حين عرفتم الحقّ ولم تؤمنوا- ماذا يكون موقفكم، وقد فاتكم هذا الخير الذي أعطيتموه ظهركم؟(13/269)
ألا يكون منكم إلّا الانطلاق فى هذا الضلال الذي أنتم فيه إلى غاياته؟ إن ذلك عدوان منكم على الحق، وظلم مبين منكم لأنفسكم، والله لا يهدى القوم الظالمين، الذين يرون الحقّ، ويأبون أن يأخذوا طريقهم معه! هذا، وقد كاد يكون إجماع من المفسرين على أن هذه الآية قد نزلت فى عبد الله ابن سلام، وهو من اليهود الذين دخلوا فى الإسلام، ويأتون على هذا بأخبار ومرويات من الأحاديث فى كتب الصحاح كالبخارى ومسلم، وغيرهما..
والسورة مكية، وليس هناك شاهد قوىّ يشهد بأن هذه الآية مدنية- كما يقول بذلك الذين يذكرون سبب نزولها- بل إن هناك أكثر من شاهد بأنها مكية..
فأولا: أن السياق متصل، بحيث يجعل الآية فى مواجهة هؤلاء المشركين الذين يخاجون النبىّ ويرمونه بالكذب والافتراء وفى هذه المواجهة يرى المشركون أن موقفهم من الرسول، ومن القرآن، سينتهى بهم إلى أن يسبقهم أهل الكتاب إلى هذا الرسول الذي كانوا يتمنون على لله أن يكون لهم كتاب مثل أهل الكتاب.. وكانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (157: الأنعام) وها هم أولاء قد جاءهم الكتاب، ويوشك أن يفلت من أيديهم وثانيا: أن فى هذه لآية المكية، دعوة غير مباشرة إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الرسول، وبالكتاب الذي أنزل إليه من ربه وفى هذه الدعوة إرهاص بالمواجهة التي سيواجه فيها الرسول والقرآن أهل الكتاب، فيما بعد، وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى دعوة أهل الكتاب إليه، وهو فى الطريق إليهم، قبل أن يلقاهم لقاء مباشرا(13/270)
وإذن فليس هناك داعية إلى القول بأن هذه الآية مدنية، وبالتالى أنها نزلت فى عبد الله بن سلام أو غيره.. وإن الذي ينظر فى الأحاديث والمرويات، التي ذكرت فى هذا المقام، يرى فيها اختلافا، وتضاربا، بحيث ينقض بعضها بعضها، ويهدم بعضها بعضا مما يجعل مجاوزتها والعدول عنها، أولى من الوقوف عندها، وأخذ شىء منها..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ» ..
أي ومن الشّبه والضلالات التي أضلت المشركين عن الإيمان بالله والاستجابة للرسول- أن كثيرا من الذين سبقوهم إلى الإيمان بالله، والاستجابة للرسول، كانوا من الفقراء، والمستضعفين، كبلال، وعمار، وصهيب، وغيرهم ممن سبقوا إلى الإسلام.. وهذا عند المشركين من الأدلة الناطقة بأن هذا الذي يدعو إليه محمد، ليس مما تهفو إليه نفوس أصحاب الجاه، والمنزلة.. فى الناس، وأنه لو كان كذلك لما سبق إليه الأرقاء والمستضعفون فيهم وكيف.. وهم السابقون إلى عايات السيادة والمجد، يسبقهم عبيدهم وإماؤهم إلى أمر، ثم يكونون هم وراءهم، يأخذون مكانهم فى الصفوف المتأخرة فيه؟ وإذن فهذا الذي يدعو إليه محمد ليس إلا إفكا مفترى، ولهذا كان المنخدعون به، هم أولئك الأرقاء والأدلاء من بينهم وهكذا تأمرهم أحلامهم، وتسوّل لهم أنفسهم!! قوله تعالى:
«وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» ..(13/271)
هو رد على مقولة المشركين فى القرآن بأنه إفك قديم. أي أن هذا القرآن ليس إفكا قديما كما يدعون.. فلقد سبقه كتاب موسى، الذي هو إمام أي هدى يهتدى به الناس، ورحمة من الله إليهم.. وهذا القرآن هو مصدق لما فى كتاب موسى، لينذر هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عنه، ويبشر المحسنين، الذين أحسنوا إلى أنفسهم بهذا الخير الذي ساقوه إليها من هذا الكتاب..
وفى قوله تعالى: «لِساناً عَرَبِيًّا» مقابلة لقوله تعالى عن كتاب موسى «إِماماً وَرَحْمَةً» .. أي أنه إذا كان كتاب موسى إماما ورحمة، فإن هذا للكتاب لسان عربى، ومن هذا اللسان العربي يتفجر ينابيع الهدى والرحمة..
وفى هذا تنويه باللسان العربي، من حيث هو لغة، فكيف إذا كان هذا اللسان يحمل آيات الله البينة، وكلمات الله المعجزة؟
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
هو بيان للمحسنين، ولما يحمل إليهم القرآن الكريم من بشريات..
وقد جاء هذا البيان على تلك الصورة التقديرية المؤكدة، إظهارا لمزيد الاعتناء بهم والتنويه بشأنهم، وبشأن الجزاء الكريم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم.. فالمحسنون، هم الذين قالوا ربنا الله، أي آمنوا به، ثم استقاموا على شريعة الله، فامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.. فهؤلاء هم المحسنون، وهم الذين لا خوف عليهم مما يخيف أهل الشرك والضلال يوم القيامة، وهم الذين لا يحزنون يوم تمتلىء قلوب أهل الشرك والضلال حزنا وكمدا على ما فرطوا(13/272)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
فى جنب الله.. إنهم أصحاب الجنة لهم فيها دار الخلد، فلا يتحولون عنها أبدا، جزاء ما عملوا فى دنياهم من طيبات..
الآيات: (15- 20) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
التفسير:
قوله تعالى:(13/273)
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» .
فى هاتين الآيتين مباحث:
أولا: مناسبتهما لما قبلهما:
وتبدو هذه المناسبة فيما تضمنته الآيات السابقة من الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه يحمل النذير بالعذاب إلى الذين ظلموا، والبشرى بالجنة والرضوان للذين آمنوا وأحسنوا.. ثم ما جاء بعد ذلك من تعقيب بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ... » وما فى هذا التعقيب من بيان لما أعد الله للذين آمنوا واستقاموا من جزاء كريم فى الآخرة، وأنهم أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ... ثم كان قوله تعالى:
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً..» دعوة مرافقة للدعوة إلى الإيمان بالله، وإحسان العمل فى سبيل مرضاته، وأن من الإحسان، الإحسان إلى الوالدين، فلن يكون الإنسان من المحسنين، إذا فاته الإحسان إلى أبويه..
وفى أكثر من موضع من القرآن الكريم، اقترن الأمر بطاعة الله، بطاعة الوالدين، والإحسان إليهما: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (23: الإسراء) .. «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (13- 14 لقمان) .(13/274)
وثانيا: المراد بالإنسان فى قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» أهو مطلق الإنسان أم هو إنسان بالذات؟ ..
أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه، وأنه هو الإنسان المقصود هنا. ومستندهم فى هذا، أن أبا بكر رضى الله عنه، هو الذي آمن، وآمن معه والداه، أول الدعوة الإسلامية، وأنه- رضى الله عنه- كان فى أول الدعوة الإسلامية فى الأربعين من عمره، إذ كان- كما يقولون- أصغر سنّا من النبي- صلى الله عليه وسلم- بنحو عامين..
والذي نراه- ونرجو أن يكون صوابا- هو أن المراد بالإنسان، هو مطلق هذا الإنسان، الذي وصاه الله بوالديه إحسانا.. فهذه الوصاة بالإحسان إلى الوالدين موجهة إلى كل إنسان.. ولكن كما يتردد بعض الناس فى قبول دعوة إلى الله إلى الإيمان به، أو يرفض هذه الدعوة- كذلك يتردد بعض الناس فى امتثال أمر الله بالإحسان إلى الوالدين، أو لا يستجيب لهذه الدعوة أبدا.. وكما يتوب الله سبحانه وتعالى على العصاة ويتجاوز عن سيئاتهم، ويقبلهم فى أهل الإيمان والإحسان، كذلك يقبل الله سبحانه من يراجع نفسه، ويقبل بالإحسان إلى والديه بعد أن فرّط وقصر..
ففى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ... » فى هذا ما يشير إلى شىء من التقصير فى حق الوالدين، وإلى مطاولة الزمن وعدم المبادرة بالإحسان إليهما منذ مطلع الصبا والشباب، حتى امتدّ هذا التفريط والتقصير إلى أن بلغ هذا الإنسان أشده، وبلغ أربعين سنة، حيث استوفى غاية ما يمكن أن(13/275)
يبلغه من سلامة إدراك، وحسن تقدير.. وعندها ثاب إلى رشده، وأقبل على والديه، يصلح من أمره معهما ما أفسده بتقصيره وتفريطه.. ثم هو فى هذا الموقف، وقد بلغ من العمر أربعين سنة، ينظر إلى ذريته نظرة أبويه إليه، فيذكر فضلهما عليه، وإحسانهما إليه، وما يؤثرانه به من خير وبرّ، كما يؤثر هو ذريته من خيره وبره.. وهذا من شأنه أن يحرك عاطفته الجامدة نحو أبويه، ويؤدى ما قصر فيه من حقهما، كما يود أن يؤدى له أبناؤه ما يجب عليهما له من طاعة وولاء..
فالإنسان هنا، هو الإنسان الذي قصر فى حق والديه، ثم عاد فأحسن صحبتهما، وأدى ما يجب عليه نحوهما.. وبهذا تقبل الله عنه أحسن ما عمل، وتجاوز عما كان منه من تقصير.. «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» ..
ثالثا: فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا..
الآية» ما يدل على أن الآية السابقة ليست خيرا عن إنسان واحد بعينه، وإنما هى خبر عن كل إنسان كان على هذا الوصف من أبويه.. فرّط فى حقهما، وقصر فى الإحسان إليهما، ثم كانت منه توبة إلى الله، وإحسان إليهما.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (70: الفرقان) .
رابعا: من العبارات التي تحتاج إلى شرح:
قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» أي حملته واجدة ما تكره من آلام الحمل والولادة، لا ما تكره من الحمل نفسه، فهى- مع هذه(13/276)
الآلام التي تجدها- حريصة على أن تحمل جنينها، وأن تتحمل هذه المكاره فى سبيله.. فهى بهذا إنما ترضى طبيعة الأنثى فيها، وإن كانت تقاسى ما تقاسى من آلام فى الحمل، وفى الوضع..
وقوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أي مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا.. وقد جمع بين مدة الحمل ومدة الفطام معا، للإشارة إلى أن الأمّ تعالى من المشقات وتتحمل من الآلام فى مدة الرضاع والقيام على شئون وليدها، نفس المشقات والآلام التي كانت تعانيها وتحتملها أثناء الحمل والولادة، وإن اختلفت طعومها وألوانها..
قوله تعالى:
«وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
فى هذه الآية بيان للصنف الثاني من الأبناء، وهم الذين مضوا فى عقوقهم لأبويهم إلى آخر أيام حياتهم، فلم يكن لهم عند بلوغهم غاية ما يبلغه الإنسان من كمال عقلى، وتوازن شعورى، بعد أن يبلغ أشده، وتذهب فورة الشباب، ويسكن جنون الصبا- لم يكن لهم عند هذا واعظ من أنفسهم، يعظهم، ويقيم وجوههم على الطريق القويم..
ثم إنه ليس الذي كان من عقوق هنا هو مجرّد التقصير فى حق الأبوين، بل تجاوز هذا إلى العدوان عليهما، إذ يدعوانه إلى الخير، ويمدان إليه أيديهما بالإحسان، حين يطلبان إليه أن يؤمن بالله، وأن يخرج من هذا الضلال الذي اشتمل عليه، وقاده إلى عذاب جهنم، فيلقاهما بهذا الردع(13/277)
والزجر، ويرمى فى وجهيهما بهذه القولة الآثمة: «أُفٍّ لَكُما» !! وفى قوله تعالى: «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» - استفهام إنكارى، ينكر به هذا الابن الضال العاق، على والديه أن يدعواه إلى الإيمان بالله، وأن يحدثاه عن البعث والحياة بعد الموت، وأن هذا أمر لا يصدقه عقل، وقد مضت القرون، ولم يبعث الموتى من قبورهم..
فكيف يكون هناك بعث؟ ولو كان ذلك أمرا كائنا لبعث الذين ماتوا من آلاف السنين.. هذا هو منطق الضالّين الأغبياء! وقوله تعالى: «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ..
إشارة إلى ما فى قلب الوالدين من حرص على نجاة هذا الولد العاق، وإن رماهما بما يسوء من منكر القول.. إنه يقول لهما: «أُفٍّ لَكُما» وهما يستغيثان الله من أجله، ويطلبان من الله أن يهديه ويصلح أمره!.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» ..
أي أن هذا الصف من الذين عقّوا آباءهم، وخرجوا عن طاعتهم، كما أنهم حادّوا الله، وحادوا عن طريق الهدى- هؤلاء قد حق عليهم القول، ووقعوا تحت حكم الله على أهل الضلال والكفر فى الأمم السابقة من الجن والإنس.. وأولئك هم الخاسرون، الذين خسروا أنفسهم، فكانوا من أصحاب الجحيم..
هذا، ويقال إن هاتين الآيتين، نزلتا فى عبد الرحمن بن أبى بكر،(13/278)
كما نزلت الآيتان السابقتان عليهما، فى أبى بكر رضى الله عنه..
وهذا مردود لما يأنى:
أولا: لأن عبد الرحمن بن أبى بكر قد أسلم، وأنه لو صحّ منه هذا الموقف قبل إسلامه، لكان إسلامه دافعا عنه هذا الحكم الذي تضمنته الآية، والذي سلك أهله فى سلك الفاسقين الذين حق عليهم القول، ولكان ثوب الإسلام الذي لبسه، ساترا له، إلى أن يلقى ربه بما هو عليه من عمل..
وثانيا: لأن أبا بكر- الذي قيل إن الآيتين السابقتين نزلتا فيه- قد كان من دعائه قوله: «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» .. فكيف يكون من أبى بكر هذا الدعاء، ثم يكون من ذريته من يفضحه الله بهذا الخزي على الملأ، ويلبسه ثوب جهنم فى الدنيا؟ أيتفق هذا وما لأبى بكر عند الله من هذا المقام الكريم الذي سجله القرآن فى أكثر من موضع؟
قوله تعالى:
«وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
أي ولكل من هذين الصنفين من الأبناء، درجاتهم ومنازلهم عند الله، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة،.. ولا يظلم ربك أحدا..
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» ..(13/279)
هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة، يرى فيه الكافرون وقد وقفوا موقف الحساب، والمساءلة، على ما كان منهم فى حياتهم الدنيا، من بغى، واستكبار فى الأرض بغير الحق.
إن الكافرين والضالين، إذ يعرضون على النار فى هذا اليوم، ويساقون إلى العذاب الأليم فيها، يقال لهم وهم على شفيرها: هذا جزاؤكم، فلقد أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، ولم تدخروا منها شيئا لهذا اليوم..
لقد كانت معكم عقول تعقلون بها، وآذان تسمعون بها، وأعين تبصرون بها، فما استعملتم شيئا من هذا فى سبيل التعرف على الله، والاهتداء إليه، بل صرفتم هذا كله إلى مواقع الكفر والضلال: «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي تهدر فيه آدميتكم، وتذهب كرامتكم، فلا يكون لكم إلا الهوان والإذلال، إذ كنتم ولا عقل معكم، ولا سمع، ولا بصر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى هذه السورة: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» (الآية: 26) .
فالطيبات التي أذهبها الكافرون فى حياتهم الدنيا، هى تلك القوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيهم، من عقل، وسمع، وبصر، ونحوها مما يكون به الإنسان إنسانا، والتي يكشف بها مواقع الهدى والخير.. وقد عطل الكافرون هذه القوى، وأفسدوها حين صرفوها فى وجوه الفساد، وفى اصطياد اللذات وجلب الشهوات..(13/280)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
الآيات: (21- 28) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ(13/281)
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»
..
كانت الآية السابقة مواجهة للمشركين، بما يلقى الكافرون من عذاب وبلاء فى الآخرة.. وهنا فى هذه القصة مواجهة لهم بما لقى الكافرون المكذبون بآيات الله ورسله من بلاء ونكال فى الدنيا.. فإذا لم يصدّق المشركون بالآخرة وبما ينتظرهم عندها من عذاب جهنّم، فإنه لا مفر لهم من أن يصدقوا بهذا الواقع الذي يرونه بين أيديهم من مصارع الضالين، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من مهلكات فى هذه الدنيا.
وأخو عاد، هو «هود» عليه السلام، وعاد هم قومه، وسمّى أخاهم، لأنه منهم، وليس غريبا عنهم..
والأحقاف، جمع حقف، وهو الكثيب من الرمل، يستطيل، ويمتد فى غير استقامة..
وقد كانت منازل عاد على مثل هذه الأماكن، وهى فى جنوب اليمن، وفيها إرم، ذات العماد..
وقوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي مضت النذر التي رآها القوم، أو سمعوا أخبارها من آبائهم.. فالنذر التي بين يديه هى الأحداث القريبة، والتي من خلفه، هى الأحداث البعيدة.. كما يقول الله سبحانه على لسان هود مذكرا قومه بما حدث لقوم نوح: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» (69: الأعراف) .
وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» هو النذير الذي أنذر به هود قومه، وهو تحذيرهم من أن يعبدوا غير الله.. فإنهم لو عبدوا غير الله لساءت عاقبتهم، ولحل بهم العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة جميعا..(13/282)
قوله تعالى:
«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
هذا هو رد القوم على دعوة رسولهم لهم، وتحذيرهم من الخطر الداهم الذي سيقع بهم، إذا هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم، ولم يخلصوا دينهم لربهم..
«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا» ..
والاستفهام إنكارى، إذ ينكرون على هود هذه الدعوة التي يدعوهم إليها، ويتهمونه بأنه إنما جاء ليضلهم عن آلهتهم، ويصرفهم عنها، ويفسد ما بينهم وبينها..
وقوله تعالى: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» هو تحدّ لرسولهم، مع تكذيبهم له، واتهامهم إياه، وبأنه إنما جاء ليفسد عليهم دينهم الذي ارتضوه.. وأنه إذا كان صادقا فيما يهددهم به من عذاب الله، فليأت به! قوله تعالى:
«قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» ..
هو ردّ «هود» على هذا التحذير.. إنه لا يعلم ما سيطلع عليهم فى غدهم من خير وشر، فذلك علمه عند الله، وإنما هو رسول يبلغ رسالة ربه إليهم..
وإن كان الذي يتوقعه فيهم، هو أن يحل بهم العذاب، لأنهم فى جهل مطبق، لا يرون معه طريق الحق أبدا.. ومن كان هذا شأنه، فهو فى معرض البلاء والنقمة من الله سبحانه..(13/283)
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
العارض: السحاب الذي اعترض فى الأفق فسدّه.
والضمير فى قوله تعالى: «رَأَوْهُ» يعود إلى العذاب الذي أنذروا به، وقد جاءهم فى صورة رحمة، وهو السحاب المطر، وذلك ليكون العذاب أشد وقعا حيث يجيئهم على حال كانوا يتوقعون فيها الخير والعافية من جهته..
«فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» أي فلما رأوا السحاب مقبلا نحو أوديتهم فرحوا واستبشروا، وقالوا هذا عارض ممطرنا..!!
وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» هو رد على قولهم هذا عارض ممطرنا، وهو بلسان الحال والواقع.. إنه ليس سحابا ممطرا بل إن الذي ترونه هو ريح عاصفة، محملة بالأتربة والرمال، حتى ليخيّل إليكم منها أنها سحاب مقبل بالغيث، وهى فى الحقيقة مرسلة إليكم بالعذاب الأليم..
وقوله تعالى:
«تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» ..
أي أن هذه الريح لا تمر على شىء إلا دمرته، وذهبت بمعالم الحياة والخير فيه.. إنها آية من عند الله، مسلطة على أعداء الله، ترميهم بالهلاك والدمار..(13/284)
كما يقول الله سبحانه وتعالى فى وصف هذه الريح فى آية أخرى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» (42: الذاريات) وفيها يقول سبحانه أيضا:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) ..
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» وعيد وتهديد للمشركين، الذين يأخذون موقف قوم عاد، من التكذيب للرسول، والتحدي له.. وقد عرفوا ورأوا بأعينهم مساكن قوم عاد، وقد أصبحت معلما من معالم الخراب، وإن الذي حلّ بقوم عاد لموشك أن يحل بهم، إن لم يتحولوا عن موقفهم هذا الذي هم فيه..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
الضمير فى «مَكَّنَّاهُمْ» يراد به قوم هود، وأما ضمير المخاطب فى «مَكَّنَّاكُمْ» فيراد به المشركون من قريش.. «وإن» هنا للنفى بمعنى «ما» أي ما مكناكم فيه.. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد مكن لقوم عاد فى الأرض، وأمدهم بأنعام وبنين، وكانوا على حال من الأمن والكفاية أكثر مما عليه هؤلاء المشركون..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ(13/285)
نُمَكِّنْ لَكُمْ»
(6: الأنعام» ومع هذا فلم يغن عنهم ذلك شيئا، ولم يردّ عنهم بأس الله إذ جاءهم.. فهل يغنى ما مع المشركين- وهو قليل إلى جانب ما كان بين يدى قوم عاد- هل يغنى عنهم ما معهم شيئا من عذاب الله؟ ..
ثم إن الله سبحانه وتعالى قد جعل لقوم عاد، سمعا، وأبصارا، وأفئدة، وهى نعم من نعم الله، كان من الخير لهم أن يفيدوا منها، وأن يرسلوها فى آفاق الوجود، فتجىء إليهم بالهدى يكشف لهم معالم الطريق إلى كل خير.. ولكنهم عطلوا حواسهم تلك، أو وجهوها إلى وجوه الشر والفساد، فلم يجئهم منها إلا ما هو شر وفساد..
وقوله تعالى: «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» - بيان العلة التي كان بسببها تعطيل هذه الحواس، وتلك المدركات، فلم تغن عن أصحابها شيئا، ولم تجلب لهم أي نفع، وهذه العلة هى ما كان فى كيان القوم من فساد، بحيث أفسد كل شىء كانوا يستقبلونه من حواسهم ومدركاتهم.. إنهم كانوا على إصرار لما حملوا من كفر وضلال.. ولهذا كانوا كلما تأتيهم آية من آيات الله، عن طريق سمعهم أو أبصارهم أو أفئدتهم- تغيرت معالمها، وانقلبت حقيقتها فى كيانهم، فرأوا النور ظلاما، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. وهكذا النفوس الخبيثة، يخبث فيها كل طيب، ويعوّج على صفحتها كل مستقيم.. شأن المرايا المحدّبة، أو المقعرة، تتغير على صفحتها الصور الواقعة عليها، وتتبدل حقائقها..
وقوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به، ويستعجلون وقوعه، ويقولون لرسولهم فى استهزاء واستخفاف، وتحدّ: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .(13/286)
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» الخطاب للمشركين، وهو تهديد ووعيد لهم بأن يصيروا إلى هذا المصير الذي حلّ بالقرى التي حولهم، كفرى عاد، وثمود، وقوم لوط..
وقوله تعالى: «وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. هو حديث عن أهل هذه القرى التي أهلكها الله.. فما أهلك الله سبحانه أهل هذه القرى حتى بعث إليها رسلا منهم، يبلغونهم رسالة ربهم، وينذرونهم بأسه وعذابه، إن لم يؤمنوا بربهم، ويستقيموا على طريقه المستقيم..
وتصريف الآيات، تنويعها، واختلاف وجوهها، وتباين معارضها، حتى تتوارد أنظارهم على هذه الآيات، فيكون لهم مع كل آية نظر، ويكون لهم من كل نظر عبرة ومزدجر..
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» - إشارة إلى أن تصريف هذه الآيات وتنويعها، إنما كانت غايته أن تتيح للقوم أكثر من فرصة للتأمل والنظر، لعلهم ينتفعون بهذا، ويرجعون عما هم فيه من كفر وضلال..
ولكنهم لم ينتفعوا، ولم يرجعوا، فحق عليهم القول بما ظلموا، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون..
والترجّى- كما أشرنا فى أكثر من موضع- إنما هو منظور فيه إلى الناس، وإلى أن هذا الذي يساق إليهم من آيات مختلفة الأشكال والألوان، كان يمكن أن يناط به الرجاء، وتتعلق به الآمال فى إصلاح القوم، ولكنهم قطعوا بأيديهم حبل الرجاء الممتد إليهم من تلك الآيات! ..(13/287)
قوله تعالى:
«فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
لولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا، وفى هذا استدعاء لآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وحثّ لها على أن تخفّ لنجدتهم، واستنقاذهم مما رماهم الله به من عذاب، وما صب عليهم من بلاء!.
فأين آلهتكم تلك؟ وهل هناك حال أدعى من هذه الحال لمدّ يد العون إليهم، وانتشالهم من بين هذه الأمواج المطبقة عليهم؟.
وقوله تعالى: «قُرْباناً آلِهَةً» أي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله، كما يقول الله تعالى عن المشركين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) ..
وفى تقديم القربان على الآلهة، إشارة إلى أنهم لم يكونوا ينظرون إلى هذه المعبودات أول الأمر على أنها آلهة، وإنما كان نظرهم إليها على أنها وسائل يتوسلون بها إلى الله، ويتقربون بها إليه، ويقولون فيما يقولون:
«هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) .. ولكن ما إن يمضى الزمن بهم حتى تتحول هذه الوسائل إلى آلهة تعبد من دون الله، وتصبح مستأثرة بمشاعرهم، مستولية على عقولهم.. وليس لله سبحانه مكان فى شعورهم، أو موضع فى قلوبهم..
قوله تعالى: «بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ» - هو إضراب عن دعوة هذه المعبودات إلى نصرة عابديها.. إنهم لن ينصروهم، ولن يجدوا لهم(13/288)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
ظلّا فى هذا الموقف.. فقد ضلوا عنهم، وتاهوا فى زحمة هذا الكرب العظيم..
وقوله تعالى: «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» - الإشارة إلى تلك الحال التي عليها هؤلاء الكافرون، وما أحاط بهم من بلاء لا يجدون له دفعا.. فهذا هو عاقبة كذبهم، وافترائهم على الله..
الآيات: (29- 35) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)(13/289)
التفسير:
[بيعة العقبة.. وليلة الجن] قوله تعالى:
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» ..
مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي سبقتها، هى أن الآيات السابقة كانت تذكيرا بدعوة نبىّ من أنبياء الله هو هود عليه السلام، وموقف قومه من هذه الدعوة، وتكذيبهم له وتحدّيهم لما ينذرهم به.. ثم كان من هذا، البلاء الذي أحاط بهم، وأتى على كل عامر فيهم- فناسب أن يذكر فى هذا المقام موقف المشركين من دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وتكذيبهم له، واستهزاؤهم به، وأخذه وأصحابه بكل ما استطاعوا من كيد وضر، حتى لقد هاجر كثير من المسلمين فرارا بدينهم، وحتى لقد ضاق صدر النبي، وغامت نفسه فى مكة، ولم يعد يحتمل لقاء المشركين، والنظر فى وجوههم المنكرة، فخرج إلى الطائف، يلتمس عند أهلها «ثقيف» شيئا من العزاء والرجاء فى تصديقه والاستجابة له.. وفى الطائف وجد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحوها أشدّ ضلالا ونكرا من وجوه قريش، إذ رده القوم ردّا سفيها، ولم يكتفوا بهذا بل أغروا به صبيانهم وإماءهم وعبيدهم يرجمونه بأفواههم وبأيديهم..
وبين الطائف ومكة نزل الرسول الكريم منزلا يبيت فيه، عند موضع يقال له «نخلة» وكان معه غلامه زيد بن حارثة الذي صحبه فى رحلته إلى(13/290)
الطائف.. وفى هذا المنزل بات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مع آيات ربه، يرتّلها، ويتلقى منها أمداد الصبر، والعزم، بما يتلو من قصص الأنبياء السابقين، وما احتملوا فى سبيل الدعوة إلى الله من سفهاء قومهم وشياطينهم..
وما يكاد النبىّ تختم تلاوته، ويفرغ من صلاة الصبح، حتى يستقبل مع أضواء الفجر، سفير السماء إليه من ربه، يحمل إليه قرآنا ينبئه بما كان فى ليلته تلك، وأنه لم يكن وحده فى هذا المنقطع من الأرض، وأنه إذا كان قد وجد من الناس إعراضا عنه، وزهدا فيما بين يديه وعلى فمه من آيات الله- فإن لله سبحانه جنودا غير الناس، يعمر بها كل قفر.. فهاهم أولاء جند من جنود الله، قد جاءوا إليه يستمعون القرآن، ويحسنون الاستماع إليه، وينتفعون بما استمعوا منه، فيؤمنون برسول الله، ويصدقونه، ثم لا يقفون عند هذا، بل يصبحون دعاة يدعون بدعوته، ويبلغون رسالته إلى من لم تبلغه من قومهم..
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» .
وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن وهو فى هذا المكان المنعزل، بعيدا عن موقع الدعوة، بل إنه قائم عليها، حيث تجد آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تؤمن.. وأنه إذا لم يكن الرسول هو الذي يسعى إلى من يدعوهم إلى رسالته، فإن طالبى الهدى قد سمعوا هم إليه، حين آنسوا بشائر النور، واستشعروا ريح الخير.. وهكذا شأن أهل الخير، وطلاب الكمال الإنسانى، ينشدون الهدى، ويرتادون مواقعه،(13/291)
ويستنبئون أنباءه، حتى إذا لا حت لهم بشائره، ولمعت بروق غيوته- أقبلوا عليه مسرعين، فى لهفة وشوق، لا يثيهم عن وجهتهم إليه بعد الشقة، ولا قلة الزاد، ولا تربص الأعداء.. وكما يسعى الكائن الحي إلى رزقه، ويطرق من أجله كل باب يخيل إليه أن وراءه شيئا يشبع جوعه، أو يطفىء ظمأه- كذلك يفعل الراشدون والعقلاء من الناس، حيث يسعون فى طلب غذائهم الروحي، والعقلي، كما يسعون فى طلب حاجة الجسد، وما يكفل له الحياة الهنيئة الطيبة..
وإذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد وجد فى هذا الخبر السماوي الذي يحمل له أنباء هذا الوفد الكريم، الذي بات فى ضيافته، يتلقى أكرم وأطيب ما يتلقاه ضيف من مضيفه، من بر وإحسان.. حيث قضى هذا الضيف ليلة مباركة يستمع فيها إلى ما يتلو الرسول من آيات الله، ويتلقى من أنوار هذه الآيات ونفحاتها حياة مجددة للأرواح، مطهرة للقلوب، مزكية للنفوس- وإذا كان النبي الكريم، قد وجد فى هذا الخبر السماوي ما آنس وحشته، وثبت فؤاده، وآسى جراح نفسه مما أصابه من يد السفهاء وأفواههم من رميات عمياء حمقاء- فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- رأى فى نور هذه الآيات، ومضات مشرقة واضحة على طريق دعوته..
أن هذه الدعوة ستأخذ لها مطلعا جديدا تطلع منه، وأنها ستلتقى بوجوه أخرى لم يكن فى حساب الدعوة أن تلتقى بها فى هذه المرحلة من مسيرتها.. وأنه كما صرف الله إلى النبىّ نفرا من الجن يستمعون القرآن، ويؤمنون به، ويحملون دعوته إلى قومهم، كذلك سيصرف إليه نفرا من الناس، يجلسون إليه، ويستمعون إلى ما يكون من آيات الله، ويؤمنون بما يتلى عليهم، ثم ينقلبون(13/292)
إلى قومهم منذرين، داعين إلى الله، فاتحين الطريق إلى تلك الدعوة لتأخذ مكانها بين من يؤمنون بها، ويدافعون عنها..
وفى بيعة العقبة الأولى، نرى هذا النفر الكريم من الأنصار، وقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكان منعزل خارج مكة، بعيد عن أهل الموسم الذين امتلأت بهم شعاب مكة وساحاتها، وعلى خوف من قريش، وعيونها الراصدة لحركات النبي، ولكل من يطلب لقاءه، أو ينشد أخباره من أهل الموسم.. ثم جلسوا بين يديه يستمعون فى رهبة وخشوع إلى آيات الله، التي كان قد وقع فى آذانهم بشىء منها، فيما كانت تتناقله الركبان، وتردده الألسنة.. ثم ما أن انتهى النبىّ من تلاوة ما تيسر من آيات الله، حتى وجدت الجماعة نور الإيمان يملأ قلبها، وبرد اليقين يثلج صدرها.. فمدوا أيديهم إلى الرسول الكريم، يبايعونه على الإيمان بالله، والدعوة إلى الله، والنصرة لدين الله..
ويحدث التاريخ أن رجال العقبة الأولى كانوا اثنى عشر رجلا، يذكرون بأسمائهم.. وأنهم كتموا أمرهم عمن شهدوا الموسم من قومهم، فلما انتهى موسم الحج، ورجعوا إلى المدينة، ذاع أمرهم، وكثر أعداد الداخلين فى الإسلام من أهل المدينة، من الأوس والخزرج..
ثم إنه لما كان الموسم التالي، جاء كثير من المسلمين إلى مكة ولم يكن همهم أن يشهدوا الموسم بقدر ما كان من همهم أن يلتقوا برسول الله، وأن يبايعوه، ويتلقوا هدى السماء منه..
وفى ليلة من ليالى الموسم كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه على موعد للقاء القوم عند العقبة، على نحو ما كان من لقائه إخوانهم فى الموسم السابق..(13/293)
وهناك فى أخريات الليل، توافد القوم أفرادا على هذا المكان، حتى إذا اكتمل جمعهم، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين- كما يقول ابن إسحاق- تحدث إليهم الرسول الكريم، وتلا عليهم ما تيسر من آيات الله، ثم أقبلوا يبايعون رسول الله، على الإيمان بالله، والسمع والطاعة فى المكره والمنشط، والجهاد فى سبيل الله، وأن يمنعوا رسول الله يمنعون منه أنفسهم وأهليهم..
وهكذا تلتقى بيعة العقبة الأولى بليلة الجن فى «نخلة» ويستقبل النبىّ الكريم فى ليلة العقبة نفرا من الإنس، وقد صرفهم الله سبحانه وتعالى إليه ليستمعوا القرآن، فلما حضروه واستمعوا إليه، آمنوا به، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين..
وكما أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم ير الجن. ولم يعرف وجوههم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه، لم يكد يرى شخوص هؤلاء النفر من الإنس، أو يعرف وجوههم، إذ جاءوا إليه فى ستر من الليل وفى تهامس وتخافت، أشبه بالحجاب المضروب بينهم..
ومن جهة أخرى، فإن فى قوله تعالى على لسان الجن: «يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» - فى هذا إشارة أخرى إلى بيعة العقبة، وإلى تلك الدعوة التي حملها أهل البيعة إلى قومهم بالمدينة، حيث مجتمع اليهود، وحيث كان كتاب موسى «التوراة» هو الكتاب السماوي الذي يعرف أهل المدينة شيئا عنه، مما كان يحدث به اليهود عن كتابهم، وعن نبيهم موسى عليه السلام.. ولا شك أن حديث أصحاب البيعة إلى قومهم إنما كان يحمل إليهم مع أنباء النبي الجديد الذي ظهر فى العرب، ومعه كتاب منزل من ربه، يتلوه على الناس- كان يحمل إليهم مع هذا حديثا مقارنا لهذا(13/294)
الكتاب والكتاب الذي بين يدى اليهود، وهو التوراة..
ولعلّ هذا هو السرّ، فى اختصاص كتاب موسى بالذكر، دون الإنجيل، وهو أقرب عهدا بالقرآن..!!
ومن عجب أننا لا نجد أحدا من المفسرين فيما بلغ علمنا- قد التفت إلى ما وراء ليلة الجن هذه، وما تومىء إليه من اتجاه مسيرة الدعوة الإسلامية، بعد تلك الليلة، وما بينها وبين بيعة العقبة من مشابه، وخاصة بعد أن أصبحت بيعة العقبة أمرا واقعا، يأخذ مكانه البارز فى حياة الدعوة الإسلامية..
من عجب ألا يلفت أحد من المفسرين إلى شىء من هذا، على حين اتسع لهم مجال القول، وانفسحت أمامهم آفاق الخيال.. فتحدثوا أحاديث عجبا عن هذا النفر من الجنّ الذين استمعوا إلى الرسول، فذكروا عددهم، وأسماءهم واحدا واحدا، والقبيلة التي ينتسبون إليها من قبائل الجنّ، والوطن الذي يعيشون فيه، وهو «نصيبين» من أرض الشام.. إلى غير ذلك من الأخبار التي تنطق الآيات القرآنية بكذبها.. فالقرآن يحدّث بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير لهؤلاء الجن وجها، ولم يحس لهم ركزا، حتى جاءه خبر السماء بقوله تعالى:
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..»
فهذا إخبار للنبى بأمر لم يقع منه موقع الحس والمشاهدة.. وأكثر من هذا ما نجده فى قوله تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» .. فهذا خبر صريح بأن النبي لم يكن يعلم من أمر هذا النفر من الجن شيئا، وأن الله سبحانه قد أوحى إليه بأن الجن قد استمعوا إليه» .. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» .. فعلم النبي عن هؤلاء الجن إنما كان بما أوحى إليه الله سبحانه وتعالى من خبرهم، وما أعلمه من أمرهم..(13/295)
فكيف يقال- مع هذا- إن عددهم كان كذا، وأن أسماءهم هى كيت وكيت، وأن موطنهم هو كذا، وأن قبيلتهم هى كيت؟.
كيف يقال هذا، والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- لم يحدّث بشىء منه قطعا، لأنه لا يحدث إلا بما يعلم، وهو لم يعلم من أمر هؤلاء الجنّ شيئا، حتى أعلمه الله سبحانه، أن جماعة من الجن قد استمعوا إليه، دون أن يراهم، أو يشعر بهم!.
ونعود إلى شرح ما فى الآيات من مفردات، وعبارات..
قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» - صرف الشيء حوله من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف، وصرف الشيء إلى الشيء توجيهه إليه..
ومنه تصريف الرياح، أي إطلاقها من مهابتها التي تهبّ منها إلى الجهات الموجهة إليها..
وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى، قد وجّه هؤلاء النفر من الجنّ، إلى حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتلو القرآن..
النفر: الجماعة التي تصلح للنفير من ثلاثة إلى عشرة.
قوله تعالى: «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي كانوا بمحضر منه، بكيانهم كلّه، حسّا ومعنى، فالحضور هنا حضور تجتمع له ملكات الحاضر كلها.. ولهذا كان من الجن هذا الإدراك السّريع، والفهم الفاقة لما استمعوا إليه من آيات الله، وإنه ما إن وقع لآذانهم شىء من القرآن، حتى خشعوا بين يديه، وقالوا بلسان واحد: «أَنْصِتُوا» .. وهذا الإنصات الخاشع اليقظ، هو الذي يفتح المدركات إلى آيات الله، ويجعل للبصائر بصرا هاديا إلى مواقع العبرة والعظة منها، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ(13/296)
تُرْحَمُونَ»
(204: الأعراف) .. فالرحمة إنما ترجى لمن يمتلىء قلبه بإيمان الله وخشيته، ولن يقع الإيمان والخشية إلا لمن يتلقاها من آيات الله وكلماته..
ولا يتلقى من آيات الله وكلماته شيئا إلّا من أنصت خاشعا، ونظر مفكرا، واستمع متدبّرا..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا قُضِيَ» أي فرغ من تلاوة ما كان يتلى من القرآن..
وفى التعبير، بالفعل «قُضِيَ» بدلا من فرغ، أو انتهى، ونحوهما مما يدلّ على بلوغ الغاية- إشارة إلى أن حقّا يقضى، ومطلوبا يطلب..
فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يقصد بتلاوة القرآن فى ليلته تلك ذكر ربه، وإرواء قلبه، بكلمات الله ويأته.. والجنّ الذين استمعوا. قد كان مجلسهم للاستماع، إنما هو لا لنماس خير، وطلب هدى.. وقد قضى النبي الكريم مأربه، بتلاوة ما تيسر له من القرآن، كما قضى الجنّ طلبتهم فيما جاءوا له، من التماس الخير والهدى..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
عاد القرآن الكريم إلى مواجهة المشركين، بعد أن ساق إليهم هذا الخبر العجيب الذي يحدّث عن استماع الجن لهذا القرآن، الذي، كذبوا به، وسخروا من الرسول الذي يتلوه عليهم، مع أن الكتاب كتابهم، واللسان الذي ينطق به لسانهم، والرسول الذي يتلوه عليهم بشر مثلهم، وواحد من قومهم! فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا الخسران خسران؟(13/297)
ففى مواجهة القرآن للمشركين بعد هذا، وفى لقائهم بما شبّه عليهم من أمر البعث، الذي كان السبب الأول فى تكذيبهم للرسول، وإنكارهم لكل ما جاءهم به- فى هذا ما يجعل هؤلاء المشركين يلقون قضية البعث لقاء مجدّدا، قد يفتح لكثير منهم الطريق إلى الحق والهدى.. فقد رأوا ما بين يدى الله من قدرة قادرة، ملك بها هذا الوجود زمانا ومكانا وخلقا وتصريفا، وأنه سبحانه الذي خلق السموات والأرض، وما عليهما، وما فيهما، وما بينهما.. فكيف ينكر عاقل على الله- وتلك بعض مظاهر قدرته- أن يحيى الموتى، ويبعثهم من قبورهم؟ «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟» فهؤلاء الموتى لم يكونوا شيئا، فإعادتهم إلى الحياة بعد الموت، أيسر، وأقرب- فى حدود النظرة الإنسانية- من خلقهم الأول، ولم يكونوا شيئا!! وقوله تعالى:
«بَلى» أداة يجاب بها فى الإثبات للمستفهم عنه، الواقع فى حين استفهام منفىّ.. أي بلى، قادر على أن يحيى الموتى.. وهذا الجواب، هو الجواب الحق، الذي ينطق به الوجود كلّه، وهو حجة ملزمة للمشركين، سواء أنطقوا به أو لم ينطقوا..
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير للجواب، وتأكيد له..
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» :(13/298)
ومن هذه المواجهة للمشركين بأمر البعث، وتقريره على تلك الصورة القاطعة الملزمة- ينتقل المشركون المكذبون بالبعث فى سرعة خاطفة- لا إلى البعث، بل إلى ماوراء البعث، من حساب وجزاء، وإذا هم بين يدى جهنم التي كانوا يكذبون بها، ويكفرون بيومها-: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» ..
وقوله تعالى: «أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ» .. هو سؤال تأنيب، وتقريع، وإيلام للمشركين المكذبين بيوم الدين، وبما أنذروا به من عذاب الله فى هذا اليوم..
والمشار إليه هنا، هو العذاب.. أي أليس هذا العذاب بالحق؟ إنكم لم تظلموا شيئا، فهذا جزاء ما عملتم..
وقوله تعالى: «قالُوا بَلى!» هو إقرار منهم، يدينون به أنفسهم، وبأن هذا العذاب الواقع بهم هو من صنع أنفسهم، وبما كسبت أيديهم! وقوله تعالى: «قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» هو دفع بالمشركين إلى أودية جهنم، وإطعام لهم مما فيها من ألوان العذاب والنكال.. فليذوقوه حميما وغساقا، فليس لهم اليوم هنا هنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ.. بَلاغٌ.. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» ..
وبهذه الآية الكريمة تختم السورة بهذا التوجيه الكريم من الله سبحانه لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- يدعوه فيه إلى أن يصبر على ما يلقى من(13/299)
أذى المشركين، وعنادهم، وألا يستعجل لهم العذاب فى الدنيا، فإن العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة قريب، وأنه حين يقع بهم، لا يحسبون حسابا لأيام الدنيا التي عاشوها، وقطعوا فيها أعمارهم، فإنه أيّا كانت أعمارهم تلك من الطول، فسيرونها يومئذ لم تكن غير ساعة من نهار.. وأنهم ولدوا صباح يوم، ثم أخذهم عذاب الآخرة فى ضحى هذا اليوم! فهل من يرى هذا الزمن على حقيقته يستعجل العذاب لأهل العذاب؟ ..
وفى قوله تعالى: «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» - ما يسأل عنه..
فأولا: من هم أولو العزم من الرسل؟ وهل من الرسل ما لا يتصف بهذه الصفة؟ ثم ألا يكون عدم اتصاف الرسول بتلك الصفة مما ينافى المهمة المنتدب لها من السماء؟ ..
اختلف المفسرون فى تحديد أولى العزم من الرسل.. والرأى على أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم..
ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، - وهو المقصود بهذا الأمر، كان يعرف عن يقين من هم أولو العزم من الرسل.. أما غير الرسول فإنه ليس مطالبا بأن يعرف من هم أولو العزم من الرسل، إذ لم يكن لغير الرسول شىء فى هذا الأمر الموجه إليه من ربه، إذ كان امتثال هذا الأمر، والوفاء به، هو مما يطالب به النبي وحده، لما أتاه الله من فضله، من نفس عظيمة تتسع لهذا الأمر العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (286: البقرة) .. وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لنا فى رسول الله أسوة، فى مقام الصبر على ما نبتلى به من شدائد.(13/300)
أما أن يكون هناك من الرسل من لا يتصف بهذه الصفة، فذلك ما صرح به القرآن فى قوله تعالى عن آدم عليه السلام: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (115: طه) وقوله تعالى عن يونس عليه السلام: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» (48: القلم) ..
فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- وإن كانوا أكمل الناس كمالا، وأكرمهم مقاما، هم- فى كمالهم ومقامهم الذي لا يساميه أحد من البشر- درجات، بعضها فوق بعض، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (253: البقرة) ..
وإذا كان فى الرسل- عليهم السلام- الفاضل والمفضول، فإن هذا- كما قلنا- لا ينقص من قدر المفضول، إذ كان- وهو فى مقامه هذا- على هامة الكمال المتاح للبشر، من غير رسل الله..
وثانيا: فى دعوة الرسول إلى أن يتشبه فى الصبر بمن سبقه من أولى العزم من الرسل- فى هذا ما يفهم منه أن غاية الرسول من الصبر هو أن يكون كأحد هؤلاء الرسل الكرام- والسؤال هنا: كيف يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى مقام من يطلب الأسوة للحاق بغيره من أولى العزم، وهو خاتم النبيين، وإمام المرسلين؟.
والجواب على هذا من وجهين:
أولا: أن الأمر بالصبر هنا يحمل تهديدا للمشركين، وأن على النبي ألا يستعجل لهم العذاب، الذي هو قريب منهم.. فالمراد بالصبر ليس صبر المعاناة والاحتمال وحسب، وإنما المراد به أوّلا، هو صبر الانتظار، والإمهال،(13/301)
كما يقول سبحانه: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17: الطارق) ..
وقد كان الرسل فى هذا فريقين، فريقا استعجل العذاب لقومه، بعد أن بلغهم رسالة ربه، كما يقول الله سبحانه على لسان نوح: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (26: نوح) .. وكما فعل يونس، حين زايل موقفه من قومه قبل أن يؤمنوا بالله، وتركهم لمصيرهم، الذي يصير إليه الضالون المكذبون.. وفريقا صبر وانتظر، حتى جاء أمر الله فى قومه، كما فعل إبراهيم، وموسى، وعيسى، فلم يدع أحد منهم ربّه بأن يهلكهم، على كثرة ما ساقت إليهم أقوامهم من ألوان العنت والأذى..
أما النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه قد جاوز هذه الغاية إلى غاية أخرى، فكان لسانه دائما داعيا إلى الله بهداية قومه، والصفح عنهم.. حتى فى أشد أحوالهم إعناتا وأذى له.. كما كان ذلك فى موقفه- صلوات الله وسلامه عليه- يوم أحد، وقد شجه المشركون، وأسالوا دمه، وكسروا رباعيته، فما زاد أن وجّه وجهه إلى السماء، وبسط يديه إلى ربه قائلا: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .
وثانيا: أن فى قوله تعالى: «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» - إشارة صريحة إلى إلى أن الصبر المطلوب هنا، هو صبر الإمهال والانتظار، لا صبر الاحتمال والمعاناة، - كما أشرنا إلى إلى ذلك من قبل- وهذا يعنى أن الأمر بالصبر الموجه إلى النبي من ربه سبحانه وتعالى، إنما يراد به تهديد المشركين بالعذاب الذي ينتظرهم، والذي يطلب إلى النبي ألا يستدعيه لهم، ولا يستعجل وقوعه بهم، فهم سائرون إليه، وسيلقونه عما قريب.. إنها ساعة من نهار، ثم يلقاهم العذاب الذي يستعجلونه..
وعلى هذا، فإن الصبر المطلوب من النبىّ، منظور فيه إلى قومه، وإلى أنهم لن يعذّبوا فى الدنيا، وإنما سيؤجل عذابهم إلى الآخرة، كما فعل بأقوام أولى العزم من الرسل..(13/302)
47- سورة محمد
نزولها: مدنية بالإجماع عدد آياتها: ثمان وثلاثون آية عدد كلماتها: خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة عدد حروفها: ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الأحقاف بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» ..
وبدئت سورة «محمد» بعدها بقوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» ..
فكان هذا البدء- كما ترى- أشبه بالوصف الكاشف عن القوم الفاسقين، فهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، الذين أضل الله أعمالهم..
فالسورتان، أشبه بسورة واحدة، فى تجاوب آياتها والتحام معانيها..(13/303)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
التفسير:
قوله تعالى:
«الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» ..
هكذا تبدأ السورة بهذه المواجهة، التي تلقى المشركين والكافرين(13/304)
بهذا الخبر المشئوم، الذي يسدّ عليهم منافذ النجاة، ويدعهم فى متاهات الضلال يتخبطون، وقد تقطعت بهم الأسباب، وأفلت من أيديهم كلّ متعلق كانوا يتعلقون به، من أوهام وظنون..
ويبدو هذا اللقاء بالكافرين وكأنه أول وجه يلقاهم على طريق ضلالهم، ثم لا يكون منه إليهم إلا أن يلقى إليهم بهذا الخبر المزعج، وأنهم فى وجه عاصفة وشيك التقاؤهم بها، وهلاكهم بين يديها.. ذلك على حين أن هؤلاء الكافرين، قد كان لهم قبل هذا أكثر من لقاء مع آيات الله، ومع رسول الله، يدعوهم إلى الله، ويكشف لهم طريق الهدى، ويحذرهم عاقبة ما هم فيه من ضلال.. ولكن هكذا يجىء اللقاء بهم هنا، وكأنه يضرب صفحا عن كل هذه المواقف التي كانت لآيات الله ولرسول الله معهم إذ لم يكن لهذا كله، أثر فيهم، ولا نفع لهم.. وإذن فليستقبلوا ما كانوا.. يستحقون أن يستقبلوا به من أول الأمر.. فهذا هو حسابهم وجزاؤهم.. أما ما قدّم إليهم من قبل من وسائل الهداية، وسبل النجاة، فهو مما يقيم الحجة عليهم، ويقطع كل عذر لهم عند أنفسهم، كما أنه مما يملأ قلوبهم حسرة وكمدا، حين ينكشف لهم الأمر، ويحلّ بهم البلاء، ويرون أن وسائل النجاة من هذا البلاء، قد كانت بين أيديهم، وتحت سمعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إليها، ولم يمدّوا أيديهم لها..
وإنه ليس أشدّ إبلاما للإنسان من أن تكون السلامة فى يده، ثم يلقى بنفسه إلى التهلكة!!.
ثم إنه مما يزيد فى حسرة هؤلاء الذين كفروا، أنهم لم يهلكوا أنفسهم وحسب، بل إنهم أهلكوا أهليهم وإخوانهم، إذ كانوا دعوة من دعوات الضلال لهم، وبمحادتهم لله ورسوله. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (15: الزمر) .(13/305)
وقوله تعالى: «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» هو حكم على الكافرين بفساد أعمالهم كلها، وردّ الله سبحانه وتعالى لها، وعدم قبولها منهم، حتى ولو كانت مما يحسب فى الأعمال الصالحة.. فكل عمل لا يزكيه الإيمان بالله، هو عمل ضائع، ضال.. لا يعرف له طريقا إلى مواقع الرضا والقبول من الله.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» .
هو بيان للوجه الآخر من وجوه الناس، وهم الذين آمنوا بالله، ثم أتبعوا إيمانهم بالله، الأعمال الصالحة، التي هى ثمرة الإيمان بالله، فمن آمن بالله، كان مطلوبا منه، بمقتضى هذا الإيمان، أن يستجيب لله، وأن يستقيم على طريق الحق والخير، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه..
وقوله تعالى: «وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ» هو إيمانهم بالرسالة الإسلامية التي جاء بها النبىّ، بعد الإيمان الذي تلقاه المؤمنون من الرسالات السماوية السابقة، أو دلّتهم عليه عقولهم..
فمن كان مؤمنا بالله قبل الرسالة المحمدية، كان من شأن إيمانه هذا، أن يدعوه إلى الإيمان بتلك الرسالة لأنها دعوة مجددة إلى الإيمان بالله..
والإيمان بالله، طريق واحد، يلتقى عليه المؤمنون جميعا.. وإنه ليس للمؤمنين بالله طريقان، بل هو طريق واحد.. فمن كان على غير هذا الطريق فهو ليس من المؤمنين، كما يقول الله سبحانه: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) .(13/306)
وعلى هذا، فإن من بلغته الرسالة الإسلامية، من المؤمنين، من أهل الكتاب، أو الفلاسفة والحكماء، ثم لم يؤمن بهذه الرسالة، فهو ليس مؤمنا وليس على طريق المؤمنين..
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» .. إشارة إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، إنما يؤمنون- إذ يؤمنون بما أنزل على محمد- بالحقّ المنزل من ربهم.. فمن أنكر هذا الحق المنزل من عند الله، فليعلم أن ما عنده من إيمان ليس من الحقّ، إذ لو كان حقا لا لتقى مع هذا الحقّ، فالحقّ، لا يصادم الحق، ولا تختلف طريقه معه..
وقوله تعالى: «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» .. هو خبر لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي أن الذين آمنوا هذا الإيمان، وعملوا الصالحات، كفّر الله عنهم ما كان منهم من سيئات، قبل أن يؤمنوا بالرسالة المحمدية، فهو إيمان مجدّد لإيمانهم، ومصحح له، إذ كان هو الدّين كله، وبه تمّ الدين الذي جمع كلّ ما جاء به الرسل، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وكما يقول الله جل شأنه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (13: الشورى) وكما يقول جل شأنه:
«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (85: آل عمران) .
وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» - إشارة إلى ما يثمره الإيمان بدين الإسلام، إذ يجمع قلوب المؤمنين به، ويقيم مشاعرهم على أمر واحد، فلا يكون منهم التفات إلى هذا الدين أو ذاك، إذ أن الإيمان بالإسلام إيمان بجميع رسالات السماء،(13/307)
وتصديق بكل رسل الله.. سواء أكان هذا الإيمان بالإسلام من أهل الكتاب، أو ممن لا كتاب لهم.. وبهذا الإيمان يستريح بال المؤمن، ويطمئن قلبه، ولا تنزع به نازعة من عداوة أو بغضة أو مجافاة، لأى دين من الديانات السماوية، إذ كانت كلّها مجملة فى الإسلام، مطوية تحت جناحه.. ولعلّ هذا معنى من معانى كلمة «الإسلام» التي كانت عنوانا لهذا الدين، الذي يجد من يدين به، السلام بين مشاعره، كما يجد السلام مع الناس! وذلك صلاح البال على تمامه وكماله..
والبال هو الحال والشأن، الذي يكون عليه الإنسان، يقال: ما بال فلان؟
أي ما شأنه؟ وما حاله؟.
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» ..
الإشارة هنا «ذلِكَ» مشاربها إلى ما تقرر فى الآيات السابقة، من أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد، سيهديهم الله ويصلح بالهم، وأن الذين كفروا قد أضل الله سعيهم، وأفسد مشاعرهم، وأزعج خواطرهم- فهذا الذي فيه المؤمنون من هدى وإصلاح بال، وما عليه الكافرون من ضلال وسوء حال، هو بسبب أن كلّا من الفريقين قد سلك الطريق الذي يصل به إلى هذا الذي هو فيه.. فالذين كفروا اتبعوا الباطل، فكان أمرهم إلى الخذلان والبوار، والذين آمنوا اتبعوا الحق المنزل عليهم من ربهم، وهو القرآن، فكان أمرهم إلى الأمن والهدى والسلام..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» - الضمير فى «أَمْثالَهُمْ»(13/308)
يصحّ أن يكون عائدا إلى الناس، بمعنى أنه بمثل هذه الأمثال يضرب الله للناس الأمثال، التي تكشف لهم أحوالهم..
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الكافرين، والمؤمنين، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يضرب للناس أمثال الكافرين والمؤمنين، ليكون لهم العبرة والعظة، فيما يرون من هؤلاء وأولئك..
قوله تعالى:
«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» ..
بعد أن بينت الآيات السابقة حال كلّ من الكافرين والمؤمنين، وأن الكافرين قد أضل الله أعمالهم، وأفسد أحوالهم، وأنه سبحانه قد هدى المؤمنين وأصلح بالهم- بعد هذا جاءت النتيجة اللازمة لهذا البيان، وهو أن الناس فريقان: كافرون ومؤمنون، وأعداء لله، وأولياء لله.. ومن ثمّ كان لا بد أن يقف المؤمنون فى وجه أعداء الله، وأن يعملوا على حماية أنفسهم من شرهم، إذ كان أهل الشر والفساد- دائما- حربا على أهل الخير والسلامة، شأن المصاب بداء خبيث، فإنه يكون خطرا على من يخالطه أو يتصل به..
وعلى هذا، فإن على المؤمنين، إذا التقوا بالكافرين فى ميدان قتال، أن يوطنوا أنفسهم على أن تكون الغلبة لهم، فإن انتصارهم انتصار للحق والخير، وهو انتصار لله، ولدين الله، وأن هزيمتهم تمكين للباطل، وتسليط للبغى والعدوان، على مواقع الخير والحق..(13/309)
وقوله تعالى: «فَضَرْبَ الرِّقابِ» أي فاضربوا الرقاب.. وقد أقيم مصدر الفعل مقام الفعل، للإشارة إلى أنه لا يكون للمؤمنين فى لقاء الكافرين أي فعل أو شأن، إلا الضرب، والضرب للرقاب..
والمصدر هو أصل لما يشتق منه من أفعال وصفات، وأسماء.. وهذا يعنى أنه جامع لكل معنى يشتق منه.. وهذا يعنى أن تسليط المصدر على شىء، هو قصر كل معطيات المصدر على هذا الشيء وحده، دون التفات إلى شىء غيره..
وهنا فى هذا المصدر «فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. قد سلّط المصدر على الرقاب، فكان هذا قاضيا بألا يكون للمؤمنين شأن فى موقف القتال مع الذين كفروا- إلا الضرب، والضرب فى الرقاب، دون غيرها..
والمراد بضرب الرقاب، الضرب فى موطن القتل، لا فى موطن آخر، كالأطراف ونحوها، حيث لا يكون القتل محققا بضربها..
هذا، وليس الضرب للرقاب أمرا لازما لا بد منه، إلا إذا أمكن، وسنحت الفرصة للمؤمن من ضرب الكافر الضربة القاتلة.. أما حين لا يمكن ضرب العنق، أو الضرب فى مقتل، فليضرب حيث أمكنه الضرب، فى الأطراف أو غيرها..
أما فائدة الأمر بضرب الرقاب، فهو لعزل شعور المسلمين عن الاستبقاء على من أمكنتهم الفرصة فيهم من الكافرين، وقدروا على قتلهم، يريدون بذلك أسرهم، وجعلهم من مغانم الحرب.. وهذا من شأنه ألا يقيم نظر المسلم على الجهاد فى سبيل الله، وجعله خالصا له، إذ كان ينظر إلى ما يقع ليده من مغانم، وهذا بدوره يدعو المسلم إلى الحرص على حياته، والنجاة من القتل، حتى(13/310)
يأخذ حظه من تلك المغانم، وهذا من شأنه أن يضعف من بلاء المسلم فى القتال، ومن نكابته فى العدوّ.. وهذا، وهذا، وكثير غيره، مما يخفّ به ميزان المجاهد فى سبيل الله، وتذهيب به ريح المجاهدين، إذا نظر المجاهد فى ميدان القتال إلى نفسه، وطلب لها السلامة، أو الغنيمة، ولم يكن مطلبه الأول هو الانتصار على العدوّ، أو الاستشهاد فى ميدان القتال..
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» ..
«حَتَّى» حرف غاية، لبيان الحدّ الذي يجب أن يقف فيه المسلم عن قتل الكافر، فى ميدان القتال، وهو أن يرى الكافر وقد أثخنته الجراح، وسقط فى ميدان المعركة..، ولم يعد قادرا على المشاركة فيها- هنا لا يجوز للمسلم أن يقتل هذا المثخن بالجراح، بل كل ما يفعله، هو أن يتحقق من أنه لن ينهض ليحارب من جديد، وذلك بأن يشد وثاقه، أو يضربه ضربة تعجزه عن القيام، ولا تقضى عليه..
فشدّ الوثاق، قد يكون على حقيقته، إن أمكن، وقد يكون بتعجيز الجريح عن أن ينهض، ويعود إلى قتال المسلمين مرة أخرى، فى هذه المعركة..
وهذا وجه من وجوه الإسلام المشرقة- وكل وجوه الإسلام وضيئة مشرقة- وما فيه من معانى الإنسانية الرفيعة السامية، التي تراود أحلام الفلاسفة والأخلاقيين، ولا يجدون لها فى عالم الواقع مكانا..
فالإسلام فى حربه للكافرين- وهم حرب على كل حق وخير- لا يريد قتلهم، ولا يشتهى إراقة دمائهم، ولو كان من همّه هذا لما ردّ سيفه عمن كانوا لساعتهم حربا على المسلمين، يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ثم أغمدت سيوفهم، وتكسرت رماحهم، وأصبحوا فى عجز قاهر لهم أن يضربوا بسيوفهم أو يطعنوا برماحهم! ..(13/311)
إن غاية الإسلام من حرب أعدائه هو دفع شرّهم، ووقاية المسلمين من الخطر الذي يتهددهم من جهة عدوّهم.. فإذا لم يكن ثمة خطر، فلا حرب، ولا قتل، فإذا كان خطر، فهى الحرب، والقتال والقتل.. فإذا زال الخطر غمدت السيوف، وأطفئت نار الحرب..
هذا هو الإسلام فى حربه.. إنها الحرب لطلب السلامة والسلام، وليست حربا للبغى، والتسلط..
فأى ميزان أعدل وأقوم من هذا الميزان فيما بين الناس والناس؟
وأي أمن وأي سلام كهذا الأمن والسلام، الذي يجده المجتمع الإنسانى فى ظل مبدأ كهذا المبدأ، الذي يفرضه الإسلام على أتباعه فى وجه العداوة وفى ردّ العدوان، مما تسوقه إليهم الحياة على يد الأعداء والمعتدين؟
يقول الرسول الكريم فى شرح هذا المبدأ، وتوكيده..
«لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأت» وكان صلوات الله وسلامه عليه، يوصى من يبعثهم للجهاد بقوله:
«اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون فى سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» إنها حرب الإسلام، غايتها الإصلاح، ودفع الخطر، وبتر الأعضاء الفاسدة من المجتمع الإنسانى.. ولو كان من همّ الإسلام الحرب للغلب والقهر والتسلط، لما كان معها إلا التدمير لكل شىء، والقتل لكل نفس..
وقد تلقى المسلمون من دينهم، ومن هدى نبيهم هذا الأدب الإنسانى العالي، فى حرب عدوّهم، فلم تسكرهم حميّا النصر، ولم تجر على دينهم(13/312)
ومروءتهم شهوة الانتقام والتشفّى.. بل كانوا على هذا الأدب الرباني فى السلم والحرب، وفى حال الهزيمة والنصر..
يقول أبو بكر رضى الله عنه، وهو يودّع يزيد بن أبى سفيان وكان أحد القواد الأربعة، الذين وجههم أبو بكر لحرب الروم فى الشام:
«إنى موصيك بعشر خلال.. لا تقتل امرأت، ولا صبيّا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرّب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمّا كله، ولا تعقرنّ نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا نخن» .
وقوله تعالى:
«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» .. إذ المراد بشدّ الوثاق- كما قلنا- هو عزل الذين يثخنون بالجراح عن القتال، ثم أخذهم فى الأسرى، وإنزالهم على حكم الأسر.. إذ ليس الجريح من الأسرى إلا واحدا منهم، فلا يؤخذ بحكم المقاتلين، فيجهز عليه.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» .. لتقريره، ولدفع ما يقع من شبهة فى معاملة الجرحى، وإلحاقهم بالمحاربين الذين تضرب رقابهم..
فهؤلاء الجرحى من مقاتلى العدوّ، يؤسرون، ثم يؤخذون بحكم الأسرى على إطلاقه، وهو إما أن يمنّ عليهم، ويطلق سراحهم، تفضلا عليهم، وإحسانا إليهم، ومقابلة إساءتهم وعدوانهم بهذا الفضل والإحسان وإما قبول الفدية منهم، وهو عوض مالىّ، أو عيني، أو شخصىّ.. وذلك بأن يفرض على تخليص الأسير من الأسر قدر من المال، أو السلاح، أو المتاع، أو بتخليص أسير فى يد العدو من أسرى المسلمين..(13/313)
والأمر فى هذا كله متروك لولىّ الأمر، القائم على شئون الحرب الدائرة بين المسلمين، وبين العدوّ، فهو الذي يقدّر الأمر فى شأن أسرى العدو، أفرادا أو جماعات، بالعفو والمنّ، أو الفداء..
قوله تعالى:
«حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» - هو غاية للحكم الذي جاء به الأمر فى قوله تعالى:
«فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. فهذا الحكم قائم على المسلمين الذين يلتقون بالكافرين فى ميدان القتال.. إنهم مأمورون أمرا إليها بأن يضربوا الضربات القاتلة للأعداء، غير ملتفتين إلى أخذهم أسرى، الأمر الذي يحملهم على أن يتحروا ضرب المواطن غير المميتة منهم، حتى يكونوا مغنما من مغانم الحرب.. ومن جهة أخرى تشير هذه الغاية إلى أن حكم الضرب فى رقاب الكافرين، إنما هو فى حال الحرب، أما إذا انتهت الحرب، وخمدت نارها، فليس للمسلم أن يبدأ بعدوان، أو أن يقتل أحدا من الكافرين إذا لقيه وأمكنته الفرصة منه.. إذ لا يستباح دم الكافر إلا إذا كان فى حرب على المسلمين.. أما فى غير الحرب، فإن لدمه حرمة يجب على المسلمين رعايتها، وصيانتها..
وهكذا يقيم الإسلام فى نفوس أتباعه هذه المشاعر الإنسانية العالية حتى مع عدوهم، الذي كان فى وقت ما حربا عليهم، والذي لا يزال على فيه الحرب والعدوان، إذا أمكنته الفرصة..
وأوزار الحرب: أثقالها، وأعباؤها، وما يحمل المسلمون منها فى مصادمة عدوهم، ودفع شره عنهم.. فإذا انتهت الحرب، وأخلى العدو ميدان(13/314)
القتال، بالفرار، أو الأسر.. فقد رفع عن المسلمين المقاتلين ما كانوا يحملون من أعباء ثقال.. وهنا تنتهى أحكام الحرب، ويعود المسلمون إلى موقفهم الأول من الكافرين.. وهو أن لا قتل ولا أسر لمن يقع لأيديهم من الكافرين فى غير الحرب..
وفى إسناد الفعل «تَضَعَ» إلى «الْحَرْبُ» مع أن الذي يضع الأوزار، والأعباء هم المحاربون- فى هذا إشارة إلى أن الحرب هى سبب هذه الأوزار وتلك الأعباء، وأنها هى التي جلبتها، وألقت بها على كاهل المحاربين..
وفى هذا تشنيع على الحرب، وتنفير منها، وتصوير لها فى صورة كريهة، حيث لا تحمل إلى المتلبسين بها إلا ما يبهظهم ويثقل كواهلهم..
ثم إن فى تسمية أعباء الحرب، وأثقالها، أوزارا، تشنيعا آخر على الحرب، وتأثيما لها، وأنها- أيّا كانت شىء- كريه، لا يطلبه المسلم، ولا يسعى إليه، ولا يرغب فيه، إلا إذا لم يكن منه بد، كدفع عدوان، أو إطفاء فتنة..
وهنا يدخل المسلم الحرب، من باب المحظور الذي يباح عند الضرورة، فيتعاطى منها بحساب، على قدر ما يدفع الضرر، فى غير شهوة، ولا إسراف..
أفرأيت وجها للحرب، أقرب إلى السلام، وأدنى إلى العافية، من هذه الحرب التي يكون الإسلام طرفا فيها؟ إنها حرب يتمنى أن يعيش فيها الناس، ما يعيش فيه السلام العالمى اليوم، الذي قل أن يمسى أو يصبح فى غير حرب..(13/315)
ذلك أن العالم اليوم إذا أظلّه صباح يوم أو مساؤه بغير حرب معلقة أو سافرة، كانت الحرب الخفية مشبوبة الأوار، فى صدور تغلى مراجلها بالعداوة والبغضاء، وفى نفوس تتحرق مشاعرها شهوة إلى إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح، وإبادة الأمم والشعوب!.
قوله تعالى: «ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» - الإشارة هنا إلى ما يطالب به المؤمنون من لقاء العدو فى ميدان القتال، ومن توجيه الضربات القاتلة له، الفاضية على كل كيد يكيد به للإسلام والمسلمين، ولو كان فى ذلك تعريض كثير من المؤمنين للاستشهاد فى سبيل الله.. فذلك ابتلاء من الله للمؤمنين، وإنزالهم هذا المنزل الكريم الذي يلبسون فيه ثوب المجاهدين فى سبيل الله، الواقفين فيه موقف جنود الله، المدافعين عن حرماته.. ولولا هذا الصدام بينهم وبين أهل الكفر والضلال، لما وقفوا هذا الموقف الكريم، ولما نالوا هذا الشرف العظيم..
فهذه الحرب بين المؤمنين والكافرين، هى لحساب المؤمنين قبل كل شىء، إذ هى التي أنزلتهم هذه المنزلة العالية، وأحلّتهم هذا المحل الكريم..
وما كان الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى جنود يجاهدون فى سبيله، ويقفون فى وجه هؤلاء الكافرين المحادّين له سبحانه.. إذ لو شاء الله سبحانه وتعالى «لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» أي لسلط عليهم آفة مهلكة من الآفات، أو لما جاء بهم إلى هذه الحياة الدنيا، أو لهداهم إلى الحق، وكانوا فى المؤمنين..
ولكن هكذا شاءت مشيئة الله سبحانه.. فجعل الشرّ فى طريق الخير، وجعل الكافرين فى وجه المؤمنين، وذلك ليتيح للمؤمنين فرصة العمل لما يرفع منزلتهم عند الله، ويعلى قدرهم، وينزلهم منازل رضوانه..(13/316)
فهؤلاء الكافرون، والمشركون، والضالون، وهذه الآفات والشرور المبثوثة بين الناس، إنما هى القرابين التي يتقرب بها المؤمنون والصالحون من عباد الله، إلى الله، بالتصدّى لها، وإعلان الحرب عليها.. وبهذا ينالون من ثواب لله ورضوانه بقدر ما يعملون.. ولولا هذا لما كان ثمة عمل يمتاز به الخبيث من الطيب! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» أي هذا الاختلاف بين الناس، وهذا الصدام الذي يقع بين المؤمنين والكافرين منهم، إنما هو ابتلاء وامتحان لهم، حيث يكشف احتكاك بعضهم ببعض عن معدن كل منهم، كما يقول الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد) ..
هذا، وأرى شفاها تتحرك عليها عبارات التساؤل أو الإنكار، لهذا الذي نقوله، من أن وجود أهل الضلال فى هذه الدنيا، هو سبيل من السبل التي يتخذها المؤمنون للتقرب إلى الله، ولرفع درجاتهم عند الله بجهادهم، وقتلهم، أو الاستشهاد فى سبيل الله على أيديهم.. وقد يقول قائل:
ما ذنب هؤلاء الضالين فى تقديمهم على مذبح القربان لله؟ وأ لهذا كنت الغاية من خلقهم؟.
وقول: وماذا ينكر المنكرون من هذا؟ ولم لا يكون هؤلاء المشركون والكافرون والضالون جميعا قربانا يتقرب إلى الله بجهادهم من أهل الإيمان؟.
وقد يقول قائل: أهذا ممكن أن يكون فى شأن الإنسان، الذي كرمه الله سبحانه، ورفعه على سائر مخلوقات الأرض، وجعله خليفة له فيها؟.(13/317)
ونقول: نعم، هذا ممكن.. فإن هذا الإنسان الذي كرّمه الله سبحانه وتعالى، وفضله على كثير من خلقه، وجعله خليفة له فى الأرض- هذا الإنسان، قد نزع بيده هذا الثوب الكريم الذي ألبسه الله إياه، وتخلى عن عقله الذي هو التاج الذي نال به شرف الانتماء إلى الإنسانية.. وقد عطل وظيفة هذا العقل، فلم ينظر به فى آيات الله الكونية، ولم ير من خلال هذا النظر وجه خالقه، ولم يتعرف إلى ما للخالق سبحانه من جلال وقدرة، ثم إنه حين جاءته آيات الله على يد رسله لم يتنبه من غفلته، ولم يحد عن طريق ضلاله، بل ازداد كفرا بالله، ومحادّة له- فكان بهذا على غير صورة الإنسان الذي كرمه الله، وخلقه فى أحسن تقويم. إنه حينئذ هو الإنسان فى أسفل سافلين، ومن هنا كان إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان، ومن هنا أيضا كان حيوانا يقدّم على مذبح التقرب إلى الله، إذا هو أعمل قرونه ومخالبه وأنيابه فى عباد الله..
وأولياء الله.. فإن هو أمسك شره، فلم يعرض لعباد لله بأذى، ترك وشأنه، كما تترك الوحوش فى الغابات.
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» .
هو تنويه خاص بشأن الذين يستشهدون فى سبيل الله. فهؤلاء الشهداء لن يضل الله أعمالهم، بل سيقيمها على طريقه المستقيم، حيث تنزل منازل الرضا والقبول من الله رب العالمين.. فهم داخلون أولا فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» ثم هم مختصون ثانيا بهذا لذكر، الذي يقيمهم بعد موتهم، مقام الأحياء، الذين لم يفارقوا هذه الدنيا، وذلك بإصلاح بالهم، على حين يقيمهم مقام أهل الجنة قبل أن يدخلها أحد غيرهم، فهم ساعون إلى الجنة، آخذون طريقهم التي يعرفونها، إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ(13/318)
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»
(169: آل عمران) قوله تعالى:
«سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ» - هو بيان لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» .. أي أن الله سبحانه وتعالى سيهدى الذين قتلوا فى سبيل الله، ويقيم بين أيديهم من أعمالهم الدليل الذي يأخذ بهم إلى الجنة التي أعدها الله لهم، وعرّفهم الطريق إليها..
وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (9: يونس) .
فأعمل الشهداء، مستنيرة مبصرة، تعرف طريقها إلى مقام الرضا والقبول، وأصحاب هذه الأعمال، وهم الشهداء، يتبعون أعمالهم تلك، ويأخذون طريقهم على هديها، حيث تنتظرهم عند الله فى جنات النعيم التي أعدها سبحانه لأصحاب هذه الأعمال الطيبة كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ»
(12: الحديد) فالذى يسعى بين أيديهم هو هذا النور المشع مما فى أيمانهم، وهو سجل أعمالهم، التي صارت كتبا تناولوها بأيديهم اليمنى.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» .
هو التفات من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين، ودعوة منه جل شأنه إلى أن يكونوا جميعا فى هذه المنزلة التي أعدها للمجاهدين فى سبيله..
فالمؤمنون الذين يقاتلون فى سبيل الله إنما ينصرون الله.. فهم جند الله، الذين يحاربون من حارب الله..
ونصر المؤمنين لله، إنما هو بنصر دينه، وإقامة شريعته، ودفع الضلال والشرك والإثم، وكل ما يعترض سبيل الله، ويخالف ما أمر به..(13/319)
وفى إسناد نصر الله إلى المؤمنين تكريم لهم، ورفع لقدرهم، وإنزالهم منزلة المعين لله، المؤيّد له، والله سبحانه غنى عن كل معين ومؤيد.. إذ كل شىء فى هذا الوجود هو منه، وله.. لا يملك أحد شيئا.. فكيف يطلب النصر من خلقه الذين لا يقوم وجودهم لحظة واحدة إلا بحفظه، ورعايته؟ إن ذلك- كما قلنا- هو تكريم للمؤمنين، وإحسان من الله إليهم. كما فى قوله تعالى:
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» .. فالله سبحانه هو المعطى لكل ما فى أيدى الناس.. ثم هو سبحانه- فضلا وإحسانا منه- يدعوهم إلى أن يقرضوه مما أعطاهم!!.
وفى قوله تعالى: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ليس نصرا على حقيقته، وإنما هو مظهر من مظاهر الطاعة والولاء لله..
وإلا فإن النصر الحقيقي هو الذي يمنحه الله سبحانه وتعالى المؤمنين، ويمدهم بالأسباب الممكنة لهم منه.. فهو سبحانه الذي ينصرهم على عدوهم، وثبت أقدامهم فى مواقع القتال على حين يملأ قلوب الذين كفروا رعبا وفزعا..
«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (10: الأنفال) .. ومع أن هذا النصر من عند الله، فإنه محسوب للمؤمنين، يلقون عليه أحسن الجزاء فى جنات النعيم.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .
هو فى مقابل قوله تعالى للمؤمنين: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» فإنه- سبحانه- إذ ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم- يخذل الكافرين، وينزلهم منازل البوار والتعس، ويبطل أعمالهم، فلا يقبل منهم عدلا ولا صرفا. فكل عمل للكافرين إلى ضلال، وضياع.. وإذ كان الإنسان من وراء عمله، ينظر إليه، ويتبع آثاره ليجى ثمرة ما عمل، فإن الكافرين ستقودهم أعمالهم التي أصلها الله، إلى الضلال، وإلى عذاب السعير.(13/320)
وفى التعبير عن التّعس والخسران، بالمصدر «فَتَعْساً لَهُمْ» ، وعن ضلال الأعمال، بالفعل «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .. فى هذا ما يشير إلى أن التّعس والبوار والخسران، صفة ملازمة لهم، مستولية على كيانهم كله، فى أقوالهم وأفعالهم، وفى ماديات حياتهم ومعنوياتها.. فالمصدر- كما قلنا- يجمع كل معانى الأحداث المشتقة منه.. على نحو ما أشرنا إليه فى قوله تعالى «فَضَرْبَ الرِّقابِ» . أما ضلال أعمال الكافرين، فهو حدث متسلط على أعمالهم، فكن ما يقع منهم من عمل تسلط عليه الضلال، وطواه تحت جناحه..
وفى التعبير بالماضي «أضل» بدلا من المضارع «يضل» - إشارة أخرى إلى أن الكافر محكوم مقدما على كل عمل من أعماله بالضلال، دون نظر فى وجه العمل، فإنه يستوى فى ذلك الحسن والقبيح، والخير والشر، من أعمال الكافرين.. إذ كل أعمالهم قبيحة، وكل أفعالهم شر.. هكذا تقع أعمال المشركين تحت حكم الضلال، وقوعا مطلقا، فلا ينتظر فى الحكم عليها حتى ينكشف وجهها، ويعرف الحسن والقبيح منها.. إنها كلها قبيحة الوجوه، منكرة الوجود، قبل أن تولد! ..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» ..
هذا بيان للسبب الذي من أجله كل الحكم عليهم بالبوار والخسران، وبإبطال كل عمل يعملونه، ولو كان مما يعدّ فى الأعمال الصالحة.. إنهم «كرهوا ما أنزل الله» .. وهو القرآن الكريم، الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله، ويحمل إليهم الهدى والنور..
وكراهيتهم لما أنزل الله، هى التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف العدائىّ لرسول الله، ولآيات الله التي يتلوها عليهم.. فإن من كره شيئا تجنبه،(13/321)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
وعاداه.. على خلاف من أحب الشيء، فإنه يدنو منه، ويقاربه ويختلط به، ويأنس إليه..
وإحباط الأعمال، هو إفسادها، ووأدها فى مهدها.. ومنه الحديث الشريف:
«إن من الربيع ما يقتل حبطا أو بلمّ» .. والقتل الحبط، هو أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ وتموت متخمة!
الآيات: (10- 15) [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 15]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)(13/322)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» ..
هو تهديد ووعيد للمشركين الذين كذبوا رسول الله، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله وحده، والإيمان باليوم الآخر، وبالحساب والجزاء..
وقد حمل هذا الوعيد إلى المشركين فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي يرميهم بالعمى والغفلة عن النظر فيما حولهم، وفيما أصاب المكذبين برسل الله قبلهم، من عذاب ونكال.. لقد دمر الله على هؤلاء المكذبين، وأنى بنيانهم من القواعد، وأن للكافرين عند الله أمثال هذا التدمير..
وفى قوله تعالى: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وفى تعدية الفعل بحرف الاستعلاء «على» - إشارة إلى أن هذا التدمير، قد وقع عليهم من جهة عالية، متمكنة، منهم، بحيث يكونون تحت رمياتها التي لا تخطىء الهدف أبدا..
وفى قوله تعالى: «وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» بجمع أمثال، بدلا من قوله- مثلها- إشارة إلى أن ما يرمى به الكافرون من مهلكات، ليس على صورة واحدة، بل إن لكل أمة، ولكل جماعة لونا من ألوان الهلاك.. كما يقول الله تعالى:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» (40: العنكبوت) ..
فهى ألوان من الهلاك، مختلفة الأشكال، وإن كانت متفقة فى الآثار..(13/323)
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» ..
فى الآية إشارة ضمنية إلى أن المؤمنين بالله واليوم الآخر، لا يصيبهم شىء من هذا البلاء المسلط على الكافرين.. وذلك بسبب «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» أي ناصرهم ودافع المكروه عنهم.. أما الذين كفروا فلا ناصر لهم ولا معين يعينهم..
فإنه لا يملك النفع والضر إلا الله سبحانه وتعالى، وقد لاذ المؤمنون بحمى الله، فلم يصل إليهم ضر، ولم يصبهم مكروه، على حين ركن المشركون والكافرون إلى ما يعبدون من دون الله، فلم تغن عنهم آلهتهم من الله من شىء..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» ..
ومن آثار ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه يدحلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. فهم فى الدنيا، فى أمن من أن يحلّ بهم ما يحل بالكافرين من البلاء العام الشامل الذي يأتى على كل شىء.. وهم فى الآخرة، ينعمون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار..
وفى قوله تعالى: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» - إشارة إلى أن الإيمان الذي يثمر هذه الثمرات الطيبة لأهله، إنما هو الإيمان الذي يصدّقه العمل الصالح فليس الإيمان مجرد قول باللسان، وتصديق بالقلب، فهذا إيمان لا ثمرة له،(13/324)
وإنما تظهر ثمرة الإيمان، فيما يكون عليه سلوك المؤمن، وما تكسب جوارحه..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» ..
كان مقتضى السياق أن يكون نظم الآية هكذا مثلا.. والذين كفروا لهم عذاب جهنم..
ولكن النظم القرآنى، المعجز، يضع الأمر موضعه، فيصل حياة الكافرين فى الدنيا، بحياتهم فى الآخرة.. إنهم على طريق واحد فى دنياهم وأخراهم جميعا..
فهم فى الدنيا، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وهم فى الآخرة يلقون فى عذاب جهنم..
والناظر المدقق فى الحالين يرى أنهما على سواء، وإن بدا الاختلاف بينهما بعيدا فى عينى من لا بصيرة له..
فالإنسان ليس جسدا حيوانيا، غايته أن يأكل كما تأكل البهائم، وإنما الإنسان إنسان، لأن له روحا يهفو إلى الملأ الأعلى، ويتشوف إلى مطالع النور منه، ولهذا الروح مطالب يجب أن يؤديها الإنسان له، حتى تظل أسبابه موصولة بالملأ الأعلى، آخذة طريقها إليه.. وإلا انقطعت تلك الأسباب، وأصبح الإنسان جسدا حيوانيا، لا شىء من معالم الإنسانية فيه.. وهذا عذاب وبلاء للإنسان.. إذ أنه يعيش فى الناس حيوانا ممسوخا فى جسد إنسان، أو إنسانا مردودا فى طبائع الحيوان..
وفى قوله تعالى: «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» - إشارة إلى(13/325)
أن ما يتمتع به الكافرون من متع فى اتصال الرجال بالنساء، هو عند الكافرين متعة حيوانية، يستجيبون فيها لغريزة الحيوان لحفظ النوع.. على حين أن المؤمنين يجدون فى قضاء هذه المتعة شيئا أكثر من حفظ النوع.. إنهم يرونها نعمة من نعم الله، كما يرون فيها بعض قدرة الله فى خلق الإنسان، وتطوره فى هذا الخلق، من ماء دافق، إلى إنسان رشيد عاقل..
فقوله تعالى: «يَتَمَتَّعُونَ» أي يتناكحون، وينزو الذكر منهم على الأنثى كما ينزو ذكر الحيوان على أنثاه.
فمتعتهم الجنسية متعة حيوانية، لإشباع حاجة الجسد، وحفظ النوع..
وأكلهم أكل حيوانى، لإشباع البطون، وحفظ الحياة..
وتبدو لنا من الآية الكريمة صورة مسعدة مشرقة، لأولئك الذين يعيشون فى هذه الدنيا على ذلك الزاد الطيب من المعاني الكريمة، والمثل الرفيعة، والمبادئ القويمة، وإن فاتهم كل شىء من ماديات الحياة ومتاعها..
إنهم فى نعيم يملأ حياتهم المقفرة من متاع الدنيا، بألوان من البهجة والمسرة، لا يجد أحد مثلها إلا فى الجنة التي وعد الله المتقين من عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (26: الرعد) قوله تعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» ..
هو تهديد للمشركين من قريش، الذين آذوا النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وآذوا أهله وأصحابه، حتى اضطر- صلوات الله وسلامه عليه- إلى(13/326)
الهجرة من بلده، وأهله، والبيت الحرام الذي تعلّق به قلبه..
فكثير من القرى، كانت أشد قوة من هذه القرية- مكة- أهلكها الله ودمّرها على أهلها، ولم يكن لهم من ناصر ينصرهم من بأس الله إذ جاءهم..
وهذه القرية قد فعلت فعل القرى الظالمة التي أهلكها الله، فهل إذا أراد الله هلاك أهلها- أهناك من يدفع عنهم ما يرميهم الله سبحانه وتعالى به من إمهلكات؟ ..
وفى إضافة القرية إلى النبىّ، إشارة إلى أنها قريته، وهو صاحبها، وأولى الناس بها، وإن أخرج منها.. إنها ستفتح عما قريب ذراعيها للنبىّ، وتستقبله استقبال الأرض الجديب جاءها الغيث، وإنها لتكون عما قريب البلد الإسلامى الأول، الذي يوجه النبىّ والمؤمنون معه، وجوههم إلى البيت الحرام فيه.. وفى الآية إشارة إلى أن هذه القرية لن يحل بها من الدمار والخراب ما حلّ بقرى القوم الظالمين، ففى إضافتها إلى النبىّ الكريم، ضمان لها من كل سوء إلى يوم القيامة، إنها قرية النبىّ، وستظل قريته إلى يوم الدين..
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» ..
المراد بالاستفهام هنا، النفي، بمعنى أنه لا يستوى من كان على بينة من ربه، وعلى هدى منه، ومعرفة به- لا يستوى من كان هذا شأنه، ومن زين له سوء عمله، فرأى القبيح حسنا، والشر خيرا، والهدى ضلالا.. إنه لشتان بين هذا، وذاك.. «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (9: الزمر) .
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» (35- 36: القلم) .(13/327)
وفى إفراد «فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» إشارات:
أولها: أن الذي يكون على بينة من ربه، وعلى هدى منه، إنما هو إنسان استقلّ بنظره، وأحقكم إلى عقله، ولم يكن منقادا لهوى غيره، أو منساقا وراء هوى نفسه.
وثانيها: أن المؤمنين- وإن كانوا ذواتا كثيرة متعددة- كل منهم له كيانه ووجوده الذاتي المتحرر من التبعية الاعتقادية- هم جميعا ذلك المؤمن الذي على بينة من ربه.. فكل مؤمن يرى وجوده ووجهه فى هذا المؤمن..
وثالثها: أن المؤمن الذي يكون على بينة من ربه يرجح ميزانه موازين غير المؤمنين جميعا..
وفى إفراد «زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» وجمع «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - فى هذا أكثر من إشارة كذلك..
فأولا: إفراد الذي زين له سوء عمله مع بناء فعله للمجهول، يشير إلى أن هذا التزيين، وإن كان يرد على الإنسان من جهة تزين له المنكر، وتغريه به، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» (25: فصلت) ..
- هذا التزيين وإن كان يرد على الإنسان من خارج- فإنه لا يدفع عنه حمل المسئولية، ولا يعفيه من الحساب والجزاء، إذ كان لكل إنسان ذاتيته ووجوده.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» (21: الطور) ويقول سبحانه:
«كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) .
وثانيا: فى جمع «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - إشارة إلى أهل الضلال(13/328)
والفساد، يغرى بعضهم بعضا، ويغوى بعضهم بعضا، وإذا هم جميعا يتبادلون أهواءهم بينهم، فكل منهم يأخذ بهوى الآخرين.. وهذا هو المصدر الذي يجىء منه التزيين، كما يقول سبحانه: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» .. (112: الأنعام) .
قوله تعالى:
«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» ..
هذا تعقيب على الآية السابقة: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟» ..
ففى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..» الآية- فى هذا، جواب على هذا السؤال الذي أثارته الآية السابقة.. وقد جاء هذا الجواب فى صورة سؤال يحتاج هو الآخر إلى جواب، ولكن جواب هذا السؤال قريب واضح، يكاد يمسك باليد..
فما هى إلا نظرة يلقيها الإنسان إلى أهل الجنة وما يلقون فيها من نعيم، وإلى أهل النار، وما يساق إليهم من عذاب، حتى يرى هذا البعد البعيد بين حال هؤلاء وأولئك.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.. من كان على بينة من ربه، ومن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. ومن هنا كان من المناسب، ذكر الجنة، وما فيها من ألوان النعيم..
وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. هو استفهام يردّ به على الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» ..
والتقدير: كلا.. ليس من كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله،(13/329)
وكيف يكونان متماثلين؟ أمثل الجنة التي وعد المتقون، ينعمون فيها بما يشاءون كمثل النار التي يلقى فيها المجرمون، يطعمون من جمرها، ويشربون من لهيبها؟
ويلاحظ فى الآية الكريمة أن عرض المقابلة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، لم يكن متطابقا، فقد جاءت الجنة مقابلة لأصحاب النار هكذا: «مثل الجنة التي وعد المتقون.. كمن هو خالد فى النار؟ ولو جاءت المقابلة على وجه التطابق، لجاء النظم هكذا: أمثل الجنّة التي وعد المتقون.. كمثل النار التي وعد المكذّبون المجرمون؟ أو هكذا: أمثل أصحاب الجنة التي ينعمون بطيباتها.. كمثل أصحاب النار الذين يتقلبون على جمرها؟
فما وجه هذا؟ وما سرّه؟
الجواب- والله أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المهمّ فى بلاغة المقابلة بين الأمور- لكى تتضح وجوه الخلاف بينها، ومن ثمّ تتضح سمة كل مقابل فى وجه مقابله- ليس المهم فى بلاغة المقابلة هنا، هو التطابق بين الصورتين، الموجبة والسالبة، كما فى العمل «الفتوغرافى» .. وإنما الصميم من البلاغة، هو أن يقع التطابق فيما وراء الغلاف الخارجي، أو السطح الظاهري للأشياء.. بحيث يبلغ أعماقها، وينفذ إلى جوهرها..
وثانيا: هنا فى هذه الصورة التطابقية التي جاءت بها الآية الكريمة، لأصحاب الجنّة وأصحاب النار- نرى صورتين متطابقتين أتم التطابق وأكمله وأروعه..
ففى صورة النعيم، نرى جنّة! وهذه الجنة موصوفة بصفتين:
أولاهما: أنها للمتقين الذين وعدهم الله إياها..
وثانيهما: أن فيها أنهارا من ماء غير آسن، وأنهارا من لبن لم يتغير(13/330)
طعمه، وأنهارا من خمر لذّة للشاربين، وأنهارا من عسل مصفّى، كما أن فيها ما يشتهى أهلها من الثمرات..
فاللون الغالب البارز فى هذه الصورة، هو لون الجنة.. أما أصحابها فهم لون أقل بروزا وظهورا من الجنة ذاتها..
وهذا يعنى- فى مقام الإحسان- المبالغة فى إكرام هؤلاء الضيف المدعوّين من الله سبحانه، الموعودين بالنعيم فى جناته.. فإنه بمقدار الاهتمام بالإعداد لاستقبال الضيف، يكون مقدار منزلته عند مضيفه.
وفى صورة الإعداد لاستقبال الضيف- أي ضيف- يعرف- من لم يكن يعرف- قدر هذا الضيف ومنزلته، وإن لم يعرف من يكون، وما الجهة التي يجىء منها..
وفى الصورة المقابلة لصورة النعيم..ماذا نرى؟
نرى اللون الغالب فيها، والذي يكاد يغطى الصورة كلّها، هو أصحاب النار، وما يلقون فيها من عذاب ونكال..
فهناك أناس خالدون فى النار، مقيمون إقامة دائمة فيها، شرابهم ماء يغلى فيقطع الأمعاء.. هذا هو كل ما فى الصورة! ولكن كلمة «النار» ، وإن أخذت حيزا ضئيلا من الصورة، فإنها تلقى على الصورة كلها ظلالا كثيفة كئيبة، تتراقص عليها واردات جهنم كلها، وما يساق إلى أهلها من ألوان العذاب والنكال.. ومن تلك الواردات هذا الماء الجهنمى الذي يقطع أمعاء من يدخل إلى أمعائهم..
ومن جهة أخرى، فإن إبراز أصحاب النار فى النار، وتلونهم باللون الغالب الواضح فيها- إشارة إلى أن أصحاب النار قد أصبحوا بعضا من النار،(13/331)
بل إنهم الشاهد المبين عنها وعن أفعالها وآثارها.. إنهم حطب جهنم..
فهم إذن هذا اللهب المتسعّر منها، وأنه لولا هذا الخطب لما كانت هذه النار.. وهل نار بغير وقود؟
فإذا نظرنا إلى الصورتين: صورة النعيم، والصورة المقابلة لها على نحو نظرتنا هذه، وجدنا الجنة وأهلها، والنار وأصحابها، ورأينا التقابل كاملا بين الصورتين، وذلك بما يجريه العقل من عمليات منطقية، تقيم المتقابلين على ما يقضى به التطابق بينهما..
فإذا كانت هنا جنة، فليكن هناك نار..
وإذا كان فى النار أهلها وما يكابدون من عذابها، فليكن فى الجنة أهلها وما ينعمون به من خيراتها..
وهكذا تتبادل الصورتان، فتأخذ كل منهما من الأخرى عكس ما تعطى..
من الصفات أو الذوات..
قوله تعالى: «فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» هو من صفات هذه الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.
فإذا كان فى جنات الدنيا، جداول تجرى، أو أنهار تتدفق.. فالجنة التي أعدت للمتقين فيها أنواع شتّى من الأنهار لم تعرفها الجنّات فى الدنيا..
ففى الجنة التي وعد المتقون: «أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» ، أي غير متغير الريح أو الطعم، فهو ماء جار، صاف، طهور.. عذب فرات..
وفى هذه الجنة «أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» أي لبن كأنما حلب لساعته، لم يمر به زمن ينقل فيه اللبن من حال إلى حال، أو أحوال، أخرى..(13/332)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
وفى تلك الجنة «أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» ، أي بلذّ طعمها للشاربين..
فليس فيها من خمر الدنيا هذا الطعم المرّ اللاذع، كما أنها لا تخامر العقل، ولا تذهب باللّب، كما يقول الله تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ» (47: الصافات) .
وفى الجنة أيضا أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به..
إنها جنة فيها مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا، ولكن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الحقيقة والمثال، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض!
الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» ..
الضمير فى «مِنْهُمْ» يعود إلى مفهوم من الآيات السابقة، التي أشارت إلى(13/333)
المشركين، وتوعدتهم بالعذاب فى الدنيا والآخرة.. ففى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - فى هذا إشارة إلى المشركين.. وقوله تعالى: «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» - فيه إشارة أخرى إليهم.. فهم الموصوفون بأنهم ممن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم، وهم المتوعّدون بأن يسقوا ماء حميما يقطع أمعاءهم..
فقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» أي ومن هؤلاء المشركين، منافقون، جاءوا يستمعون إليك.. لا يريدون الهدى، ولا يطلبون الإيمان، وإنما يريدون أن يشغبوا، وأن يشوشوا على النبي، إن وجدوا سبيلا إلى الشغب والتشويش، فإن لم يجدوا سبيلا إلى هذا فى مجلس النبي صلوات الله وسلامه عليه، تصيّدوا الأكاذيب والمفتريات، ثم أذاعوها فى الناس، متخذين من حضورهم مجلس القرآن، دليلا على أنهم يقولون عن علم، ويتحدثون عن وقع! ..
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً» ؟ ..
«حتى» حرف غاية، أن غاية هؤلاء الذين يستمعون هذا الاستماع إلى النبي، وإلى ما يتلو من آيات الله- غايتهم هى أن يقفوا من الذين أوتوا العلم هذا الموقف، الذي يلقونهم فيه هازئين، مشككين فى آيات الله، وفى المعاني الكريمة التي بين يديها..
فلولا حضورهم مجلس النبي والاستماع إلى ما يتلو من آيات الله، لما كان لهم سبيل إلى أن يقفوا هذا الموقف من المؤمنين، الذين حضروا معهم هذا(13/334)
المجلس- فحضورهم مجلس النبي له غاية ينتهى إليها، وتلك الغاية هى الخروج من عند النبي، وموقفهم المؤمنين قائلين لهم: «ماذا قالَ آنِفاً؟» ..
وواضح أن هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» - واضح أن هؤلاء من المشركين المنافقين الذين جاءوا إلى النبي يستمعون إلى ما يقول، وهم على شركهم، وإن أعلنوا إسلامهم، ودخلوا فى المسلمين..
ولذين أوتوا العلم فى قوله تعالى: «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» هم المسلمون، الذين دخلوا فى الإسلام مؤمنين، وكانوا فى مجلس النبي يستمعون لآيات الله تتلى عليهم.. فهؤلاء المسلمون المؤمنون، هم أهل علم بما استمعوا إليه من آيات الله، وكلماته.. لأنهم استمعوا بآذان مصيغة، وقلوب واعية، وعقول متحررة من التبعية والتقليد الأعمى.. ومن هنا كان لهم هذا العلم الذي حصلوه من آيات الله التي استمعوا إليها.. وفى هذا تعريض بالمنافقين، ووصفهم بالجهل والغباء والبلادة.. وأنهم لو كانوا على حظ من العقل والإدراك، لكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين جلسوا فى مجلسهم، واستمعوا إلى ما استمعوا إليه، ولكن شتان بين أذنين تسمعان.. أذن إنسان، وأذن حيوان!!.
فهؤلاء المنافقون، الذين استمعوا إلى النبىّ، قد فضحوا أنفسهم، وكشفوا عن غبائهم، إذ جاءوا يسألون عن مضمون كلام استمعوا إليه، دون أن يدركوا له معنى، مع أن هذا الكلام قد أفاء على من استمعوا إليه، وأحسنوا الاستماع- قد أفاء عليهم علما، وخلع عليهم خلعة العلماء، فكانوا من الذين أوتوا العلم، يسألهم المشركون المنافقون هذا السؤال النبىّ: «ماذا قالَ آنِفاً» ؟(13/335)
وهو سؤال المستهزئ.. و «آنِفاً» أي من قبل.. فهى كلمة تدل على الزمن الماضي.. منصوبة على الظرفية، كأنهم قالوا: ماذا قال عشية، أو غدوة، أو صباحا، أو مساء..
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» هو الحكم الذي وقع على هؤلاء المنافقين، بعد موقفهم هذا من الاستماع إلى القرآن الكريم، يتلوه الرسول الكريم، ثم سؤالهم عما سمعوا، هذا السؤال المستهزئ المنكر..
فهؤلاء هم الذين طبع الله على قلوبهم، وختم عليها، فلا تقبل خيرا، ولا تأذن بخير يدخل إليها، ومن أجل هذا فقد أخلوا مع أهوائهم، تقودهم إلى حيث مواقع الضلال والهلاك، دون أن تمتد إليهم يد منقذة.. إنهم قطعوا كل سبب يصل بينهم وبين أية وسيلة من وسائل الإنقاذ..
قوله:
«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» .
الذين اهتدوا هم أولئك المؤمنون الذين أوتوا العلم، وهم كل المؤمنين..
إذ لا يكون الإيمان إيمانا إلا عن علم..
والذين اهتدوا إنما اهتدوا لأنهم أوتوا علما، فكان هذا العلم طريقا فسبحا لهم إلى مزيد من العلم، ومزيد من الهدى.. فكلما ازداد الإنسان معرفة بربه ازداد هدى. وازداد تقوى.. «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28: فاطر) ..
وهذا يعنى أمورا:(13/336)
أولا: أن على الإنسان أن يلتمس الهدى ويطلبه من ذات نفسه.. وهو فى هذا إنما يستجيب لفطرته، ولداعى عقله.. فإذا لم يتجه إلى هذا الاتجاه، كان مصادما لفطرته، معطلا لمدركاته.. إنه حينئذ يكون أشبه بالحبّة التي أصابها السوس، أو مسّها العفن والعطن.. إنها تبذر مع غيرها من الحب، وتسقى الماء كما يسقى غيرها، ولكنها تظل جسما ميتا هامدا فى الأرض، يأكله الثرى، على حين يخرج غيرها نباتا، ثم يكون زرعا، مزهرا مثمرا..
إن كل حبة من تلك الحبات التي نبتت وازدهرت وأثمرت، لم تخرج إلى وجه الأرض إلا بما فيها من حياة كامنة، وإلا بمجهود ذاتى، بذلته الحبة حين اختلطت بالماء والتراب، حتى لكأنها الأنثى تضع حملها، فتعانى آلام الطلق، والوضع!.
والذين «اهْتَدَوْا» أي بذلوا جهدا ذاتيا من أنفسهم، للاتجاه نحو النور، والدخول فى دائرته- هؤلاء يزيدهم الله هدى بهذا النور الذي وضعه بين أيديهم، فيرون على ضوء هذا النور أكثر مما رأوا، حيث تهديهم هذه الرؤية إلى نور أعظم، فيسعون إليه، ويدخلون فى دائرته.. وهكذا.. «نُورٌ عَلى نُورٍ.. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» (35: النور) وفى قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - إشارة إلى أن التقوى التي يبلغها المؤمن بإيمانه، هى مطلب أعظم من مطلب العلم، وأنها إنما تنال بعد جهد، ومصابرة.. ولهذا، فإنه إذ يبلغ الإنسان الدرجة التي يدخل بها مدخل المتقين، يحتفى به فى الملأ الأعلى، وتخلع عليه خلعة التقوى من الله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» .. إنها هبة عظيمة من الله، وعطاء كريم، من رب كريم، لعباد كرام على الله، مكرمين فى رحابه..(13/337)
وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» وقوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - ما يشير إلى أن تحصيل العلم ليس غاية فى ذاته، وإنما هو وسيلة إلى تحصيل الهدى، وبالهدى يكون تحصيل الصفات الطيبة، التي تكمّل الإنسان، وتجمّله، وإنه لا أكمل، ولا أجمل من التقوى.. كما يقول سبحانه: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» (26: الأعراف) وقوله سبحانه. «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» (197: البقرة) ..
ومن أجل هذا- والله أعلم- جاء فعل الهدى محمولا على فاعله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» .. على حين جاء إتيان التقوى مسندا إلى الفعّال المريد، الله رب العالمين: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» لأن التقوى مطلب مسير، ومقام كريم، تمتد به يد الرحيم الكريم، إلى من أخذوا بالأسباب إلى التقوى..
قوله تعالى:
«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» .
الاستفهام هنا إنكارى، تقريعى، تهديدى، ينكر على المشركين موقفهم هذا، من الإيمان بالله وبرسول الله، ويقرّعهم على أنهم لم يفتحوا أبصارهم ولا بصائرهم لهذا النور الذي بين أيديهم، ولا إلى هذه المثلاث التي حلّت بالأمم من قبلهم.. ثم يتهددهم بالعذاب الذي يلقاهم يوم القيامة، وقد قرب يومها، وجاءت أشراطها، أي العلامات المنذرة بمقدمها..
فهؤلاء المشركون..ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون- إن انتظر بهم- إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟ ... وإنها لآية لا ريب فيها.. فكيف يكون حالهم إذا جاءتهم، وقدّموا للحساب والجزاء؟ .. هل ينفعهم شىء فى هذا اليوم؟ وهل من سبيل إلى أن يصلحوا ما أفسدوا؟ كلا، فقد انتهى وقت(13/338)
العمل، وجاء وقت الحساب والجزاء.. لقد انتقلوا من دار العمل والابتداء إلى دار الثواب والعقاب.
وقوله تعالى: «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» .. أي فكيف تنقعهم الذكرى، إذا جاءتهم الساعة؟ والذكرى هى العبرة والعظة.. وفى يوم القيامة تكثر العبر والعظات، وتمتلىء القلوب بالندامة والحسرة على ما كان من الإنسان من تفريط فى جنب الله، وتقصير فى رعاية حقه.. فمن لم يكن مؤمنا قتل نفسه حسرة على أنه لم يكن فى المؤمنين، ومن كان مؤمنا ندم على ألا يكون فى المحسنين، ومن كان فى المحسنين، ندم على أنه لم يزدد إحسانا.. ولكن لا شىء ينفع فى هذا اليوم، إلا ما كان من عمل فى الدنيا. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (23- 24: الفجر) .
قوله تعالى:
«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» .
المتقلب: ما يتقلب فيه الإنسان من شئون الحياة، والمراد به الحركة..
والمثوى المأوى، الذي يثوى إليه الإنسان، ويسكن إليه، والمراد به:
السكون.. والآية التفات من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، واستدعاء، واستدناء له من الله، ليتلقّى ما يوصيه به ربه، تاركا هؤلاء المشركين وما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الضلال والشرك، على الإيمان.. فلبموتوا بشركهم، وليلقوا المصير الذي هم أهل له..
أما أنت أيها النبي «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .. فالألوهة مقصورة على الله وحده، لا يشاركه فيها أحد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» .. «وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .(13/339)
والسؤال هنا: ماذا يراد بالعلم المطلوب من النبي أن يعلمه، من أنه لا إله إلا الله؟ وهل كان النبي إلى نزول هذه الآية الكريمة، لا يعرف هذه الحقيقة؟
إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان على التوحيد الخالص لله قبل أن يبعث، فكيف يراد منه أن يعرف هذه الحقيقة بعد أن بعث؟ وهل الخلاف بينه وبين قومه إلا على عبادة الله وحده، دون ما يعبدون من آلهة؟.
فما مفهوم هذا الأمر بالعلم؟
الجواب- والله أعلم- من وجوه:
أولا: أن دعوة النبي من الله سبحانه وتعالى للعلم بأن لا إله إلا الله- هو نداء قرب وأنس للنبى من ربه، يلقى إليه فيه بالوصف الذي ينبغى أن يعلمه من ربه، فيحققه، ويؤكده..
وثانيا: العلم المطلوب من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ليس هو العلم المجرد، وإن كان مستيقنا، وإنما هو العلم الذي يعطى ثمرا حاضرا.. والمراد بدعوة النبي هنا بأن يعلم أن لا إله إلا الله- هو ألا يأسى على هؤلاء المشركين والمنافقين، وألا يحفل بهم وبكثرتهم وقوتهم، فإن الله الذي لا إله إلا هو، معينه، ومؤيده، وناصره على كل عدو له، وللدين الذي جاء به.. إنه سبحانه صاحب الأمر، ومالك الملك..
وثالثا: إذا كان مطلوبا من النبي أن يذكر ربه، وأن يجدد له كل حين بهذا الذكر ولاء لربه، وخضوعا لجلاله وقدرته- إذا كان ذلك مطلوبا من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو الذي تنام عينه ولا ينام قلبه عن ذكر ربه- فإن غير النبي أولى بأن يقيم على نفسه من هذا الأمر حارسا يحرسه من أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، حتى لا يلهو عن ذكر الله، ولا يقطع الصلة بينه وبين ربه، فتمتد غربته عن ربّه ساعات، أو أياما، أو شهورا، أو سنين!!.(13/340)
قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» .. أي اطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، لذنبك، ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وذلك فى حال استحضارك ذكر ربك، والإقرار بتفرده بالألوهة.. فإذا كان ذلك، كان طلب المغفرة لذنبك، ولذنوب المؤمنين، طلبا واقعا موقع القبول، لأنه متوجّه به إلى من يملك الأمر كله..
[النبي.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟] والسؤال هنا: هل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب يطلب لها المغفرة من الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يتفق هذا والعصمة الواجبة للنبى؟
والجواب على هذا- والله أعلم- من وجهين.
فأولا: عصمة النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لا تقطعه بحال أبدا عن البشرية، التي لا تسلم- مهما بلغت من السموّ والكمال- من عوارض الخطأ، والتقصير، وذلك كشاهد على بشريّتها.
وما يقع من الأنبياء والرسل من خطأ وتقصير، هو من الهنات التي تمدّ حسنات إذا صدرت من غيرهم.. ومثل هذه الهنات لا تجور على عصمة النبىّ، فإنه- مع هذه الهنات- لا يزال على قمة الإنسانية فى أكرم صفاتها، وأنبل أخلاقها.. وقد استغفر كثير من الأنبياء من ذنوب سجلها القرآن الكريم عليهم.. كما فى قوله تعالى عن داود عليه السلام: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» (34: ص) .
وكسليمان- عليه السلام- إذ يقول سبحانه: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» (144: الصافات) .. ويونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (144: الصافات) ..(13/341)
وإبراهيم أبو الأنبياء، عليه السلام، يقول عن نفسه: «وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (82: الشعراء) ..
فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أبناء آدم.. وأخطاؤهم هى أخطاء على حدود الكمال المطلق، الذي لا تطوله يد بشر! وثانيا: أن فى دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الاستغفار لذنبه، إشارة إلى أن الإنسان مهما كان أمره من الإيمان والتقوى، لا يبلغ أبدا غاية الكمال المطلق.. فإنه كلما حثّ الخطا إلى هذا الكمال ارتفع صعدا فى منازله، ووجد منازل لا تنتهى.. وذكر الله، واستغفاره، يبعت فى شعور الذاكر المستغفر، أنه بين يدى الله الذي لا إله إلا هو، وأنه فى حضرة من يعلم السرّ وأخفى، فتأخذه لذلك خشية ورهبة من كل زلة زلها، أو هفوة وقعت منه.. فلا يجد غير الله ملجأ يلجأ إليه، ليغفر له ما كان منه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» . (135: آل عمران) .
فإذا كان النبي مطالبا بأن يستغفر لذنبه، فكيف حالنا نحن؟ وكيف بما نحمل من أوزار لا تستقلّ بحملها الجبال؟ ثم كيف بأولئك الذين يحسبون- إن صدقا وإن خداعا- أنهم على هدى، وتقوى من الله.. كيف بهم يخلون أنفسهم من التكاليف الشرعية، بدعوى يدّعونها لأنفسهم، أو يدّعيها لهم غيرهم- بأنهم من الواصلين.. أي الذين وصلوا إلى غاية الكمال، وتحرروا من القيود والحدود، وفنوا فى المطلق؟ إن من يفنى فى المطلق لا يكون إنسانا، ولا ينبغى أن يسكن إلى الناس، وأن يسكن إليه الناس..!
وقوله تعالى: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» معطوف على قوله تعالى «لِذَنْبِكَ» أي استغفر لذنبك، ولذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأعيد حرف الجر «اللام»(13/342)
للإشارة إلى أن ذنب النبي غير ذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأن ذنب النبي هو- فى باب الفضل والإحسان- عدم تحرّى الأخذ بما هو أفضل وأحسن.
وفى اختلاف النظم القرآنى بين قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وبين قوله تعالى فى شأن المؤمنين والمؤمنات: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» من غير أن يضيف إلى المؤمنين والمؤمنات ذنوبا- فى هذا الاختلاف أكثر من إشارة:
فأولا: فى قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى أن ما كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذنب، هو معلوم له.. ذلك أن ما يعدّ من الذنب فى مقامه- صلوات الله وسلامه عليه- يشعر به النبي صلّى الله عليه وسلّم بمجرد وقوعه، لأنه شىء مظلم يدخل على هذا الوجود المشرق بنور الحق..
إنه سرعان ما يجد النبي فى نفسه نخسة لهذا الذنب، وسرعان ما يتجه إلى الله سبحانه، طالبا التوبة والمغفرة.. فإذا غفل النبي، عن ذنب وقع منه نبهه الله سبحانه وتعالى إلى ذنبه، وكشف له عنه، فى صورة عالية من الأدب الربانىّ..
ومن هذا عتابه سبحانه وتعالى لنبيه، فيما كان منه حين أعرض عن ابن أم مكنوم، الذي جاء يسأله عن شىء من أمر دينه، على حين كان النبي مشغولا بالحديث إلى جماعة من أشراف قريش، جاءوا يحاجّونه ويجادلونه.. فقال تعالى:
«عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» (1- 3: عبس) .
ومن هذا أيضا عتابه سبحانه للنبى، وقد أذن لبعض المنافقين الذين جاءوا يستأذنونه فى التخلف عن الجهاد.. فقال سبحانه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟» (43: التوبة) .
هذا هو مما يرى فى حق النبي ذنبا..
فقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى ذنب معلوم للنبى، قد علمه بمراجعة نفسه أو بإعلام الله إياه.. وهذا يعنى أن ذنب النبي شىء قليل،(13/343)
لا يمكن أن تجتمع منه ذنوب.. فهو ذنب قليل، كمّا وكيفا..
وثانيا: فى وقوع فعل الاستغفار على الذنب، فى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» ، إشارة أخرى، إلى أن هذا الذنب لم يدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه شىء منه، بل ظلت ذاتية النبي فى صفائها ونقائها، وظل هذا الذنب كائنا يحوم بأجنحته حول حمى النبوة، دون أن يقدر على اختراق هذا الحمى..
ففى إفراد الذنب، وعزله عن ذنوب المؤمنين- تكريم للنبى، وإعلاء لقدره، وتنويه بمقامه عند ربه، وأنه شىء، وهذا الذنب شىء آخر.. إن هذا الذنب هو الذي يحتاج إلى معالجة، أما النبي الكريم فهو على الصحة والسلامة.
وثالثا: فى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» هو مقابل لذنبك..
فالنبى إذ يستغفر لهذا الذنب الذي كان منه، عليه كذلك أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين هم غرس يده.
وإن عمل النبىّ- أيّا كان هذا العمل- هو عمل مبرور.. وإن ما يعمله النبىّ ويحسب عليه من قبيل الذنب.. وعمل مبرور كذلك، وإن لم يستوف غاية البرّ.. شأن عمل النبي هنا، فى هذا شأن المؤمن أو المؤمنة، يتلبسان بالذنوب، ويختلطان بالآثام.. ثم هما- مع ذلك- أقرب إلى الله، وأدنى إلى رحمته ممن لا يؤمنون بالله، ولو لم يواقعوا إثما، أو يفعلوا منكرا..
فكما أن الإيمان يحمى المؤمن من غائلة المعاصي، التي تقع منه، وذلك بأن يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويستغفر لذنوبه فيغفر الله له.. على حين أن غير المؤمن لا يقبل منه عمل أبدا- كذلك النبوّة تحمى النبىّ من أن يعلق به ذنب، أو تتحكك بحماه معصية.. إن ذنبه طاهر أشبه بطهر المؤمن أو المؤمنة. -(13/344)
وكما يرى النبىّ المؤمنين أو المؤمنات فى حاجة إلى تطهير مما علق بهم من خطايا وآثام، كذلك يرى بعض أعماله التي تعدّ عليه ذنبا- فى حاجة إلى تعديل وتقويم وإن كان وجهها قائما على قبلة الحقّ، آخذا سمت العدل والإحسان..
ورابعا: استغفار النبىّ لذنبه.. استغفار لذات محدّدة معروفة، هى هذا الذنب، «اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. أما استغفاره- صلوات الله وسلامه عليه- للمؤمنين والمؤمنات، فهو استغفار لتلك الذوات.. ذوات المؤمنين والمؤمنات.. وما تلبس بها من ذنوب، وهذا يعنى:
أولا: أن النبىّ إذ يستغفر لذنبه، إنما يستغفر لذنب غفره له الله سبحانه وتعالى، من قبل أن يقع منه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (2: الفتح) وقوله سبحانه: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (2- 3 الانشراح) .. فالاستغفار هنا استغفار حمد وشكر، كما يشير إلى ذلك النبىّ الكريم، وقد سئل، كيف يجهد نفسه فى قيام الليل حتى تورمت قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه:
«افلا أكون عبدا شكورا» .
ثانيا: أن استغفاره صلى الله عليه وسلم.. وللمؤمنين المؤمنات.. ذواتا وذنوبا، هو بركة، ورحمة، تتنزل عليهم، فتشيع فى قلوبهم السكينة، وتجلى عن أبصارهم غواشى الجهل والضلال.. فيثوب العاصي، ويهتدى الضال، ويزداد الذين اهتدوا هدى..
فاستغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، إنما هو دعاء لهم بالخير والهدى واستدناء لهم من رضا الله وتوفيقه.. وبهذا يكون للمؤمنين والمؤمنات، من(13/345)
هذا الاستغفار، داع خفىّ يدعوهم إلى الله سبحانه، وينهج بهم مناهج الخير والهدى.. لا أنّ هذا الاستغفار من النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، يغفر لهم ذنوبهم، ويمحو عنهم سيئاتهم، فإن غفران الذنوب ومحوها إنما يكون بعمل ذاتىّ من الإنسان نفسه بأن يتوب إلى الله ويستغفر لذنبه، كما يقول سبحانه:
«وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» (25: الشورى) .
وكما يقول جل شأنه: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
(110: النساء) أو بأن يعمل المرء عملا صالحا، فيكون ذلك العمل الصالح طهرة من العمل السيء، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود) أو أن يكون ذلك بفضل من الله ونعمة.
وهذا الذي ذهبنا إليه من أن استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، لا يكفر عنهم ذنوبهم، وإنما يمدّهم بأمداد الهدى والاستقامة- هذا الذي ذهبنا إليه، هو ما يتفق وروح الشريعة الإسلامية، التي تحترم الإنسان، وتعلى ذاته، وتجعل إليه وجوده كله، من غير قوامة عليه من أحد.. فهو بهذا الوضع إنسان يحمل المسئولية كاملة، ماله، وما عليه..
ولو كان استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات مكفّرا عنهم سيئاتهم غافرا لذنوبهم وآثامهم.. لكان من هذا داعية إلى المؤمنين والمؤمنات إلى إخلاء أنفسهم من المسئولية، ولما كان للإساءة حساب عندهم، إذ كان هناك من يستغفر لهم، ويحمل عنهم ذنوبهم! ومن جهة أخرى، فإنه لو كان معنى استغفار النبي للمؤمنين والمؤمنات، هو طلب المغفرة لذنوبهم، لكان ذلك أمرا مقضيّا للنبى عند ربّه، ولغفر الله سبحانه وتعالى ذنوب المؤمنين والمؤمنات جميعا، لانه دعاء من النبىّ، وكل دعاء من النبىّ إلى ربّه، هو دعاء مستجاب، لا يتخلف أبدا.. وقد رأيت ما يقضى إليه غفران ذنوب كل مؤمن ومؤمنة، من غير عمل منهم.(13/346)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» (103: التوبة) ..
ففى هذه الآية الكريمة، ترى المؤمنين فى مقام الإحسان، وهم يؤدون زكاة أموالهم إلى النبي، فيقبلها النبي منهم، فيكون لهم من هذه الزكاة طهرة لأنفسهم، وزكاة لأموالهم: «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» .. فإن زكاتهم تلك التي أخذها النبي منهم، يردّها عليهم طهرا لأنفسهم، ونماء لأموالهم..
فهذا إحسان إليهم، فى مقابل إحسان منهم و: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟» (60: الرحمن) ..
ثم بعد مقابلة هذا الإحسان بإحسان، دعا الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم إلى أن يضيف إلى هذا الإحسان إحسانا، فضلا وكرما من الله سبحانه، وذلك بأن يصلى النبي على هؤلاء المتصدقين: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» فهذه الصلاة، من النبي على المتصدقين، هى سكن لهم، واطمئنان لقلوبهم، وزاد من الإيمان يثبت أقدامهم على الخير، ويفتح أبصارهم إلى مواقع الإحسان.. أما غفران ذنوبهم- كلها أو بعضها- فهو موكول إلى الله، وبما يقدمون لله سبحانه وتعالى من طاعات وقربات..
«وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ»
الآيات: (20- 30) [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 30]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)(13/347)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» .
هذه لفتة من القرآن الكريم إلى مواقع المسلمين، ونظرة ينظر بها إلى مجتمعهم الذي أصبح يضم كثيرا من الجماعات.
لقد كان القرآن الكريم منذ يوم نزل على النبي، وهو فى مواجهة دائمة(13/348)
للمشركين، يدعوهم إليه، ويقيم لهم معالم الطريق إلى الله، ويفنّد أباطيلهم، ويفضح سفههم..
وقد قطعت الرسالة الإسلامية إلى يوم نزول هذه السورة- سورة محمد- (وهى مدنية) - شوطا بعيدا على الطريق إلى غايتها، ودخل كثير من الناس فى دين الله، فكان من تدبير الحكيم العليم أن يلفت المسلمين إلى أنفسهم، وإلى أن يكتشفوا مواقع القوة والضعف منهم.. فهم ليسوا على حال واحدة من السلامة والعافية فى دينهم، وإن من الخير لهم- وهم على الطريق- أن ينظروا إلى أنفسهم، وألا يشغلهم النظر الدائم إلى عدوهم، عن النظر إلى أنفسهم، فإنه من الغبن والظلم معا، أن يرعى الإنسان غيره ويهمل نفسه، ففى ذلك تضييع للراعى ولمن يرعاه جميعا..
وقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» - إشارة إلى تطلع أنظار المؤمنين، إلى آيات الله، وتعلق قلوبهم بما ينزل من وحي السماء..
فهم على شوق دائم بهذا النور الذي ينزل من السماء، فإذا أمسك الوحى عنهم قليلا، هفت قلوبهم إليه، وشاقهم الحنين له، وباتوا يتمنون على الله أن ينزّل عليهم سورة! «لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» !! فلولا هنا استفهام يراد به الرجاء والتمني..
هذا هو موقف المؤمنين من آيات الله.. يرصدون منازلها، ويشدّون قلوبهم وعقولهم إلى مطالعها، وينتظرون فى لهف وشوق هطول غيوثها..
أما من فى قلوبهم مرض من المؤمنين- فإن لهم مع آيات الله موقفا غير هذا الموقف، وشأنا غير هذا الشأن..
وقوله تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» .(13/349)
إن مقام القول سهل ميسور، ومجال الكلام واسع فسيح.. وإن وضع القول على محكّ العمل، هو الذي يكشف عن معدنه، وما فيه من صدق أو كذب، وحق أو باطل، وصحيح أو زلف.
فهذه السورة التي كان يتمناها المؤمنون، قد نزلت إليهم، وهى سورة محكمة، أي محددة المعنى، محكمة المفهوم، لا مجال فيها لتأويل، أو تخريج..
إنها على مفهوم واحد لا اختلاف فيه.. ولكن هذه السورة المحكمة تحمل إلى المسلمين ابتلاء واختبارا.. إنها تدعوهم إلى الجهاد فى سبيل الله، وإلى القتال والقتل فى سبيل الله..
وهنا تختلف بالمؤمنين مواقفهم من هذه السورة المحكمة، التي تحمل دعوة إلى الجهاد فى سبيل الله..
فأما المؤمنون الصادقون، الذين أخلصوا دينهم لله، فهم يستبشرون بما تلقوا من آيات الله، إذ يتلقون الأمر الصادر إليهم منها بالرضا والقبول..
وأما الذين فى قلوبهم مرض، فيأحذهم لهذا الأمر همّ ثقيل، إنهم يتمثلون فى تلك الحالة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو على رأس المؤمنين، يقودهم إلى الجهاد فى سبيل الله، فيتمثل لهم أنهم فى هذا الجيش الذاهب إلى ميدان القتال، وتتمثل لهم مصارعهم هناك، فيغشاهم لذلك ما يغشى الميت ساعة احتضاره..
إن آيات التي الله تنزل من السماء ليست أناشيد تردد، ولا مزامير ترتّل، ولكنها رسول هداية، ودليل خير، وقائد يقود إلى العمل فى مواقع الحق والخير، وداع يدعو إلى البدل، والتضحية والفداء..
وفى الآية الكريمة، إشارة كاشفة إلى أول عرض من أعراض النفاق، وأول سحابة تطلع فى سماء المؤمن من سحبه.(13/350)
فقد يكون المؤمن على درجة من الإيمان.. فهو يؤمن بالله، وبكتاب الله وبرسول الله، وباليوم الآخر.. ولكن فى مجال الامتحان، تضمر هذه المعاني فى نفسه، وتخفّ موازينها فى كيانه.. وهذا من شأنه- إن تمكن فى قلب المؤمن- أن يذهب بإيمانه كلّه.. إن الإيمان ولاء مطلق.. فى السّرّاء والضرّاء، فى الرخاء والشدة.. أما الإيمان فى حال الميسرة والرخاء، والجزع والتشكك، أو التردد فى، حال الشدة والبلاء- فذلك هو الطريق إلى النفاق والكفر.
وهذا أول مرض تكشف عنه الآية الكريمة فى نظرتها الأولى إلى الجماعة الإسلامية.. إنها أرت المسلمين بعضا من أنفسهم، وإن بهم خللا ينبغى أن يعالجوه فيما بينهم، وأن يتلافوه قبل أن يستفحل ويعظم، وتتولد منه مواليد كثيرة من المنافقين، الذين يكونون حربا خفية على المسلمين.
وقوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» - هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين عرفوا أن فى قلوبهم مرضا، وذلك لما وجدوا فى أنفسهم من ضيق وهمّ، حين استمعوا إلى آيات الله التي تنزلت على النبي، داعية إلى القتال- هو دعوة من الله سبحانه إلى هؤلاء المؤمنين، أن يغيروا ما بأنفسهم، وأن يصححوا إيمانهم بالله، وأن يكونوا على ولاء مطلق لله، فيسمعوا، ويطيعوا، على المكره والمنشط.. فذلك هو الذي يمسك عليهم إيمانهم بالله، وفى هذا سلامة لهم، وصلاح لأمرهم فى الدنيا والآخرة جميعا..
هذا، وقد جاءت الجملة الخبرية: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» - جاءت وأحد جزميها (المبتدأ) فى آية والجزء الآخر (الخبر) فى آية أخرى.
فما سرّ هذا؟ أو ما بعض سره؟
يقول المفسرون، وعلماء البيان: إن ذلك لمراعاة الفاصلة القرآنية..(13/351)
فقوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» هو فاصلة الآية، لتتسق مع فواصل الآيات فى هذه السورة، وهى تعتمد على اللام، والهاء، الميم: «لَهُمْ» أو الهاء والميم:
«هم» أو الميم الساكنة وحدها.. مثل «أَعْمالَهُمْ» .. «بالَهُمْ» .. «أَمْثالَهُمْ» ... ومثل: «تَقْواهُمْ» .. «ذِكْراهُمْ» ومثل «مَثْواكُمْ» ...
وهذا قول لا يستقيم مع إعجاز القرآن، ومع أوضح وجه من وجوه إعجازه، وهو النظم..
فهذا النظم، لكى يكون معجزا، ينبغى أن يعلو على حكم الضرورات، التي تتحكم فى أعمال البشر..
والقول بأن الوقوف بالآية عند قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» كان لرعاية الفاصلة- هو قول بإخضاع القرآن لحكم الضرورة، وعجزه عن أن يخرج من قيدها..
إنه لا بد أن يكون لهذا سر، بل وأسرار، ليس منها هذا الذي يقال، عن الفاصلة ورعايتها..
فما السر؟ وما بعض السر؟
نقول- والله أعلم-: إن هذا الفصل بين المبتدأ والخبر، مقصور قصدا من القرآن الكريم، وأنه بغير هذا الفصل لا يتحقق المعنى كاملا كما قصد إليه القرآن..
فالله سبحانه وتعالى، يلفت المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض، إلى هذا المرض الذي اندس فى قلوبهم، ولا يكادون يعرفون أنهم مصابون به..
ولكن بعد أن نزلت السورة المحكمة التي تحمل أمرا محكما بالقتال- عرف الذين فى قلوبهم مرض، أن فى قلوبهم مرضا، لما عراهم من تلك الأوصاف التي(13/352)
وصفت بها الآية، من كان فى قلوبهم مرض.. «رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» ..
وفى قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» دعوة إلى هؤلاء المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض- دعوة لهم إلى ما هو أولى وأوفق بهم أن يفعلوه فى هذا الموقف.. فإن كلمة «فَأَوْلى لَهُمْ» ، تعنى أن هناك انحرافا لا يصحّ للإنسان أن يظل فيه، وأن هناك ما هو أولى به، وأحق من هذا الموقف..
وهذا يعنى:
أولا: أنهم على غير الطريق السوىّ، الذي ينبغى أن يكون عليه المؤمن..
وأنه من الخير لهم أن يعيّروا من وضعهم هذا الذي هم فيه..
وثانيا: أنهم- وهم مؤمنون- مطلوب منهم أن يكشفوا عن الآفات التي تعرض لهم، وتحاول أن تفسد عليهم إيمانهم، لأنهم أولى الناس وأجدرهم بأن يكونوا على الصحة والسلامة.. إنهم مؤمنون بالله، وإن المؤمن ليبلغ به إيمانه أقصى درجات الكمال البشرىّ، إذا هو كان على نية مخلصة، صادقة، وعلى وعى وإدراك للحقائق الدينية التي آمن بها..
وهنا سؤال:
أين خبر المبتدأ: «فأولى لهم» ؟
هذا ما أراد النظم القرآنى أن يكون مثار بحث وتفكير.. حتى إذا أخذ العقل طريقه للبحث عن هذا الخبر، ثم اهتدى إليه، أو هدى إليه- كان له فى النفس موقعه الذي يحقق له وجودا ذاتيا متمكنا، فى إدراك الإنسان وشعوره..
ومرة أخرى.. أين خبر المبتدأ؟(13/353)
إن كلمة «فَأَوْلى لَهُمْ» تشير إلى أن المخاطبين بهذا فى وضع غير صحيح مع إيمانهم..
وأنه من الأولى لهم أن يتحولوا عما هم عليه، وأن يتبدّلوا بحالهم حالا أحسن، وأجمل..
فما هى تلك الحال؟
قد تكون التوبة إلى الله، والاستغفار لما كان منهم من استقبال سيى لآيات الله المحكمات..
وقد تكون بالعمل الفورىّ، بطلب الجهاد فى سبيل الله، والغزو فى أي وجه يوجههم إليه الرسول..
وقد تكون، وتكون.. مما يراه المؤمن مصححا لإيمانه، بعد أن كشفت الآية عن ضعف هذا الإيمان.. وذلك على نحو ما فى قوله: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» (34، 35: القيامة) .
حيث جاء المبتدأ ولا خبر له! فهذه الحال التي يرى المؤمن التحول إليها ليصحح إيمانه- هذه الحال هى خبر المبتدأ.. أي فأولى لهم أن يرجعوا إلى الله، أو فأولى لهم أن يتلقّوا آيات الله سبحانه بالحفاوة والتكريم والولاء..
أما قوله تعالى: «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» .. فهو الدواء الذي تقدّمه السماء لأولئك المؤمنين، الذين يريدون أن يصححوا إيمانهم.. وهو خبر المبتدأ، الذي طلع من أفق جديد، فى سماء آية جديدة.. فإذا التقى به المؤمن بعد هذا ترك جميع الخواطر التي طرفته، وجاء إلى هذا الدواء السماوي الذي حملته(13/354)
الآية الكريمة، ليكون الخبر الذي طال البحث عنه..
إن الخبر الصحيح للمبتدأ هو: «طاعة وقول معروف» .. وهو الذي يجمع فى كيانه كل ما وقع فى خاطر الإنسان، وهو يبحث عن الطريق التي يقيم عليها إيمانه، ويسلك به المسلك الذي هو الذي هو أولى بالمؤمن..!
فالطاعة المطلقة، والولاء الخالص، والتسليم الكامل، هى الإيمان فى صميمه.. وإنه لا إيمان فى شىء، أو بشىء، إلا إذا سكن هذا الشيء فى ضمير الإنسان واستقر فى وجدانه، وخالط مشاعره، وملأ عليه وجوده.. ومن هنا يكون الولاء والتسليم، والطاعة..
ومن هنا أيضا، كان من أول مبادئ الإسلام التي قامت عليها دعوته، هو أنه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. إذ لا يتفق الولاء والتسليم والطاعة مع الإكراه..
ونودّ أن تنظر بنفسك فى وجه الآية الكريمة على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه..
فلعلك ترى هذا الذي رأيناه، أو يفتح الله سبحانه وتعالى لك أبوابا من المعرفة تطّلع منها على ما لا حصر له من الأسرار..
«فَأَوْلى لَهُمْ.. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» .
إننا نرى- والله أعلم- أن الوقوف على فاصلة الآية، هو وقوف محمود، إن لم يكن لازما!!. فهات رأيك، أو خذ بما رأينا! قوله تعالى:
«فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» ..
هو تعقيب شارح لقوله تعالى: «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» ..(13/355)
أي أن الأولى بالمؤمنين، هو الطاعة المطلقة، لما تدعو إليه آيات الله، وهو القول المعروف، أي الحسن الذي يلقى المؤمنون به ما يتنزل عليه من تلك الآيات- فهذا عمل باللسان.. يكشف به ليؤمن عن ظاهره.. فإذا جاء وقت الابتلاء والاختبار، استكمل المؤمن إيمانه، بأن يجعل هذا الكلام الذي نطق به اللسان، وكشف به عن ظاهر حسن له- أن يجعل هذا الكلام عملا واقعا، وأن يصدّق فعله قوله.. فإن قولا لا يصدّقه الفعل، هو باب من أبواب النفاق..
فقوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» أي إذا جاء وقت الابتلاء، وهو الجهاد، الذي أمر الله به المؤمنين، أصبح هذا الأمر عزيمة لا يجوز للمؤمن أن يترخّص فيها، أو ينكل عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» أي فإذا جاء أوان الجهاد نكشفت على محكّه حقيقة الإيمان، وظهر الصادقون والكاذبون، فلو أن هؤلاء المؤمنين صدقوا الله فيما أعطوا من إقرار بالإيمان به، وجاهدوا فى سبيله- لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم..
فالفاء فى قوله تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ» هى للتفريع، والتعقيب على كلام محذوف، هو جواب «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» -، أي فإذا عزم الأمر انكشفت أحوال المؤمنين وأقوالهم، وظهر الصادق والكاذب..
فلو صدق هؤلاء المتخلّفون، أو الذين تحدّثهم أنفسهم بالتخلف- لو صدقوا الله وجاهدوا، لكان خيرا لهم..
ويلاحظ فى نظم الآية الكريمة، أنها لم تأخذ الخط الطبيعي الذي تقوم عليه العلاقات بين الكلمات، والترابط بين أجزاء العبارات والجمل.. كما(13/356)
رأينا ذلك فى الفصل بين المبتدأ والخبر فى قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» وكما رأيناه فى هذا التدافع بين أداتي الشرط:
إذا، ولو..
وقد كشفنا عن بعض السر فى هذا، وما يحمل هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة من معان لا يمكن أن يستقلّ بها نظم آخر، على أي وجه كان من وجوه النظم، غير هذا النظم القرآنى..
ولكن الذي نريد أن نشير إليه بتلك الملاحظة، هو أن هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة- بصرف النظر عن المعاني التي يحملها فى فى كيانه- هذا النظم يمثل فى صورته اللفظية، من تقطّع، وتوقّف، وتدافع، ما تكون عليه أحوال المؤمنين الذين لم يدخل الإيمان فى قلوبهم دخولا متمكمنا- من اضطراب، وخلخلة، وتردد، وتدافع بين مختلف العواطف، حين يدعى هؤلاء المؤمنون إلى الجهاد، وقد عزم الأمر، وجدّ الجد! فجاء النظم على صورة هذه المشاعر، يفرقها، ويجمعها، كما تتفرق وتجمع فى هذا المقام! ..
فسبحان من هذا كلامه.. سبحانه.. عدد كلماته.
قوله تعالى:
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ..
هو بيان للحال التي سينتهى إليها أمر هؤلاء المؤمنين، الذين فى قلوبهم مرض، وهو أنهم إذا لم يستجيبوا لدعوة الله سبحانه وتعالى لهم، ولم يسمعوا ويطيعوا، ويجاهدوا فى سبيل الله- فإن هذا سينتهى بهم إلى أخذ طريق(13/357)
غير طريق المؤمنين، ثم يمضى بهم هذا الطريق رويدا رويدا إلى الخروج عن الإيمان، إلى ما كانوا عليه من كفر..
وفى إسناد فعل الرجاء «عسى» إلى هذه الجماعة من المؤمنين، إشارة إلى هذا الأمر الذي وقع عليه الرجاء، وهو الإفساد، وتقطيع الأرحام- وأنهم إنما يرجونه هم لأنفسهم، بتولّيهم، وإعراضهم عن الله.. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وخان إنسانيته، حتى لقد أصبح ما يتمناه لنفسه، ويرجوه لها، هو هذا الشر الصّراح: الإفساد فى الأرض، وتقطيع الأرحام!.
وماذا يكون من شأن من لا يؤمن بالله، ولا يرجو لله وقارا؟ .. أتراه يرى لإنسان حرمة، أو يؤدى لذى رحم حقّا؟ إنه إنسان ضال، سفيه الرأى، غليظ القلب، متلبد الإحساس.. فهل يكون منه غير الإفساد، فى الأرض، وقطع كل سبب طيب يصل بينه وبين الناس، من قريب، أو بعيد..
واختصاص ذوى الأرحام بالذكر هنا- هو إشارة إلى أن هذا الذي تولّى وأعرض عن الإيمان بالله، لا يرجى منه خير لإنسان، ولو كان فيه خير يرجى، لكان ذلك فى أهله، ولما قطع صلة الرحم بينه وبينهم..
والمراد بالتولّى هنا- والله أعلم- هو الإعراض عن الاستجابة لدعوة الله والرسول إلى الجهاد..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» ..
هو حكم صادر على هؤلاء الذين دعوا إلى الايمان- قولا وعملا-(13/358)
فأعرضوا، وتولّوا.. ثم مضوا على غير طريق الإيمان، فإذا هم فى الكافرين..
فهؤلاء قد لعنهم الله، فأصابهم بالصمم والعمى، فلم يسمعوا كلمة خير، ولم يروا طريق هدى..
وانظر:
لقد كان هؤلاء المؤمنون فى موقف خطاب من ربّ العزة جلّ وعلا فى قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» - كانوا هنا فى موقف الخطاب، لأنهم كانوا فى جماعة المؤمنين، وكانت الدعوة إليهم ليصححوا إيمانهم، وليأخذوا السبيل التي يأخذها المؤمنون الصادقون..
أمّا هنا، فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» فإنهم الآن بعد حكم صدر عليهم- وهو أنهم يولّون وجوههم إلى طريق آخر غير طريق الإسلام- فقذف بهم بعيدا عن هذا الموطن الكريم الذي كانوا فيه بين المؤمنين، ثم أتبعوا بهذا الحكم الذي يأخذ طريقه معهم إلى حيث انتهى بهم المطاف: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» ..
قوله تعالى:
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» .
هو سؤال يتردد فى صدور من ينظرون إلى هؤلاء الذين كانوا على طريق الإيمان، ثم لم يلبثوا أن انحرفوا عنه، وضلوا سواء السبيل.. ثم ألقى بهم بعيدا عن دائرة المؤمنين..
فكل من كان بمشهد منهم من المؤمنين، يسأل هذا السؤال: ما بال هؤلاء الأشقياء، قد ألقوا بأنفسهم فى مواقع الهلاك، وقد كانت آيات الله بين أيديهم؟ أمع آيات الله يكون عمى وضلال؟ وكيف وهى صبح مشرق، ونور مبين؟ ..(13/359)
أمران لا ثالث لهما، هما العلة التي جاء منها هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء المناكيد.. إما لأنهم لم يتدبروا القرآن، ولم يحسنوا الإصغاء إليه، والاتصال به، والأخذ عنه.. وإما لأنهم تدبروا وأصغوا، وحاولوا أن يتصلوا بالقرآن، ولكن كانت قلوبهم مغلقة، ومختوما عليها، فلا ينفذ إليها شعاع من هدى أبدا..
وسواء أكان هذا أو ذاك، فإن الداء منهم، وفيهم.. وليس من آيات الله، ولا فى آيات الله.. فما فى آيات الله هدى، وحق ونور..
وهذا مثل قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» (68: المؤمنون) ..
ولا يصحّ أن يكون الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» للتحضيض، يمعنى هلّا، لأن التحضيض إنما يكون لمن يرجى منه إتيان ما يحضّ عليه، وهؤلاء قد سبق الحكم عليهم بأن الله قد لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.. فكيف يدعون بعد هذا إلى تدبر القرآن؟
وفى قوله تعالى: «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» - جاء النظم على خلاف الظاهر، وهو أن يجىء هكذا مثلا: أم على قلوبهم أقفال.. وبذلك يتحقق إضافة هذه القلوب إلى أهلها، ونسبتها إلى أصحابها، هؤلاء الذين لم يتدبروا القرآن.. فما سرّ هذا النظم القرآنى؟
نقول- والله أعلم-: إن من بعض أسرار هذا النظم:
أولا: فصل هذه القلوب عن أصحابها، وذلك يحقق للقلوب وجودا ذاتيا مستقبلا، فتقوم مقام أصحابها، وهذا يعنى أن القلب هو الإنسان مختصرا، وأنه السلطان القائم على كيان الإنسان، فإذا أفسد القلب فسد الإنسان،(13/360)
وإذا صلح القلب، صلح الإنسان.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم- صلوات الله وسلامه عليه، فى قوله: «ألا وإن فى الجسد مضغة وإذا صالحات صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» وثانيا: تنكير هذه القلوب، وفى هذا التنكير، إشارة إلى أنها قلوب فاسدة، لا يقام لها وزن بين القلوب السليمة، فهى- والحال كذلك- قلوب- مجرد قلوب- فى صورتها اللحمية، أما فى حقيقتها، فهى هواء، وهباء! وثالثا: فى إضافة الأقفال إلى القلوب «أَقْفالُها» - إشارة أخرى إلى أن لهذه القلوب أقفالا خاصة بها، مقدرة بقدرها.. فلكل قلب قفله الذي يلائمه..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ» سوّل لهم: أي زين لهم الضلال، وأصله من السّؤل، وهو ما يسأل الإنسان غيره لتحقيقه، «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» .. وسوّل لهم الشيطان: أجاب سؤلهم بالخداع والتضليل.. وأملى لهم: أي مدّلهم فى حبال الأمل والرجاء فيما يمنّيهم به..
والآية ترجم أولئك الذين كانوا قد دخلوا فى الإيمان، ثم لم يحتملوا تبعاته، فعادوا إلى الكفر. ترجمهم الآية بهذه الرجوم والصواعق، التي تصبّ عليهم لعنة الله، وتجمع بينهم وبين الشيطان على مودة وإخاء!! وفى ارتدادهم على الأدبار إشارة إلى أنهم كانوا على الإسلام، وأنهم إذ يولّون وجوههم إلى المسلمين، يرجعون إلى الوراء شيئا فشيئا، على أدبارهم، على(13/361)
حين أنهم كانوا يواجهون المسلمين.. ثم ما زالوا كذلك حتى بعدت الشّقّة بينهم وبين المسلمين، وانقطعت بينهم الأسباب.. فهم ينظرون إلى المسلمين، ويحسبون أنفسهم عليهم، ولكنهم- فى الوقت نفسه- يأخذون طريقا بعيدا عنهم، يسيرون فيه فى وضع مقلوب- على أعقابهم، فلا يدرون إلى أين تتجه بهم خطواتهم العمياء!! قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» الذين كرهوا ما نزّل الله: هم اليهود، يقول الله سبحانه: «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (105: البقرة) ..
والذين قالوا، هم هؤلاء الذين نحولوا من الإيمان إلى النفاق، مرتدّين على أدبارهم.. والذي قالوه هو قولهم: «سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» .. أي أنه التقى هؤلاء المنافقون مع اليهود لقاء الأولياء، تقدّموا إلى اليهود يعرضون عليهم أن يكونوا من ورائهم فى حربهم مع المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» (11: الحشر) هكذا كان موقف المنافقين من النبي والمسلمين بعد غزوة الخندق (الأحزاب) وكان على رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول، الذي خذّل الناس عن القتال يوم أحد.. فلما أن ردّ الله الأحزاب على أعقابهم خاسرين، التفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اليهود الذين كانوا قد حزبوا الأحزاب على رسول الله، وتحالفوا مع المشركين على أن يكونوا(13/362)
لهم ظهرا إذا التحم القتال. إن اليهود إذا ظلوا فى المدينة على ما هم عليه من كفر وحسد، أفسدوا على المسلمين أمرهم، وأوقعوا الفتنة بينهم إن هم عجزوا عن جلب الفتن إليهم من الخارج.. فكان أن ندب النبي المسلمين إلى حربهم، وألا يلقوا سلاحهم الذي كانوا يواجهون به الأحزاب.. فقال صلى الله عليه وسلم:
«من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا فى بنى قريظة» وهناك حاصرهم النبي والمسلمون، ثم استسلموا لحكم النبي فيهم..
وفى أثناء الحصار الذي ضربه النبي والمسلمون على بنى قريظة، كان كثير من المنافقين يبعث إلى اليهود أن يثبتوا فى حصونهم، وألا يستسلموا، وألّا يخرجوا من ديارهم.. وأن النبي لو أخرجهم لخرج المنافقون معهم، احتجاجا على إخراج اليهود من المدينة، ولن يسمعوا لأحد قولا يفرق به بين اليهود وبينهم، وأن النبي والمسلمين لو قاتلوا اليهود، لكان هؤلاء المنافقون مقاتلين معهم.. وهكذا منّى المشركون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب- منوهم هذه الأمانى الكاذبة، التي فضحها الله سبحانه وفضح أهلها، فقال تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (11- 12: الحشر) قوله تعالى:
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» أي ما أسرّ به المنافقون واليهود، بعضهم إلى بعض، وسيجزيهم عليه جزاء وفاقا..
قوله تعالى:
«فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» .
الفاء هنا للتفريع على كلام سابق مقدّر، وتقديره: لقد كان جزاء هؤلاء(13/363)
المنافقين السوء والخزي فى الدنيا، وأنهم إذا كانوا قد احتملوا السوء والخزي فى حياتهم، فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة، وأخذوهم صفعا على وجوههم، ور كلا على أدبارهم؟ أيحتملون هذا البلاء، الذي يدفع بهم إلى جهنم، ويلقى بهم فى سعيرها؟.
فالاستفهام هنا لتهويل العذاب الأخروىّ الواقع بهؤلاء المنافقين، وأنه عذاب لا يحتمل، وإنه لمن العجب أن يرى هؤلاء المنافقون فى النار، وفيهم أثر للحياة.
وهذا مثل قوله تعالى: «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» .
وقوله تعالى: «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» جملة حالية، من الملائكة، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم.. أي يضرنهم من أمام، إذا أقبلوا، ويضربونهم من خلف، إذا أدبروا..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» .
الإشارة هنا إلى هذا الذي يلقاه المنافقون، من السوء والخزي فى الدنيا، والعذاب والنكال فى الآخرة، وأن ذلك إنما هو بسبب زيغهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم، واتباعهم ما أسخط الله، وأغضبه، وأوجب لعنته، بما أتوا من منكر القول، والعمل.
وقوله تعالى: «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم عملا، حتى ولو كان مما يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين، لأنهم غير مؤمنين بالله، والإيمان بالله شرط أول فى قبول العمل! قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» .(13/364)
أي أوقع فى ظن هؤلاء المنافقين الذين فى قلوبهم مرض، أن الله تعالى سيستر عليهم نفاقهم، ولا يكشف هذا الخبث الذي دسّوه فى قلوبهم، والذي تغلى مراجله فى صدورهم، ضغنا على النبي والمؤمنين، وشنآنا لهم، وكيدا ومكرا بهم؟ - أحسب هؤلاء المنافقون أن يظل نفاقهم مستورا، دون أن يفضحه الله ويفضحهم به على أعين الناس؟ إبهم لواهمون، مخدوعون، بما يصور لهم هذا الوهم..
وقوله تعالى: «أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» - أي لن يبدى هذه الأضغان، ويكشفها، فتظهر لأعين الناس، بعد أن كانت مخبوءة فى الصدور..
قوله تعالى:
«وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» .
هو معطوف على محذوف يقدر جوابا على الاستفهام الواقع فى قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» .. أي أن ذلك ظنّ باطل منهم، وأن الله سبحانه سيخرج أضغانهم، ويفضحهم بها على الملأ، وأنه سبحانه لو شاء أن يسمهم بسمات مادية، بطبعها على وجوههم، فلا يراهم أحد إلا عرف أنهم منافقون- لو شاء الله أن يفعل ذلك بهم لفعله، ولرآهم النبي رأى العين، ولرآهم المسلمون معه.. ولكن الله سبحانه لم نشأ حكمته أن يشاء ذلك، إذ لو أنه حدث لكان فتنة للناس.. وكيف لا يفتن الناس إذا كان ما يسرونه فى أنفسهم، وما يودعونه ضمائرهم، يظهر مجسدا عليهم؟ ثم كيف لا يفتنون إذا فعل أحدهم فعلا قبيحا لم يطلع عليه أحد، ثم إذا هذا الفعل قد لبس صاحبه، وأخذ ينادى فى الناس بهذا المنكر الذي فعله صاحبه؟ كيف يكون حال الناس لو أن هذا كان حادثا فيهم؟ ترى أتحتمل الحياة الإنسانية- فى(13/365)
طبيعتها البشرية- إفرازات العواطف، والنوازع، والمشاعر، واستقبال كل ما هو مختزن فى الضمائر، ومستودع الصدور؟ إنه لو كشف للناس عما طوبت عليه صدورهم، لما جمعتهم جامعة أبدا، ولما التقى أحدهم بالآخر إلا على عداوة، وعدوان.. وفى هذا يقول أبو العتاهية الشاعر:
أحسن الله بنا ... أن الخطايا لا تفوح
أي أنه لو كان للذنوب التي نقترفها آثارا مادية تعلق بصاحبها، وتكشف للناس أمره، لكان ذلك، ابتلاء عظيما.. ولكن الله أحسن إلينا، إذ عافانا من هذا البلاء.
فقوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» - هو خطاب للنبى، وتهديد للمنافقين الذين ظنوا أن الله سبحانه لن يفضح نفاقهم، وينزع عنهم هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، وظهروا به فى سمت المؤمنين.. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج نفاق المنافقين من طوايا أنفسهم، وينسج منه وجوها يلبسها هؤلاء المنافقون بدلا من تلك الوجوه الآدمية التي لهم.. فإذا أطلّ أحد المنافقين بوجهه هذا الذي نسجه له الله سبحانه، من نفاقه- قال الناس جميعا: هذا منافق.. ولكن الله سبحانه لم يفعل هذا بالمنافقين، ليكونوا هكذا، فتنة للناس وتقريرا لهم بأنفسهم..
والسيما: السّمة، والعلامة..
وقوله تعالى: «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» .. هو معطوف على محذوف، تقديره: وإذ لم يشأ الله تعالى أن يريك- أيها النبي- المنافقين لتعرفهم بسيماهم، فإنه مطلوب منك أيها النبي أن تتعرف إلى المنافقين بنظرك الشخصي، وإنك(13/366)
لتتعرف عليهم، من حديثهم، وما يجرى على ألسنتهم من زور وبهتان.. فإن كلمة الزور تخرج باهتة، عليها مسحة من الخزي والتخاذل..
فوقوع الفعل «تعرف» جوابا لقسم، الأمر الذي أوجب توكيده- إشارة إلى أن هذا الفعل واقع لا محالة، وخاصة إذا كان القسم الواقع عليه، من الله سبحانه.. ولهذا فإن هذه الجملة جملة خبرية، تحدّث عن أمر سيقع مستقبلا على سبيل القطع والتوكيد.. فهذا وعد موثق مؤكد من الله تعالى للنبى الكريم، بأنه سيعرف المنافقين من لحن القول.. والتوثيق والتوكيد لهذا الخبر، لا لإزالة شك من النبي فى تحقيق ما يخبر به من ربه، فإن الرسول الكريم على ثقة وإيمان مطقين بالله، وبقدرة الله.. ولكن توكيد هذا الخبر وتوثيقه، يحمل أكثر من دلالة:
فأولا: إلفات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلفاتا قويا إلى المنافقين.
ومراقبتهم مراقبة دائمة، وخاصة فيما يجرى على ألسنتهم من كلام..
وثانيا: أنه إذا اشتبه على النبي أمر فى أحد مرضى القلوب من المسلمين، فلا يدعه معلقا فى حبال هذه الشبهة، بل ينبغى، أن يكشف عنه كشفا دقيقا، بهذا المشير الذي يعرف به أهل النفاق، مما يجرى على ألسنتهم من مقولات..
فإذا كشف هذا الاختبار عن هذا الإنسان أنه منافق، فهو من المنافقين، وإلا كان من المؤمنين، فإنه إذا برىء المؤمن من النفاق فقد سلم له دينه، على أي حال كان عليه..
ولحن القول، هو ما يندسّ فى الكلام من معان خفية، ذات دلالات وإشارات، يعرفها المنافقون فيما بينهم، ويتعاملون بها، وسمى هذا الضرب من الكلام لحنا، لأنه يخرج فى صورة خادعة من النظم، تتماوج فيها المعاني، وتتراقص الكلمات، فتتناغم العبارات، فتخرج أشبه باللحن الموسيقى الذي(13/367)
يسمع منطوقه، ولا يكاد يعرف مفهومه إلا لأهل العلم فى هذا الباب..
وقد كان للمنافقين من لحن القول هذا، نماذج، كشف القرآن الكريم عن بعض منها، لتكون للنبى وللمؤمنين معلما من معالم الكشف عن نفاق المنافقين، فى لحون أقوالهم.. فيقول سبحانه، عن مقولة من أقوالهم:
«وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا.. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ.. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» (46: النساء) فهم يقولون: «سَمِعْنا» .. يقولونها جهرة، ثم يتبعونها بقولهم سرا «وَعَصَيْنا» ! أي يعطون النبي تسليما بالسمع، لقد سمعوا ما قال، ويبدو من هذا أنهم مؤمنون، ولكن يضمرون فى أنفسهم، ويحركون على ألسنتهم العصيان لهذا الذي سمعوه.. وهم يقولون للنبى: «اسمع» أي اسمع منا ما نقول لك،.. يقولون ذلك جهرا، ثم يتبعون ذلك بدعاء خفى على النبي: «غير مسمع» أي أصمّ، لا تسمع.. وهو دعاءه أي اسمع.. لا سمعت.. لعنهم الله بما قالوا..
وهم يقولون فيما يقولون من خطابهم للنبى: «راعِنا» أي ارعنا، وانظر إلينا.. ويلوون بها ألسنتهم، فتخرج منطوقة هكذا «راعنا» بالتنوين المدغوم..
وهى من الرعونة، والطيش، يدعون بها على رسول الله.. أي ذا رعونة، مثل لابن، وتمر، أي صاحب لبن وتمر..
وقد رسم الله سبحانه وتعالى صورة سليمة مستقيمة لهذا الكلام السقيم المعوج، فقال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ..»
ومن هذه الأساليب وأمثالها مما ينطق به المنافقون- عرف النبىّ المنافقين، وعزلهم عن المجتمع الإسلامى.. وكان كثير من المؤمنين، يعرفون وجوه المنافقين(13/368)
وجها وجها، ومن هؤلاء الصحابىّ حذيفة بن اليمان، رضى الله عنه.. وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه- بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم- يسأل حذيفة أن ينظر إليه، ليرى إن كان فيه نفاق أم لا.. فيقول: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت تعرف المنافقين، وتعهدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما فىّ من النفاق، فعرفنى به، فيقول: يا أمير المؤمنين: لا أعلم فيك نفاقا.. فيقول عمر: انظر ودقق النظر، فيبكى حذيفة ويبكى عمر، رضى الله عنهما..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» أي أنه سبحانه، لا يؤاخذ على ما تكنّه الضمائر، وما تخفيه الصدور، ولكنه يؤاخذ على ما يقع من أعمال، إذ هى التي يكون لها آثارها فى الحياة، وفى الناس.. وهذا هو بعض السرّ، فى جعل فاصلة الآية «أَعْمالَكُمْ» على حين جاء فاصلة الآية (26) : «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» ..
لأن هنا مقاما، وهناك مقاما.. فهنا حساب للمنافقين على جرائمهم التي تقع من أعمالهم، أو أقوالهم، التي تجرى مجرى الأعمال.. وهناك محاسبة للمنافقين على أقوال جرت فى الخفاء بينهم وبين اليهود.. فهى سرّ بالنسبة إلى المؤمنين، لأنه جرى بعيدا عنهم، وقد كشف الله سبحانه هذا السرّ، وفضح أهله،..
فقال سبحانه «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» ..(13/369)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
الآيات (38- 31) [سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 38]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» ..
الواو: واو القسم.. والابتلاء: الاختبار..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى الآيات السابقة أشارت إلى أن هناك فى المجتمع الإسلامى منافقين، وأصحاب قلوب مرضى، وأن الله سبحانه لو شاء أن يكشف عنهم، ويفضح مستورهم لفعل، إذ لا شىء يصادم إرادته، أو يعطّل مشيئه- ولو شاء سبحانه- لأهلك هؤلاء المنافقين، أو لهداهم إلى الإيمان وقتل هذه الآفات الخبيثة التي ترعى كل نبتة خير فيهم.. ولكنه سبحانه لم يقدّر هذا(13/370)
ولم يشأه، بل كان مما قضت به حكمته أن يجعل إلى الناس أنفسهم مشيئة عاملة، وإرادة نافذة، وأن يكون لهم بتلك الإرادة، وهذه المشيئة رسالة يؤدونها فى هذه الحياة، وهى إصلاح الفاسد، وإقامة المعوج، ولا يكون ذلك إلا إذا كان فى الناس الفاسدون، والمعوجون.. وهنا يكون الابتلاء والامتحان، وحين يتصادم المصلحون والمفسدون، ويتلاقى المستقيمون والمعوجّون..
فقوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» - هو خبر مؤكد من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين بأنهم لم يتركوا هكذا، يتحلون بحلية الإيمان، وينزلون منازل المؤمنين دون أن يوضعوا موضع الامتحان والابتلاء.. فهذا الامتحان هو الذي يكشف عن حقيقة الإيمان فى قلوب المؤمنين، وهل هو إيمان صادق، انشرح به الصدر، واطمأن به القلب، أم هو مجرد صورة من الشارات والمراسم..؟
«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (2: العنكبوت) وقوله تعالى: «حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» ..
حتى غاية لهذا الامتحان أو الابتلاء.. بمعنى أنكم أيها المؤمنون واقعون- لا محالة- فى مواقع ابتلاء، وأنكم لن تتركوا حتى تدخلوا فى هذا الابتلاء، وتتجرعوا كؤوسه المرّة، فإن صمدتم فى هذا الابتلاء، وصبرتم على ما تلقون من بأساء وضراء، فقد أثبتم أنكم مؤمنون.. وهذا حسبكم من إيمانكم.
وقدم الجهاد على الصبر، لأنه أعم منه.. فقد يكون فى المجاهدين من لا صبر له على الجهاد، فلا يثبت للأعداء إذا رأى الخطر محدقا به، ولا يقدم على القتال والهجوم إذا رأى الموت دانيا منه.. إنه مجاهد فى حواشى المجاهدين،(13/371)
وفى مؤخرتهم.. ومع هذا فلا يحرم أن يدخل تحت هذه الكلمة، التي تخلع على صاحبها خلعا سنية، من الرضا والرضوان.. وفى هذا دليل على شرف الجهاد، وعلى علوّ منزلة المجاهدين، وأن أقلهم فى الجهاد منزلة، وأبخسهم فى المجاهدين حظا- هو من المجاهدين، الذين لا يحرمون شرف الجند، وثواب المجاهدين..
أما الجهاد الذي يكون معه الصبر، فهو الجهاد الكامل، الذي تم عقده وتوثيقه، بين الله سبحانه، وبين المجاهدين، وفى هذا العقد يقول الله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ.. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111: التوبة) .
وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» - إشارة إلى أن الأفعال هى التي عليها المعوّل فى الكشف عن إيمان المؤمنين وصبر الصابرين.. فابتلاء الله سبحانه لأخبار المؤمنين، إنما هو ابتلاء لهم، وتعرف على أحوالهم، من أخبارهم، التي هى حكاية لأعمالهم، وتصوير لها.. وهذا يشير أيضا إلى أن للأعمال آثارها فى الحياة، وفى الناس، وأنها تقع تحت حكم الناس عليها والإخبار عنها بما يرضيهم أو يسخطهم منها.. وهذا يشير مرة أخرى إلى أن المجتمع الإنسانى له وزنه وله قدره، فى الحكم على أعمال الناس، وأن حكمهم على عمل بأنه حسن غير حكمهم عليه بأنه سيء.. فلهذا وزنه، ولذلك وزنه عندهم، وعند الله كذلك..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ(13/372)
ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» .
هو حديث إلى أولئك المنافقين، مرة أخرى، بعد أن تهددتهم الآيات السابقة بفضح نفاقهم..
فهذا وعيد للمنافقين، الذين يمسكون بما معهم من نفاق.. إنهم كفروا بعد أن آمنوا، وصدّوا أنفسهم عن سبيل الله بعد أن وردوا عليه، وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى.. هكذا المنافق، لا تستقيم له على سبيل الإيمان طريق، ولا تثبت له فيه قدم! وقوله تعالى: «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» هو خبر عن هؤلاء المنافقين، الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أي أنهم بفعلهم هذا، وخروجهم من الإيمان إلى الكفر والنفاق- لن يضر الله شيئا من الضر، كما أن إيمان المؤمنين لن ينفعه شيئا من النفع..
وقوله تعالى: «وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» أي يفسد تدبيرهم، ولا يقبل لهم أي عمل، ولو كان من الأعمال الحسنة فى ذاتها..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» ..
هو دعوة كريمة، والتفاتة رحيمة، من رب كريم رحيم، إلى عباده المؤمنين، وقد طال وقوفهم مع حديث الله سبحانه وتعالى إلى المنافقين، فشاقهم أن أن يسمعوا حديثا من الله سبحانه عنهم.. فناداهم الحق جل وعلا، واستدناهم منه، ثم أسمعهم ما فيه رشدهم، وصلاحهم، وفوزهم.. فى الدنيا والآخرة.. فقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية»(13/373)
«أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» ..
«وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ..»
فطاعة الله وطاعة الرسول، شرط أول من شروط المؤمن، فإنه لا إيمان بغير طاعة، وتسليم، وانقياد..
وإن عصيان الله وعصيان رسوله، لا يبقى على إيمان، إذ لا يجتمع إيمان وعصيان..
وإذا أخلى الإيمان مكانه من القلوب، لم يبق غير الكفر، وغير بطلان العمل، لمن تبدل الكفر بالإيمان..
فالآية دعوة للمؤمنين أن يحفظوا إيمانهم، ويوثقوه، بالطاعة لله ورسوله..
وفى الآية تهديد للمؤمنين الذي لا يلتفتون إلى أنفسهم ولا يحرسونها من النفاق، أن يدخل عليهم فيطرد الإيمان من قلوبهم، ثم لا يكون لهم بعد هذا عمل إلا بطل وفسد! ..
وقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» .
هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم- أن يتوبوا إلى الله من قريب، وأن يؤمنوا بالله، حتى تنالهم مغفرته.. فإن هم أبوا إلا أن يمضوا على كفرهم إلى أن يموتوا، فإنهم يموتون على الكفر، ومن مات منهم على الكفر فلن يغفر الله له..
قوله تعالى:
«فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» .(13/374)
فلا تهنوا، أي لا تضعفوا، وتتخاذلوا.. وهو من الوهن، أي الضعف..
ولن يتركم أعمالكم: لا يبطلها كما أبطل أعمال المنافقين والكافرين..
وأصله من الوتر، وهو الفرد.. ومعنى هذا أنه لا يقطع أعمالكم عنكم، بل هى فى صحبتكم، تجدونها حاضرة يوم الجزاء.
والآية تعود إلى أولئك المؤمنين الذي أسمعهم الله سبحانه وتعالى. قوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» ..
ثم تركهم فى هذا الموقف. حتى يتدبروا هذا القول ويأخذ كل منهم موقفه منه.. إنهم مدعوون إلى أن يسمعوا ويطيعوا.. أما ما يدعون إلى أن يسمعوه ويطيعوه، فهو آت، ولكن بعد أن يأخذ هذا القول مكانه من العقول والقلوب..
وفى فترة الانتظار هذه، يسمع المؤمنون هذا الوعيد الذي يتهدد الله سبحانه وتعالى به أهل الكفر والنفاق.. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ» .. إنها صورة كريهة للإنسان، ونهاية محزنة، تلك التي ينتهى إليها من يكفر بالله، ويموت على الكفر.. ومن هذا الوعيد يتدسس إلى مشاعر المؤمنين التي دخلت عليهم من قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» - يتدسس إلى هذه المشاعر ما يدفع بها بعيدا عن مزالق الكفر.. ولن يكون ذلك إلا بالسمع والطاعة لله ورسوله..
وهنا يلقاهم قول الله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» .
وكأن هذا الخطاب وارد على سؤال سأله الله سبحانه وتعالى المؤمنين، بعد(13/375)
أن أمرهم بطاعته وطاعة رسوله، وبعد أن تركهم وقتا يتدبرون فيه ما أمرهم به.. وتقدير السؤال هو:
هل سمعتم ما أمرتم به؟ وهل أنتم على السمع والطاعة؟ وهل اختبرتم ما فى قلوبكم من إيمان؟ ..
إذن: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ..»
فهذا أمر من الله إليكم، وهو ألا تهنوا، أو تتخاذلوا فى موقفكم من العدو، وألا تطلبوا السلم.. فإن طلب السلم لا يحمله أعداؤكم إلّا أنه ضعف منكم وشعور بالهزيمة، وهذا من شأنه أن يغرى العدو بكم، ويشدد وطأته عليكم، ولا يجيبكم إلى السلم الذي تدعون إليه، لأنه يراكم غنيمة ليده..
هذا ويلاحظ أن ما طلبه الله سبحانه وتعالى من المؤمنين فى قوله سبحانه:
«فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» - لم يلقهم سبحانه به لقاء مباشرا، بل جاء هذا الطلب إلى المؤمنين، بعد وقفة طويلة معهم على مجتمع الكافرين والمنافقين، حيث يرمو من الله بنذر من رجوم البلاء والهلاك، ثم بعد دعوتهم إلى أن يجعلوا إيمانهم بالله قائما على الطاعة والولاء لله ورسوله، وكان هذا كله تمهيدا لأن يتلقى المسلمون قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» ، وأن يستجيبوا له..
فلا يقع منهم فى ميدان القتال فتور أو تخاذل، وبهذا يحاربون، وقلوبهم على إيمان بالنصر الذي وعد الله المؤمنين، فلا يمدون أيديهم مستسلمين للعدو أبدا.
وهذا الأسلوب الذي جاء عليه الطلب فى قوله: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» - يدل على مزيد من العناية بهذا الطلب، وإلفات المخاطبين به إلى ما لهذا المطلوب من قدر وخطر..(13/376)
والحق أن قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» هو دعوة إلى ما لا يقوم الإيمان إلّا به، ولا تقوم للمؤمنين دولة إلا عليه، وهو الجهاد فى سبيل الله ومواجهة أعداء الله وأعداء المؤمنين- مواجهتهم بالقوة التي تردّ بأسهم، وتبطل كيدهم، حتى يسلم المؤمنون منهم، ومن أن يكونوا تحت يدهم، فيفتنوهم فى دينهم..
وإنه ليس هناك عدو يستطيع أن يقف فى وجه المسلمين المجاهدين فى سبيل الله، إذا هم أعطوا الجهاد حقه.. مهما كان قليلا عددهم وعدتهم، بالنسبة إلى عدد عدوهم وعدّته..
وحق الجهاد، هو أن يقوم على نية القتال والقتل فى سبيل الله.. ومن كان من المجاهدين على تلك النية، فإنه لا ينظر إلى كثرة العدو، ولا يقيم موازنة بين جيش المسلمين وجيش العدوّ، على أساس العدد والعتاد، فإن ذلك إن وقع فى شعور المجاهد، حارب بنفس متخاذلة، وبقلب يخفق خفقات الهزيمة.. فذلك كله يجب ألا يكون فى حساب المجاهد شىء منه.. فهو يجاهد، ويقاتل فى سبيل الله، ولن تبرأ ذمته من أداء هذه الأمانة- أمانة الجهاد- إلا إذا رجع من جهاده بإحدى الحسنيين، إما النصر على العدوّ، والفوز بالغنائم، وإما الموت والفوز بالشهادة.. فالمؤمنون بهذه المشاعر هم الأعلون دائما..
إن المجاهد- حقّ المجاهد- هو الذي يقاتل العدوّ بكل ما لديه من قوة، وأن يكون وجهه للعدو، ولأسلحة العدو، يضرب ويضرب، وينفذ ضرباته فى العدو، ويتقى ضربات العدو له، غير مبال إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه..!(13/377)
[الجهاد.. والحرب النفسية]
والحرب النفسية أداة من أدوات الحرب، وسلاح ماض من أسلحة القتال..
وكم تركت هذه الأداة من آثار سجلها التاريخ لها، فهزمت الأبطال، ومزقت الجيوش، ومكنت الفئة القليلة من أن تغلب الفئة الكثيرة..
وهل كان ميزان المؤمنين ثقيلا فى ميدان القتال، حتى ليعد الواحد منهم بعشرة من عدوهم- هل كان هذا الميزان ثقيلا إلّا لما امتلأت به مشاعر المؤمنين من إيمان بالله، وثقة فى ثوابه، وتصديق بوعده الذي وعد المجاهدين؟ وهل استخف المؤمنون بالموت، إلا لما امتلأت به قلوبهم من إيمان بالحياة الآخرة، وأن حياتهم الدنيا هذه، ليست إلا مرحلة على طريق الحياة الأبدية الخالدة؟.
النفس إذن، وما تحمل من مشاعر، هى التي تحدد موقف المحارب فى جبهة القتال، وهى التي تزين له الموت فى الميدان، أو تغريه بالنجاة والفرار..
فحبّ الجبان النفس أورده التقى «1» ... وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا!!
فكلا الجبان والشجاع محبّ لنفسه، ولكن شتان بين حبّ وحب..
فالجبان يحب نفسه لا بسة جسده، ولو كانت مهينة ذليلة، ترعى المهانة، وتسام الخسف! والشجاع يجب نفسه عزيزة كريمة، فإنه إن رأى أنها لن تسكن إليه إلا على مركب الذل والهوان، ضنّ بها على أن تلقى الإهانة والإذلال فى هذا المقام، مقام الجسد، فأوردها مورد القتل، لتخلص من هذا البلاء، وتأخذ طريقها إلى العالم الآخر..
__________
(1) أورده التقى: أي دفع به بعيدا عن مواطن الخطر واتقاء ما يقع للمحاربين من قتل أو أسر.(13/378)
وليست الحرب النفسية سلاحا يتحصن به المحاربون، ضد عوامل الوهن والضعف، التي تدخل عليهم فى ميدان القتال، وإنما هى سلاح أيضا يستخدمه المحاربون فى التدسس إلى عدوّهم، وإشاعة الرعب فى نفوسهم، وإشعال نار الفتن بينهم.. وذلك مجال فسيح للعمل والتدبير، يحتاج إلى العقل الذكي، والبصيرة النافذة، والنظر المتفحص، وإلا ارتد هذا السلاح إلى اليد التي تضرب به.. ذلك أن المعركة هنا معركة هنا معركة داخل النفس البشرية، التي لا ساحل لها، ولا نهاية لأعماقها، والتي هى دائما فى معرض التقلب والتحول، وفى معاناة المدّ والجزر.. فمن جاءها على حال غير مواتية لها، غير جارية مع الريح التي تجرى فيها، لم يبلغ منها شيئا، بل ربما انقلبت حربا عليه.
وقد اهتدى الإنسان بطبيعته، إلى أن تكون النفس ميدانا من ميادين الحرب التي يشتبك فيها مع غيره من بنى جنسه، وأن يتخذ منها درعا واقية له..
حيث يدخل المعركة، وقد صفىّ حسابه بينه وبين نفسه، وأجلى عنها كل نوازع الخوف من الموت، أو الإشفاق على ما يخلّف وراءه من ولد، وأهل، وصديق..
يقول قطرىّ بن الفجاءة: وقد راودته نفسه على أن يطلب السلامة، ويدع مواطن الحرب، وما يتعرض له المحاربون من قتل.. يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال، ويحك، لن تراعى
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاع
فصبرا فى مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
وفى الوقت الذي يتخذ فيه المحارب، من الحرب النفسية درعا حصينة، يتحصن بها، من عوارض الخوف والخور، التي تعرض له- فى الوقت الذي يفعل فيه هذا- يعمد إلى الهجوم على نفس عدوّه، فيريه من بأسه وقوته قبل أن يلقاه، ما ينخلع به قلبه، وما تطير منه نفسه شعاعا..(13/379)
سئل عنترة بن شداد- الفارس العربي الجاهلى المعروف- سئل عن هذا الرعب الذي يملأ قلوب الأبطال منه، وكيف يبلغ رعبهم منه إلى هذا الحدّ الذي يبطل عمل الأبطال، ويشل حركتهم؟ فقال عنترة: «أبدأ القتال بأن أعمد إلى أي فارس من عامة الفرسان، فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الشجاع» !.
ولهذا كان من سياسة الحرب أن تكون الضربة الأولى ضربة يرمى فيها كلّ من المتحاربين بثقله كله، حتى تقع الضربة موقعا قائما وراء تقدير العدو، الذي ما كان يحسب حسابا لها من هذا الوجه.. وهنا تكثر دواعى البلبلة والاضطراب، ثم التفكك والانحلال، ثم الهزيمة والاستسلام، إذا لم يكن الضارب قد تلقى ضربة كهذه الضربة.. وعندئذ تتعادل الكفتان، ثم يكون الغلب لمن أمسك بالثقة والطمأنينة فى قلبه، واحتمل فى صبر وجلد نار الحرب، وأهوالها.. إنها الحرب، وإنها ابتلاء في الأموال والأنفس والثمرات! إنها قتال وقتل..!
يروى أن سائلا سأل عنترة: كيف كان منك أنك لم تفرّ فى معركة قط، على كثرة ما دخلت فى معارك، وما التقيت بأبطال؟
فقال عنترة لسائله: أعطنى يدك، وخذ يدى، وعضّ إبهامى وسأعض إبهامك!! ففعل الرجل، وفعل عنترة.. ولكن سرعان ما صرخ الرجل! فبادره عنترة قائلا: «إنك لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا» !! وبهذا تلقى الرجل الجواب الوافي الشافي على سؤاله.
إن عنترة إنسان قبل أن يكون بطلا، فهو يخاف، ويتألم، ويكره أن يقتل، أو يجرح.. شأنه فى هذا شأن الناس، أبطالا، وغير أبطال.. ولكنه لبس ثوب البطولة بصبره على المكاره، أكثر من خصمه.. فلو أن خصم عنترة صبر صبره على المكروه، الذي يسقيه كل منهما لصاحبه- لو أنه صبر(13/380)
هذا الصبر، لما استسلم لعنترة، بل وربما كان عنترة هو الذي يستسلم له.
وكثير من الحيوانات، فى مختلف أجناسها، تستخدم هذا السلاح فى لقاء عدوها.. فتستعرض كل ما عندها من قوّى جسدية، ظاهرة، أو خفية، حتى تبدو فى صورة مخيفة مفزعة للعدو.. وقد تكون هذه الحركات قاضية على العدو من غير قتال، فيجمد فى مكانه ويستسلم لعدوه!.
وإذا كان الجهاد والقتال فريضة واجبة الأداء على كل قادر من المسلمين، متى دعت دواعى الجهاد، ولزم القتال- لأنه لا يقوم أمر الجماعة الإسلامية، فى المجتمع الإنسانى إلا إذا كانت ذا قدرة على حماية وجودها، ودفع الأيدى الباغية عليها- نقول إذ كان شأن الجهاد على تلك الصفة فى الإسلام، فقد كان من تدبير الإسلام أن التفت التفاتا قويّا إلى هذا الجانب من الحرب الذي يعرف فى عصرنا هذا، بالحرب النفسية، فوضع بين يدى جند الله، المجاهدين فى سبيله منهجا متكاملا للتدريب على هذه الحرب، واستخدام أسلحتها، والضرب بهذه الأسلحة حيث تقع الضربة، فتصيب الصميم مما وقعت عليه..
ومن تدبير الإسلام فى هذا:
أولا: أنه هوّن على المؤمنين خطب الموت، وذلك بإيمانهم بالحياة الآخرة إيمانا يشعرون معه أن الموت ليس إلا انتقالا من عالم إلى عالم أرحب، وأفسح،. ومن هنا فلا ينظرون إلى الموت على أنه فناء أبدى للميت، وضياع لا نهائى لمن بموت، كما ينظر إلى ذلك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. إنه ليس معهم إلا هذه الحياة الدنيا، وأنهم إذا فارقوها، فارقوها إلى غير رجعة أبدا.. فهم لهذا أحرص ما يكونون على حياتهم هذه، وأشد ما يكون جزعا إذا ذكروا الموت، أو أحسوا قرب الأجل..(13/381)
وثانيا: أنه وعد المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله، درجات عالية عند الله، سبحانه، حيث ينزلون منازل الأنبياء والصديقين، كما يقول سبحانه:
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» (69: النساء) .
وإنما تتجلى طاعة الله ورسوله على أتم وجه وأكمله فى ميدان الجهاد فى سبيل الله.. يقول سبحانه: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (74: النساء) .. فالأجر العظيم الذي يناله المجاهد من ربه مشروط بأحد شرطين: أن يقتل فى ميدان القتال، أو ينتصر على عدوه.. فلا يعود المجاهد إلى أهله إلا منتصرا على العدو.. فإن لم يشهد نهاية المعركة، ومات قبل أن يحقق المسلمون النصر، فإنه يكون قد شارك بدمه المراق على أرض المعركة، فى كتابة كلمة النصر، التي يؤذن بها مؤذن الحق فى نهاية المعركة..
وثالثا: أنه توعد الذين ينتظمون فى صفوف المجاهدين، ثم إذا التحم القتال، وتساقطت الرءوس، وتناثرت الأشلاء، وسالت الدماء- ركبهم الفزع، واستبد بهم الجزع، والتمسوا وجوه النجاة فى الفرار من الميدان، أو النكوص على الأعقاب، أو الدعوة إلى السلم، والاستسلام- توعد الإسلام من كان فى المجاهدين، المقاتلين، ثم أخذ هذا الموقف المتخاذل- توعده بغضب من الله، وبعذاب أليم فى نار جهنم، كما يقول سبحانه:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15، 16: الأنفال) ..(13/382)
والجانب النفسي هو المنظور إليه هنا، فى هذا الوعيد الذي يأخذ به الله سبحانه من لبس ثوب الجهاد وانتظم فى صفوف المجاهدين المقاتلين، من بلاء ونكال، الأمر الذي يحبط إيمان المؤمن، ويبطل عمله، ويسلكه مع المنافقين والكافرين.. ذلك أن فرار المجاهدين من بين صفوف المجاهدين يحدث فتنة، ويثير خلخلة واضطرابا فى نفوس المجاهدين وفى صفوفهم، وسرعان ما تسرى عدوى هذا المقاتل الفارّ إلى كثير غيره، ممن لم يكن فى حسابهم أن يفروا..
إن هذا الفارّ إنما يمثل- من غير قصد- صرخة الانهزام فى صفوف المجاهدين، وإنه لخير له وللمسلمين المجاهدين، ألا يشهد مثل هذا الإنسان مواقف القتال، وألا يكون فى صفوف المقاتلين.. وأما وقد خرج، ودخل المعركة، فإن فراره من القتال، خيانة لله، ولرسوله، وللمؤمنين..
ومن أجل هذا، عزل الله سبحانه وتعالى المنافقين عن مواقف الجهاد، ونقىّ جيش المجاهدين من هذه الأجسام الغريبة التي تدخل على الجسد السليم بأعراض الحمى. من صداع، وعرق، وأرق! فقال سبحانه لنبيه الكريم.
«فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» (83: التوبة) ..
ومن التطبيق العملي لهذا الذي تسميه الحرب النفسية- أن الرسول- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- حين رجع من غزوة أحد، وعلم أن قريشا تريد الكرة على المدينة، وتنتهز فرصة الهزيمة التي حلت بالمسلمين فى أحد، فتضرب ضربتها القاضية، والحديد ساخن، كما يقولون- تقول حين علم الرسول الكريم بهذا دعا أصحابه، إلى أن يخرجوا إلى ظاهر المدينة، للقاء عدوهم، إن هو سولت له نفسه أن يهجم على المدينة.. وكان مما(13/383)
اشترطه الرسول فيمن يشهدون هذا الموقف معه، أن يكونوا ممن شهدوا القتال فى أحد، أما من كان فى المتخلفين ولم يشهد الحرب، فلا مكان له بينهم.. هذا والمسلمون الذين شهدوا أحدا كانوا مثخنين بالجراح، منهوكى القوى، يعانون من آلام نفسية وجسدية ما تنهدّ به عرائم الرجال.. ومع هذا، فقد رأى النبي فى هؤلاء المجاهدين- على ما بهم من آلام وجراح- خيرا كثيرا، وأن أيّا منهم- على ما به من ضعف- خير من مئات ممن فى قلوبهم مرض، من الذين يكثر بهم سواد المجاهدين بالقدر الذي يقلّ به غناؤهم..!
وقد كان لهذا أثره النفسي عند المشركين، فإنهم ما إن علموا بأن محمدا قد خرج بأصحابه وراء القوم حتى توقفوا عن المسيرة نحو المدينة، وقد وقع فى أنفسهم أن محمدا يطلبهم ليثأر من هزيمة أمس فى أحد- وطالب الثأر هيهات أن يغلب، وحسبهم ما ظفروا به من المسلمين فى معركة الأمس، فقد تدور الدائرة عليهم فى الكرة التالية.
ورابعا: من أساليب الحرب النفسية- تخويف العدو وإرهابه، بما يرى فى جيش المجاهدين من أمارات القوة، ووسائل الغلب.. وشبيه بهذا ما تقوم به الأمم من عرض قوتها فى تلك العروض العسكرية، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها، على حين أنها إذ تكشف عن بعض قوتها، فإنها تشير إلى أن وراء هذا الذي أعلنته قوى كثيرة خفية، أشد أثرا، وأقوى فتكا، من هذا الذي عرف الناس أمره، وأن ذلك سرّ من أسرارها الحربية، التي لا تظهر إلا عند الحرب!!.
ولهذا الجانب من الحرب النفسية أثر كبير فى كسر شوكة العدو، وفى قتل مطامعه فى النّيل من عدوه، فلا يقدم على العدوان وهو يرى هذه القوى المهيأة للحرب، الراصدة لكل عدو.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» (60: الأنفال) .(13/384)
كل هذا الذي يراه العدو فى جيش المسلمين، من استخفاف بالموت، وإيثار للموت فى سبيل الله على الحياة، والثبات فى ميدان المعركة حتى النصر أو الموت، والإعداد الدائم لعدد الحرب ورجالها- كل هذا يبعث الرعب فى قلوب الأعداء الذين يواجهون مثل هذا الجيش، الذي لا يرجع من المعركة إلا منتصرا، أو مستشهدا.. وإلى هذا يشير الرسول فى قوله فى مقام تعداد فضل الله سبحانه وتعالى عليه، إذ يقول: «ونصرت بالرعب مسيرة عام» أي أن أعداءه المحيطين به، يجدون فى أنفسهم رهبة له، ولجيش المسلمين، وذلك على امتداد مسيرة عام بينه وبينهم، لما يتناقل الناس من أخبار المجاهدين المسلمين، واسترخاصهم لنفوسهم فى ميدان القتال، حتى ليكون ذلك حديث الدنيا كلها..
قوله تعالى:
«إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» ..
وفى هذا التعقيب دعوة للمؤمنين إلى أن ينظروا إلى الحياة الدنيا نظرا جادّا متفهّما، فإنهم لو نظروا إليها هذا النظر، لعرفوا أنها لعب ولهو، وأنها متاع قليل وظل زائل، وأنها إذ كانت هكذا هزيلة باهتة، فإن الحرص عليها، والتشبث بالحياة فيها على أية صورة من صور الحياة، وإن كان فى ثوب الذل والمهانة- إن هذا غبن للإنسان، وجور على إنسانيته..(13/385)
وإذن، فإنه إذا كان هناك قتال بين المسلمين وبين عدوّ لهم، فلا ينبغى أبدا أن يقع فى نفوسهم وهن أو ضعف، أو أن يعطوا أيديهم لعدوهم، ويستسلوا له، فإن هذا لا يكون إلا من نفوس تحرص على الحياة، وتتشبث بالبقاء فيها، على أي وضع، ولو سيمت الخسف، ورعت المهانة والذلة..
قوله تعالى: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» ..
هو بيان لما هو مطلوب من الإنسان فى هذه الدنيا، حتى ينال الجزاء الطيب من الله سبحانه وتعالى، وينزل فى الآخرة منازل رضوانه..
وهذا المطلوب من الإنسان هو الإيمان، ثم العمل الصالح الذي يبلغ بالإنسان مبلغ التقوى.. فمن آمن واتّقى أخذ أجره كاملا فى الدنيا والآخرة..
وإتيان الأجر، هو الجزاء الحسن الطيب، للأعمال الحسنة الطيبة، كما فى قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (27:
العنكبوت) . وقوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (30: فاطر) فالأجر هو جزاء عن عمل طيب، يؤجر عليه صاحبه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان ابنة شعيب عليه السلام: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» (26: القصص) وقوله تعالى: «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» - هو واقع فى جواب الشرط، معطوف على قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ» أي أنه إذا حقق المؤمن الإيمان والتقوى فإنه لا يسأل شيئا من ماله، الذي بين يديه، غير ما هو مفروض عليه فيه من زكاة..(13/386)
وهذا يعنى:
أولا: أن أداء الفرائض على وجهها كاملة، هو غاية المطلوب من الإنسان..
وأنه يأخذ أجره كاملا، دون أن يقدم نظير هذا الأجر عوضا له من ماله..
وثانيا: أنه مهما حرص الإنسان على أداء الفرائض كاملة مستوفاة شرائطها، وأركانها- فإنه لا يمكن أن يتحقق له ذلك على كماله وتمامه، لما يعرض للإنسان من معوقات نفسية، ومادية، تحول بينه وبين الوصول إلى درجة الكمال.. ومن هنا كانت النوافل، التي تقوم إلى جانب الفرائض، ليجبر بها الإنسان ما يقع منه من تقصير فيها.. كما فى النوافل التي تصحب الصلاة والصوم، والزكاة، والحج.. فكل فريضة من هذه الفرائض تصحبها نوافل، هى فى حقيقة أمرها- تعويض وجبر لما قد يقع- ولا بدّ- فى أداء الفريضة من تقصير..
وثالثا: ما تجبر به الفرائض من نوافل قد يخفّ أمره على النفوس، إلا ما كان منها متصلا بالمال، الذي هو رغيبة النفوس، ومتعلق الآمال.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية الكريمة بعد هذا..
«إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ» .
يسألكموها: أي إن يسألكم إياها، أي يطلب إليكم مزيدا من الإنفاق من أموالكم، غير ما هو مفروض عليكم من زكاة فيها..
«فَيُحْفِكُمْ» : أي يشتدّ عليكم فى الطلب، ويطلب الكثير مما فى أيديكم.
وأصله من الحفا والحفاء، وهو ما يصيب الراحلة من الإبل، من طول السفر، حتى تحفى أخفافها، ويتآكل جلدها ولحمها.. يقول الأعشى عن ناقته التي كان يتجه بها إلى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ليعلن إسلامه(13/387)
يقول:
فآليت لا أرنى لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقى محمدا
ويخرج أضغانكم: الأضغان: جمع ضغن، وهو ما تنطوى عليه الصدور من كراهية وحقد..
ومعنى الآية الكريمة أنه لما يعلم الله سبحانه وتعالى من طبيعة النفوس، وحرصها على المال، وتعلقها به، فقد كان من رحمته سبحانه وتعالى بالناس أن رفق بهم، ورضى بالقليل من أموالهم ينفقونها فى سبيل الله.. ولو أنه سبحانه وتعالى ألزم المؤمنين أن يقدموا المال فى مقابل الأجر الذي ينالونه من عند الله، لأتى ذلك على كل ما معهم من مال، ولما استوفت كلّ أموالهم بعض ما أخذوا من أجر، ولوقع المؤمنون فى حرج شديد، ولأخذوا مأخذ المخالفين المقصّرين.. فكان من حكمة الحكيم العليم، ورحمة الرحمن الرحيم، أن أعطى النفوس حظها من هذا المال، واكتفى بأخذ القليل منه، الأمر الذي لا تضيق به النفوس، ولا تحرج به الصدور، وذلك مع إعطائهم أجرهم كاملا، بما فى قلوبهم من إيمان وتقوى..
وفى الآية الكريمة، إشارة إلى أن هذا المال، هو مال الله سبحانه وتعالى، وأن لله سبحانه وتعالى أن يسأل هذا المال كلّه، وأن يأخذه جميعه، دون أن يكون فى هذا ظلم لأحد، لأنه سبحانه لم يأخذ شيئا ليس له!! ومع هذا، فإنه سبحانه، أعطى الكثير متفضّلا منعما، وأخذ القليل، رحيما مترفقا.. فسبحانه، سبحانه، يهب فضله وإحسانه لعباده، ثم يتقبل منهم بعض ما وهب، ليكون رصيدا لهم من الفضل والإحسان، يطهرون به نفوسهم، ويغسلون به أدرانهم..(13/388)
قوله تعالى:
«ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» .
بهذه الآية الكريمة تختم السورة، فتلتقى بالمؤمنين، بعد أن وضعتهم فى مواجهة أعدائهم من الكافرين والمشركين، الذين يحادون الله ورسوله، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وأنه مطلوب من المؤمنين أن يعملوا على حماية أنفسهم من هذا العدو المتربص بهم، وذلك بالجهاد فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم..
ولمّا كان للمال سلطانه على النفوس، فقد جاءت الآيات السابقة تكشف عن هذه المشاعر، التي يجدها المؤمنون حين يمتحنون فى أموالهم، وأن الله سبحانه وتعالى قد شملهم برحمته، فلم يدعهم إلى الخروج عن أموالهم جملة، على سبيل الإلزام والفرض، بل جعل ذلك دعوة مطلقة، يأخذ منها الناس ما تتسع له نفوسهم، كلّ على حسب ما تسخو به نفسه، ويرضاه قلبه..
دون حرج أو إعنات.
وفى قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» امتحان للمؤمنين، واستدعاء لما فى نفوسهم من إيمان، فى مقام البذل فى سبيل الله..
وقوله تعالى: «فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» هو بيان لما كشف عنه هذا الامتحان من شحّ فى بعض النفوس، وضنّ بالبذل(13/389)
والإنفاق فى سبيل الله.. وهذا البخل إنما هو عائد على من بخل، إذ حرم نفسه هذا الخير الكثير الذي كان ينتظره لو أنه أنفق من هذا المال الذي حبسه، وضنّ به.. إنه هو المحروم، وهو الخاسر فى هذا الموقف، حيث آثر ما يفنى على ما يبقى..
وفى تعدية الفعل «يبخل» بحرف الجر «عن» بدلا من الحرف «على» الذي يستدعيه ظاهر النظم- فى هذا إشارة إلى أن هذا البخل هو حجز للخير عن النفس، التي كان من حقها على صاحبها أن يسوقه إليها من هذا المال الذي بخل به، وهو يظن أنه إنما فعل ذلك ابتغاء لخيرها وإسعادها..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» - هو تعقيب على موقف أولئك الذين بخلوا بالإنفاق فى سبيل الله، ولم يستجيبوا الدعوة الله، الذي آتاهم من فضله، ووسّع لهم من رزقه- فالله- سبحانه- غنىّ عنهم، وهم الفقراء إليه..
ولو شاء سبحانه أن يعفيهم من هذا الامتحان، لفعل، ولحرمهم الثواب الذي ينالونه بما ينفقون من مال الله الذي بين أيديهم..
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» ..
هو تهديد ووعيد لهؤلاء الباخلين بأموالهم عن الإنفاق منها فى سبيل الله وأنهم إذا أصروا على موقفهم هذا، ولم ينفقوا فى سبيل الله، كان فى المؤمنين من يقوم مقامهم، ويسدّ هذا النقص الذي كان منهم.. ثم إن هؤلاء الذين يلبسون الإيمان ظاهرا وباطنا، لا يكون منهم تردد، أو نكوص عن تقبل البذل والإنفاق، كما كان من هؤلاء المترددين المنقلبين على أعقابهم، بل ستثبت أقدامهم على طريق الإيمان إلى النهاية..(13/390)
48- سورة الفتح
نزولها: مدينة.. نزلت بعد صلح الحديبية..
عدد آياتها: تسع وعشرون آية..
عدد كلماتها: خمسمائة وستون كلمة عدد حروفها: ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «محمد» (عليه الصلاة والسلام) بدعوة المؤمنين إلى البذل والإنفاق فى سبيل الله، حاملة بين يدى هذه الدعوة، إشارة إلى أن هذه الدعوة لا تلقى قبولا من بعض ذوى النفوس التي لم يتمكن الإيمان منها، وأن هؤلاء سيخلون مكانهم لغيرهم من المؤمنين الذي صدقوا الله ورسوله، وهؤلاء المؤمنون هم الذين يتلقاهم الله سبحانه وتعالى بالقبول، ويمنحهم النصر والتأييد الذي وعد عباده المؤمنين..
وقد جاءت سورة «الفتح» تزف إلى المؤمنين هذه البشرى بالفتح والنصر الذي أعز الله به نبيه، وأعز به المؤمنين معه.. كما يقول سبحانه فى مطلع السورة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» .. وكما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» ..
ومن جهة أخرى، فإن سورة «محمد» (صلى الله عليه وسلم) قد حملت إلى النبي الكريم هذا الأمر الكريم من ربه: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ(13/391)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ»
- فجاءت سورة «الفتح» مفتتحة بقبول هذا الاستغفار، وشمول الرسول الكريم بهذا الغفران المطلق، الشامل لكل ما تقدم من ذنبه وما تأخر..
ومن جهة ثالثة- فإن محمدا- صلوات الله وسلامه عليه- الذي حملت السورة السابقة اسمه، يناسبه أعظم المناسبة أن يجىء فى أعقاب سورته سورة «الفتح» إذ كان هذا الفتح لمحمد عليه صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات (3- 1) [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» الفتح: فى الأصل الحكم والقضاء بأمر من الأمور، ومنه قوله تعالى:
«رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» .. أي احكم، وقوله سبحانه: «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها» أي ما يقضى به الله..
والفتح، قد غلب استعماله فى النصر على العدو، والاستيلاء على بلاده، التي كانت من قبل مغلقة فى وجه من يريد دخولها من غير أهلها- ومنه قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» .
والمراد بالفتح هنا: التأييد، والنصر، والتمكين..(13/392)
وقد نزلت هذه السورة الكريمة، بعد صلح الحديبية، الذي كان يرى كثير من المسلمين عند عقد هذا الصلح، أنه أشبه بالاستسلام.. فلقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم قد دعا أصحابه إلى أن يهيئوا أنفسهم لأداء العمرة، وكان ذلك فى السنة السادسة من الهجرة.. فلما تمّ لهم ذلك، سار بهم النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى مكة، يسوقون الهدى أمامهم، ويحبسون سيوفهم فى أغمادها. فلما دنوا من مكة، كانت قريش قد استعدّت للحرب، إن دخل النبىّ والمسلمون عليهم مكة..
وقد بعث إليهم النبىّ أنه إنما جاء معتمرا لا محاربا.. ولكن القوم ركبوا رءوسهم، وأبوا إلّا أن تكون الحرب، إن دخل النبىّ والمسلمون مكة.. وقد كادت الحرب تقع، وخاصة حين جاءت إلى المسلمين شائعة بأن عثمان ابن عفان، رضى الله عنه، قد نالته قريش بسوء، وكان الرسول الكريم، قد بعث عثمان إلى قريش، يخبرهم بالأمر الذي جاء من أجله النبىّ والمسلمون..
ثم انتهى الأمر أخيرا إلى عقد صلح يقضى بأن يرجع النبىّ والمسلمون عامهم هذا، وأن يعودوا فى العام القابل، فتخلى لهم قريش مكة، فيدخلها النبىّ وأصحابه ثلاثة أيام يقضون فيها عمرتهم..
وقد كثرت مقولات المسلمين، رفضا لهذا الصلح قبل أن يتم، وتعقيبا عليه بعد أن تمّ.. حتى لقد خلا عمر بن الخطاب، بأبى بكر، رضى الله عنهما، وأسرّ إليه بما فى نفسه من هذا الصلح الذي يرى فيه غبنا على المسلمين، وحتى لقد جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:
«يا رسول الله: ألسنا على الحق؟ أليس القوم على الباطل؟ قال رسول الله:
بلى! قال عمر: فلم نعطى الدنية فى ديننا؟(13/393)
فقال- صلوات الله وسلامه عليه..: «أنا عبد الله ولن أخالف أمر ربى ولن يضيّعنى» ! فلما تم الصلح ظلت كثير من المشاعر المتضاربة تنخس فى صدور المسلمين، خاصة، وأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كان قد تحدث إليهم بأنهم سيدخلون مكة، وأنه رأى فى ذلك رؤيا، وفيها يقول الله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» .. ويقول الله سبحانه فى آخر سورة الفتح:
«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» .. فهذه الرؤيا التي رآها الرسول الكريم رؤيا صادقة، ولكنّ تأويلها لم يكن قد جاء زمنه بعد.. إن المسلمين سيدخلون مكة، آمنين محلّقين رءوسهم ومقصرين.. هذا هو مضمون الرؤيا، أما زمنها فلم تحدده الرؤيا، وقد عاد المؤمنون من صلح الحديبية، وهم على عهد مع قريش على دخول البيت الحرام فى العام القابل.. أما الفتح القريب الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» فهو فتح خيبر، التي فتحها النبي بعد منصرفه من الحديبية، وفى طريق عودته إلى المدينة..
وصلح الحديبية فى يومه الذي وقع فيه، وقبل أن تتكشف الأحداث التي أعقبته- هذا الصلح هو فى ذاته فتح مبين كما يقول سبحانه وتعالى تعقيبا عليه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .
وأي فتح أعظم وأظهر من أن يعود النبىّ بالمسلمين إلى البلد الحرام، وأن يقيموا على مشارفها، فلا تجرؤ قريش على الخروج للقائهم، بل تنتظر حتى يدخلها عليهم النبىّ والمسلمون، وهم الذين أخرجوا النبىّ والمسلمين منها، وهم الذين تهدّدوا النبىّ والمسلمين، وجاءوا إلى المدينة بجيوشهم يريدون أن(13/394)
يدخلوها على أهلها فى غزوتى «أحد، والأحزاب» ..؟
فأى فتح أعظم عند المسلمين من هذا الفتح، الذي أدلّ قريشا، وعرّاها من كل ما كان لها فى نفوس العرب من عزّة وسلطان؟ .. لقد ذلت قريش، وأعطت يدها للنبىّ والمسلمين، ولم يكن هذا الصلح فى حقيقته إلا حفظا لبقية من هذه العرّة الضائعة، وسترا لهذا الكبر المتداعى!! لقد انقلبت موازين القوى فقوى المستضعفون، وضعف الأقوياء، وتحول المدافعون إلى مهاجمين..
وإنه لو وقف الأمر بالمسلمين عند هذا الحدّ لكان ذلك نصرا لهم، وفتحا..
ولكن لم يكن هذا الفتح إلا مقدمة لفتوحات كثيرة، منها فتح مكة، ودخول أهلها فى دين الله..
وفى هذا يقول الرسول الكريم، وقد بلغه أن لغطا بين أصحابه يدور حول هذه القضية، وأنهم لم يتحقق لهم ما وعدهم الرسول به من دخول مكة. يقول الرسول الكريم:
«بئس الكلام هذا!! بل هو أعظم الفتوح، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم فى الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا» وقوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» .. هو بيان لما ترتب على هذا الفتح من سوابغ النعمة، وفواضل الإحسان، التي يفيضها بالله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم..
إن هذا الفتح هو بداية الخاتمة لجهاد النبي.. صلوات الله وسلامه عليه، وهو القدم الأولى التي بضعها النبي على طريق النصر لدعوته، التي قام عليها(13/395)
هذه السنين. والتي احتمل فى سبيلها ما احتمل من عنت قريش، وإخراجها له من بيته فى البلد الحرام، وما أصيب على يديها فى أحبابه وأصحابه الذين استشهدوا فى الحرب معها..
إنه وقد انكسرت شوكة قريش فى صلح الحديبية، فقد بات الأمر وشيكا بانتهاء هذا الصراع المحتدم، بين الدعوة الإسلامية، وبين المتربصين بها، وأنه بين يوم وليلة ستنحسر هذه السحابة السوداء من سماء الإسلام، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا..
إذن، فقد أدّى النبي رسالته، وحقق ما ندبته السماء له، ودعته إليه..
وإذن فليتقبل النبىّ عطاء الله له، وليسعد بما سيلقى من جزاء كريم، على هذا الجهاد العظيم، الذي ظلّ قائما عليه نحو عشرين عاما، موصولا لبلها بنهارها..
فهذا الفتح، وإن كان من الله، فقد أضاف الله سبحانه وتعالى جزاء هذا الفتح إلى الرسول الكريم.. «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» .
فالفتح، فتح الله، وهو فتح للنبىّ، ومغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهداية له إلى صراط الله، ثم نصر عزيز، تختم به الانتصارات التي بدأت بصلح الحديبية..!
وقد وصف صلح الحديبية بأنه فتح مبين، على حين وصف فتح مكة الذي سيلى هذا الفتح، بأنه نصر عزيز.. وذلك لأن صلح الحديبية، لم يكن الفتح فيه من قوة غالبة قاهرة، إذ كان لا يزال فى قريش شىء من القوة،(13/396)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
والاستعداد للقاء النبىّ والمسلمين.. أما فتح مكة فقد كان تحت قوة قاهرة، وسلطان غالب، فلم يكن فى قريش من تحدّثه نفسه بلقاء النبىّ والمسلمين، والتصدي لهذا الجيش الغالب الذي دخل مكة على أهلها، وأعطاهم الأمان على حياتهم وأموالهم، إذا هم دخلوا فى دين الله، وقد دخل القوم فى دين الله صاغرين.. فهو نصر عزيز غالب، لا يلقاه القوم إلا فى ذلّة وانكسار.
إن صلح الحديبية يقدّم الحساب الختامى لجهاد النبىّ فى سبيل الدعوة، فيغفر له ربّه كلّ ما ألمّ بحمى النبوة، أو طاف بحرمها الطهور، من غبار هذا الاحتكاك المتصل بالحياة وأهلها.
إن هذا الغفران، هو عملية اغتسال بتلك الأنوار القدسية المنزلة على النبىّ من السماء، فلا يعلق بها بعد هذا شىء من غبار هذه الأرض.. وبهذا تتم نعمة النبوة، وتخلص للنبىّ، علوّية، قدسية، لم يمسسها سوء.
الآيات (7- 4) [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)(13/397)
التفسير:
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .
ومن هذا الفتح المبين، الذي فتحه الله للنبىّ الكريم، ومن هذا الخير العظيم المنزّل على النبىّ من ربّه بسبب هذا الفتح- من هذا وذاك، يأخذ المؤمنون نصيبهم، إذ كانوا قبسا من نور النبوّة، ومشاعل تنير الطريق للناس، من بين يدى كوكبها المتألق، ومن خلفه، فكان لهم نصيبهم من هذا الخير العظيم، وذلك النصر العزيز الذي ساقه الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ الكريم قائد هذه الحملة السماوية المباركة.
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» - هو بشرى إلى المؤمنين، فى مقابل البشرى التي حملها القرآن إلى النبي الكريم فى قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .. أي إنا فتحنا لك فتحا مبينا، وأنزلنا السكينة فى قلوب المؤمنين..
وقوله تعالى للمؤمنين: «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» هو فى مقابل قوله تعالى للنبىّ: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» ..
ولكلّ من النبىّ والمؤمنين، مقامه، ومنزلته من ربّ العالمين، ومن سوابغ رحمته، وفواضل إحسانه..
فالنبىّ له هذا الفتح المبين، والمغفرة الشاملة للعامة، التي لا تبقى على شىء يطوف بحمى النبوّة من هنات وهفوات، فيسوّى حسابه على أن تكون له النبوّة خالصة بجلالها وصفائها، بعد هذه الرحلة الطويلة التي طوّفت بها فى(13/398)
دنيا الناس، وخالطت فيها وجودهم، واحتكّت بخيرهم وشرّهم، وواجهت أخيارهم وأشرارهم..
أما المؤمنون، فإن لهم من هذا الفضل الإلهى ما يحفظ عليهم إيمانهم، ويزكّيه، وينقّيه، وينمّيه.. «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» .
والسكينة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على قلوب المؤمنين، هى ما وقع فى قلوبهم من رضا وطمأنينة وسكينة، بعد هذه الموجات التي تدافعت فى صدورهم، من وساوس الحيرة والبلبلة، ساعة صلح الحديبية.. فلقد اضطربت كثير من القلوب، وزاغت كثير من الأبصار، وقصرت كثير من الأفهام عن أن ترى ما وراء هذا الصلح من خير كثير، وفتح مبين، فوقعت فيما وقعت فيه من حيرة وبلبال.
وقد كانت هذه التجربة القاسية التي عاناها المؤمنون من أحداث الحديبية- باعثا يحرك فى قوة وعنف، ما فى كيانهم من مشاعر، وما فى عقولهم من مدارك، ليقابلوا بها هذه المتناقضات التي بدت لهم من ظاهر موقفهم الذي اتخذوه من النبىّ مع أحداث الحديبية، حتى إذا بلغ الأمر غايته من ضيق الصدور، وحرج النفوس، طلع عليهم من حيث لم يحتسبوا ولم يقدروا- ما وراء هذا الصلح من خير كثير، وفتح مبين، فكان لذلك من السلطان على العقول، والأثر فى النفوس، ما للقائه المكروب المضطرب فى محيط الصحراء، تطلع عليه من حيث لا يحتسب قافلة تنتشله من يد هذا الضياع المستبدّ به!! إنه بعث له من عالم الموتى، وحياة مجدّدة له بين الأحياء.. وإنها لحياة عزيزة غالية، تلك الحياة الجديدة التي لبسها، وإنه لواجد فيما يستقبل من حياة طعما جديدا لتلك الحياة، وحرصا شديدا على ألا ينفق شيئا منها فى غير النافع المفيد..(13/399)
كذلك تماما كان شأن المؤمنين أثناء صلح الحديبية، ثم بعد هذا الصلح، وما لقيهم على طريقهم من فتح مبين، ونصر عزيز.. فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم.. وهكذا يربى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، ويصنع لهم من الأحداث والمواقف ما يثبت به خطوهم على طريق الإيمان، فلا تنال من إيمانهم الأحداث، ولا تتسرب إلى مشاعرهم الوساوس..
وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» هو تعقيب على هذا الخبر الذي تضمن هذا الخير الكثير والعطاء الجزيل، الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على النبي، ومن معه من المؤمنين.. فهذا العطاء وذلك الإحسان، هو من مالك الملك، ومن بيده ملكوت السموات والأرض.. وهو سبحانه إذ يخبر بهذا الخبر، وبعد به، فإنما هو خبر صادق، وعدة محققة، لأنها ممن له جنود السموات والأرض، كلها مسخرة له، عاملة بمشيئته.. مشيئة العليم الحكيم.. العليم الذي يقضى بعلم، الحكيم، الذي يمضى كل أمر بتقدير وحكمة..
قوله تعالى:
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» ..
هو تعليل لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ..» .
فهذه السكينة التي أنزلها الله فى قلوب المؤمنين، هى التي أمسكت بهم على طريق الإيمان، وأمدتهم بعزائم قادرة على ملاقاة الشدائد والمحن التي ابتلوا بها من(13/400)
الكافرين حتى استطاع المسلمون أخيرا أن يهزموا الشرك، وأن يدكّوا حصونه..
وفى هذا الصراع الذي احتدم بين المؤمنين والمشركين والمنافقين، كان الابتلاء، الذي أخذ به كل فريق مكانه، من الإيمان بالله، أو الكفر به، حيث يجزى كل فريق الجزاء الذي يستحقه من الثواب أو العقاب..
فالمؤمنون والمؤمنات، يدخلهم الله جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها، متجاوزا لهم عن سيئاتهم، التي لو حوسبوا عليها، فلربما حجزتهم عن الجنة، أو عوّقت مسيرتهم إليها..
وفى تقدم إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة على تكفير السيئات، وذلك على خلاف الظاهر، الذي يقضى بأن يكون تكفير السيئات أولا، ثم دخول الجنة، ثانيا، إذ لا دخول للجنة إلا بعد تكفير السيئات- فى هذا إشارة إلى أن دخول الجنّة أمر مقضىّ به لكل مؤمن ومؤمنة، سواء كان ذلك من غير عذاب، أو بعد أن يستوفى العصاة من المؤمنين عذابهم، فهم جميعا موعدون بالجنة، وحسب المؤمن- أيّا كان- أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، كما يقول سبحانه: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ»
..
هذه هى القضية.. أما تكفير السيئات، فهو إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى ختام الآية: «وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» .. أي كان دخول الجنة، والقرب من الله، والنعيم برضوانه- «فَوْزاً عَظِيماً» .. أما تكفير السيئات والتجاوز عنها بالعفو والمغفرة، فذلك إلى حكمة الله، وإلى مشيئته فى عباده، إن شاء غفر، وإن شاء حاسب وعاقب.
أما المنافقون، والمنافقات، والمشركون والمشركات، الذين لم يكن نفاقهم وشركهم إلا عن سوء ظن بالله، وأنه سبحانه لا يقوم على هذا الوجود، حسب تقديرهم، ولا يعلم ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور- فهذا الظن الباطل، هو(13/401)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
الذي أفسد عليهم صلتهم بالله، فلم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا، فكان أن ساء مصيرهم، ووخمت عاقبتهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (23: فصلت) وقدم المنافقون والمنافقات على المشركين والمشركات، فى مقام الإساءة والبلاء- لأن النفاق، أغلظ إثما، وأشنع جرما من الشرك، لأن الشرك وجه واحد من وجوه الشر، أما النفاق فهو وجوه كثيرة من الشر، يعيش بها المنافق، ويلبسها وجها وجها، ويتبدّلها حالا بعد حال..
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو بيان لسلطان الله المتمكن فى هذا الوجود، وأنه سبحانه، بيده الأمر كله، يجزى المحسن إحسانا، ويضاعف له، ويجزى المسيء سوءا، ولا يظلمه:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) .
الآيات (14- 8) [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 14]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)(13/402)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» .
هو استئناف لتقرير خبر آخر عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وما له عند ربه- سبحانه وتعالى- من العطايا الجليلة، والمواهب العظيمة..
فقد فتح الله سبحانه وتعالى عليه هذا الفتح المبين، ووعده بهذا النصر العزيز، وأتمّ عليه نعمته بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك كله واقع من وراء إحسان سبق، وفضل تقدم من الله سبحانه وتعالى، وهو اصطفاؤه سبحانه عبده محمدا للنبوة، والرسالة، والتي استحق بقيامه بحق الرسالة، وحمل أعبائها، أن يعطى هذا العطاء الجزيل، وأن يفتح له هذا الفتح المبين..
فاصطفاء النبي الكريم للرسالة، منحة خالصة من الله سبحانه وتعالى، وإحسان مبتدأ، ليس لسعى النبي دخل فيه، ولا لجهاده ولا اجتهاده سبيل إليه.
فذلك أمر لا يناله أحد بعمل، ومطلب لا يبلغه إنسان باجتهاد.. إنه رحمة من رحمة الله، وفضل من فضله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
أما ما فتح الله به للنبىّ، وما مكّن له من نصر، وما غفر له من ذنب-(13/403)
فهو- وإن كان من فضل الله ورحمته- فإن للنبى سببا متصلا به، بما كان منه من جهاد وبلاء، فى القيام بأمر ربه، والوفاء بأداء الأمانة التي حملها..
وقدم المسبّب على السبب، أي قدّم الفتح، والنصر، ومغفرة الذنب، على اصطفاء الرسول للرسالة، وعلى الجهاد الذي جاهده من أجل الوفاء بها- وذلك للإشارة إلى أن هذه الأسباب هى مجرد أمور ظاهرية، وأن ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فى خلقه لا يتوقف على سبب، وأن ما قضى به سبحانه للنبىّ الكريم، من فتح ونصر ومغفرة لما تأخر من ذنبه وما تأخر، هو فضل خالص من فضل الله، وإحسان مطلق من إحسانه إلى رسوله الكريم، وأن الرسالة نعمة أخرى، وأن حمل أعبائها، هو شكر لتلك النعمة العظيمة، التي أقامت النبي مقام الإمام للناس جميعا..
قوله تعالى:
«لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ..
عزّروه: أي نصروه، وعزّزوه، وأيدوه..
واللام فى قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا» لام التعليل..
وقد قرىء بضمير الغيبة: ليؤمنوا، ويعزّروه، ويوقروه، ويسبحوه..
واختلف فى مرجع ضمير النصب فى الأفعال.. والرأى على أنها جميعا عائدة إلى الله سبحانه وتعالى.. فالتعزير، والتوقير، والتسبيح، كلها عائدة إلى الله سبحانه على هذا الرأى..
على أننا نخالف هذا الرأى، ونرى- والله أعلم- أن الضمائر، بعضها(13/404)
عائد إلى الله سبحانه وتعالى، وبعضها عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فالتعزير، للرسول، وهو فى الوقت نفسه تعزير لله، ونصر لرسول الله، وتأييد لدينه.. ولكن إضافة هذا التعزير للرسول تكريم له، لأنه القائم على دين الله، وحامل راية الجهاد فى سبيل الله.. ويشهد لهذا قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
(157: الأعراف) فالضمائر هنا كلها عائدة إلى الرسول الكريم من غير شك، والقرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا..
وأما التوقير فهو لله، وللرسول.. وأما التسبيح بكرة وأصيلا، فهو خالص لله وحده..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..
المفسرون على رأى واحد، بأن المراد بالمبايعة فى الآية الكريمة، هو بيعة الشجرة، وتسمى بيعة الرضوان، وهى التي تشير إليها الآية الكريمة بعد هذا، حسب هذا الرأى.. والآية هى قوله تعالى:
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» ..
والرأى عندى- والله أعلم- أن المبايعة هنا عامة، تدخل فيها البيعة على الإسلام، كما تدخل فيها بيعة الرضوان على القتال، وكلّ بيعة بين النبي والمؤمنين.. فقد كان الذين يستجيبون لرسول الله، ويدخلون فى دين الله،(13/405)
- كانوا يبايعون النبىّ، على الإيمان يا لله ورسوله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجهاد فى سبيله، كما بايع الأنصار النبي- صلى الله عليه وسلم- بيعتى العقبة الأولى، والثانية، على هذا الإيمان، وعلى أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم..
والذي رجّح عندنا هذا الرأى، أمور منها:
أولا: أن بيعة الرضوان كانت لأمر عارض، وهو قتال المشركين، إذا ثبت أنهم اعتدوا على «عثمان» مبعوث رسول الله إليهم.. فلما ظهر أن المشركين لم ينالوا عثمان بأذى، بل إنهم عرضوا عليه أن يطوف بالبيت إن أراد، ولكنه أبى أن يطوف إلا أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما ظهر هذا، انحلّ عقد هذه البيعة، وبقي المبايعون على عقدهم الأول الذي دخلوا به فى الإسلام.. فلم يقع فى هذه البيعة نكث، لأن المسلمين لم يدخلوا فى حرب مع المشركين تحت حكم هذه البيعة، ومن ثمّ لم يكن متّجه لهذا التهديد الذي جاء فى قوله تعالى: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» وإنما متجهه هو إلى عموم النكث، وفى جميع المواقف والأحوال..
وثانيا: أن بيعة الرضوان، قد ذكرت ذكرا خاصا فى قوله تعالى:
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» وفى الآية الكريمة أن الله سبحانه قد رضى عن جميع المؤمنين الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة، وأن الله سبحانه، قد علم ما فى قلوبهم من إذعان لدعوة رسول الله، وولاء وتسليم له، مع ما كانوا يجدون فى صدورهم من حرج، فى التوفيق بين ما جاءوا له، وهو دخول المسجد الحرام، وبين هذا الصلح الذي(13/406)
تمّ بينهم وبين قريش، ولهذا أنزل الله السكينة عليهم، وجزاهم جزاء طيبا، بهذا الفتح القريب، وهو فتح خيبر..
فالمؤمنون الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة، دخلوا جميعا فى هذا الحكم، وهو رضا الله عنهم، وإنزال السكينة على قلوبهم.. وهذا يقطع بأن أحدا منهم لم ينكث أبدا..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» - إشارة إلى أن مبايعة المؤمنين لرسول الله، ليست لحساب الرسول، ولا لشأن من شئونه الخاصة، وإنما هى بيعة خالصة لله، وللجهاد فى سبيل الله، وما الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلّا قائم بأمر الله، قائد للمجاهدين فى سبيله..
وقوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» - هو توكيد لهذه الحقيقة، وهى أن البيعة لله، وأن الذين أعطوا أيديهم مبايعين لرسول الله، إنما أعطوا أيديهم لله، ويد الرسول التي صافحت هذه الأيدى المبايعة، هى- من غير تشبيه- نيابة عن يد الله..
وهذا كله من قبيل التمثيل، كما فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ» .. فالأمر فى ظاهره ليس بيعا ولا شراء، ولكنه فى واقعه بيع ربيح..
قوله تعالى:
«سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» ..(13/407)
هو إخبار من الله سبحانه وتعالى للنبىّ الكريم، بما سيلقاه به الذين تخلفوا من الأعراب عن دعوة الرسول لهم، فى السير معه إلى مكة، لزيارة البيت الحرام، وليكثر بهم أعداد المسلمين، ليكون فى ذلك ما يرهب قريشا، فلا تعترض سبيل النبىّ والمسلمين لزيارة بيت الله.. ولقد تقاعس هؤلاء الأعراب الذين كانوا يعيشون قريبا من المدينة، وتعللوا بأعذار شتى، وفى تقديرهم أن الذين يصحبون النبىّ فى هذا المسير، لن يسلموا من القتل، ولن يرجعوا إلى أهليهم أبدا، وإنه لهو الهلاك المحقق لهذه الجماعة التي استجابت للرسول، وسارت معه.. إذ كيف يعقل- وهذا تقديرهم- أن يواجه النبىّ والمسلمون قريشا بهذا العدد من المسلمين، الذين لا يتجاوز عددهم ألفا، وأن يدخلوا عليهم ديارهم، ويطئوا بلدهم، وقد كانت قريش فى الأمس القريب، فى موقعة أحد، تهدد المسلمين، وتكاد تدخل عليهم المدينة، وتستولى على ديارهم؟
فلما سار النبىّ الكريم مسيرته بأصحابه الذين استجابوا له، وتم صلح الحديبية بينه وبين قريش، وأخذ النبىّ بأصحابه طريقه إلى المدينة، وفتح الله له «خيبر» من غير قتال، - لما كان هذا أخذ هؤلاء المخلّفون من الأعراب يدبرون أمرهم، ويعدّون المقولات التي يلقون بها النبىّ، والمعاذير التي يعتذرون بها إليه، عند رجوعه إلى المدينة..
ومن تلك المقولات ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم فى قوله تعالى:
«شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا» ..
وقد فضح الله سبحانه وتعالى كذب هذا القول، وردّه على قائليه، فقال سبحانه:
«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» أي أنه ليست الأموال والأهلون هى التي شغلت هؤلاء الأعراب عن الاستجابة لدعوة رسول الله، ولكن(13/408)
الذي أمسك بهم عن تلبية هذه الدعوة، هو ما وقع فى نفوسهم من شبح الخطر الذي يترصد كلّ من يسير هذه المسيرة، ويدخل على قريش ديارها..
وقوله تعالى: «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟» - هو رد على هؤلاء المخلّفين، وعلى سوء ظنهم بالله سبحانه وتعالى، وجهلهم بما له جل شأنه من سلطان مطلق فى هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وأن أحدا لا يملك معه ضرّا أو نفعا..
وقوله تعالى: «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» ، هو تقرير لتلك الحقيقة التي خفيت على هؤلاء المخلفين، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون، علم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، فى الأرض ولا فى السماء..
قوله تعالى:
«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» .
هذا هو ما انطوت عليه صدور المخلفين من أوهام وظنون، تسلطت عليهم، فأخذوا هذا الموقف الخاسر، الذي عزلهم عن مواقع الخير، وحرمهم ما ناله المؤمنون الذين ساروا فى مسيرة رسول الله، من رضا الله عنهم، ومن هذا الخير الذي امتلأت به أيديهم من غنائم خيبر..
والبور: الهلاك.. والقوم البور، هم الهالكون، الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، وذلك هو الخسران المبين..
قوله تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً» .(13/409)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
هو بيان للجهة التي جاء منها هذا الهلاك والبوار لأولئك المخلّفين، وهو أنهم لم يكونوا مؤمنين بالله ورسوله، إذ لو كانوا مؤمنين حقّا لما كان منهم هذا التخلف عن دعوة الرسول لهم.. إذ الإيمان- فى حقيقته- ولاء مطلق، ومتابعة يلا تردد، ولا مراجعة..
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
هو إلفات إلى الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالى، وهو الإيمان القائم على اليقين بأن الله سبحانه، له ملك السموات والأرض، وأنه وحده سبحانه، يملك الضر والنفع، فمن آمن بالله على هذا المفهوم واستيقنه، فإنه- فى سبيل الاحتفاظ بهذا الإيمان، والدفاع عنه- يتحدّى الناس جميعا، لا يخاف سلطانا، ولا يرهب قوة..
وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» - هو دعوة إلى الذين ساء ظنهم بالله، أن يقيموا إيمانهم بالله على هذا المفهوم، فإن هم فعلوا، غفر الله سبحانه وتعالى لهم ما كان من تقصير فى حق الله، وسوء ظنّ به.
الآيات (17- 15) [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 17]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)(13/410)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .
هو إخبار من الله سبحانه وتعالى، لما سيكون من هؤلاء المخلّفين، بعد أن يلتقوا بالنبي، وقد رجع من مسيرته منتصرا غانما، من حيث قدّروا الهزيمة، والهلاك.. إنهم سيعرضون على النبي أن يقبلهم فى المجاهدين إذا هو سار مسيرة كتلك المسيرة، التي يكون منها الغنم والظفر.. وهذا ما يكشف عما فى قلوبهم من إيمان زائف.. فهم إنما يكونون فى المؤمنين المجاهدين، إذا كان من وراء هذا الإيمان والجهاد، سلامة ومغنم.. والإيمان- فى حقيقته- هو بذل، وتضحية، غير منظور فيه إلى تحصيل كسب، أو ظفر بمغنم..
وقوله تعالى: «إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» -(13/411)
بيان للغاية التي يتغيّاها هؤلاء المخلفون من الأعراب، من هذا العرض الذي يعرضونه على النبي بالسير معه إلى الجهاد، وأنهم إنما يسيرون حيث تكون هناك مغانم يملئون أيديهم منها..
وقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» .. كلام الله: هو حكمه وقضاؤه، وهو أن تكون المغانم من حظّ المجاهدين، لا أولئك الذين يتصيدون الفرص لتقع إلى أيديهم الغنائم من غير قتال.. وهؤلاء المخلفون لا يخرجون مع المجاهدين إلا إذا كان الخروج إلى مغانم من غير قتال، وهذا من شأنه- لو حدث ولن يحدث- أن يبدل حكم الله الذي جعل الغنائم المجاهدين..
وفى هذا النظم الذي جاء عليه الخبر، تيئيس للمخلفين أن يكون لهم فى هذه المغانم نصيب، لأن أخذهم شيئا منها، فيه تبديل لكلمات الله، وإنه لا مبدّل لكلمات الله..
وقوله تعالى: «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» هو تعقيب على قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» وتصريح بالحكم الذي تضمنه، فإن من مضمون قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» أنهم لن يخرجوا مع المؤمنين، لأن فى خروجهم تبديلا لكلمات الله، ولا مبدل لكلمات الله..
وقوله تعالى: «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ» .. الإشارة هنا هى إلى الحكم الذي جاء فى قوله تعالى: «لَنْ تَتَّبِعُونا» .. أي مثل هذا الحكم الذي قضينا به عليكم، وهو ألا تتبعونا، كان قضاء الله فيكم وحكمه عليكم من قبل هذا الحكم الصريح الذي واجهناكم به، أيها المخلفون، فقد قال الله(13/412)
من قبل فيكم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» - ومضمون هذا أنكم لن تخرجوا معنا..
هذا، وقد اضطربت آراء المفسرين فى هذا، وكثرت مقولاتهم، ولم نر فيما رأينا من آراء ومقولات، ما نطمئن إليه.. فكان هذا رأينا الذي نرجو أن يكون صوابا.. والله أعلم..
قوله تعالى: «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» - هو من مقولات المخلفين التي يمكن أن يقولوها، ردّا على قول النبي والمؤمنين لهم:
«لن تتبعونا» - وهو ردّ أحمق جهول، فيه مغالطة فاضحة.. إذ كيف يحسدهم المؤمنون، وقد دعوا من قبل إلى الجهاد، فأبوا وتخلفوا؟
وكيف وطريق الجهاد مفتوح على مصراعيه للمجاهدين حقّا، الذين يريدون بجهادهم وجه الله، وإعلاء دين الله؟.
وقوله تعالى: «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أي أن هؤلاء الأعراب المخلفين، إنما هم على عمى وجهل، ولو أنهم كانوا على شىء من العلم بدين الله، وبحقائق هذا الدين، لما وقفوا هذا الموقف من الجهاد، ثم لما كان منهم هذا الاعتراض فى طريق المجاهدين بهذا المنطق الجهول.. أما مالهم من فقه قليل، فهو ما كان من أمر الدنيا وشئونها، ومع هذا فهو قشور من الفقه، لا يصل إلى شىء من لباب المعرفة، وهذا مثل قوله تعالى: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) .
قوله تعالى:
«قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ(13/413)
تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» .
هذه دعوة إلى هؤلاء المخلفين، تقطع عليهم مقولتهم للمؤمنين: «بل تحسدوننا» .. وهم فى هذه الدعوة مدعوون إلى قتال قوم أولى بأس شديد، وأنهم مطالبون كذلك فى هذا القتال أن يقفوا موقف المجاهدين حقّا، وهو ألا يتحولوا عن القتال إلّا إذا استسلم لهم العدوّ، ودخل فى دين الله..
وقد اختلف المفسّرون فى هؤلاء القوم ذوى البأس الشديد، الذين سيدعى هؤلاء المخلفون إلى قتالهم، حين يندب المؤمنون إلى قتالهم..
ويذهب كثير من المفسرين، إلى أن هؤلاء القوم هم فارس، والروم..
وهذا غير صحيح من وجهين:
أولهما: أن قتال فارس والروم لا يكون فيه قتالهم إلى أن يدخلوا فى الإسلام، بل إنه يكتفى منهم بقبول الجزية فى حال هزيمتهم، وإبائهم أن يدخلوا فى الإسلام، وإنما حكم القتل أو الإسلام هو فى حقّ العرب وحدهم، لأنهم هم الذين تقوم عليهم الحجة كاملة، بتلك المعجزة التي فى كتاب الله المعجز، الذي جاء بلسانهم..
والوجه الآخر، هو أن هؤلاء المخاطبين المخلفين، ينبغى أن تكون دعوتهم إلى قتال هؤلاء القوم بعد زمن قليل من وقت نزول هذه الآية..
حتى لا يذهب الموت بكثير منهم، إذ طال الزمن بهم، وقتال الفرس والروم جاء بعد نزول هذه الآيات، بنحو عشر سنين..
والذي يصحّ عندنا من هذه المقولات، هو القول بأن القوم ذوى البأس الشديد، هم بنو حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، الذين ارتدوا عن الإسلام،(13/414)
بعد وفاة النبي، صلوات الله وسلامه عليه، وكان ذلك بعد أربع سنين من نزول هذه الآية..
وبنو حنيفة، قد ارتدّوا عن الإسلام، بعد وفاة الرسول، فندب أبو بكر- رضى الله عنه- المسلمين إلى جهادهم، وقد حاربوا جيوش المسلمين حربا قاسية، حتى لقد استشهد من المسلمين أعداد كثيرة، كان من بينهم سبعون شهيدا من القرّاء وحدهم، كما يقول ذلك أصحاب المغازي..
وهذا كله حديث عن مستقبل لم يجىء بعد، وإنما هى أحداث ومواقف سوف تقع تباعا، ابتداء من نزول هذه الآيات..
قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» .
رفع الحرج هنا عن هؤلاء الذين ذكرت الآية الكريمة صفاتهم، إنما هو فى مقام الجهاد فى سبيل الله.. فهؤلاء معفون من الجهاد، بحكم الأعذار التي معهم.. وقد رتّبوا ترتيبا تنازليا.. فالعمى عذر قاطع، لا شبهة فيه فى الحرب، والعرج عذر غير ظاهر، قد يكون معه عجز عن القتال أو قدرة عليه، وأمر ذلك موكول إلى تقدير ولىّ الأمر، وإلى ضمير صاحب الآفة ودينه..
أما المرض، فهو عذر يغلب عليه الخلفاء، وأمره متروك تقديره للمريض نفسه، وإلى ما يمليه عليه دينه..(13/415)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
الآيات (26- 18) [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)(13/416)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .
المؤمنون الذين رضى الله عنهم، وشملهم بهذا الرضوان العظيم، هم الذين كانوا مع النبىّ فى الحديبية، والذين بايعوه على قتال المشركين، حين جاءت أخبار من مكة تقول: إن المشركين قد نالوا عثمان رضى الله عنه، بسوء، وقد كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعثه إليهم، ليخبرهم بأن الرسول وأصحابه إنما جاءوا معتمرين زائرين للبيت الحرام، ولم يجيئوا لقتال..
وقوله تعالى: «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» أي أن الله سبحانه وتعالى، مع هذا الرضوان الذي شمل به المؤمنين من أهل الحديبية- قد فتح عليهم خيبر وملأ أيديهم من مغانمها، وبهذا رجعوا ومعهم حظ الدنيا والآخرة جميعا..
ووصف الفتح بأنه قريب، وذلك لقرب زمانه، إذ كان على أيام من صلح الحديبية، ثم لقرب تناوله، إذ لم يلق المسلمون من أهل خيبر بلاء كثيرا، بل سرعان ما استسلم يهود خيبر ليد النبىّ، ونزلوا على حكمه..
قوله تعالى:
«وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .. أي وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها، فى قتالهم المشركين، والكافرين والمنافقين، ومنها غنائم هوازن فى موقعة حنين، ثم تلك المغانم الكثيرة فى حرب فارس والروم..(13/417)
قوله تعالى:
«وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» ..
هذا وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم على طريق الجهاد، بأنه سبحانه، سيمكّن لهم من مغانم كثيرة يأخذونها، وأن هذا الذي أخذوه فى «خيبر» ليس إلا ثمرة معجّلة من ثمار جهادهم، وإلا باكورة من بواكير هذا الثمر..
وقوله تعالى: «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» .. المراد بالناس هنا هم من واجههم النبىّ والمسلمون فى مسيرته تلك، وهم أهل مكة، وأهل خيبر، فهؤلاء، وهؤلاء، لم يدخلوا مع المسلمين فى حرب، بل عافاهم الله من هذا البلاء، وأعطاهم ثمرته، فسلّمت لهم قريش بحق دخولهم مكة، والطواف بالبيت الحرام، واستسلم لهم يهود خيبر، وسلّموا لهم ما بين أيديهم من أموال، وزروع..
وقوله تعالى: «وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» معطوف على محذوف، يفهم من قوله تعالى: «فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي لتكون هذه الغنائم جزاء طيبا لكم، وليكون منها آية للمؤمنين، يرون فيها أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن الجهاد، وأنه سبحانه قادر على أن يفتح لهم البلاد ويخضع لهم العباد من غير قتال.. ولكنّ هذا يحرم المجاهدين فضل الجهاد، ولا يجعلهم فى مكان هم أولى به من غيرهم، من رضوان الله، ومن الغنائم التي ينالها المجاهدون..
وقوله تعالى: «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» معطوف على قوله تعالى:
«وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» أي وليكون لكم من هذه الآية، من هذه الآية، ما يملأ قلوبكم(13/418)
إيمانا بالله، ويقينا بدينه، حيث ترون آثار لطف الله سبحانه، وشواهد قدرته..
قوله تعالى:
«وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» ..
الأخرى: هى مكة..
وقوله تعالى: «لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» صفة لمكة..
والمعنى، أنه إذا كان لكم فى مغانم خيبر، وفى غلبكم عليها- إذا كان لكم فى ذلك آية، فإن لكم فى أهل مكة آية أخرى، إذ كان المشركون فى صراع طويل معكم، وكانت الحرب بينكم وبينهم سجالا، وأنكم لم تقدروا أن تنالوا منهم الاستسلام لكم.. ثم هاأنتم هؤلاء ترون وقد جئتموهم لغير حرب، وفى عدد قليل، ومع هذا فقد ذلّوا بين أيديكم، وطلبوا عقد هدنة معكم، وليس ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بهم، وأخذ على أيديهم، وأوقع الرعب منكم فى قلوبهم..
قوله تعالى:
«وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..
أي أنكم أيها المؤمنون لا تقاتلون عدوكم بكثرتكم، ولكن تقاتلونهم بإيمانكم بالله، وتوكلكم عليه، وإخلاص نيتكم له، وهذا هو ضمان النصر لكم من ربكم..(13/419)
ولو أن هؤلاء المشركين- وهم فى عددهم، وشوكتهم، وفى بلدهم وبين أهليهم- لو أن هؤلاء المشركين، قاتلوكم يوم الحديبية، لنصركم الله عليهم، ولولّوا الأدبار منهزمين، ثم لا يكون لهم ولىّ يقوم لهم، ولا ناصر يفزع لنصرهم..
وهذا حكم مطلق على ما سيكون بين المسلمين والمشركين، منذ نزول هذه الآية.. فإن أي لقاء سيلتقى فيه المسلمون بالمشركين، لن يكون للمشركين فيه إلا الهزيمة، التي لا يقيلهم منها ولىّ ولا نصير..
وقد تحقق هذا، فلم يكن بين المسلمين والمشركين بعد الحديبية حرب، وإنما كان من المشركين استسلام، وإسلام، فى يوم الفتح..
قوله تعالى:
«سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» ..
«سنة» منصوب بفعل محذوف، وتقديره، لقد سنّ الله سبحانه وتعالى بهؤلاء المشركين سنة الله التي قد خلت من قبل، وهى سنة الله فيما بين أولياء الله وأولياء الشيطان، بين أهل الحق، وأهل الباطل.. وسنة الله: هى حكمه، وقضاؤه..
وحكم الله وقضاؤه، هو نصرة الحق وخذلان الباطل، كما يقول سبحانه:
«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» - ويقول تعالى:
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ..» (21: المجادلة) قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» ..(13/420)
يجمع المفسرون على أن ما تشير إليه الآية من كفّ أيدى المشركين عن المؤمنين، وكف أيدى المؤمنين عن المشركين- إنما هو عن صلح الحديبية..
ولكن قوله تعالى: «بِبَطْنِ مَكَّةَ» يردّ هذا القول.. فالمؤمنون لم يدخلوا مكة عام الحديبية، بل ولم يظفروا بالمشركين الظفر الذي يمكّن لهم منهم..
والذي نراه- والله أعلم- أن هذا إنما كان يوم الفتح، حيث دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- مكة، على رأس جيش من عشرة آلاف مقاتل، وأن قريشا قد فزعت لهذا، واستسلمت من غير قتال، طالبة الأمان من رسول الله، بعد أن مكن الله له من رقابهم، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه قولته الخالدة: «ما تظنون أنى فاعل بكم» ؟ - إنهم الآن بين يديه، وفى متناول سيوف المسلمين، وإن النبي قد ملكهم ملكا مطلقا، يتصرف فيهم كيف يشاء..
ولم يجد القوم جوابا يجيبون به على هذا التحدّى، الذي يستئير الحمية، ولكن لم يكن للقوم بعد مارأوا من جيش المسلمين- لم يكن عندهم بقية من حمية تستثار، فكان جوابهم للنبى، هذا الجواب الذليل المستسلم:
«أخ كريم! وابن أخ كريم!!» ..
ألا لقد ذلّت جباه المتكبرين، ورغمت أنوف المتعالين!! وقد كان رد النبىّ الكريم، سمحا كريما، كما هو شأنه فى جميع أحواله..
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أذهبوا فأنتم الطلقاء» !! لقد أطلقهم بتلك الكلمة الطيبة الكريمة من الأسر، وحفظ عليهم دماءهم التي كانت مهدرة! ولا يعترض على هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، بأن الآية تحدّث عن أمر(13/421)
وقع فعلا، وذلك فى قوله تعالى: «كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ..» بلفظ الماضي..
والجواب على هذا من وجهين:
أولهما: أن الإخبار عن المستقبل بالفعل الماضي، إشارة إلى تحققه، وأنه إن لم يكن قد وقع، فهو واقع لا شك فيه..
وثانيهما: أنه قد تكون هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، ثم أخذت مكانها من السورة، لتكون إلى جانب أحداث الحديبية التي تلقّى فيها الرسول الكريم قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .. فهذا الفتح يطوى فى كيانه فتح مكة، وإن كان فتحها لم يقع بعد..
قوله تعالى:
«هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» ..
هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ سبحانه المشركين بالخزي والخذلان، وسنّ بهم سنته- سبحانه- فى الذين خلوا من قبل.. ذلك لأنهم كفروا بالله ورسوله، وصدّوا النبي والمسلمين عن المسجد الحرام، ومنعوا الهدى أن يبلغ محلّه من البيت العتيق..
والخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، وللمؤمنين معه، الذين واجههم المشركون يوم الفتح..
وفى هذا إلفات للنبى وأصحابه إلى حالهم التي كانوا عليها يوم الحديبية وإلى حالهم اليوم من القوّة، والتمكن من قريش، وأن سيف الباطل الذي كانت(13/422)
تضرب به قريش فى وجوه المسلمين، وتلجئهم إلى الفرار من ديارهم- هذا السيف قد تحطم على صخرة الحق، وخذل أهله فى الموقف الحاسم، فى ساعة العسرة..
لقد استدار الزمن، وأصبح الضعفاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله- أصبحوا أصحاب هذا البلد الذي أخرجوا منه، وصار إلى أيديهم أن يخرجوا أو يقتلوا أولئك الظالمين الضالين الذين أخرجوهم بالأمس من ديارهم..
هذا بعض ما وقع فى مشاعر كل من المسلمين والمشركين من تلك المواجهة التي كانت بينهما يوم الفتح، كلّ منهما يراجع مسيرة الأحداث التي جرت بينهما، حتى إذا انتهوا إلى يوم الفتح هذا وجدوا مفارقات بعيدة بين بدء الأحداث ونهايتها، حيث انقلبت الموازين، وتبدلت الأوضاع، وأصبح الذين كانوا لا يملكون شيئا، يملكون كل شىء، وصار الذين كانوا يملكون كل شىء لا يملكون شيئا.. و «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» ..
قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» هو معطوف على ضمير النصب فى قوله تعالى: «وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي وصدوكم وأنتم محرمون عن أن أن تطوفوا بالبيت الحرام، وصدوا الهدى وهو معكوف عن أن يبلغ محله..
والهدى، ما يهدى للبيت الحرام من بهيمة الأنعام..
والمعكوف: أي المحبوس على هذه الغاية، والموقوف عليها، فلا يتصرف فيه ببيع ولا بغيره..
قوله تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ» ..(13/423)
جواب لولا محذوف، دل عليه المقام، وهو مقام تهديد للمشركين، وتذكير لهم، بجناياتهم الشنيعة على الدعوة الإسلامية، وعلى المسلمين..
والتقدير: لولا هؤلاء الرجال المؤمنون والنساء المؤمنات الذين يعيشون مع هؤلاء المشركين ولم يعلنوا إيمانهم، وأنهم قد يؤخذون بما يؤخذ به المشركون لو وقعت الحرب بينهم وبين المسلمين- لولا هذا لسلطكم الله عليهم يوم الفتح، وهم تحت أيديكم، ولذهبت سيوفكم بكثير من تلك الرءوس التي كانت تكيد للإسلام وتسوق الأذى والضر إلى أهله..
وقوله تعالى: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» هو صفة للمؤمنين والمؤمنات، أي أن هؤلاء الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، كانوا يسرّون إيمانهم، ويمسكون به فى قلوبهم.. خوفا من أهلهم المشركين- فهم فى نظر المؤمنين مشركون، يؤخذون بما يؤخذ به المشركون، لأنهم لا يعلمون عن إيمانهم شيئا..
وقوله تعالى: «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ» ..
المعرّة: المذمة، والعائبة التي تعيب الإنسان وتنقصه..
وفى إسناد المعرة إلى هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين يسرون إيمانهم، فى قوله تعالى: «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» - فى هذا إشارة إلى أن الذي يتوجه إلى المسلمين باللوم والعيب هم أولئك المؤمنون والمؤمنات أنفسهم، لأنهم هم الذين يعلمون أنهم مؤمنون، وأنهم قتلوا بيد إخوانهم المؤمنين، الذين خفى عليهم إيمانهم..
وقوله تعالى: «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» - هو تعليل لمفهوم المخالفة من جواب الشرط المحذوف، أي لولا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم- لولا هذا لسلطكم الله على المشركين، ولكنه سبحانه لم يسلطكم عليهم، ليدفع عنكم المعرّة، بما تصيبون(13/424)
من المؤمنين والمؤمنات، وليدخل فى رحمته من يشاء.. فإن لله سبحانه فى هؤلاء المشركين من يريدهم لدينه، ويدخلهم فى رحمته، ولهذا مدّ لهم فى الأجل، ودفع عنهم أيدى المسلمين من أن تقضى عليهم، وذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا، وليدخل فى رحمته من يشاء من هؤلاء المشركين..
وقوله تعالى: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» أي لو انفصل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين أرادهم الله للإيمان- لو انفصل هؤلاء وهؤلاء عن كيان المشركين، الذين لن يؤمنوا بالله أبدا، لو انفصلوا عنهم لعذاب الله سبحانه الذين كفروا منهم عذابا أليما، بأن يسلطكم عليهم أو يرسل عليهم عذابا من عنده، ولكن الله سبحانه- حماية للمؤمنين والمؤمنات ودفعا لما يلحقهم من مكروه إذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين الذين يخالطونهم ويمتزجون بهم- لم ينزل عذابه فى الدنيا بهؤلاء المشركين الذين لن يؤمنوا أبدا، وأنظرهم إلى يوم الدين..
وهكذا أكرم الله المؤمنين، فلم يفجعهم فى أهليهم من المشركين، ولم يرهم ما يسوءهم فيهم، وهكذا يصنع الله لأوليائه..
قوله تعالى:
«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ..
الحمية الغيرة، والأنفة، وهى التي تحتمى بها الحرمات.. وهى محمودة إذا كانت فى جانب الحق، والعدل والإحسان، ومذمومة إذا كانت فى جانب الهوى والسّفه، والضلال..(13/425)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وحمية الجاهلية، حمية استعلاء، وتطاول بغير حق، لا يضبطها عقل، ولا تسوسها حكمة..
أي أنه على حين امتلأت قلوب المشركين الذين كفروا من حمية الجاهلية، وغذّوها بهذه المشاعر الكاذبة الفاسدة، بما كان لهم من قوة ظاهرة على المسلمين- فإن الله سبحانه وتعالى حين منح المسلمين القوة، ومكن لهم من هؤلاء الكافرين، حرس هذه القوة من أن تكون أداة بغى وعدوان، فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، ونزع ما فى قلوبهم من حفيظة على المشركين وألزمهم كلمة التقوى، وهى الكلمة التي عفا الرسول صلوات الله وسلامه عليه بها عن المشركين، حين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» - فهذه الكلمة التي لا يقولها فى هذا المقام إلا رسول الله، وهو أحق بها وأهلها من دون الناس جميعا، والمؤمنون هم على هذا المورد الطيب الذي ورده الرسول، فهم بهديه مهتدون، وعلى سنته قائمون..
الآيات (29- 27) [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)(13/426)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً»
..
هو ردّ من الله سبحانه وتعالى على ما وقع فى نفوس بعض المسلمين من مشاعر القلق، والضيق، والاتهام، لما فاتهم من دخول المسجد الحرام يوم الحديبية، وقد جاءوا إليه وهم على يقين بأنهم داخلوه، تصديقا للرؤيا التي رآها النبىّ وأخبرهم بها..
فقوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» تصديق لرؤيا الرسول الكريم، وأنها رؤيا من الله، وأنها الصدق المطلق، والواقع المحقق، وإن كان تأويلها لم يجىء بعد..
وقوله تعالى: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» - هو جواب لقسم محذوف، وهذا القسم هو لتأكيد هذا الخبر الذي يخبر الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، وأنهم داخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، لا تعترضهم قريش، ولا يقع منها ما يسوؤهم، وأنهم سيقضون عمرتهم، ويحلّقون ويقصرون، إيذانا بالحلّ من العمرة وإحرامها..(13/427)
والتحليق، هو أن يحلق بعضهم لبعض شعورهم.
والتقصير، هو قصّ الشعر.. ولو بضع شعرات منه.
وقوله تعالى: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» - أي أن الله سبحانه وتعالى لم يقدّر للنبى والمسلمين دخول المسجد الحرام هذا العام، لأمر أراده، وحكمة لا يعلمها إلا هو، فصرف المسلمين عن دخول مكة هذا العام، وجعل بين صرفهم عنها، ودخولهم إياها الذي وعدوا به- جعل بين هذا الوقت وذلك، فتحا قريبا، هو فتح خيبر..
فكان للمسلمين من ذلك فتحان: فتح قريب، هو فتح خيبر، وفتح يأتى بعده، هو فتح مكة..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» أي الذي جعل من دون ذلك فتحا قريبا، هو الله سبحانه، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليكون على يديه تبليغ هذا الدين، الذي سيجعله الله فوق كلّ دين.. وهذا وعد من الله سبحانه، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد الذي لن يخلف أبدا..
قوله تعالى:
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» .(13/428)
بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الفتح» .
وبهذا الفتح الذي وعد الله المؤمنين تقوم دولة المسلمين، ويأخذ مجتمعهم مكانه فى الحياة، ويرى الناس وجه الإسلام فى هذا المجتمع.
والصفة التي تغلب على هذا المجتمع، ويعرف بها فى الناس، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار، الذين يحادّون الله ورسوله، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على دين الله، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين.
هذا حالهم مع أعداء الله.. أما هم فيما بينهم فهم رحماء، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة، تجمعهم أخوة بارّة فى الله، وفى دين الله..
هذا ما تنطوى عليه صدورهم، وتفيض به مشاعرهم، نحو أعداء الله، وأوليائه..
أما ما يراه الناس من ظاهر أمرهم، فهو اجتماعهم فى الصلاة، وتولية وجوههم جميعا لله.. يركعون معا، ويسجدون معا.. يريدون بذلك مرضاة الله، ويبتغون فضله وإحسانه..
فإذا لم يرهم الرائي فى مقام الصلاة، رأى منهم أثر هذه الصلاة، وما يترك السجود على جباههم من آثار، هى سمة المسلم المصلّى، وهى الشارة التي تشير إليه، وإلى الدين الذي يدين به..
وهذا يعنى أن الصلاة هى شعار المسلم، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام، ومن هنا كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان بالله.. وفى الحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» ..
وفى الحديث أيضا: «العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر» ..
يريد تركها عامدا منكرا.(13/429)
وقوله تعالى: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أي هذه الصفة هى صفة المسلمين التي وصفهم الله بها فى التوراة..
والإشارة: إما أن تكون إلى جميع هذه الأوصاف، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» ..
وقوله تعالى: «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» ..
الشطء: أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض، وشاطىء الشيء، حافته.. أي ومثل المؤمنين الذين مثّلهم الله سبحانه وتعالى به، فى الإنجيل، هو الزرع، يبدأ بذرة هامدة فى الثرى، فإذا أصابها الماء، اهتز كيانها، ودبّ دبيب الحياة فيها، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها- أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور، وأن تلتمس لها طريقا إليه، من بين هذا الظلام المطبق عليها، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة، وإذ شىء أخضر صغير، لا يكاد يرى، يطل على الحياة فى استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله، ثم ثالث ورابع..
وهذا هو الشط، وجمعه شطآن..
وشيئا فشيئا تنمو هذه الشطآن، وتعلو، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه، وأوراق تكسو هذا الساق، وفروع وأغصان، وأزهار وثمار، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة!.
وهكذا المسلمون، بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع فغرسها فى الأرض، وساق إليها الماء،(13/430)
وتعهدها بالرعاية والري، طالت، وانداحت، وأزهرت، وأثمرت، وملأت وجه الأرض المغبرّة، حسنا، وجمالا، وخيرا..
وشبه المسلمون بالزرع لأنهم كثير، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل..
وقوله تعالى: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» - هو إشارة إلى هذا الزرع الطيب، الذي يملأ العين سرورا ورضا، وهو فى الوقت نفسه يملأ قلوب الكافرين حسرة وحسدا..
وقوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من الله، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا المؤمنون على إطلاقهم.. وهذا هو السر فى قوله تعالى: «مِنْهُمْ» الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك..
«هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ»(13/431)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
49- سورة الحجرات
نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمانى عشرة آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة قبلها
كان صدّ المسلمين عن البيت الحرام، وقد جاء بهم النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة معتمرا، واعدا إياهم أن يدخلوا المسجد الحرام، وأن يحلقوا ويقصروا، وقد كان النبي رأى فى منامه رؤيا تأوّلها هذا التأويل وأخبر أصحابه بها- كان هذا الصد داعية إلى إثارة هياج فى نفوس المسلمين، وإلى جريان كثير من اللغط على ألسنتهم- فجاءت سورة الحجرات، بعد أن رأوا من آيات الله مارأوا، وبعد أن صدقت رؤيا الرسول الكريم، ودخلوا المسجد الحرام آمنين ومحلقين- جاءت تحمل إليهم هذا الأدب الإلهى الذي يؤدبهم الله سبحانه وتعالى به، ويقيمهم على طريقه، مع النبي الكريم، وفى الإيمان به إيمان يقين، لا يخالطه شىء من ريبة أو شك، كما سنرى ذلك فيما جاء فى مطلع السورة.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات (1- 5) [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)(13/432)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» :
التقديم بين يدى الله ورسوله، هو السبق بقطع الأمر دونهما، وبعيدا عن الحكم الذي يقرّره الله سبحانه وتعالى لهم فى كتابه، وسنة رسوله..
وفى الآية الكريمة عتاب للمؤمنين، الذي لغطوا بما لغطوا به فى صلح الحديبية، وهو فى الوقت نفسه تأديب عام لهم، وإقامتهم بالمكان الذي ينبغى أن يكونوا فيه من أمر الله ورسوله.. فإذا قضى الله ورسوله أمرا، لم يكن لمؤمن بالله ورسوله خيار فى هذا الأمر.. فإما المتابعة فى ولاء ورضا وغبطة، وإما حلّ لعقد الإيمان الذي عقدوه مع الله ورسوله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ، إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» .
فقوله تعالى: «لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» أي لا يكن لكم أمر(13/433)
تنفردون به دون أمر الله ورسوله، فلا تقطعوا أيها المؤمنون أمرا يقوم على خلاف ما أمر به الله ورسوله.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أي استقيموا على تقوى الله، بطاعته وطاعة رسوله، وامتثال أمره، ومتابعة رسوله..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أي يسمع ما تقولون، ويعلم ما لا تقولون مما تخفونه فى صدوركم.. فيجازيكم بما كان منكم من حسن أو سوء..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» .
هو من تمام أدب المؤمنين مع رسول الله، الذي ينبغى أن يكون صوته أعلى الأصوات، وكلمته رائدة الكلمات وهاديتها.. ورفع الصوت بين يدى النبي، فيه استخفاف، وفيه تجرد من مشاعر الهيبة والإكبار، وجفاف من عواطف الحب والولاء.. فالكلمات التي تصدر فى مقام الجلال والإكبار، كلمات ضامرة ضاوية، أمام ما يروعها من هيبة وجلال.. والكلمات التي تخرج من أفواه المحبين كلمات مستحيية ضارعة بين يدى من يحبّون..
والمسلمون فى حضرة النبي الكريم، يشهدون أروع آيات العظمة والجلال، وحديثهم إليه، إنما هو حديث يفيض من قلوب ملكها الحب، وخالط شغافها..
وإنه لا يجتمع مع هذا أن يرتفع صوت من مؤمن فى حضرة الرسول، فإن ارتفع فلن يكون إلا دون صوت النبي..
وقوله تعالى: «وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» .
المراد بالقول هنا، ما يكون بين الأصدقاء والإخوان من معاتبات تنحلّ(13/434)
فيها عقد ألسنتهم، ويجهرون فيها بما يتحرجون من الجهر به فى غير خلواتهم مع من يكونون على شاكلتهم، وفى مستوى مكانتهم بين الناس..
فالجهر بمثل هذا القول، وإن لم يرتفع به الصوت فوق صوت النبي، فيه دلالة على عدم الاحتشام والحياء فى حضرة رسول الله، الأمر الذي لا يليق أن يكون من مؤمن بالله ورسوله، ولا يلتقى مع التوقير لرسول الله، الذي دعا الله سبحانه المؤمنين إليه فى قوله سبحانه: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ..
وقوله تعالى: «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» ..
حبط الأعمال: إبطالها، وحرمان أصحابها الثمرة المرجوة منها..
والسؤال هنا: كيف تحبط أعمالهم بعمل يعملونه ولا يشعرون بالآثار المترتبة عليه؟ وهل يؤاخذ الإنسان على ما يعمله عن غفلة وجهل؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذا تحذير من أن يكون من المؤمنين شىء من هذا المنهىّ عنه، مستقبلا، بعد أن نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه.. فالمؤاخذة على ما نهوا عنه، إنما تبدأ من بعد تلقّيهم هذا النهى..
ولأن مثل رفع الصوت، والجهر بالقول، مما قد يكون من بعض الناس طبيعة لازمة، أو عادة متحكمة، فقد جاء هذا التحذير ليتنبه المؤمنون وهم بين يدى النبي، وليحرسوا أنفسهم من أن ينزلقوا، تحت حكم الطبيعة أو العادة، إلى هذا المنزلق الذي تضيع فيه أعمالهم الطيبة من غير أن يشعروا أنهم يأتون منكرا، أو يقصدون إساءة أدب فى حضرة الرسول!.
وهذا، وإن كان من غير قصد، هو مزلق إلى ما يكون عن قصد، ووعى، بعد أن يصبح ذلك عادة مألوفة..(13/435)
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
هو بيان لما لهذا الأدب الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم بين يدى رسول الله، من ثواب عظيم، وأجر كبير عند الله..
وقوله تعالى: «يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» أي يخفضونها حياء وإجلالا.. وفى التعبير عن خفض الصوت بالغض الذي هو من شأن النظر، إذ يقال غضّ فلان بصره ولا يقال غض صوته- فى هذا التعبير إعجاز من إعجاز النظم القرآنى، الذي تحمله كلمات الله متحدية الجنّ والإنس جميعا..
ذلك أن خفض الصوت إنما يكون عن مشاعر الحياء، التي من شأنها أن تنكسر معها حدة البصر، فلا يستطيع المرء أن يملأ عينيه ممن يهابه، ويجلّه، ويوقره.. فهو إذا نظر غضّ بصره، وإن هذا الغض من البصر يستولى على مخارج الصوت أيضا، فيحبس الصوت عن أن ينطلق إلى غاياته، بل يكسر حدته، كما كسرّ حدة النظر..
ففى قوله تعالى: «يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ» إشارة ضمنية إلى غض البصر حياء، وأن سلطان الحياء هو المتحكم فى هذا المقام. وهكذا يتسلط الغضّ على الأبصار، والأفواه جميعا.
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» إشارة إلى أن قلوب هؤلاء المؤمنين الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد أعدها الله سبحانه وتعالى وأرادها لتكون مستقرا ومستودعا للتقوى، وهذا هو السر فى تعدية الفعل «امتحن» باللام، فى قوله تعالى «لِلتَّقْوى» مع أن الأصل فى فعل الامتحان أن يتعدى بالباء، فيقال: «امتحنه بكذا، لا لكذا» .(13/436)
وفى هذا ما يشير إلى أن تلك القلوب التي يغضّ أصحابها أبصارهم عند رسول الله، قد امتحنت فعلا بالتقوى، وقد نجحت فى هذا الامتحان، فأصبحت قابلة للتقوى، متجاوبة معها.. فقد يمتحن الإنسان بالشيء، ولا يقبله، ولا يتجاوب معه.. أما إذا امتحن للشىء، واختير له، فإن ذلك يعنى أنه أهل لهذا الامتحان، وخاصة إذا كان المتخيّر له، هو الحكيم العليم، رب العالمين..
ولهذا، فإن قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» هو خبر لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم من أهل التقوى.. فهذا هو حكمهم عند الله..
وقوله تعالى: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» خبر ثان لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى أنهم أهل التقوى، وأنهم مجزيّون من الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم..
وفى الآيات الكريمة ما يكشف عن جانب عظيم من أخلاقيات الإسلام، وآدابه العالية، فيما يعرف اليوم بالدبلوماسية السياسية، التي تفرض على الناس مراسم من الأدب فى حضرة الملوك، والرؤساء، والقادة، والزعماء، وأصحاب السيادة والسلطان..
ولكن شتان بين أدب الإسلام، الذي ينبع من مشاعر صادقة، ويفيض من قلوب عامرة بالحب، خفّاقة بالولاء، وبين هذا الأدب التمثيلى المصطنع، الذي لا يتجاوز الكلمات التي ترددها الألسنة، والحركات التي تصطنعها الأجسام!! إنه أدب أشبه بأدب القرود بين يدى مؤدبها!.(13/437)
وألا فلتخضع الرقاب، وتنخفض الجباه أمام هذا الأدب الإسلامى، ولتخرس الألسنة التي ترمى بالتهم فى وجه هذا الدين الذي جمع الفضائل كلها، والذي يقود ركب الحضارة فى أعلى مستوياتها، وأروع مظاهرها..
إنه ليس دين بداوة جافية غليظة، كما يتخرص المتخرصون، بل إنه دين المدنية الخالصة من شوائب الزيف، وطلاء الخداع!!.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» - هو التفات إلى النبي الكريم بهذا العذر الذي يقدمه الله سبحانه وتعالى إلى الرسول العظيم، عن هذا الجفاء، وتلك الغلظة، مما يغلب على أهل البادية، الذين يجيئون إلى النبي، فينادونه من وراء الحجرات التي كان يتخذها النبىّ سكنا له مع أهله.. فهؤلاء الأعراب لم يتأدبوا بأدب الإسلام، بعد، ولم تظهر عليهم آثاره، وإنهم لجديرون بأن يقابلوا من النبي بالتسامح، وأن يعذروا لهذا الجفاء البادي منهم..
قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو إلفات إلى هؤلاء الأعراب، وتوجيه حكيم رفيق بهم، إلى هذا الأدب الذي لم يألفوه بينهم..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - تطمين لهؤلاء الأعراب الذين قد يقع منهم هذا الفعل، وأنهم فى سعة من رحمة الله ومغفرته، إذا هم أخذوا بأدب القرآن، ونزعوا عما غلبتهم عليه طبيعتهم.. كما أنه دعوة إلى النبي الكريم، أن يغفر ويرحم، فقد غفر الله ورحم! ..(13/438)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
الآيات (13- 6) [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)(13/439)
التفسير:
فى هذه الآية استكمال للأدب الذي تحكم به الروابط التي ينبغى أن تقوم بين أفراد المجتمع الإسلامى، بعد أن بيّنت الآيات السابقة الأدب الذي ينبغى أن يتأدب به المسلمون فى حضرة النبي الكريم..
وقوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» ..
النبأ: الخبر ذو الشأن، وأصله من النبوّ وهو الظهور، والخروج عن المألوف..
قيل إن هذه الآية نزلت فى شأن الوليد بن عقبة، وقد بعثه النبىّ إلى بنى المصطلق، ليجمع مال الصدقة منهم.. فلما أشرف عليهم.. وكانوا قد علموا بمقدم مبعوث رسول الله إليهم خرجوا للقائه، ظنّ أنّهم إنما يريدون به شرّا، فقفل راجعا، وأخبر النبىّ والمسلمين أن القوم قد منعوا الزكاة، وأنهم همّوا بقتله، فأعدّ النبىّ العدة لقتالهم، وقبل أن يسير النبىّ بالمسلمين إليهم جاءه وفدهم يكذّب ما كان من مقولة الوليد بن عقبة فيهم، وأنهم على الإسلام، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. فنزلت هذه الآية مصدقة لهم..
وأيّا كان سبب النزول، فإن الآية عامة مطلقة، تحذّر المسلمين من الأنباء الكاذبة التي يرجف بها المرجفون، ليشيعوا فى المسلمين قالة السوء، وليوغروا بها صدورهم على أهل الإيمان والسلامة فيهم، وأن هذا من شأنه لو وقع موقع(13/440)
القبول والتسليم من المؤمنين، من غير تبصر أو تمحيص، لأفسد عليهم أمرهم، ولنزع الثقة والطمأنينة من بينهم..
فما أكثر ما كان يلقى به المنافقون، واليهود، فى محيط المسلمين من أكاذيب وأراجيف وشائعات، الأمر الذي يقضى على المسلمين بأن يمحصوا هذه الأخبار، وألّا يأخذوها مأخذ القبول والتسليم دون نظر فاخص لها..
وفى قوله تعالى: «فاسِقٌ» .. إشارة إلى أن المقولة إنما ينظر فيها إلى صاحبها الذي وردت منه، فإن كان من أهل الإيمان والثقة استمع لقوله، وأخذ به، وإن كان ممن يتهّم، استمع إليه ووضع قوله موضع التمحيص، فلا يحكم على قوله بالردّ ابتداء، فقد يكون فى قوله صدق، أو شىء من الصدق ينتفع به المسلمون..
وقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» هو بيان.. للعلة التي من أجلها كان الأمر بالتبين والتثبت لما يجىء للمسلمين من أنباء يحملها قوم لم يعرفوا فى المسلمين بالصدق، ووثاقة الإيمان..
وقوله تعالى: «بِجَهالَةٍ» إلفات للمسلمين إلى ألّا يقيموا أمرا من أمورهم على جهل، وعلى عدم رؤية واضحة لهذا الأمر، فذلك من شأنه إن أصاب مرة أن يخطىء مرات كثيرة.
وقوله تعالى: «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» أي أن الأخذ بالنبإ الوارد من فاسق قبل التثبت منه، يعود على المسلمين بالحسرة والندم، لأنهم وضعوا الأمر فى غير موضعه، ورتّبوا على هذا القول الكاذب أمورا لا يمكن إصلاحها بعد أن وقع عليها ما وقع.(13/441)
قوله تعالى:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» .
هو إلفات إلى المؤمنين بأنهم مع الرسول، فى حراسة من السماء، وأنه قائم فيهم، يكشف ما يقع على طريقهم من خيانات الخائنين، وأراجيف المرجفين..
ولكن الأمر سيختلف بعد وفاة النبىّ، ويكون عليهم حينئذ أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم، وأن يتثبتوا من الأخبار التي تحمل إليهم..
وقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ» توجيه للمسلمين ألّا يقدّموا بين يدى الله ورسوله، وأن ينتظروا بالأمر غير الجلّى الذي بين أيديهم، حتى يبينه الرسول لهم، فإن من الغبن والضلال معا، أن يتخبط المرء فى الظلام وهناك مصباح سماوىّ مضىء، يكشف له كل خافية، ويجلى له كل خفىّ..
وقوله تعالى: «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ» .. بيان لما بين النبىّ وبين المسلمين من فرق بعيد، فى حكمه على الأمور، وحكمهم عليها..
فالنبى، يرى بنور الله، ويهتدى بهدى الله، فإذا قضى فى الأمر كان قضاؤه الحق، وحكمه العدل والخير والإحسان.. أما ما يقضى به المسلمون فى أمورهم، فهو قضاء قائم على مستوى الفهم البشرى، الذي قد يصيب وقد يخطىء..
ومن هنا كان على المؤمنين- ما دام الرسول فيهم- ألا يقطعوا أمرا ذا بال دونه، وألا يخرجوا عن أمر يدعوهم إليه، فإنهم إن فعلوا، وأكرهوا الرسول على أمر لم يكن موضع رضا منه- لم يجئهم من هذا الأمر إلا ما فيه إعنات لهم، وإلّا أصابهم منه ما لا يحبون..(13/442)
والمثل لهذا ما يذكره المسلمون من يوم أحد، وقد أكرهوا النبىّ على الخروج من المدينة، للقاء المشركين، وكان من رأيه- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتحصّن بها، فإن دخلها عليه المشركون قاتلهم المسلمون، وقاتل معهم الصبيان والنساء، وكانت الدور حصونا لهم.. وقد خرج النبىّ بالمسلمين إلى أحد، على غير رضا، وكان الذي حدث! ومثل آخر، يذكره المسلمون من يوم الحديبية، فلو أن الرسول استجاب لما كان يراه المسلمون يومئذ من قتال المشركين، حتى يتمكنوا من دخول مكة، والطواف بالمسجد الحرام- لو أن الرسول فعل هذا وكان قتال بينهم وبين المشركين، لسالت دماء غزيرة، ولذهبت نفوس كريمة من المؤمنين وربما كانت الدائرة عليهم.. وهاهم أولاء يرون أن الطريق إلى البيت الحرام قد صار مفتوحا لهم من غير قتال، وأنهم قد غنموا خيبر أيضا، إلى جانب هذا الفتح الذي لم ترق فيه دماء، ولم تذهب فيه أرواح! قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» .
أي ولكنكم أيها المسلمون لم تخالفوا رسول الله، ولم تخرجوا عن أمره، إذ قد حبّب الله سبحانه وتعالى إليكم الإيمان وزيّنه فى قلوبكم، وبهذا الحبّ للإيمان، والولاء لجماله وجلاله فى نفوسكم، كنتم على طاعة وولاء لرسول الله، لأن ذلك من ثمرات الإيمان الوثيق، الذي تعلقت به القلوب، وانتعشت به النفوس، وذلك الإيمان الذي غرسه الله فى قلوبكم، وحببه إليكم، وزينه لكم- قد كرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان.. إذ لا يجتمع إيمان وكفر، ولا يلتقى إيمان وفسوق عن أمر الله ورسوله، وعصيان لله ورسوله..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» .. إشارة إلى هؤلاء المؤمنين(13/443)
الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. فهؤلاء المؤمنون هم الراشدون، الذين قام أمرهم على الرشد والخير والفلاح..
وفى العدول عن الخطاب إلى ضمير الغيبة عند الإشارة إلى هؤلاء المؤمنين- فى هذا إلفات إليهم، وإلى علوّ مقامهم، وأنهم بحيث ترنو الأبصار إليهم، وتمتد مطارح النظر نحوهم.. حتى لكأنهم- وهم فى مقام الحضور أجسادا- هم بعيدون منزلة ومقاما..
قوله تعالى:
«فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» - أي أن هذا الذي سكبه الله سبحانه وتعالى فى قلوب المؤمنين من حب الإيمان، وتزيينه فى قلوبهم، ومن كراهية الكفر، وما يجر وراءه من فسوق وعصيان- هو فضل من الله ونعمة أنعم بها على عباده المؤمنين.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ينزل فضله، ويوفد روافد نعمه حيث قضت حكمته المؤاخية لعلمه، الذي لا تخفى عليه خافية.
قوله تعالى:
«وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .
كانت الآيات السابقة دستورا فى الأدب للمسلمين مع النبي، ثم دستورا بين المسلمين وبين أعدائهم الذين يدسّون عليهم الأخبار الكاذبة..
وفى هذه الآية وما بعدها دستور من الأخلاق، والأدب والسياسة، فيما بين المسلمين أنفسهم..(13/444)
فالمسلمون، وقد فرغوا أو كادوا يفرغون من مواجهة العدو الذي كان يحيط بهم من المشركين، واليهود، والمنافقين- فإن ذلك من شأنه أن يتيح فرصة لطبيعة العدوان فى النفس البشرية، فإذا لم يجد المسلمون من يقاتلون من أعدائهم، لم يسلم الأمر من أن يقع الشر بينهم هم أنفسهم، ويقاتل بعضهم بعضا.. فتلك هى الطبيعة الإنسانية، والتي يمثلها قول الشاعر الجاهلى، وهو يتحدث عن الخيل التي أعدّها قومه للغارات:
وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهنّ نهب حيث كانا
نزلن من الرّباب على حلول ... وضبّة إنه من حان حانا
وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا!!
ومن هنا نبه القرآن الكريم إلى حماية المسلمين من هذا الشر الذي قد يرد عليهم من ذات أنفسهم، ولم ينبه إلى عدم وقوع الشر والقتال أصلا، لأن ذلك مما لا تحتمله النفوس احتمالا لازما مطلقا..
فالقرآن يسلّم- وإن كان ذلك على غير ما لا يرضاه للمؤمنين- يسلّم بالأمر الواقع فى الحياة، ويفترض وقوع القتال بين المؤمنين، ولكنه يدعو إلى إطفاء وقدة هذا الشر، ويدعو المسلمين جميعا إلى المشاركة فى إخماده، قبل أن يتسع، ويستغلظ.
فيقول سبحانه وتعالى: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» .. فهاتان طائفتان من المؤمنين، قد وقع بينهما قتال، وهم مع هذا القتال مؤمنون، لم يخرجهم القتال عن الإيمان..
إنهم مؤمنون، وإن كانوا على هذا المكروه.. وواجب المؤمنين حينئذ،(13/445)
هو أن يعملوا على إصلاح ذات البين بين الطائفتين، وأن ينزلوهما على ما يقضى به كتاب الله وسنة رسوله..
وقوله تعالى: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» .. يشير إلى الخطوة الثانية بعد دعوة الطائفتين إلى الصلح، وإلى النزول على حكم الله ورسوله الذي يقضى به المسلمون بينهما- والخطوة الثانية هى أنه إذا لم تقبل إحدى الطائفتين النزول على حكم الله ورسوله، كانت باغية معتدية، وكان على المؤمنين أن ينصروا الطائفة الأخرى، المبغىّ عليها..
وقوله تعالى: «فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. هو بيان للخطوة الثالثة، بعد أن ينتصر المؤمنون للطائفة المبغىّ عليها، وبعد أن تنزل الطائفة المعتدية على حكم الله ورسوله.. عندئذ لا يترك الأمر هكذا، باستسلام الفئة الباغية تحت حكم السيف.. فإن ذلك من شأنه أن يترك آثارا من الضغينة والبغضاء، لا ينحسم معها شر أبدا، وإن خمد إلى حين..
ومن هنا كانت الدعوة إلى المصالحة بين الفريقين، وجمعهما على الإخاء والمودة، ونزع ما فى النفوس من سخائم، وغسل ما نجم عن هذا القتال من آثار، ومداواة ما كان منها من جراح..
وفى قوله تعالى: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. إشارة إلى ما يكون قد وقع فى نفوس المسلمين الذين قاتلوا الفئة الباغية، من بغضة لها، وكراهية لموقفها المتعنت.. الأمر الذي قد يحمل المسلمين على أن يجوروا عليها، وينزلوها منزلة العقاب والانتقام.. إن ذلك من شأنه- وهو فى ذاته خارج على سنن الحق والعدل- أن يؤجج نار الحقد، والعداوة(13/446)
ولا يطفىء نار الفتنة التي قام المسلمون لإطفائها.. فوجب على المسلمين أن يأخذوا الفئة الباغية بالعدل، وأن يقسطوا أي يعدلوا فى حكمهم عليها «إن الله يحب المقسطين» فى كل حال، مع الأولياء والأعداء على السواء.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» (8: المائدة) قوله تعالى:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
هو تعقيب على الآية السابقة، وعلى ما دعت إليه المؤمنين من حسم الخلاف الذي يقع بين جماعاتهم، ثم هو إلفات إلى أن الأخوّة القائمة بين المؤمنين لا تتغير صفتها، ولا تنقطع آثارها بتلك العوارض التي تعرض لهم فى حياتهم، فإنما هى موجات من ريح عابرة، لا تلبث أن تفتر، ثم يعود إلى البحر سكونه، وصفاؤه، وجلاله..
ومن جهة أخرى، فإن الفئة الباغية، لا يزال لها مكانها فى المؤمنين، ولا تزال لها أخوّتها فيهم، وإذن فلا يجار عليهم لأنهم جاروا، ولا يعتدى عليهم، لأنهم اعتدوا، وإنما يقبل منهم قبولهم لما قضى به المؤمنون عليهم، ثم إن لهم بعد هذا حقهم كاملا لا ينقص منه شىء.. فالمعتدون والمعتدى عليهم إخوان للمؤمنين جميعا..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا(13/447)
تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
..
إن من أفتك الآفات التي تغتال مشاعر الإخاء والمودة بين المجتمعات، استخفاف جماعة بجماعة، والنظر إليها نظرا ساخرا، فإن ذلك من شأنه أن يغرى هؤلاء المستخفّين المستهزئين بمن استخفوا بهم، ونظروا إليهم باستصغار واستهزاء، ثم هو من جهة أخرى يحمل الجماعة المستخفّ بها، المستصغر لشأنها- على أن تدافع عن نفسها، وأن تردّ هذه السخرية، وهذا الاستهزاء بالسخرية والاستهزاء، ممن سخروا منهم، وهزءوا بهم.. وهذا أول قدح لشرارة الحرب.. فإن الحرب أولها الكلام، كما يقولون..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المستهزئين الساخرين قد يكونون أقل عند الله شأنا، من هؤلاء الذين اتخذوهم غرضا للهزء والسخرية..
فلا ينبغى الانخداع بالظاهر، ووزن الأمور عليها.. فكيف يكون الحال لو أن هؤلاء المستهزأ بهم كانوا عند الله أفضل وأكرم من هؤلاء المستهزئين؟
ألا يخافون أن ينتقم منهم الله لأوليائه؟ ألا يستحون أن يستخفّوا بمن هم أثقل منهم ميزانا، وأكرم منهم معدنا؟ إن هذا أمر لو لم يؤثمه الدين، لأنكره العقل، ورفضته المروءة، وجفاه المنطق، ولفظه العدل والإنصاف.
وفى جمع الرجال والنساء، إشارة إلى أن هذه السخرية إنما تكون على غايتها من الشناعة والسوء، حين تكون فى صورة جماعية، إذ أنها تشد أعدادا كثيرة من الناس إلى هذا الشر، وتوقعهم فى هذا البلاء.
وقوله تعالى: «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
اللّمز هو الغمز بالمعايب، والتلويح بها..(13/448)
والتنابز بالألقاب: الترامي بها..
ومن الآفات التي تهدد كيان المجتمع، وتقوض بنيانه، شيوع الاستخفاف بأنفسهم، وعدم التحرج من ذكر بعضهم بعضا بالمقابح والمساويء، فهذا إنما يكون من إفرازات الجماعات المتحلّلة من القيم الخلقية، التي تتبادل المنكرات كما تتبادل السلع الرخيصة فى البيع والشراء..
ذلك أن الذي يعيب الناس، ويرميهم بما يسوء من الألقاب، لا يسوؤه كثيرا أن يعيبه الناس، وأن يرجموه بكل سوء.. وهذا- والله أعلم- هو ما قصد إليه قوله تعالى: «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ»
بأيقاع الفعل عليهم، فكأنهم إذ يلمزون غيرهم يلمزون أنفسهم ضمنا..
وقوله تعالى: «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ» أي بئس الاسم الذي يطلق عليكم بعد أن ينزع عنكم الإيمان الذي خرجتم منه بما كان منكم من لمز لأنفسكم وتنابز بالألقاب بينكم.. فقد كنتم مؤمنين، ثم ها أنتم أولاء أصبحتم فاسقين، أي خارجين عن الإيمان، بهذا اللغو الساقط من الكلام..
فبئس هذا الاسم الذي سمّيتم به فاسقين، بعد أن كنتم مؤمنين..
قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
أي ومن لم يرجع عن هذا الترامي بكلمات السوء، ويستقيم على ما يدعوه إليه دينه ومروءته، من القول المعروف، وتجنب اللغو والسّقط من الكلام- ومن لم يرجع عن هذا، ثم يرضى لنفسه أن يقيم على الفسق ويهجر الإيمان، فهو من الظالمين وللظالمين عذاب أليم، كما يقول سبحانه: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (31: الإنسان)(13/449)
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» ..
الظنّ: ما يقع فى نفس الإنسان من تصورات للأمر، من واردات خيالاته، وأوهامه، دون أن يكون بين يديه دليل ظاهر، أو حجة قاطعة..
والظنون التي ترد على الناس كثيرة لا تحصى، إنها خواطر تتردد فى صدور الناس، ويكون لها دور كبير فى تصرفاتهم..
ولهذا جاء النهى باجتناب كثير من الظن، لا كلّ الظن، وهذا يعنى ألا يأخذ الإنسان بكل ما يقع له من ظنون، بل يجب أن يكون حذرا فى مواجهة كل ظن، وعليه أن يمحصه كما يمحص النبأ الذي يرد عليه من فاسق.. فإن مورد الظنون متّهم، لأنه مورد يقوم عليه هوى النفس، ووساوس الشيطان..
وفى الحديث: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا..» وفى المأثور: «الظنّ أكذب الحديث» : أي أن الأحاديث الواردة من موارد الظنون، هى أحاديث يغلب عليها الكذب أكثر من أي أحاديث أخرى..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» - إشارة إلى أن بعض الظن، هو الذي يقع تحت حكم المنهي عنه، لأنه إثم، إذ كان قائما على باطل، وفى الحديث: «إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فأمض» ..(13/450)
وقوله تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا» أي لا تتبعوا مساوئ بعضكم، ولا تكشفوا عما ستره الله من عيوبكم..
وقوله تعالى: «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» أي ولا يتحدث بعضكم عن بعض بمكروه فى غيبته..
وقوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» ..
هو تشنيع على الغيبة، وازدراء وتنديد بأهلها، إنهم أسوأ من أخس الحيوانات موقفا، وأنزلهم منزلة.. إنهم يأكلون لحم إخوانهم، والحيوانات تعاف أن يأكل الجنس لحم جنسه.. وليس هذا وحسب، بل إنهم ليأكلون هذا اللحم ميتا، متعفنا، وكثير من الحيوانات- كالأسود مثلا- تعاف أكل الميتة، ولو ماتت جوعا..!!
فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمغتاب.. فإنه إذ يغتاب شخصا ما، فإنما ينهش عرضه، وهو غائب دون أن يملك صاحبه أن يدفع هذه السهام التي تفرى جلده، وتنفذ إلى عظمه.. تماما كشأنه لو كان ميتا، ثم جاء هذا المغتاب إلى جسده، وأعمل فيه أسنانه، وأكله كما تأكل الذئاب جريحها.. إنه لا يملك من أمره شيئا..
وقوله تعالى: «فَكَرِهْتُمُوهُ» .. هو تعقيب على هذا الجواب المحذوف الذي تنطق به الحال من قوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» ؟ والجواب على هذا، جواب واحد، لا خلاف عليه، وهو: «لا» ..
فكان التعقيب على هذا الجواب: أما هذا «فَكَرِهْتُمُوهُ» .. وأما شبيهه ومثيله فما زال طعمه حلوا فى أفواهكم، فاكرهوه كما كرهتم مثيله طبيعة «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» يقبل توبتكم إن أنتم نزعتم عن هذه المنكرات واستقمتم على طريق الإيمان..(13/451)
وفى الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه.. لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه فى بيته..»
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» هو تعقيب عام على هذه الأحكام وتلك الآداب، التي كانت خطابا للذين آمنوا، ليرتلوها، ويأخذوا أنفسهم بها.. وليس هذا فحسب، بل إن عليهم أن يراعوا هذه الأحكام وتلك الآداب مع غير المؤمنين.. مع الناس جميعا، من كل أمة، ومن كل دين.. إنها أخلاق إنسانية، يجب أن تكون طبعا وجبلّة فى المؤمن، يعيش بها فى الحياة كلها، ومع الناس جميعا، فلا تكون ثوابا بلبسه مع المؤمنين، حتى إذا كان مع غير المؤمنين نزعه.. فإنه بهذا إنما ينزع كمالا خلعه الله عليه، ويتعرّى من جلال كساه الله إياه..
ولهذا جاء الخطاب هنا للناس جميعا: «يا أَيُّهَا النَّاسُ» والمستمع لهذا الخطاب، والعامل به، هم المؤمنون..
ثم أعقب هذا الخطاب، تقرير هذه الحقيقة التي ينبغى أن يعيها المؤمنون:
«إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» .. فأنتم أيها الناس- مؤمنين وغير مؤمنين- إخوة فى الإنسانية، إذ كنتم من طينة واحدة، ومن جرثومة واحدة:
«كلكم لآدم وآدم من تراب» وأنه إذا كان للمؤمنين منزلة عند الله، وفضل على غير المؤمنين، فذلك رزق من رزق الله، وإن من الخير للمؤمنين أن ينفقوا من هذا الخير على الإنسانية كلها، وأن يكونوا الوجه الكريم الطيب، الرحيم، فيها..(13/452)
وقوله تعالى:
«وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» .
الجعل، كما قلنا فى أكثر من موضع، هو إضافة جديدة تدخل على أصل الشيء، فهو من متعلقات الموجودات، وليس له هو وجود ذاتى..
فتوزّع الناس إلى شعوب وقبائل، ليس أمرا ذاتيا، تتغير به حقيقة الإنسانية فى الناس.. إنهم مهما اختلفوا شعوبا وأوطانا، فإنهم إخوة قرابة ونسبا، وقوله تعالى: «لِتَعارَفُوا» تعليل لهذا التقسيم الذي وقع فى محيط الناس، فكانوا شعوبا وقبائل، وذلك ليتعارفوا، وليكون لهم فى مجتمع الشعب أو القبيلة، تماسك وترابط، لأنهم فى هذا المحيط الضيق- نسبيّا- أقدر على أن يتعارفوا، ويتآخوا، الأمر الذي لا يقع- إن وقع- إلا باهتا، لا يكاد يحسّ، لو أن الإنسان كان فردا فى الإنسانية كلها..
فلما جعل الله سبحانه وتعالى لنا من أنفسنا أزواجا نسكن إليها، وأولادا تقرّ بهم أعيننا، وتصبّ فيهم روافد عواطفنا- جعل الله لنا المجتمعات التي ننتمى إليها، والأمم التي نرتبط بالحياة معها..
وكما أن الأسرة لا تعزلنا عن أمتنا، ولا تقطعنا عن مجتمعنا، كذلك ينبغى ألا تعزلنا أمتنا عن الأمم، ولا يقطعنا مجتمعنا عن المجتمعات الأخرى..
فالاختلاف الواقع بين الناس، وتمايزهم شعوبا وأمما، هو فى الواقع سبب تعارفهم، وداعية إلى قيام هذه الوحدات الحية فى كيان المجتمع الإنسانى، الممثلة فى الشعوب والأمم.. فهذه الوحدات هى التي غذّت مشاعر العصبية للقومية، ووثقت من روابط الجماعة التي تضمها وحدة، من وطن، أو لغة، أو دين، فتعاونت، وترابطت، وصارت أشبه بالكيان الواحد.
وقوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» هو استكمال لوجه القضية(13/453)
التي عرضها القرآن الكريم فى قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» - فقد كان من داعية هذا الانقسام بين الجماعات الإنسانية، وانحياز كل جماعة منها إلى موطن خاص بها، ولسان تتخاطب به، ودين تدين به، وحياة اجتماعية وسياسية تعيش فيها- كان من داعية هذا أن تمايزت الجماعات، وتفاوتت حظوظها فى الحياة. وكان من هذا تعالى بعض الشعوب على بعض، وتفاخرها بما جمعت بين يديها من أسباب القوة والسلطان- ولقد جاء قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» ليصحح هذه المفاهيم الخاطئة، التي دخلت على الناس من مظاهر التفاوت المادي والعقلي بين جماعاتهم، وليقيم المفهوم الصحيح الذي هو ميزان التفاضل بين الناس، إن كان ثمّة تفاضل، وهو التقوى، فمن كان لله أتقى، كان عند الله- وينبغى أن يكون كذلك عند الناس- أفضل وأكرم، ففى مجال التقوى ينبغى أن يتنافس المنافسون، وعلى ميزان التقوى يجب أن تقوم منازلهم، وتتحدد مراتبهم..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» - إشارة إلى أن التقوى- ومحلها القلوب- أمر قد يخفى على الناس، فلا يعرفون من التقىّ، ولا مقداره من التقوى.. وإذ كان ذلك شأن الناس، فإن الله سبحانه وتعالى: «عَلِيمٌ خَبِيرٌ» يعلم ما تخفى الضمائر، وما تسرّ الصدور.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن السخرية بالناس ولمزهم وعيبهم، وسوء الظن بهم- قد يكون عن تقدير خاطئ وحساب مغلوط، قائم على حكم الظاهر، على حين تكون القلوب عامرة بالتقوى، مزهرة بالخير.. ولو اطلع هؤلاء اللامزون المتنابزون بالألقاب، على قلوب الناس، لتغيّر رأيهم فيهم.. وإذن فيجب ألا يأخذ الناس بحكم الظاهر، وألا يحكموا على الإنسان من ظاهره وحسب.. وهذا ما يشير إليه(13/454)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى: «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» (11: الحجرات)
الآيات (18- 14) [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
التفسير:
قوله تعالى:
«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
الأعراب، هم سكان البادية، الذين يعيشون فى مضارب الخيام(13/455)
ويشتغلون بالرعي، ويتتبعون مواقع الماء والكلأ.. وقد طبعتهم هذه الحياة المتبدّية، على الجفاء والغلظة، ومن هنا لم يجد الإسلام طريقه إليهم إلا وسط هذه الأحراش النابتة فى صدورهم، من النّفار والوحشة..
وفى هذا يقول الله تعالى: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» (97: التوبة) .. وفى المأثور: «من بدا جفا» ..
وقوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» .. هو تصحيح لما يفهمه الأعراب من الإيمان، ومن حقائقه التي ضمّ عليها، فهو ليس كلمة تقال، وإنما هو عقيدة، وعمل يقوم فى ظل هذه العقيدة وهدبها.. فقول الأعراب «آمنا» بمجرد تلفظهم بشهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» هو قول غير صحيح.. إن هذا إسلام، لا إيمان..
وهم بالتلفظ بالشهادة، وإقرارهم بالإسلام، إنما يدخلون فى المسلمين، وتجرى عليهم أحكامهم، وتعصم بهذا دماؤهم، وأموالهم، كما فى الحديث الشريف: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا منّى دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله» ..
فقوله تعالى: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» هو ردّ على قول الأعراب آمنا..
وقوله تعالى: «وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» هو بيان للقول الحق الذي يقال فى هذا المقام.. فهم مسلمون، غير مؤمنين..
وقوله تعالى: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» هو بيان للعلة التي من أجلها لم يكن الأعراب مؤمنين، بل كانوا مجرد مسلمين.. لأن الإيمان لم يدخل فى قلوبهم بعد، وأنه ما زال مجرد كلمة تجرى على ألسنتهم..(13/456)
وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» لا يلتكم: أي لا ينقصكم، ولا يبخسكم حقكم..
وفى هذا دعوة إلى الأعراب أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان، وأن يجعلوا هذه الكلمات التي دخلوا بها فى الإسلام غرسا طيبا يغرسونه فى قلوبهم، ومشعلا هاديا يقودهم إلى طريق الخير والإحسان، آخذين بما يأمرهم به الله ورسوله، فإن هم فعلوا كانوا فى المؤمنين حقا، وكان لهم كل ما للمؤمنين عند الله من رحمة ورضوان.. وإن صفة «الأعراب» التي وصفوا بها، لا أثر لها فى أعمالهم، وإن كان لها أثرها فى تأبّيهم على الإيمان، وفتور خطوهم إليه، وتأخرهم عن اللحاق بركب المؤمنين.. ومع هذا فإنهم فى أي وقت يدخلون فيه إلى الإيمان دخولا صحيحا، ويستقيمون على أوامر الله ونواهيه- يلحقون فورا بالمؤمنين، ويجزون بأعمالهم جزاء من سبقوهم إلى الإيمان.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» يتجاوز لهم عن هذا الجفاء الذي كان بينهم وبين الإيمان..
قوله تعالى:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» .
هذا هو الإيمان الذي فات الأعراب أن يحصّلوه، وتلك حقيقة المؤمنين التي لم يحققها الأعراب بعد بإسلامهم..
فالمؤمنون، هم الذين آمنوا بالله ورسوله فنزل هذا الإيمان فى قلوبهم منزلة اليقين، لا يزحزحهم عنه أي عارض من عوارض الحياة، ولا يغيّر وجهه فى قلوبهم ما يلقاهم على طريق الحياة من بأساء وضرّاء، ثقة منهم بالله، وركونا إليه، ورضاء بقضائه، وصبرا لحكمه..(13/457)
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» .. هذا هو الإيمان فى صميمه.. أمّا الإيمان الذي يهتزّ كيانه فى قلب الإنسان لأى عارض، ويتضاءل شخصه عند أي بلاء، فهو إيمان غير خالص، بل هو مشوب بآفات كثيرة من الشك، وسوء الفهم، فإذا وضع على محك التجربة والامتحان، ظهر ما فيه من ضعف، فلم يحتمل صدمة التجربة، ولم يصمد أمام تيار الامتحان.
وقوله تعالى: «وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. وهذا هو مجال الامتحان لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله ورسوله، ووقع منه هذا الإيمان موقع القبول واليقين، لم ينكل عن دعوة الجهاد فى سبيل الله بماله ونفسه، بل يقدم ماله ونفسه قربانا لله، فى رضا وغبطة..
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن الجهاد بالمال والنفس، هو الميدان الذي يمتحن به إيمان المؤمنين، والذي به تظهر حقيقة ما فى قلوبهم من إيمان..
فالمؤمن، قد يصلىّ، ويصوم، ويحجّ، ويزكى، ولكنه حين يمتحن فى ماله أو نفسه بالجهاد فى سبيل الله، يضنّ بماله، ويحرص على سلامة نفسه، وعندئذ يعلم حقيقة إيمانه، وأنه لم يستوف حقيقة الإيمان بعد.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» ويقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ..» (2، 3: العنكبوت) .
وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» .. هو الوصف الذي يستحقّه الذين آمنوا بالله ورسوله ولم يرتابوا، وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهو أنهم مؤمنون حقا.. قد صدّق فعلهم قولهم..(13/458)
قوله تعالى:
«قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
هو إنكار على هؤلاء الأعراب، الذين ادّعوا تلك الدعوى، بأنهم مؤمنون، وهم فى حقيقة أمرهم غير مؤمنين، إذ أنهم أسلموا، ولم يدخل الإيمان فى قلوبهم بعد..
فلمن يقولون هذا القول؟
أيقولونه لله؟ وكيف يتفق قولهم هذا مع الإيمان بالله؟ إن الإيمان بالله حقا، يقضى على المؤمن ألا يقول غير الحق.. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وإنه لن يكذب على الله إلا من استخفّ بجلال الله وعظمة الله، وعلم الله، جهلا منه بما لله سبحانه من كمال مطلق. «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (7: المجادلة) قوله تعالى:
«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
المنّ: الإدلال بالإحسان على من أحسن إليه.. وهو مما يذهب بثواب الإحسان، ويفسد مغارسه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» (262، 263 البقرة) .(13/459)
وهذا من جفاء الأعراب، ومن بعدهم عن الإيمان، وفساد تصورهم له..
إنهم يمنّون على النبي والمؤمنين، أنهم آمنوا بالله، واستجابوا لما يدعوهم إليه الرسول، وإنهم ليعدّون هذا مأثرة لهم عند الرسول، ويدا يحسبونها لهم عليه.. وهذا وضع مقلوب للقضية.. إنهم إن كانوا مؤمنين حقا، فإن عائدة هذا الإيمان وثمراته راجعة إليهم، لأنهم خرجوا بهذا الإيمان من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن البلاء والهلاك والعذاب الأليم فى الآخرة، إلى العافية، والسلام، والخلود فى جنات النعيم.. وتلك نعمة أو نعم لا يقدر أن يقوم بشكرها إنسان..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (103:
آل عمران) ..
فعجيب أن يمنّ الآخذ على المعطى، ويطلب المريض الجزاء من الطبيب الذي طبّ لمرضه، وشفاه من علته!! ولكن هكذا يفعل الجهل بأهله..
وفى قوله تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا» - بدلا من أن يقال:
يمنون عليك أن آمنوا، أخذا برأيهم فى أنفسهم، وبما نطقت به ألسنتهم- فى هذا تكذيب ضمنى لقولهم: «آمنا» بعد أن كذبهم الله تكذيبا صريحا فى قوله تعالى: «لَمْ تُؤْمِنُوا» .. فهو تقرير للأمر الواقع منهم، وهو الإسلام، لا الإيمان..
وقوله تعالى: «بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ(13/460)
صادِقِينَ»
- هو دعوة لهؤلاء الأعراب أن يحقّقوا حقيقة الإيمان الذي يدّعونه، وأنهم إذا كانوا مؤمنين حقّا، فليحمدوا الله، وليشكروا له، لأنه سبحانه صاحب المنّة عليهم، أن هداهم للإيمان.. فهم مسلمون، وهم بهذا الإسلام يستطيعون أن يخطوا الخطوة التالية إلى الإيمان، وأن ينقلوا كلمة الإسلام من ألسنتهم إلى قلوبهم، وبهذا يكونون مسلمين مؤمنين..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» - هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، وجواب على ما قد يتردد فى أنفسهم من تساؤلات، مثل أن يقولوا: ومن يعلم إن كنا صادقين أو كاذبين، إذا كان مرجع الإيمان إلى ما استقر منه فى القلوب؟ ومن يكشف ما فى قلوبنا من هذا الإيمان؟ .. فكان الجواب. إن الله يعلم غيب السموات والأرض، لا غيب القلوب وحدها، وهو البصير الذي يرى ما يعمل العاملون، مما هو مستقيم على طريق الإيمان، أو مائل عنه، فيجزى كلّا بما عمل..(13/461)
50- سورة «ق»
نزولها: مكية عدد آياتها: خمس وأربعون آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة وخمس وسبعون كلمة عدد حروفها: ألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا (مثل الحجرات) !!
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة مكية، وسورة الحجرات قبلها مدنية، ومع هذا، فإن المناسبة بينهما قريبة، والجامعة بينهما وثيقة..
فأولا: كانت سورة «الفتح» - وهى مدنية أيضا- أول بشائر النصر، الذي تعلو به راية الإسلام، ويتم به دين الله، ويرى به النبي والمهاجرون والأنصار ثمرة الجهاد فى سبيل الله، وما احتمل النبي وأصحابه من بلاء عظيم..
ثم تلا هذه السورة، سورة «الحجرات» ، التي كانت أشبه بتعليق وتعقيب على سورة الفتح، وعلى ما وقع فيها من أحداث وخاصة فى صلح الحديبية..
فجاءت سورة «ق» تذكر النبي وأصحابه بما كان فى بدء الدعوة الإسلامية، من عناد المشركين وضلالهم وسفههم، وأن هؤلاء المشركين الضالين السفهاء قد تحولت بهم الأحوال، وأوشكوا أن يدخلوا فى دين الله، بعد أن كسرت شوكتهم، وبدأت غشاوة الضلال والسفه تنجلى عن أبصارهم، بما رأوا من إعزاز الله لدينه، ونصره لأوليائه..
وثانيا: جاء فى ختام سورة «الحجرات» ما كان من موقف الأعراب(13/462)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
من دين الله، وأنهم كانوا من الإسلام فى موقف أشد ضلالا، وأكثر بعدا من موقف إخوانهم المشركين أهل مكة.. إذ أن المشركين كانوا يعلمون صدق النبي، ويدركون حقيقة ما يدعو إليه من إيمان بالله. أما هؤلاء الأعراب، فإن جفاء طباعهم، وغلظة أكبادهم، حالت بينهم وبين أن يدركوا حقيقة هذا الدين، ولم تتسع عقولهم لاستيعاب مراميه، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» (97: التوبة) - فجاءت سورة «ق» تحدثهم عن إخوانهم المشركين، وما كان لهم من تعلّات على دين الله.. ثم ها هم أولاء، وقد دخل كثير منهم فى الإسلام، ثم الإيمان، هاهم أولاء قد أصبحوا فى جند الله المجاهدين فى سبيل الله.. وإذن فليكن لهؤلاء الأعراب أسوة فى إخوانهم هؤلاء، الذين كانوا على الشرك والضلال، ثم أصبحوا وقد لبسوا الإسلام دثارا، والإيمان شعارا..
وهكذا تبدو سورة «ق» وكأنها تعقيب على سورة «الفتح» واستعادة للماضى وأحداثه، بين يدى هذا الحاضر المسعد، والمستقبل المشرق، فتعظم تلك النعمة التي يعيش المسلمون فيها مع هذا الفتح العظيم، الذي لم يكن يراود أحلامهم، فى يوم من الأيام..
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات (11- 1) [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)(13/463)
التفسير:
قوله تعالى:
«ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» ..
ما يقال عن «ق» هو ما قيل فيما مضى عن الحروف المقطعة..
ومطلع السورة هنا شبيه بمطلع سورة «ص» .. حيث بدئت السورة بالحرف «ص» ثم بالقسم بالقرآن ذى الذكر، ثم مواجهة المشركين بمقولاتهم المنكرة فى القرآن الكريم، وفى الرسول الذي يتلو آيات الله عليهم..
والواو فى قوله تعالى: «وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» للقسم، والقرآن المجيد، مقسم به، ووصف القرآن الكريم بأنه مجيد، إشارة إلى صفاء جوهره، ومجادة ذاته، والمجيد صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» (14، 15: البروج) وقد جعل الله سبحانه هذه الصفة لكلامه، لأن كلام الله سبحانه، صفة من صفاته، والصفة عين الموصوف.(13/464)
قوله تعالى:
«بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» ..
هو إضراب عن تساؤلات تتردّد فى الوجود كله، حين يستمع إلى هذا القسم من رب العالمين، بكلامه المجيد.. حيث يتلفت الوجود كله إلى مواقع هذا القرآن، وإلى المتجه الذي يتجه إليه، وهل عرف الناس قدره؟ وهل اهتدوا بالنور الذي يطلع عليهم منه؟ .. فكان الجواب: كلّا.. «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» .. أي أن الذين جاء إليهم هذا القرآن لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشىء منه، لا لشىء فى هذا القرآن، - لأنهم لم ينظروا فيه أصلا- وإنما لأن الذي جاءهم بهذا القرآن هو رجل منهم، فكان ذلك حجازا بينهم وبين أن ينظروا فى شىء من هذا القرآن، وأن يستمعوا إلى ما يتلى عليهم منه، لأن الذي يتلوه عليهم رجل منهم!! وكيف لرجل منهم أن يأخذ هذا المكان منهم، ويقوم بالسفارة بينهم وبين الله، ويصبح صاحب كلمة الله إليهم؟ وأين هم إذن؟ وأين أغنياؤهم وأصحاب السيادة فيهم؟ ..
فلتتخطفهم العقبان، ولتحرقهم الرجوم.. فذلك أهون عليهم من أن يسودهم سيد، أو يقوم عليهم قيّم!! هكذا فكروا وقدروا: «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» ! وأخذوا يرددون مقولات الدهش والتعجب والإنكار: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (25: القمر) «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) .. «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (7: الفرقان) .
وقوله تعالى: «فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» الإشارة هنا إلى(13/465)
ما أثار عجب الكافرين من هذا القرآن المجيد، وهو أن يجيئهم هذا القرآن على لسان رجل منهم.. فهذا- عندهم- مما يثير العجب والدهش، ثم الإنكار..
قوله تعالى:
«أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» ..
هو مما تسلط عليه اسم الإشارة، هذا، فى الآية السابقة.. فقولهم «هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» مشار به إلى ما سبقه من قوله تعالى: «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» .. ثم هو مشاربه إلى ما بعده من قوله تعالى: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً» أي أإذا متنا وكنا ترابا تعود إلينا الحياة مرة أخرى؟ «ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» ! تفكره الحياة، ولا تصدقه العقول!! فما أبعد ما بين الحياة وهذا التراب الهامد الذي غربت فيه الحياة! هكذا يقولون، ساخرين، مستهزئين.
قوله تعالى:
«قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» ..
هو ردّ على استبعاد الكافرين لعودة الحياة إليهم مرة أخرى، بعد أن يذوبوا فى التراب، ويصيروا بعضا منه..
فالله سبحانه وتعالى يعلم ما أخذت الأرض منهم، وما أكلت من ذرّات أجسامهم، ذرة ذرة.. فإذا أراد الله سبحانه عودة الحياة إليهم دعا هذه الذرات المتنائرة فى الأرض، ونظم منها عقد الحياة من جديد، كما تنظم حبّات العقد فى خيط جديد بعد أن ينقطع خيطها الذي بلى فانقطع! فهذه الذرات التي تنائرت فى الأرض، هى محفوظة فى كتاب حفيظ، لا يضيع منه شىء..(13/466)
قوله تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» .
هو إضراب آخر لبيان موقف الكافرين من آيات الله، بعد أن بين الإضراب السابق موقفهم من الرسول الذي حمل إليهم هذه الآيات.. إن جنايتهم جناية غليظة مزدوجة.. فهم يتهمون الرسول الذي حمل إليهم رسالة الله، وكلماته.. ثم دفع بهم هذا الاتهام إلى أن يخرجوا عن عقولهم، وأن يكذّبوا هذا الحق الواضح الذي يملأ عليهم الوجود من آيات الله.. فإذا كان اتهامهم للرسول مما يجدون له عذرا عند أنفسهم، متعللين لذلك بما يجدون فى صدورهم من حرج فى أن يستجيبوا لرجل منهم، وأن يمتثلوا الدعوة التي يدعوهم إليها- فإن اتهامهم لهذا القرآن الذي يتلى عليهم، والذي ينطق بالحق المبين الواضح، لا يقوم له عذر، حتى عند أنفسهم، فهم يكذبون عن عمد، ويذهبون مذهب الضلال على علم.. وهذا ما يجعل جرمهم أشنع الجرم وأغلظه..
وقوله تعالى: «فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» .
الأمر المريج: المختلط، الذي يموج بعضه فى بعض، ومنه قوله تعالى:
«مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» أي خلط بعضهما ببعض، وجمع بين الملح والعذب، فى هذه الأمواج التي تتضارب عند التقائهما.. ومنه قوله تعالى: «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. حيث يضطرب اللهب ويتماوج بيد الهواء الذي يسبب عملية الاحتراق.
والأمر المريج الذي فيه هؤلاء الكافرون، هو اضطراب مقولاتهم فى الرسول الكريم، وفى القرآن المجيد.. شأنهم فى هذا شأن كل من يركب(13/467)
متاهات الطرق، وطوامسها، فلا يدرى أىّ اتجاه يتجه.. إنه يتجه تارة يمينا وتارة شمالا، ومرة وراء، ومرة خلفا.. إنه لا يأخذ فى اتجاه حتى تساوره الشكوك. والظنون، فيعدل عنه إلى غيره، الذي يحسب أنه الطريق القاصد، ثم لا يلبث أن يتهم نفسه فيما حسب، فيعدل.. وهكذا..
هذا شأن الإنسان وحده مع نفسه.. فإذا كانوا جماعة على ضلال، كان لكل منهم وجهة، ولكل سبيل، ومع الوجهة وجهات، ومع السبيل سبل.. أما من كان على الحق، سواء أكان وحده أو فى جماعة، فإن الطريق واحد، له ولهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153: الأنعام) .. وقد شرح الرسول الكريم، هذه الآية الكريمة فى الحديث الشريف الذي يروى عن ابن مسعود، قال: «خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا بيده ثم قال:
هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» .. ثم تلا الآية: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً..» .
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» .
فى هذه الآية لقاء مع الكافرين، بعيدا عن الرسول وعن القرآن الذي بين يديه.. إنه لقاء مع عقولهم، إن كانت لهم عقول- فليدعوا الرسول وما جاءهم به، ثم لينظروا نظرا مجردا، لا يرد عليهم منه هذه الشبه التي وردت عليهم من أهوائهم، حين نظروا إلى الله سبحانه وتعالى من خلال الرسول، الذي يدعوهم إلى الله، وما أثار هذا من الحسد ودخان الغيرة أن يكون لرجل منهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه..
فليدعوا الرسول، وليدعوا ما يتلوه عليهم من آيات الله، وليكونوا(13/468)
هم رسل أنفسهم، فى دعوتها إلى الله، والتعرف عليه..
فلينظروا إلى السماء فوقهم.. إنها ليست بعيدة عنهم، بل هى قائمة فوق رءوسهم، لا تحتاج رؤيتها إلى أكثر من أن يفتحوا عيونهم عليها.. فإنهم إن فعلوا، كان عليهم- إن كانوا يريدون الحقّ والهدى- أن يجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم من وراء النظر إلى السماء: كيف قامت هذه السماء؟
ومن أقامها؟ ومن زينها بالكواكب؟ ومن أحكم نظامها، ونظام الجاريات فيها، فلم تتصادم كواكبها، ولم تنطفىء أضوؤها وأنوارها المنبعثة منها على آماد السنين وتطاول الأزمان؟ فهل نظروا إلى السماء فوقهم؟ وهل أثار هذا النظر عقولهم، فسألوا أنفسهم تلك الأسئلة؟ وهل بحثوا عن جواب لها؟ إنهم لم ينظروا، ولو نظروا ما رأوا شيئا من هذا كله، لأنهم ينظرون بعيون كليلة، وعقول سقيمة، وقلوب مريضة! وقوله تعالى «ما لَها مِنْ فُرُوجٍ» الفروج، الصدوع، والتشققات التي تكون بين الشيء والشيء.. والمراد بنفي هذا العارض من الفروج عن السماء أنها على امتدادها، واتساعها الذي لا حدود له، قد قامت بناء راسخا، متلاحم النسج، لا تفاوت فيه: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ.. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» (3: الملك) قوله تعالى:
«وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» ..
وإذا كان هؤلاء الكافرون المشركون قد كلّت أبصارهم عن أن ترى السماء وما فيها من دلائل القدرة، والحكمة، والعلم، فلينظروا إلى مواطىء أقدامهم.. إلى هذه الأرض التي يمشون عليها.. إنهم لو نظروا نظرا باحثا متفحصا لرأوا الأرض غير الأرض، ولرأوا فيها من آيات الله، ودلائل قدرته(13/469)
وحكمته وعلمه، ما لم يروه، وهم يمشون فيها بعيون مقفلة، وقلوب فارغة، وعقول لاهية.. إنها كون فسيح ممدود إلى غايات بعيدة، تتجاوز هذا القدر المحدود الذي لا يتعدّى مواطىء أقدامهم، ولا يخرج عن محيط مغداهم ومراحهم.. وإن هذه الجبال التي تطاول السماء بين أيديهم، ليست مجرّد أكوام من الأحجار، بل هى أوتاد تمسك هذه الأرض أن تميد، وتضطرب بما عليها من موجودات.. وإن هذه الزروع والحدائق، والمروج التي تغطّى وجه الأرض، ليست إفرازا من إفرازاتها، وإنما هى حلل من الجمال، والبهجة والحسن، كساها الله سبحانه وتعالى بها، حتى تطيب للناس الحياة فيها، وحتى تفيض عليهم بهجة وحبورا، مما تنتعش به النفوس، وتسعد به القلوب، فلا يكون حظّ الإنسان من هذه الزروع مقصورا على الغذاء الذي يملأ البطون، كما هو حظ الحيوان، الذي لا يعنيه من أمر هذه الخيرات إلا أن يملأ بطنه منها..
قوله تعالى:
«تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» .
هو بيان للعلة التي من أجلها قامت السموات والأرض على هذا النظام البديع المتقن، المحلّى بحلي الجمال والبهجة.. إن فى هذا كله ما يفتح البصائر إلى مطالع الحق، ويمدّ العقول بكمالات المعارف الموصلة إلى الله، وذلك حين تصادف الإنسان الذي لم تفسد فطرته، ولم تنطمس بصيرته، ولم تستول على عقله الضلالات والسفاهات..
والعبد المنيب، هو العبد المستعدّ لقبول الخير حين يدعى إليه، ولاتباع سبيل الحق حين يستبين له وجهه!(13/470)
قوله تعالى:
«وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» .
وهذا معرض ثالث من معارض النظر، ومراد من مرادات التدبر والتفكّر..
وأنه إذا كان هؤلاء الكافرون الضالون، قد كلّت أبصارهم عن أن تصافح السماء، وتقع على موقع العبرة والعظة منها، وأن يعموا أو يتعلموا عن الأرض وما بين أيديهم من آيات الله منها- إذا كان هذا شأنهم فيما فى السموات والأرض، فهذا معرض جديد من معارض النظر، ليس فى السماء، ولا فى الأرض، وإنما هو بين السماء والأرض، وفى مستوى النظر، لكل ذى نظر لا يتكلف له مدّ بصره إلى السماء، ولا إلقاء نظره على الأرض، بل حسبه أن يفتح بصره مجرد فتح، فيرى هذا المطر المتدفق من السماء إلى الأرض..
أفلا يرى هذا الماء أيضا؟ إنه إن لم يكن يراه، فإن الماء برجمه بهذه القطرات التي تتساقط عليه، حتى يستيقظ ويصحو من ذهوله وغفلته..
وهذا الماء.. ما شأنه؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟
إنه لم يكن عن مصادفة، ولم يقع حيث وقع إلا ليبعث الحياة فى الأرض الهامدة ويخرج من بطنها هذه الجنات والزروع التي يحيا عليها، ويعيش من ثمرها وحبّها الإنسان والحيوان..
وفى وصف الماء بأنه مبارك، إشارة إلى ما يحمل هذا الماء الذي كثيرا ما تستخف به العيون، ولا تتملّاه الأبصار، من خيرات ونعم، ولا يحصيها المحصون، ولا يدرك أسرارها إلا أولو الأبصار من عباد الله..
إن قطرات هذا الماء المنزل من السماء، هى أرواح تلبس الأرض كما تلبس(13/471)
الأرواح عالم الأجساد، فيكون منها هذا الإنسان الذي يبلغ به الغرور إلى أن يكون إلها فى الأرض، بأبى أن يعطى ولاءه لله رب العالمين..!!
قوله تعالى:
«وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» أي وأنبتنا بهذا الماء المبارك جنات، وزروعا، ونخلا باسقات..
وفى تعريف النخل، مع اختصاصها بالذكر من بين ما فى الجنات من أشجار- فى هذا إشارة إلى تكريم هذه الشجرة المباركة، لما فيها من منافع كثيرة تجتنى من كل شىء فيها.. من جذرها إلى جذعها، إلى ليفها، إلى جريدها، إلى سعفها، إلى تمرها، إلى نوى هذا التمر.. فهى شجرة كلها خير ونفع، ليس فيها شىء يلفظ، مع عظم جسمها، وامتداد طولها.. ولهذا كانت وصاة النبي الكريم بها فى قوله- صلوات الله وسلامه عليه-: «أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم» .
هذا، وتحتل النخلة مكان القمة فى المملكة النباتية، كما يأخذ الإنسان مكان القمة فى المملكة الحيوانية.. ولهذا كثر ذكرها فى القرآن، وخاصة فى معرض التذكير بنعم الله، وبما بين يدى الناس من هذه النعم، التي تتجلى فى الجنات والزروع.. فلا تكاد تذكر الجنات وما فيها من ثمر، حتى تأخذ النخل مكان الصدارة، أو تنفرد وحدها بالذكر، اكتفاء بها عن كل شجر غيرها، وحتى لكأنّ الجنة لا تكون جنة إلا إذا كانت النخل آخذة مكانها فيها.. يقول تبارك وتعالى: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ(13/472)
فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ»
(26: البقرة) ويقول سبحانه:
«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» (32: الكهف) ويقول جل شأنه على لسان صالح عليه السلام، وهو يحاج قومه بنعم الله عليهم: «أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» (146- 148: الشعراء) ..
ويقول سبحانه: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» (11: النحل) .. ويقول جل شأنه لمريم: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً» (25- 26 مريم) .
فقد كانت النخلة قائمة بمشهد من هذه المعجزة التي ستطل على الوجود بميلاد المسيح عليه السلام، روح الله وكلمته إلى مريم.. فكانت متكأ لمريم، وصدرا حانيا تستند إليه فى شدتها التي كانت تعانى منها، كما كان ثمرها مائدة الله التي دعا مريم إلى أن تطعم منها.. إنها خير ثمر وأطيب ما تخرج الأرض من ثمر! وقوله تعالى: «باسِقاتٍ» أي عاليات، تطاول أعناقها السماء، فلا تكاد شجرة فى الأرض تبلغ المدى الذي تصل إليه، وكأنها بهذا تتربع على عرش للملكة النباتية، وتشرف عليها من هذا العلو..
وقوله تعالى: «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ» الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل، حين يتفتح الجراب الذي يضم فى كيانه زهر هذا الثمر.. والنضيد: المنضود، وهو المرصوص فى نظام تجتمع فيه الحبات، كما تجتمع حبات العقد النظيم.
وفى هذا الوصف للنخلة فى سموقها وطولها، وللثمر فى تنضيده، وانتظام حباته- فى هذا إلفات إلى هذا الحسن الرائع، والجلال المهيب، مما يراه الذين يرون مواقع الحسن والروعة والجمال والجلال فى آيات الله، وما أبدعت قدرته فى هذا الوجود!(13/473)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
قوله تعالى:
«رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ» ..
هو بيان لبعض ما لهذه الجنّات والزروع والنخيل من أثر فى حياة الناس، وأنها مما يرزقه الله عباده من رزق كريم..
وقوله تعالى: «وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» معطوف على قوله تعالى: «فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» .. أي وأحيينا بهذا الماء بلدة ميتا، فلولا هذا الماء ما قامت حياة على هذه الأرض، وما قامت هذه البلاد العامرة، والتي كانت قبل الماء ترابا هامدا..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ الْخُرُوجُ» - هو تعقيب على قوله تعالى: «وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» .. أي أنه كما أقام الماء هذه الحياة من الأرض الميتة، فإنه غير منكور أن يبعث الموتى من القبور، ويلبسوا الحياة من جديد، كما لبست الأرض الميتة الهامدة هذه الحياة حين أصابها الماء، وسرى فى أوصالها..
الآيات (26- 12) [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 26]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)(13/474)
التفسير:
قوله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» ..
أصحاب الرس: قيل إنهم أهل قرية باليمامة، وقد كثرت الأقوال فيهم، زمانا ومكانا، كما أن القرآن لم يذكر اسم رسولهم «1» وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، والأيكة: الشجر الكثير الكثيف..
وقوم تبع: هم أهل سبأ، من اليمن، وقد ذكرهم القرآن، وذكر كفرهم بنعم الله، وقد أرسل الله عليهم سيل العرم، فأتى على كل عامر بين أيديهم..
والضمير فى «قبلهم» يعود إلى مشركى مكة.. وهم المخاطبون بالآيات السابقة..
وفى هذه الآيات تعرض عليهم صورة من حياة الماضين الذين كانوا على ضلال كهؤلاء الضالين.. وقد عرضت عليهم من قبل آيات الله، تحمل إليهم
__________
(1) انظر ص 25 من الكتاب العاشر للتفسير القرآنى للقرآن. [.....](13/475)
دلائل قدرته، وما أفاض عليهم، وعلى العباد من نعمه ومننه، فإن هم لم ينظروا فى هذه الآيات، ويهتدوا إلى الله، ويؤمنوا به، ويشكروا له، أخذهم الله بما أخذ به الضالين المكذبين قبلهم.. فهم ليسوا أول من كذب بآيات الله، وبهت رسل الله، وهم لن يخرجوا عن سنة الله التي خلت فى أخذ الظالمين بظلمهم، وإنزال البلاء بهم..
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ» .. فهؤلاء بعض المكذبين فى القرون الماضية، والأمم الغابرة، وقد علم المشركون أخبارهم، وما كان من أخذ الله لهم، ووقعاته فيهم.. ولهذا خصهم الله بالذكر..
ويلاحظ هنا أن فرعون ذكر وحده، دون قومه، وعدّ وحده مجتمعا قائما بذاته، إذ كان سلطانه ممكنا فى قومه، وكان قومه جميعا فى قبضة يده، فكفر قومه تبع لكفره، كما يقول سبحانه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ» (54: الزخرف) .
وقوله تعالى: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ» أي أن هؤلاء الأقوام جميعا كذبوا رسل الله السابقين، كما كذب المشركون رسول الله محمدا..
وقوله تعالى: «فَحَقَّ وَعِيدِ» أي وجب عليهم وعيد الله ولزمهم.. ووعيد الله عذابه الذي توعد به المكذبين والضالين..
قوله تعالى:
«أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» ..
عادت الآيات لتكشف عن الآفة التي أفسدت على المشركين أمرهم، وباعدت بينهم وبين الإيمان بالله، والتصديق برسول الله.. وتلك الآفة هى استبعادهم(13/476)
للحياة بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. وكان قولهم فى هذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (37: المؤمنون) ..
فقضية البعث والقيامة، هى المدخل الذي دخل منه على القوم كل كفر وضلال..
إنهم مستعدون لأن يؤمنوا بالله، وأن يفردوه وحده بالألوهية.. ولكن الأمر الذي لا يقبلونه، هو الإيمان باليوم الآخر، فذلك ما لا يتصورونه، ولا يسمعون لقول يقال لهم فيه..
والإيمان كلّ لا يتجزأ، فمن آمن بالله، وكفر بكتبه، ورسله واليوم الآخر، فهو على غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) ..
فقوله تعالى: «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ» هو مواجهة للمشركين بما ينكرونه من أمر البعث، وما يقع فى تصورهم من استبعاد له..
فهذا الاستفهام ينكر على المشركين ضلال تصورهم لقدرة الله، وسوء إدراكهم لآثار تلك القدرة.. فهذا الوجود القائم، بعوالمه المختلفة فى السموات والأرض- ألم يكن من صنعة الله؟ فهل عجز الله- سبحانه- عن أن يبدع هذه المبدعات؟ وهل أعياه أمرها؟ فكيف يعجز سبحانه عن إعادة ما انتثر من عقدها؟ وكيف يعيا- سبحانه- عن أن يبعث الحياة فيما همد من أحيائها؟
ذلك ما لا يقبله عقل نظر فى خلق الوجود كله ابتداء، ثم تطلع إلى طيه ونشره ثانيا! ..
وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» ..
للبس: الاختلاط الذي يقع من عدم وضوح الرؤية للأمر، وتبيّن وجه الحق فيه..(13/477)
واللّبس الذي لبس عقول المشركين واستولى عليها، هو فيما يتعلق بالبعث، وإعادة الحياة إليهم بعد الموت..
وهذا مما يشير إليه قوله تعالى فى آية سابقة من هذه السورة، وهى قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» .
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» ..
فى هذه الآية عرض آخر لقدرة الله سبحانه وتعالى، وقد غاب مفهوم هذه القدرة عن عقول هؤلاء المشركين.. وفى إعادة هذا العرض لقدرة الله، تذكير لهم ببعض مظاهرة هذه القدرة، ليراجعوا عقولهم مرة أخرى، وليرجعوا من طريق الضلال الذي هم سائرون فيه..
فالله سبحانه، هو الذي خلق هذا الإنسان من تراب الأرض، فجعل منه هذا الكائن العاقل، السميع، البصير، وهو سبحانه الذي يعلم من أمر هذا الإنسان ما توسوس به نفسه من خواطر، وما يضطرب فيها من خلجات..
وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان- كل إنسان- من حبل الوريد..
وحبل الوريد: هو عرق فى صفحة العنق.. وسمّى العرق حبلا، لأنه يشبه الحبل فى امتداده واستدارته.. وسمى وريدا، لأنه يستورد الدم النقي من القلب، ويصبّه فى الأوعية الدموية التي يتغذى منها الجسم..
قوله تعالى:
«إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ» ..(13/478)
أي أن الله سبحانه مع قربه هذا القرب المستولى على كيان الإنسان كله، ظاهرا وباطنا- فإنه سبحانه قد وكل بهذا الإنسان جنديين من جنوده، يتلقيان منه كل ما يصدر عنه، من قول أو فعل، فيكتبانه فى كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة..
و «إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» - بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وفى الوقت نفسه يقوم عليه جنديان من جنود الله، يسجلان عليه كل ما يقول، أو يفعل.. كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» . فكيف يكون للإنسان مهرب من الحساب والجزاء؟
قوله تعالى:
«ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» - هو بيان شارح لوظيفة الجنديين القاعدين عن يمين الإنسان وعن شماله.. فهما واقفان للإنسان بالمرصاد.. ما يلفظ من قول إلا كان على هذا القول «رقيب» أي مراقب، يسمع ما يقال، ويسجله، وهو «عتيد» أي حاضر دائما لا يغيب أبدا.. وليس رقيب وعتيد، اسمين للملكين القائمين على الإنسان، الموكلان به، وإنما ذلك وصف لكلّ منهما، فكل منهما رقيب يقظ، حاضر أبدا..
قوله تعالى:
«وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» .
سكرة الموت: ما يغشى الإنسان ساعة الاحتضار، من غيبوبة أشبه(13/479)
بغيبوبة من يقع تحت خمار الخمر، فتنطفىء لذلك تلك الشعلة التي تمدّ كيانه بالحرارة والحركة، ويبدو وكأنه جثة هامدة، بلا شعور، ولا حركة، ولا وعى!.
وقوله تعالى «بِالْحَقِّ» متعلق بالفعل «جاء» أي جاءت سكرة الموت محملة بالحق، الذي غاب عن هذا الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر، حيث يرى عند الاحتضار، ما لم يكن يراه من قبل، وحيث يبدو له فى تلك الساعة كثير من شواهد الحياة الآخرة، التي هو آخذ طريقه إليها..
وقوله تعالى: «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» - الإشارة إلى «الحق» وهو الموت، وما وراءه من بعث وحساب وجزاء.. وذلك الحق هو ما كان هذا الكافر باليوم الآخر، منكرا له، حائدا عن الداعي إليه، المنذر به..
وقرىء: «وجاء سكرة الحق بالموت» ويكون المعنى على هذا، وجاءت سكرة الحق بالموت الذي كان يحيد عنه هذا الإنسان، والذي كان فى حياته غير مقدر أنه سيموت.. «يحسب أن ماله أخلده» .. فهو لهذا غافل عن الموت، كما يقول سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» ..
قوله تعالى:
«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» ..
هو عرض للأحداث التي تجىء بعد الموت.. فليس هذا الموت هو آخر المطاف، وإنما وراءه بعث، وحساب، وجزاء..
والنفخ فى الصور، هو كناية عن أمر الله، ودعوته إلى الموتى بالخروج من قبورهم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» (25: الروم) ..(13/480)
والصور: أداة ينفخ فيها، عند كل أمر عظيم، يجتمع له الناس، لحرب أو نحوها.. وكان يتخذ عادة من قرن حيوان من ذوات القرون الكبيرة كالوعول ونحوها..
وقوله تعالى: «ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» أي ذلك النفخ إيذان بحلول يوم الوعيد، وهو يوم القيامة، الذي توعّد الله سبحانه وتعالى فيه أهل الشرك والضلال، بالعذاب الأليم فى نار جهنم..
قوله تعالى:
«وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» - أي فى هذا اليوم- يوم الوعيد- تجىء كل نفس ومعها «سائِقٌ» من ورائها يسوقها إلى المحشر، وموقف الحساب، «وَشَهِيدٌ» - وهو الذي يشهد على الإنسان بما كان منه فى الدنيا، من إيمان بالله وباليوم الآخر، أو كفر بالله، وبالبعث والحساب والجزاء.. فهو يحضر الحساب، ويشهد على الإنسان بما عمل..
ومع كل إنسان أكثر من شاهد.. فهناك الرسول الذي يشهد على قومه، كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) ، وكما يقول جل شأنه: «وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ» (75: القصص) .. وهناك الجوارح التي تشهد على الإنسان، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) .. وهناك الملكان الموكّلان بالإنسان، واللذان سجلا عليه كل أعماله..
وقد أفرد هؤلاء الشهداء، فكانوا «شهيدا» واحدا، لأنهم يشهدون شهادة واحدة، لا اختلاف فيها، لأنها شهادة الحق الذي لا تشوبه شائبة(13/481)
من كذب، أو افتراء.. فكانوا بهذا أشبه بشاهد واحد، وكأنهم صوت يتردد.. له أكثر من صدى..
قوله تعالى:
«لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» .
هو جواب عن تساؤلات كثيرة يتساءلها هذا الإنسان الذي كان لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر.. وذلك أنه حين ينفخ فى الصور، ويخرج من قبره مع الخارجين من قبورهم- يدهش لهذا الأمر، وتعروه منه حال من التبلد والجمود والحيرة، وكأنه فى حلم رهيب مزعج.. ويسأل نفسه ما هذا الذي يجرى حوله؟ وأين هو؟ وما خطبه؟ وماذا يراد به وبالناس؟ ..
إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا.. ثم ينكشف له الأمر حالا بعد حال، وإذا منادى الحق يناديه هذا النداء الذي يكشف له عن المصير المشئوم الذي هو صائر إليه: «لقد كنت فى غفلة من هذا» فى حياتك الدنيا، لا تستمع إلى من يحدثك به، ويقدم لك الأدلة والبراهين عليه..
أما الآن، فإنك سترى بعينيك حقيقة ما كنت تحسبه وهما وضلالا:
«فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» ..
لقد كشف عنك غطاء الغفلة الذي كان مضروبا على بصرك، فبصرك اليوم حديد، أي قوىّ، يرى كل ما بين يديك وما خلفك.. فالحديد من الحدّة، وهى القوة، وحدّ السيف: الجانب القاطع منه..
وهذه الآية تشبه ما جاء فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» (51، 52 يس)(13/482)
قوله تعالى:
«وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ» القرين هنا، هو صاحب السوء، الذي يضلّ صاحبه، ويقوده إلى مواقع الإثم والضلال.. والمراد به هنا الشيطان، ومن يشبه الشيطان من الناس فى الإغواء والإضلال..
إن قرناء السوء يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويقع بينهم التلاحي والترامي بالتهم.. أما أهل السلامة والتّقى، فإن المودة قائمة بينهم فى الدنيا، على التناصح، والتناصر، والتواصي بالحق والصبر، فإذا كان يوم الآخرة، تلاقوا على الرضا، وتساقوا كئوس الحمد والرضوان، كما يقول سبحانه:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .
فقرين السوء الذي زيّن الضلال لصاحبه، يلقاه يوم القيامة بما كان قد زيّنه له، مما يسوءه ويسوقه إلى جهنم.. إنه حين تحيط بالضلال خطيئنه، يتلفت حوله باحثا عن قرينه، فلا يجد من قرينه إلا هذه البضاعة الحاضرة!! قوله تعالى:
«أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ» الضمير فى «ألقيا» يعود إلى السائق والشهيد، فى قوله تعالى: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» - فتلك هى الغاية التي يساق إليها هذا الضالّ المكذّب بالله واليوم الآخر، وذلك هو الحكم الذي يقضى به الحكم العدل، بعد أن يؤدى الشاهد شهادته.. وليس هذا حكما مقضيّا به على واحد بعينه، وإنما هو حكم يؤخذ به كل كفار عنيد.. إنه حكم عام على أهل الكفر(13/483)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
والضلال، فكل نفس قد جاءت ومعها سائق وشهيد.. أما النفس المؤمنة الصالحة، فتزفّ إلى الجنة، فى حفاوة وتكريم.. وأما النفس المجرمة الفاجرة فإنها تدفع دفعا، وتلقى إلقاء فى جهنم، كما يلقى الحطب فى النار..
وقوله تعالى:
«مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» هو من حيثيات هذا الحكم الذي حكم به على أهل الكفر والضلال.. فالكفر هو الذي أورد أهله هذا المورد الوبيل، والكفر هو الذي قاد صاحبه إلى العناد والشرود عن الحق، وهو الذي جعل بينه وبين الخير هذه العداوة المستحكمة، التي تجعله يكره وجه الخير، فيلقاه محاربا له فى نفسه، وفى الناس.. والكفر هو الذي جعله حربا على الآمنين والمسالمين، يبادئهم بالعدوان بغير جريرة منهم إليه..
ثم يقوم على هذه المآثم كلها، هذا الإثم الغليظ، وهو الشرك بالله..
وقوله تعالى:
«فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ» تأكيد للحكم: «ألقيا فى جهنم» الذي ووجه به الكافر قبل أن يستمع إلى حيثيات الحكم، ثم إذا استمع إلى تلك الحيثيات، جاء الحكم فى صورة أشدّ هولا، وأسوأ عاقبة.. إنه ينزل من جهنم فى أسوأ منازلها، وأشدّها عذابا..
الآيات (37- 27) [سورة ق (50) : الآيات 27 الى 37]
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)(13/484)
التفسير:
قوله تعالى:
«قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» هو عرض لصورة من صور التلاحي والترامي بالتهم بين قرناء السوء يوم القيامة..
فحين يؤخذ أحد القرينين- وهو التابع- ليساق إلى جهنم، يتعلق به صاحبه، قائلا: ربّ هو الذي أضلنى عن الحق، وأغوانى بما أغوانى من ضلال..
وهنا يحاول القرين المتبوع، وهو الشيطان- دفع هذا الاتهام عن نفسه، فيقول:
«رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» .. إنه كان مسوقا إلى الضلال بنفسه، متجها إليه بأهوائه، سواء وجد من يدعوه إلى هذا الضلال أو لم يجد.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (22: إبراهيم)(13/485)
قوله تعالى:
«قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ» ..
هو قولة الحق من الله سبحانه وتعالى، إلى قرناء السوء، سواء منهم التابعون، والمتبوعون.. إنه لا تخاصم اليوم بين يدى الله، فقد توعد الله أهل الضلال، وحذرهم عاقبة أمرهم، وإن مع كل إنسان عقلا يدرك به، ونظرا يرى به عواقب الأمور، وليس يغنى فى مقام المساءلة والمحاسبة أن يلقى إنسان بجرمه على غيره «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
(14- 15: القيامة) ..
قوله تعالى:
«ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
أي أنه لا ينقض هذا الحكم الذي قضى الله به فى أهل الضلال، ولن تنفع الظالمين معذرتهم، ولا هم يستعتبون..
وقوله تعالى: «وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .. هو توكيد لقوله تعالى:
«ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» .. لأن هذا حكم من أحكم الحاكمين، رب العالمين، الذي يقضى بين عباده بالحقّ..
قوله تعالى:
«يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» ..
أي إن هذا القضاء إنما يكون يوم القيامة، يوم يعرض الناس على رب العالمين، يوم يساق المجرمون إلى جهنم.. وإنهم لأعداد كثيرة، يتقحمونها فوجا بعد فوج، وهى فاغرة فاها لتبتلع كل وارد عليها، دون أن تشبع..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» 68:
(العنكبوت) ..(13/486)
قوله تعالى:
«وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» ..
هذه أول آية فى هذه السورة تتحدث عن المؤمنين، وما أعد الله لهم من ثواب عظيم وأجر كريم.. فقد كانت السورة كلها مواجهة لأهل الشرك والضلال، وما دخل عليهم من شركهم وضلالهم، من إنكار ليوم البعث، حتى إذا جاءهم هذا اليوم، ذهلوا وذعروا، ثم إذا سيقوا إلى المحشر، والتقى بعضهم ببعض- أنكر بعضهم بعضا، وتراموا بالعداوة والبغضاء، ثم ألقوا جميعا فى جهنم التي لا تضيق بكثرة الواردين إليها..
فقوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» هو النسمة العليلة المنعشة التي تطلع فى هذا الجوّ الخانق، الذي يكظم الأفواه، ويزكم الأنوف، مما يهب من سعير جهنم، ومن صرخات أهلها..
إن يوم القيامة ليس كله هذا الهول وهذا البلاء، بل إن فى هذا اليوم مباهج، ومسرات، وبشريات مسعدة لأهل الإيمان والتقوى.. وأنه إذا كان هناك جهنم التي تفغر فاها لأهل الشرك والضلال، فإن هناك أيضا جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين.. وأنه إذا كانت جهنم تنتظر الواردين الذين يسوقهم إليها سائق عنيف يدعّهم دعّا، ويلقى بهم إلقاء فيها، فإن الجنة تسعى للقاء أهلها، وتلقاهم متوددة، متلطفة، تماما كما يفعل المضيف عند استقبال ضيف عزيز كريم، فيلقاه على الطريق مرحبا محييا..
فقوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ» أي قربت، والزلفى: القرب.. وهذا يكون فى مقام الإحسان، كما فى قوله تعالى: «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» (40: ص) ..(13/487)
قوله تعالى:
«هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ..»
أي هذا الجزاء الكريم الطيب، هو ما وعد الله سبحانه به الذين آمنوا وعملوا الصالحات..
والأوّاب: مبالغة من الأوب، وهو الرجوع، والمراد به الرجوع إلى الله، والاعتصام به فى كل حال، وإضافة الأمر إليه فى السراء والضراء.. فهذا هو مقتضى الإيمان الحق بالله، حيث يقوم من هذا الإيمان شعور قوىّ حىّ، يصل الإنسان بربه أبدا، فإذا كان منه انحراف مع هواه لم يلبث أن يردّه هذا الشعور إلى ربه تائبا مستغفرا، كما يقول سبحانه. «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. (201: الأعراف) والحفيظ: مبالغة من الحفظ، وهو حفظ الإنسان لنفسه، وحراستها من الأهواء والضلالات التي ترد عليها.. ثم حفظ ما اؤتمن عليه من أحكام دينه..
وقوله تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» بدل من قوله تعالى: «أَوَّابٍ حَفِيظٍ» .. فالأوّاب إنما كان أوابا وكان حفيظا، لأنه كان على خشية لربه، وخوف من لقائه، وعذابه..
والمراد بالخشية بالغيب، الخشية التي تكون من الإنسان فى غير حضور من وازع سلطان أو قانون، وحيث تمكن الإنسان الفرصة من أن يفعل المنكر، ويرتكب الفحشاء من غير أن يطلع عليه مطلع، ولكنه يردّ نفسه عن هذا خوفا من الله، وحياء من جلاله..(13/488)
وفى ذكر الاسم الكريم «الرحمن» هنا- إشارة إلى مبلغ التقوى والخشية التي تستولى على نفس هذا المؤمن الذي يخشى ربه، وهو يستحضر رحمته ويذكر سعة هذه الرحمة، ومع هذا فإن ذلك- وإن أطمعه فى رحمة الله- لا يجرّئه على محاربته بالمعصية، بل إنه فى حضور هذه الرحمة يكون أشد حبّا لربه، ومن أحب لم يكن منه عصيان لمن امتلأ قلبه بحبه..
وقوله تعالى: «وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» - معطوف على قوله تعالى: «خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» .. أي كانت منه خشية للرحمن بالغيب، وكان منه مجىء، وعودة إلى ربه بقلب منيب، أي راجع من شروده الذي كان متجها به إلى طريق المعصية.. فالقلب هو موطن المعتقدات الصالحة أو الفاسدة، ومصدر التصرفات الطيبة أو الخبيثة، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب) ! ..
قوله تعالى:
«ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ» ..
هو التفات إلى أهل الإيمان والتقوى، هؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب، ويقبلون عليه بقلوب سليمة، منيبة، وهو دعوة كريمة من رب كريم إليهم أن يقبلوا هذه الضيافة الكريمة التي ينزلهم فيها، وقد جاءوا إليه سبحانه، مسلمين تائبين.
وقوله تعالى: «بِسَلامٍ» هو حال من فاعل «ادْخُلُوها» أي أدخلوا هذه الجنة التي أزلفت لكم، مصحوبين بسلام، لا يمسّكم ما يسوء أبدا..
قوله تعالى:
«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» ..(13/489)
الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فيه مزيد حسرة لأهل الضلال والشرك، وكأن هذا حديث إليهم، وردّ على ما يغلى فى صدورهم من حسد لأهل الإيمان والتقوى، الذين دعاهم الله سبحانه إلى جنته ورضوانه، وأنهم إذ يحسدون المؤمنين على هذه الجنة التي أزلفت لهم فليسمعوا إذن ما يؤحج هذه النار المشتعلة فى قلوبهم من حسرة وحسد: إن هذه الجنة سيجد فيها أهلها ما يطلبون، وما يشتهون من كل شىء، يجدون ذلك حاضرا عتيدا بين أيديهم من غير سعى أوكد.. بل وأكثر من هذا، فطن الله سبحانه يسوق إليهم من فضله وإحسانه ما لم يقع فى حسابهم، وما لم يخطر على بالهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» بعد قوله سبحانه: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها» ..
قوله تعالى:
«وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ.. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ» عاد الحديث مرة أخرى، ليصل ما انقطع من أخبار أهل الكفر والضلال، وما يلقون على طريق كفرهم وضلالهم، وما تنتهى إليه مسيرتهم التي تلقى بهم فى سواء الجحيم..
وهذا الحديث يواجه المشركين بعد أن رأوا مشاهد القيامة، وما فيها من عذاب ونعيم، عذاب لأهل الكفر والفسوق والعصيان، ونعيم لأهل الإيمان، والطاعة والتقوى.. فلينظروا بعد هذا إلى أنفسهم، وليأخذوا الطريق الذي يشاءون، إلى النار إن شاءوا، أو إلى الجنة إن أرادوا. وأنهم إن أبوا أن يتوقفوا عن مسيرتهم على طريق غيهم وضلالهم، مغترين بقوتهم، معتزين بمكانتهم فى أهليهم- فليعلموا أنهم أضعف قوة، وأقل شأنا ممن(13/490)
كان قبلهم من أهل الضلال، وقد أهلكهم الله، وأنزلهم منازل الهون والعذاب..
وقوله تعالى: «فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ» .. التنقيب فى البلاد: السعى بالإفساد فيها، واستعمال قوتهم فى الاستبداد بالعباد، كما يقول سبحانه فى فرعون وملائه:
«وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» (10- 13 الفجر) وقوله تعالى: «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟» أي هل انتفع هؤلاء المغترون بقوتهم المعتزون بسلطانهم، فى ردّ بأس الله عنهم، وفى رفع البلاء الذي أخذهم به؟
كلا. فما أغنى عنهم ذلك من الله من شىء..
والمحيص: المفرّ من مواجهة البلاء، والتماس السلامة من الهلاك.. وفى هذا يقول الشاعر:
وهل نحن إن حصنا عن الموت حيصة ... هل العمر باق والمدى متطاول؟
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» أي فى هذه المعارض التي تعرضها الآيات، فى مقام الوعد أو الوعيد- فى هذه المعارض موعظة، واعتبار، وذكرى.. ولكن ليس هذا لكل إنسان، بل «لمن كان له قلب» - أي كان ذا قلب سليم، معافى من الآفات التي تقتل كل بذرة خير تبذر فيه، فلا تنبت زهرا، ولا تطلع ثمرا.. كما أن المعارض فيها عبرة، وذكرى، وموعظة، لمن كان قلبه فى غفوة وغفلة عن مواقع العبر والعظات، ولكن كان له أذن واعية، تستمع لما يلقى إليها من آيات الله(13/491)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
وكلماته، ومن نصح الناصحين، ووعظ الواعظين.. وهنا يتنبه القلب الغافل، ويصحو القلب الغافى..
وهذا يعنى أن الإنسان قد يتهدّى إلى الهدى بنفسه، ويرد موارد السلامة والنجاة ببصيرته، إذا كان معه قلب سليم، وفطرة لم تقع فريسة لآفات الهوى والضلال.. فإذا لم يكن مع الإنسان هذا القلب وتلك الفطرة، فإنه يمكن أن يأخذ طريق الهدى من خارج ذاته، إذا هو أصغى إلى كلمات الحق الواردة عليه من رسل الله، أو الراشدين المهتدين من عباد الله.. شأنه فى هذا شأن الأعمى، الذي إن أسلم يده لمبصر قاده إلى مأمنه، وإن هو استبدّ به العناد، وأبى أن يعطى يده لأحد، سار متخبطا، يتردّى فى الحفر والمعاثر، حتى يهوى فى مهلكة من المهالك!
الآيات (45- 38) [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)(13/492)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ» اللغوب: الفتور الذي يلحق الإنسان من عمل مجهد شاق..
والآية تعرض بعض مظاهر قدرة الله، ليرى منها المغترون بقوتهم، أين تقع هذه القوة من قوة الله.. وهل إذا طلبهم الله، وأرادهم بسوء- هل لهم من قوتهم ما يدفع عنهم بأس الله، وتلك بعض مظاهر قوته..؟
وتقدير خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ليس الزمن الذي تحتاج إليه قدرة الله لخلق هذه العوالم، وإنما هو- كما قلنا فى أكثر من موضع- تقدير الزمن الذي تنضج فيه وتستوى هذه الأكوان، شأنها فى هذا شأن كل مخلوق، كما يرى ذلك فى مسيرة الحياة فى الأحياء من نبات وحيوان..
أما قدرة الله سبحانه وتعالى، فلا يحكمها زمان: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وهذا يعنى أن الزمن عنصر من عناصر الخلق، وأن لكل مخلوق زمنا يتحرك فيه، كما أن له مكانا يدور فى فلكه..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» هو مواساة للنبىّ الكريم فيما يلقى من أذى قومه، وما تلقى به(13/493)
أفواههم من فحش القول، وزور الحديث، فى شأن الرسول، وفى آيات الله التي يتلوها عليهم.. ثم هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم مأخوذون بوعيد الله لهم، وأنهم لن يفلتوا من بأس الله إذا جاءهم..
وقوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» هو دعوة للنبى أن يدع هؤلاء المشركين، وألا يصرف وقته كله فى النصح لهم والجدل معهم.. بل إن عليه أن يخلص بنفسه ساعات يلقى فيها ربه، مسبّحا بحمده، متزودا بهذا الزاد الطيب الذي يمده بأسباب القوة والقدرة على احتمال هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال..
وفى اختصاص هذين الوقتين- قبل طلوع الشمس وقبل غروبها- بتسبيح الله وحمده، لأنهما- والله أعلم- هما الوقتان اللذان يحويان بين طرفيهما، الوقت الحىّ من حياة الناس، والذي فيه يكون العمل فى ميادينها المختلفة.. والتسبيح بحمد لله قبل طلوع الشمس، هو السلاح الذي يتسلح به الساعي إلى العمل والجهاد، فيكون له منه القوة التي تعينه فى عمله وجهاده.. والتسبيح بحمد الله قبل غروب الشمس، هو صلاة شكر وحمد لله على ما كان منه من عون وتوفيق.. ثم هو استغفار لما وقع من إهمال أو تقصير.
قوله تعالى:
«وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ» ..
«مِنَ» هنا للتبعيض.. أي ومن بعض الليل لا كله..
وهو معطوف على قوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» .. أي وسبحه كذلك بعضا من الليل، وفى أدبار السجود، أي أعقاب الصلوات.. فى الليل أو فى النهار..(13/494)
والتسبيح بالليل يعنى أن الليل ليس كله وقتا ميّتا، بل فيه أوقات حية عند المؤمنين بالله، يحيونها بذكر الله والتسبيح بحمده، حيث تخلو النفس من شواغل الحياة، ويفرغ القلب من الواردات التي ترد عليه منها فى النهار.. ففى هذه الأوقات من الليل يطيب الذكر، وتصفو موارد الذاكرين.. ومثل الليل فى هذا الأثر الذي يحدثه فى النفس من الصفاء والصحو الروحي- ما يكون من المصلّى أثناء السجود، حيث يضع المصلى وجهه على الأرض، فلا يرى من هذا الوجود شيئا يحجبه عن الله، أو يشغله عن النظر إليه.. وهذا ما يشير إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه فى قوله: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد» ..
قوله تعالى:
«وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» ..
الخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، ومن ورائه المؤمنون.. وهو معطوف على قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ..» وما بعده..
والمراد بالاستماع هنا، إما أن يكون الانتظار، كما يقول سبحانه:
«فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ» (47: القمر) وكما يقول جل شأنه: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» (10: الدخان) وقوله جل شأنه: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» (18: غافر) ..
وعلى هذا يكون الفعل مسلطا على ما بعده، وهو «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» الذي وقع مفعولا لهذا الفعل..
وفى التعبير عن الانتظار والترقب بالاستماع- إشارة إلى ما يجىء وراء(13/495)
هذا الانتظار، وهو هذا النداء الذي ينادى به الموتى من قبورهم، فيخرجون من الأجداث سراعا.. فكأن الأمر بالانتظار يحمل فى مضمونه أمرا بالاستماع، فحسن فى مقام التهديد أن يقوم المحمول مقام الحامل، لأنه هو المراد..
وإما أن يكون الاستماع على حقيقته، ويكون معموله المسلط عليه محذوفا، تقديره «واستمع» ما سنحدثك به بعد، وأصخ إليه سمعك، فهو أمر عظيم، ينبغى أن يلقاه الإنسان بكيانه كله، حتى يعيه، وحتى لا يفوته منه أي شىء..
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» - يكون هذا هو ما دعى النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى الاستماع له.. ومفهوم هذا أن هناك يوما سينادى فيه المنادى من مكان قريب، وأن هذا اليوم هو اليوم الذي يسمع فيه الموتى هذا النداء، وذلك هو يوم الخروج من القبور الذي يكذب به المشركون..
ووصف المكان بأنه قريب- إشارة إلى أن كل إنسان سيسمعه، أيا كان مكانه، حيث يقع النداء فى أذن كل ميت، وكأن هاتفا يهتف به وهو قائم على رأسه..!
قوله تعالى:
«إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ» ..
هو إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق فى ملكه، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء..(13/496)
وبهذا السلطان يحيى الله سبحانه وتعالى كل حىّ، وبهذا السلطان يميت الله كل حى، وبهذا السلطان يصير كل ما فى الوجود إليه، يقبضه ويبسطه كيف يشاء.. فالبعث الذي ينكره المشركون، هو أمر واقع فى سلطان الله.. فكما ملك- سبحانه- الحياة، يملك الموت، وكما ملك الموت يملك الحياة..
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» .
هو متعلق بقوله تعالى: «وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ» - أي إلينا مصير الخلق جميعا، يوم تتشقق الأرض عنهم، ويخرجون من قبورهم سراعا إلينا، أي مسرعين إلى حيث الحساب والجزاء..
وقوله تعالى: «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» .. أي ذلك الحشر، حشر يسير علينا، لا نتكلف له جهدا.. «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (40: النحل) ..
قوله تعالى:
«نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» .
هو تهديد ووعيد المشركين المكذبين بيوم الدين.. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما يقولون من مفتريات وأباطيل فى النبي، وفى الكتاب الذي يتلوه عليهم، وسيجزيهم بما هم أهل له، من العذاب والنكال!(13/497)
وقوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» - هو بيان لموقف النبي من هؤلاء المعاندين المكابرين، الذين لجّ بهم الضلال، والعناد، ولن يأخذوا طريق الهدى إلا إذا أخذوا قهرا وقسرا، بيد قوية جبارة.. وهذا ليس من وظيفة النبي، ولا من محامل دعوته التي جاءت تحاجّ العقل، وتقوده بالحجة والبرهان.. فذلك هو السبيل الذي تصلح به القلوب الفاسدة، إن كان ثمة سبيل إلى إصلاحها..
وذلك هو الأسلوب الذي يقيم الدين بمقامه المكين من النفوس، إن كانت مهيأة لقبول الخير، صالحة للتجاوب معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» وقوله سبحانه: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وقوله جل شأنه: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» ..
وقوله تعالى: «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» - هو بيان لمقام النبي من دعوته، وأسلوبه فى الدعوة إليها: التذكير بالقرآن، وذلك بتلاوته على الناس جميعا. كما يقول له الحق سبحانه وتعالى:
«إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» (91- 92 النمل) ..
وفى اختصاص الذين يخافون وعيد الله بتلاوة القرآن عليهم، وتذكيرهم(13/498)
بما فيه من زواجر، مع أن الرسول مطالب بأن يتلو القرآن على الناس كلهم، وأن يذكّرهم بزواجره- فى هذا إشارة إلى أن الذين من شأنهم أن يخافوا وعيد الله إذا استمعوا إليه، هم الذين ينتفعون بهذا القرآن، وأمّا سواهم الذين لا يسمعون، ولا يعقلون، فهم همل ضال ضائع، لا حساب له فى هذا المقام..
كما يقول سبحانه: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» (18: فاطر) وقوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» (45: النازعات) ..(13/499)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
51- سورة الذاريات
نزولها: مكية عدد آياتها: ستون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف ومائتان وسبعة وسبعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ذكرت سورة «ق» موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات الله ومن دلائل قدرته، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات، وانحراف هذا الموقف.. ثم ختمت السورة بتخلية النبىّ بين المشركين المعاندين، وبين ما ركبوا من ضلال..
ثم تجىء سورة «الذاريات» ، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين، بحديث مجدّد عن البعث، والحساب والجزاء، ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم، بل ضمن حديث عام مطلق، موجّه إلى الناس جميعا.. فإن شاءوا استمعوا إليه، وكان لهم أن ينتفعوا به، وإن شاءوا مضوا على ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه فى مطلع هذه السورة الكريمة.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات (14- 1) [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)(13/500)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» .
هذه أربعة أشياء أقسم بها الله سبحانه وتعالى بها، فى نسق واحد.. الذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسّمات..
وقد اختلف فى هذه الأشياء المقسم بها.. أهي شىء واحد تعددت صفاته وآثاره؟ أم هى أشياء متعددة، لكل شىء منها صفته وأثره؟
والرأى الراجح فى هذه الآراء، هو أنها أربعة أشياء.. لكل شىء ذاتيته ووظيفته..
فالذاريات: الرياح، التي تذرو التراب، والدخان، كما تذرو بخار الماء، وتدفعه أمامها، وتعلو به إلى طبقات الجوّ العليا، حتى يتجمع، وبصير سحابا..
والحاملات: هى السحب، المحملة بالماء..(13/501)
والجاريات: هى السفن التي تجرى فوق الماء..
والمقسّمات: هى الملائكة التي تتقاسم العمل بأمر الله، فى تدبير شئون الناس..
وهذا الرأى يعضّده حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يسند حمل هذا الحديث إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وقد سأله ابن الكوّاء عن حقيقة هذه المسميات، فأجابه عمر- رضى الله- على نحو هذه الإجابة، وفى كلّ واحدة منها يقول عمر:
«ولولا أنى سمعت رسول الله يقولها ما قلتها» ..
وعلى هذا تكون هذه الآيات قد تضمنت أربعة أقسام، مرتبة بهذا الترتيب المتعاقب..
أما الكلمات: ذروا، ووقرا، ويسرا، وأمرا، فالرأى الذي نراه- والله أعلم- أنها أحوال متلبسة بهذه الأشياء التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وأن الله سبحانه وتعالى أقسم بها فى تلك الحال المتلبسة بها.. فهذه الحال هى التي تجعل لهذه الأشياء شأنا وقدرا، ولو أنها تجردت من هذه الحال، أو لبست حالا أخرى، لما كان لها هذا الشرف العظيم، بأن أقسم الله بها، فإن فى قسم الله سبحانه وتعالى بالشيء تكريما له، ورفعا لقدره، وتنويها لمقامه بين الأشياء..
فالذاريات ذروا: هى الرياح فى حال هبوبها، وقدرتها على حمل بخار الماه والصعود به إلى طبقات الجوّ العليا، ولو أنها كانت أنساما رقيقة مريضة، لما أثارت الأمواج، ولما تحرك من صدر البحار بخار، ولو كان هناك بخار لما استطاعت حمله، والارتفاع به إلى حيث يصير سحابا..(13/502)
فذروا، مصدر بمعنى اسم الفاعل، والتقدير: والذاريات ذارية، أي حاملة ما يذرى.. وقد تكون الرياح وليس فى كيانها شىء تذروه معها.
أما هذه الرياح، فهى حاملة ما تذروه، ولهذا سميت ذاريات.
والحاملات وقرا: هى السحب الموقرة، أي الحملة بالماء، المثقلة به، وتوشك أن تلده، كما تلد الحوامل المثقلات حملهن..
والجاريات يسرا: هى السفن، فى حال من اليسر، مواتية لسيرها فى ريح رخاء، لا عاصفة، ولا هامدة..
والمقسّمات أمرا، هى الملائكة فى حال حملها لما تؤمر به.
وننظر فى هذه الأقسام على هذا الوجه، فنجدها هكذا: فالرياح ذارية، والسحب موقرة، والسفن ميسّرّا لها الجري، فالملائكة مأمورة بما تقسّمه فى الناس من أرزاق وأرزاء..
فالرياح، والسحب، والسفن، والملائكة، هى فى أحوال لها فيها وجود عامل مؤثر فى حياة الناس.. وفى قسم الله سبحانه وتعالى بها وهى متلبسة بأحوالها تلك- دعوة إلى الناس أن يلتفتوا إليها، وأن يروا آثار رحمة الله بهم فيها..
فلو شاء الله لسكنت الريح، فلم تتخلق السحب، ولم تجر السفن، ولما كان للملائكة عمل على هذه الأرض، إذ لا حياة فيها مع فقدان الماء، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. وهذا- والله أعلم- هو السرّ فى هذا الترتيب المتعاقب بين هذه الأشياء.. فكان أولها الرياح، التي تتخلق منها السحب، التي هى المصدر الوحيد للماء العذب الذي تفيض به الأنهار وتتفجر منه العيون، ثم هى التي تجرى بها السّفن محملة بالناس والمتاع.. ثم هى التي جعلت الملائكة عملا فى حياة الناس، بعد أن كان للناس حياة فى الأرض، بالماء الذي انزل من السحب، والذي تخلّق بفعل الرياح..(13/503)
قوله تعالى:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» .
هو المقسم عليه بهذه الأقسام الأربعة، وهو ما يسمّى بجواب القسم..
والآيتان إخبار من الله سبحانه وتعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت، هو وعد صادق، لا شك فيه، وأن «الدِّينَ» وهو الدينونة والجزاء، واقع لا محالة..
وفى الإخبار عن الموعود به بأنه صادق، دون القول بأنه «صدق» إذ الصدق وصف للخبر، والصادق، وصف المخبر به- فى هذا إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتىّ، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق بالصدق..
وليست أخبار الله سبحانه وتعالى- وهى الحق المطلق- بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره، ولكنّ أهل الضلال والعناد، يشكوّن فى نسبة هذه الأخبار إلى الله، كما أنهم لا يرتفعون بقدر الله وجلاله كثيرا عن المستوي البشرى.. ففى تأكيد الخبر لهم بالقسم، دلالة على تكذيبهم لرسول الله، ثم سوء ظنهم بالله..
قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» .
الحبك: جمع حبيكة، والحبيكة: ما يكون فى طرف الرداء من طرز ونقوش..
والسماء ذات الحبك: أي السماء المطرزة المزينة بالكواكب والنجوم.(13/504)
ويؤفك: أي يصرف، وهو من الإفك، وهو افتراء الكذب الذي يصرف به صاحبه عن الحق، وما وراء الحق من خير وقوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» - قسم، والمقسم عليه هو قوله تعالى: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» والخطاب للناس جميعا، والقول المختلف، هو اختلاف مقولات الناس فى أمر البعث، والجزاء.. فهم بين مؤمنين مصدقين بما وعدوا به، وبين مكذّبين بهذا الوعد، منكرين له..
وقوله تعالى: «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» أي يصرف عن وجه الحق فى أمر البعث والجزاء، «مَنْ أُفِكَ» أي من صرف عن الحقّ بطبعه، وما غلب عليه من شقوة، فهو وإن كان قد أعرض عن الإيمان بالله، والتصديق بالبعث والجزاء- فإن ذلك حكم سابق فيه، وقضاء قضى عليه به، لأن الله سبحانه قد علم ما يكون من قبل أن يكون.. وقد علم سبحانه أنه ذو طبيعة لا تقبل الحق، ولا تستجيب لداعيه، فصرفه الله عن الحق، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (127: التوبة) وقوله تعالى:
«قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» ..
الخراصون: جمع خرّاص، وهو الذي يخرص الأشياء وبقدرها بحدسه وظنّه، دون أن يستند فى ذلك إلى علم محقق، كما يفعل الذي يخرص ما على النخل من تمر، وما يعطى الزرع من حبّ..
فالخراصون، هم الكذابون، الذي يقولون بغير علم..
وقوله تعالى: «قُتِلَ» - هو دعاء عليهم، ورمى لهم باللعنة والطرد من رحمة الله..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» صفة، أو بدل من(13/505)
«الْخَرَّاصُونَ» .. والغمرة: الشدّة التي تغمر الإنسان وتغطى على مشاعره، وتستولى على تفكيره، وهى من الجهل الذي يغمر صاحبه، ويغطى على عقله، وسمعه، وبصره..
والساهون: الغافلون..
فاللعنة واقعة هنا على الذين يلقون بالسوء من القول، ويرجمون الناس بالتهم جزافا، من غير تعقل أو تدبّر، شأنهم فى هذاه شأن من غلب السكر على عقلة، فجعل يهذى من غير وعى. فهؤلاء الخراصون هم فى سكرة من الجهل والغباء، إلى ما فيهم من عناد واستكبار..
قوله تعالى:
«يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» .
أي أن من ضلال هؤلاء الخراصين، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم القيامة، سؤال المنكر له، المستبعد لوقوعه، المكذب به.. فيقولون: متى يوم الدين؟ كما ذكر ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى عن إنكار المنكرين للبعث: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (25: الملك) .. وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان «أبان» للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع هذا الأمر، زمانا ومكانا، فلا يقع فى مكان، أو فى زمان.. وهذه مبالغة منهم فى الإنكار والجحود.. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له! ..
وقوله تعالى:
«يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» ..(13/506)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
هو جواب لهذا السؤال الإنكارى الذي سألوه بقولهم: «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ؟» ..
فكان الجواب: سيعرفونه «يوم هم على النار يفتنون» أي يحرقون فيها ويقلّبون على جمرها..
وأصل الفتن، عرض الذهب وغيره على النار، ليظهر ما فيه من خبث..
وقد عدل عن الخطاب إلى الغيبة، إبعادا للمشركين عن مقام الحضور، وطردا لهم من مقام أهلية الاستماع إليهم، والرّد عليهم..
قوله تعالى:
«ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ.. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» ..
هو مواجهة لهم بالعذاب، ولقاء لهم بما يسوءهم.. أي يقال فى هذا اليوم:
«ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» أي عذابكم الذي أعدّ لكم، وهو العذاب الذي يجزى به الذين فتنهم الشيطان، وأغواهم فكفروا بالله، وضلوا عن سواء السبيل..
فالفتنة هنا تجمع بين معنيين، بين الفتنة، أي الضلال الذي كانوا فيه، وبين الفتنة، التي هى النار التي تذيب المعادن، وتصهرها.. فهم فتنة فى أنفسهم، ثم تلقاهم يوم القيامة فتنة، هى العذاب الذي يصهر به ما فى بطونهم والجلود..
الآيات: (15- 32) [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)(13/507)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» ..
هو بيان للجزاء الذي يجزى به الفريق الآخر، الذي يقابل فريق الخرّاصين المكذبين.. فقد جاء قوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» مبينا موقف الناس من الإيمان بالبعث والجزاء، وأنهم فريقان مختلفان، مؤمنون وكافرون، مصدقون ومكذبون..
وقد جاء التعقيب على هذا، بما يلقى الكافرون المكذبون، من عذاب ونكال، فأخذوا دون إمهال إلى جهنم..
ثم جاء بعد ذلك المؤمنون، المصدّقون بالبعث والجزاء، ففتّحت لهم أبواب الجنة، وسيق إليهم فيها ما تشتهى أنفسهم من نعيمها..
وقوله تعالى:
«آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» ..
أي يتقبلون من ربهم ما يساق إليهم من ألطاف، وما يقدم إليهم من ألوان النعيم، مما لم يكن يخطر لهم على بال، أو يقع لهم فى أحلام..
وفى مدّ الله سبحانه وتعالى لهم يده الكريمة بهذا الإحسان، وفى تناولهم هذا(13/508)
الإحسان من ربهم- فى هذا ما فيه من تكريم لا يناله إلّا المقربون، الذين رضى الله عنهم، جعلنا الله سبحانه وتعالى منهم، إنه ذو الفضل العظيم..
وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» هو بيان للأسباب والوسائل، التي توسل بها هؤلاء المكرمون من عباد الله، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك اليوم، أي يوم القيامة، وهو الدنيا- كانوا محسنين، فلقيهم الله بإحسان مضاعف، كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60: الرحمن) .
قوله تعالى:
«كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» ..
هو بيان مفسّر لإحسان هؤلاء المحسنين.. فقد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم، لا يكادون يغفلون عن ذكره، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم.. فإذا نام الغافلون، قطعوا هم ليلهم ترتيلا، وتسبيحا، وصلاة، وذكرا.. والهجوع، هو النوم القليل، وهو ما يسمى بالغرار، كما يقول:
ما أذوق الليل إلا غرارا ... مثل حسو الطير ماء السّمال «1»
«وما» فى قوله تعالى: «ما يَهْجَعُونَ» .. إما مصدرية، أي كانوا على حال قليل فيها من الليل هجوعهم. وإما موصولة، والمعنى: كانوا على حال قلّ فيها الزمن الذي يهجعون فيه من الليل.
__________
(1) مال السمال: الماء فى الأرض السبخة، فهو ماء مشوب بالملح
.(13/509)
قوله تعالى:
«وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» الأسحار، جمع سحر، وهو آخر الليل..
استغفارهم فى آخر الليل، الذي قطعوه تسبيحا وذكرا، وترتيلا وصلاة- إشارة إلى أنهم يرون أن ما قاموا به من تسبيح وذكر، وصلاة، وترتيل- لم يستوف ما لله من حق عليهم، فى عبادته وتسبيحه، فهم لهذا يستغفرون ربهم، ليتجاوز عن تقصيرهم فى حقه..
قوله تعالى:
«وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» أي ومن أعمال هؤلاء المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، واليوم الآخر- أنهم يشاركون الناس فيما فى أيديهم من مال، ويرون أن فى هذا المال الذي أعطاهم الله، حقّا لكل محتاج، من سائل، يطلب، أو محروم يتعفف عن السؤال..
قوله تعالى:
«وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تنعى على هؤلاء الضالين المكذبين، كفرهم وضلالهم الذي فوّت عليهم هذا النعيم الذي أعده الله للمؤمنين، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن ينقادوا لرسول الله، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى- أفلا كانت لهم عيون تنظر فى هذا الوجود، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما لله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان، وعلم وحكمة؟(13/510)
إنه كما فى يد الرسول آيات ناطقة بالحق، داعية إليه- كذلك هناك آيات أخرى فى الأرض، وفى السماء، وفى كل ما خلق الله، تشهد بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.. ولكنهم لشقوتهم قد أصمّوا آذانهم عن سماع كلمات الله، وأغمضوا أعينهم عن النظر فى كتاب الوجود، فكفروا، وضلّوا.. فكان مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
وفى قوله تعالى «لِلْمُوقِنِينَ» - إشارة إلى أنه لا ينتفع بتلك الآيات الكونية، ولا يقع على مواقع الهدى منها، إلا أهل اليقين، الذين يطلبون العلم والمعرفة، بالبحث الجادّ، والنظر المتفحص، فإذا وقع لهم من ذلك علم، كان علمهم عن برهان وحجة، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين.. فهم- والحال كذلك- لا يتّبعون الأهواء، ولا يتابعون أهل الضلال..
قوله تعالى:
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» أي إذا كنتم أيها المكذبون الضالون، قد كلّت أبصاركم عن أن تنظر فى صفحة هذا الوجود، وأن تمتد إلى أبعد من مواطىء أقدامكم، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة الله وسلطانه القائم على الوجود، وإنه ليكفى أن تنظروا فى ذات أنفسكم، فإن فى أنفسكم عالما رحيبا، وكونا فسيحا.. وإنه ليكفى أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته فى الحياة، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا.. إنكم ستجدون فى هذا سجلّا حافلا بالآيات الدالة على قدرة الخالق، وعلى حكمته، وعلى بديع صنعه، وحكمة تدبيره..
والاستفهام هنا توبيخ وتعنيف، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية، وآثارها الناطقة فى كل ما خلق الخالق جلّ وعلا..(13/511)
قوله تعالى:
«وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» أي، وانظروا فى السماء، فهى أوضح صورة، وأجلى بيانا مما فى الأرض أو فى أنفسكم.. إن فيها أسباب رزقكم، وملاك حياتكم، بما ينزل منها ماء، وما يجرى فيها من شمس، وقمر، وكواكب، ونجوم.. بل إن فيها عرش الله، وفيها ملائكته، وفيها مقدّرات الأمور.. فكل ما يجرى على الناس وغيرهم من شئون، هو منزّل من علوّ. كما يقول سبحانه، «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» (13: غافر) وكما يقول جل شأنه: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (2: النحل) .. والتنزيل لا يكون إلا من جهة عالية.. فالسماء هنا، إشارة إلى جلال الله، وعظمته، وعلوّ مقامه، وقيومته على هذا الوجود..
قوله تعالى:
«فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» بعد أن أقسم الله سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته، توّج هذه الأقسام جميعها بالقسم بذاته العلية جلّ شأنه، واصفا ذاته الكريمة، بأنه رب السموات والأرض ومدبّر أمرهما.. والمقسم عليه هنا، كلّ ما وقعت عليه الأقسام السابقة، من صدق ما يوعد الناس به من بعث ودينونة، وحساب وجزاء، وما جاء من أخبار عن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، ثم ما أخبر به جل شأنه، من أنه المالك للأرزاق، والمقدّر لها، كما أنه مالك يوم الدين، وما يلقى الناس فى هذا اليوم..(13/512)
فهذا كله حقّ لا امتراء فيه، وهو واقع كما أخبر به الحقّ جلّ وعلا، على سبيل القطع واليقين..
وقوله تعالى «مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لصفة محذوفة أيضا لخبر إن، والمقام دالّ على هذين المحذوفين والتقدير:
فو رب السماء والأرض إن ذلك كله لحق واقع وقوعا مماثلا لوجودكم الذي أنتم عليه، والذي لا يمكن أن تنكروه.. وهل ينكر الإنسان وجوده، وهو حى ناطق؟
واختيار النطق صفة دالة على وجود الإنسان، لأن المنطق هو الصفة المميزة للإنسان عن عالم الحيوان، ولأن النطق كذلك يدلّ على أن وراءه إنسانا ذا حس وإدراك، وأنه إذا غابت عنه المحسات والمدركات، فلن يغيب عنه الإحساس بوجوده، وإدراك أنه موجود..
أخرج ابن جرير، وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدّقوا» وروى عن الأصمعى أنه قال: أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابى على قعود، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بنى أصمع، قال: من أين أقبلت، قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علىّ، فتلوت «والذاريات» فلما بلغت «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» قال: حسبك.. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسر هما، وولىّ..
يقول الأصمعى: فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفتّ، فإذا بالأعرابى قد نحل واصفرّ، فسلّم علىّ، واستقرأنى السورة، فلما بلغت الآية: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ»(13/513)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا.. ثم قال: وهل غير هذا؟
فقرأت: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدّقوه يقوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه!!»
الآيات (30- 24) [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لعناد المشركين وضلالهم البعيد، المغرق فى السفه والضلال، حتى مع هذه الأقسام التي أقسم الله بها سبحانه وتعالى، فى سوق الأخبار إليهم.. فكانت الآية وما بعدها من آيات، نذيرا من النذر التي تحمل إلى هؤلاء المشركين المعاندين تهديدا بأن يلقوا مصيرا كمصير المعاندين الضالين، وهم قوم لوط..(13/514)
وفى قوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» - انتقال بالنبيّ من هذا الجو الخالق الذي يعيش فيه مع قومه، وما يفوح منهم من ريح خبيثة، محملة بإفرازات كفرهم وضلالهم.. ففى الاستفهام دعوة للنبىّ الكريم من ربه، إلى أن يخرج من هذا الجوّ الفاسد، وأن يملأ صدره بشذا هذه الريح الطيبة التي تهب عليه من ذكرى نبىّ كريم، هو إبراهيم عليه السلام، وما كان له عند الله من فضل وإحسان..
وفى مجىء هذا الحديث منقطعا عما قبله، غير معطوف عليه- عزل تام له عن الحديث السابق، حتى لا يدخل عليه شىء منه، وحتى لا يطلّ عليه وجه من تلك الوجوه المنكرة، التي كان يراها النبي الكريم من قومه..
والضيف، بمعنى الضيوف، فهو يطلق على الفرد والجمع.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان لوط مخاطبا قومه: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ» (68: الحجر) فهو يشير إليه إشارة الجمع «هؤلاء» كما وصفوا هنا بصفة الجمع «المكرمين» قوله تعالى:
«إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً.. قالَ سَلامٌ.. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .
«إذ» ظرف مقيّد لهذا الحديث، أو الخبر، الذي كان من الملائكة مع إبراهيم.. فالمراد بالخبر الذي يورده الله سبحانه وتعالى على النبي فيما كان بين الملائكة وبين إبراهيم- هو هذا الخبر الذي كان فى هذا الوقت الذي دخلوا عليه فيه..(13/515)
وقوله تعالى: «فَقالُوا سَلاماً» - أي قالوا لإبراهيم هذه الكلمة، يجيبونه بها، ويبعثون إليه منها أمنا وسلاما، ويؤذنونه بأنهم لا يريدون به سوءا، بعد أن وقع فى نفسه ما وقع، من دخولهم عليه هذا الدخول المفاجئ- من مشاعر الريبة، والخوف، وتوقع الأذى! كما يشير إلى ذلك ما جاء فى قوله تعالى على لسان إبراهيم فى آية أخرى: «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» (52: الحجر) ..
وقوله تعالى: «قالَ سَلامٌ» - هو رد إبراهيم على ضيفه، وهو رد مقتضب موجز، فى مقابل تحيتهم الموجزة الخاطفة.. وهو بدل على ما وقع فى نفس إبراهيم من توجس وريبة منهم..
وقوله تعالى: «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .. هى كلمة قالها إبراهيم بينه وبين نفسه، ترجمة لتوجّسه وخوفه منهم.. فإنه ما كان لنبى الله، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالحلم، أن يجبه ضيفه بهذا القول، ويرمى به فى وجوههم، ثم يلقاهم بهذا الإكرام والحفاوة، بما يقدم لهم من طعام طيب كريم..
قوله تعالى:
«فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» ..
راغ لأهله: أي مال إلى أهله، وانسرب إليهم فى خفة من غير أن يكاشف ضيفه بما يريد من إكرامهم وإعداد الطعام لهم.. فذلك من شأنه أن يحرج الضيف، ويحمله على أن يطلب إلى مضيفه ألّا يفعل..
قوله تعالى:
«فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» ؟ - هنا إيجاز حذف دلّ عليه المقام..(13/516)
أي فقرّبه إليهم، فلم يمدّوا أيديهم إليه، ولم يقبلوا على الأكل منه، كما هو شأن الضيف حين يقدّم إليه.. الطعام فلما رأى ذلك منهم نكرهم، وأوجس منهم خيفة، وقال: «أَلا تَأْكُلُونَ؟» ..
قوله تعالى:
«فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» ..
وهنا كلام محذوف أيضا.. «قال ألا تأكلون» .. فلم يأكلوا، ولم يستجيبوا لهذه الدعوة المجددة إليهم «فأوجس منهم خيفة» أي فازداد إحساسه بالخوف منهم، وقوى عنده الشعور الذي وقع فى نفسه من أول دخولهم عليه، ولقائهم له..
«قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم» - أي أنهم حين رأوا ما انطبع على وجه إبراهيم من أمارات التوجس والخوف، سكنوا من روعه، وقالوا له: لا تخف، ثم ألقوا إليه بهذه البشرى المسعدة، وهى أن يولد له الولد الذي كان ينتظره منذ شبابه الأول، وها هو ذا وقد بلغ من الكبر عتيّا، وأخلى يديه من هذا الأمل الذي كان يراوده، وخاصة أن امرأته كانت عقيما، ثم اجتمع مع هذا العقم تجاوزها العمر الذي تلد فيه النساء- ها هو ذا يتلقّى هذه البشرى المسعدة.
والغلام الذي بشر به هو إسحق، من زوجه سارة.. «والعليم» ، مبالغة من العلم، والعلم كان صفة بارزة من صفات إسحق، كما كان الحلم الصفة البارزة فى إسماعيل، كما يقول سبحانه: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (101: الصافات) .(13/517)
قوله تعالى:
«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» .
الصّرّة: الصيحة، من دهش، أو فزع..
وصكّ الوجه: لطمه تلقائيّا، عند ورود أمر عجيب، غير متوقع..
والمعنى، أن امرأة إبراهيم، حين سمعت بهذا الخبر من ضيقه، وبأنهم يحملون إليه البشرى بولد- أخذتها حال من الدّهش والعجب، فأقبلت إليهم، فى ولولة وصياح وانزعاج، وقد ضربت بيديها على وجهها، ثم قالت:
«عجوز عقيم» !! فكيف يكون هذا؟ وكيف تلد العجوز؟ ثم كيف تلد من اجتمع مع شيخوختها العقم؟ إنه هذا لشىء عجيب!!.
قوله تعالى:
«قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» ..
أي أن هذا الذي نقوله ليس من عندنا، وإنما هو ما قاله الحق جلّ وعلا..
وهو «الحكيم» الذي يدبر الأمور بحكمته، فيقع الأمر حيث أراد، ومتى أراد.. كما أراد.
وهو «العليم» ، الذي يضبط الأمور بعلمه، وبزنها ويقدّرها بحكمته..
وهذا الموقف الذي كان بين إبراهيم، وضيفه، وامرأته، لم تذكر الآيات الكريمة هنا منه، إلّا الأحداث البارزة فيه، وقد ذكر هذا(13/518)
الموقف فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، وكل موضع منها يمسك بالموقف كله، كاشفا عن جانب من جوانبه، مسلّطا الضوء على مقطع من مقاطعه.. فإذا نظر الناظر إلى أي موضع جاء فيه ذكر هذا الموقف فى القرآن الكريم، وجد بين يديه حدثا كاملا، فإذا ضمّت هذه المواضع بعضها إلى بعض- رأى صورة مكبرة للحدث، تزداد به الصورة وضوحا.. تماما كما تفعل «المصوّرة» فى نقل صور للشىء الواحد من أكثر من جانب، وفى أكثر من وضع..
والشيء هو الشيء، فى أية صورة من تلك الصور..(13/519)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة قل لا أسألكم عليه أجرا.. ما تأويله؟ 44 الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا 67 مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور 89 بيعة العقبة.. وليلة الجن. 290
الحرب والسلام.. فى الإسلام. 311
النبىّ.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟ 341 الجهاد.. والحرب النفسية. 378
ثم الجزءان: الخامس والعشرون والسادس والعشرون، ويليهما الجزءان: السابع والعشرون والثامن والعشرون.. إن شاء الله، والله الموفق والمعين؟(13/520)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
[الجزء الرابع عشر]
تتمة سورة الذاريات
(الآيات: (31- 37) [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
التفسير:
قوله تعالى:
«قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» ...
الخطب: الشأن العظيم، والأمر الخطير ذو البال..
ولقد ذهب عن إبراهيم الرّوع من ضيفه هؤلاء، بعد أن عرف أنهم من ملائكة الرحمن، وسكنت امرأته بعد هذا الهياج الذي استولى عليها من أن يكون لإبراهيم ولد منها بعد هذه الشيخوخة والعقم! ..
وهنا يتجه إبراهيم إلى ضيفه من الملائكة يسألهم عما جاء بهم إليه..
إنهم لم يجيئوا على تلك الصورة الغريبة، التي أوقعت الرّعب فى قلبه ليبشروه بغلام.. فإن الذي يحمل البشرى إنما يقدّم بين يديه دلائل هذه البشرى وأماراتها، بل إن ريح البشرى نفسها لتسبق الحامل لها،(14/521)
فيجد لها المحمولة إليه، وقعا طيبا فى نفسه، وشعورا مسعدا فى كيانه، قبل أن تبلغه.. تماما كما وجد يعقوب من ريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير بقميصه.. ومن هنا كان سؤال إبراهيم الملائكة عما وراءهم، من أمر خطير، وماذا يحملون من شئون تتصل به من قريب أو بعيد؟.
وفى نداء إبراهيم لهم باسم المرسلين، لا باسم الملائكة، إشارة إلى أنهم ليسوا مجرد ملائكة عابرين به، بل إنهم محمّلون برسالة من رب العالمين..
فهو يسألهم عن محتوى ما أرسلوا به إليه..
قوله تعالى:
«قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» ..
أي أننا لم نرسل إليك بما توقّعته من شرّ، وإنما أرسلنا إلى قوم مجرمين..
والقوم المجرمون، هم قوم لوط، كما يفهم ذلك من مواضع أخرى فى القرآن الكريم.
«لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ» ..
هو بيان السبب الذي من أجله أرسل هؤلاء الرسل إلى القوم المجرمين، قوم لوط.. إنهم أرسلوا إليهم ليرسلوا عليهم حجارة من طين، وكأنّ هذه الحجارة هى الرسل التي تنزل عليهم من السماء بالدمار والهلاك، فى حين أن هناك رسلا أخرى تنزل على المكرمين من عباد الله بالرحمة والإحسان..
وفى وصف الحجارة بأنها من طين- إشارة إلى أن هذا الطين اللّين الرخو، يفعل بقدرة الله فعل الحجارة الصلدة، فيهلك، ويدمّر، وكأنه الصواعق المنقضّة من السماء..(14/522)
وقوله تعالى: «مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ» : أي مقدّرة، ومهيأة عند الله ومرصودة لهؤلاء القوم «المسرفين» الذين جاوزوا الحدّ فى الضلال، وفى ارتكاب هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ففى كل حجر سمته التي وسم بها، والتي تحدّد له موقعه من القوم، وصرعاه الذين يقع عليهم..
«فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
لم تذكر الآيات هنا ما كان من إبراهيم من مراجعة الملائكة فى هذا الأمر الذي جاءوا به، ومن تخوفه على لوط أن يناله سوء مما يحل بهؤلاء القوم الذين سترسل السماء عليهم هذه الحجارة المهلكة، ولوط بينهم- لم تذكر الآيات هذا، لأنه قد ذكر فى مواضع أخرى، كما فى قوله تعالى على لسان إبراهيم: «قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً» وقد أجابه الملائكة بقولهم: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها.. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (33: العنكبوت) .
وهذا القول هو من الله سبحانه وتعالى، وهو إخبار بما انتهى إليه أمر هؤلاء القوم المسرفين، وما كان من نجاة لوط ومن آمن معه..
والضمير «فيها» للقرية، قرية لوط وقومه.. ولم تذكر هنا، لأنها معروفة بما ذكر عنها فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، ثم لأنها معروفة ضمنا فى هذا الحديث، إذ من المعروف أن القوم يسكنون فى قرية أو قرى! ..
«فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
أي لم يكن فى هذه القرية إلا بيت واحد استحق السلامة والنجاة من هذا البلاء الذي أتى على القرية وأهلها.. وهو بيت لوط ومن آمن من أهله.
«وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ..
أي أن هذه القرية قد ذهبت بمن فيها، وبقي من هذه القرية آثار واضحة(14/523)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
من الدّمار والهلاك الذي حلّى بها وبساكنيها.. يراه من كان يمر عليها بعد هذا العذاب الذي نزل بها، ثم بقي لها بعد ذلك ذكر سيّىء فى صحف التاريخ، وفى الكتب السماوية التي نزلت على رسل الله بعد هذا..
وفى هذا وذاك آية، الذين يؤمنون بالله، ويخافون العذاب الأليم يوم القيامة، فيرون فى تلك الآية سلطان الله وقدرته، وأخذه الأليم الشديد لمن يخرجون عن صراطه المستقيم..
الآيات: (38- 46) [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .(14/524)
هو معطوف على قوله تعالى: «وَتَرَكْنا فِيها آيَةً» - أي وتركنا كذلك آية فيما كان بين موسى وفرعون..
والسلطان المبين الذي أرسل به موسى إلى فرعون، هو ما كان معه من آيات معجزة متحدية، كالعصا، واليد..
وقوله تعالى: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» أي أعرض عن النظر فى هذه الآيات، معتزا بركنه، أي قوته وسلطانه.. والركن: ما يركن إليه الإنسان فى الملمات، ويحمى ظهره به، كما يقول تعالى على لسان لوط، مخاطبا قومه: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» (80: هود) .. والجارّ والمجرور حال من الفاعل المستتر وهو «فرعون» ..
وقوله تعالى: «وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» - حال أخرى من فرعون ساعة توليه وإعراضه عن دعوة الحق، التي يدعوه إليها موسى، أي تولى معتزّا بركنه وقوته، قائلا هذا القول الآثم فى موسى: «ساحر أو مجنون» .. وساحر خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي موسى.. ولم يذكر موسى ظاهرا أو مضمرا، حماية له من أن يقال هذا القول المنكر فيه..
وقوله: «ساحر أو مجنون» - إشارة إلى أن هذا القول لم يكن من فرعون عن علم، وإنما هو رمية من رميات طائشة، يرمى بها من غير حساب أو تقدير..
فهو متردد فى الحكم الذي يحكم به على موسى.. ولكن لا بد من أن يصدر حكما، وبقول قولا..
وهذا شأن أهل الضلال، حين يقهرهم الحق، وتسقط من بين أيديهم الحجة على دفعه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى هذه السورة عن المشركين الذين قالوا مثل هذا القول فى رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه: «كَذلِكَ(14/525)
ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ»
(الآيتان: 52- 53) ..
َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ»
..
المراد بالأخذ هنا، الأخذ الذي يرد بصاحبه موارد الهلاك، وأخذ الله سبحانه لا يكون إلا حيث تقع نقمه، وينزل بلاؤه.. مثل قوله تعالى لفرعون: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (25: النازعات) ..
وقوله تعالى: َنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ»
أي ألقيناهم فى اليم، أي البحر، ونبذ الشيء، طرحه وإلقاؤه دون مبالاة..
وقوله تعالى: َ هُوَ مُلِيمٌ»
جملة حالية، تصف الحال التي كان عليها فرعون، حين نبذ هو وجنوده فى اليم..
والمليم. المستحق للّوم، وفعله: ألام: أي أوقع نفسه فيما يلام عليه..
وفى عود الضمير على فرعون وحده فى قوله تعالى: َ هُوَ مُلِيمٌ»
- إشارة إلى أنه هو وحده الذي يحمل وزره ووزر قومه، إذ كان هو داعيتهم إلى هذا الضلال.. أما قومه فإن كلا منهم يحمل وزر نفسه، لمتابعته الداعية الذي دعاه إلى هذا الضلال..
«وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» ..
معطوف على قوله تعالى: «وَفِي مُوسى» - فهو عطف حدث على حدث..
والريح العقيم، هى الريح التي فسدت طبيعتها، فلا تلد خيرا أبدا، بل تلد الهلاك والدمار لمن تشتمل عليه، وتلفّه فى كيانها، والأصل فى الريح أنها(14/526)
تجىء محمّلة بالخير، بل والحياة للأحياء كلها، إذ منها يتنفّس كل حى أنفاس الحياة.. ولكن هذه النعمة قد صارت نقمة على القوم الضالين..
وقوله تعالى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» - هو بيان لما تترك هذه الريح العقيم من آثار ومخلّفات وراءها.. إنها لا تترك شيئا تمرّ عليه إلّا دمّرته، وحطمته، وأتت على كل صالحة فيه، فيتحول إلى كيان بال متفتت.
والرميم: العظام البالية، والرّمة: الحبل البالي، والرّمّ: إصلاح الشيء البالي..
قوله تعالى:
«وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» ..
هو معطوف كذلك على قوله تعالى: «وَفِي عادٍ» - عطف حدث على حدث، وقصّة على قصة..
أي وفى ثمود آية.. بما أخذهم الله به من نكال وعذاب..
فلقد كان القوم فى نعمة ظاهرة، وقوة متمكنة، إذ بوّأهم الله الأرض، وملّكهم القدرة على إثارتها وعمرانها، فاتخذوا القصور فى سهولها، ونحتوا البيوت فى جبالها، كما يقول سبحانه على لسان نبيهم «صالح» إذ يقول لهم: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» (74: الأعراف) ..
وفى قوله تعالى: «إذ قيل لهم تمتعوا» - إشارة إلى هذه النّعم التي كان القوم فيها، وأنها تتيح لهم التمتع بحياة طيبة فيها، لو أنهم رعوها حق(14/527)
رعايتها، ولم يلبسوا بها ثوب الغرور والجهالة، ولم يتخذوا منها سلاحا يحاربون به الله، ويحادّون رسوله..
ولم يقل لهم أحد تمتعوا، ولكنه لسان الحال إذ ما سيقت إليهم هذه النعم إلا ليعيشوا فيها، وليتمتعوا بها إلى أن تحين آجالهم..
وقوله تعالى: «حَتَّى حِينٍ» بيان للغاية التي يكون تمتع القوم فيها بهذه النعم، وأنها لا تنقطع عنهم حتى يحين أجلهم المقدور لهم عند الله..
وقوله تعالى: «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» العتوّ: التمرد والاستعلاء..
وقوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - هو تعقيب على عتوّهم، وخروجهم عن أمر الله.. وأن هذا العذاب الذي أخذوا به، إنما هو لعتوّهم، وتمردهم على الله، وكفرهم به..
وقوله تعالى: «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» - أي حين نزل بهم العذاب، بهظهم، وكظم أنفاسهم.، ولم يجدوا معه قدرة على أن يقوموا لدفعه، والهروب من وجهه..
وقوله تعالى: «وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» - أي وما كانوا منتصرين على هذا العذاب لو أنهم قاموا له، وتلقّوه بكل ما معهم من حول وحيلة..
قوله تعالى:
«وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ..
هو معطوف على المفعول به فى قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» ..
أي وكذلك أخذ العذاب قوم نوح من قبل هؤلاء الذين أخذهم الله سبحانه بعذابه.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» أي خارجين عن أمر ربهم، متجاوزين حدوده..(14/528)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
الآيات: (47- 60) [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» .
الأيد: القوة، والتمكن..
والآية معطوفة على الآية السابقة: «وَقَوْمَ نُوحٍ..» أي وقوم نوح أخذناهم بالعذاب، والسّماء بنيناها بأيد..(14/529)
ومع ما يبدو من بعد المفارقة فى الظاهر بين أخذ قوم نوح، وبين بناء السماء- فإن هذه المفارقة تبدو موافقة، إذا نظرنا إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وقيومته جلّ شأنه، على كل شىء.. فهو سبحانه، يحيى ويميت، ويغنى، ويقنى، ويرفع ويضع، وهو سبحانه الذي أخذ الظالمين بالهلاك، وهو جلّ شأنه الذي أقام السماء بقدرته..
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» - إشارة إلى امتداد السماء واتساعها، كما يبدو ذلك لأى ناظر ينظر إليها، حيث لا يبلغ الإنسان لها حدّا، فحيث كان من عالم الأرض، فإن السماء تظلّه على امتداد الآفاق، حوله..
فإذا نظر بعين العلم، أراه العلم أن هذا الوجود فى نماء مستمرّ، وأنه أشبه بالكائن الحىّ فى دور نموّه واكتماله.. وفى حين أن الكائن الحىّ يبلغ حدّا يقف عنده، إلا أن الوجود فى نمو دائم لا يتوقف، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» (1: فاطر) ..
قوله تعالى:
«وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» ..
معطوف على قوله تعالى: «وَالسَّماءَ بَنَيْناها» ..
وقوله تعالى: «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» - هو ثناء من الله سبحانه وتعالى من ذاته على ذاته، كما فى قوله تعالى: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (14: المؤمنون) وقوله سبحانه: «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1: الملك) وقوله جل شأنه: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (1: الفرقان) ..(14/530)
وفرش الأرض: بسطها كما يبسط الفراش للنوم، والماهد: الذي يهيىء الشيء ويمهده كما تمهد الأرض للزرع، وكما يمهد الفراش للنوم، ومنه المهد، وهو ما يهيهأ من فراش لنوم الوليد..
والمخصوص بالمدح، دلّ عليه المقام، أي فنعم الماهدون نحن، أي الله سبحانه وتعالى..
قوله تعالى:
«وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
هو معطوف على ما قبله، أي وفرشنا الأرض، وخلقنا من كل شىء زوجين..
و «من» هنا للاستغراق.. أي وكلّ شىء خلقناه متزاوجا.. أي أن الشيء الواحد ليس فى حقيقته شيئا واحدا، وإنما هو شيئان اجتمع بعضهما إلى بعض، فكان منهما هذا الشيء.. وهذا دليل على أن الخالق وحده، هو الواحد الذي لا شريك له..
فالخليّة التي هى أصل بناء الكائن الحىّ، تنقسم على نفسها، فى عملية أشبه بعملية التوالد، وبهذا الانقسام ينمو الكائن الحىّ.. فالحلية تنقسم إلى خليتين، وكل خلية منهما تنقسم إلى خليتين.. وهكذا، إلى ما لا يحصى من الخلايا التي يضمها كيان الكائن الحىّ من مولده إلى تمام نموه.. فإذا تم نمو الكائن الحىّ لم تتوقف عملية التوالد، وإنما يقابلها من جهة أخرى عملية الهدم، فى نسب تأخذ فى ازدياد ما يهدم على ما يبنى، كلما تقدم الكائن الحىّ نحو طريق الفناء.. فإذا توقفت عملية البناء، مات الكائن الحىّ..
هذا فى الخلية.. وكذلك الشأن فى النواة، إنها تتكون من فلقين يضمان(14/531)
بينهما بذرة الحياة، التي لا تأخذ طريقها إلى الحياة إلا إذا وجدت الظروف الملائمة التي تعمل على فلق النواة إلى شقّيها، وإخراج بذرة الحياة منهما..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» (95: الأنعام) ..
والإنسان خلية كبيرة مكونة من أعداد لا تعدّ بحسابنا- من الخلايا، وكما يتم نموه الشخصىّ بالتوالد الذاتي بين خلاياه، يتم نموه الجنسي بالتزاوج بين الذكر والأنثى، وذلك بين خلية من الذكر وخلية من الأنثى عند التقاء الرجل بالمرأة.. وهكذا الحيوان، والنبات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» فإذا تجاوزنا عالم الأشياء التي تتوالد بالزواج، وجدنا هذه المزاوجة قائمة فى عالم المعاني، مثل الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء.
وهكذا المزاوجة فى كل شىء، حيث لا يوجد شىء إلا وله ما يقابله.. وذلك مما يشهد لله سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرد، فهو الواحد الأحد، الفرد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد..
قوله تعالى:
«فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
الفرار إلى الله: الالتجاء إليه، والاحتماء به، والاستظلال بظله..
وفى الدعوة بالفرار إلى الله، إشارة إلى أن هناك خطرا يتهدد الإنسان، إذا هو خرج عن أمر ربه، وحاد عن الصراط المستقيم.. إنه حينئذ يقع تحت(14/532)
يد الشيطان، الذي يفترسه، كما يفترس الذئب ضالّة الغنم..
وقوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» هو بيان من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، يدعو الناس إلى الله، وأن يعجلوا بالفرار إليه، وتلك الدعوة ليست من عنده، وإنما هو رسول الله بها إليهم.. إنه نذير مبين من الله إليهم، يبيّن لهم بما معه من كلمات ربه، طريق الهدى، وينذرهم من عذاب الله إذا هم خرجوا عن هذا الطريق، وركبوا طريق الضلال..
قوله تعالى:
«وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
ومن مقتضى الفرار إلى الله، الإيمان به، والإقرار بوحدانيته، واطراح كل معبود سواه..
وجاء النهى هنا عن الشرك بالله، وعن اتخاذ إله آخر معه، تأكيدا لما تضمنه الأمر بالإيمان بالله الذي هو حبل النجاة، فإذا أمسك به الإنسان كان فى الناجين، على أي وجه كان عمله بعد ذلك..
وفى قوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - تأكيد لهذه الدعوة التي يدعو الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- الناس إليها، وهى الإيمان بالله وحده..
وفى إعادة فاصلة الآية: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - إعجاز من إعجاز القرآن، حيث يجعل من الآيتين- الآمرة والناهية آية واحدة، الأمر الذي يدعو إلى الجمع بينهما، والأخذ بهما جميعا، وأن الأخذ بواحدة منهما لا يغنى عن الأخذ بالأخرى.. وكأن نظم الآيتين هكذا..
«فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ»(14/533)
ولكن شتان بين هذا النظم، وبين ما جاء عليه النظم القرآنى المعجز..
ففى النظم القرآنى، يقوم على الأمر نذير مبين، وعلى رأس النهى يقوم هذا النذير المبين أيضا.. إن هذه دعوته، وتلك دعوته وهو بهذا يأمر، وبذلك ينهى..
فإذا أخذ المأمور بما أمر به، وانتهى المنهىّ بما نهى عنه- كانت نجاته، وكانت سلامته، وكان فوزه.. أما إذا أخذ بواحدة دون الأخرى، فهيهات أن يسلم ويبلغ مأمنه..
فقد يفر المرء إلى الله، ومعه إله أو آلهة أخرى يحملها فى كيانه، ويحتفظ لها بمكانها من قلبه..
وقد لا يجعل الإنسان مع الله إلها آخر، ولكن قد يكون ذلك كمجرد فكرة حبيسة فى عقله، أو نظرية فلسفية تقيم بناء منطقه الفلسفي.. ثم لا يكون لهذه الفكرة أو تلك النظرية منطلق نزوعىّ أو سلوكى، يرد به موارد الهدى، ويسلك به مسالك الخير..
والفرار إلى الله يجعل من الإيمان به حركة دائبة إلى العمل الطيب القائم فى ظلّ هذا الإيمان..
واستصحاب الإيمان بالله، إيمانا خالصا من الشرك فى حال الفرار إليه، يجعل هذا الفرار محمود العاقبة، بالغا بصاحبه مأمنه..
قوله تعالى:
«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» ..
هو بيان لحال هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر، إنهم(14/534)
لا يستجيبون لهذا النذير المبين، الذي يدعوهم إلى الإيمان الخالص من الشرك بالله، وينذرهم عاقبة هذا الضلال الذي هم فيه، وهم يأبون إلا التكذيب به، والبهت له، والسفاهة والتطاول عليه.. فيقولون فيما يقولون عن هذا النذير:
ساحر أو مجنون..
وإن حالهم تلك شبيهة بحال أهل الضلال والشرك من قبلهم، الذين لم يأتهم رسول من رسل الله يدعوهم إلى الإيمان بالله، إلّا تلقوه بهذه المقولة الآثمة: «ساحر أو مجنون» .. وقد قالها من قبل فرعون، إذ جاءه موسى بآيات من الله وسلطان مبين: «فتولى بركنه وقال: ساحر أو مجنون» ..
وفى هذا عزاء للنبى، ووعيد المشركين بأن يلقوا المصير الذي لقيه المكذبون برسل الله من قبلهم.
قوله تعالى:
«أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» ..
هو استفهام إنكارى يكشف عن هذه الطبيعة المنكرة المندسّة فى أهل الضلال.. ولكأنّ هذا الضلال داء خبيث معد، يرثه الأبناء عن الآباء، جيلا بعد جيل.. أو لكأنه عند أهله عمل مبرور، يتواصون به فيما بينهم، ويتركونه ميراثا لأبنائهم من بعدهم..
وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» - إضراب على هذا الاستفهام، فإنه لم تكن هناك دعوة قائمة بالتواصى بين هؤلاء الضالين، السابقين منهم واللاحقين، ولكنها النفوس النكدة، والطباع اللئيمة، تفرز من ذاتها هذا الضلال الذي يغرقها، ويغرق من يأخذ طريقه معها..(14/535)
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» ..
هو أمر للنبىّ الكريم بأن يعرض عن هؤلاء الأشقياء، وبدعهم للمصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، مع ضلالهم وكفرهم.. وإنه ليس على النبي لوم فيما سيلقاهم من بلاء ونكال، بعد أن بلّغهم رسالة ربهم هذا البلاغ المبين الذي احتمل فى سبيله ما احتمل من سفه السفهاء، وجهل الجاهلين..
قوله تعالى:
«وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» أي فتولّ عن هؤلاء المعاندين الضالين، ولا ترهق نفسك بالجري وراءهم، ولكن ذلك لا يمنعك من أن تقوم على دعوتك، وأن تؤذّن بها فى الناس.. فذلك هو شأنك، ودأبك، وهو أسلوب رسالتك التي تدعو إليها.. «إِنَّها تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» (55: المدثر) .. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (21، 22 الغاشية) .. «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» (27، 28 التكوير) فعرض الدعوة على الناس، وكشف معالم الهدى لهم، بما يتلى عليهم من آيات الله.. وإن لم يلتفت إليه كثير منهم، ولم يأخذوا طريقهم إليه أمر مطلوب من النبي، فإن كثيرا من الناس ينتفعون به، ويقيمون وجوههم عليه، كما أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، واستجابوا لدعوة الحق، يزيدهم هذا التذكير إيمانا، ويقع من قلوبهم موقع النفع، فيقوّى يقينهم، ويثبت أقدامهم على طريق الحق..(14/536)
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .
هو دعوة للناس إلى أن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه، وأن يقوموا على الأمر الذي خلقهم الله سبحانه وتعالى له، وهو عبادته.. فما خلق الإنسان إلا ليكون عبد الله، عابدا له، مظهرا بعبوديته وعبادته جلال المعبود، وعظمته، وسلطانه..
وليس الجنّ والإنس وحدهما، هما اللذان خلقا لعبادة الله، بل إن كل مخلوق، وكل موجود، خلق لهذه الغاية، حيث تتجلّى فى المخلوقات جميعها ألوهة الإله، وقدرته، وعظمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) ويقول جل شأنه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) .. ويقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) ..
فالكافر الذي لا يؤمن بالله، ولا يسبح بحمده، هو مؤمن بالله كرها ومسبّح بحمده قسرا.. فكل ذرة فيه، وكل جارحة من جوارحه، تسبح بحمد الله، وتؤدى وظيفتها على الوجه الذي أقامها الله سبحانه وتعالى فيه.. فالخلايا التي يبنى منها الكيان الجسدى للإنسان تسبّح بحمد ربها فى عملها الذي تؤديه بناء أو هدما فى الكيان الإنسانى، والقلب بخفقاته، والدم بجريانه فى العروق، والعروق بحملها للدم، وتغذيتها الجسم به، والعين فى نقلها المرئيات، والأذن بتلقيها للمسموعات.. وهكذا كل ما فى الإنسان- ظاهرا أو باطنا- يسبح بحمد الله.. وكذلك الشأن فى كل موجودات(14/537)
الوجود، ما نعلم منها وما لا نعلم، تسبح بحمد الله، وتقوم بما خلقها الله له..
وفى اختصاص الجن والإنس من بين المخلوقات، بالذكر، إشارة إلى أنهما هما المخلوقان اللذان لهما إرادة عاملة، وهما بهذه الإرادة يعملان، فيؤمنان أو يكفران، ويطيعان أو يعصيان، ومن هنا وقع عليها التكليف، وحقّ عليهما الحساب والجزاء، بمقتضى ما يعملان من خير أو شر..
وقد تكون هناك مخلوقات أخرى لها إرادة، وعليها تكليف وحساب وجزاء، ولكن الذي يقع فى محيط الإدراك الإنسانى، هو ما يعلمه الإنسان من نفسه، وما بلغه من رسالات الرسل، كما كان علمه بالجنّ، وأنهم مكلفون، ومنهم المؤمنون، ومنهم القاسطون.. كما أخبر بذلك رسل الله..
قوله تعالى:
«ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» ..
أي أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن عبادة عباده، وعن إيمان المؤمنين به.. فما يريده سبحانه وتعالى من عبادة العابدين ومن إيمان المؤمنين، هو لذات أنفسهم! وللخير الذي يحصّلونه من العبادة والإيمان، وللجزاء الحسن الذي ينالونه بطاعتهم لله، وولائهم له.. فليست هذه العبادة، وهذا الولاء مما ينتفع الله سبحانه وتعالى بشىء منه. إن الله غنى عن العالمين:
«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (7: الزمر) .(14/538)
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» ..
فالله هو الرزاق الذي يفيض رزقه على عباده، ويمنحهم من فضله ما يمسك عليهم وجودهم، ويقيم حياتهم، وهو سبحانه، ذو القوة القادرة المقتدرة، بيده مقاليد السموات والأرض.. وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فإن أعمال خلقه من خير أو شرّ لا تجلب له خيرا أو ضرّا.. إنه سبحانه فوق المؤثرات، خيرها وشرّها، لأن التأثر عارض يعرض للمخلوقات التي تقبل بطبيعتها الزيادة والنقص.. والله سبحانه، الكامل الكمال المطلق، الذي لا يقبل زيادة أو نقصا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
قوله تعالى:
«فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ» ..
هو وعيد للذين لم يستجيبوا لله، ولم يؤمنوا به، فأوقعوا بأنفسهم ظلما فادحا، يتجرعون منه كؤوس البلاء والعذاب..
والذّنوب: الدلو، أو السّجل، يملا ماء، والمراد به هنا ذنوب مملوء عذابا لهؤلاء الظالمين، مثل ما يملأ لأصحابهم الذين سبقوهم من أهل الضلال، وذلك على عادة العرب فى الاستقاء من الآبار، حيث يتساجلون، فيملأ هذا دلوا، والآخر دلوا..
وقوله تعالى: «فَلا يَسْتَعْجِلُونِ» تهديد ووعيد لهم، بأن هذا الذي يستعجلونه من العذاب، استخفافا به وتكذيبا له، هو واقع بهم، ويؤمئذ لا يجدون وليّا ولا نصيرا..(14/539)
قوله تعالى:
«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» ..
أي هلاك وبلاء واقع بهؤلاء الظالمين الذين كفروا، وذلك فى اليوم الموعود، الذي أنذروا به، وإنهم لملاقوه، وملاقو العذاب الأليم فيه..
وقوله تعالى: «مِنْ يَوْمِهِمُ» متعلق بقوله تعالى: «فَوَيْلٌ» - أي أن هذا الويل، سيرد عليهم من يومهم الموعود هذا، فهو يوم كله ويل، لا يجيئهم منهم إلا ما يسوؤهم ويلبسهم ثيابا من نار جهنم..(14/540)
52- سورة الطور
نزولها: مكية..
عدد آياتها: تسع وأربعون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة..
عدد حروفها: ألف وخمسمائة حرف..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الذاريات التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. وفى هذا تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، بالعذاب الذي أنذروا به، والذي ينتظرهم يوم القيامة..
وقد بدئت سورة «الطور» هذه، بهذه الأقسام، التي أقسم سبحانه وتعالى بها، وأوقعها على وقوع العذاب بأهل الكفر والضلال يوم القيامة، وأنه واقع لا شك فيه.. «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» ..
فالسورتان تتلاقيان ختاما وبدءا، حتى لكأنهما سورة واحدة..
وإن الذي ينظمهما فى التلاوة، دون أن يفصل بينهما بالبسملة، ليجد هذا الترابط الوثيق بينهما، فلا يشعر بأن سورة قد انتهت وأخرى قد بدأت..
وهذا- فى رأينا- دلالة قاطعة على أن ترتيب السور فى المصحف الكريم، هو توفيقىّ من عند الله، وبعمل الرسول، تماما كترتيب الآيات فى سورها،(14/541)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
وأن الخلاف الذي يدور حول ترتيب السور، وأنه توقيفى ينبغى أن يرتفع، مع قيام هذه الشواهد التي نراها فى تلاحم السور من أول فاتحة الكتاب إلى سورة الناس..
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 16) [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» .
الطور: هو طور سينين، أو سيناء..
وكتاب مسطور: هو جنس ما يكتب من الكتب، ولهذا جاء منكّرا موصوفا بأنه مكتوب فى رق منشور- وهو ما يكتب عليه من جلد رقيق..(14/542)
وفى وصف الكتاب بأنه مسطور، إشارة إلى أنه مكتوب كتابة فى أسطر على نحو ما يكتب الكاتبون..
وفى وصفه بأنه فى رق منشور- إشارة أخرى إلى أنه خفيف الحمل، سهل التداول، وأنه منشور، أي مفتوح للقارئين، غير مطوى عنهم..
وفى هذا كله تنويه بالكتابة ورفع لقدرها، وأنها باب واسع من أبواب العلم، وطريق فسيح من طرق المعرفة..
وليس هذا بالأمر المستغرب من رسالة افتتحت بهذا الأمر من رب العالمين، إلى النبىّ الأمىّ فى قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (1- 5: العلق) ثم تلا هذا الأمر قسم بالكتابة وأدواتها من حروف وأقلام، فقال تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» (1- 2: القلم) .
فالكتابة نعمة من نعم الله العظمى على الإنسان، تكمل بها نعمة الكلمة التي وضعها سبحانه وتعالى فى فم الإنسان..
فلا عجب إذن أن يقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب، من حيث هو جنس عام لكل ما يكتب، وأن ينظمه فى نسق واحد، مع هذه المعالم المباركة، التي أقامها الله سبحانه، هدى، ورحمة للناس.. كالطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور..
والبيت المعمور: هو البيت الحرام، الذي عمره الله سبحانه وتعالى بالواردين عليه، من المؤمنين، وبما يذكرون الله فيه..
والسقف المرفوع: هو السماء. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ(14/543)
سَقْفاً مَحْفُوظاً»
(32: الأنبياء) .. وقوله سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» (2: الرعد) .
والبحر المسجور: هو البحر المحيط بهذا العالم الأرضى.. والمسجور:
المربوط، المحبوس عن مفارقة الأرض، والانفلات منها، وهو كائن مائع، لا تمسكه إلا قدرة القادر..
تمور السماء مورا: أي تضطرب اضطرابا، وتموج موجا..
يدعون إلى نار جهنم دعّا: أي يدفعون إليها دفعا شديدا..
فالطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، أقسام خمسة، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وهى بهذا القسم من الله سبحانه تلبس ثوب التكريم، والتعظيم، وفى تكريمها وتعظيمها، إشعار بعظمة الخالق، وجلاله، الذي أبدع هذه المخلوقات العظيمة، وأقامها هذا المقام الكريم، حتى لقد كانت أهلا لأن يقسم خالقها بها، ويعرضها فى هذا المعرض الكريم..
هذا، ويلاحظ أن سورة «الذاريات» قد بدئت بأربعة أقسام من الخالق جل وعلا على أربعة مخلوقات من مخلوقانه: الذاريات ذروا..
فالحاملات وقرا.. فالجاريات يسرا.. فالمقسّمات أمرا..
وقد أوقع الله سبحانه وتعالى هذه الأقسام الأربعة على وقوع الدينونة، وحساب الناس وجزائهم يوم القيامة..
ثم أتبع سبحانه وتعالى هذه الأقسام بقسم خامس، هو قوله سبحانه والسماء ذات الحبك.. وأوقع سبحانه هذا القسم على اختلاف الناس، وأنهم فريقان: مؤمن وكافر: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» ..(14/544)
وفى سورة الطور هنا، بدأها الله سبحانه وتعالى بخمسة أقسام.. ثم أوقع هذه الأقسام على وقوع العذاب، الذي هو وجه من وجهى الجزاء يوم القيامة..
ووقوع العذاب يوم القيامة، يعنى وقوع هذا اليوم، ويعنى البعث، والحساب..
وعلى هذا- والله أعلم- يكون القسم الخامس هنا مراعى فيه تلك الإضافة الجديدة على ما وقع عليه القسم فى سورة الذاريات، وهو وقوع العذاب بأهله الكافرين الضالين، على حين تكون الأقسام الأربعة، مؤكّدة للأقسام الأربعة، التي جاءت فى تلك السورة، والتي وقعت على الإخبار بمجىء يوم القيامة.. أما القسم الخامس الذي جاء فى سورة الذاريات واقعا على اختلاف الناس، وافتراقهم إلى فرقتين: مؤمنين وكافرين، فهو تمهيد للقسم الخامس الذي ورد فى سورة الطور واقعا على ما يلقاه فريق من أحد الفريقين- وهو فريق الكافرين- من عذاب واقع فى هذا اليوم..
وقوله تعالى: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» هو بيان لما يقع فى هذا اليوم من أحداث تتغير بها معالم الوجود. «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) ..
[هذا الانقلاب فى عوالم الوجود يوم القيامة.. ما تأويله؟] وهذا الذي يحدث من تغيّرات فى معالم الوجود يوم القيامة، هو- والله أعلم- نتيجة لتغير مدركات الناس، فى هذا اليوم، بانتقالهم من عالم(14/545)
المادة إلى عالم الروح، الأمر الذي يرى فيه الناس بأرواحهم المطلقة من قيد المادة، ما لم يكونوا يرونه فى الحياة الدنيا..
وهذا يعنى أن اختلاف الرؤية للأشياء من حيث مطالعها، ومن حيث الحواسّ والمشاعر المتعاملة معها، والمتلقّية لها- هو الذي يرى الإنسان هذه التغيّرات التي يراها فى نظام الوجود.. تماما، كما يرى الإنسان الأشياء من خلال مجهر، أو من خلال منشور زجاجى، أو جسم شفاف ملون..
أو مرآة محدبة أو مقعرة.. ونحو هذا.. إنه يراها فى كل مرة على صورة مخالفة لما كان يراها عليه من قبل بعينيه المجردتين، وعلى صورة مباينة أيضا لما يراها عليه من خلال أي شىء من تلك الأشياء.. وهى هى لم تتغير ولم تتبدل، وإن بدت أنها متغيرة متبدلة..
والذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، من أن الموجودات، لا وجود لها فى حقيقتها، وإنما هى موجودة بفعل حواسنا، وأنه لولا هذه الحواس، لما كان لها وجود.. ويضربون لهذا أمثلة، بأن فاقد البصر أصلا ينكر وجود النور، كما أن فاقد حاسّة الشمّ يغيب من عالمه عالم المشمومات.. وقلّ مثل هذا فى بقية الحواس، من اللمس والذوق، والسمع- نقول إن هذا الذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، يشير إلى شىء من هذا الذي نتحدث عنه من أن الاختلاف الذي يقع فى حواسنا للموجودات، بين ما نراه منها فى الدنيا، وما نراه منها فى الآخرة هو من عمل حواسنا، وإن كنا نخالفهم فيما يذهبون إليه من إنكار الموجودات أصلا.. فإن إنكار هذه الموجودات يستلزم- تبعا لهذا- إنكار وجودهم هم أنفسهم، وإنكار هذه المقررات التي يقررونها.. فإن فقد العضو أو فقد وظيفته لا يستتبع فقد(14/546)
الوجود الخارجي للموجودات، التي كان من شأن العضو أن يتعامل معها، كما أن فقد الميت إحساسه بوجوده، لا ينفى أنه موجود بجسمه الذي يراه الأحياء المحيطون به..
وأحقّ من هذا، وأقرب إلى الصواب، أن يقال إن الأشياء هى التي تحقق للحواس والمدركات وجودها، لا أن الحواس والمدركات هى التي توجد الموجودات التي تتعامل معها..
ونعود إلى الحديث عما يقع يوم القيامة، من انقلاب فى عالم الموجودات..
أهذا الانقلاب واقع حقيقة، أم هو من عمل الحواس الجديدة التي يعيش بها الإنسان فى العالم الآخر؟ ..
يتحدث القرآن الكريم فى أكثر من موضع، عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وانطماس النجوم، وانكدارها، وتفجّر البحار، ودكّ الأرض والجبال، إلى غير ذلك مما يحدّث عن هذا الانقلاب الشامل الهائل الذي بغير معالم الأرض والسماء جميعا..
فيقول سبحانه وتعالى..
«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» (1- 5: الانفطار) ويقول جل شأنه: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ» (1- 3: التكوير) ويقول سبحانه: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» (4- 5: القارعة) ويقول سبحانه: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ»(14/547)
(8- 9: المعارج) ويقول جل شأنه: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (18- 20:
النبأ) .. ويقول سبحانه: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» (8- 10: المرسلات) ويقول سبحانه: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» (7- 10: القيامة) ويقول سبحانه: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» (13- 16: الحاقة) ..
والذي ينظر فى هذه الآيات الكريمة، يجد أنها تتحدث عن عوالم ثلاثة، يقع عليها التغيير والتبديل من أحداث القيامة..
العالم العلوىّ، والعالم الأرضى، والعالم الإنسانىّ..
ففى العالم العلوىّ: تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتتكور الشمس، وتنكدر النجوم، وتنفرج السماء، وتتشقق، ويخسف القمر، ويجمع الشمس والقمر..
وفى العالم الأرضى: تنفجر البحار، وتسيّر الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، وتنسف نسفا، وتدكّ دكا..
وفى عالم الإنسان: تبعثر القبور، ويكون الناس كالفراش المبثوث، وتبرق أبصارهم، ويتدافعون أفواجا إلى المحشر..(14/548)
[البعث.. وعلى أية صورة يكون؟]
فإذا أخذنا جانب الإنسان، وهو الذي تقع لعينيه هذه الأحداث التي تكون يوم القيامة، وجدنا أنه قد تغيّر فعلا، تغيرا يتناول طبيعته، كما يتناول الموقف الذي يرى الوجود منه..
فهو من حيث طبيعته، قد صار كائنا روحانيا، محلّقا فوق هذا العالم الأرضى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (4: القارعة) .. فالفراش حشرة طائرة، لطيفة الهيئة، دقيقة الجرم، هشة الجسم، تكاد تنخلع عن جسدها، وهى طائرة..
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن الفراشة تمثّل الدورة الإنسانية كلها، من مولده، إلى مماته، إلى مبعثه من قبره، إلى طيرانه إلى محشره..
فهى تكون بيضة.. على حين يكون الإنسان نطفة.
ثم تكون دودة.. على حين يكون الإنسان وليدا، يتحرك فى الحياة، أشبه بالدودة.
ثم تكون عذراء «1» داخل الشرنقة «2» .. على حين يكون الإنسان مقبورا فى جدثه..
__________
(1) العذراء.. هى الدودة داخل الشرنقة.
(2) الشرنقة. بيت تنسجه الدودة من لعابها، ثم تدخل فيه الدودة وتسمى فى هذا الدور العذراء.(14/549)
ثم تخرج من الشرنقة فراشة «1» على حين يكون الإنسان قد خرج من قبره، كما تخرج الفراشة من الشرنقة، وقد تخلّقت لها أجنحة تسبح بها فى الفضاء! ثم ماذا؟ وماذا؟ وماذا؟
لا جواب الآن.. إن القلم يضطرب فى يدى، لما تملكنى من روعة هذا الجلال، ولما أخذنى من وجد ونشوة حيال هذا الإعجاز، الذي ألمح سنا برقه من بعيد، وأنا لا زلت على شاطىء هذا البحر الذي لا يحدّه البصر! وإنّى لأبخس نفسى حظّها، إن أنا انتزعتها الآن من هذه الحال التي لبستها من غبطة وحبور، فى هذا المقام الكريم، لأصوّر بالقلم بعض ما ترى من جلال وروعة، ولأمسك ببعض ما وقع فى الخاطر من رؤى ومشاهد بين يدى هذه المعجزة الباهرة القاهرة..
فلتأخذ النفس إذن حظها من تلك النشوة، وليرتشف القلب كأس هذه الخمر السماوية، قطرة قطرة.. حتى يرتوى!! فإذا كان لنا فى غد صحوة من هذا الانتشاء، وإذا كان لنا فى العمر غد نعيش فيه- كان لنا عودة إلى هذا الموقف، وكان لنا نظر مجدّد فى تلك المعجزة، وكان لنا قول فيما يؤدّى إليه هذا النظر..
فإلى غد- إن شاء الله- وإلى ما يأذن الله لنا به، من فضله وإحسانه، حتى يستقيم للقلم طريقه، ويجد اليد القادرة على الإمساك به، والسيطرة على زمامه..
__________
(1) الفراشة: وهى العذراء تخرج من الشرنقة بعد أن تستكمل وجودها وتتخلق لها الأجنحة فى هذا الدور.(14/550)
وكان صباح.... وكان مساء..!
وجاء صباح يوم آخر.. وقد هدأت موجات الجلال التي غشيت النفس بالأمس، وهأنذأ أمسك بالقلم، ولكن لا أجد شيئا مما كان يملأ صدرى من خواطر وتصورات!! فأين ذهب كل هذا؟ إنى لا أكاد أذكر شيئا مما كنت فيه بالأمس، بل لا أكاد أذكر فيم كنت.. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى معاودة النظر فى الآية الكريمة، نظرا مجدّدا يستجيش المشاعر، ويحرّك المدارك، ويبعث من جديد هذه النشوة التي خمدت، أو كادت..
ومن النظر فى وجه الآية الكريمة: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» تجد أن تشبيه الناس بالفراش المبثوث- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يمثل أكمل تمثيل وأدقه تلك الصورة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن حياة الفراشة من بدئها إلى نهايتها تمثّل حياة الإنسان من حال كونه نطفة إلى أن يولد، وينمو، ويقطع مسيرته فى الحياة الدنيا، ثم إلى أن يموت، ثم يبعث فى هيئة فراشة، كانت بيضة، ثم دودة، ثم عذراء ملففة فى أكفان من الشرنقة، ثم تنشق عنها الشرنقة، فإذا هى فراشة! ..
هذا ما وقفنا عنده- على ما أذكر- من قبل..
الناس إذن يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث- فحين يخرجون من الأجداث يطيرون فى خفّة كما يطير الفراش المنطلق نحو النور والنار! ..
ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟(14/551)
وإلى أين يطير الفراش الحشرى إذا رأى نارا، أو أحس ضوءا؟
إنه لا وجهة له حينئذ إلا هذه النار وهذا الضوء!! وكذلك الناس، أو الفراش البشرى، لا مورد لهم إلا هذه النار التي سعّرت وتأججت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» (71: مريم) .
وما مصير هذا الفراش الحشرى المتدافع إلى النار؟ إنه يتقحمها، ويلقى بنفسه فيها، وكأنّ يدا قوية تدفعه إليها دفعا ليكون وقودا لها.. وقليل قليل هو الذي ينجو بنفسه، ويعدل بوجهه عن لهيبها..
كذلك شأن الفراش البشرىّ الوارد على نار جهنم، إنه وقود هذه النار إلا قليلا قليلا ممن أنجاهم الله منها، وكتب لهم الفوز بجنات النعيم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (72: مريم) ..
فهذا القليل هو الذي يقف فى منطقة النور دون أن يتقحم النار..
وأما الكثير الغالب، فإنه يغشى فى هذا الضوء فيهوى فى جهنم.. إنه أعمى لا يرى إلى أين مساقه، لأنه حشر على ما كان فى الدنيا من عمى: «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» .. فالهلكى فى الآخرة كثيرون، والناجون قليل بل وأقل من القليل!! وأكاد أقول إن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيها، وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين، - صورة الفراش الحشرى، وصورة الفراش البشرى- فى الملامح، والألوان، والظلال..(14/552)
ويتأكد هذا المفهوم، إذ نجد القرآن الكريم يلتزم هذا التشبيه فى معرض آخر، من معارض البعث والنشور، فيقول سبحانه: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (7- 8: القمر) ..
فالجراد المنتشر، والفراش المبثوث.. صورتان متماثلتان فى مرأى العين، وفى أطوار الحياة التي يتنقل فيها كلّ من الفراش والجراد!.
فالجراد يأخذ فى خلقه وتطوره نفس المراحل التي يقطعها الفراش فى مسيرة الحياة..
البيضة، فالدودة، فالعذراء، فالفراشة التي تطير..
«والفراش» كائن لطيف، رقيق، يكاد يكون من عالم الروح أكثر منه من عالم المادة..
وأما «الجراد» - وإن كان أكثر كثافة من الفراش، فإن أجنحته- الكبيرة القويّة، تغلب كثافة جسده، فيطير بخفة أشبه بخفة الأرواح..
وفى الجمع بين الفراش المبثوث، والجراد المنتشر، تصوير معجز للصورة التي يبعث عليها الناس يوم القيامة..
ففى الناس: فراش، وجراد.. فى الدنيا وفى الآخرة..
فالمؤمنون، يمثلون الفراش.. فى لطفه، ورقته، ووداعته، ومواقعه فى فى الحياة، وتناوله من رحيق أزهارها، وطيّب ثمارها.. حيث هم زينة(14/553)
هذه الحياة الدنيا، وحيث لا يقع منهم أذّى على أحد، أو عدوان على شىء، بيد أو لسان..
والكافرون، والضالون، يمثلون الجراد فى نهمه، وشراسته، وعدوانه على مواقع الخصب، فيفسدها، وو يحيلها جدبا..
وهكذا يبعث الناس، على ما كانوا عليه فى الدنيا، من كان منهم على صورة الفراش، فى اللطف، والوداعة، بعث على صورة الفراش، ومن كان منهم على هيئة الجراد، فى الشراسة والنّهم، بعث على هيئة الجراد..
وأكثر من هذا، فإن الفراش قلّة قليلة بالنسبة لأعداد الجراد الكثيرة التي تتكاثر مواليدها وتتضاعف بين ساعة وأخرى.. وكذلك المؤمنون هم قلة فى محيط الكافرين، والمشركين.. وهذا ما نامحه فى قوله تعالى فى وصف كل من الفراش والجراد.. فقد جاء وصف الفراش، بالبثّ:
«كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» .. والبث، هو إذاعة الحديث الطيب فى رفق، وعلى هينة، ولطف.. وجاء وصف الجراد بالانتشار: «كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» والانتشار، إنما يكون فى سرعة مجنونة، كما ينتشر الوباء فى الناس، وكما تنتشر النار فى الهشيم..!
ويكاد يصرفنا هذا الموقف الرائع المعجز، عن الموضوع الذي نعالجه، بل إنه ليكاد يغنينا عن النظر إلى ماوراءه، لما نالت النفس منه، من شبع ورىّ! ولكن وفاء بحق هذا البحث، نعود فنقول:
إنه بالنظر فى حال للإنسان يوم القيامة، نجد فى قوله تعالى عن هذا(14/554)
الإنسان يوم القيامة: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» - نجد فى هذا إشارة إلى ما يقع لبصر الإنسان من تحول، يزداد به قوة خارقة فى مجال الرؤية، حيث يامع كما يامع البرق، فيكشف بنوره المنبعث منه حقائق الأشياء، وينفذ إلى الصميم منها، وكأنه يراها لأول مرة، رؤية جديدة، تبدو فيها المفارقة بعيدة، بين ما يراها عليه الآن، وبين ما كان يراها عليه فى الحياة الدنيا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .
هذه صورة مجملة للإنسان يوم القيامة، ولموقفه من الموجودات فى هذا اليوم..
فهو كائن سابح فى عالم علوىّ، قد يبلغ فى سبحه هذا، مدارج الكواكب والنجوم، ثم هو فى هذا العلو السحيق يملك بصرا حديدا كاشفا لا يمكن تصوره..
ومن هذا الأفق العالي، وبهذا البصر الحديد النافذ، ينظر الإنسان إلى هذه الأرض التي كان يعيش فيها.. فيرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء..
«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) إنه تبدل يقع فى إحساس الإنسان نفسه، وفى معطيات بصره..
إنه يرى البحار وكأنها قد فجّرت، وفاضت مياهها.. إنه يرى البحر كله، وقد اشتمل على الكرة الأرضية وأحاط بها..
وإنه يرى الجبال وكأنها قد سيّرت، وهى فى حقيقتها سائرة لا تتوقف،(14/555)
فى دورتها مع دورة الأرض حول نفسها، كما يقول الله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب (88: النمل) .. ويراها وكأنها وقد نسفت، وزايلت مواضعها من الأرض، شأن من ينظر إلى الأرض من علو شاهق، فتبدو له وكأنها سطح مستو لا أغوار فيه، ولا نجود.. ويراها من هذا العلو وكأنها العهن المنفوش، أشبه بذرات متطايرة فوق سطح الأرض.. ويراها، ويرى الأرض معها كرة معلقة فى الفضاء، قد اندمج بعضهما فى بعض، فصارا كيانا واحدا: «لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» (107: طه) .. (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) (14: الحاقة) ..
هكذا تبدو الجبال، على صور شتى، بين الصغر والكبر، وبين الظهور والخفاء، حسب الأفق الذي يشرف منه الإنسان عليها يومئذ.
ولقد أحسن الشاعر «شوقى» غاية الإحسان، فى تصوير الطائرة، وهى تنطلق مصعّدة فى السماء، وكلما ارتفعت كان لها فى موقع البصر صورة، على غير سابقتها أو لا حقتها.. يقول شوقى:
ثم تسامت فكانت أعقبا فنسورا.. فصقورا.. فحماما أمّا السماء وعوالمها، فإنه يقع عليها من التبدل والتحول، فى نظر الإنسان، ما وقع له فى العالم الأرضى من تحول وتبدل..
إنه يرى السماء، التي- كانت تبدو له فى دنياه سقفا صفيقا مصمتا- يراها، وقد فتحت فكانت أبوابا، وكانت فروجا، وإذا سقفها هذا قد بدا واهيا، لا يحول بينه وبين اختراق أجوائها إلى غير حدود..(14/556)
«وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .. «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» ..
تلك هى السماء، كما يراها الإنسان، ويختبر تصعيده فيها.. أما هى فى حقيقتها فهى هى، لم تتبدل، ولم تتحول..!
وحال أخرى من السماء، يجدها الإنسان فى هذا اليوم، وهى ما جاء فى قوله تعالى: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» .. فهذه حال من السماء يجدها الإنسان، حين يرتفع إلى مواقع النجوم منها، فيجد لذلك مسّ حرارة هذه النجوم، ويشهد منها هذا الغليان والفوران المتأجج فى كيانها..
إذ النجوم فى حقيقتها عوالم من لظى يأكل بعضه بعضا..
أما النجوم والكواكب، فإنه يراها- كذلك- فى أحوال شتى، حسب موقعه منها.. فيرى النجوم وقد انكدرت وطمست، واختفى ضوءها.. حيث أن هذا الضوء الذي نراه للنجوم، إنما هو من أثر هذا الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من محيط هذا الغلاف لم يقع على بصره هذا الضوء اللامع الذي نراه لها..
كذلك يرى الكواكب، التي كان يراها فى العالم الأرضى على مستوى واحد، متجاورة كما تتجاور حيات العقد- يراها متناثرة، كل واحد منها عالم يدور فى فلك، بينه وبين النجوم الأخرى آماد بعيدة، تقدر مسافاتها بالألوف والملايين من السنين الضوئية!.
والشمس- وهى نجم من تلك النجوم- تبدو كرة ملتهبة، لا شعاع فيها، لأن هذا الشعاع الذي نراه منها، هو- كما قلنا- أثر من الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من دائرة(14/557)
هذا الغلاف لم يكن لهذه الأشعة وجود فى مرأى العين..
أما قوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» - فهو أيضا أثر من آثار خروج الإنسان يوم القيامة من عالم الأرض.. حيث يرى الشمس شمسا، والقمر قمرا، فى حال واحدة، لا يحكم رؤيته لهما، ليل أو نهار..
هذه وقفة قصيرة غاية القصر مع تلك المشاهد التي يراها الإنسان يوم القيامة، من عوالم الوجود.. ولو أننا ذهبنا نتقصّى وجوه النظر المختلفة، لخرج بنا ذلك عن المنهج الذي التزمناه، فى هذا التفسير لكتاب الله..
بقيت كلمة لا بد منها فى التعقيب على هذا البحث، وهى، الإجابة على هذا السؤال:
هل يكون البعث بالأجساد، أو الأرواح؟.
وهذه قضية كثرت فيها الأقوال وتضاربت الآراء، ولا نحسب أن إجابتنا على هذا السؤال بالذي يحسم الأمر، ويرفع الخلاف فيها، بل إنه ربما وسّع من شقة الخلاف، وأضاف إلى المقولات المتخالفة مقولة! ومع هذا، فإن إمساكنا عن القول فى هذه القضية، لا يخفف من حدة الخلاف فيها، ولا يمسك ذوى الآراء عن الخوض فى تلك القضية، التي هى وسواس كل خاطر، وامتدا كل نظر إلى الحياة، وما وراء الحياة.
فنقول إننا نرجح الرأى القائل بأن البعث يكون بالأرواح لا بالأجسام..(14/558)
ولنا فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» ، وقوله سبحانه:
«يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» - لنا فى هذا شاهد نلمح منه صورة الحياة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وهى أنها حياة أشبه بحياة الطير، حيث ينطلق الناس فى العوالم العليا، إلى حيث الكواكب والنجوم..
والأرواح الإنسانية التي نلمحها من الآبتين الكريمتين، ليست أرواحا مجردة، بل هى أرواح، تلبس أجسادا شفافة، هى قوالب روحانية، على هيئات بشرية يعيش فيها الناس.. وهى ما يسمى بالنفس، التي هى وسط بين الروح، والجسد «1» ..
قوله تعالى:
«هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» ..
فى الإشارة إلى النار، دعوة لأهلها إلى ورودها، ونزولهم ضيوفا عليها، ليطعموا مما تقدّمه لهم من زاد عتيد تلقاهم به، وتغاديهم وتراوحهم بصنوفه وأكوانه..!!
وفى الدعوة إلى هذا المكروه، مزيد من الاستهزاء والإيلام لهؤلاء الأشقياء، الذين يساقون إلى هذا العذاب الأليم.. مثل قوله تعالى:
«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» ..
وقوله تعالى:
«أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» ؟
__________
(1) انظر هذا البحث فى كتابنا قضية الألوهية الكتاب الثاني.. الله والإنسان(14/559)
هو عرض على أسماع هؤلاء المجرمين المكذبين باليوم الآخر- لتلك المقولات الهازئة الساخرة التي كانوا يقولونها عن البعث، والحساب، والجزاء.. وكان من مقولاتهم تلك، اتهام النبي بالكذب، وبالسحر، وأن ما يحدثهم به عن اليوم الآخر ليس إلا من قبيل الشعوذة والخداع! ..
فهم يسألون هذا السؤال التقريعيّ، الذي لا يجدون له جوابا إلا الإبلاس والوجوم، وإلا الحسرة القاتلة، والنّدم الأسود الكئيب! ..
«أَفَسِحْرٌ هذا؟» أي أهذا العذاب الذي، تساقون إليه، والذي كان يتلوه عليهم من آيات الله- أسحر هو؟
وإنه لأسلوب من أساليب العقاب، أن يوقف المجرم على جسم جريمته، وأن يواجه بها، وأن يذكر بها حالا بعد حال، وخاصة إذا كان بين يدى السلطان القاهر الذي يأخذه بجريمته ويوقّع عليه الجزاء الذي يستحقه، فإن جريمته هى التي ساقته إلى هذا البلاء الذي هو فيه، وإنها لهى العدوّ الذي ألقاه فى التهلكة!.
وفى قوله تعالى: «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» هو زيادة فى إبلامهم بأن ينظروا فى هذا العذاب، وأن يملأوا عيونهم منه، قبل أن يذوقوه بأجسامهم، ويلبسوه ثيابا تقطّع لهم من تلك النار الموقدة أمام أعينهم..
قوله تعالى:
«اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
هو دعوة أخرى لهؤلاء المكذبين، إلى تذوق ما فى هذه النار التي دعوا(14/560)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
إليها، ونزلوا بساحتها، وإنه لا شىء هناك إلا نارا تشوى الوجوه، وتهرى الأجسام، وإلا مهلا يغلى فى البطون كغلى الحميم..
فليأخذوا ما تقدّم لهم النّار من ضيافة نكدة، وليصبروا على تجرّع هذه الغصص، أولا يصبروا، فإنه لا مفرّ لهم من أن يشربوا من هذه الكأس التي لا تنضب، ولا معدل لهم عنها، صبروا أولم يصبروا..
فالأمر بالنسبة إليهم سواء.. إنهم فى قيد العذاب: «فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» (24: فصلت) ..
الآيات: (17- 28) [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)(14/561)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» ..
هو عرض لصورة من صور النعيم، الذي حرمه أهل الضلال، الذين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون..
فهذا النعيم الذي يراه أهل النار بأعينهم، ويرون فيه أقواما كانوا من قبل موضع استهزاء بهم وسخرية منهم- هذا النعيم، كان يمكن أن يكون لهم نصيب منه، ولكنهم صرفوا وجوههم عنه فى الدنيا، وسفّهوا الذين كانوا يدعونهم إليه، فأبقى لهم ذلك حسرة دائمة، وبلاء طويلا ممتدا..
لا ينتهى أبدا..
وفى هذا ما يضاعف من عقابهم، ويزيد فى شقائهم، على حين أنّه يقدّم بين أيدى المؤمنين المتقين، ويرفع لأبصارهم فى تلك الجنّة التي وعدوا بها، فيرونها دانية منهم، يشوقهم لقاؤها، والسعى الحثيث إليها..
وقوله تعالى: «فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» هو حال من المتقين.. أي أنهم وهم فى جنتهم تلك، يتفكهون بما فيها من طيبات تملأ نفوسهم رضا وحبورا..
وأصل التفكّه: من الفكاهة، وهو حديث فكه، يوننس به..
وسميت الفاكهة فاكهة للذة طعمها فى الأفواه، كلذّة الحديث الفكه على الآذان.(14/562)
وفى إظهار الاسم الكريم (ربهم) فى قوله تعالى: «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» بدلا من إضماره- فى هذا مزيد اعتناء بهم، وتذكير لهم بربّهم الذي منّ عليهم بالجنة ونعيمها، وجنّبهم جهنم وسعيرها..
قوله تعالى:
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو التفاتة كريمة ودعوة مسعدة للمتقين، إلى أن يأخذوا بحظهم من رضوان الله، الذي قدّمه لهم ربهم.. وعلى حين تصكّ آذان المكذبين الضالين الذين أخذوا أما كنهم فى نار جهنم، بهذه الدعوة المزلزلة المهلكة:
«اصلوها» ، فإذا أخذهم لهيبها، واشتمل عليهم سعيرها، وصرخوا صرخة الويل والثبور، قيل لهم: «فاصبروا أولا تصبروا.. سواء عليكم» - على حين يفعل هذا بالمكذبين الضالين، يقال للمؤمنين المتقين، وقد أكلوا وشربوا من نعيم الجنة: «هنيئا» أي هنأكم الطعام والشراب.. فكلّ يأخذ من ثمر ما عمل، وبطعم من جنى ما غرس! «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . (71: التحريم) قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» .
أي أن المتقين يلقّون هذا التكريم، وتلك التحية، فى حال قد أخذوا فيها أما كنهم على أرائك وسرر مصفوفة، يقابل فيها بعضهم بعضا، ويأنس فيها بعضهم ببعض، وقد زوّجوا بحور عين..
والحور: جمع حوراء، وهى التي فى سواد عينيها قليل من البياض، وهو من أمارات الحسن والجمال، وقيل هو شدة بياض العين مع شدة(14/563)
سوادها.. وهو من ملاحة الملاح، وحسن الحسان..
والعين: جمع عيناء، ويطلق على بقر الوحش لجمال عيونه..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» ..
ومما يساق إلى أهل الجنة فى الجنة، أن يكرم من أجلهم أبناؤهم وذرياتهم من المؤمنين، وذلك إذا كانوا أنزل درجة منهم فى الجنة- وفى الجنة درجات، كما فى النار دركات- وبذلك يجتمع شملهم فى الجنة، كما اجتمع شملهم فى الدنيا، وبهذا تقرّ أعينهم، ويكمل سرورهم..
وقوله تعالى: «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» - إشارة إلى أن هذه الذرية التي لحقت بآبائها فى الجنة، قد كانت على إيمان بالله، كإيمان آبائهم، وبهذا كانوا جميعا من أهل الجنة، وإن اختلفت فيها منازلهم، فكان جمعهم، وإلحاق الأدنى منهم بالأعلى- إحسانا من الله سبحانه وتعالى إليهم جميعا.. الآباء، والأبناء..
وهنا سؤال:
لماذا تلحق الأبناء بالآباء، ولا يلحق الآباء بالأبناء، إذا كانوا أنزل درجة من أبنائهم؟ ..
والجواب على هذا، أن هؤلاء الآباء، هم أبناء لآباء، وهؤلاء الآباء أبناء لآباء، وهكذا.. يتبع الأبناء آباءهم فى سلسلة تمتد من بدء الخليقة إلى نهايتها.. وهكذا يبدو أهل الجنة، وكأنهم جميعا أسرة واحدة.(14/564)
وقد يعترض على هذا، بأنه مخالف لما هو معروف بأن الجنة- ليست جنّة واحدة، وإنما هى جنات، وهى منازل، ولكل جنة أصحابها، ولكل منزلة أهلها..
ويدفع هذا الاعتراض:
أولا: أن أهل الجنة، أو الجنات، ليس بينهم هذه العزلة الجامدة الباردة، التي تقيم كل طائفة فى معزل عن الآخرين، بل إن أهل الجنة وإن اختلفت منازلهم، وتباينت درجاتهم، هم فى عالم واحد، مطلق، لا حدود فيه ولا قيود.. وهل تكون جنة ويكون نعيم، ثم يقام على هذه الجنة وذلك النعيم حارس؟.
وثانيا: هذا الاختلاف الذي بين درجات أهل الجنة ومنازلهم عند الله، هو اختلاف فى درجة التقبّل للنعيم، وفى مدى القدرة على التناول من هذا النعيم الذي لا ينفد أبدا.. فهناك نفوس كبيرة تستوعب نعيم الجنة كله، وتلذّ به، على حين أن هناك نفوسا صغيرة تأخذ من هذا النعيم حسوا كحسو الطير، ثم تجد فى ذلك شبعها وربّها.. إنها موائد ممدودة، عليها ما لا يبلغه الوصف من طيبات النعيم.. وإنه لا يردّ أحد عن أي لون من ألوان هذا النعيم، بل إن كل ما يطلبه المرء منه يجده حاضرا بين يديه.. ولكن هنا يختلف أهل الجنة فى قدرتهم على الأخذ من هذا النعيم، الذي بين أيديهم، فبعضهم يأخذ القليل لأنه لا شهوة له إلى أكثر من هذا القليل، على حين يكون هناك من يجدون القدرة والاشتهاء لكل ما فى الجنة من ألوان النعيم فيذوقون من كل لون، ويطعمون من كل صنف.. تماما كما نرى ذلك فى الحياة الدنيا، حيث يجلس المدعوّون إلى(14/565)
مائدة حافلة بألوان الطعام.. ثم تختلف حظوظهم فيما ينالون منها..
دون أن يكون هناك حائل يحول بين أىّ منهم وبين ما يشتهى..
قوله تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي وما أنقصنا شيئا من عمل هؤلاء الآباء الذي ألحقنا بهم ذريتهم، بل وفاهم الله تعالى أجرهم غير منقوص..
وكان إلحاق أبنائهم بهم، فضلا من فضل الله على الوالدين والمولودين جميعا..
والجملة: حال من الفاعل فى قوله تعالى «أَلْحَقْنا» وهو الله سبحانه وتعالى..
قوله تعالى:
«وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» .
هو مما يقدّم لأهل الجنة من طعام، وليس هو كل طعام الجنة، وإنما هناك من ألوان الطعام ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. وإنما اختصّ هذان الصنفان بالذّكر، لأنهما من أطيب، وأشهى ما يطعمه أهل الدنيا من طعام.. وكان من تمام النعمة فى الجنة ألا يحرم أهلها ما كان لهم من طعام مشتهى فى الدنيا، وخاصة أولئك الذين حرموا هذا الطعام فى دنياهم، وكان من مشتهياتهم فيها..
قوله تعالى:
«يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» التنازع: هو المجاذبة للشىء بين قوتين.. وتنازع الكئوس، تجاذبها بين الجالسين فى مجلس شرابها، يتبادلونها فى شوق ورغبة ونزوع أنفسهم إليها..(14/566)
لا لغو فيها: أي لا تحمل هذه الكئوس فى كيانها، هذا الداء الذي يخامر العقول، ويفقدها الوعى، فتخرج من وقارها إلى هذر الكلام ولغوه.
ولا تأثيم: أي لا إثم على شاربها، فهى خمر، وهى مع ذلك حلال لشاربها..
ومن هنا ندرك السر فى تحريم الخمر، والعلّة التي من أجلها كانت إثما يسوق مرتكبه إلى ساحة الاتهام والعقاب..
فالإسكار، هو علّة تحريم الخمر، لا علّة له غيرها.. دون نظر إلى المادة التي يصنع منها..
وعلى هذا، فإن الخلاف القائم بين أصحاب المذاهب الفقهية فى تلك المباحث التي تبحث عن جواب هذا السؤال: ما هى الخمر؟ وما هى المادة التي تصنع منها؟ - إن هذا الخلاف لا محصّل له، ولا داعية للوقوف عنده، فى تقرير الحكم الشرعي للخمر.. فكل مسكر خمر، وكل مغيّب للعقل، ذاهب بوقاره، داع له إلى اللغو- هو خمر، وهو موقع على متعاطيه إثما، هو إثم شارب الخمر..
قوله تعالى:
«وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» أي ويطوف على أهل الجنة بتلك الكئوس المترعة بالخمر، سقاة يقومون على خدمة شاربيها، وهم غلمان كاللؤلؤ المكنون، صفاء، وحسنا، وبهاء..
وهذا من تمام النعمة.. فإن الصورة التي يقدّم عليها الطعام أو الشراب من آنية توضع فيها، وأدوات تستعمل فى تناولها، وخدم يقومون بتقديمها.. كل ذلك وأشباهه، يجعل للطعام طعما يضاف إلى طعمه الذاتي، حسنا أو قبحا حسب(14/567)
حسن أو قبح هذه الملحقات به.. ومن هنا نجد الصحاف التي يقدم فيها الطعام لأهل الجنة صحافا من ذهب، والأكواب التي يقدم فيها الشراب قوارير من فضة.. ولهذا أيضا نجد لكئوس الخمر، وسقاتها، أوصافا يتغنىّ بها الشعراء الذين يغشون مجالس الخمر، ويتساقون كئوسها، تماما كما يتغنّون بالخمر، وأوصافها، وما فيها من جودة وعتق.. فيقول أبو نواس مثلا فى وصف الكأس:
تدار علينا الرّاح فى عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى، وفى جنباتها مهّا تدّريها بالقسيّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم والماء مادارت عليه القلانس قوله تعالى:
«وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» .
أي ومن أحوال أهل الجنة، أنهم يتفكهون بتلك الأحاديث المسعدة، التي يذكرون بها فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، بإنزالهم هذا المنزل الكريم، بعد أن نجاهم من هذا البلاء، وعافاهم من ذلك العذاب الذي يصلاه أهل الجحيم من أهليهم، وإخوانهم، وأقوامهم، الذين كفروا بالله، وصدّوا عن سبيله ...(14/568)
وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ» هو بعض المقولات التي تتردّد فى هذا الحديث المدار بين أهل الجنة، وفيه يذكرون ما كان منهم فى الدنيا، من خشية وخوف للقاء هذا اليوم العظيم، الذي يؤمنون به، ويعرفون ما فيه من أهوال تشيب لها الولدان، كما يقول سبحانه وتعالى فى وصف الحال التي كان عليها المؤمنون فى الدنيا: «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» (26- 28:
المعارج) .
وقوله تعالى: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» - هو تعقيب على قولهم: «إنا كنّا قبل فى أهلنا مشفقين» أي إنا كنا فى دنيانا مشفقين من عذاب ربنا فى هذا اليوم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى منّ علينا بالنجاة من هذا العذاب ووقانا شرّ ذلك اليوم، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» (11: الإنسان) قوله تعالى:
«إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» هو تعقيب بعد تعقيب على قولهم: «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ» أي وكنا ندعو الله، ونطلب النجاة من شر هذا اليوم، ومن العذاب الواقع بأهل الشقاء فيه، وقد استجاب الله لنا بفضله، وإحسانه.. «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ» أي البارّ بعباده المؤمنين المحسنين «الرَّحِيمُ» الواسع الرحمة، لمن يطلبون رحمته، ويبتغون فضله.. فما أعظم برّه، وما أوسع رحمته..(14/569)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
الآيات: (29- 49) [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 49]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)(14/570)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، عرضت مشاهد القيامة وما يلقى المكذبون الضالّون هناك من عذاب وهوان، وما يتلقّى المؤمنون المتقون من رضوان الله، وجنات لهم فيها نعيم مقيم..
وهنا تجىء الآية الكريمة، والآيات التي بعدها، لتواجه الناس جميعا مرة أخرى، بالدعوة الإسلامية، وبرسولها الكريم الذي يدعو بها، بعد أن نقلتهم فى لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة وأرتهم منازلهم هناك، وما يجزون به عن أعمالهم، من محسنين ومسيئين.
ولا شك أن مواجهة الناس هنا بالدعوة الإسلامية، بعد هذه المشاهد التي شهدوها من يوم القيامة- لا شك أن هذه المواجهة ستلقى الناس على حال غير الحال التي كانوا عليها من قبل، وقد رأوا النار وسعيرها، والجنة ونعيمها.
وقوله تعالى: «فذكّر» هو دعوة للنبى أن يواجه الناس بدعوته، وأن يتلو عليهم آيات ربه، وأن يؤذّن فيهم بقوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (158: الأعراف) .. فهذا هو موقف النبي دائما لا يتحول عنه، ولا يعدل به عن مقامه فيه، ما يلقى من أذى وضرّ، وما يسمع من سفاهة السفهاء، وجهل الجاهلين.. «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، (55:
الذاريات) .
وقوله سبحانه. «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» أي فما أنت(14/571)
بما أنعم الله به عليك بهذا الكتاب الذي بين يديك بكاهن ولا مجنون كما يتخرض بذلك المتخرصون، ويفترى المفترون، فيقولون فيك هذا القول الفاجر الآثم.. والكاهن: من يدعى التنبؤ بعلم الغيب، وبما سيقع فى مستقبل الأيام فالباء فى قوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» - للسببية، كما فى قوله تعالى: «قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» (17. القصص) .
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» .
هو إضراب عن مقولات المشركين فى النبي، بأنه شاعر، أو كاهن، وانتقال إلى مقولة أخرى يقولونها فى النبي، وهو قولهم «شاعر» .. فهم يلقون بهذه الأباطيل من غير أن يقوم عندهم دليل عليها، وإنما هى رميات طائشة عمياء، يلقون بها بلا حساب أو تقدير.. شأن من يحارب عدوّا متوهما، فيرمى بكل ما يقع ليده إلى كل اتجاه، فرارا من هذا الخطر المتوهم، سواء أصابت هذه الرميات عدوّا، أم صديقا..
وقوله تعالى: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» هو أمنية من تلك الأمانى التي يعيش بها المشركون مع النبي، وتعلّة يتعللون بها، وهى أن ينتظروا به موتا يختطفه من بينهم، ويريحهم منه.. فتلك أمنية يتمنونها، ويعلقون آمالهم بها.
وقوله تعالى: «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» - هو ردّ على ما ينتظرون فى النبي من موت يريحهم منه.. «تربصوا» أي انتظروا: «فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» أي منتظر لما تأتى به الأيام فىّ وفيكم.. فالأمر فى هذا على سواء بينهم وبينه، إذ للموت حكم واقع عليهم وعليه. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟» (34: الأنبياء) ويقول سبحانه «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (30: الزمر) .(14/572)
قوله تعالى:
«أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» .
هو استفهام يراد به تسفيه عقول هؤلاء الذين يقولون هذا القول الأحمق، الذي لا يقبله عقل، ولا ينطق به عاقل، وهو التربص والانتظار للموت الذي يتمنونه للنبى.
وفى التعبير عن معطيات عقولهم، بالأمر، وبأنها تملى عليهم هذا القول وتأمرهم به- إشارة إلى أنهم كيان منفصل عن تلك العقول، التي تفيض بالوساوس والأوهام، وأن كل ما يطرقهم من أوهام هذه العقول ووساوسها، لا يجد منهم إلا ألسنة تردد هذه الأوهام وتلك الوساوس، دون أن يكون لهم سلطان عليها، أو تحكّم فيها، وذلك على غير ما يفعل العقلاء الذين يتدبرون أمرهم بينهم، وبين خطرات نفوسهم، ووساوس عقولهم.
وقوله تعالى: «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» هو إضراب عليهم، وعلى عقولهم جميعا، وأنهم كيان من الطغيان، يندفع كما تندفع الحمر المستنفرة، فرّت من قسورة، لا إرادة معها، ولا اختيار لها فى الوجهة التي تأخذها فى فرارها.
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ.. بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» .
استفهام آخر، يكشف عن جريمة أخرى من جرائمهم، ويواجههم بضلالة من ضلالاتهم، وهى قولهم فى النبي: إنه افترى هذا القول الذي يحدّثهم به، ويقول لهم عنه إنه كلام الله!!.
وقوله تعالى: «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» - حكم عليهم بأنهم لن ينتفعوا بهذا القرآن، ولا يهتدون به، ولا يكونون فى المؤمنين أبدا.. وهذا حكم واقع(14/573)
على أولئك الذين أدركهم الإسلام من المشركين، ومانوا على شركهم، محادّين لله ورسوله.. ومنهم قتلى بدر، الذين بلغوا سبعين قتيلا..!. وهذا من أنباء الغيب التي حملت آيات الله كثيرا منها.
قوله تعالى:
«فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» .
هو ردّ متحدّ لهؤلاء المشركين، الذين يتهمون النبي بالكذب والتقوّل على الله، وذلك بأن يأتوا بحديث مفترى، مثل هذا القرآن، إن كانوا صادقين فى دعواهم تلك.. فإن يفعلوا- ولن يفعلوا- فذلك هو مقطع القول بينهم وبين النبي.
قوله تعالى:
«أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» .
هو انتقال بالقضية التي تتصل بالقرآن، وبمقولاتهم فيه، بعد أن دعاهم إلى التحدّى فلم يقوموا له- انتقال إلى ميدان آخر من ميادين المحاجّة.. فليدعوا هذا القرآن، وليدعوا ما يحدّثهم به النبي منه.. ثم لينظروا فى أنفسهم، وليجيبوا على هذا السؤال: أخلقوا من غير شىء؟ فمن أين إذن جاءوا إلى هذه الدنيا؟
ومن صوّرهم على تلك الصورة التي هم فيها؟ أخلقوا هم أنفسهم؟ أصوروا هذه النّطف التي بدأت بها مسيرتهم فى الحياة فى أرحام أمهاتهم؟ إنه لا جواب إلا الصمت المطبق والوجوم الحائر! قوله تعالى:
«أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. بَلْ لا يُوقِنُونَ» .
وإذا لم يكن لهم أن يقولو إنهم خلقو أنفسهم، فهل لهم أن يقولوا إنهم(14/574)
خلقوا السموات والأرض؟ ذلك أبعد وأغرب..!
وقوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» - هو استدراك على سؤال يرد على قوله تعالى:
«أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» وهذا السؤال هو: وهل ينكر المشركون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول عنهم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» (9: الزخرف) فكيف يسألون هنا هذا السؤال الذي فيه اتهام لهم بالقول بأن للسموات والأرض خالقا غير الله؟ فكان قوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» دافعا لهذا الذي يقع فى الوهم من تعارض بين سؤالهم سؤال المتهم، فى قوله تعالى: «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» وبين إقرارهم بما يدفع هذه التهمة عنهم فى قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» .
(25: لقمان) وذلك أن قوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» يكشف عن حقيقة إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض.. فهو إقرار لا يقوم على استدلال وبحث، ونظر.. ومن ثمّ فلا يقع منهم موقع اليقين.. فلم يكن إقرارهم بما أقروا به، إلّا عن قهر واضطرار، إذ لم يجدوا بدّا من التسليم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض! أمّا هذا الخالق، وقدرته، وعلمه وحكمته وسلطانه، فلم يكن له مفهوم واضح يقوم على إدراك سليم عندهم.. ولو كان هذا الإقرار قائما على إدراك صحيح، وفهم سليم، لكانوا مؤمنين به، مصدقين لرسوله، مؤمنين بآيات الله التي بين يديه.. وهكذا كل قول لا يقوم على علم لا يبعث فى صاحبه يقينا بمفهوم هذا القول، ولا يحدث فى نفسه أثرا يثير وجدانه، ويحرك مشاعره، ويؤثر فى منازعه.. فهذا هو كلام الله، يمسك بالحقائق من أطرافها جميعا: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) .(14/575)
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» .
سؤال آخر، يسأله المشركون، وهم فى موقف الاتهام بالشرك بالله، وضلالهم الطريق إليه..
والسؤال هنا عمّا يمكن أن يكون لهم من دعوى يدّعونها فيما بين يدى الله من خزائن ملكه، ومن تصرّفه فيما تضم هذه الخزائن من منن وعطايا، ومن رحمة وإحسان.
أعندهم مفاتح هذه الخزائن؟ أهم المسيطرون عليها، المتصرفون فيها؟ وإذا لم يكن لهم شىء من هذا، فلم إذن ينكرون على الله أن يمنّ بفضله على من يشاء من عباده؟ ولم إذن ينكرون أن يكون لله سبحانه الخترة فى اصطفاء من يصطفى من خلقه للسفارة بينه وبين الناس؟ ولم يقولون هذا القول المنكر فى النبي.. «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» ؟ (25: القمر) وكيف تبلغ بهم الجرأة أن يقولوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد رد الله سبحانه قولهم هذا بقوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟» (31، 32 الزخرف) .
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .
وسؤال اتهام أيضا.. يقال لهم فيه: من أين جئنم بهذه المقولات الباطلة التي تقيمون منها دينا تدينون به، فتجعلون من الملائكة، والجنّ، والنجوم، والكواكب- آلهة تعبدونها من دون الله؟ أمعكم بهذا كتاب من عند الله؟
أم كان لكم سلم وصل بينكم وبين الملأ الأعلى، فتلقّيتم منه هذه المقولات التي(14/576)
تقولونها؟ إن يكن أحد منكم فعل هذا، فليأت بحجة بين يدى دعواه تلك، وإلّا فهو الكاذب المفترى.. أما من يقول لكم هذا كلام الله أتلوه عليكم، وهذه رسالته أبلغكم إياها، ثم يقدم لكم مع قوله هذا، الدليل الناطق، والحجة الدامغة، فهو الصادق الأمين: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) .
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟» .
وهذا سؤال اتّهام كذلك، لهؤلاء المشركين:
إذا كان قد صحّ لديكم أن الملائكة بنات الله، وأنكم إنما تعبدون بنات الله تقربا إلى الله، ليكونوا شفعاء لكم عنده- فهل نسبتكم البنات إلى الله، مما يتفق مع منطقكم الذي تعيشون به، والذي تقيمون فيه البنات عندكم على ميزان شائل، تخفّ به كفتهم إزاء كفة البنين، بل إنه لا يكاد يقام لهم ميزان أصلا عند كثير منكم؟ أفلا كان يقضى عليكم منطقكم هذا- إذا كنتم تريدون لله توقيرا- أن تجعلوا الملائكة- وقد نسبتموهم إلى الله نسبة بنوة- ذكورا لا أناثا، وبنين، لا بنات؟ وفى هذا يقول سبحانه: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى.. لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» (62: النحل) .
قوله تعالى:
«أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» ؟
وتهمة أخرى يسألون جوابهم عنها:
ماذا يضيرهم من هذه الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها؟ وماذا(14/577)
يضارّون به من هذه الرحمة المرسلة إليهم؟ أيسألهم الرسول على ذلك أجرا يثقل به كاهلهم، ويجوز على ما فى أيديهم من مال أو متاع؟ إنه لا جواب..
فما سألهم الرسول شيئا من حطام الدنيا، ولا أقام نفسه سلطانا عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (86- 87 ص) ..
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» ؟.
أي أعندهم علم من الغيب، فهم يخرجون منه هذه المقولات التي يقولونها، ويجعلون منها دينا يردّون به دين الله الذي يدعوهم الرسول إليه؟
ولا جواب أيضا..
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» (77- 80: مريم) .
قوله تعالى:
«أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» ..
أي أيريدون بهذا الخلاف على النبي، والتولّى عنه، والتصدي لدعوته- أيريدون بهذا كيدا للنبى، وإساءة إليه؟ إنهم بهذا إنما يكيدون لأنفسهم، ويحرمونها هذا الخير الكثير الممدود إليهم، وإنهم بهذا لهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة جميعا..
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ؟ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ..(14/578)
وإنهم إذا انصرفوا عن دعوة هذا النبي، وعبدوا إلها غير الله الذي يدعوهم إلى عبادته- أهناك إله آخر غير الله يولّون وجوههم إليه؟ سبحان الله، وتعالى، وتنزه، عما يشركون به من آلهة..
قوله تعالى:
«وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ» ..
هو تهديد لهؤلاء المشركين، ببلاء ينزل عليهم من السماء، التي افتروا عليها، وكذّبوا بآيات الله المنزلة عليهم منها.. فإن السماء التي تتنزل بالهدى والرحمة، يمكن أن تتنزل كذلك بالرجوم والصواعق والمهلكات..
وإنه كما ضل هؤلاء المشركون عن آيات الله، فلم يتبينوا وجه الحق المبين فيها، وحسبوا ما فيها من خير وهدى، أنه شر وبلاء- كذلك اختلط عليهم الأمر فى هذا البلاء النازل عليهم من السماء، فحسبوه خيرا وظنوه رحمة هاطلة، وغيثا مدرارا.. وهكذا تتحول الحقائق عندهم إلى نقائضها..
فالخير يرونه شرا، والشر يحسبونه خيرا.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41:
المائدة) ..
والكشف: - كما يقول الراغب- جمع كسفة، وهى القطعة من السحاب أو القطن، ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة.
والمركوم: أي المتراكم، والركام ما يلقى بعضه على بعض..
قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ» ..(14/579)
وماذا يفعل بأهل الضلال غير أن يتركوا لضلالهم، ولما يؤدّى بهم إليه هذا الضلال من هلاك، مبير وبلاء عظيم، بعد أن جاءتهم النذر، وعرضت عليهم المثلاث، وقامت بين أيديهم الحجج؟ فليتركوا وما تمليه عليهم عقولهم الفاسدة، وأهوؤهم المهلكة..
واليوم الذي يصعقون فيه، هو يوم القيامة، حيث تأخذهم صواعقه، وتغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم..
قوله تعالى:
«يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» .
أي فى هذا اليوم الذي ينتظرهم بالصواعق والعذاب الأليم- فى هذا اليوم، لا يجدون من هذا الكيد الذي يكيدونه للنبى شيئا ينتفعون به، بل إنه سيكون عليهم حسرة ووبالا، حيث لا ناصر لهم ينصرهم من بأس الله، ويدفع عنهم العذاب المحيط بهم.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
هو وعيد لتلك الطّغمة الظالمة الطاغية من هؤلاء المشركين، والذين تولّوا كبر هذا الموقف، الآثم، الذي يقفه المشركون من النبي، ومن آيات الله، التي يتلوها عليهم- فهؤلاء الظالمون الطّاغون، لهم- فوق العذاب الراصد لهم فى الآخرة- عذاب معجّل فى هذه الدنيا، هو ما يلقاهم فى يوم بدر وغيره، من قتل، ومن خزى، ومن حسرة تتقطع(14/580)
لها أكبادهم، حين يرون دين الله وقد علت رايته، وعزّ سلطانه..
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن أكثر هؤلاء المشركين الظالمين الطاغين، لا يعلمون هذا من أمر دين الله، وأنه ذو سلطان غالب، أمّا قليل منهم، فقد كان يعلم هذه الحقيقة، ويتوقع هزيمة الشرك، وخزى المشركين، ولكنه كان يمسك بشركه، أنفة، وحميّة واستعلاء..
قوله تعالى:
«وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ» ..
بهذه الآية تختم السورة، داعية النبي إلى أن يصبر على عناد قومه، وما يسوقون من كيد له.. فهذا موقف أراده الله وقضى به، ليبتلى به ما فى الصدور، وليمحّص ما فى القلوب، وليجزى المؤمنين منه جزاء حسنا..
واللام فى قوله تعالى: «لِحُكْمِ رَبِّكَ» هى لام العاقبة، أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبين قومك، وإنه لحكم ينتصر فيه الحق على الباطل، وتعلو فيه كلمة المحقّين على المبطلين..
وقوله تعالى «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» تطمين لقلب النبي الكريم، وأنه ملحوظ بعين الله سبحانه وتعالى، محفوف بعنايته.. ترعاه عين الله وتحرسه.
وقوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» دعوة للنبى أن يذكر ربه، ويسبح بحمده على هذه الرعاية الربانية التي يفيضها الله(14/581)
سبحانه وتعالى عليه.. والمراد بقوله تعالى: «حِينَ تَقُومُ» أي حين تقوم مقامك بين الناس فى الحياة، وذلك من أول النهار- إلى آخره..
وبقوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أي ومن بعض الليل، فسبح بحمد ربك.. وبقوله: «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» أي مطلع الفجر، بعد أن يغلب ضوءه أضواء النجوم، فتولى النجوم أدبارها، منهزمة أمام هذا الضوء الذي يغزوها بجيشه الزاحف الذي لا يهزم..
هذا، ويدخل فى هذا التسبيح بحمد الله فى تلك الأوقات- الصلوات الخمس المفروضة.. فيدخل فى قوله تعالى: «حِينَ تَقُومُ» صلاة النهار، وهى الظهر والعصر، وفى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» - صلاة المغرب والعشاء وفى قوله تعالى: «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» صلاة الصبح..(14/582)
53- سورة النجم
نزولها: مكية باتفاق..
عدد آياتها: اثنتان وستون آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون كلمة..
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة الطور مواجهة صريحة بالاتهام للمشركين، بمفترياتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمقولاتهم الآثمة فيه، وبأنه شاعر يتربصون به ريب المنون، وأنهم لهذا لا يقبلون ما يدعوهم إليه من هدى، يطالعهم به فى آيات الله التي يتلوها عليهم، وأنهم لهذا أيضا، متمسكون بما معهم من أباطيل وضلالات يدينون بها، ويقيمون حياتهم الروحية عليها..
وقد ووجهوا بهذه الضلالات، وضبطوا متلبسين بها، وسئلوا عن المصدر الذي تلقوها منه- فلم يكن لهم هناك جواب إلا الحيرة والوجوم..
وجاءت سورة النجم تعقيبا على هذا الموقف الذي جمد فيه المشركون، وخرسوا أمام هذه التهم التي تلبسوا بها، وفى أعينهم نظرات زائغة..
يرمون بها هنا وهناك ليجدوا مخرجا من هذا المأزق الحرج الذي هم فيه..
وفى هذا التعقيب يعرض على المشركين الوجه الذي ينبغى أن يسلكوه، إن هم أرادوا الخروج من هذه الحيرة التي لبستهم..
ومن جهة أخرى، فإن سورة الطور، قد ختمت بقوله تعالى: «وَمِنَ(14/583)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ»
على حين بدئت سورة النجم بالقسم بواحد من هذه النجوم، التي أدبرت مع ضوء الصبح الوليد.. فكان هناك أكثر من مناسبة جمعت بين السورتين..
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 18) [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» ..(14/584)
الواو: للقسم..
والنجم: مقسم به من الله سبحانه وتعالى:
والواقع عليه القسم، هو قوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى..
الآيات» ..
وقد اختلف فى المراد بالنجم، فقيل هو ما ينزل من القرآن منجّما، وقيل هو الرسول، وقيل هو جنس النجم، الشامل لجميع نجوم السماء، وقيل هو الشعرى اليمانية..
واختلف كذلك فى معنى «هوى» فقيل بمعنى سقط، رجوما للشياطين، أو تناثر، وذلك يوم القيامة، وقيل «هوى» بمعنى غرب، أو بمعنى طلع ...
والذي نراه- والله أعلم- أن المراد بالنجم هو النجم القطبي، الذي يهتدى به السائرون ليلا فى البرّ، وفى البحر، وهو يأخذ دائما اتجاه الشمال.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16: النحل) .. فهذا النجم- والله أعلم- هو النجم الذي أقسم الله سبحانه وتعالى به..
والذي نراه- والله أعلم- فى قوله تعالى: «هَوى» أن معناه، أفل، واختفى، فى ضوء الصبح المشرق.. وهو المناسب لقوله تعالى فى آخر سورة «الطور» : «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ، وَإِدْبارَ النُّجُومِ» .
واختصاص هذا النجم من بين نجوم السماء، بالذكر، لأنه من أضوأ نجوم السماء، ومن أكثرها صلة بحياة الناس، وهداية لهم فى السير، فى ظلمات البر والبحر..(14/585)
وفى القسم بالنجم فى حال هوّيه، وأفوله، ووقوع هذا القسم على النبي وأنه ما ضلّ وما غوى، كما يرى ذلك المشركون الضالون- فى هذا إشارة إلى أمور:
أولها: أن ظهور النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان فى ظلمة ليل بهيم، أطبق على العالم كله، وأناخ بكلكله على الجزيرة العربية وأهلها، وأن ظهوره هذا، كان أشبه بالنجم القطبي، الذي يرى منه المدلجون فى الليل هاديا، إذا هم رفعوا رءوسهم إلى السماء، ومدوّا أبصارهم إليه..
وثانيها: أن هذا النجم السماوي البشرى، المثل فى النبي، والنور الذي معه- لم يهتد به، فى الدور المكىّ من الدعوة، وإلى وقت نزول هذه السورة- إلا أعداد قليلة من الناس، هم الذين رفعوا رءوسهم إليه، وطلبو الهدى منه.. أما الكثيرة الكثيرة من المشركين، فقد كانوا فى نوم عميق، تطرقهم فيه رؤى الأوهام، وأضغاث الأحلام!! وأن هذا النجم الهادي يوشك أن يغرب عن أفقهم، ويفوتهم الاهتداء به، والتعرف على الوجه الصحيح الذي يسلكونه على درب الحياة.
وثالثها: أن هذا النجم القطبي- وإن غاب عن الأعين- فإنه فى حقيقته قائم فى مقامه العالي، حيث هو.. هكذا يراه أهل العلم.. وكذلك الرسول صلوات الله وسلامه عليه- وإن غاب شخصه عن أعين الناس، فإنه قائم فى مقامه المكين، من قلوب المؤمنين أبدا الدهر.
ورابعها: أن النبي الكريم، وإن ظهر فى أول أمره نجما، لا تكتحل بضوئه إلا العيون التي تطلبه، فإن أمره بعد هذا سيعظم، ويتحول إلى صبح مشرق، يملأ العيون، وينعش النفوس، ويوقظ الأحياء.. ثم لا يلبث هذا النبي أن يطلع شمسا ينفذ شعاعها إلى الكائنات، فيلبس المؤمنون به، المتعرضون(14/586)
لضوئه، حللا من النور، والجلال، على حين تنجحر من ضوئه الهوام والحشرات، وتقتل تحت ضربات أشعته «الفيروسات» والجراثيم..
وخامسها: أن هؤلاء المشركين، الذين لم يهتدوا بضوء النبي «نجما» ثم لم ينتظموا فى ركبه «صبحا» ثم لم يستقبلوا ضوءه «شمسا» - هؤلاء المشركون لن يكون مصيرهم إلا كمصير هذه الجراثيم، تموت تحت ضربات الشمس.
أو كهذه الهوام والحشرات، لا يرى لها وجه ما دام هذا الضوء قائما..
وقد كان، فإن كثيرا من المشركين الذين عاصروا النبوة ماتوا ميتة الجراثيم، وكثير منهم انجحر بين أربعة جدران من بيته إلى أن مات حسرة وكمدا، دون أن يشعر به أحد! وقوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» - هو المقسم عليه من رب العزّة جلّ وعلا، وهو تبرئة لمقام النبىّ الكريم أن يكون بمظنة سوء، أو بموضع تهمة، فهو صلوات الله وسلامه عليه، كما شاء له ربه أن يكون، وكما عرف ذلك منه قومه معرفة عيان وابتلاء- هو الصادق الأمين، الذي لم تجرب عليه كذبة قط ولم يعرف عنه- ولو على سبيل الكذب والافتراء عليه- أنه خان أمانة، أو أخلف وعدا، أو نقض عهدا، ولهذا كان عند قومه يدعى الصادق الأمين..
والضلال: ضد الهدى، ويكون غالبا عن جهل..
والغىّ، ضد الرشاد، ويكون غالبا عن اتباع الهوى.. وفى مخاطبة قريش بقوله تعالى: «صاحِبُكُمْ» - إشارة إلى تلك الصحبة الطويلة التي صحب فيها النبىّ قومه قبل البعثة، وإلى ما عرفوا منه خلال تلك الصحبة من أمانة، وصدق، واستقامة، ونبل، وسداد رأى، ورجاحة عقل، حتى نزل من قلوبهم جميعا منزلة الصاحب من قلب صاحبه.. فكيف تتبدل حالهم معه، بعد أن جاوز الأربعين؟ وكيف ينكرون عليه ما جاءهم به دون أن ينظروا فيه بعقولهم،(14/587)
ويقفوا طويلا عنده، قبل المسارعة بهذا الاتهام من غير تدبر أو نظر؟ ..
وقد كان يمكن أن يكون لهذا الإنكار الذي استقبلوا به دعوة النبي- وجه من العذر، لو كان النبي طارئا عليهم، غير معروف لهم، أو كان موضع تهمة عندهم من قبل.. وأما وللنبى فيهم مقام كريم، ومعاشرة طويلة، قائمة على الإكبار والإجلال والتعظيم- فإن المبادأة بهذا الاتهام مما لا يستقيم على منطق أبدا، ولا يقوم له وجه من العذر بحال أبدا..
وقوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» - هو معطوف على المقسم عليه، وهو قوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» - أي وما ينطق بما نطق به، عن هوى يترضّى به شهوة من شهوات النفس، أو يتصيد به مطلبا من مطالب الحياة.
وقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» .. أي ما هذا الذي ينطق به صاحبكم هذا، إلا وحي يوحى إليه من ربه، وليس عن هوى متسلط عليه من أهواء النفس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (16: يونس) ..
وقوله تعالى: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى..»
الضمير فى «علمه» بعود إلى جبريل عليه السلام- أمين الوحى، وسفير السماء إليه، برسالة ربه، وبكلماته.. وأنه هو الذي أوحى إلى الرسول بهذا العلم الذي تنكرون على «محمد» ما يتلوه عليكم منه..
ومن صفات جبريل- عليه السلام- أنه «شديد القوى» أي قوىّ أمين(14/588)
حافظ لما يحمل من رسالات الله سبحانه وتعالى إلى رسله، كما يقول سبحانه:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (19- 21: التكوير) ..
ومن صفات جبريل كذلك أنه «ذو مرّة» أي جلد وصبر، وقدرة على حمل هذه الأمانة التي كلّف بحملها.. وإنها لأمانة ثقيلة أبت السماء والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.
وقوله تعالى: «فاستوى» - الفاء هنا للتفريع.. أي أن جبريل بهذه الصفات التي أقام الله سبحانه وتعالى خلقه عليها، قد «استوى» أي استوفى الصفات التي تؤهله لهذه الوظيفة، والتي تمكنه من القيام بها على الوجه الأكمل..
وقوله تعالى: «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» - هو معطوف على ما قبله، وهو صفة من صفات جبريل، عليه السلام، تشير إلى العالم العلوي، الذي يعيش فيه.. أي أنه ملك سماوى، وليس من هذا العالم الأرضى..
وهذا الذي ذهبنا إليه، فى تأويل هذه الآيات الثلاث، أولى- فى رأينا- مما ذهب إليه المفسرون من جعل قوله تعالى:
«وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» جملة حالية، من الفاعل فى قوله تعالى:
«فاستوى» بمعنى «فاستوى» أي جبريل حالة كونه «بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» أي أنه عرض نفسه وهو بالأفق الأعلى، فى صورته التي خلقه الله عليها، لا فى تلك الصور التي يمكن أن يتشكل فيها، حسب مقتضيات الأحوال، كأن يكون فى صورة بشرية، من تلك الصور التي كان يلقى بها النبي فى بعض الأحيان..
ويذهب المفسرون فى هذا إلى أن تلك الصورة الذاتية لجبريل، إنما كانت له عند ما جاء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى مفتتح الرسالة فى غار «ثور» الذي كان يتعبد فيه، قبل البعثة وأن جبريل- عليه السلام- لقيه(14/589)
يومئذ فى صورته الكاملة التي له، والتي ظهر فيها- كما يقول المفسرون- بستمائة جناح له، الأمر الذي كان داعية إلى هذا الفزع والاضطراب الذي ملأ كيان النبي يومئذ..!
وهذا الذي ذهب إليه المفسرون، على ما فيه من تكلف ظاهر فى التأويل- هو- من جهة أخرى- بعيد عن منطق الحكمة فى اتصال النبي بالسماء، حيث يطلع عليه منها فى أول لقاء معها، هذا الهول المفزع الذي لا يمكن أن يكون أبدا مدخلا حكيما إلى قيام صلة وثيقة بين السماء وبين النبي المتلقى لرسالة السماء منها..
فتعالت حكمة الله سبحانه وتعالى عن هذا، علوا كبيرا..
ولعل الأقرب والأوفق، فى هذا المقام، أن يجىء جبريل إلى النبي فى أول لقاء له معه، فى صورة بشرية، أو أقرب إلى البشرية.. فهكذا يقتضى المنهج الحكيم، فى التربية والتعليم، وذلك بالتدرج من السهل إلى الصعب. وهكذا جاءت ملائكة السماء إلى إبراهيم كما يقول سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» فقد جاءوا إليه فى صورة بشرية كاملة.. كما جاءوا إلى لوط فى تلك الصورة البشرية نفسها، إذ يقول عنهم مخاطبا قومه..
«إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ» (68: الحجر) ..
وهكذا جاء رسول السماء إلى «مريم» كما يقول: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
.. (17: مريم) وأحسب أن الذي حمل المفسرين على هذا التأويل المتكلّف، هو رأيهم فى فواصل الآيات القرآنية، وأنها قد نجىء لمراعاة النظم..
ولو أنهم، نظروا إلى الإعجاز القرآنى، الذي لا تحكمه ضرورة «القافية» التي قد تحكم الشعر- لو أنهم نظروا إلى هذا، لجعلوا قوله تعالى: «فاستوى» - هو فاصلة الآية، التي يقتضيها المعنى ويتم بها، ولكان الوقوف عندها(14/590)
مستوفيا المعنى المراد، ولما جعلوا الآية التي بعدها تتمة لها، وإنما هى كلام مستأنف، يخبر به عن المكان الذي يكون فيه جبريل، وهو الأفق الأعلى..
قوله تعالى:
«ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» ..
الحديث هنا عن جبريل- عليه السلام- وهو يحمل كلمات الله، إلى رسول الله.. إنه «دنا» أي قرب من النبي، «فتدلّى» أي قرب أكثر فأكثر، شيئا فشيئا، فى لطف، ورفق.. فهو إذ يأخذ طريقه إلى النبي، ينطلق انطلاقا بكل قوته، حتى إذا دنا من النبىّ، تخفّف من سرعته شيئا فشيئا، حتى يلتقى به، ويكون منه «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» .. فيصافحه فى رفق ولطف، شأن الطائر حين يهوى من الجو إلى الأرض فى سرعة خاطفة، فإذا دنا من الأرض خفف من سرعته شيئا فشيئا حتى يلامس سطحها..
وقاب القوس: المسافة ما بين مقبض القوس ووتره، وذلك حين يشدّ القوس لإطلاق السهام منه، فيكون أشبه بنصف دائرة..
وهذا- والله أعلم- هو السر فى تشبيه التقاء جبريل بالنبي، حيث يكون كل منهما أشبه بقوس مشدود مهيّا للرماية، يقف كل منهما فى مواجهة صاحبه، مشدودا إليه، حتى يتماسا عند نهاية القاب، الذي يبدأ من مركز الدائرة إلى محيطها.
ومن جهة أخرى.. فإن القوس، فى حال شدّة، يكون متوترا واقعا تحت قوة مؤثرة، تشده شداّ عنيفا.. وكذلك شأن كلّ من جبريل،(14/591)
والنبي فى حال التقائهما.. إنهما يتجاذبان جذبا قويا.. فجبريل يجذب نفسه إلى حال بشريّة، والنبي يجذب نفسه إلى جهة الملائكة.
وهكذا يظلان يتجاذبان، وقتا معا، حتى يتماسا، كما يتماس وترا القوسين المشدودين، المواجه كل منهما للآخر، وهنا يتم اللقاء والتجاوب بينهما..
والعطف بالحرف: «أو» فى قوله تعالى: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» - ليس للشكّ فى الحكم الواقع على ما بين القوسين من قرب وتلاحم، وإنما هو لتأكيد هذا القرب، وأنه بالنسبة لمن يرونه تختلف عليهم رؤيته، فيراه بعضهم قاب قوسين، ويراه بعضهم أدنى وأقرب من ذلك..
وفى قوله تعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى»
إشارة إلى ما يقع فى هذا اللقاء بين جبريل والنبي، وهو أن جبريل يوحى إلى النبىّ، ما أمره الله سبحانه وتعالى بوحيه إليه من آيات الله وكلماته..
وفى قوله تعالى: «عبده» بإضافة النبي الكريم- بصفة العبودية إلى ربه- فى هذا تكريم للنبى الكريم، وإضافة له إلى رب العالمين، الذي ربّاه، وأحسن إليه، وعلمه ما لم يكن يعلم..
وفى قوله تعالى: «ما أَوْحى»
بتجهيل هذا الذي أوحى إلى النبي- تفخيم لهذا الموحى به، وأنه مما يجلّ عن الوصف، ومما لا تحصره الأوصاف.. فقل فيه ما تشاء من أوصاف الكمال والجلال، فإنك لن تبالغ صفته..(14/592)
قوله تعالى:
«ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى» .
أي ما كذب «الفؤاد» أي القلب، فيما رأى وعاين، مما يتلقى من آيات الله.. وفى التعبير عن العلم الذي وقع فى قلب النبي من هذا الذي ألقاه جبريل إليه- فى التعبير عن هذا العلم، بالرؤية- إشارة إلى أنه علم «محقق» يراه القلب، فى جلاء ووضوح، أشبه بما ترى العين الباصرة من مبصرات.. وهذا التلقّى عن طريق «الفؤاد» أي القلب- هو ما يشير إليه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» (193- 195:
الشعراء) .
والذي نزل به الروح الأمين «جبريل» على النبي، هو كلمات الله، وأنها نزلت بلسان عربى مبين، ولم تنزل معانىّ مجردة، صاغها النبي صياغة باللغة العربية كما يتخرص بذلك المتخرصون، الذين يقولون إن القرآن قسمة مشتركة بين الوحى وبين النبي.. فالموحى به إلى النبي هو المعنى الذي يقع فى قلب النبي، وأما اللفظ الذي يتشكل فيه هذا المعنى، فهى من النبي.. وهذا ما يكذّبه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» فقوله تعالى: «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» متعلق بقوله تعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» - أي نزل به بلسان عربىّ مبين وقد عقدنا لذلك مبحثا خالصا فى هذا التفسير، تحت عنوان: كلمات الله وكيف تلقاها النبي «1» .
قوله تعالى:
«أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى» .
__________
(1) انظر التفسير القرآنى للقرآن.. عند تفسير قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» ص 156 من الكتاب العاشر(14/593)
المماراة، المجادلة، والبهت، والتكذيب.
والآية تحمل استفهاما إنكاريّا، ينكر على المشركين مماراتهم للنبى، وجدلهم له، فيما رأى من آيات ربه مما لم يروه.. إنه شاهد وهم غائبون، وهو مبصر، وهم لا يبصرون.. فكيف يجادل الغائب فيما يخبر به الشاهد؟ وكيف يكون للأعمى حجة يحاجّ بها ما يراه المبصر؟
[المعراج.. وما يقال فيه] قوله تعالى:
«وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» .
هو تعقيب على مماراة المشركين للنبى وتكذيبهم له، لما يتلوه عليهم، ويقول لهم عنه، إنه كلمات الله، وآياته، تلقاها وحيا من ربه، على لسان أمين الوحى، ورسول السماء، جبريل، عليه السلام.
وإنهم إذ يمارون فى أن تتدلىّ ملائكة السماء إلى الأرض، وأن تخالط إنسانا من الناس، وتلقى إليه بكلمات الله- إنهم إذ يمارون فى هذا ويستكثرونه، ألا فليسمعوا ما هو أغرب وأعجب!! إن هذا النبي الذي يستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء، وأن يتنزل عليه ملك من عند الله- هذا النبي هو الذي قد دعى إلى السماء، وهو الذي أصعد إلى الملأ الأعلى، فى موكب عظيم، تحفّ به الملائكة، ويحدو ركبه الأمين جبريل، وأنه مازال يصعد بركبه المبارك الميمون المهيب، حتى بلغ سدرة المنتهى، وهو غاية ما تنتهى إليه الطاقة البشرية، فى أعلى منازلها.
والسدرة، واحدة السدر، وهو شجر النبق، وهو من أشجار البادية، دائم الخضرة، كثير الفروع، ممتدّ الظلال.(14/594)
واختيار شجرة السدر، للدلالة على النهاية التي لا يتجاوزها مخلوق من العالم العلوي- لأن شجر السدر شجر صحراوىّ، ينبت على حافة الصحراء، بين البادية والحاضرة، فهو بهذا أمارة من أمارات البادية التي تكاد تماسّ الحياة الحضرية، وتقف على عتبتها، دون أن تتجاوزها إلى ما وراءها.. إنها أقوى، وأقدر نبت أصيل من نبات البادية، يستطيع أن يمتد فيصل إلى مشارف العالم الحضري.
أما النخل- فإنه وإن كان من نبت الصحراء، إلا أنه لا ظلّ له، يجتمع الناس تحته.، كما هو الشأن فى شجر السّدر.
وأما العنب والرمان، ونحوها، فإنها من نبات الحضارة أصلا، ثم استجلبت إلى البادية.
وعلى هذا، فإن شجرة السدر هنا تشير- والله أعلم- إلى نقطة التقاء بين عالمين عالم «البشر» الذي تتحرك فيه البشرية جميعها، والتي تستطيع بما يمدها الله سبحانه وتعالى من فضله أن تصعد فى هذا العالم حتى تبلغ سدرة المنتهى، ممثلة به فى خاتم النبيين، محمد، صلوات الله وسلامه عليه، وعالم الملائكة المقربين، الذين جعل الله لهم وراء سدرة المنتهى مجالا آخر. ينطلقون فيه، ومنهم جبريل عليه السلام.
والضمير فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ» يراد به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أي أن النبي رأى جبريل نزلة أخرى، وهو فى الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى.
وفى قوله تعالى: «نَزْلَةً أُخْرى» - إشارة إلى أن جبريل- عليه السلام- نزل نزلة أخرى فى العالم العلوي، غير تلك النزلة التي ينزلها إلى العالم الأرضى.
وإنه التقى برسول الله عند سدرة المنتهى، التي عندها جنة المأوى.. وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام نزل من العالم العلوي، مما فوق سدرة المنتهى، حتى(14/595)
بلغ سدرة المنتهى.. حيث كان بينه وبين النبي لقاء فى هذا العالم العلوىّ، الذي يفيض بجلال النور، وبهائه، مما لا تدرك العقول كنهه، ولا يقع فى الخيال تصوره.
وقوله تعالى: «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى» .
«إذ» ظرف يكشف عن الحال التي تم فيها لقاء النبي مع جبريل، عليهما السلام، عند سدرة المنتهى، فقد غشى هذه السدرة، ما غشّاها، ولبسها من الروعة والجلال ما لبسها، مما لا تدركه العقول، ولا تناله الأفهام.
وقوله تعالى «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» - المراد بالبصر هنا، بصر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن رؤيته للحقائق التي عرضت له فى هذا المقام العظيم، كانت رؤية محققة، موثّقة، لم يدخل عليها زبغ أو انحراف، عن القصد، أو طغيان، أي مجاوزة، عن الحق، فلم تخلط حقيقة بحقيقة، بل وقع كل شىء موقعه فى عين الرسول الكريم، وفى قلبه.
وقوله تعالى: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» .
الضمير فى «رأى» للرسول الكريم، وأنه قد رأى فى تصعيده فى الملأ الأعلى آيات كبرى من آيات ربه، مما لم يقع لبشر غيره.
ووصف الآيات بأنها كبرى، منظور فيه إلى تقدير المخلوقات.. أما آيات الله سبحانه وتعالى، فهى جميعها على وصف واحد، وأن أيّا منها هو الكمال كله، والجلال جميعه، ومثل هذا قوله تعالى لموسى- عليه السلام- «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» .
هذا ما نراه فى «المعراج» على ضوء آيات الله.. وفيها نرى أن معراج الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الملأ الأعلى، كان استكمالا لتلك الرحلة الروحية، التي أرادها الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم ليلة الإسراء، وأن النبي الكريم قطع المرحلة الأولى من الرحلة فى العالم الأرضى، بين المسجد الحرام،(14/596)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
والمسجد الأقصى، وأن هذه الرحلة كانت أشبه بمقدّمة لما هو مقدم عليه، صلوات الله وسلامه عليه، من العروج إلى العالم العلوي، حتى إذا أنست روحه، واطمأن قلبه، أخذ طريقه إلى الملأ الأعلى مصعّدا، حتى بلغ سدرة المنتهى! وهى غاية ما يمكن أن تحتمله البشرية فى الذروة العليا من مراتب كمالها. أما تلك الإضافات، وهذه الذيول، التي تتجاوز هذا المفهوم لآيات الله، والتي تحكى عن تلك الرحلة الروحية ما تحكى من غرائب وأعاجيب- فهى فى رأينا- مما لا يعوّل عليه.
وقد عرضنا لهذا الموضوع فى بحث خاص، عند تفسيرنا لقوله تعالى:
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» .
فلينظر هناك «1» .
الآيات: (19- 30) [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 30]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
__________
(1) انظر: التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الثامن ص 409.(14/597)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هى أنها تعقيب عليها، وسؤال بعد سؤال، للسخرية بالمشركين، والاستخفاف بعقولهم التي تتجاوب مع هذه الدّمى التي يعبدونها من دون الله..
فلقد كانت الآية السابقة على هذه الآيات، معرضا لما لرسول الله من مقام كريم عند ربه، وأنه إذ يتلقّى رحمات السّماء وآيات الله المنزّلة عليه، على يد ملك كريم مرسل من عند الله- فإن ذلك- على جلاله وعظمته- ليس هو كلّ ماله عند ربّه من فضل وإحسان، بل إن الله سبحانه قد دعاه إلى ملكوت السموات، وأنزله فى ضيافة كرمه وإحسانه، حيث يتناول بيده عطايا ربّه، من حيث يتناولها جبريل عليه السلام.. وإنه قد رأى بعينه ما كان يلقيه جبريل فى قلبه من تلك الآيات..
ثم عادت الآيات لتقول للمشركين، فى سخرية واستهزاء: هذا ما رأى محمد من آيات ربه الكبرى.. فماذا رأيتم أنتم أيها الضالون المكذبون؟
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟» أفليس هذا هو كلّ ما رأيتم؟
أفليس هذا هو مبلغكم من العلم؟ ثم ما هذا الذي رأيتموه؟ أهو شىء يقف(14/598)
عنده عاقل، ويشغل به قلبه وعقله؟ وماذا يجد العقل فى حجر من بين تلك الأحجار التي تسدّ الأفق من حولهم؟ وماذا يجد العقل فى شجرة من تلك الأشجار النابتة فى صدر الصحراء؟ والرؤية هنا رؤية بصرية، لا قلبية علمية، كما يرى ذلك أكثر المفسّرين، الذين يطلبون للفعل مفعولا ثانيا محذوفا، ويقدرونه هكذا:
أفرأيتم هذه المسميات بنات الله آلهة تعبدونها من دونه؟ وهذا تكلف يفسد المعنى..
فإن سؤالهم هنا عما يرونه واقعا تحت أبصارهم فى مواجهة ما رأى النبي ببصره من آيات ربّه الكبرى.. فهذه هى مواقع أبصارهم وما تراه، وهذا هو موقع بصر النبي وما رآه.. وشتان بين موقع وموقع، وبين ما يرى على تراب الأرض، وما يرى فى عالم الحقّ، ومطالع النور..!!
واللات: صخرة كانت لثقيف.. اتخذت منها صنما تعبده.
والعزّى: معبود من معبودات قريش.
ومناة: معبود من معبودات قريش أيضا..
وفى وصف «مناة» بالأخرى تشنيع عليها، وعلى ما عطفت عليه من أصنام قبلها.. إنها شرّ يضاف إلى شر، وبلاء يجتمع إلى بلاء، وسخف يلتقى مع سخف..
وليس قوله تعالى: «الأخرى» نعتا للعزّى، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، وأن هذا الوصف أخّر رعاية للفاصلة، على تقدير: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» . وذلك حسب تقدير المفسّرين، أن الأخرى إنما تجىء وصفا للثانية، لا الثالثة من هذه الدّمى المعبودات.(14/599)
وهذا تعليل مردود من وجوه:
فأولا: أن الفاصلة- كما قلنا- فى أكثر من مرة- لا ينظر إليها فى القرآن الكريم من وراء المعنى، فهى تبع للمعنى، وليس المعنى تبعا لها..
وثانيا: أن «الأخرى» جاءت هنا وصفا لمناة، بعد وصفها بأنها الثالثة..
فهى وصف متعيّن لها دون غيرها، وإحالته إلى غيرها تبديل لكلمات الله..
وثالثا: أن وصف مناة بالأخرى، بعد وصفها بأنها الثالثة، ليس مرادا به آخر المعبودات التي تقع تحت أبصار المشركين، بل هناك غيرها كثير.. وإنما المراد بهذا الوصف استثقال هذه المسميات، وقطع الحديث عما لم يذكر منها، وأن مناة هى آخر ما يذكر من هذه الشناعات، التي تتأذى بسماعها النفوس! إنها ثالثة الأثافىّ، أو ثالثة الهموم، وإن النفس لتضيق بهمّ واحد، فكيف بهمّ، وثان، وثالث؟
ولو كان همّا واحدا لاحتملته ولكنه همّ وثان وثالث! قوله تعالى:
«أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى!» هو استفهام إنكارى، ينكر على المشركين ضلالهم فى أسماء هذه المسميات بعد أن أنكر عليهم المسميات ذاتها.. فهى ذاتها مسميات باطلة، والأسماء التي ركبت عليها أسماء باطلة كذلك، إذا أطلقوا عليها أسماء مؤنثة-، وجعلوها من عالم الإناث.. وهى فى حقيقتها ليست ذكورا، ولا إناثا، لأنها من عالم الجماد، الذي يقبل من الأسماء ما كان على لفظ المذكر أو المؤنث..
فلماذا اختاروا لمعبوداتهم جميعها أسماء مؤنثة؟ ولم لم يجعلوها مذكرة؟ ولم لم يجعلوا بعضها مؤنثا وبعضها مذكرا؟ إن ذلك كلّه لا يغير من حقيقتها شيئا..(14/600)
فالبيت من الوبر، أو الشعر، يسمّى خباء، ويسمى خيمة.. وهو هو بيت من الوبر أو الشعر..! وهكذا كل جماد، قابل لأن يوضع له لفظ مذكر أو مؤنث، للدلالة عليه، وهو فى كل حال ليس مذكرا ولا مؤنثا! وفى هذا تسفيه لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم يتخذون من هذه الدّمى كائنات حية يلبسونها ثوب الإناث، ويناجونها مناجاة الأطفال للّعب التي يتخذونها من الخشب ونحوه، ثم يطلقون عليها أسماء ذوات حية، ينطقونها، ويتناجون معها، كما يتناجى الأطفال مع لعبهم من عرائس، وخيل ونحوها! ومن جهة أخرى، فإن هذه الدّمى التي يتخذها المشركون آلهة يعبدونها من دون الله، هى عندهم تماثيل لبعض الملائكة، الذين هم فى اعتقادهم بنات الله، وأنهم جميعا أناس ليس فيهم ذكور أبدا..
وقوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟» هو سؤال يكشف عن سفه هؤلاء المشركين وحمقهم، حتى فى مجال هذا العبث الذي هم فيه.. إذ كيف يسوّغ لهم هذا البعث أن يتخذوا من الجماد صورا للملائكة؟ ثم يجعلون الملائكة بنات ينسبون بنوتها إلى الله، ثم يعبدونها تقربا إليه بها؟ أما كان الأولى بهم- وهم فى مقام التقريب إلى الله- أن يجعلوا ما ينسبون له من ذرية- أن يكون من الذكور، الذين هم عندهم فى مقام الحب والإعزاز، لا من الإناث الذين يسوءهم أن يولد منهن مولودة لأحد منهم؟. «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» سفها، وضلالا..
وقوله تعالى: «تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» - هو تعقيب على قوله تعالى:
«أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى» .. وهو حكم واقع على فعلهم هذا فى نسبة البنات إلى الله، على حين يجعلون الذكور مطلبا لهم، ومبتغّى يبتغونه.. وهذا جور(14/601)
فى القسمة بينهم وبين الله، حتى فى حكم هذا المنطق الضالّ الذي يملى عليهم هذه التصورات الفاسدة.. أفلا يجعلون الله مساويا لهم، فيكون له من الذرية- حسب منطقهم- بنين وبنات، كما أن لهم بنين وبنات؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» (40: الإسراء) .
والقسمة الضيزى: هى القسمة الجائرة، التي تنقلب فيها موازين العدل رأسا على عقب.
وكلمة «ضيزى» فى غنّى عن تفسير مدلولها، فهى فى بنائها وتركيبها من هذه الحروف الثقيلة، المتنافرة التي تجمع بين الضاد والزاى- تحكى عن صورة من الخلط والتخبط والجمع بين المتضادات، والمتنافرات، مما لا يقع إلا من المجانين والصرعى..!
قوله تعالى:
«إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» .
أي هذه المعبودات التي تطلقون عليها هذه الأسماء، ليست إلا مجرد أسماء ليس وراءها شىء يمكن أن ينتفع به، وأن هذه الأسماء هى من ضلالات آبائكم، وقد ورثتموها عنهم، كما ورثتم جهلهم وسفههم.
قوله تعالى:
«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» .
أي ما يتبع هؤلاء المشركون إلا ما تفيض به ظنونهم الفاسدة، وما تمليه عليهم أهواء أنفسهم المريضة.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» تسفيه، وتنديد بهؤلاء المشركين(14/602)
الذين يتبعون الظنون الباطلة، والأهواء الفاسدة، ويتخبطون فى عمّى وضلال، فى الحال التي يقوم فيها بين أيديهم آيات بينات من ربهم، لو استقاموا عليها لاهتدوا ورشدوا.. إن الضالّ، له عذره إذا ضل، وليس بين يديه معلم من معالم الهدى أما أن يضل، وكل معالم الهدى بين يديه، فهو الملوم المذموم بكل منطق وبكل لسان!! قوله تعالى:
«أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» .
المراد بالاستفهام هنا النفي. أي أنه ليس للإنسان أن ينال كل ما تمنّيه به نفسه، ويدعوه إليه هواه.. وخاصة إذا كانت هذه الأمانى صادرة من عقول سقيمة، ونفوس مريضة، كتلك العقول، وهذه النفوس، التي يعيش بها هؤلاء المشركون.
فالمراد بالإنسان هنا، هو ذلك الإنسان الذي يقيم حياته على أوهام، وضلالات، ثم ينتظر الخير من وراء هذه الأوهام وتلك الضلالات.
وقوله تعالى: «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» - إشارة إلى أن الإنسان- أىّ إنسان- لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، فى الدنيا، أو الآخرة.. فالله سبحانه وتعالى يملك الأمر كله، لا شريك له.. وأن من أراد أن ينال الخير فى الدنيا والآخرة، فليطلب ذلك من الله سبحانه وتعالى، وليسع إلى مرضاته، والقرب منه، بما ينزل عليه من آياته، وما يقدّم إليه بين يدى رسله من هدى ونور..
فذلك وحده، هو السبيل إلى تحصيل الخير والفوز به.
وقدمت الآخرة على الأولى، لأنها هى الأولى، بابتغاء الخير فيها، والعمل لها، وعقد الآمال عليها، وتعليق الأمانىّ بها.(14/603)
قوله تعالى:
«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى» .
أي أنه إذا كان المشركون يتعلقون بالملائكة، ويعبدونهم من دون الله، ويرجون منهم الشفاعة لهم عند الله، فإن ذلك لا يغنيهم من الله من شىء..
إذ كان الملائكة أنفسهم هم تحت سلطان الله، لا ينالون شيئا إلا بما يأذن الله سبحانه وتعالى لهم به. إنهم ومن يعبدونهم سواء فى العجز عن التصرف فى شىء من ملك الله.. وإنه لضلال بعيد أن يطلب الخير ممن لا يملكه، ولا يطلب من مالك الملك ذى الجلال والإكرام.
«وكم» فى قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ» - خبرية، يراد بها الكثير..
والسؤال هنا، هو: إذا كان قد انتفى عن كثير من الملائكة أن يشفعوا إلا لمن أذن له الرحمن منهم فى الشفاعة، ورضى شفاعته فيمن شفع له، فهل هذا يعنى أن بعضا من الملائكة غير هذا الكثير- تغنى شفاعته من غير إذن من ربه؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن المراد بالخبر هنا، هو ردّ على معتقد المشركين، فى شفاعة هذه المعبودات التي خلعوا عليها أسماء، اخترعوها لها من أهوائهم، وجعلوها بهذا بنات الله، وأنها تشفع لهم عند الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) وكما يقول جل شأنه: «وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18 يونس) .. فأخبر سبحانه فى هذه الآية، بأن الملائكة الحقيقين فى السماء، لا هذه الدمى التي يمثلون(14/604)
بها الملائكة- هؤلاء الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن من الله.. فكيف يكون لهذه الدعوى- التي تلبس زورا صفة الملائكة- كيف يكون لها أن تشفع عند الله؟
ومن جهة أخرى، فإن هذا الاستثناء يعنى أن كثيرا من الملائكة لا يؤذن لهم بالشفاعة، وأما الملائكة الذين تقبل شفاعتهم، فهم الذين يأذن الله سبحانه وتعالى لهم بذلك، ويقبل منهم قولهم فيمن شفعوا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» (38: النبأ) .
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى» هو تشنيع على هؤلاء المشركين، الذين يطلقون على الملائكة أسماء مؤنثة، باعتبار أنهم أناث، وأنهم بنات الله!.
وفى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» - إشارة إلى أن آفة المشركين إنما هى فى إنكارهم للبعث، ولما بعد البعث من الحياة الآخرة، وهذا ما دعاهم إلى إنكار رسالة الرسول فيهم، والتي من محاملها الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان بالله.. فهؤلاء المشركون مستعدون لأن يؤمنوا بالله، ولكن على شريطة ألا يكون الإيمان بالله مستدعيا الإيمان باليوم الآخر.. والإيمان كلّ لا يتجزأ..
فمن آمن بالله، وكفر باليوم الآخر، وبرسل الله، فهو على غير الإيمان الصحيح المقبول..
قوله تعالى:
«وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» .
أي ما لهم بهذا القول الذي يقولونه فى الملائكة، من علم قائم على الحق، أو(14/605)
وارد من موارده.. وإنما هو عن ظنون وأوهام، وإن الظن إذا لم ينته بصاحبه إلى اليقين، هو ضلال مبين «لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» أي لا يقوم مقام الحق فى أي موقع من مواقعه، ولا يمسك الممسك به إلا بقبض من ريح!.
قوله تعالى:
«فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» .
هو استخفاف بهؤلاء المشركين المعاندين، وأنهم ليسوا أهلا لأن يرص عليهم، ويبالغ فى الطلب لخلاصهم.. فليتركوا ليد الهلاك والضياع..
فذلك هو جزاء الظالمين.. إنهم أعرضوا عن ذكر الله، وردّوا اليد المبسوطة لهم بالهدى، وأبوا أن يؤمنوا بالآخرة، وأن يعملوا لها، وجعلوا الحياة الدنيا هى كل حياتهم، فأغرقوا أنفسهم فيها، واستهلكوا وجودهم فى السعى لها..
قوله تعالى:
«ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» .
أي ذلك الذي يعيش فيه المشركون، من إعراض عن ذكر الله، وعن الخشية من لقائه يوم القيامة، واستفراغ وجودهم كله فى الحياة الدنيا- هو غاية علمهم الذي حصّلوه بعقولهم الفاسدة.. فهم إنما كان همّهم كله منصرفا إلى الحياة الدنيا، فوجهوا عقولهم إليها، وحصلوا من العلم ما يصلهم بهذه الحياة، ويمكن لهم فيها.. وهو علم تافه، يمسك بالقشور من حقائق الأشياء، ولا ينفذ إلى صميمها، ولبابها.. ولو أن علمهم بالحياة الدنيا، كان علما قائما على فهم صحيح، وإدراك سليم، لكان لهم من هذا العلم سبيل إلى الإيمان بالله، واليوم الآخر.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) ..(14/606)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» ..
هو تهديد للمشركين، الذين يحسبون أنهم لن يبعثوا، ولن يحاسبوا، وأنه ليس هناك معقب على ما تمليه عليهم أهواؤهم من ضلالات.. وكلّا، فإن الله يعلم ما فى السموات والأرض، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.. «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (111: هود) ..
الآيات: (31- 55) [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 55]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40)
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50)
وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)(14/607)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» ..
هو تأكيد لمعنى ما تضمنه قوله تعالى فى الآية السابقة،: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» أي أن علم الله سبحانه وتعالى علم محيط بكل شىء، وليس مقصورا على علم ما يقع من الناس، من ضلال أو هدى، بل إن له سبحانه ما فى السموات وما فى الأرض..
لا شريك له فيهما، وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فهو عالم علما محيطا بكل شىء: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) وقوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» - هو تعليل يكشف عن الحكمة فى علم الله سبحانه وتعالى بمن(14/608)
ضلّ عن سبيله، ومن اهتدى.. فليس هذا العلم لمجرد العلم، بل هو علم وراءه عمل، هو مجازاة كل عامل بما عمل، وبما كشف هذا العلم عما عمل.. وهو مثل قوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (4- 5: الفتح) .
وفى اختلاف النظم بين قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا» ، وقوله تعالى: «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» والذي كان من مقتضى ظاهر النظم أن يقال: ليجزى الذين أساءوا بالسوأى، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى- فى هذا إشارة إلى أن مجازاة الذين أساءوا بالسوأى، ليست حتما مقضيّا فى كل حال، بل إن رحمة الله سبحانه وتعالى قد تنال هؤلاء المسيئين، فيعفو الله سبحانه وتعالى عن سيئاتهم كلها أو بعضها، كما يقول سبحانه: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» (3: الشورى) .. وكما يقول جل شأنه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) ..
فالمسيئون فى معرض رحمة الله، إن شاء رحمهم وعفا عنهم، وإن شاء أخذهم بذنوبهم، أو ببعض ذنوبهم.
وأما فى مقام الإحسان، فالأمر مختلف.. فإن المحسنين هم فى مواجهة رحمة الله وفى التعرض لها، من باب أولى.. وهم لهذا مجزيون بإحسانهم، بل وبمضاعفة هذا الإحسان.. فذلك مما تقضى به رحمة الله، ويوجبه عدله..(14/609)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) . وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (26: يونس) ..
[الّلمم.. والمعفوّ منه]
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» ..
هو بدل من قوله تعالى: «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» .. وهذا هو أشبه بعطف البيان،. إذ أنه لا يستحق الذين أحسنوا هذا الوصف بالإحسان، إلا إذا كانوا ممن يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم، وإلا فهم من الذين أساءوا، وليس لهم مدخل إلى الذين أحسنوا، إذ أنه لا يجتمع الإحسان مع مقارفة الكبائر، وإتيان الفواحش..
وكبائر الإثم، أشنعها، وأفظعها، وعلى رأسها الكفر بالله، والشرك به..
والفواحش، هى المنكرات، وعلى رأسها الزنى، فهو فاحشة الفواحش..
واللمم: هو الإلمام بالفاحشة، والطواف حولها، دون الوقوع فيها..
فهذا الإلمام، وإن كان من قبيل الفاحشة، إلا أنه مما ترجى مغفرته من الله، الواسع المغفرة.. وذلك أن الذي ألمّ بالفاحشة، وحام حولها، ثم ردّه عن الوقوع فيها خوفه من الله، وخشيته له، وحياؤه منه- جدير(14/610)
بأن ينزع عن هذا اللمم، مادام هذا الشعور بالخوف من الله قائما فى قلبه! ..
وإنه لمن التأويل الفاسد والفجور الآثم، أن يقف المؤمن عند حدود الفاحشة، فلا يأتيها، ثم يستبيح لنفسه الحوم حولها، والإلمام بها، وغشيان حماها، متخذا من قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» مدخلا يدخل به إلى مباءة الفاحشة، دون تحرّج أو تأثم، بهذا التأويل الفاسد الآثم، الذي يتأول عليه بعض المتأولين.
وكلّا، فإن الّلمم بالفاحشة ذريعة إلى الفاحشة، وطريق ممهد إليها.. وأن من يحوم حول الحمى يوشك أن يواقعه، كما يقول الرسول الكريم.. وإن سدّ الذرائع أمر من أوامر الإسلام، وشريعة من شرائعه.. فقد حرمت الشريعة قليل الخمر، ولو قطرات، كما حرمت كثيره، لأن قليله يدعو إلى كثيره، المفضى إلى السكر الذي هو علة تحريم الخمر..
فكذلك اللمم من الفاحشة، كالنظرة الفاجرة، أو الخلوة بغير المحرم من النساء، أو اللمس، أو التقبيل.. فهذا وإن لم يكن الفاحشة التي هى الزنى، فإنه الطريق إلى الزنى، والمحرك للشهوة، والمطلق لها من عقالها، الأمر الذي إن حدث، غلب الإنسان على أمره، وأفلت الزمام من يده، فوقع فى المحذور الذي يتوقاه..
فاستثناء اللمم ليس مبيحا له فى الآية الكريمة، أو رافعا الإثم عنه، بل هو مأثم، إن لم يكن فى عظم مأثم الفاحشة نفسها، فهو بعض منها..
وهذا الاستثناء، إنما هو من باب الرحمة بالإنسان، والتخفيف عن ضعفه البشرىّ، فى حال- وليس فى مطلق الأحوال- يغلبه فيه ضعفه، فتندّ منه النظرة، أو تفلت منه الهفوة، ثم سرعان ما يدركه إيمانه ويهتف به وازع الخشية من ربّه، فيرجع إلى ربّه من قريب، فيجد ربّا غفورا، رحيما، يلقاه بالمغفرة(14/611)
ويلبسه لباس الإيمان الذي كاد يتعرّى منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها..»
(60- 62: المؤمنون) فهؤلاء هم الذين أحسنوا، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وهؤلاء هم الذين يقعون تحت حكم قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» .. فإن اللمم الذي يجترحونه، هو من جراحات معركة قد كانت حامية الوطيس، بين أهواء النفس، وبين وازع الإيمان بالله، والخشية له، والخوف منه.. وإن جراحات هذه المعركة، التي أصيب فيها المؤمن المجاهد لأهواء نفسه وشهواتها، لتجد لها عند الله، من مرهم الرحمة والمغفرة، ما يعفّى عليها، ويذهب بآثارها، ويكتب العافية والشفاء، للمصاب بها..
أما الذين يتخذون من قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» رخصة إلى تقحّم هذه المنكرات، واستساغة مطمعها الخبيث، واعتياد غشيان مواقعه، والتردّد على موارده- فإنه مهلكة لا نجاة منها، وجراحات لا شفاء لها، وإنه لهو الحرب السافرة لله، ولشريعة الله، إنه لهو العدوان المتعمد على حدود الله..
«وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (1: الطلاق) .
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. ليس بالذي يغرى بالجرأة على الله، وبمجاوزة الإلمام بالفاحشة إلى مقارفتها والوقوع فيها، وإنما هو عند الذين فى قلوبهم إيمان بالله، وحياء منه، وخشية له- داعية إلى الإقبال على الله، وإلى السعى حثيثا إلى ساحة فضله، وإحسانه، ليلقى المؤمن ربه بقلب سليم وكيان نظيف يليق بهذه الساحة الكريمة التي يحلّ بها..
وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي(14/612)
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. أي إنه- لعلم الله بكم أيّها الناس، وبما فيكم من ضعف وعجز عن مغالبة بعض أهوائكم، فإنه- سبحانه- قد أوسع لكم فى رحمته، وتجاوز عن الصغائر واللمم من ذنوبكم، فإنكم مهما اجتهدتم فى تحرّى الإحسان، وفى الاحتفاظ بفطرتكم على نقائها وصفائها فلن تحققوا هذا، وإن حققتم الكثير منه، ولن تبلغوا الغاية وإن قاربتموها.. فالذين يدخلون منكم مدخل الإحسان ويحسبون فى المحسنين، لم يكن ذلك لهم وإنما كان بإحسان الله سبحانه وتعالى إليهم، وتجاوزه عن الكثير من ذنوبهم..
وقوله تعالى: «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» .. إشارة إلى مقتضى هذه المغفرة الواسعة التي شمل بها بنى الإنسان إذ هم من نبات هذه الأرض، ومن معطيات ترابها، وليسوا من عالم النور.. فهم- والحال كذلك- لن يتخلصوا أبدا من ظلام المادة، ولن يتحوّلوا إلى عالم الرّوح، وهم فى هذه الأجساد المخلّقة من الأرض! وإنه لولا سعة مغفرة الله، لما كان لإنسان أن يكون من المحسنين، الذين يرتفع بهم إحسانهم إلى عالم الحقّ، ولما كانوا من أهله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين..
وقوله تعالى: «وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» .. معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» .. فهذه حال أخرى من أحوال الإنسان، تكشف عن ضعفه، وأنه فى يد العجز وأن يد الله سبحانه وتعالى، هى التي أخرجته من هذا الضعف إلى القوة، كما أن مغفرته الواسعة، هى التي أخرجته من عالم التراب، وألحقته بعالم الحقّ والنور..
فالظرفان: (إذ، وإذ) فى قوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ(14/613)
الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ»
ليسا قيدا لعلم الله بالناس فى حالتى نشأتهم من الأرض، ووجودهم فى بطون أمهاتهم، وإنما هما ظرفان يشيران إلى هذين الوقتين اللذين يكون الإنسان فيهما، فى حال أشبه بالعدم، إذا هو نظر إلى نفسه فيهما، وقد صار كائنا عاقلا رشيدا، يخاطب من الله، ويتهيأ للدخول فى عالم الحق والنور..
وقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» النهى عن تزكية النفس هنا، ليس مرادا به الكفّ عن طلب ما يزكى النفس، ويطهرها، فالعمل على تزكية النفس، وتطهيرها مما يخالطها من ذنوب وآثام، هو أمر مطلوب دائما من كل إنسان يطلب الفلاح والنجاة، كما يقول سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (14، 15: الأعلى) وكما يقول جل شأنه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (7- 10 الشمس) فالمراد بالنهى عن التزكية فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» - هو النهى عن الاطمئنان إلى النفس، وعدّها مزكّاة مطهرة، لا تحتاج إلى تزكية وتطهير..
فإن النفس التي خالصت تراب الأرض، ولبست هذا الجسد الترابي، لن تكون أبدا على حال كاملة من النقاء والطهر، بل هى دائما فى حاجة إلى زكاة وتطهير.. فلا تحسبوا أنفسكم مزكاة مطهرة.. بل هى دائما فى حاجة إلى تزكية وتطهير..
فالنهى عن تزكية النفس هنا، هو نهى عن إخلاء النفس من مشاعر الاتهام لها بالهوى، والنظر إليها نظرة لا ترفعها إلى درجة الكمال، وهذا من خداع النفس، الذي يزين المرء سوء عمله، ويريه من ذاته، أنه أوفى على غاية الإحسان..(14/614)
والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» ..
(8: فاطر) ..
وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» أي أن الله سبحانه وتعالى، هو أعلم بمن تزكى وتطهر منكم، أما أنتم فلا تعلمون ما بلغت نفوسكم من تزكية وتطهير..
فقد يرى المرء منكم نفسه فى حال معجبة له من الطهر، والزكاة، وهو ملطخ بالآثام، غارق فى المنكرات، وقد يخيل لأحدكم أن أعماله مبرورة مقبولة، وهى مردودة عليه.. فالذى يعلم حقيقة الإنسان، وما هو فيه من خير وشر، وما هو عليه من هدى وضلال- هو الله سبحانه وتعالى، كما يقول جل شأنه:
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» (220: البقرة) وإذن، فإن المطلوب من الإنسان أن يكون دائما متهما لنفسه، طالبا السعى إلى غسلها من الأدران، متعهدا لها بالنظافة فى كل وقت، كما يتعهد جسده بالغسل والنظافة.
وفى التعبير عن التزكية والتطهير بالتقوى فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» بدلا من أن يقال هو أعلم بمن تزكى، الذي يقتضيه فى الظاهر سياق النظم- فى هذا إشارة إلى أن «التقوى» هى وسيلة التزكية والتطهر وأن من أراد أن يطهر نفسه ويزكيها، فلا سبيل له إلا بالتقوى.. والتقوى- كما يقول بعض العارفين: «هى أن يراك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك» .
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى» .
الاستفهام هنا تعجبى إنكارى، من هذا الإنسان الضال، الذي أعجب بنفسه، فحمله هذا الإعجاب على أن يتمنّى هذه الأمانى الباطلة، ويعدها تلك الموعود الخادعة، ويحسب بذلك أنه أربح الناس صفقة، وأهداهم سبيلا..(14/615)
فالمناسبة ظاهرة بين هذه الآية والآيات التي قبلها، والتي كان من دعوتها، ألّا يحسن الإنسان الظن بنفسه، وألا يزكيها، ويعللها بتلك الأوهام الخادعة..
فجاءت هذه الآية عارضة لضحية من ضحايا الخداع النفسي، الذي يورد صاحبه موارد الضلال والهلاك..
وقوله تعالى: «تولّى» أي أعرض عن ذكرنا، وكذّب برسولنا.
وقوله تعالى: «وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى» .. الواو هنا واو الحال، والجملة حال من فاعل «تولى» على تقدير الحرف «قد» بعدها، أي تولى وقد أعطى قليلا وأكدى.
وإعطاء القليل، هو ما أعطاه من نفسه من ميل قليل إلى الاستجابة للرسول والإيمان به.. ثم لم يلبث أن غلبته نفسه الأمارة بالسوء، واستبدّ به طبعه النكد فنكص على عقبه، وأبى على هذه الشرارات المضيئة أن تنطلق من نفسه، فتضىء له طريقه إلى الله.. فأمسك بها، وأطفأ جذوتها.
وقوله تعالى: «وأكدى» أي شحّ وبخل، وصار أشبه بالكدية، وهى الأرض الصلبة، التي لا تنبت نباتا، ولا تفجر ماء.
وقوله تعالى: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى» استفهام إنكارى لهذا الاتجاه الذي أخذه هذا الضال، بعد أن أقام وجهه قليلا على مطلع الهدى والنور ثم عدل عنه..
فعلى أي أساس أقام وجهه على هذا الطريق الضال؟ وبأية حجة أو برهان قدر لنفسه هذا الخير الذي يمنيها به على هذا الطريق؟ أطّلع الغيب، فرأى عاقبة أمره، وما ينتظره على هذا الطريق؟ أم أنه يضرب على غير هدى، لا يصحبه على طريقه هذا إلا السراب الخادع الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الحسرة والندم ملء يديه؟ .. ومثل هذا قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ(14/616)
الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً»
(77، 78: مريم) .
وقد اختلف فى شخص هذا الشقي الذي تحدثت عنه هذه الآيات، بما تمنيه به نفسه من كواذب الأمانى وأباطيلها.
والرأى- عندنا- أن هذا الحديث لم يقصد به واحد بعينه من هؤلاء المخدوعين بأنفسهم، والذين جذبتهم أنوار الإسلام إليه، ثم لم يلبثوا أن ارتدوا على أدبارهم خاسرين.. فكثير من مشركى مكة كان لهم مثل هذا الموقف المتردّد بين الإقبال على الإسلام، والإدبار عنه، ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى تحددت مواقفهم، فمضى بعضهم فى طريقه إلى الإسلام، ونكص بعضهم على عقبه، نافرا، مستكبرا.
قوله تعالى:
«أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» .
أي: ألم يعلم هذا المتأمّى على الهدى، ما فى صحف موسى، وما فى صحف إبراهيم؟
والمراد بالاستفهام هنا طلب هذا العلم الغائب عنه، وأنه إذا كان هذا الضال لم يعلم بما فى صحف موسى وإبراهيم، فليطلب هذا العلم، مما سنبينه له فى الآيات التالية.
ووصف إبراهيم عليه السلام، بأنه وفيّ، إشارة إلى ما كان منه من الوفاء بالرؤيا التي رأى فيها أنه يذبح ولده، فعرضه للذبح، وهمّ بذبحه، كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا! إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (103- 105: الصافات) .. فهذا من إبراهيم هو غاية الوفاء، بما لله سبحانه عليه من طاعة وولاء.(14/617)
ولم يقدّم موسى على إبراهيم هنا، رعاية للفاصلة، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، ولكن كان ذلك- والله أعلم- لأن موسى أقرب عهدا بالمخاطبين بهذه الآيات من إبراهيم.. وذلك فى مقام البحث عن صحف هذين النبيين الكريمين، وأخذ ما فيهما من أحكام.. ففى هذا المقام يمتدّ النظر إلى أقرب الصحف، وهى صحف موسى، ثم يتجاوزها إلى صحف إبراهيم.
أما فى المقام الذي يراد به الترتيب الزمنى لهذه الصحف، فإن القرآن الكريم يضع هذا الترتيب موضع الاعتبار، فيقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18، 19: الأعلى) . فالقرآن هنا يشير إلى الصحف الأولى، التي حملت رسالات السماء.. فإذا ذكر من هذه الصحف صحف إبراهيم وموسى، كانت صحف إبراهيم مقدمة فى الذكر على صحف موسى.. أما فى مقام الاتصال بها، والإفادة منها، فإن هذا يقضى بأن يدلّ أولا على ما كان العهد به أقرب.. ثم الذي هو أقدم منه عهدا.
وهكذا نرى كلمات الله، ناطقة بالحق، واضعة الأمور مواضعها، فى أدق وضع وأحكمه.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) .
قوله تعالى:
«أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى» .(14/618)
هذه الآيات، هى بيان لما فى صحف موسى، وإبراهيم، مما جهله هذا الذي تولّى وأعطى قليلا وأكدى..
ففى هذه الصحف، هذه الأحكام التي يدين الله بها عباده، وهى: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل كل امرئ بما كسب رهين.. وأنه «لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» فلا يضاف إليه شىء من فعل غيره، ولا يضاف من سعيه شىء إلى أحد..
«وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» أي ينظر فيه ويحاسب عليه «ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» دون أن ينقص من سعيه شىء..
ومما فى هذه الصحف «أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» أي منه تصدر الأمور، وإليه منتهاها، ومرجعها، كما يقول سبحانه: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
(8: العلق) أي المعاد الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء.
ومما فى هذه الصحف أيضا، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يردّ كل ما يساق إلى الناس مما يسرهم أو يسوءهم، فهو سبحانه الذي أضحك من أضحك، وأبكى من أبكى، وهو سبحانه الذي أمات من أمات، وأحيا من أحيا.. وأنه سبحانه هو الذي خلق الزوجين- الذكر والأنثى- من نطفة، لا يدرى أحد ماذا تعطى من ذكور أو إناث.. فهى لا تعدو أن تكون ماء على طبيعة واحدة، ولكن بعضه يعطى ذكورا، وبعضه يخرج إناثا.. حسب تدبير الله سبحانه وتقديره..
وفى قوله تعالى: «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى» .. إشارة إلى مبدأ الحياة فى الكائنات الحية، وأنها تبدأ فى هذه الجرثومة السابحة فى هذا المنىّ.. والمنىّ قبل أن يمنى ويخرج من الرجل إلى المرأة، يكون فى حالة لم تنضج فيها جرثومة الكائن الحىّ، الذي تغرس بذرته فى الأنثى.. فإذا خرج المنىّ من الرجل فى(14/619)
حالة اتصاله بالمرأة، كان هذا المنىّ قد نضج واستوى، وحمل فى كيانه جرثومة الحياة..
ومما فى هذه الصحف.. أن الله سبحانه وتعالى، سيبعث الموتى، ويخرجهم من الأرض مرة أخرى، كما كانوا فيها قبل أن يولدوا الولادة الأولى..
ومما فى الصحف أيضا، أن الله سبحانه، هو الذي أعطى من أعطى، وحرم من حرم.. فكان الغنىّ وكان الفقير «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى» ..
فالإغناء يكون عن عطاء، والإقناء يكون عن منع..
والإقناء، ليس من القنية، كما يقول المفسرون، الذين جعلوا الإقناء مرادفا للإغناء.. أي أنه سبحانه أعطى ما يغنى الأغنياء، ويمكنهم من اقتناء الضياع، والقصور، والمتاع.. أي أغنى، وأعطى ما فوق الغنى.
وهذا- والله أعلم- لا يتفق مع نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات، مقابلة بين الشيء وضده: الضحك والبكاء، والموت والحياة، والذكر والأنثى..
إنه لخروج على هذا النسق أن يكون الغنى، مقابلا للاقتناء الذي هو بمعنى الغنى أيضا! وذلك من غير داعية تدعو للخروج على هذا النسق..
فقوله تعالى: «أقنى» .. هو- والله أعلم- بمعنى منع، وحرم.. وهو مأخوذ من قنى المرء الشيء، إذا صانه، وضن به كأفنى واقتنى، ومنه قول الشاعر:
فاقنى حياءك لا أبالك إننى فى النائبات النازلات لفارس أي صونى حياءك، وضنى به، ولا تقفى موقفا يكشف هذا الحياء ويعريه..
فالإقناء من الله سبحانه وتعالى بمعنى المنع، أي أنه سبحانه أغنى أناسا، ومنع المال عن أناس، ولم يغنهم.(14/620)
ويبقى بعد هذا سؤال:
كيف يكون قوله تعالى: «أقنى» بمعنى صان وحفظ، ثم يكون الحفظ والصون فى مقابل الغنى، أي ضده، مع أن الحفظ والصون يوازن الغنى قدرا، ويرجحه؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن قوله تعالى: «أقنى» بمعنى صان وحفظ، يدلّ بظاهره على الفقر، الذي هو ضد الغنى، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حين أغنى كثيرا من أهل الضلال والكفر، قد أخلاهم لأنفسهم، فأطغاهم هذا المال، وزادهم ضلالا وكفرا، على حين «أقنى» سبحانه أولياءه والصالحين من عباده، وصانهم من فننة المال وطغيانه، فلم يسلّط عليهم الدنيا، ولم يبلهم بحبها.. ثم هم مع ذلك أغنياء بقلوبهم المأنوسة بنور الإيمان بالله، والطمع فى رحمته..
وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى» ..
أي ومما فى صحف موسى وإبراهيم، الإخبار عنه جل وعلا، بأنه رب الشعرى وهى نجم فى السماء، يسمى الشعرى العبور، يطلع من جهة الجنوب..
وكانت بعض قبائل العرب تعبد هذا النجم باسم الشعرى..
وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى» .. ومما فى أخبار هذه الصحف أيضا، أن الله سبحانه أهلك عادا الأولى، ثم أهلك بعدها ثمود..
فلم يبق منهم باقية..
ووصفت عاد بالأولى، لأنها متقدمة زمنا على الأمم التي حفظ التاريخ لها ذكرا.. فهى أول أمة بعد قوم نوح..
وقوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى» ..(14/621)
معطوف على قوله تعالى: «أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ..» أي وأهلك قوم نوح الذين كانوا قبل قوم عاد.. فليس هذا الهلاك الواقع بتلك الأمم المتتابعة إلا لظلمها، وطغيانها، فهى جميعها ظالمة طاغية، وإن كان بعضها أكثر من بعض ظلما وطغيانا..
قوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى» .. معطوف على قوله تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى» أي وأهوى المؤتفكة..
والمؤتفكة، هى قرية قوم لوط، وقد ائتفكت بأهلها أي انقلبت رأسا على عقب، ومنه الإفك، لأنه قلب للحق..
قوله تعالى: «فَغَشَّاها ما غَشَّى» .. أي ألبسها من ثياب العذاب والنكال..
ما ألبس.. وفى تجهيل «ما غشى» .. إشارة إلى أن هذا البلاء لا يحيط أحد بوصفه، إذ كان على غير ما يعرف الناس، أو يتخيلون، من صور التدمير والهلاك..
قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى» - هذا سؤال موجه إلى هذا الإنسان الذي يمثل كل إنسان والذي أوقفته الآيات السابقة موقف المحاكمة فى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى.. الآيات» وقد عرضت عليه فى هذه الآيات صور من قدرة الله، وتدبيره فى خلقه، وأن ما تحدث به آيات القرآن الكريم من عرض لقدرة الله، ليس بدعا من القول، وإنما هو مما تحدثت به آيات الله كذلك فى صحف إبراهيم وموسى.. فالله سبحانه، واحد، لا شريك له، قديم لا أول له.. وأن الناس جميعا فى كل زمان ومكان، هم عبيده، وفى قبضة سلطانه..
والسؤال فى الآية الكريمة تقريرى.. أي هذه هى نعم الله، وتلك آلاؤه، فبأيها يكذب المكذب، ويمارى الممارى؟ وهل يستطيع مفتر أن يجرؤ(14/622)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
على أن يقول، أنا أضحك وأبكى، وأحيى وأميت، وأغنى وأقنى..؟
ولقد قالها من قبل ذلك الذي حاجّ إبراهيم فى ربه: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» .. ولكنها قولة ضالة، سرعان ماماتت على شفة قائلها، حين قال له إبراهيم: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ.. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» .
والآلاء: النعم..
وتتمارى: من المراء، وهو المجادلة بغير حق..
وفى عدّ البكاء، والموت، والفقر، والمهلكات التي نزلت بالظالمين- فى عد هذه من الآلاء والنعم، إشارة إلى أنها من عند الله، وما كان من عند الله، فهو نعمة، وإن بدا فى ظاهره، أو فى المواقع التي وقع بها أنه نقمة..
الآيات: (56- 62) [سورة النجم (53) : الآيات 56 الى 62]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60)
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
التفسير:
قوله تعالى:
«هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى» ..(14/623)
الإشارة إلى ما أخذ الله سبحانه وتعالى به أهل الشرك والضلال من الأمم السابقة- من بلاء ونكال.. وأن فى هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم، نذيرا يطلع عليهم من الأزمنة الغابرة، ليريهم ما حلّ بالضالين المكذبين برسل الله السابقين..
قوله تعالى:
«أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» ..
أزفت: أي قربت، وحان حينها، وأظلّ زمانها..
والآزفة: القريبة، وهى يوم القيامة، وسميت آزفة لأنها قريبة، وإن ظن الناس أنها بعيدة، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» ..
وكما يقول سبحانه فى أول سورة القمر، التي تجىء بعد هذه السورة: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» ..
ويقول سبحانه فى آية أخرى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.»
ومعنى أزفت الآزفة، أي قربت القريبة، فهى قريبة بذاتها، ومع هذا فقد قربت أكثر وأكثر..
وقوله تعالى: «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» - أي ليس لها من يكشفها، ويجلّيها- أي يظهرها- لوقتها، إلا الله سبحانه وتعالى..
والتاء فى قوله تعالى: «كاشفة» للمبالغة، مثل راوية، ونابغة.. أي ليس الساعة عند أهل العلم والكشف عن الخفايا ضابط لها، مقدر لوقتها، مظهر لوجودها، ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي عنده علم الساعة، وهو سبحانه الذي يجلّيها لوقتها..(14/624)
قوله تعالى:
«أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ» ..
هذا الحديث- إشارة إلى قوله تعالى مخبرا عن الساعة: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» .. فالمشركون إذا سمعوا هذا الحديث عن قرب يوم الحساب والجزاء، عجبوا لهذا، واستنكروه، وجعلوه حديث سخرية واستهزاء بينهم..
وفى قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ» إنكار على هؤلاء المكذبين بالبعث والحساب، أن يتلقوا الحديث عن هذا اليوم، والنذر التي تنذرهم به، وتحذرهم لقاءه- أن يتلقوا هذا غير مكترثين به، ولا ملتفتين إليه، ولو عرفوا ما يلقى الناس فى هذا اليوم من أهوال، وما أعدّ للظالمين والضالين من عذاب- لو عرفوا هذا، لكثر البكاء، وقل الضحك، بل لما كان إلا البكاء المتصل، والوجوم الدائم.. خوفا من لقاء هذا اليوم العظيم! ..
وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ سامِدُونَ» أي وأنتم غافلون فى صلف وكبر..
والسامد. هو البعير الذي يرفع رأسه، كأنه يبحث عن شىء فى السماء، ولا شىء! ..
وقوله تعالى: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» - هو تعقيب على الاستفهام الإنكارى فى قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ..» أي إنكم أيها المكذبون بهذا الحديث، المستهزءون الساخرون منه، توردون أنفسكم موارد الهلاك، وإنكم إذا أردتم النجاة والخلاص، «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» أي فاخضعوا لجلال الله، واعبدوه، فهذا ما ينبغى أن يكون موقف المخلوق من خالقه، ولاء، وطاعة، وحمد، وتسبيح، وعبادة..(14/625)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
54- سورة القمر
نزولها: مكية باتفاق عدد آياتها: خمس وخمسون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
فى ختام سورة «ق» جاء قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» - منذرا بقرب يوم القيامة، ثم فى بدء سورة القمر قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» - مخبرا عن اقتراب الساعة، منبئا عن الأحداث التي تقع فى هذا اليوم العظيم..
وبهذا تلاقى ختام «ق» وبدء «القمر» على موضوع واحد، هو وقوع يوم القيامة، واقتراب هذا الوقوع، وأن ختام سورة «ق» يقرر هذه الحقيقة، وبدء سورة «القمر» يؤكدها، ويطلع بالإرهاصات التي تقوم بين يديها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 8) [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)(14/626)
التفسير:
قوله تعالى:
«اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» .
هذا خبر، عام، مرسل من غير توكيد، إشارة إلى أنه حقيقة مقررة، لا تحتمل مكابرة، ولا تقبل جدلا..
وقوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» هو مثل قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» وقوله سبحانه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» (1: الأنبياء) .
أما قوله تعالى: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» - فهو أمارة من أمارات هذا اليوم، يوم القيامة.. الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات.
وفى عطف انشقاق القمر على اقتراب الساعة- إشارة إلى أن هذا الاقتراب قد أصبح لقربه كأنه واقع فعلا، وأن انشقاق القمر هو أول بوادر الوقوع، وكأن الواو هنا، واو المعية أو المصاحبة.. ومعنى انشقاق القمر ظهوره فى ذلك اليوم على حقيقته فى أعين الناس.. فالناس يرونه فى هذه الدنيا صفحة بيضاء بلورية، أشبه بالمرآة الصقيلة.. ولكنهم يوم القيامة يرونه جرما معتما، شبيها بالأرض، تختلف طبيعة سطحه بين سهول، وأودية، وأغوار، ونجود، وجبال..
هكذا القمر فى حقيقته.. كما يقرر ذلك العلم، وكما أثبتته التجربة العملية، حين صعد الإنسان إلى القمر فى هذا العام- عام ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة- ومشى عليه كما يمشى على الأرض!! فلم يره إلا جرما معتما كالأرض تماما، طبيعة، وشكلا.(14/627)
ويمكن أن يقوم هذا الحدث، الذي مكن للإنسان أن يرى رأى العين انشقاق القمر- يمكن أن يقوم هذا شاهدا على أن يوم القيامة قد أظل، وأن أشراط الساعة قد جاءت، وأن الناس قد بدءوا يرون طلائع ما سيرونه يوم القيامة من حقائق الأشياء بعد أن ينكشف الغطاء عن العيون!!
[النبي.. وانشقاق القمر]
ولا بد من وقفة هنا عند قوله تعالى: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» . فلقد كاد يجمع المفسرون على أن انشقاق القمر كان فى عهد الرسول- صلوات الله، وسلامه عليه- وأنه كان آية معجزة، وقعت على يد النبي، وهو فى مكة قبل الهجرة.
يقول القاضي عياض فى تفسير هذه الآية فى كتابه: «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» : «أخبر الله تعالى بوقوع انشقاق القمر بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته- أي ما فى انشقاقه من آيات- وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه» .
وروى البخاري عن ابن مسعود- رضى الله عنه، قال: «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» .
وروى مسلم عن أنس، قال: «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما» .
وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود- من رواية مسروق عنه- قال:
«انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر(14/628)
ابن أبى كبشة «1» ، ثم قالوا: انظروا ما يأتيكم به السفّار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار، فقالوا ذلك» .
وروى ابن جرير عن ابن عباس، فى قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» قال: «قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه» ويعلق القاضى «عياض» على هذه الأحاديث المروية فى انشقاق القمر، فيقول:
«وأكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة، والآية مصرحة، ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول بأن لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض، إذ هو شىء ظاهر لجميعهم» .
ويدفع القاضي «عياض» هذا الاعتراض بقوله: «لم ينقل إلينا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ولو نقل إلينا- أي عدم انشقاقه- عمن لا يجوز تمالؤهم على الكذب لكثرتهم- لما كانت علينا به حجة، إذا ليس القمر فى حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال، ولهذا نجد الكسوفات فى بعض البلاد دون بعض، وفى بعضها جزئية، وفى بعضها كلية.. ذلك تقدير العزيز العليم.
هذا هو مجمل ما عند المفسرين فى آية القمر، قد لخصه القاضي عياض، وأيّده وقال مع القائلين، إن القمر قد انشق فى عهد النبي، كمعجزة من معجزاته.!
__________
(1) يقصد بهذا نسبة النبي إلى رجل كان فى الجاهلية الأولى، وكان أول من دعا إلى عبادة «الشعرى» واعتبارها ابنة لله.. فلما جاء النبي يدعو قومه إلى الله، نسبوه إلى هذا الرجل الذي أحدث فى قومه عبادة الكواكب.(14/629)
ونحن إذ نخالف هذا الرأى لا نخالفه، استكثارا على النبي الكريم أن يضع الله سبحانه فى يده هذه المعجزة، فإن ما بيد الرسول من آيات الله وكلماته مالا يبلغ انشقاق القمر شيئا إزاء حرف من كلمة من كلمات الله.! كما لا نخالفه ونحن نعتقد بصحة هذه الأحاديث فى سندها إلى أن تصل إلى أصحاب رسول الله، فإننا من صحابة رسول الله فى مقام الأعمى بين يدى المبصر.. ولكنا إذ نخالف هذه الأخبار، فإنما نخالفها ونحن فى شك من صحة السند.. وإذا شكلنا فى السند كان المتن مجرد قول يضاف إلى آخر راو روى عنه.
وإننا نخالف هذا القول بانشقاق القمر فى عهد الرسول، لأمور:
فأولا: لم يكن الرسول الكريم معجزة متحدية، قائمة على الزمن، إلا القرآن الكريم الذي تحدّى به العرب، وأفحمهم، وأقام الحجة عليهم.
وثانيا: لو صحّ أن يكون للنبى معجزات أخرى متحدية غير القرآن، لما كان انشقاق القمر واحدة منها، لأن العرب لم يتحدوه بأن يأتيهم بمعجزة معلقة فى السماء، وإنما كان من تحدّيهم له ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» (90- 92 الإسراء) .
وثالثا: لو كان انشقاق القمر معجزة متحدية، لأنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولحدّد لهم الليلة، والساعة، حتى يشهدوا ذلك، ليكون حجة عليهم.. ولكن الذي ترويه الآحاديث لا يشير إلى شىء من هذا، ولا يدل على أن قريشا قد رصدت هذه الظاهرة المتحدية. وإنما الذي يفهم من هذه الأحاديث، أن القمر قد انشق فى ليلة ما، وأن النبي وبعض الناس قد رأوه، فقال النبي عندئذ: «اشهدوا!» .(14/630)
ولا يعقل أن يقيم النبي من انشقاق القمر- إن كان قد انشق- شهادة على صدق رسالته، وعلى أن انشقاق القمر كان معجزة شاهدة له، إذا لم يكن قد آذن القوم بوقوع هذا الحدث العظيم قبل أن يقع.. أمّا أن يجىء بعد وقوع الحدث ويقيم منه شاهدا له، فهذا قلب لأوضاع الأمور وقد عصم الله رسوله، وجنبه الزلل والعثار..
ورابعا: خسفت الشمس على عهد الرسول الكريم بالمدينة، وصادف ذلك أن كان يوم موت ابنه إبراهيم، فقال الناس خسفت الشمس لموت إبراهيم!! فدعا الرسول الناس إليه، ثم خطبهم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله، وإلى الصلاة» .
هذا، هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذلك هو موقفه من الأحداث التي تقع فى الطبيعة.. إنه يصحح المفاهيم الخاطئة التي تقع الناس، من ربط الأحداث التي تقع لهم بالكواكب والنجوم، وأن ما يجرى على الشمس والقمر من خسوف وكسوف، ليس إلا من العوارض التي تعرض لهما فى نظام دورثهما فى الفلك.
وخامسا: إذا كان النبىّ يريد أن يتحدى قومه بمعجزة مادية، يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يؤيده بها، فلم يختار انشقاق القمر، وتمزقه قطعا فى السماء؟
أليس الأولى من ذلك أن يريهم أثرا محسوسا بين أيديهم، كأن يفجّر لهم عين ماء، أو أن يشير إلى جبل من الجبال المحيطة بهم فيتحول عن مكانه؟
هذا، وليس فى الإخبار فى القرآن عن انشقاق القمر بلفظ الماضي قرينة على وقوع الفعل، فكما يدل الماضي على حدوث الفعل فعلا، ويخبر عن وقوعه فى الماضي كذلك يعبر بالفعل الماضي عن الأمر الذي سيقع مستقبلا، وذلك لغرض بلاغي، وهو الدلالة على أن هذا الفعل محقق الوقوع لا محالة، وأن(14/631)
وقوعه فى المستقبل أشبه بوقوعه فى الماضي، فإن لم يكن وقع، فكأنه قد وقع، لتحقق وقوعه.
والقرآن الكريم يستخدم هذا الأسلوب كثيرا فى الأمور ذات الخطر، التي يقف كثير من الناس إزاءها موفف الشك والارتياب، فى إصرار وعناد، فلا يلقاهم القرآن حينئذ، اللقاء الذي ينتظرونه فى شأن هذا الأمر الخطير، ولا يجعل لقاءهم معه معلقا بالمستقبل، بل يجذبهم إليه جذبا قويا، فإذا هم فى مواجهة هذا الأمر، وجها لوجه، وقد أصبح خبرا بعد أن وقع! ..
يقول سبحانه وتعالى فى شأن البعث: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (68: الزمر) ويقول سبحانه عن يوم القيامة:
«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» (69- 70 الزمر) ..
وأكثر ما ورد فى القرآن عن البعث، والحساب والجزاء، قد جاء فى صورة الماضي، الذي وقع فعلا، وعاش فى الناس، وعاش الناس فيه.. وذلك لتحقق وقوع هذه الأحداث..
وعلى هذا، فإن الحديث عن انشقاق القمر بالفعل الماضي، لا تقوم منه حجة على وقوع هذا الانشقاق، بل إنه إذا نظر إليه باعتبار أنه من أحداث يوم القيامة، كان التعبير عنه بالماضي دليلا على أنه مراد به الإخبار عن المستقبل الذي لم يقع..
فإذا نظرنا إلى انشقاق القمر، مع قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» ومع ما يقع يوم القيامة من تبدل وتحول فى العوالم السفلية والعلوية، رأينا أن انشقاق القمر لا يعدو أن يكون حدثا من الأحداث التي تقع يوم القيامة..
للقمر، ولغيره من العوالم الأخرى.. كما يقول سبحانه عن القمر يوم القيامة(14/632)
«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» (7- 10: القيامة) ولا نريد أن نطيل الوقوف هنا، ولا أن نجعل من هذا الأمر قضية للجدل والخلاف.. فإن الخطب هيّن، وإنه لن ينقص من قدر النبي الكريم، وقد كمل قدرا، وشرفا- ألا ينشق القمر له، كما أنه لن يزيد من قدره- وقد استوفى غاية الكمال والشرف- أن يضاف إليه انشقاق القمر، أو عشرات ومئات من مثل هذا الانشقاق..
وإنما الذي دعانا إلى هذه الوقفة، هو ما نجد من بعد بعيد بين مفهوم الآية الكريمة، واتساق هذا المفهوم مع موقع الآية فى النظم القرآنى، ومع ما جاء من آيات الكتاب عن يوم القيامة، وما يقع فيه من أحداث- وبين هذا التخريج الذي خرّجت عليه الآية الكريمة، وتوارد عليه المفسرون، قولا واحدا، بأن القمر قد انشق للنبى، وهو فى مكة، تحدّيا لتحدى قومه المكذبين به.. والله أعلم.
قوله تعالى:
«وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» أي وإن ير هؤلاء المشركون آية يعرضوا عنها، ويقولوا سحر مستمر..
فهذه كلها أخبار عن حال واقعة، هى اقتراب الساعة، وانشقاق القمر، وإصرار المشركين على التكذيب برسول الله واتهامه بالسحر، كلما جاءهم بآية من آيات الله..(14/633)
فقوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» هو أسلوب خبرى، وإن جاء فى صورة الشرط.. فهو إخبار عن مستقبل كثير من هؤلاء المشركين مع الدعوة الإسلامية، وأنهم سيظلّون على ما هم عليه من كفر وعناد، وأنه كلما تلا عليهم الرسول بعض آيات الله، لم يجدوا إلا قولا واحدا فيها، قد استقر عليه رأيهم، وهو أن هذا الكلام من واردات السحر، لما فيه من قوّى خفية، تكاد تملك وجودهم، وتستولى على مشاعرهم..
فقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» .. وقالوا: «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» أي متصل، يشبه بعضه بعضا، ويلتقى لا حقه مع سابقه.. أو هو سحر مستمر، من المرّة وهى القوة، أي قوى محكم.. كما قال فرعون عن موسى وعصاه: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» (109: الأعراف) ..
فالآية إخبار عن المستقبل، وأن كثيرا من هؤلاء المشركين، لن يؤمنون بالله، بل يموتون على كفرهم، وأنهم كلما استمعوا إلى ما يتلو النبي من آيات الله، قالوا سحر مستمر.
هذا هو موقف المعاندين الضالين من المشركين، فى الوقت الذي تطرقهم فيه الأنباء بأن يوم القيامة قد قرب، بل إن إرهاصاته قد أخذت تظهر فى الوجود..
والآية التي يرونها، هى آيات الله التي تتلى عليهم، وعبر عن سماعها بالرؤية، إشارة إلى أنها من الوضوح، والبيان، بحيث تبدو كأنها حاضر شاخص يرى، لا حديث يسمع.
ويجوز أن تكون الآية هنا آية محسوسة، مما يقترحه المشركون على النبي، وقد أبى الله سبحانه وتعالى أن يجيبهم إلى ما سألوا، لأنهم لن يؤمنوا بأية آية(14/634)
تأتيهم، بعد أن كذبوا بآيات الله المتلوّة عليهم، والتي فيها الهدى لمن اهتدى، وفيها النور لمن فتح عينيه النور.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (7:
الأنعام) . ويقول سبحانه: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (15: الحجر) ..
فهذه آيات محسوسة، لو طلعت عليهم ورأوها رأى العين، لأعرضوا عنها، وكذبوا بها، وقالوا سحر مستمر.
قوله تعالى:
«وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» .
الواو الحال، والجملة بعدها حال من الفاعل فى قوله تعالى «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا» . أي أنهم يقفون هذا الموقف من آيات الله إذا تليت عليهم، والحال أنهم قد كذبوا بها من قبل واتبعوا أهواءهم.. فهذا الذي هم فيه حالا أو مستقبلا مع آيات الله، ليس جديدا عليهم، بل هو داء يعيش معهم إلى أن يجىء أجلهم.
وقوله تعالى: «وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأن هذا الذي هم فيه من كفر وضلال، له نهاية ينتهى إليها، وقرار يستقر عنده..
وليس لما هم فيه من نهاية، إلا العذاب الأليم فى نار جهنم، وليس لأمرهم هذا من مستقر، إلّا سواء الجحيم.. وهذا مثل قوله تعالى: «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» (67: الأنعام) .
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ» .
أي أن هؤلاء المشركين، قد كذبوا، واتبعوا أهواءهم، وقد جاءتهم النذر من بين أيديهم ومن خلفهم، ولفتتهم آيات الله التي يتلوها الرسول عليهم،(14/635)
إلى ما أخذ الله به الظالمين قبلهم، الذين كفروا بالله، وعصوا رسله- فما انتفع هؤلاء المشركون الضالون بتلك النذر، ولم يكن لهم منها عبرة واعظة، أو عظة زاجرة.
قوله تعالى:
«حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ» .
«حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» بدل من «ما» فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ» .. فالذى فيه مزدجر، هو حكمة بالغة، يجدها ذوو العقول فى أخبار الماضين، وما حل بأهل الكفر والضلال منهم.
وقوله تعالى: «فَما تُغْنِ النُّذُرُ» .. «ما» نافية، أي لا تغنى النذر، ولا تنفع عند من هم فى غفلة ساهون.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) ..
فهؤلاء الضالون المعاندون من المشركين، لا ينتفون بهذه النذر، ولا يستيقظون من غفلتهم على صوتها المجلجل المدوىّ..
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ» ..
هو دعوة إلى النبي الكريم أن يدع هؤلاء الضالين، الذين لا تنفع معهم النذر، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا.. فليدعهم النبي، حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون..
وقوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ» .. الداعي، هو نافخ النفخة الثانية فى الصور، وهى نفخة البعث.. كما يقول سبحانه:(14/636)
«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» (68: الزمر) ..
والشيء النكر الذي يدعو إليه الداعي، هو هذا البلاء الذي يساق إليه أهل الضلال.. «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» (13، 14: الطور) ..
وفى قوله تعالى: «شَيْءٍ نُكُرٍ» مع تجهيل هذا الشيء وتنكيره، ثم وصفه بهذا الوصف الذي يلقى عليه ظلالا كثيفة من السواد- فى هذا إشارة إلى شناعة هذا الشيء، وما يخفى فى أطوائه من أهوال، لا يحيط بها وصف..
والظرف «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ» متعلق بمحذوف دل عليه سياق النظم، أي فتول عنهم، وانتظر ما يحل بهم يوم يدعو الداعي إلى الحساب والجزاء، وهو يوم عسير على الكافرين غير يسير..
قوله تعالى:
«خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» ..
أي فتول عنهم، وانتظرهم يوم يدعوهم الداعي إلى شىء نكر، فتراهم وقد خشعت أبصارهم، ذلة وانكسارا، كما يقول سبحانه وتعالى:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» (45: الشورى) ..
فقوله تعالى «خشعا» حال من مفعول فعل محذوف، وتقديره تراهم..
وقوله تعالى: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» حال(14/637)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
أخرى من المفعول به الفعل المحذوف، أي تراهم خشعا أبصارهم، وتراهم يحرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر..
والأجداث: جمع جدث، وهو القبر الذي يلحد فيه الميت..
وقد أشرنا من قبل إلى دلالة هذا التشبيه، الذي شبّه به الموتى فى خروجهم من أجداثهم يوم البعث «1» ..
قوله تعالى:
«مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» ..
هو حال ثالثة من أحوال الناس يوم البعث، أي تراهم فى هذا اليوم مهطعين إلى الداعي، أي مسرعين إليه، مستجيبين لدعوته، منقادين لأمره.. وهو أمر الله، الذي به يبعث الموتى من القبور: كما يقول سبحانه.
«ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقوله تعالى: «يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» مقولة من مقولات الكافرين حين يلقاهم هذا اليوم.. إذ ما أكثر مقولات الندم والحسرة، التي يتنادون بها فى هذا اليوم.. «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ» .. «يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» ..
الآيات: (9- 42) [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
__________
(1) أنظر فى هذا الكتاب مبحث: «البعث.. على أيه صورة يقع» (ص: 549)(14/638)
التفسير:
قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... الآيات» فى هذه الآيات أمور، نود أن نقف عندها، ولكن بعد أن نشرح بعض مفرداتها:
- ازدجر: أي طرد من بين العقلاء، لأنه ليس له إلا الزجر.
- أبواب السماء: مواقع المطر منها.. حيث يبدو المطر المنهمر أيام الطوفان، وكأنه متدفق من فتحات أبواب سدّ عظيم قد احتجز وراءه قدرا كبيرا من الماء..
- والمنهمر: المتدفق فى كثرة..
- فالتقى الماء على أمر قد قدر: أي فالتقى ماء السماء المتدفق من أبوابها، مع ماء الأرض المتفجر من عيونها، فى ميقات معلوم، وبقدر مقدور، لا يزيد، ولا ينقص..
- ذات الألواح: هى السفينة.. والألواح، هى قطع الخشب التي بنيت منها..
- والدسر: ما يمسك هذه الألواح، ويشدّ بعضها إلى بعض..
- لمن كان كفر: أي لمن كان قد كفر به، وكذب فى رسالته..
وهو نوح عليه السلام..(14/640)
- فهل من مدّكر: أي هل من متذكر، ومتعظ بهذه الأحداث؟.
- ريحا صرصرا: أي ريحا عاصفة، شديدة البرد، ذات صرير وزمجرة.
- أعجاز نخل منقعر: أعجاز النخل، قاعدتها التي تقوم عليها، وهى ما بين الساق، والجذر مما على الأرض من النخلة.. والمنقعر: المنقلع من أصوله.
- كذاب أشر: أي كذاب مفضوح الكذب ظاهره، كذاب يريد بكذبه البطر والتعالي على قومه.
- كل شرب محتضر: أي كل شرب لهم، أو للناقة، يحضره صاحبه، من غير عدوان.. كما يقول سبحانه: «لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» (155: الشعراء) ..
- فنادوا صاحبهم: أي نادى القوم صاحبهم، أي رجلهم الذي أعدوه للعدوان على الناقة. فتعاطى: أي تداول الحديث معهم، فأخذ، وأعطى..
- هشيم المحنظر: أي الحطب الذي يضمه جامعه فى حظيرة، فيشتد يبسه، مع الزمن، ثم يتحول إلى هشيم، هشّ، لا وزن له..
صبحهم بكرة عذاب مستقر: أي وقع بهم العذاب فى بكور الصبح، أي مع مطلع الفجر..
أما هذه الأمور التي نودّ أن نقف عندها من هذه الآيات، فهى:
أولا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها..(14/641)
وهى أن الآيات السابقة، عرضت موقف المشركين من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وأنهم إن رأوا آية واجهوها بالبهت والتكذيب، وقالوا إنها من واردات السحر، وقد انتهى هذا العرض بدعوة النبي الكريم إلى أن يدع هؤلاء المعاندين وشأنهم، فإنهم فى هذا هم الخاسرون، حيث يوردون أنفسهم موارد الهلاك يوم القيامة، الذي يكذبون به..
وفى هذه الآيات، عرض لأحوال جماعات من المكذبين المعاندين فى الأمم السابقة، وقد جاءتهم رسل الله بالبينات، فبهتوهم، وكذبوهم، وتهددوهم بالمساءة والأذى..
فكان أن أخذهم الله بالبلاء فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة..
وفى هذا تهديد للمشركين، وأنهم سيسلكون فى سلك الذين كذبوا رسل الله من قبلهم.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون..
وثانيا: فى أعقاب كل قصة، يجىء قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. ولقد تكرر هذا فى قصص قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط.. فما سرّ هذا؟ ولماذا لم يجىء هذا التعقيب، فى قصة فرعون؟
السرّ فى هذا- والله أعلم- أن هذا التعقيب على كل قصة من تلك القصص، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يتدبروا هذه الآيات التي بين أيديهم من كتاب الله.. فهذه الآيات تكشف للناظر فيها، أو المستمع إليها- فى يسر وعن قرب- الدلائل الواضحة الهادية إلى الحق.. ولكن هل من مدّكر من هؤلاء الضالين المعاندين؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال..
أما السرّ فى أنه لم يذكر مع قصة فرعون هذا التعقيب الذي لازم القصص الأربع السابقة، فذلك- والله أعلم- ليصل مشركى قريش بفرعون، وليجعل(14/642)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
منهم ومنه كيانا واحدا، وكأنهم هم المكذّبون بآيات الله كلها، الوارثون لفرعون فى ضلاله، وكبره وعناده.. والقرآن الكريم، يقرن فى مناسبات كثيرة بين مشركى قريش، وبين فرعون.. إذ كانوا أقرب الناس شبها به، فى التعالي والتشامخ، والتصامّ عن كلمة الحق، والتعامي عن آيات الله..
وثالثا: تكرر فى هذه الآيات قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، كما تكرر قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» أربع مرات كذلك..
وداعية هذا التكرار، هو التعقيب على هذه الأحداث، بإشارتين؟
الإشارة الأولى، إلى مواقع نقمة الله، وما أخذ به المكذبين برسله من بلاء «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ..
والإشارة الثانية، هى دعوة إلى طريق الخلاص والنجاة من نقمة الله وبلائه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» .. فهذا هو طريق النجاة، وهو الاستماع إلى القرآن الكريم، وإلى الإيمان به، والعمل بما يدعو إليه..
فهل من مدّكر؟.
الآيات: (43- 55) [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)(14/643)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» ..
كان المتوقع بعد ذكر فرعون، وما أخذه الله به من نكال، أن يجىء هذان التعقيبان: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» .. «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. وذلك على نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات التي سبقت الحديث عن فرعون، بالحديث عن قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط- كان هذا هو المتوقع، ولكن جاء قوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» - ليصل- كما قلنا- مشركى قريش، بفرعون، ويجعلهم هذا التعقيب المباشر لقصته امتدادا له، حتى إنهم ليأخذون المكان الذي كان من المتوقع أن يأخذه قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ..
فقوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» خطاب لمشركى قريش، فى صورة استفهام إنكارى، ينكر عليهم هذه المشاعر الخاطئة التي يعيشون فيها، وهى أنهم لن يؤخذوا بما أخذ به الكافرون المكذبون من قبلهم..
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» ؟ أي فلا تحل بهم النقم كما حلت بأشياعهم من قبل؟ ..(14/644)
وقوله تعالى: «أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» .. استفهام إنكارى آخر، ينكر على المشركين أن يكون لهم عهد عند الله، فى كتاب بين أيديهم، بأنهم بمنجاة من أن ينالهم ما نال إخوانهم الضالين من قبل، من عذاب وبلاء؟
والزبر: جمع زبور، وهو القطعة من الشيء، والمراد به هنا الكتاب، والمراد بالزبر: كتب الله المنزلة على رسله، إذ كان كلّ منها قطعة من الكتاب الأم.. وهو أم الكتاب، أو القرآن الكريم، الذي جمع ما تفرق فى الكتب السماوية، والذي به كمل دين الله قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ» ..
أم هنا حرف عطف، حيث يجمع هذا السؤل الموجه المشركين، إلى السؤالين السابقين:
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟» .
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة، استخفافا بشأن هذا الجمع المتحدّى، الذي ملأه العجب والغرور، فلم ير أية قوة تقف له، وتأخذ النصر منه..
والجميع، بمعنى الجمع، وعبر عن الجمع بالجميع، إشارة إلى استطالتهم فى الغرور، وإدلالهم بكثرة جمعهم..
قوله تعالى:
«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .
أي إن هذا الجمع المفتون بكثرته، المغرور بقوته، سيهزم ويولى الدبر.. تلك هى آخرة مطافه..
وعدل عن لفظ «الجميع» الذي هو من مقول قول المشركين، إلى لفظ «الجمع» استصغارا لهم، وأنهم جمع لا جميع..(14/645)
وهذا من أنباء الغيب التي حمل القرآن الكريم قدرا كبيرا منها.. فهذه الآية مكية، فى سورة مكية، وما كان المؤمنون يومئذ يتوقعون فى أي حال أن يهزم هذا الجمع الذي توعده الله سبحانه وتعالى بالهزيمة وتولية الأدبار.. حتى إن عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- كان فيما يروى عنه- يقول حين نزلت هذه الآية:
ما كنت أدرى: «من هذا الجمع الذي سيهزم» ، حتى كان يوم بدر فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب فى الدرع وهو يتلو قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» فعلمت تأويلها..
قوله تعالى:
«بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» ..
إضراب على الهزيمة التي ستحل بهؤلاء المشركين، واعتبارها كأن لم تكن، لأنها لا تعدّ شيئا إلى ما ينتظر المشركين من عذاب الله يوم القيامة..
إن هزيمتهم فى الحرب، وإن كانت خزيا يلبسهم، وعارا يتجللهم، وحسرة تملأ قلوبهم- فإنها إلى ما يلقاهم من عذاب الله فى الآخرة، تعدّ عافية، وتحسب رحمة..!!
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» .. أي إن ما يلقى هؤلاء المشركين من عذاب يوم القيامة، هو مما أعد للمجرمين، وهؤلاء المشركون هم رأس من رءوس المجرمين، يردون(14/646)
موردهم، ويلقون مصيرهم.. إنهم مجرمون، وإن المجرمين فى ضلال وسعر، أي جنون، وسعار، كسعار الكلاب، فلا يكون منهم إلا النباح..
إذ يسحبون على وجوههم فى النار، ويدعّون إلى جهنم دعّا- يشيعون من الزبانية الموكلين بسوقهم إلى النار، بتلك الكلمات القاتلة: «ذوقوا مس سقر» .. اى انعموا بهذا النعيم، واهنئوا به..
والمس: اللفح، والعذاب الوارد عليهم من جهنم، ومنه قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» (41: ص) .
وسقر: واد من أودية جهنم، ومنزل من منازلها، نعوذ بالله منها، ومن عذاب الله وسخطه.
قوله تعالى:
«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» أي إنا خلقنا كل شىء بقدر.. أي بحساب وتقدير..
فما من ذرة فى السماء أو فى الأرض، إلا وهى فى علم الله، وفى تصريف قدرته، وإلا هى آخذة مكانها فى هذا الوجود، كما يأخذ كل عضو فى الجسد مكانه منه..
قوله تعالى:
«وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» .
أي ما أمرنا لشىء إذا أردناه، إلا أن نقول له كن فيكون.. فبكلمة واحدة، يدعى أي أمر، فيجيب فى لمحة كلمح البصر.. وفى هذا إشارة إلى أن الموجودات كلها واقعة فى علم الله، فى كل حال من أحوالها،(14/647)
وفى كل صورة من صورها، وأنها إذ تدعى إنما تدعى من حضور هى فيه.. فعلا..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .
هو عودة بهؤلاء المشركين من مشاهد القيامة، وما سيلقاهم هناك من بلاء وضنك- عودة بهم إلى حيث هم فى هذه الدنيا.. فإن تلك هى فرصتهم، إن أرادوا أن يصلحوا ما أفسدوا، وأن يتجنبوا هذا الطريق الذي ينتهى بهم إلى جهنم..
فليعيدوا النظر فى موقفهم هذا، وليتدبروا ما حل بأشياعهم، ومن هم على شاكلتهم من الأمم السابقة، الذين كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، وكيف أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. ولكن أين من يتدبر، ويتذكر؟ ..
والأشياع: جمع شيعة، وشيعة المرء أنصاره، ومن هم على طريقته..
وأهل الضلال جميعا شيعة، وإن لم يجمعهم زمان أو مكان.. لأنهم جميعا على طريق الغواية، والبوار..
ومدّكر: بمعنى متذكر، وفعله ادّكر، الذي أصله إذ دكر، فقلبت الذال دالا وأدغمت فى الدال..
قوله تعالى:
«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» .
أي كل شىء فعله هؤلاء الضالون وأشياعهم، مسجل عليهم فى الزبر، أي الكتب التي تكتب فيها أعمالهم.. فكل إنسان له كتابه الذي(14/648)
سطّر فيه كل ما عمل من خير أو شر.. «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13: الإسراء) .
قوله تعالى:
«وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ» .
أي وكل صغير من أعمال الناس وكبيرها مستطر، أي مكتوب فى أسطر، على صفحات هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان يوم القيامة.
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .
وإذا كانت تلك هى حال الضالين والمكذبين، فى الآخرة، وهى حال تشيب لها الولدان، فإن هناك حالا أخرى، هى حال أهل الإيمان والتقوى، حيث النعيم المقيم، والرضوان العظيم.. إن أهل التقوى فى جنات وأنهار تجرى من تحت هذه الجنات، وإنهم فى منزل كريم عند مليك مقتدر، بيده كل شىء.
وفى وصف المقعد بالصدق، إشارة إلى أنه منزل شريف كريم، شرف الصدق وكرامته، وأنه دائم باق دوام الصدق وبقاءه..
وفى وصف مقعد الصدق بأنه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» أي عند الله المالك لكل شىء، المقتدر على كل شىء- فى هذا الوصف إشارة إلى قرب هؤلاء المتقين من ربهم، وأنهم فى ساحة فضله وإحسانه، فهو قرب رضا ورضوان، وإدناء فضل وإحسان.. جعلنا الله سبحانه من عبادة المقربين المكرمين..(14/649)
55- سورة الرحمن
عروس القرآن نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمان وسبعون آية
مناسبتها لما قبلها
بين سورة «الرحمن» هذه، والسورة التي قبلها «القمر» - أكثر من مناسبة:
فأولا: ختمت سورة «القمر» بهذه الآية: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .. ومن صفات المليك المقتدر، الرحمة، لا الجبروت، شأن المالكين المقتدرين، وبهذه الرحمة التي وسعت كل شىء أرسل الرسل يدعون عباده إليه، ويطبّون للآفات والعلل التي أوردتهم موارد الضلال.. فاستجاب كثير منهم، ووجد السلامة والعافية فى هذه الرحمة المرسلة من الله سبحانه على يد رسله.. فكان بدء سورة «الرحمن» بهذا الاسم الكريم موصولا بختام سورة «القمر» ، جاعلا منهما سورة واحدة..
وثانيا: النظم الذي جاءت عليه سورة «القمر» ، يشابه النظم الذي جاءت عليه سورة «الرحمن» ، من حيث تكرار بعض المقاطع مرات متعددة..
فقد كرو فى سورة «القمر» قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، وكذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. كرر أربع مرات أيضا..
وفى سورة «الرحمن» كرر قوله تعالى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إحدى وثلاثين مرة!(14/650)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
ففى هذه المتتاليات: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ثم «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» ثم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - فى هذه المتتاليات، تدرّج من الإنذار والتخويف من عذاب الله، إلى عرض وسيلة النجاة من عذاب الله وتيسير الاتصال بها والوصول إليها، وهى القرآن الكريم. إلى مساءلة هؤلاء المدعوّين إلى كتاب الله، كيف يكذبون بآلاء الله ونعمه التي من أعظمها وأجلّها هذا الكتاب الذي يدعون إليه؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 13) [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
التفسير:
قوله تعالى: «الرحمن......»
[سورة الرحمن.. ونظمها]
فى سورة الرحمن ظاهرة ملفتة للأنظار، داعية إلى التساؤل عنها والبحث عما وراءها من أسرار.. تلك هى التكرار الملتزم فى قوله تعالى:(14/651)
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» فقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، خلال آيات السورة البالغ عددها ثمانيا وسبعين آية..
وقد كان هذا التكرار مدخلا من مداخل الطعن على القرآن، عند كثيرين من مرضى العقول والقلوب، من المستشرقين والمتتلمذين عليهم.. إذ عدوّا هذا التكرار مخلّا ببلاغة الكلام، جائرا على فصاحته، ثم يجاوزون هذا إلى القول بأن هذا التكرار الذي جاء خارجا على الأسلوب العام للقرآن، إنما يمثل حالا من أحوال الصّرع الذي كان يعرض للنبىّ! «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» ..
ولا نعرض لدحض هذه المفتريات، إذ كانت تحمل فى كيانها أكثر من شاهد يشهد عليها بالكذب والافتراء.. وحسبنا أن نقف بين يدى هذا الإعجاز المبين من آيات الله..
فهذا المقطع الذي بدأت به السورة الكريمة، هو مقدمة موسيقية علوّية اللحن، قدسية النغم، لا تكاد تتحرك بها الشفاه، وتتصل بها الآذان، حتى يتفتق من أكمامها هذا الجلال المهيب، الذي يملأ القلوب مهابة وخشية، وحتى يشيع فى النفوس روحا وانتشاء.. سواء فى ذلك من وقف عند تناغم الألفاظ، وتجاوب جرسها، أم من جمع إلى هذا ما يفتح الله له من علم يرى فى أضوائه جلال المعنى، وصدقه المصفّى من شوائب الباطل والضلال..
فالنظم الذي جاءت عليه هذه الآيات، مستغن بنفسه عن أن يحمل كلماته ما تحمل اللغة من دلالات ومفاهيم، متعارفة بين أهلها، وحسبه أن يفعل بنغمه الموسيقى، ما لا تفعل أروع ألحان الموسيقى من روح وانتشاء! فكيف إذا حمل هذا النغم مع ذلك أدق وأصدق وأحكم ما تحمل الكلمات من معنى؟ ..
انظر كيف يطلع هذا المطلع على تلك الصورة الرائعة الفريدة من النظم..(14/652)
فأنت بين يدى خمس آيات تلاحمت، وتماسكت دون أن يقوم بينها حرف عطف:
«الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» ..
إن ما بينها من تجاوب وتآلف، يجعلها فى غنى عن أن يقوم بينها عاطف يعطف بعضها على بعض، ويجمع بعضها إلى بعض..!
ثم انظر كيف كانت كلمة «الرحمن» التي بدئت بها السورة، هى الميزان الذي تجرى أحكامه على آيات السورة كلها، وتنضبط عليه أنغامها، وتتألف منه وحدة اللحن كله.. فيكون أشبه «بالرتم» الذي يمسك باللحن الموسيقى من مطلعه إلى نهايته! ..
«الرحمن» .. إنه الذي يمسك بأجزاء السورة كلها، لفظا ومعنى..
فالرحمن، تتدفق من رحمته هذه النّعم، التي تعرضها السورة فى كل آية من آياتها، وقد تصدر القرآن- ومعناه القراءة الواعية فى صحف الوجود وفى كتب العلم وأجلها القرآن الكريم- تصدّر كلّ هذه النعم..
فإنه بغير هذه القراءة لا يهتدى الإنسان إلى الله سبحانه، ولا يتعرف على خالقه، ولا تقوم قدماه على طريق الحق والخير.. ثم يجىء الإنسان على رأس المخلوقات جميعها، إذ هو وحده الذي حمل الأمانة، أي العقل والتكليف، من بينها جميعا، فيكون هو التلقي لمجتمع كلمات الله، القارئ المستبصر، الذي يكشف بقراءته دلائل القدرة الإلهية.. فيؤمن بالله، ويقوم على خلافته فى الأرض، وبقيم موازين العدل فيها..
ثم انظر مرة أخرى إلى هذا التدبير الحكيم الذي تطلع به عليك هذه(14/653)
المقدمة من الفواصل المتتابعة، المتماثلة، مع فاصلة الآية المكررة..
الرحمن.. القرآن.. الإنسان.. البيان.. بحسبان.. يسجدان..
الميزان.. الميزان.. الميزان.. للأنام.. الأكمام.. الريحان..
فهذه اثنتا عشرة فاصلة، سبقت المقطع الذي سيتكرر فى السورة فى قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» فيكون أشبه بمقدمة لهذا التكرار، إذ يكون من شأنه أن يقيم الأذن على هذا النغم، ويربطها به، فإذا تكررت هذه الآية بعد ذلك، لم تجد الطريق إلى الأذن مسدودا عليها، أو مستوحشا منها، بل إن الأذن لتتفتح لها، وتدعوها إليها، وتجذبها نحوها..
وانظر مرة ثالثة..
فلقد سبق هذا التكرار المنتظر، تكرار آخر، يمهد له، ويهيىء السمع واللسان لاستقباله..
وذلك بأن تكررت كلمة «الميزان» ثلاث مرات فى ثلاث فواصل متتابعة، دون أن يفصل بينها فاصل آخر.. ولا شك أن هذا تمهيد بليغ للتكرار الذي سيبدأ بعد هذه الفواصل مباشرة بقوله «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» والذي سيتكرر إحدى وثلاثين مرة..
ثم انظر مرة رابعة فى هذا المطلع.. تجد السورة قد بدئت بآية، هى كلمة واحدة، ثم بثلاث آيات، كل آية فيها من كلمتين..
الرحمن..
علم القرآن..
خلق الإنسان..
علّمه البيان..(14/654)
ثم تجىء بعد هذا آيتان من ثلاث كلمات:
الشمس والقمر بحسبان..
والنجم والشجر يسجدان..
ثم تتلوها آيتان من أربع كلمات:
والسماء رفعها ووضع الميزان..
ألّا تطغوا فى الميزان..
تعقبها آية من ست كلمات:
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان..
ثم تتلوها آية من ثلاث كلمات:
والأرض وضعها للأنام..
تجيء بعدها آية من خمس كلمات:
فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام..
ثم آية من أربع:
والحبّ ذو العصف والريحان..
ثم تجىء بعد هذا الآية:
فبأى آلاء ربكما تكذبان..
فتكون هى القرار الذي ينتهى إليه النغم، والذي يتردد بعد كل آية أو آيتين من السورة..
إن لعلماء الموسيقى مجالا فسيحا للدراسة والإفادة من هذا النظم، الذي تمثل كلّ آية منه جملة موسيقية، تختلف طولا وقصرا، وتأتلف مطلعا- قرارا..(14/655)
أما عند الموسيقىّ، فإنه يجد نفسه، وهو يتلو هذه الآيات إنما يتلقى درسا علويا من ينابيع الموسيقى السماوية، فيستفتح اللحن بكلمة «الرحمن» فيعطيها كل ما يمتلىء به صدره من أنفاس الحياة.. ثم يعود فيوزع أنفاسه بين كلمتين، كلمتين، ثم بين ثلاث ثلاث، ثم بين أربع أربع، ثم بين ست كلمات، هى آخر ما يمكن أن يمتد إليه النفس غالبا. ثم يعود ليلتقط أنفاسه، فيوزّعها بين ثلاث كلمات.. ثم يأخذ نفسه مرة أخرى ليوزعه على خمس كلمات..
وهنا يكون النفس قد توازن، وانضبط على حدود معينة، بين ثلاث كلمات، وخمس كلمات، فتلقاه الآية التي ستكرر على امتداد السورة، «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. وهى من أربع كلمات، هى وسط بين الثلاث، والخمس!! هذا قليل من كثير لا نهاية له، مما يجده الناظر فى نظم هذا المقطع، الذي بدئت به السورة، والذي جاءت عليه السورة كلها..
أما المعنى الذي وراء هذا النظم، فهو أروع وأعجب.. إنه جامعة معارف، وبحار لآلئ ودرر، لا تزال أبد الدهر تغرى الطالبين لها، الغواصين فى بحارها، ليملئوا أيديهم منها، ويزينوا جيد الزمن بما ينظمون من جواهرها.. وها نحن أولاء نمدّ أبدينا إلى ما يفضل به الله تعالى علينا من فيض كرمه وإحسانه..
قوله تعالى:
«الرَّحْمنُ» هو الله سبحانه وتعالى، المتجلّى بتلك الصفة من صفاته الكريمة،(14/656)
وهى الرحمة، التي هى اللطف الساري فى هذا الوجود، والنور الهادي لكل موجود..
وقد سميت السورة سورة «الرحمن» .. فهى بهذا محلّى من مجالى رحمة الله، وكل آية من آياتها رحمة راحمة، ونعمة سابغة، حتى تلك الآيات التي تحمل العذاب إلى الكافرين والضالين.. فإنهم- مع هذا العذاب الذي هم فيه- واقعون تحت رحمة الله، ولولا هذه الرحمة لتضاعف لهم هذا العذاب أضعافا كثيرة، لا تنتهى..
وإن هذا العذاب الذي هم فيه، هو رحمة واسعة بالإضافة إلى ما فى قدرة الله من عذاب، يتعذب به هذا العذاب نفسه!! وقوله تعالى:
«عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ» ..
هو أول تجليات رحمة الرحمن، وأعظمها شأنا، فيما يتصل بالإنسان..
ولهذا قدّم تعليم القرآن، أي القراءة، على خلق الإنسان ذاته، الذي هو موضع هذه الرحمة، ومتلّقى غيوثها..
فالقرآن- كما أشرنا من قبل- معناه هنا القراءة والدرس، والتعلم.. ومن أجل هذه القراءة، وهذا الدرس والتعلم خلق الإنسان، ليعرف الله، ويتعبد له، كما يقول سبحانه: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .. (56: الذاريات)(14/657)
فبهذه القراءة الواعية، يكون لقراءة القرآن ثمراتها، التي يحصل بها الخير كله، الذي ملاكه معرفة الله، والإيمان به، والولاء له..
وقد كان سياق المعنى، يقضى- فى ظاهر الأمر- بأن يقدم خلق الإنسان على تعلمه القراءة، مطلقا، أو قراءة القرآن بصفة خاصة.. ولكن النظم القرآنى لا يوزن بميزان نظم البشر لكلامهم.. فهذا كلام الله..
وكلامه صفة من صفاته، والفرق بين كلام الله وكلام البشر كالفرق بين صفات الله، وصفات عباد الله.. ولا تصح المقايسة بحال أبدا بين الخالق، والمخلوق..
نقول- كان سياق النظم يقضى- فى ظاهر الأمر- بأن يقدّم خلق الإنسان على تعلم القرآن، فيقال: الرحمن، خلق الإنسان، علم القرآن..
فماذا إذن وراء هذا النظم الذي جاء عليه القرآن؟
والجواب، أن وراء هذا النظم كثيرا من الأسرار، لا يحصيها العدّ، ولا يحيط بها العقل..
وإنما هى أسرار تتكشف حالا بعد حال، على مسرح العقول، وعلى امتداد الأزمان والآباد..
والذي يبدو لنا من هذا النظم- والله أعلم- أن القراءة، وهى- كما قلنا- قراءة عامة فى صحف الوجود، وفى الكتب- هى التي تكشف للإنسان الطريق إلى الله، وتدله على الله سبحانه من كمال وجلال، ومن تفرد بالخلق والأمر..(14/658)
والتعرف على الله، هو الغاية من خلق الإنسان على تلك الصورة الفريدة، التي امتاز بها عن عالم المخلوقات كلها، والتي استقل بها وحده بحمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والتي بها أيضا استحق أن يكون أولى من الملائكة بخلافة الله على هذه الأرض..
فلمعرفة الله تلك المعرفة القائمة على وعى، وإدراك، وعلى حساب وتقدير- كان خلق الإنسان..
فمعرفة الله، هى العلة، وخلق الإنسان ليقوم بوظيفة هذه المعرفة هو معلول لهذه العلة، والعلة مقدمة على معلولها.. ولهذا قدم قوله تعالى:
«عَلَّمَ الْقُرْآنَ» على قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ» وقد «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» ..
أي خلقه ذا عقل وإدراك..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (56: الذاريات) أي ليعرفونى، ويعبدونى.. وما يشير إليه قوله سبحانه:
«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.. ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (31- 33: البقرة) .. فالله سبحانه وتعالى، قد علم آدم: «خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ» أي خلقه قادرا على البيان والإفصاح عن حقائق الأشياء، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال..
ولم يعلّم سبحانه وتعالى الملائكة هذا العلم، ولم يخلقهم على طبيعة(14/659)
ترى هذا التزاوج فى الموجودات، وإنما هم على طبيعة هى من عالم الحق، والخير، والنور، فلا ترى من الأشياء إلا ما هو حق، وخير، ونور..
وهنا يبدو لنا بعض السر فى هذا الجمع بين الجن والإنس فى قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .. فالجن فى هذا المقام كالإنس، فى أن كلا منهما على طبيعة يرى بها الأشياء فى هذا الازدواج:
الخير والشر، والحق والباطل.. وكما جمعت هذه الطبيعة بين الجن والإنس فى رؤية الأشياء على الازدواج- جمعت بينهما فى الخطيئة، وفى عصيان أمر الله.. فعصى إبليس أمر ربه بالسجود لآدم، وعصى آدم ربه فى الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.. فالشيطان عصى فى أمر، وآدم عصى فى نهى.. وعصيان الأمر- فى ميزان التحدّى والمخالفة- أثقل وأشنع منه، فى حال النهى.. إذ كان الأمر إيجابا، والنهى سلبا..
فالأمر فعل، والنهى ترك.. وإتيان المأمورات، مقدم على ترك المنهيات، ولهذا التزم القرآن تقديم الأمر على النهى فى كل مقام اجتمعا فيه، فقال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (110: آل عمران) وقال سبحانه: «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (17: لقمان) .
وذلك أن فعل الأمر، يحمل فى طياته الانتهاء عن منكر يقع فيه من لا يمتثل الأمر..
ومخالفة الأمر يحمل مع تضييع الأمر، الوقوع فى محذور النهى..
وليس الشأن كذلك فى النهى، الذي يقف بصاحبه عند محذور النهى، إذا هو فعل المنهي عنه..(14/660)
ومن هنا كان إتيان المأمورات مثابا عليه، بخلاف اجتناب المنهيّات، فإنه بحسب المرء باجتنابها أن يسلم من شرها، ويخرج معافى لا عليه، ولا له..
ومع هذا، فإن الشيطان خالف أمر ربه بامتناعه عن السجود لآدم..
وآدم عصى ربه كذلك بإتيان ما نهاه عنه، فأكل من الشجرة- ولهذا كان لكل منهما حسابه وعقابه.. وقد أظهر آدم الندم، وأقبل على ربه تائبا مستغفرا، فتقبّل الله سبحانه وتعالى توبته وغفر له.. وأما الشيطان فقد أحاطت به خطيئته، وأعمته عن طريق الرجوع إلى الله سبحانه، فمضى فى غيّه وضلاله، تصحبه لعنة الله إلى يوم الدين..
وقد تحدّى إبليس- لعنه الله- ربه، ورأى فى نفسه فى انه خير من آدم، وأنه قادر على إفساده، وجعله وليّا له، محاربا لله الذي كرمه وأمر الملائكة بالسجود له!! وكان من حلم الله، على هذا اللعين، أن أفسح له فى مجال التحدي، وأن يجلب بخيله ورجله على بنى آدم، وسيرى أنه مقهور مخذول، فإنه لن ينال من عباد الله مالا، وإنما هو دعوة يستجيب لها من أبناء آدم من سبقت عليه كلمة الله، فكان من أهل النار، كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» .. وكما يقول سبحانه: «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» (6: فاطر) ..(14/661)
ماذا هناك؟؟
ونحن بين يدى سورة «الرحمن» وفى أنس وروح من رحمة الرحمن، تهب علينا، وعلى غير انتظار، ريح سموم من رياح هذه الدنيا، تلفح وجوهنا، وتكوى مشاعرنا، وتثير بلبلة واضطرابا فى خواطرنا.. حتى ليكاد ذلك يفسد علينا هذا الجو المعطر بأنفاس الرحمة، ويقطع عنا- فى غفلة من إيماننا بالله، وثقتنا فى رحمته- هذا الأنس برحمة الرحمن..
ثم.. ثم ماذا؟؟
ثم نجد رحمة الرحمن الرحيم تحفّ بنا، وتعيدنا مرة أخرى إلى رحاب هذه السورة الكريمة- بعد أن انقطعنا عنها أياما، جريا وراء لقمة عيش نحصّلها من حديث فى صحيفة، أو إذاعة- وإذا بنا نجد أنفسنا وقد أظلّتها السكينة، وعاد إليها الأمن والسلام..
أما هذه الريح السموم، فإننا ندعها لرحمة الرحمن، لتحيل نارها بردا وسلاما.. فذلك هو إيماننا بالله، وثقتنا فى رحمته..(14/662)
ونعود إلى نظم الآيات مرة أخرى..
«الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
فماذا نرى فى هذا النظم، من حيث المعنى، بعد أن كانت نظرتنا مقصورة على حدود النغم والجرس؟
هنا نجد- وهذا فى حدود نظرنا المحدود القاصر- أن الآيات الكريمات يأخذ بعضها بأعناق بعض، فى تعاطف، وتآلف، من غير أن يدخل بينها عاطف صناعى يشى بهذا السر الذي بينها، ويتسمع إلى هذه المناجاة الودود، بين الأحباء والأصفياء..
هذه واحدة!! ثم ماذا؟
«الرَّحْمنُ» ما شأنه؟ وما مظاهر رحمته؟ .. ذاك سؤال! «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» ..
وهذا جواب.. يقوم من ورائه سؤال:
كيف علم القرآن؟
«خَلَقَ الْإِنْسانَ» ..(14/663)
وهذا جواب.. يثير سؤالا:
وماذا بين خلق الإنسان، وتعليم القرآن؟
«عَلَّمَهُ الْبَيانَ» وهذا هو الجواب.. فبالبيان الذي علمه الله الإنسان، تعلم القرآن..
ومن وراء هذا الجواب سؤال؟
وأي شىء يقرؤه هذا الإنسان الذي خلقه الله مستعدا للقراءة والبيان لما يقرأ؟ ..
«الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» ..
«وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ» ..
«وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» ..
هذا هو جواب السؤال.. فتلك هى الصحف المنشورة، التي يقرأ فيها هذا الإنسان المهيأ للقراءة، المجهز بأدوات البيان والكشف، بما أودع فيه الخالق من عقل، وقلب، وسمع، وبصر، ولسان يصور به ما رأى ببصره، وما سمع بأذنه، وما وقر فى قلبه، وما تشكل فى عقله- يصور ذلك كله بكلمات واضحة مبينة، يهتدى بهديها، ويمشى فى حياته على ضوئها..!
فالشمس والقمر.. يجريان بحساب مقدور.. كل فى فلكه..
«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ.. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» . (40: يس) وهذا كتاب يضم من العلوم والمعارف ما لا يقع تحت حصر، ولا ينتهى(14/664)
عند حد، إذ كان موضوعه العالم العلوي وما فيه من أفلاك، وما يدور فى هذه الأفلاك من نجوم وكواكب..
والشمس والقمر، هما أظهر ما فى العالم العلوي المنظور لنا من نجوم وكواكب.. بحيث يقعان فى نظر كل إنسان، ويدنوان من مفهوم كل ذى نظر، فلا يكاد يوجد إنسان على ظهر هذا الكوكب الأرضى إلا وعنده علم عن الشمس والقمر، على اختلاف فى درجة هذا العلم، وعلى تفاوت بعيد بين القدر الذي يقع لكل إنسان منه، إذ بينما يكون هذا العلم عند بعض الناس مجرد نظر جامد بارد، ولا يحرك شعورا، ولا يثير إحساسا، إذ هو عند آخرين مثار خيال، ومبعث وجدان، ومنطلق إدراك، وجامعة علم وفن وفلسفة..!
فإذا نظر الإنسان إلى الشمس والقمر، نظرا قائما على الدرس والحساب، أسلمه هذا النظر إلى ما وراء الشمس والقمر، مما حواه العالم العلوي من أجرام ظاهرة يراها رأى العين، أو خفية يلتمس لها الوسائل التي يراها من خلالها..
وبهذا النظر المستند إلى الحسبان أو الحساب، عرف الإنسان كثيرا من أسرار هذا العالم، ورأى أن الشمس والقمر الذين يبدوان وكأنهما سيّدا الأجرام السماوية، ليسا إلا إشارتين باهتتين تطلّان من هذا العالم على الأرض، وأنهما بالنسبة لهذا العالم أشبه بحصاتين فى سفح جبل الهملايا بالهند مثلا..!
فإذا بلغ الإنسان اليوم من العلم بحيث يضع قدميه على القمر، فليس ذلك إلا خطوة قصيرة من مسيرة طويلة العلم، فى مسابح هذا العالم الذي لا حدود له..
وإذا قصر نظر الإنسان عن أن يرى ما وراء الشمس والقمر فى العالم العلوي،(14/665)
فليقم نظره على ما بين يديه من العالم الأرضى.. حيث يجد وجه الأرض وقد نجمت فيه نجوم أشبه بنجوم السماء وكواكبها..
«وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ» ..
ففى الأرض نجم، وشجر..
والنجم، هو النبات الذي لا ساق له، مما يظهر على وجه الأرض، كالحشائش، ونحوها..
والشجر هو ما قام على سوق وما اتصل بهذه السوق من فروع، وأغصان وأوراق، وأزهار، وثمار..
والنجم من نبات الأرض، يمثّل الكواكب والنجوم المنثورة فى السماء، والتي تبدو فى مرأى العين صغيرة باهتة..
والشجر، يمثل الشمس والقمر فى ظهورهما، وكبر حجمهما..
وإذا كان جريان الشمس والقمر بحسبان، فإن قيام النجم والشجر من النبات، بحسبان أيضا، إذ أن كلّا منهما فى يدالقدرة الإلهية، قائم فى محراب الولاء، والخضوع، والسجود، لله رب العالمين.. وأنه كما فى العالم العلوي مجال فسيح النظر والكشف عن علوم لا حدود لها، فكذلك فى عالم النبات، نجمه، وشجره- علم لا ينتهى أبدا.. «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ..»
ثم، إنه إذا كان فى الناس من لا يرى هذا التفصيل فى العالم العلوي أو الأرضى، فإنه لن يكون فى الناس أبدا من لا يرى السماء جملة، أو الأرض جملة..
«وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ(14/666)
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ»
..
فالسماء مرفوعة كالمظلة فوق الناس، بلا عمد تقوم عليها، وإنما يد القدرة هى التي تمسك بها، وتقيمها على ميزان دقيق لا ينحرف قيد أنملة: «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» .. أي أقامها، ووضع لها حسابا دقيقا، وميزانا مضبوطا تجرى عليه أمورها..
وقوله تعالى: «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ.. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ..»
هو دعوة إلى أن يقيم الناس أمرهم فى التعامل مع هذه العوالم على العدل والإحسان، فلا ينحرف بهم النظر عن مواقع الحق منها، فذلك ضلال وخسران للميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فى أيديهم، وهو عقولهم التي من شأنها أن تضبط مسيرتهم فى الحياة، كما تضبط السماء دعائمها بهذا الميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لها..
وفى قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» - إشارة إلى أن هذه الأرض، هى فى خلافة الأنام، وهم الناس، وأن معهم الميزان الذي يضبطون به أمور الأرض، أشبه بذلك الميزان الذي وضعه الله سبحانه لضبط السماء وعوالمها..
وفى هذا تكريم للإنسان، ورفع لقدره، وإعطاؤه حكم هذه الأرض بالميزان الذي معه، وهو العقل.. وهو بهذا الميزان استحق أن يكون خليفة الله فى الأرض.. فإذا لم يقم أمرها على ميزان الحق والعدل والإحسان، اضطرب أمره، وفسد حاله، وساء مصيره..
«فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» أي أن هذه الأرض التي وضعها الله(14/667)
للأنام، وأقامها على هذا الوضع- قد هيأها الله سبحانه لتكون مأوى صالحا لحياة الإنسان، فأخرج منها فاكهة ونخلا ذات أكمام..
والأكمام: جمع كمّ، وهو الجراب الذي يضمّ طلع النخل، الذي يتكون منه الثمر..
«وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ» ..
معطوف على قوله تعالى: «فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» - أي وفيها الحبّ ذو العصف والريحان..
«وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» هو الحبّ الذي يؤكل كالحنطة وغيرها..
والعصف، هو أوعية هذا الحب التي تنفصل عنه عند نضجه، فتكون حطاما وهشيما، كما فى قوله تعالى: «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» ..
أما الريحان، فهو ذلك النبت الطيب الريح.. وهو إشارة إلى كل نبت طيب ريحه.. وفى هذا إشارة إلى أن الإنسان ليس مجرد حيوان يطلب حاجة الجسد من طعام وشراب وحسب، وإنما هو كائن أسمى من عالم الحيوان، لا يقف عند مطالب الجسد، بل إن لروحه مطالب لا تقل عن مطالب الجسد، وحاجته إلى ما يقيم وجوده..
فالريح الطيب ينعش النفوس، ويغذّى الأرواح..
وفى التعبير القرآنى بكلمة: «والريحان» عن النبت الطيب الريح، إشارة إلى أن اتجاه هذا النبت إنما هو إلى الروح.. فالريحان والروح من مادة واحدة لفظا، ومعنى!! وبعد هذا العرض الكاشف لرحمة الرحمن، وقدرته، وقيومته على هذا الوجود، علوه، وسفله، وخلقه الإنسان، وقد علمه البيان، ووضع بين يديه(14/668)
الميزان الذي يزن به الأمور، ويفرق به بين خيرها وشرها- بعد هذا يجىء قوله تعالى مخاطبا الكائنين اللذين لهما وجود ظاهر على هذه الأرض، ولهما مجال فسيح فيها، وصراع محتدم بينهما على الخير والشر اللّذين فى كيانهما.. فيقول سبحانه:
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
فالخطاب هنا من الحق سبحانه وتعالى، إلى عالمى الجن والإنس، إذ هما- كما قلنا- الكائنان المكلّفان، بما لهما من عقل وإدراك. وهما اللذان يحاسبان، ويثابان، أو يعاقبان.
والآلاء: جمع إلى، على وزن معى، وألى على وزن على وهى النعم..
والاستفهام هنا تقريرى، إذ كانت نعم الله ظاهرة، تلبس كل ذرة فى هذا الوجود.. حيث أن الوجود نفسه، هو نعمة بالنسبة العدم..
عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكنوا، فقال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ أحسن جوابا لربها منكم» ..
قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ما أتيت على قوله تعالى:
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلا قالت الجن: ولا بشىء من نعم ربنا نكذب» ..
وعن جابر بن عبد الله، قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن ردودا منكم.. كنت(14/669)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
كما أتيت على قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» قالوا: ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذب.. فلك الحمد» ..
وقد استدل بهذا الحديث على أن السورة مكية، لأن ليلة الجن التي يشير إليها النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل الهجرة، وذلك كان بوادي نخلة حيث بات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فى طريق عودته من الطائف إلى مكة، بعد أن عرض دعوته على ثقيف بالطائف، فردوه، ولم يقبلوا منه..
الآيات: (14- 32) [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 32]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)(14/670)
التفسير:
قوله تعالى:
«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
الصلصال: الطين الجاف، الذي له صلصلة وجرس عند احتكاك بعضه ببعض.. وهذا من طبيعة الطين اللازب، أي اللزج إذا جف..
ولهذا شبه بالفخار، وهو الطين الذي وضع فى النار حتى احترق، وصار فخارا..
والمارج من النار، هو المضطرب من لهيبها، المختلط بالدخان..
وفى الجمع بين خلق الإنسان، وخلق الجان- جواب على سؤال يرد عند ذكر قوله تعالى فى الآية السابقة على هاتين الآيتين، وهو قوله تعالى:
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» حيث لم يذكر فى السورة قبل هذه الآية ما يدل على هذا المثنّى الذي يتجه إليه الخطاب.. فكان ذكر خلق الإنس والجن، والجمع بينهما، جوابا على هذا السؤال: من المخاطب هنا بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ؟ .. إنهما هذان المخلوقان، الإنس والجن..
وقدّم خلق الإنس على خلق الجن، مع أن الجن أسبق فى الخلق(14/671)
من الإنس- تشريفا للإنسان، وتكريما له فى رتبة الخلق، حيث أمر الله الملائكة- ومنهم الجنّ- أن يسجدوا له، احتفاء بمولده..
قوله تعالى:
«رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
أي هو سبحانه رب المشرقين، ورب المغربين، أي مشرقى الشمس، ومغربيها، صيفا وشتاء..
وهذه الربوبية، هى نعمة عظيمة جليلة للموجودات كلها، إذ كان كل موجود هو صنعة هذه الربوبية، وغذىّ فضلها وإحسانها.. فهل من مكذّب بهذه الآلاء، منكر لها؟
قوله تعالى:
«مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
مرج البحرين: أي أثار بينهما تماوجا، وتدافعا واضطرابا، عند التقاء أحدهما بالآخر.. فقوله تعالى: «يَلْتَقِيانِ» حال يكشف عما وراء هذا الالتقاء من تماوج، وتدافع بينهما، بما يحدثه هذا الالتقاء.
والمراد بالبحرين: المالح، والعذب..
والبرزخ: الحاجز الذي يحجز بين شيئين..
فمن رحمة الرحمن الرحيم، أنه جمع بين البحرين: هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وهما على طبيعة واحدة، وفى مرأى العين ماء، لا فرق بين الملح والعذب إلا فى المذاق.. ومع هذا فقد جعلت القدرة(14/672)
الإلهية بينهما حاجزا، فلا يبغى أحدهما على الآخر، ولا يجاوز حدوده..
كما يقول سبحانه: «وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً» (53: الفرقان) ..
فمن ينكر هذا؟ ومن يكذب بآلاء الله ونعمه على عباده، فلا يستقبل هذه النعم بالحمد والشكران؟ .. فالتكذيب بالنعم، هو كفر بها، وجحود لفضل المتفضل بمنحها..
قوله تعالى:
«يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
أي يخرج من البحرين- الحلو والملح- اللؤلؤ والمرجان..
واللؤلؤ: إفراز حيوان بحرى، داخل بيت صدفىّ، لونه أبيض، وتتخذ منه الحلي الثمينة، من قلائد، وقرط، وخواتم.. ولونه أبيض، مشرب بصفرة.
والمرجان: خرز أحمر، صغار، وهو نباتى أقرب إلى عالم الحيوان..
واللؤلؤ يخرج من التقاء الماء العذب بالماء الملح، أو حيث خلجان البحار الساكنة التي ينزل عليها ماء المطر، فيكون الماء العذب، سواء من الأنهار، أو الأمطار، أشبه باللقاح للماء الذي يتخلّق منه حيوان اللؤلؤ، ولهذا أضيف إخراج اللؤلؤ إلى البحرين معا.. الملح والعذب..
ومن كلّ من البحار والأنهار، يستخرج اللؤلؤ والمرجان.. ولكن لا بد من التقاء الملح بالعذب، والعذب بالملح، على أية صورة من الصور حتى يتخلّق منهما اللؤلؤ والمرجان.. فتارة يكون البحر هو محتواهما،(14/673)
وتارة يكون النهر هو مستخرجهما، حسب الظروف التي يتم بها التقاء أحدهما بالآخر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ.. هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» (12: فاطر) ..
قوله تعالى:
«وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
الجوار: السفن، جمع جارية، لأنها تجرى طافية على وجه الماء..
والمنشآت: أي المصنوعات، بأيدى الناس..
والأعلام: الجبال.. جمع علم، وسمّى الجبل علما لظهوره، وإشرافه على الأرض، كمعلم من معالمها، وسميت الراية علما، وسمى الرجل العظيم البارز علما، لهذا المعنى.
قوله تعالى:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
الضمير فى «عليها» : يعود على الأرض التي يعيش عليها الناس، وتجرى فيها الأنهار، وتتلاحم بالبحار، ويتخذ الناس من ظهور البحار والأنهار مطايا ذللا يسرجونها بالسفن، وينتقلون عليها، ويحملون أمتعهم، وتجاراتهم من بلد إلى بلد..
فهذا الذي يعيش فيه الناس، ويشغلون به، ينبغى ألا يشغلهم عن الإعداد(14/674)
ليوم القيامة، والعمل للحياة الأخرى، التي هى الحياة حقّا.. كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64 العنكبوت) أما هذه الحياة الدنيا، وأما ما يتقلب فيه الناس منها، فهو فان لا بقاء له..
وقوله تعالى: «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» هو إلفات إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه الحىّ الباقي، الذي ينبغى أن تتجه إلى وجهه الوجوه، وتتعلق برضاه وكرمه الآمال، ويرجى عنده الخير كله.. فهو صاحب الملك، وبيده الخير، والفضل، والإكرام، لمن يقصدون وجهه، ويبتغون فضله وكرمه..
ويلاحظ أن صفة الجلال والكرم هنا، إنما كانت لوجه الله سبحانه، وذلك إشارة إلى أن الاتجاه إلى الله والإقبال عليه، من شأنه أن يفسح الطريق للعبد إلى رضاء الله، والإقبال عليه بوجهه سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى: «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى» (19- 21 الليل) .
والسؤال هنا هو: هل هذا الفناء المسلط على الحياة الدنيا وما فيها- هل هو نعمة من النعم، حتى يدعى الإنس والجن إلى الإقرار بها وشكرانها؟ ..
ونعم، فإن هذا الفناء للدنيا، هو نعمة من أجلّ النعم، إذ كان مدخلا إلى حياة باقية خالدة.. ولو أن أمر الناس كان إلى تلك الحياة الدنيا وحدها، وليس لهم حياة أخرى بعدها، لكان فى ذلك الخسران المبين الناس جميعا،. إذ أن أسعد الناس حظا فى هذه الدنيا هو مبخوس الحظ،(14/675)
إذا كانت حياته محدودة بهذه الحياة، وكان وجوده منتهيا عندها إلى الفناء الأبدىّ، بعد أن عانى الإنسان فى الحياة الدنيا ماعانى من آلام، وأحزان، وأمراض وشيخوخة، ونقص من الثمرات والأنفس! فالحياة على أية حال، وعلى أية صورة خير من العدم، إنها نعمة تستوجب الحمد والشكران لله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) .
ففناء الناس وموتهم نعمة، إذ أن هذا الموت- كما قلنا- هو مدخل إلى عالم الخلود، وبقاء الله سبحانه وتعالى، هو مجتمع النعم كلها، إذ أن بقاءه ضمان لوجود هذا الوجود..
فبأى هذه النعم يكذّب الثقلان.. الجن والإنس؟
قوله تعالى:
«يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
أي أن كل من فى السموات والأرض يسأل الله من فضله وإحسانه، سؤال الفقير إلى الغنىّ، والضعيف إلى القوى، ومن لا يملك أي شىء، لمن يملك كل شىء.
فكل من فى السموات والأرض مستمد من فضل الله، سأل أولم يسأل..
فإن لم يسأل بلسانه، فإن علم الله بحاله يغنى عن سؤاله.. وهذه المنن والعطايا التي تعيش فيها المخلوقات، وتحفظ عليها وجودها، هى من عند الله، ومن واسع رحمته، يجود بها عليها، سألت أو لم تسأل.. فالسؤال هنا كناية عن الحاجة، وكل مخلوق فى حاجة أبدا إلى عون الله، وإلى أمداد إنعامه وإحسانه..(14/676)
وقوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» ..
الشأن: الأمر، والحال..
أي إن الله سبحانه وتعالى، فى تصريف، وتدبير للخلق، فى كل يوم بل فى كل لحظة.. فذلك شأن المالك فيما ملك، والخالق لما خلق، لا يغفل أبدا عن ملكه، ولا يفتر أبدا عن تدبير شئون خلقه.. «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» (41. فاطر) ..
وليس ذلك بالأمر الذي يتكلّف الله سبحانه له جهدا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .. (255: البقرة) ..
فليس الوجود مجرد آلة تدور على وجه واحد، لا يتغير أبدا، بل هو فى كل آنة من آنات الزمن، بل فى كل فراغ بين الآنة والآنة- إن كان هنا فراغ- هو فى صورة غير الصورة التي كان عليها.. إنه فى تجدّد دائم، وفى حركة دائبة.. يقبدل أثوابا بأثواب، وأحوالا بأحوال.. دون أن يقع فى نظامه خلل أو اضطراب.. وهذا برهان على قدرة الخالق جلّ وعلا، وعلى أن على هذا الوجود إلها قادرا، عالما، حكيما، يغيّر فيه ويبدل كيف يشاء، مع احتفاظه بهذا النظام المحكم البديع.. ولو كان الوجود وجها واحدا لما قام منه شاهد أبدا على أن له مدبّرا يدبره، ويحكم أمره..
وننظر إلى الهرم الأكبر فى مصر مثلا، وهو أعجوبة من عجائب الدنيا، ومعجزة من معجزات الإنسان.. إن بقاءه على تلك الحال فى علوّه وشموخه منذ آلاف السنين، وإن شهد لبانيه بالقدرة، والبراعة، فإن هذا البقاء نفسه على تلك الحال التي قام عليها من أول يومه، هو ذاته شهادة وفاة لهذا الباني البارع،(14/677)
وإلّا لأحدث فيه شيئا يدلّ على أنه حى يعيش فى عالم الأحياء..
إن من شأن الكائن الحىّ أن يتحرك، ويعمل، ويؤثّر، وأن يبلى قديما ويلبس جديدا، وأن يأخذ كل يوم وضعا جديدا فى الحياة.. فهذا الذي يشهد بأنه حىّ، له وجود مؤثر فى الحياة..
والله سبحانه حى حياة أبدية سرمدية، بدليل هذا التحول المستمر فى عوالم الوجود، القائم عليه بسلطانه، خلقا وتدبيرا..
وفى معنى قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيما بروى عن أبى ذرّ: «إن من شأنه- سبحانه- أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين وليس هذا التبدل والتحول فى أحوال الناس، وفى صور الموجودات، هو مما يحدثه الله سبحانه حين يحدث، وإنما هى أمور واقعة فى علم الله القديم، مسطورة فى كتابه المكنون، فيظهر منها ما يظهر فى الوقت المقدور له، وعلى الصورة التي أرادها سبحانه وتعالى أزلا.. إنها أمور يبديها ولا يبتديها..
قوله تعالى:
«سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
الثقلان: الإنس والجن، وسميا بالثقلين، لأنهما ثقلا الأرض، كلّ يأخذ جانبا من كفتى ميزانها.. الإنس فى كفة والجن فى كفة.. عالم الظهور فى جانب، وعالم الخفاء فى جانب.. ومثل هذا «الملوان» وهما الليل والنهار، لأنهما يملآن الزمان كله، ويستوعبان كل آناته، ولحظاته.(14/678)
وقوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» كناية عن رقابة الله سبحانه وتعالى للجن والإنس، رقابة محكمة، بحيث لا يفلت أحد منهما من قبضته..
أمّا الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه أمر عن أمر.. ولكن فى قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ» ما يؤكد للجن والإنس أنهما تحت رقابة خاصة، على غير تلك الرقابة العامة القائمة من الله سبحانه وتعالى على الوجود كله، إذ هما- كما قلنا- المخلوقان اللذان يناط بهما التكليف، ويقعان تحت حكم المساءلة والحساب والثواب، وإذ كان الله سبحانه لا يحاسب غير هما- فيما نعلم- فكأن رقابة الله سبحانه وتعالى متجهة كلّها إليهم.. وهذا كله على التمثيل والتشبيه، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وهذا فضل من فضل الله تعالى، على الجن والإنس، إذ هما من بين المخلوقات على تلك الصفة التي تجعل لهما هذا الامتياز عن المخلوقات جميعها، والتي تجعلهما فى مقام الحضور بين يدى الله للمساءلة والحساب.. وهذا الحساب، وتلك المساءلة- على أي حال يكونان عليها، وإلى أية نهاية ينتهيان بمن يحاسب ويسأل- دليل على أهلية المحاسب المسئول، وعلى أنه له إرادة عاملة.. أما من لا يحاسب ولا يسأل، فلا تكاد تتضح ملامح شخصيته، ولا تبين له ذاتية ذات شأن وأثر..
وهذا الوجود على تلك الحال التي عليها الجن والإنس هو- كما قلنا- نعم جليلة من نعم الله.. فمن يكذب بهذه النعم، وهى تشكل وجوده، وتقيم كيانه، وترفع قدره فى العالمين؟
هذا، ويلاحظ أن ألف هاء التنبيه قد حذفت من قوله تعالى: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» فى خط المصحف العثماني.. فما حكمة هذا الحذف؟.(14/679)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
نقول- والله أعلم- إن ذلك الحذف هنا- مقصود من كتّاب المصحف، من صحابة رسول الله رضى الله عنهم، وهو- والله أعلم- إشارة إلى فهم خاص لهم، اقتبسوه من أضواء النبوة.. وهذا الفهم، هو أن خطاب الله سبحانه وتعالى الجن والإنس، وأنه قد فرغ لهم، وأقبل على حسابهم ومساءلتهم- يشير إلى أنهم هنا فى مقام حضور من الله سبحانه، وأنه سبحانه قريب من كل فرد منهم، قربا لا يدع لأحد فرصة للغفلة عن مراقبة الله تعالى له..
فهو فى حال حضور دائم، وإن كان غافلا، ومن ثمّ فلا يحتاج إلى تنبيه!!
الآيات: (33- 61) [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 61]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)
ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)(14/680)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
نداء إلى الجنّ والإنس، بأن يختبرا قوتهما وسلطانهما أمام قوة الله وسلطانه.. إنهما محاسبون ومسئولون بين يدى الله، كما جاء فى قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» .. وإنه ليس لهما ملجأ من الله إلا إليه.. فإن استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض فلينفذوا..
ولكن إلى أين؟ إنهم لا ينفذون إلى أي قطر من أقطار السموات والأرض، إلّا وهم واقعون تحت سلطان الله، مسيّرون به..(14/681)
فالباء فى قوله تعالى: «بِسُلْطانٍ» باء المصاحبة مثل قوله تعالى:
«وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» أو باء الاستعانة، مثل قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» ..
وأقطار السموات والأرض: جوانبهما، والقطر هو الخط الذي يصل بين طرفى الدائرة مارّا بمركزها..
وعلى هذا، فيكون معنى النفوذ من أقطار السموات والأرض، هو الانتقال من فلك إلى فلك، ومن كوكب إلى كوكب..
وفى التعبير بلفظ أقطار، عن نهاية كل فلك أو كوكب- إشارة إلى كروية الأفلاك والكواكب..
وهذا ما أثبته العلم الحديث من كروية الفلك، والنجوم، والكواكب، وأنّ الوجود كلّه دائرىّ..
وفى التعبير عن السموات بصيغة الجمع، وعن الأرض بلفظ المفرد- إشارة إلى أن السموات عوالم وأكوان بعضها فوق بعض، أو محيط بعضها ببعض، وأن الأرض عالم واحد، له قطر واحد.. وأما قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (14: الطلاق) فليست المثلية هنا فى العدد، وإنما هى من حيث اختلاف طبقات الأرض، التي تبدأ من وجه الأرض وقشرتها، إلى وسط المركز منها.. فقشرة الأرض تراب، وطين، ورمال وأحجار.. تم تلى ذلك طبقات، كل طبقة ذات طبيعة خاصة، وعلى درجة حرارة خاصة، تتكون منها المعادن، والجواهر.. من الحديد والنحاس، والذهب، والفضة، والألماس، وهكذا..
فالأرض واحدة فى كيانها وجرمها، وهى سبع فى طبقاتها، واختلاف(14/682)
طبيعة كل طبقة، ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز: «وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» ولم يجىء: ومن الأرضين مثلهن.. حيث تدل المثلية هنا فى التعبير غير القرآنى على مثلية العدد نصا أما التعبير القرآنى فالمثليّة فيه مثلية فى تنوع العوالم واختلاف المنازل.
قوله تعالى:
«يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
أي إذا استطعتم أن تنفذوا- معشر الجن والإنس- من أقطار السموات والأرض، بما مكّن الله سبحانه وتعالى لكم من سلطان- استطعتم به أن تخرجوا من فلك إلى فلك، وأن تنتقلوا من كوكب إلى كوكب- فإنكم لن تجدوا الحياة مهيأة لكم فى الفلك الجديد، أو الكوكب الذي انتقلتم إليه، إذ لا حياة لكم إلا على هذا الكوكب الأرضى.. أما الكواكب، والأفلاك الأخرى، فإنها نرسل عليكم شواظا من نارها، ورجوما ملتهبة من نحاسها.. «فلا تنتصران» أي فلا تحققان غاية النصر الذي طلبتموه من انتقالكم من عالمكم الأرضى إلى العالم العلوىّ.. إنكم أبناء هذه الأرض، مادمتم فيها..
والشواظ من النار: ألسنة اللهب المختلطة بالدخان.. وهذا يعنى أن بعض الكواكب نار ملتهبة، لا تزال فى دور الاحتراق، وبعضها فى دور الانصهار، فيقطر منها هذا السائل الناري من النحاس وبعضها فى دور الغليان لهذه المعادن المنصهرة.. وهكذا..
هذا، وقد نفذ الإنسان فى هذه الأيام من قطر الأرض، وخرج من سلطان جاذبيتها إلى القمر، ونزل على سطحه ومشى بقدميه(14/683)
فوق أديمه، مصطنعا لذلك الوسائل التي تحميه من لهيب القمر، فى النهار القمري، ومن برده القاتل فى ليله.. وإنه بغير هذه الوسائل لن يستطيع أن يمكث لحظة واحدة..
ومع هذا، فإن القمر أقرب كوكب إلى الأرض، والرحلة إليه لا تعدو أن تكون خطوة نملة على الأرض، فى محيط هذا الكون الرحيب!.
ومع هذا أيضا، فإنه- وهذا مقطوع به- لن تطيب حياة للإنسان على هذا الكوكب، ولن يعمر به أبدا!! أما عالم الجن، فإن له محاولاته لاختراق أقطار السموات، ولكنه لا يكاد يبلغ مدّى معينا حتى يجد المهلكات تنتظره، وترده خاسئا إلى الأرض.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» .. (17، 18: الحجر) ويقول سبحانه وتعالى على لسان الجن: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (8، 9: الجن) .
والسؤال هنا:
كيف يكون إرسال الشواظ من النار، والقذائف من النحاس الملتهب- كيف يكون إرسال هذه الرجوم على الجن والإنس آلاء ونعما، يدعوان إلى الإقرار بها، والشكر عليها؟.
والجواب: أن هذه الرجوم تحدّث عن تلك الحياة الميسرة التي يحياها الإنس والجن على الأرض، وأنه مما فى قدرة الله أن يحيل هذه الأرض إلى نار مثل هذه الكواكب التي ترمى بالشرر.. ولكنه سبحانه- جعل(14/684)
هذه الأرض بحيث تطيب فيها الحياة لساكنيها من الإنس والجن.. وهذا رحمة منه سبحانه، وإحسان، يقتضى الحمد والشكر لله رب العالمين..
قوله تعالى:
«فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
انشقت السماء: أي فتحت أبوابها. وذلك عند انتقال الثقلين- الجن والإنس- إلى العالم الآخر.. فعندئذ تتبدل حقائق الأشياء، فى نظر الجن والإنس، وتبدو السماء التي كانت مغلقة عليهم، وقد أمكنهم النفوذ إلى أقطارها، وهنا ترى الأشياء على حقيقتها لهم.. وهذه السماء التي تبدو فى لونها الأزرق، تأخذ عندهم لونا ورديا، أي أحمر داكنا، كالدهان، وهو الشحم حين يصهر، فيأخذ هذا اللون الوردي الداكن.. ذلك أن هذا اللون الأزرق الذي نراه فى جو السماء، ليس إلا انعكاسا لأشعة الشمس على الأرض.. فإذا صعد الإنسان فى الجو تغير هذا اللون فى مرأى العين، وأخذ صورا من الألوان التي يغلب عليها السواد.. فإذا خرج عن فلك الأرض لم ير إلا هذا اللون الأحمر، وهو اللون الذي يعلو جميع الألوان التي تبدو من تحليل الضوء خلال منشور زجاجى..
وهنا سؤال أيضا:
أين الآلاء التي تحدث عنها الآية الكريمة هنا؟ وإذا كان ما تحدث عنه آلاء، هى فى حيز الشرط الذي لم يأت جوابه بعد- فكيف يكون لها مفهوم بغير الجواب الذي يحكم الشرط، ويكشف عن مضمونه؟.(14/685)
والجواب على هذا- والله أعلم- أن مجرد انشقاق السماء، على أية حال، ولأية غاية، هو وحده دليل على قدرة الله، وعلى تمكن سلطانه فى هذا الوجود، وهذا- كما قلنا- نعمة من أجل النعم على المخلوقات إذ كانت قيومة الله على الوجود ضمانة وثيقة للمخلوقات جميعها، بأنها فى يد صانعها، ومدبر أمرها، وأنها بهذا لن يجار عليها، ولن تؤخذ بغير الحكمة والعدل، ولن تتلقى غير الفضل والإحسان..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن انشقاق السماء إيذان بالبعث، والحساب والجزاء.. وهذا أيضا نعمة من النعم الجليلة، إذ أنها أعادت المخلوقات- من إنس وجن- إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن ردها الموت إلى حال من العدم أو ما يشبه العدم.. والوجود- كما قلنا أكثر من مرة- هو فى ذاته خير من العدم، على أية صورة يكون عليها الموجود، وفى أي وضع يأخذه فى سلّم الموجودات..
«فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» ..
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
هذه هى الآلاء الجليلة، التي يشير إليها انشقاق السماء.. لمجرد الانشقاق..
فإذا كان وراء هذا الانشقاق غاية، كانت تلك الغاية آلاء أخرى جليلة مستغنية بذاتها، فإذا اتصلت بانشقاق السماء، كان ذلك آلاء إلى آلاء..
وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..(14/686)
أي فإذا كان هذا اليوم الذي تنشق فيه السماء، وهو يوم القيامة، كما يقول سبحانه: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (19، 20: النبأ) - إذا كان هذا اليوم، انقطعت الأعمال، وطويت الصحف على ما كان لأصحابها من عمل فى هذه الدنيا، فلا يحاسب مخلوق من الجن أو الإنس على ما يكون منه فى اليوم الآخر من قول أو فعل.. لقد انتهى زمن الامتحان والابتلاء.. فما يقوله أو يعمله المرء فى موقف الحساب لا يحسب له، أو عليه، حتى الذين يقع منهم فى هذا الموقف، مما يكون موضع ذم وعقاب فى الدنيا- كما يتلاعن المتلاعنون من أهل الضلال فى هذا اليوم- هو مما لا ينظر إليه فى الآخرة..
وفى الآية، إشارة إلى أن الجن يبعثون، ويحاسبون، كما يبعث الناس ويحاسبون..
واختصاص جانب الذنوب بالذكر هنا، دون جانب الإحسان- إذ كانت الذنوب فى هذا اليوم مما يتحاشاه أهل الموقف، ويفرون منه..
إنهم يطلبون السلامة، ويعضون أصابع الندم على ما فرط منهم فى الدنيا، فكيف يطوف بأحدهم طائف يدعوه إلى أن يرتكب ذنبا فى هذا المقام؟
ولكنه لو فرض- مع هذا- أن يقع من مذنب ذنب- وهو محال- فلن يحاسب عليه.. فقد طويت صحف الأعمال على ما كان فى عالم الامتحان والابتلاء..
هذا، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» - يجوز- والله أعلم- أن يكون أنه لا يسأل المذنبون عن ذنوبهم فى هذا اليوم سؤال مراجعة وعتاب، إذ لا نفع لهم من وراء هذه المراجعة، وهذا العتاب، حيث لا سبيل لهم إلى إصلاح(14/687)
ما أفسدوا، كما يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .. (57: الروم) .
ويجوز كذلك- والله أعلم- أن يكون المعنى، أنه فى هذا اليوم، لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال تعرّف على حاله، ولا على جنايته التي جناها، إذ كانت جنايته معلقة برقبته، يراها أهل الموقف جميعا، فلا يسأل من سائل: ما حاله فى هذا اليوم؟ إذ كانت سمته الموسوم بها دالة عليه، ناطقة بالمصير الذي هو صائر إليه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية التالية..
«يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
فعلى هذا المعنى الأخير، تكون هذه الآيات تعليلا لقوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» .. إذ لا فائدة من وراء هذه المساءلة والمراجعة.
أما على المعنيين الأول والثاني، فتكون الآيات مستأنفة..
والنواصي، جمع ناصية، وهى الرأس..
والمعنى، أنه إذ يعرف المجرمون بسيماهم، تتولى زبانية جهنم أمرهم، فتأخذ بنواصيهم وأقدامهم، أخذا عزيزا متمكنا، لا يدع لأحدهم أن يتحرك، فهو فى هذا الوضع أشبه بحجر، أو حصاة فى اليد، فيلقى به حيث يريد القابض عليه..
وإقامة موازين العدل بين المخلوقات، وأخذ المسيء بإساءته، هو من النعم التي تستوجب الحمد والشكر، من المحسنين والمسيئين على السواء..
إذ لم يؤخذ المحسنون بإساءة من أساءوا، وإذ كان فى عقاب المسيئين إحسان إليهم بتطهيرهم من هذا الرجس الذي علق بهم، وتصفية لجوهرهم من هذا الخبث الذي أفسد طبيعتهم.(14/688)
قوله تعالى:
«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
الإشارة إلى جهنم هنا، هى استحضار لها فى هذه الدنيا بين يدى المكذبين بها، وبالحساب وبالجزاء، حيث يشهدون أنفسهم وهم يطوفون بينها وبين حميمها..
والحميم الآن: ما ينبعث من النار من سموم، يشوى الوجوه.. فأهل النار إذا تحركوا فى جهنم، كانت حركتهم فيها على بحار من الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل منهم، كما يسيل الماء من القدور أثناء غليانها..
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - إشارة إلى هذه النعم التي يحدّث عنها هذا العذاب، الذي من شأنه أن يبعث فى النفوس الخشية من الله، والخوف من الوقوع فى هذا العذاب، فيستعدّ أصحاب العقول للقاء هذا اليوم، بالعمل الصالح الذي ينجيهم من الوقوع فى هذا البلاء.. على خلاف ما لو طلع هذا العذاب على الناس من غير أن ينذروا به، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى لبيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى أقوامهم من النذر، إذ يقول سبحانه: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ»
(56- 59 الزمر) وما يشير إليه قوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» (59: الإسراء) ..(14/689)
قوله تعالى:
«وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
وهذا من ثمرة الخوف من الله، ومن الوقوف بين يديه يوم القيامة، ذلك الخوف الذي يدخل على الإنسان من هذه النار التي أعدّت لأهل الشرك والضلال.. فمن عرف أن هناك حسابا وجزاء يوم القيامة، وأن هناك نارا أعدّت للكافرين وللضالين، وخاف حساب الله وعقابه- نجا من هذا البلاء، بإيمانه بالله، وتجنبه ما يغضبه، واستقامته على سبيله المستقيم، وكان له الجزاء الحسن عند ربه، فأوسع له من فضله وإحسانه، وأدخله الجنة يتبوأ منها حيث يشاء.. فهى جنة فسيحة لا حدود لها، عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين..
والتعبير عن الجنة بالجنتين، إشارة إلى اتساعها، وقد جاء فى القرآن الكريم لفظ الجنة، والجنتين، والجنات، كما يقول سبحانه: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (32: النحل) وكما يقول سبحانه: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (23: إبراهيم) ..
فالجنة، جنات فى اتساعها وامتدادها.. والجنات، جنة فى طيب ثمارها، ووفرة النعيم فيها..
ويجوز أن تكون الجنتان، جنة للإنس، وجنة للجن.. أي ولمن خاف مقام ربه من عالم الإنس وعالم الجن ثواب حسن، ثم بين هذا الجزاء بأنه جنتان، ينزل كل محسن من الفريقين فى جنته منهما..
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلفات إلى هذه النعم التي(14/690)
يجدها من يدخل هذه الجنة، على أية صورة تكون عليها.. فكيف، وهى على هذه الصفات التي وصفها الله سبحانه وتعالى بها؟ إن كل وصف لهذه الجنة الرحيبة الفسيحة، هو نعم مجددة، تضاف إليها، وتستدعى واجب الحمد والشكر لله رب العالمين..
قوله تعالى:
«ذَواتا أَفْنانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
فهاتان الجنتان ذواتا أفنان، والأفنان، جمع فنن، وهو الغصن المورق.
فالجنتان ذواتا أغصان مورقة، وهذا يعنى أن لأشجارها ظلّا ممدودا..
فالظل نعيم من نعيم الجنة، حيث يطيب الهواء، ويعتدل الجو..
كما يقول سبحانه:
«وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (27- 30: الواقعة) ..
قوله تعالى:
«فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
ومن صفات هاتين الجنتين أن فيهما عينان تجريان، بالماء العذب الرقراق..
وهذا الماء السلسبيل المتدفق من العيون الجارية، هو نفسه نعمة، إلى جانب نعمة الجنة، وإلى ظلها الممدود.. فمن يكذب بهذه النعم المتظاهرة، ويجحد فضل الله وإحسانه بها؟.(14/691)
قوله تعالى:
«فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
ومما فى هاتين الجنتين كذلك، هذا الثمر الطيب الجنىّ،. وهو ثمر متزاوج، أي مؤتلف، يشبه بعضه بعضا فى حسنه، وطيبه، وإن اختلفت طعومه، وتعددت مذاقاته، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه:
«كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (25: البقرة) .. وقيل إن معنى: «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» ..
أي كل صنف من أصناف الفاكهة يرد على أهل الجنة، يجيئهم فى صورتين، صورة لما كانوا يعرفونه فى الدنيا، وصورة لما هو من حقيقة ثمار الجنة، وبهذا يظهر لهم ما بين الفاكهتين من بون شاسع، وفرق بعيد، وهذا مما يحدّث عن فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، فى هذا المنزل الكريم الذي أحلهم الله سبحانه وتعالى فيه..
قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
وفى هاتين الجنتين، وتحت أفنانهما المورقة، وظلالهما الممتدة، وفاكتهما التي تجمع بين فاكهة الدنيا وفاكهة الآخرة- فرش بطائنها أي حشوها من إستبرق، أي حرير، مهيأة ليتكىء عليها أهل الجنة، اتكاء استرواح، واسترخاء، واطمئنان..
والإستبرق: الديباج..(14/692)
وفى قوله تعالى: «وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» - استدراك لما قد يقع فى الوهم من أنّ اتكاءهم على هذه الفرش، مما يباعد بينهم وبين ثمر هذه الجنة التي يتكئون تحت ظلالها، فإذا أراد أحدهم أن ينال من هذا الثمر شيئا، اضطر إلى أن يتحول عن هذا الوضع المريح له، وجلس، أو وقف، لينال الثمر الذي يريده.. وكلّا، فإن الثمر دان بحيث لا يتكلف له المتكئ شيئا، بل هو حاضر بين يديه، بتخير منه ما يشاء، متكئا، أو مضطجعا، أو نائما..!
والجنى: الثمر الناضج، وهو ما يجنى من شجره، ومنه الجنين، وهو ثمرة الحيوان، ويسمى بيض الطير جنّى لهذا المعنى..
قوله تعالى:
«فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
وفى هاتين الجنتين كذلك، حور قاصرات الطرف، أي قصرن أعينهن عن النظر إلى غير ما أحل الله لهن، تقىّ وحياء وعفّة.. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» أي لم يقربهن، ولم يغش حماهنّ أحد من الإنس أو الجنّ، قبل أزواجهن الذين زففن إليهم فى الجنة، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» (35- 38: الواقعة) .
وفى إعادة الضمير جمعا على الجنتين فى قوله تعالى. «فِيهِنَّ» بدلا من «فيهما» إشارة إلى أن هاتين الجنتين، جنات فى سعتهما، وامتدادهما..
فهما- كما قلنا من قبل- جنة، وجنتان، وجنات..
والطمث: دم الحيض، والطامث: الحائض، ويسمى افتضاض البكر طمئا..(14/693)
قوله تعالى:
«كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
هو وصف لهؤلاء الحور، بالنقاء والصفاء، بعد وصفهن بالعفة والحياء..
والياقوت والمرجان، حجران كريمان، صافيان صفاء البلور، ولكنهما مع هذا الصفاء مشربان بحمرة، ليست فى البلور، ولهذا كان تشبيه الحور بهن أبلغ وأصدق، لما يجرى فى بشرتهن من دم الشباب، الذي يشرق منه هذا الشعاع الشفقى على وجوههن! هذا ويلاحظ أن الجنتين اللتين وعدهما الله الذين يخافون مقام ربهم، قد عرضتا فى هذا العرض المفصل، الذي يحدّث فى كل مقطع من مقاطعه عن نعم الله وآلائه، التي يحملها هذا المقطع، والتي تدعو الثقلين- الإنس والجن- إلى الوقوف بين يديها، وإنعام النظر فيها، ثم تحديد موقفهم منها.. وهل يشكرون أم يكفرون؟ ..
وفى هذا التفصيل، إشارة إلى أن أىّ نعمة من نعم الله، وإن بدت فى العين صغيرة، لا يكاد يلتفت إليها الناس، ولا يقدرونها قدرها- هى فى حقيقتها نعمة جليلة، تضم فى كيانها نعما جليلة أيضا.. وهذا هو بعض السرّ فى هذا التعقيب عقب كلّ نعمة بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
قوله تعالى:
«هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
أي أن هذا النعيم الذي يفاض من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين فى الجنة- هو جزاء إحسانهم فى الدنيا، وخوفهم مقام ربهم، كما يقول سبحانه عنهم:(14/694)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (15- 19: الذاريات) ..
وإذا كان هؤلاء المحسنون قد أحسنوا العمل، فإن هذا النعيم الذي هم فيه لا يعدله إحسان المحسنين، مهما بالغوا فى الإحسان، وإنما هو فضل من الله عليهم، ومضاعفة للجزاء الحسن، الذي كانت أعمالهم الحسنة مدخلا إليه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (26: يونس) ..
الآيات: (62- 78) [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)(14/695)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
أي ومن دون هاتين الجنتين اللتين ذكرهما الله سبحانه وتعالى فى قوله جلّ شأنه: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» - أي ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان، أنزل منهما درجة، وأدنى منزلة، وإن كان ما فيهما من النعيم ممّا لا يحيط به وصف، وإن القطرة منه لتوازى ما عرف الناس جميعا من نعيم الدنيا..
وهذا يعنى أن أهل الجنة ليسوا على درجة واحدة.. وهذا طبيعى، إذ لم يكن المحسنون على درجة سواء فى الإحسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ» (163: آل عمران) وقد جاء بيان ذلك فى سورة «الواقعة» التالية لهذه السورة، وفيها يقول سبحانه: «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (7- 11: الواقعة) .. فالناس فى الآخرة، على ثلاثة أحوال: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون من أصحاب اليمين وكل حال من تلك الأحوال الثلاثة درجات كثيرة، يختلف بعضها عن بعض، صعودا ونزولا..
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - إشارة إلى أن هاتين الجنتين، مجردتين من أي وصف، هما نعم جليلة من نعم الله، لمن ظفر بدخولهما.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) .. وأي فوز أعظم من النجاة من النار، ولو كان فى الحياة بالعراء؟ فكيف بالنجاة من(14/696)
النار، ثم دخول الجنة، والفوز بنعيمها؟
قوله تعالى:
«مُدْهامَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
هذا وصف لما فى هاتين الجنتين من أشجار، وهى أشجار متشابكة الأفنان، وإن لم يكن فى ظلها هذا الصفاء البلورى. وإنما فى ظلها شىء من الكثافة التي تجعل الظل ذالون أدهم، كلون الشفق عند الغروب.. وهذا الظل هو نعمة، بل نعم تضاف إلى هاتين الجنتين، وتستوجب الحمد والشكر ان لله رب العالمين..
قوله تعالى:
«فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
النضخ، والنضح، بمعنى، إلا أن النضخ أكثر إعطاء للماء من النضح..
كما يشعر بذلك ثقل الخاء، وخفة الحاء، فعلى مقدار وزن كل منهما يكون قدر كلّ من النضخ والنضح من الماء..
أي أن فى هاتين الجنتين عينى ماء تضخان الماء ضخا، فى دفعات متتالية، ولا ترسلانه متدفقا كهاتين العينين اللتين فى الجنتين السابقتين، كما يقول سبحانه:
«فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» ..
وليس هذا عن ضنّ من الله سبحانه وتعالى، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وإنما هو عطاء يفرّق فيه بين أهل الإحسان، حيث ينزل كل منهما منزله الذي هو أهل له، وذلك هو عدل الله، الذي يجرى مع إحسانه، ويضبط موازينه..(14/697)
قوله تعالى:
«فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
وهذا فرق آخر بين الجنتين العاليتين، وبين الجنتين اللتين دونهما، وذلك فى ثمار الجنتين، هنا وهناك.. فالجنتان العاليتان «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» ..
فهما يحويان كل فاكهة معروفة وغير معروفة، مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ» .. وهاتان الجنتان الأخريان «فِيهِما فاكِهَةٌ.. وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» إن فيهما فاكهة، ولكن لا على سبيل الشمول، كما فى وصف الجنتين العاليتين فى قوله تعالى: «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ» .. ومن فاكهتهما النخل والرمان.. ومع أن ثمر النخل والرمان ليس أكرم الثمر ولا أطيبه، ولكنه إذا كان من ثمر الجنة، فهو من الطّيب والكرم، بحيث تعدل الثمرة منه فواكه الدنيا وثمرها جميعا..
قوله تعالى:
«فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
أي فى هاتين الجنتين خيرات، ومع أن الخيرات مستغنية عن الوصف بذاتها، لأنها خيرات لا يجىء منها إلا كل ما هو خير، فقد وصفت بأنها حسان، تحقيقا لكمال الخيرية فيها، ومحضها للخير الخالص، وعزلها عن الخير الذي يشوبه شىء مما يكدّر صفوه، إذ كثيرا ما يشوب الخير ما ليس منه.. ولهذا كانت هذه الخيرات الحسان التي تطلع على أصحاب هاتين الجنتين- آلاء تحمد وتشكر، على أية صورة كانت عليها، وعلى أي وجه تجىء به، وحسبها أنها خيرات، وخيرات حسان!! يكرم الله سبحانه بها، المكرمين من عباده..(14/698)
قوله تعالى:
«حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
فإذا انكشف وجه هذه الخيرات الحسان، كنّ حورا مقصورات فى الخيام.. يقابلن هؤلاء الحور اللائي فى الجنتين العاليتين واللاتي ذكرهن الله سبحانه وتعالى فى قوله:
«فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» .. وإنه لفرق بين هؤلاء وأولئك، وإن كن جميعا على صورة من الحسن والجمال لم تقع العين على مثلها..
ففى قوله تعالى: فى حور الجنتين العاليتين «قاصِراتُ الطَّرْفِ» إشارة إلى ما فى هؤلاء الحوريات من خفر، وحياء، وعفة، وأن ذلك فى أصل خلقهن.. وفى قوله تعالى: فى حور الجنتين الأخريين: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» - إشارة إلى أن هؤلاء الحوريات قد قصرتهن الخيام وحجبتهن عن العيون، وحجبت العيون عنهن.. وهذا لا يمنع من أن يكون لهن ما لأخواتهن من الخفر والحياء..
ولكن شتان بين خفر وحياء مطلقين، وخفر وحياء مقصورين، مقيدين.. ذاك قد امتحن وجرب، فظل ثابتا، لم تنل منه التجربة والامتحان، وهذا لم يمتحن ولم يجرب بعد!.
وقوله تعالى: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» هو بدل مبيّن لقوله تعالى: «خَيْراتٌ حِسانٌ» فالخيرات الحسان، هن أولئك الحور المقصورات فى الخيام..
والحور: جمع حوراء، وهى ما طاف بمقلتيها طائف من السواد(14/699)
الطبيعي، أشبه بالكحل، يزيد العيون حسنا، ويلقى عليها فتنة وسحرا..
يقول جرير:
إن العيون التي فى طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا!
قوله تعالى:
«لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .
مضى تفسير هذه الآية فيما سبق..
قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ..
هو مقابل لقوله تعالى فى وصف حال أهل الجنتين العاليتين: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» ..
الرفرف: المسند، ووصف بلفظ الجمع «خضر» - إشارة إلى أن لكل من أهل الجنة مسندا خاصا يتكىء عليه.. والمساند جميعها ذات لون واحد.. فهى مفردة فى صفوفها، جمع فى لونها..
والعبقرىّ: الجيد من البسط: الخارق للعادة فى دقة صنعه..
والعبقري: نسبة إلى «عبقر» - وهو واد كانت العرب تعتقد فى جاهليتها أنه موطن الجن، وإلى الجن تنسب الأعمال الخارقة التي تتجاوز حدود الطاقة البشرية، ومنه سمى «العبقري» وهو الذي يجىء فى أفعاله بالخارق والمعجز لغيره.
وهنا فرق آخر يظهر فى متّكأ أصحاب كلّ من الجنتين العاليتين، والجنتين الواقعتين تحتهما..(14/700)
فعلى حين يتكىء أصحاب الجنتين الأوليين على فرش بطائنها من ديباج، وحشوها من حرير، وعلى حين أن هذا الاتكاء لا يباعد بينهم وبين ثمر الجنة الذي يكون بين أيديهم فى أي وضع يكونون عليه، كما يقول سبحانه: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» - يكون متكأ أصحاب الجنتين الأخريين على رفارف أي مساند خضر، لم تعرف المادة المشكلة منها.. أهى حرير أم غير حرير، وإن عرف أن هذه المساند مبثوثة على بسط حسان، كما لم يعرف إن كان هذا الاتكاء يباعد بين المتكئين وبين ثمر الجنة، فلا تناله أيديهم إلا إذا غيروا من وضعهم، واعتدلوا فى جلستهم.. أم أنهم ينالونه من قريب؟.
ونعود مرة أخرى فنقول، إن هذه التفرقة بين حال أصحاب الجنة، هى أمر لازم، يقضى به عدل الله، فكما فرق هذا العدل بين المحسنين والمسيئين، فأنزل هؤلاء الجنة، وأنزل أولئك النار- كذلك فرق هذا العدل بين المحسنين أنفسهم، فأخذ كلّ منهم منزلته حسب إحسانه.. وبهذا يعمل المحسنون على أن يزدادوا إحسانا. حتى لا يقصّر بهم سعيهم، ويسبقهم السابقون إلى الدرجات العلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» (132: الأنعام) .
قوله تعالى:
«تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» .
وبهذه الآية الكريمة، تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها هذا اللقاء المبارك الميمون الذي يزاوج بين رحمة الرحمن، وكرم الكريم.. فلقد بدئت السورة بالاسم الجليل «الرحمن» .. وختمت بالتبريك لهذا الاسم العظيم، الذي يتجلى على عباده بجلاله، وعظمته وكرمه!.(14/701)
فالاسم المشار إليه فى قوله تعالى: «تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ» هو هذا الاسم الكريم «الرحمن» الذي بدئت به السورة، والذي عرضت فيه آياتها آلاء الله ونعمه التي أفاضها على عباده، وكان من حق كل نعمة منها أن يلقاها الثقلان بالحمد والشكر، وإن كان حمدهما وشكرهما لا يقوم بحق نعمة منها..
ولهذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي بارك نفسه، وحمد ذاته، ليجبر تقصير العباد، وليؤدى عنهم هذا الدّين الذي عجزوا عن أدائه، حتى لا يقطع عنهم أمداد هذه النعم، ولا يأخذهم بعجزهم وتقصيرهم عن أداء حق شكرها وحمدها.. فسبحانه، سبحانه، من رب رحمن، رحيم، كريم.. يوالى النعم على عباده، ثم يقوم عنهم بأداء الشكر عليها، والحمد لها..
يقول الإمام النسفي: كررت هذه الآية- أي «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إحدى وثلاثين مرة، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة، ثمانية فى وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى (أي المذكورات فى أول السورة) وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة، وأغلقت عنه أبواب جهنم، نعوذ بالله منها..(14/702)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
56- سورة الواقعة
نزولها: مكّية عدد آياتها: ست وتسعون آية
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «الرحمن» السابقة على هذه السورة معرضا جامعا لآلاء الله سبحانه وتعالى على عباده، من جنّ وإنس، ابتداء من خلقهم، وعلى امتداد مسيرتهم فى الحياة الدنيا، وتقبلهم فى شئونها، إلى موتهم، وبعثهم، وحسابهم، وإنزالهم منازلهم- حسب أعمالهم- فى الجنّة أو النار..
وقد تضمنت السورة- سورة «الرحمن» - عرضا مبسوطا، مفصّلا لنعيم الجنّة، ومنازل أهلها من هذا النعيم، حسب أعمالهم كذلك- فجاءت سورة الواقعة، مبتدئة بالكشف عن وجه يوم الجزاء، وأنه واقع لا شك فيه..
ثم جاءت بعد هذا لتؤكّد ما تقرر فى سورة «الرحمن» من اختلاف أحوال الناس، فى هذا اليوم، وتباين درجاتهم.. فى الجنة، ودركاتهم فى النار.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات (1- 26) [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)(14/703)
التفسير قوله تعالى:
«إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» جملة شرطية وجوابها..
ووقوع الواقعة، مجيئها، وحدوثها، والواقعة، القيامة، وسميت وسميت واقعة لأنها تقع فجأة على غير انتظار.. وكلّ شىء يحمل نذر الشّرّ يعبّر عن مجيئه بالوقوع، كأنه يسقط على الناس من فوق، فلا يملكون له دفعا، كقوله تعالى: «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» (85: النمل) وقوله سبحانه: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» (134: الأعراف) وقوله جل شأنه: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ» (82: النمل) ..
ووقوع يوم القيامة إيذان بدخول الناس فى تجربة قاسية. وفى امتحان(14/704)
عسر.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (2: الحج) .
وقوله تعالى: «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» - هو جواب الشرط: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» أي أنه إذا وقعت الواقعة، فليس هناك من يكذّب بها من هؤلاء الذين كانوا ينكرون البعث والقيامة ويكذبون من يحدثهم عنه، لأنهم يكونون حينئذ أمام واقع مشهود، لا سبيل إلى إنكاره والمكابرة فيه..
قوله تعالى:
«خافِضَةٌ رافِعَةٌ» .. أي هى خافضة ورافعة لأقدار الناس ومنازلهم، حيث ينزل كل إنسان منزله فى هذا اليوم.. فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.
قوله تعالى:
«إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» .
هذه الآيات، هى بيان لما يقع فى هذا اليوم من أحداث، وكأنها جواب عن سؤال هو: متى تقع الواقعة؟ فجاء الجواب لا لبيان وقتها، وإنما لبيان الأهوال التي تطلع على الناس منها، فذلك هو المهمّ فى هذا الأمر، وهو الذي ينبغى الالتفات إليه، والإعداد له، والعمل على النجاة منه.. أما الوقت الذي تقع فيه الواقعة، فليس بالأمر المهمّ، بعد أن تأكد أن وقوعها آت لا شكّ فيه. وإنما المهم هو الاستعداد للقاء هذا اليوم، الذي لا مفر منه.
ففى هذا اليوم ترجّ الأرض رجّا، أي تضطرب اضطرابا شديدا لما يجرى عليها من أحداث، حيث تندكّ الجبال، وتخر متداعية، متناثرة، فلا يبقى(14/705)
منها حجر على حجر، بل إن هذه الأحجار تتحول إلى ذرات تذروها الرياح كأنها العهن المنفوش.
فقوله تعالى: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» أي طحنت طحنا.
وقوله تعالى «فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» أي صارت ذرات منتثرة فى الفضاء، كالغبار المتطاير مع الرياح..
هذا، وقد قلنا فى أكثر من موضع إن هذا التبدل الذي يبدو من عوالم الوجود وكائناته، إنما هو لتبدّل موقف الإنسان من هذه العوالم، ولما تحدث من اختلاف بعيد بين معطيات جوارحه فى الدنيا، ومعطياتها فى الآخرة، حيث تنكشف له حقائق الموجودات.. إنّ الإنسان فى هذه الدنيا يرى من الأمور ظواهرها، وظلالها، ولكنه فى الآخرة يرى صميمها وحقيقتها..
فرجّ الأرض رجّا، هو ما تراه العين يوم القيامة، من وضع الأرض، حيث تبدو على حقيقتها، كرة معلقة فى الفضاء، تجرى فى سرعة عظيمة، أشبه «بالبالونة» بين يدى الريح.
وبثّ الجبال بثّا، حتى تكون كالهباء المنبث، المنتشر، هو ما تراه العين من الجبال. على مدى بعيد منها، حيث تبدو الجبال، وكأنها فى صغرها الهباء المبثوث.
وقوله تعالى: «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» إشارة إلى ما يكون عليه الناس يومئذ، وهو أنهم يتناثرون، ويتفرقون فرقا ثلاثا، كل فرقة تجتمع إلى بعضها أزواجا، جن وإنس، أو ذكر وأنثى.
قوله تعالى:
«فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» .(14/706)
هو بيان للأزواج الثلاثة التي يضمها المحشر يومئذ من عالمى الجن والإنس، أو من ذكور الناس وإناثهم.
فأصحاب اليمين فى جانب، وأصحاب الشمال فى جانب، والسابقون فى مكان فوق هؤلاء وأولئك جميعا.
وفى قوله تعالى: «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» .. استفهام يراد به إلفات الأبصار إلى أصحاب الميمنة، والإشارة إلى مكانهم الذي ينعمون هم فيه، وما يظلهم هناك من أمن وسكينة.
وفى قوله تعالى: «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» - استفهام يراد به كذلك إلفات الأبصار إلى أصحاب المشئمة، والإشارة إلى مكان هؤلاء المناكيد، وما يغشاهم فيه من همّ وبلاء.
والميمنة، من اليمن، والبركة..
والمشئمة، من الشؤم، وسوء الحال.
والسابقون، هم أهل السابقة إلى الإيمان فى كل أمة، ممن سبقوا إلى الإيمان بالله، والاستجابة لرسل الله.. فهؤلاء فى مكان مكين عند الله، لا يكاد يلحقهم فيه أحد ممن يجىء بعدهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» ! (10: الحديد) وفى تكرار السابقين فى قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» . إشارة إلى هذا المقام المكين الذي لهم عند ربهم، وأنهم فى هذا المقام، لا يتحولون عنه، وهو مقام السبق أبدا.
فالسابقون الأولى مبتدأ، والسابقون الثانية خبر، أي السابقون هم السابقون دائما أبدا.(14/707)
وفى تعريف طرفى الجملة- المبتدأ والخبر- ما يفيد القصر.. أي قصر السبق عليهم وحدهم، وأنهم كما سبقوا إلى الإيمان بالله فى الدنيا، سبقوا إلى الله سبحانه فى الآخرة، وكانوا أول من ينزل ساحة فضله ورضوانه.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» إشارة إلى هؤلاء السابقين، وإلى هذا المقام الكريم الذي أحلهم الله سبحانه وتعالى فيه يوم القيامة، وأنهم هم أهل القرب من الله سبحانه.
وقوله تعالى:
«فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» هو بيان للحال التي يكون عليها هؤلاء السابقون المقربون.. فهم فى جنات النعيم، على سرر «موضونة» أي مطرزة، ومكللة.
وهم على هذه السرر فى حال من الطمأنينة، والأمن، والرضوان، حيث يتكئون على هذه والسّرر اتكاء استرواح واسترخاء، يقابل بعضهم بعضا، وينظر بعضهم إلى بعض، فيرى كل منهم فى وجه أصحابه نضرة النعيم، فيزداد نعيما ورضوانا، بهذا النعيم، وذلك الرضوان، الذي يراه وقد فاض على كل من حوله.
وقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» - إشارة إلى أن أهل السبق هؤلاء، الذين ينعمون بهذا النعيم، هم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ» ..
والثلة: الجماعة الكثيرة من الناس، وهم أولئك الذين سبقوا إلى الإيمان من كل أمة، فكانوا بهذا أشبه بالأعلام المنصوبة، يقتدى الناس بهم، ويأخذون(14/708)
طريقهم.. فهم الذين ارتادوا لأقوامهم الطريق إلى الإيمان، واحتملوا مع الرسل سفه السفهاء، وجهل الجاهلين من أقوامهم.. فكان لهم بهذا فضل لا يشاركهم فيه. إلا أفراد قليلون ممن جاءوا بعدهم.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» - مبينا أن من يلحق بهم من بعدهم هم قلة بالنسبة إليهم.. إذ كان ذلك المقام لا ينال إلا فى صحبة الرسل. أو من تبلغ به تقواه، ومجاهدته أن يكون مجدّدا لدعوة الرسول، متابعا لشريعته، خطوة خطوة..
قوله تعالى:
«يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» أي يمر عليهم، وهم فى متكئهم هذا- «وِلْدانٌ» ، أي غلمان «مخلدون» أي خالدون فى هذا الشباب الدائم، الذي لا يتحول أبدا.. فهم مخلدون فى حالهم تلك، كما يخلد أهل الجنة فى الجنة، وأهل النار فى النار.. أو أنهم مخلدون، أي تزين آذانهم بقروط من كريم المعادن، ونفيس الجواهر.
والأكواب: جمع كوب، وهو ما كان من الآنية بغير عروة.
والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان ذا عروة يمسك به منها.
والكأس: الإناء الذي يشرب فيه الخمر، ولا يسمى كأسا إلا إذا كان فيه الشراب..
والمعنى أن هؤلاء الولدان المخالدين الذين يلبسون ثوب الصبا أبدا، والذين تزين آذانهم بالقروط، دلالا وتنعما- يطوفون على هؤلاء المقربين بأكواب، وأباريق، وكئوس من معين، أي من عيون جارية من الخمر..
وفى جمع الأكواب، والأباريق، وإفراد الكئوس- إشارة إلى أن الأكواب والأباريق، هى التي تحمل الشراب لأهل المجلس، فإذا انتهى الولدان(14/709)
إليهم ملئوا لكل كأسه الذي يشرب منه، ولم يجيئوا إليهم بها مملوءة جميعها مرة واحدة.. ومثل هذا قوله تعالى: «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (17: الإنسان) وقوله سبحانه: «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» (23: الطور) .
قوله تعالى:
«لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» أي لا يصيبهم من شرب هذه الخمر ما يصيب شاربى خمر الدنيا من صداع، إذا جاوز الشارب قدرا معينا منها.. فهذه الخمر التي تقدّم لهؤلاء السابقين المقربين، لا يصيبهم منها هذا الصداع مهما شربوا منها، ومهما علّوا ونهلوا.
وقد ضمّن «يصدّعون» معنى الفعل «يصرفون» من غير أن يزايله المعنى الأصلى الذي له، وهو الصداع.. والمعنى أنهم لا يصرفون عن هذه الخمر بسبب صداع يصيبهم منها.. وهذا إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.
وقوله تعالى: «وَلا يُنْزِفُونَ» أي لا يستهلكون لذتهم فيها يشرب ما يشربون منها، كما يحدث ذلك لشارب خمر الدنيا.. حيث تذهب لذة مدمنها بعد قدر محدود منها، بل إن لذتهم باقية أبدا، وإن ظلوا فى شرب دائم لا ينقطع.
وهذا هو بعض الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فإن نعيم الدنيا- أو ما يسمى نعيما- إذا ناله المريء وأخذ منه حاجته، زهد فيه، وأصبح أىّ قدر يناله منه بعد هذا، مبعثا للألم، بل وضربا من العذاب.. أما نعيم الجنة، فإن لذته لا تنفد أبدا، ولا تنقطع شهوة المتصل به على امتداد الأزمان والآباد.. بل إنه كلما ازداد تناولا للشىء تجددت له لذات جديدة معه..
قوله تعالى:
«وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ» ..(14/710)
أي ويطوف عليهم الولدان المخلدون كذلك بفاكهة كثيرة مختلفة، يتخيرون منها ما يشاءون..
قوله تعالى:
«وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» ..
أي ويطوف عليهم الولدان بأنواع من لحوم الطير، مما تشتهيه أنفسهم وتطلبه..
قوله تعالى:
«وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» ..
أي وتقبل عليهم، وتدعوهم إليهن «حور عين» ..
والحور جمع حوراء، وهى التي فى عينيها حور، وهو سواد فى جفن العين يزيدها جمالا وفتنة..
والعين: جمع عيناء، وهى واسعة العينين، فى جمال باهر، وسحر آسر..
وقوله تعالى: «كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» .. أي متشابهات فى حسنهن، وكمالهن، حتى لكأنهن حبات اللؤلؤ المصون، الذي لم يتغير لونه بالتعرض للشمس أو الهواء..
قوله تعالى:
«جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
أي أن كل هذا النعيم الذي يساق إلى هؤلاء المقربين، إنما هو جزاء لما كانوا يعملون فى دنياهم من أعمال قائمة على ميزان الحق، والعدل، والإحسان..(14/711)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قوله تعالى:
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» ..
أي وفى هذا المجلس الكريم، الذي يضم أهل السبق والإحسان، والذي لا ينظرون فيه إلا وجوها مشرقة بنضرة النعيم، ولا يرد عليهم فيها إلا ولدان مخلدون يقومون على خدمتهم، وإلا حور عين مهيئين لهم- فى هذا المجلس الكريم، لا يسمع أهله لاغية، ولا سخفا من لغو القول وهزله، وإنما يسمعون قولا كريما، هو «سلام» ، سلام، من ربهم، أو من الملائكة الذين «يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» أو مما يلقى به بعضهم بعضا من تحية كلها سلام فى سلام..
فالاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» - هو استثناء منقطع..
أو هو استثناء متصل يحمل معنى بلاغيا، هو تأكيد المدح بما يشبه الذم..
أي أنه إذا كان هناك من لغو أو تأثيم يسمعه أهل هذا المجلس الكريم، فهو هذا القول الذي يقال لهم فى هذا المقام، وهو: سلام، سلام.. فإذا كان هذا هو اللغو والتأثيم، فكيف بما لا لغو فيه ولا تأثيم؟ وهذا غاية فى تنزيه مجلسهم، وحفظ أسماعهم من أن يطوف بها شىء من اللغو أبدا..
الآيات: (27- 40) [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)(14/712)
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لحال الفريق الثاني، من أهل المحشر، وهم أصحاب اليمين، الذين ينزلون الدرجة الثانية من الجنة، بعد أن ظفر السابقون بالمنزلة الأولى منها..
وسمّوا أصحاب اليمين، لأنهم أوتوا كتبهم بأيمانهم، وكان هذا من أول البشريات لهم فى الآخرة، كما يقول سبحانه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» (7- 9: الانشقاق) ..
فهؤلاء، يحاسبون حسابا يسيرا.. أما السابقون المقربون، فيدخلون الجنة بغير حساب.. ومن هنا كان هذا التفاوت بين الفريقين فى منازلهم من الجنة..
وهؤلاء- أي أصحاب اليمين- «فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ» .. والسدر، هو شجر النبق، والمخضود الذي لا شوك فيه.. «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ» .. والطلح، هو الموز، والمنضود: المنتظم فى حبات، أشبه بالعقود.. «وَماءٍ مَسْكُوبٍ» أي ماء يجرى بلا حواجز ولا أودية، بل يسيح متحررا من كل قيد.. ومن هذا المعنى سميت بعض الخيل باسم: «سكاب» .. «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» أي أنهم يجدون بين أيديهم فاكهة كثيرة، لا تنقطع فى أي زمن، ولا تمنع عنهم عند أي طلب واستدعاء.. «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» أي عالية..
قوله تعالى:
«إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» ..(14/713)
أي ومما يجدء أهل اليمين بين أيديهم- هؤلاء الحوريات، اللائي أنشأهن الله إنشاء، من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، لا يلدن، ولا يحضن، حتى لكأنهن فتيات لم يبلغن مبلغ النساء، وإن كن ناضجات، مكتملات الخلق..
وقوله تعالى: «عربا» أي راغبات فى أزواجهن، محببات إليهن..
وفى هذا احتراز من أن يقع فى التصور أنهن صغيرات، غير ناضجات لا يستجبن للرجال، مما يمكن أن يوحى به قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً» .. والعرب: جمع عروب..
وقوله تعالى: «أترابا» - جمع ترب- وهن المتماثلات حسنا، وجمالا، وشبابا..
وقوله تعالى: «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» متعلق بقوله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء..
الآيات» أي أنشأناهن على تلك الصفة لأصحاب اليمين، ينعمون بهن، ويأنسون إليهن..
والضمير فى قوله تعالى: أنشأناهن» يعود إلى ملحظ مفهوم من قوله تعالى:
«وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» - حيث أنه مما يكمل به نعيم هذه الفرش المرفوعة أن يكون فيها ما يرضى حاجة الرجال من النساء.. فهذه الفرش المرفوعة، ليست فرشا خالية موحشة، وإنما هى مأنوسة بالنساء.. أما هؤلاء النساء فقد أنشأهن الله إنشاء من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، عربا أترابا..
وقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» ..
أي أن أصحاب اليمين هؤلاء، هم جماعة من الأولين، وجماعة من الآخرين.. وهذا يعنى أنه ليس كل الأولين الذي آمنوا بالرسل، وشهدوا(14/714)
الحياة معهم، على سواء فى منزلتهم.. بل منهم السابقون، ومنهم أصحاب اليمين.
هذا، ويلاحظ أن هذه الجنة، ليست على تلك الصفة التي عليها جنة السابقين، فهناك، سرر موضونة، مطرزة، وهنا فرش مرفوعة..
وهناك اتكاء واسترخاء على هذه السرر من غير تكلف وطلب، وهنا لا اتكاء ولا استرخاء على تلك الفرش وإن كان اتكاء واسترخاء فهو يطلب واستدعاء..
وهناك، ولدان مخلدون يطوفون على أهل المجلس بأكواب وأباريق وكأس من معين..
وهنا ماء مسكوب! وهناك خمر تدار فى كئوس، لا يصدع شاربوها، ولا تنفد لذتهم منها..
وهنا.. لا أكواب ولا أباريق، ولا كئوس، ولا خمر! وإن كان ذلك كله يجىء عند طلبه، واستدعائه..
وهناك فاكهة عتيدة حاضرة يتخيرون منها ما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون..
وهنا سدر مخضود، وطلح منضود، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفتيات أبكار، عرب أتراب!.
ويسأل سائل: أهذه جنة ينعم فيها أهلها؟ وكيف يحجز عن أصحاب الجنة شىء من النعيم. ثم تكون مع هذا دار نعيم، ولم تسد فيها مطالب النفس؟.(14/715)
والجواب على هذا ما أشرنا إليه من قبل فى سورة «الرحمن» ونقول هنا، إن كلا من أهل النعيم وأهل الجحيم، ينزل منزله من النعيم أو الجحيم..
وأنه كما انقسم أهل النعيم إلى فريقين.. هما السابقون، وأصحاب اليمين، كذلك ينقسم أصحاب الجحيم إلى منازل، وكل منزلة إلى فرق..
ولا شك أن فى كل منزل من منازل النعيم ألوانا، وصورا من النعيم ليست فى غيره، وأن أهل كل منزلة لهم نعيمهم، كما أن لكل واحد فى كل منزل له نعيمه، دون أن يشعر أىّ من أصحاب النعيم فى أية منزلة ينزلها أنه فى حاجة إلى نعيم فوق النعيم الذي هو فيه، إذ كانت طاقته لتقبّل النعيم، مقدورة بقدر منزلته عند الله..
فالسابقون مثلا، قد جعل الله لهم من الطاقات على تقبّل ألوان وصور من النعيم ليست لغيرهم من أهل الجنة.. كما أن هؤلاء السابقين ليسوا على درجة واحدة فى تقبّلهم لصور هذا النعيم وألوانه..
ولنضرب لهذا مثلا من الحياة الدنيا..
هناك مائدة حافلة بألوان الطعام، قد حشد فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وقد دعى إليها عشرات من الناس، يتناولون منها ما يشاءون..
هنا تختلف أحوالهم على هذه المائدة، فمن بين هؤلاء من فتحت شهيته لكل ما على المائدة، من ألوان الطعام، يظل يغدو ويروح، بين قديد وشواء، وحامض وحلو، لا يرفع يده عن طعام إلا ليمدها إلى طعام.. وهكذا يظل فى خضم وقضم ساعات وساعات.. هذا على حين أن هناك كثيرين(14/716)
منهم من يجتزىء من هذه المائدة بلقمة هنا، ولقمة هناك، ثم إذا به وقد رفع يده عن كل ما على المائدة، وقطع شهوته عن كل ما يشتهى منها..
وكلا الرجلين، قد أخذ حاجته، واستوفى حظه، ولم يبق له شىء يطلبه من هذه المائدة.. ومع هذا، فإن استمتاع الأول بهذا الطعام هو أضعاف لذة صاحبه، حجما، وعمقا.. دون أن يشعر أىّ منهما أنه فى حاجة إلى مزيد!.
هذا، فى لذات الدنيا، ونعيمها، وهى- كما قلنا- لذات تنقطع عند أخذ المرء حاجته منها، ثم تتحول إلى آلام إذا هو جاوز بها هذا الحد.. أما لذات النعيم فى الآخرة، فهى لذات لا تنقطع أبدا، ولا يملّها المتصل بها مادام آخذا منها.. ولكن كلّ يأخذ بقدر ما تتسع له طاقته التي تتناسب مع منزلته..
وعلى هذا، فإن أهل الجنة جميعا فى نعيم مقيم، وفى لذة دائمة مع هذا النعيم.. ولكن كلّ له من النعيم ما يشتهيه، وله من الاشتهاء ما يناسبه..!
فهم فى جنة واحدة، ولكل منهم فى هذه الجنة جنته، وما يشتهيه.. أشبه شىء بما فى الغابة من مختلف الأحياء التي تعيش فيها.. بعضها يأكل من ورقها، وبعضها يأكل من ثمرها، وبعضها يقتات من أعشابها.. وبعضها يتنقل بين أفنانها، وبعضها يأوى إلى أجحارها.. وكلها هانىء بحياته، سعيد بعيشه مع الطبيعة التي لبسته..
وكذلك الشأن فى أصحاب النار.. تتسع آلامهم وتضيق، كل حسب طبيعته التي يكون عليها، والتي هى صورة من عمله!.(14/717)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
الآيات: (41- 56) [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
التفسير:
قوله تعالى «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ» فى هذه الآيات بيان لحال أصحاب المشئمة، وهم الزوج الثالث من أزواج الناس يوم القيامة..
وأصحاب الشمال- هؤلاء- هم الذين أوتوا كتبهم بشمائلهم، إذ كانت هذه الكتب تحمل إليهم الشؤم، وسوء المصير، فلا يجدون لأيمانهم التي اعتادوا أن يأخذوا ويعطوا بها، محلّا للعمل هنا، وتناول هذا المكروه بها..!(14/718)
أما منزلهم الذي ينزلونه- عافانا الله منه- فهو هذا المنزل الجهنمىّ، الذي يساق إليهم فيه العذاب ألوانا وطعوما، كما يساق النعيم إلى أصحاب الجنة ألوانا وطعوما..
إنهم «فى سموم» أي فى هبوب متلهب، ترمى به النار إليهم، وتلفح به وجوههم وأبدانهم، وفى «حميم» - وهو ما يسيل من عرقهم وصديدهم، فيجرى من تحتهم، كما تجرى الأنهار تحت أصحاب الجنة..
وهم فى «ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» أي هم يدخلون تحت ظلّ من سحاب هذا السموم، الذي ينعقد فوق رءوسهم.. وأنه إذا كان ظلّ أهل الجنة باردا كريما، لطيفا.. فإن هذا الظلّ ليس باردا، ولا كريما، وإنما هو لهيب يشوى الوجوه، ويهرأ الأجسام.
أما الذي أنزلهم هذا المنزل المشئوم، وألقى بهم فى هذا البلاء العظيم، فهو ضلالهم عن الحق، وبعدهم عن الله، وكفرهم بلقائه، وتكذيبهم رسله..
«إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ» أي منعّمين فى دنياهم، مما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من نعم، وكان من حق هذه النعم أن تفتح لهم طريقا إلى الله، فيحمدوا له ويشكروه، ولكنهم بطروا، وأشروا واستكبروا فى الأرض، وعتوا عن أمر ربهم، وصدّوا عن سبيله.
«وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» الحنث العظيم: الذنب الكبير، أو اليمين الفاجرة.
أي أنهم كانوا مصرين ومقيمين على ما يأتون من كبائر الإثم والفواحش، فلا يراجعون أنفسهم، ولا ينظرون إلى ما يفيض بين أيديهم من منكرات وآثام.(14/719)
أو أنهم كانوا مقيمين على معتقدهم الفاسد فى إنكار البعث، وتوكيد هذا الإنكار بالحلف عليه، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (38: النحل) «وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» .
أي كانوا ينكرون البعث بهذا الأسلوب الإنكارى الساخر.. فيلقى بعضهم بهذا الاستفهام المنكر المستهزئ.. «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» أيصدق هذا؟ ذلك محال! «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟» وإذا صح جدلا- أن نبعث نحن بعد الموت، لقرب عهدنا، ولأن الأرض تحتفظ ببقية منا- فهل يبعث آباؤنا الأولون الذين لا أثر لهم، حتى إن عظامهم قد أبلاها البلى وأكلها التراب؟ ذلك بعيد بعيد! «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» هذا هو الجواب الذي يلقى تساؤلاتهم المنكرة تلك: «إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» ..
وقد جاء الخبر مؤكدا، بمؤكدين.. «إنّ» و «لام» الابتداء فى قوله تعالى «لَمَجْمُوعُونَ» .
فآباؤهم الأولون، وآباؤهم الآخرون، هم معهم، سيجمعون جميعا فى مكان معلوم، وفى يوم معلوم..
وقد ضمّن اسم المفعول «مجموعون» معنى السوق، الذي يدل على الدفع، والقهر، وذلك دون أن يتخلى عن معناه الأصلى، وهو «الجمع» .. فهم(14/720)
مسوقون جميعا، ومجتمعون جميعا.. فى مكان واحد، دون أن يشذّ، أو يحرن أحد منهم..
- «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» .
هو التفات إلى هؤلاء المكذبين الضالين، وهم فى موقف التكذيب والضلال- التفات إليهم، ومواجهة لهم بكل ما يسوؤهم، ويلبسهم الشفاء الأبدى..
«إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» ..
وهو شجر ينبت فى أصل الجحيم، طلعه كأنه رءوس الشياطين، كما يقول الله تعالى فى وصف هذه الشجرة: «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ»
. (65: الصافات) والشياطين خلق نارىّ، جهنمى، وأبشع ما فى الشياطين رءوسها تلك النارية الجهنمية، التي يرى الرائي منها كل ما فى الشيطان من هذه الصورة المنكرة التي هى له.
وإن هذه الرءوس، النارية الجهنمية، أو ما يشبهها، هى قطوف هذا الشجر الذي يطعم هؤلاء المكذبون الضالون، من ثمره! إن لهم ما يتفكهون به فى دارهم تلك، كما أن لأصحاب الجنة- ما يتفكهون به من ثمار الجنة! وإنهم ليأكلون من هذا الثمر الزقّومى حتى تمتلىء بطونهم- كرها ورغما- إذ لا بد للبطون أن تمتلىء وتشبع! وفى عود الضمير مؤنثا على الشجر، مع أنه مذكر لفظا، إشارة إلى أنه أشبه بشجرة واحدة فى طبيعتها، وفى شؤم الثمر الذي يخرج منها.. فكأنهم يأكلون جميعا من شجرة واحدة..(14/721)
«فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ» ..
ومع كل طعام شراب!! وشراب هذا الطعام الجهنمى، جهنمى مثله، هو هذا الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل من أجسامهم التي تشوى فى نار جهنم، فيسيل منها هذا السائل فائرا يغلى.
فالضمير فى «عليه» يعود إلى هذا الطعام، أو هذا الأكل، الذي دلّ عليه قوله تعالى: «لَآكِلُونَ» .
«فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» .
أي إن هذا الشراب الجهنمى، يقبل عليه الذين أكلوا من هذا الطعام الزقومى، يقبلون عليه فى سعار مجنون، أشبه بالإبل اللهيم، أي أي العطاش، التي حبست عن الماء أياما، فإذا وردت عليه عبّت منه فى نهم شديد، لتنقع غلّتها، وتروى ظمأها..
وفى إقبال أهل هذا الطعام على هذا الشراب- إشارة إلى أن ما فى بطونهم من لهيب، أشد من هذا الحميم، فهم يستشفون من داء بداء، ويستجيرون من بلاء ببلاء، ويطفئون النار بالنار!.
«هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» ..
أي هذا هو المنزل الذي ينزله يوم القيامة هؤلاء المكذبون الضالون، أصحاب الشّمال، وهذا ما يطعمون وما يشربون من، طعام وشراب، فى هذا المنزل..
وفى العدول عن خطابهم إلى ضمير الغائب- إشارة إلى أنهم فى حال من الهول، والبلاء، لا يعقلون معها حديثا، ولا يسمعون قولا.. فكان(14/722)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أن اتجه الحديث إلى من يشهدون هذا المشهد، ليكون لهم فيه عبرة ومزدجر..
الآيات: (57- 74) [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
التفسير:
قوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ.....»
فى هذه الآيات عرض كاشف لقدرة الله سبحانه وتعالى، قيّومة(14/723)
سلطانه على كل شىء فى هذا الوجود.. وغاية هذا العرض، هو إقامة الأدلة، ونصب البراهين بين يدى هؤلاء المنكرين للبعث، على أن هذا البعث الذي ينكره المنكرون، ويستبعدون وقوعه، هو أمر داخل فى دائرة الأحداث التي تقع فى محيطهم.. فليست الحياة بعد الموت إلّا إعادة لبناء هذا الكيان الذي تهدم، وإقامته من جديد على الصورة التي كان عليها، وإنه إذا كان مما يمكن أن ينكر أو يستبعد هو الإيجاد ابتداء، فإن إنكار إعادة الموجود لا يكون إلا من مكابرة وعناد، أو جهل وضلال..
وقوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» - هو إعلان بهذا الخبر، وتقرير له، وإرساله هكذا قضية مسلمة، من غير مقدمات: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ» ..
فهذه قضية لا تحتاج إلى برهان، وحكم لا يقبل جدلا.. فليس هناك من مخلوق ينكر هذه الحقيقة أو يجادل فيها.. إنه لم يحلق نفسه.. وإذن فلا بد له من خالق خلقه.. وهذا الخالق يناديه، ويلقى إلى سمعه: أنه هو الذي خلقه.. فإن أنكر هذا الخالق، فليبحث عن الخالق الذي خلقه، إذ كان لا بد من خالق.. وهذا الخالق لا بد أن يكون واحدا يبسط سلطانه على هذا الوجود كله، وعلى الموجودات جميعها.. وذلك هو الله رب العالمين..
وقوله تعالى: «فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» .. هو تعقيب على هذا الخبر، أو الحكم.. «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ» .. أفلا تصدقون هذا الخبر؟ أو لا تقبلون هذا الحكم؟ إنه خير لكم أن تصدقوا هذا الخبر، وتقيموا وجودكم على الإيمان به! ..(14/724)
فإذا صدّقتم هذا، أفلا تصدقون أننا قادرون على إعادتكم بعد موتكم؟
«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» (81: يس) ..
ولو، هنا، بمعنى «هلّا» للحثّ، والحضّ على التصديق.
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ» ؟
هو حيثيّات تقام لهذا الحكم، وبراهين تقدم لهذا الخبر.. وقدّم الحكم فى هذه القضية- قضية إضافة الخلق إلى الله سبحانه وتعالى- قدم على حيثياته، وأدلته، لأنه- كما قلنا- أمر ظاهر، مستغن عن كل برهان يقوم بين يديه، ولأن كثيرا من العقول تتقبله هكذا من غير برهان، لأنه أمر بدهىّ، ومن الإزراء بالعقل تقديم البديهيات له، فى صورة المعضلات التي تحتاج إلى أدلة وبراهين..
أما هذه البراهين التي تقدم بعد النطق بهذا الحكم، فهى منصوبة لمن أعماهم الضلال، فلم يروا ما بين أيديهم فى وجه الصبح المشرق، فكانت هذه البراهين أشبه بأيد تمتد إلى هؤلاء العمى لتقودهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. ومع هذا فإن كثيرا من هؤلاء العمى، يمنعهم العناد والكبر عن أن يمدوا أيديهم إلى تلك الأيدى الممدودة لهم، ويؤثرون أن يتخبطوا فى مسيرتهم، وأن يتردّوا فى مهاوى الهلاك، على أن يستجيبوا لهاد يهديهم، أو منقذ ينقذهم..
والمنىّ، هو النطفة التي يتخلق منها الكائن الحي، وإن هذه النطفة لا تكون بذرة صالحة ليتخلق منها الجنين، حتى تنضج فى صلب الرجل، ثم تتحرك فيه إلى حيث يلقى بها فى رحم المرأة.. أما قبل هذا النضج، فلا(14/725)
تكون صالحة لأن يتخلق منها الكائن الحي.. بمعنى أنه لو انتزعت هذه النطفة انتزاعا من صلب الرجل، ثم نقلت إلى رحم المرأة، كانت أشبه بحبة غير ناضجة ألقى بها فى الأرض، فلا يكون منها أن تنبت نباتا أو تطلع زهرا أو ثمرا..
وهذا هو السرّ فى التعبير القرآنى بلفظ «تُمْنُونَ» الذي يدل على تلك العملية الطبيعية التي يقذف بها المنىّ فى رحم المرأة، عند التقاء الرجل والمرأة.. ومثل هذا ما جاء فى قوله تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» (37: القيامة) فهو ليس مجرد منىّ، ولكنه منىّ يمنى، أي يقذف به فى حال نضجه، من صلب الرجل، إلى رحم المرأة..
فهذا المنىّ، الذي لا يعدو أن يكون نطفة من ماء- من يخلق منه هذا الكائن الحىّ، أو من يقيم منه هذا الإنسان السميع البصير؟
قوله تعالى:
«نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي وكما خلقناكم ابتداء، من هذه النطف، وشكلنا صوركم، من هذا المنىّ- نحن الذين قدرنا بينكم الموت، وحددنا لكل منكم الأجل الذي له فى هذه الدنيا.. فإلينا وحدنا تقدير أعماركم، وموتكم.. لم يسبقنا إلى ذلك سابق، ولم يشاركنا فى هذا شريك..
قوله تعالى:
«عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ»
هو متعلق بمحذوف، يفهم من قوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا إذا كنا لم نسبق فى هذا الخلق الذي خلقناكم عليه، ولم نسبق فى تقدير الموت الذي قدرنا عليكم، وجعلناه حكما واقعا على كل حىّ- إذا كان(14/726)
هذا شأننا فيكم، أفلسنا بقادرين «على أن نبدّل أمثالكم» ونغير صوركم، ونخلقكم على صور غير تلك الصور التي أنتم عليها؟ أو لسنا بقادرين على أن نجعلكم فى صورة مخلوقات أخرى من تلك المخلوقات الكثيرة التي ترونها فى عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، أو فى صور أخرى مما لا تعلمونه من صور مخلوقاتنا فى الأرض أو فى السماء؟ فإن هذه النطف التي تتخلق منها الكائنات، الحية فى عالم الحيوان، هى ماء يشبه بعضه بعضا، ولكن الخالق المبدع يصوّر هذه النطف كيف يشاء.. «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ..»
(6: آل عمران) قوله تعالى:
«وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ؟» أي وإذا كنتم لا تعلمون النشأة التي كان من الممكن أن ننشئكم عليها، فقد علمتم نشأتكم هذه التي أوجدناكم فيها.. أفلا يكون لكم من هذا العلم ما يحدث لكم ذكرا، ويبعث فيكم طمأنينة إلى التسليم بالبعث بعد الموت؟
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟» وهذه صورة أخرى، من صور الخلق، وأنه إذا كانت عملية خلق الإنسان مما تحتجب رؤيتها عن كثير من العقول المريضة، فهذه عملية إنبات النبات، وإخراج الحبّ من الأرض، على هذه الصور المختلفة من النبات والشجر.. إنها عملية مشهورة، ظاهرة، وتجربة تجرى من أولها إلى آخرها بين أيدى الناس، حيث يلقون الحب فى الأرض، ثم يجدونه بعد ذلك نباتا زاهيا، وشجرا باسقا..(14/727)
فمن يخلق هذا الزرع؟ ومن يخرج من هذا الحب هذا الجنات، وتلك الحدائق ذات البهجة؟ أأنتم أيها الناس؟ إنكم لستم إلا أدوات تلقى الحب فى الأرض، كما تقذفون المنىّ فى الأرحام، فيصور الخالق جل وعلا من هذا وذاك ما يصوّر من كائنات! قوله تعالى:
«لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» .
أي لو نشاء، لما أطلعنا هذا الزرع، ولو نشاء لأطلعناه، ثم لجعلناه عقيما لا يطلع زهرا، ولا يثمر ثمرا، فظلتم تفكهون، أي ترقبون الفاكهة، وتبحثون عنها، ثم لا تجدون شيئا منها، بل تعودون وملء أيديكم خيبة وحسرة، تتنادون بأنكم مغرمون بما أضعتم من جهد فى الحرث والزرع، ثم لم يكن لكم من هذا العناء إلا الحرمان من الثمر الذي كنتم ترجونه.
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ» وهذا الماء الذي تشربون.. ألا تفكرون من أين جاء؟ ألا تنظرون فيه وفى هذا الماء الملح الذي يملأ وجه الأرض؟ من فصل بينهما؟ ومن أخرج لكم من هذا الماء الملح، هذا الماء العذب الفرات؟ أأنتم الذين صنع هذا الصنيع، وأنشأ من هذا الماء الملح سحابا يحمل الماء العذب، وينشىء منه الأنهار، ويفجر العيون؟
أأنتم أنزلتموه من المزن، أي السحب، أم نحن المنزلون؟! أجيبوا!!(14/728)
ولا جواب إلا التسليم والإقرار، بأن الله سبحانه هو الذي صنع لكم هذا الذي صنع! ولو شاء الله سبحانه وتعالى، لجعل هذا الماء العذب على حاله التي كان عليها من قبل أن يخرج من رحم البحار، كما خرجتم أنتم من أرحام أمهاتكم، وكما خرج النبات من رحم الأرض..
«فلولا تشكرون» أي فهلا شكرتم الله على هذه النعم الجليلة التي هى ملاك حياتكم وحياة زروعكم، وحيوانكم؟
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ؟» ..
وهذه النار التي توقدونها، وتستدفئون بها، وتنضجون عليها طعامكم..
من أنشأ لكم الشجر الذي توقدونه؟ ألا ترون هذا الحطب الذي يعلق به الشرر، فيحول إلى لهب وجمر؟ ألا ترون هذه القدرة التي تخرج النار من الشجر الأخضر الذي يجرى الماء فى عروقه؟ «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (80: يس) قوله تعالى:
«نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» ..
أي هذه النار التي توقدون من الشجر الأخضر، هى تذكرة وموعظة، لمن كان له عقل يتذكر، ويتعظ، فيرى قدرة الله.. وهى متاع وزاد «للمقوين» أي لكم أيها الناس، الذين لا يملكون شيئا.. فكل ما فى أيديكم، هو فضل من فضل الله عليكم، ورحمة من رحمته بكم» ..(14/729)
والمقوي، هو الخاوي، الفارغ، الذي لا شىء معه.. ومنه أقوت الدار أي خلت من أهلها، وأقوت الأرض، أي أجدبت..
قوله تعالى:
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .. هو تعقيب على هذه النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده، والتي من شكرها، التسبيح بحمد الله، وتنزيهه، وتمجيده، وذكره ذكرا دائما بالحمد والثناء..
هذا، ويلاحظ أن الآيات التي عرضت هذه النعم، عرضتها كل نعمة فى آية مستقلة، ثم عقّبت على كل آية بالسؤال المطلوب من كلّ من وقف بين يدى نعمة منها، أن يسأله نفسه، وأن يتولى الإجابة عليه..
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟» ..
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟» ..
«أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟» ..
«أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟» ..
إنها نعم ظاهرة، من شأنها إذا ذكرت أن تدير الأنظار إليها، وأن توجه العقول نحوها، من غير داع يدعو الأنظار إلى النظر، أو يلفت العقول إلى التفكير والتدبير..
هذا إذا صادفت تلك النعم أبصارا تبصر، وعقولا تعقل.. ولكن ما أكثر الأبصار التي لا تبصر، والعقول التي لا تعقل.. فكان من رحمة الله، أن أقام بين يدى كل نعمة داعيا يدعو إليها، ويهتف بالأبصار الزائغة أن تنظر فيها، وبالعقول الغافلة أن تنتبه لها، فكانت هذه الأسئلة الواردة عليها.. فمن كانت له أذنان(14/730)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
فليسمع، ومن كانت له عينان فليبصر.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (37: ق)
الآيات: (75- 96) [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» ..(14/731)
[الأقسام المنفية فى القرآن.. ودلالاتها] أكثر المفسرين على أن «لا» فى قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ» زائدة، وأن التقدير: أقسم بمواقع النجوم.. ولم يذكروا لهذه الزيادة وجها مقبولا، حتى لكأنها زيادة مقحمة لضرورة كضرورة الشعر..
ويرى الزمخشري- مثلا- أن زيادة «لا» تقتضى أن يكون النظم هكذا:
«فلأنا أقسم بمواقع النجوم» .. وعلى هذا يكون أصل النظم جملة من مبتدأ وخبر، وأن لام الابتداء دخلت على المبتد، وهو وإن كان نادرا، إلا أن ذلك ورد، فى لسان العرب، كقول الشاعر:
خالى لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا وهذا تكلف بعيد، وركوب ضرورات كثيرة لا يلجأ إليها إلا عند العجز وضيق مجال الكلام.. وهذا ما ينتزه عنه كلام الله.
ثم إن الموجود هنا «لا» لا، لام الابتداء، التي تحولت بهذه الصناعة المتكلفة إلى «لأنا» ثم حذفت أنا، وبقيت منها الهمزة التي لصقت بلام الابتداء، فأعطتها هذه الصورة الزائفة!! وكلام الله تعالى منزه عن النقص، متعال عن الوقوع تحت حكم الضرورة، وإن كل حرف منه ليرجح الوجود كله كمالا، وجلالا..
فما هى «لا» هذه؟ وما مفهومها؟.
هى- والله أعلم- «لا» النافية.. وهى تجىء غالبا فى معرض(14/732)
القسم تنزيها للمقسم به، وإجلالا لقدره، أن يقسم به على أمور واضحة بينة، لا تحتاج إلى سند يسندها من قسم أو نحوه..
فالقسم- عادة- إنما يرد لإثبات أمر من الأمور التي يستبعد المخاطب وقوعها أو لتقرير حقيقة من الحقائق، وتوكيدها، وإزالة الشبهة عنها عند المقسم له، حتى يقبلها ويطمئن إليها..
وإنه- والأمر كذلك- من الاستخفاف بقدر المقسم به، بل والامتهان له، أن يستدعى عند كل أمر وإن صغر، وأن يبرر به كل شأن وإن حقر أو ظهر، فذلك من شأنه أن يرخص هذا المقسم به، وأن يذهب بجلاله، وينزل من قدره، فلا يكون له وقعه على النفوس، إذا هو استدعى للقسم به فى حال تحتاج الى تبرير وتوكيد! وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» . (224: البقرة) فتعريض اسم الله سبحانه وتعالى للقسم به، حتى فى مقام البرّ بهذا القسم، ورعاية حقه، وحتى فى مقام الصلح بين الناس- هو مما ينبغى للمؤمن أن يتحاشاه، وألا يجىء إليه إلا فى قصد، عند ما تدعو الضرورة إليه! فقوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» - هو تعريض وتلويح بالقسم بمواقع النجوم، دون القسم بها، لأنها ذات شأن عظيم، فلا يقسم بها إلا لتقرير الحقائق المشكوك فيها، والمرتاب فى أمرها.. أما جليّات الأمور وبدهياتها فلا يقسم لها، لأن القسم لها، هو تشكيك فيها، ووضعها موضع ما يكون من شأنه أن يثير المماراة، والخلاف..
وقد كثر فى القرآن الكريم هذا الضرب من التلويح بالقسم عن طريق(14/733)
النّفى، وذلك حين يكون المقسم هو الله سبحانه وتعالى، والمقسم به، ذات من ذوات المخلوقات العظيمة المكرمة عند الله، وحين يكون المقسم عليه أمرا جليّا، بينا لا يحتاج إلى بيان..
ومن ذلك قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» (16- 19 الانشقاق) وقوله سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» (1- 4: القيامة) وقوله جلّ شأنه: «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (15- 20 التكوير) فهذه الأقسام واقعة على أمور عظيمة، محققة الوقوع على الصورة المعروضة فيها، وعلى الصفة الموصوفة بها، بحيث لا يصح أن تقع موقع الإنكار، من ذى مسكة من عقل أو فهم.. فإذا كان هناك من يشك أو يرتاب، فإنه لا معتبر لشكّه أو ارتيابه، ولا جدوى من وراء القسم له بأى مقسم به، إذ كان لا يجدى معه- فى هذا الصبح المشرق بين يديه- أن تضاء له المصابيح، وتقام له الحجج والبراهين. «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) .
فالأقسام هنا- كما ترى- واقعة على أحوال الإنسان، وتنقله من حال إلى حال، ومن وجود إلى وجود، أو على قدرة الله سبحانه وتعالى، على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد، أو على قول الله سبحانه، وما تحمل كلماته من أخبار صادقة، محققة الوقوع..
وهذه كلها أمور لا تحتاج إلى قسم، وفى القسم لها- كما قلنا- تشكيك فيها، وفتح لباب الجدل والمماراة فى شأنها..
أما هذا التلويح بتلك الأقسام، فيما يبدو من نفى القسم- فهو وضع(14/734)
الأمر المقسم عليه فى ضمانة حقيقة من الحقائق الكبرى، حيث يعتدل ميزانه مع ميزانها فى مقام الإعظام والإجلال، بمعنى أنه لو احتاج هذا الأمر إلى قسم لما أقسم له إلا بهذه الحقائق العظيمة الجليلة، المناسبة لعظمته وجلاله.. فإن العظائم كفؤها العظماء، كما يقولون.
ومواقع النجوم، التي يلوّح بالقسم بها، قد تكون أفلاكها التي تدور فيها، وقد تكون منازلها التي تأخذها من النظام العام للفلك.. وعلى أي فإن النجوم حيث تكون هى كائنات عظيمة، وأن أي نجم منها- على ما يبدو من صغره- هو أكبر من شمسنا التي هى أقرب النجوم إلينا، والتي يبلغ حجمها مليونا وربع مليون من حجم الأرض! ولم يقع التلويح بالقسم على النجوم، بل على مواقعها، لأن مواقعها تشير إلى أكثر من أمر.. تشير إلى هذا البعد الشاسع الذي بيننا وبينها، والذي تبلغ المسافة فيه بيننا وبين بعضها ملايين السنين الضوئية!! وتشير هذه المواقع إلى المسافات التي بين هذه النجوم التي يبدو لنا بعضها مجاورا البعض.. فهذه المسافات التي تبدو متقاربة، هى فى الواقع ملايين من السنين الضوئية كذلك..
كما تشير هذه المواقع إلى أن النجوم ليست على علو واحد كما يبدو، وإنما هى فى أفلاك بعضها فوق بعض..
وعلى هذا، فإن النظر إلى مواقع النجوم يكشف عن النجوم نفسها، كما يكشف عن هذه العوالم الرحيبة التي تسبح فيها، تلك العوالم التي إن أمكن ضبطها بالأرقام العددية، وبالصور الحسابية، فإن الخيال لا يتسع لتصور أفق واحد من آفاق تلك العوالم التي تسبح فيها النجوم.
قوله تعالى:
«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» .(14/735)
هذا هو الأمر الذي لا يحتاج إلى قسم، وتلك هى الحقيقة التي لا تحتاج إلى تبرير وتوكيد..
فهذا الذي يتلوه النبي على الناس، هو قرآن كريم، فى كتاب مكنون أي محفوظ، عند الله سبحانه، وإنه- لمقامه العظيم- لا يدنو منه، ولا يطوف بحماه، إلا المطهرون من عباد الله، من ملائكة، أو بشر. وفى وصف القرآن بالكرم، إشارة إلى ما ينال الذين يمدون أيديهم إليه من عطايا ومنن به.
ومعنى المس للقرآن الكريم هنا- والله أعلم- هو التلبّس به، والمباشرة له، والإفادة منه.. فمن مسّ هذا القرآن الكريم وطاف بحماه ملتمسا الهدى منه- وجب أن يكون على صفة تناسب هذا القرآن، من الطهارة، والكرم، والنقاء. فمن كان طاهرا، لم يجد معاناة فى الامتزاج والتجاوب معه، سواء كان طاهرا بالقوة والفعل كالملائكة، أم كان طاهرا بالقوة، كمن كان فى الناس سليم الفطرة، معافى من الآفات التي تعرض لهذه الفطرة، فتفسدها، وتحول بينها وبين تقبّل الخير، والتجاوب معه، فمن كان من الناس ذا فطرة سليمة، قرب من هذا القرآن، واتصل به، وأصاب من خيره، فطهر من دنس الشرك، والكفر.. وكان من المؤمنين الطاهرين..
فالمسّ هنا، ليس لمس المصحف باليد، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، الذين اشتد خلافهم حول الحال التي يكون عليها من يمس المصحف، وهل ينبغى أن يكون على طهارة مطلقة من الحدثين الأصغر والأكبر، وهل ذلك على سبيل الاستحباب والندب، أم أنه على سبيلى الوجوب والحتم.!!
وإنما المسّ الذي تشير إليه الآية الكريمة- والله أعلم- مسّ كلمات الله ومخالطتها للقلوب والعقول، ذلك المس الذي يتأثر به الماسّ، فيجد من أثر هذا المسّ فى كيانه، ما يجد- على بعد ما بين المشبه والمشبه به- من مسّ طيبا أو نحوه،(14/736)
مما تطيب به النفوس، وتستروح الأرواح.. وكما أن كثيرا من النفوس تختنق بالريح الطيب، أو تنفر منه، فكذلك كثير من النفوس ما تتأذى بكلمات الله، وتنفر من سماعها، فلا تسمح لها بأن تنفذ إلى مشاعرها ووجداناتها، بلى تجعل أصابعها فى آذانها، كما يجعل من يتأذى بالطيب أصبعيه على أنفه!!.
ويرى «ابن قيّم الجوزيّة» أن المراد بالكتاب المكنون، هو الصحف التي بأيدى الملائكة.. ويعلل لذلك بوجوه:
منها: أنه وصفه- أي الله- بأنه مكنون، والمكنون: المستور عن العيون، وهذا إنما فى الصحف التي بأيدى الملائكة..
ومنها: أنه قال: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» وهم الملائكة، ولو أراد المؤمنين المتوضئين لقالى: لا يمسه إلا المتطهرون ... فالملائكة مطهّرون، والمؤمنون المتوضئون متطهرون.
ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه، بالجزم ...
ومنها: أن هذا رد على من قال إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه فى كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال فى «آية الشعراء» : «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (210- 212) وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة..
ومنها: أن هذا نظير قوله تعالى: َمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ»
(12- 16:
عبس) ..(14/737)
ومنها: أن الآية مكية، فى سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والردّ على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود، من فرع عملىّ، وهو حكم مس المحدث المصحف «1» » .
هذا، ويتسع معنى «المطهّرين» التطهر عند لمس المصحف، وعند التلاوة منه، فهذا- وإن لم يمكن على سبيل الإلزام- أدب مع كتاب الله، وتوفير لكل ما يتصل به.
قوله تعالى:
«أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» .
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وما تحدث به آياته عن قدرة الله سبحانه، وعن سلطانه القائم على هذا الوجود، وعن البعث والحساب والجزاء..
والاستفهام تقريرى، يراد به إقرار الكافرين بما عندهم من هذا الحديث الذي سمعوه، مما يتلى عليهم من آيات الله، وهل هم مصغون إليه، واقفون منه موقف الجد، وطلب العلم والفهم، أم أنهم مستمعون استماع المجامل الذي لا يعنيه شىء من مضامين هذا الحديث ومفاهيمه؟.
والمدهن، هو المداهن، الذي يصانع فى الأمور، ويلقاها بغير رأيه فيها، طلبا للسلامة، وتجنبا لما قد تجره إليه المكاشفة من متاعب ومكاره..
وهذا ضرب من النفاق، ووجه من وجوهه..
وقوله تعالى: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» - هو بيان لما ينتهى إليه هذا الموقف المداهن، وهو التكذيب بما يلقى إليه من هذا الحديث، الذي لا يعطيه أذنا، ولا يفتح له قلبا ولا عقلا..
__________
(1) التفسير القيم لابن القيم ص 412 بتحقيق المرحوم الشيخ محمد حامد الفقى:(14/738)
والتكذيب هو حظّ هؤلاء المداهنين المراوغين، وهو رزقهم الذي يرزقونه من هذا الخير المبسوط لهم.. فإذا عاد الناس بمغانم كثيرة وبرزق موفور من هذا الحديث حين يستمعون إليه، فإن هؤلاء المداهنين المراوغين، يعودون برزق أيضا، ولكنه رزق مشئوم، ملطّخ بالتكذيب بآيات الله، وبالكفر بها، وبما تحمل من حق وخير..
وفى تسمية هذا التكذيب الذي حمله المداهنون من آيات الله- فى تسميته رزقا، إشارة إلى هذا الخسران الذي عادوا به من هذا الموقف مع آيات الله، وأنهم بدلا من أن يحملوا رزقا، حملوا وزرا.. لقد أرادوا أن يخدعوا فخدعوا.. «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (9: البقرة) ..
فهذا هو رزقهم الذي رزقوه من استماعهم لآيات الله، وهو- كما قلنا- وزر، لارزق.
قوله تعالى:
«فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ» .
الحلقوم، مجرى الطعام من الفم إلى المعدة..
والضمير فى بلغت، يعود إلى الروح، وهى وإن لم يجر لها ذكر، فإنها مذكورة فى هذا المفهوم العام الذي تشير إليه الآيات، وهو البعث، الذي يدور حوله هذا الحديث، وما يقع للناس فيه من حساب وجزاء، ونعيم وعذاب..(14/739)
فلولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا..
والآية وما بعدها، استدعاء لهؤلاء المنكرين للبعث، المداهنين فى هذا الحديث الذي استمعوا إليه ما استمعوا من أمره- استدعاء لهم أن يمتحنوا قواهم كلها، وأن يجيئوا بكل ما يملكون من حول وحيلة، وهم بين عزيز كريم لديهم ممن قد حضره الموت، وحشرجت روحه حتى بلغت الحلقوم، وهم ينظرون إليه فى حزن قاتل، وحسرة محرقة- فهل يستطيعون رد هذه الروح إلى مكانها من الجسد؟ فليجربوا هذا وليحاولوه، إن كان الأمر يتسع لتجربة، أو يقبل حيلة! إن الله سبحانه هو أقرب إلى هذا المحتضر منهم، ولكنهم لجهلهم وكفرهم، لا يدركون هذه الحقيقة، ولا يتصورونها..
قوله تعالى:
«فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
«فلولا» هنا توكيد لما قبلها فى قوله تعالى: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ..»
وقوله تعالى: «تَرْجِعُونَها» هو جواب «فلولا» الأولى.. أي فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم ترجعونها؟
و «ترجعونها» أي تردونها إلى مكانها الذي خرجت منه..
يقال رجع الشيء، يرجعه، وأرجع الشيء يرجعه، أي أعاده..
فالفعل يتعدّى بنفسه، ويتعدى بالهمزة..
ومن تعدى الفعل بنفسه قوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ(14/740)
مِنْهُمْ»
(83: التوبة) .. ويأتى لازما مثل قوله تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ» (8: المنافقون) .
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ» جملة اعتراضية، تكشف عن حال هؤلاء الذين شهدوا محضر هذا المحتضر، وهو يجود بنفسه، والمدين، هو العاجز المقهور، ومنه المدين: المثقل بالدين..
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - هو تكذيب لتكذيبهم بآيات الله، وبالحديث الذي حدثتهم به.. فقد كان رزقهم من هذا الحديث هو التكذيب به.. فهل هم بعد هذا الامتحان متمسكون بهذا التكذيب، مصدقون به؟
قوله تعالى:
«فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ» .
وهذا المحتضر، قد نفذ فيه قضاء الله، وأصبح فى عالم الموتى..
ولكنه لا يترك كهذا ليد الفناء- كما يظنون-، بل إنه سينقل إلى العالم الآخر، وتلبسه الحياة هناك مرة أخرى، ويأخذ منزله فى هذا العالم، حسب عمله فى الدنيا..
فإن كان من المقربين إلى الله، ومن أولياء الله فى الدنيا، فالله سبحانه هو وليّه فى الآخرة، يلقاه لقاء الأولياء الأحباب بالروح والريحان وجنة النعيم..
والروح: ما تستروحه النفوس، وتطيب به، وتسعد فيه.. وقرىء:
«فروح» أي حياة جديدة تلبسه..(14/741)
قوله تعالى:
«وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» وأصحاب اليمين، هم ممن أرادهم الله «سبحانه» ليكونوا من أصحاب الجنة، فيسّر لهم العمل بعمل أهل الجنة..
وقوله تعالى: «فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» ، أي أنهم فى سلام وأنهم يتهادون التحية والسلام فيما بينهم، ويبعثون بتحاياهم إلى إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ممن لا يزالون فى هذه الدنيا..
فالضمير فى «لك» يراد به كل مؤمن بالله، طامع فى أن يكون من أصحاب اليمين! .. وهى تحية من أهل اليمين فى العالم الآخر، ينقلها الله سبحانه وتعالى، إلى المؤمنين فى الدنيا، حتى يلقوا إخوانهم فى العالم الآخر، ويردوا هذه التحية الطيبة بأحسن منها أو مثلها.
قوله تعالى:
«وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» أي وأما إن كان هذا الميت من هؤلاء المدهنين المكذبين، فمنزله الحميم، الذي تختنق النفوس بسمومه، وداره الجحيم التي يشوى على جمرها..
وهكذا الناس بعد الموت، حيث ينقلون إلى الدار الآخرة، فيكونون أزواجا ثلاثة..
السابقون، وهم المقربون..
وأصحاب اليمين..
وأصحاب الشمال..
ولكلّ منزله الذي ينزله فى هذه الدار، وجزاؤه الذي يجزاه فيها..
قوله تعالى:(14/742)
«إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .
بهذا الحكم تختم السورة الكريمة، وبهذا التنزيه لله سبحانه، والحمد لله، يعقّب على هذا الحكم، ويلفت إلى ما ينبغى أن يستقبل به من النبي، ومن المؤمنين..
وحق اليقين، أي الحق المطلق، الذي لا يعلق به شىء من دخان الباطل وسحبه..
فهو الحق الذي ينبغى أن ينزل من القلوب والعقول منزلة اليقين، فتطمئن به القلوب، وتسكن إليه العقول..
واليقين المشار إليه، هو اليقين الوارد من تلك الآيات، التي تحدث عن قدرة الله، وعن البعث، والحساب، والجزاء.. فهذا الحديث هو حديث حق مستيقن، لا شك فيه..
وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أن هذا الحق، هو الحق الذي يقيم اليقين فى النفوس، لأنه حق خالص من كل شائبة.. أما غيره فقد يكون حقّا، ولكنه قد يتلبس به ما يحجبه عن الأبصار، فيثير حوله سحبا من ضباب الشك والارتياب.. أما هذا الحق، فهو حق صراح، ونور مبين..
لا يحجبه شىء.
وقوله تعالى «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» - هو كما قلنا- تعقيب على هذه الحكم، واستقبال لهذا الحق المشرق، الذي يملأ القلوب طمأنينة وأمنا- استقبال له، بتنزيه الله سبحانه والتسبيح بحمده، شكرا له على هذا الهدى الذي يهدى به من يشاء من عباده..
والمراد بالتسبيح باسم الله، تسبيح لذات الله، وحمد لذات الله، ولهذا إذا(14/743)
سبّح المؤمن ربه قال: سبحان ربى العظيم، سبحان ربى الأعلى.. ولم يقل سبحان اسم ربى العظيم، أو سبحان اسم ربى الأعلى..
يقول ابن تيمية فى معنى: «فسبح باسم ربك العظيم» أي سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به.
ويعلق ابن القيم على هذا الذي يقول به شيخه ابن تيمية: هذه فائدة تساوى «رحلة» !!.
وهذا هو قدر العلم، وتقدير العلماء له.. فرضى الله عن الأستاذ وعن التلميذ.
إنه من أجل هذه الكلمة التي تفيد علما، وتشع هدى، ليس بالقليل عليها أن تشد لها الرحال، وتقطع فى سبيل الوصول إليها الفيافي والقفار! ولكم احتمل سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، من أعباء الجهاد فى طلب العلم، فكان الواحد منهم يقطع ما بين الشرق والغرب- على قلة الزاد، وخشونة المركب، حيوانا، أو قدما- فى سبيل أن يلقى رجلا من أهل العلم بلغه عنه أنه يحفظ حديثا لرسول الله، أو قراءة لآية من آيات الله..
إنهم قدروا العلم قدره، وبذلوا له المهر الذي يستحقه..
وإنه على قدر المشقة كان الثواب والجزاء من الله سبحانه، فوقع هذا العلم من قلوبهم موقع الغيث من الأرض الطيبة، فأزهر، وأثمر، وأخرج من كل زوج بهيج..(14/744)
57- سورة الحديد
نزولها: مدنية..
عدد آياتها: تسع وعشرون آية..
عدد كلماتها: خمسمائة وأربع وأربعون.. كلمة..
عدد حروفها: ألفان وأربعمائة وستة وسبعون، حرفا..
مناسبتها لما قبلها
سورة «الواقعة» مكية وسورة «الحديد» هذه مدنية، ومع هذا فقد انتظمت السورتان فى سلك واحد، فكان ختام سورة «الواقعة» مصافحا لبدء سورة «الحديد» وكان بدء «الحديد» جوابا وتلبية لهذا الأمر الذي كان ختام سورة «الرحمن» .
وتقرأ خاتمة «الواقعة» : «فسبح باسم ربك العظيم» ومفتتح «الحديد» «سبّح لله ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم» فترى الوجود كله فى سمواته وفى أرضه، فى محراب التسبيح لله، وفى موقف الولاء له، والقنوت لعزته وجلاله وحكمته..
وهذا التجاوب بين السورتين، شاهد من الشواهد الكثيرة، التي تشهد بأن ترتيب السور كما هى عليه فى المصحف، هو ترتيب توفيقى، كترتيب الآيات فى سورها، وأن ترتيب الآيات فى سورها كترتيب الكلمات فى آياتها، وأن ترتيب الكلمات فى آياتها كترتيب الحروف فى كلماتها.. ولا يكون القرآن قرآنا إلا بهذا الترتيب الآيات الذي هو عليه فى اللوح المحفوظ: «إنه لقرآن كريم..
فى كتاب مكنون.. لا يمسه إلا المطهرون.. تنزيل من رب العالمين..»(14/745)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
التفسير:
قوله تعالى.
«سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
هو- كما قلنا- خبر يحدّث عن أثر هذا الأمر الذي ختمت به سورة «الواقعة» فى قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .. وكأن هذا الخبر جواب يجاب به عن سؤال يرد على هذا الأمر بالتسبيح، وهو: ما وقع هذا الأمر على الوجود؟ فكان الجواب: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
فهذا التسبيح والولاء لله، إنما هو شأن الوجود كله، فهو قائم على التسبيح(14/746)
والولاء لله، فى كل لحظة، وفى كل آن، لأنه فى قبضة عزيز ذى سلطان متمكن، ومع هذه العزة المتمكنة لله، فهو حكيم فى تدبيره، وتقديره، لا يعتسف الأمور اعتسافا، ولا يقضى فيما يقضى به عن هوّى وتسلط.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
ويجوز أن يكون هذا الخبر بالتسبيح إغراء بهذا الأمر الذي أمر الله به الإنسان أن يسبح باسم ربه العظيم.. وكان النظم هكذا: فسبح باسم ربك العظيم، الذي سبح له ما فى السموات وما فى الأرض وهو العزيز الحكيم» ..
فهيا أيها الإنسان لتأخذ مكانك بين موكب الوجود المتجه إلى الله، المسبح بحمده «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) قوله تعالى:
«لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
هو بيان لقدرة الله، وعرض لسلطانه المطلق فى هذا الوجود.. فهو سبحانه، المالك لما فى السموات والأرض جميعا، وهو سبحانه، الذي يحيى ويميت، وهو سبحانه، القادر على كل شىء.. لا يعجزه شىء مما يظن أولئك المشركون أنه فى قائمة المستحيلات..
قوله تعالى:
«هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
ومن صفاته سبحانه أنه الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء.. فلا أول قبله، ولا آخر بعده.. وإذا كان الأول، فكل ما سواه صنعة يده، وإذا كان الآخر، فكل شىء هالك إلا وجهه..
وهو سبحانه «الظاهر» فى آياته وفى كل ما بثّ فى هذا الوجود من(14/747)
موجودات، حيث تتجلى فى هذا الوجود آيات قدرته، وعلمه، وحكمته..
وهو سبحانه «الباطن» الذي «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (103: الأنعام) ..
وهو سبحانه «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) ..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
ومن صفاته سبحانه، أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه أقام سلطانه عليهما..
وأنه «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» أي ما يغوص فى باطنها، من حبّ وماء، ومعادن، وغيرها.. ويعلم: «ما يَخْرُجُ مِنْها» من نبات، وما يتفجر من عيون، وما يستخرج منها من معادن..
ويعلم سبحانه: «ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من ماء، ومن ملائكة، ومن وحي يوحى به إلى عباده، ويعلم «ما يَعْرُجُ فِيها» أي ما يصعد إلى السماء من ملائكة، ودعوات، وصلوات، يرفعها عباده المؤمنون إليه.
وفى التعبير عن الصعود إلى السماء «بالعروج» إشارة إلى صورة الفلك، وأنه دائرى، وأن العروج إليه، والنفوذ من أقطاره لا يكون إلا فى خطوط متعرجة منحنية.
وقوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» - إشارة إلى أنه سبحانه- مع سعة هذا الملك- هو موجود بعلمه وقدرته وتدبيره، فى كل مكان منه، وفى كل ذرة فيه..(14/748)
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - إشارة أخرى إلى نفوذ علم الله إلى كل ما يجرى فى ملكه.. وأن هؤلاء الذين يستبعدون أن يكون الله سبحانه أقرب إليهم من حبل الوريد، لا ينبغى لهم أن يستبعدوا أنه يراهم، ويرى كلّ ما يعملون.. فمن كان يظن أن الله ليس معه، فهو يراه! قوله تعالى:
«لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» هو توكيد لما قررته الآيات السابقة، من بسطة سلطان الله، وشهوده لكل شىء فى هذا الوجود، فهو سبحانه له ملك السموات والأرض، وأنه لا يملك الشيء ملكا متمكنا إلا إذا كان هذا الشيء طوع أمره، وتحت سمعه وبصره..
وقوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» أي إليه يرجع كل أمر، فلا يقع فى ملكه شىء إلا بأمره وتقديره..
قوله تعالى:
«يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي ومن قدرة الله سبحانه أنه «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» أي يدخل النهار فى الليل، فيختفى الليل، ويظهر النهار، «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» أي يدخل الليل فى النهار، فيختفى النهار، ويظهر الليل.. ففى الليل نهار مطوىّ، وفى النهار ليل مخفىّ.. «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» (37: يس) ..
فهذا ظلام يخرج من أحشاء النور.. «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (12: الإسراء) وهذا نور يتفجر من(14/749)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
باطن الظلام.. وهذا من بعض مظاهر القدرة القادرة التي تلبس المتناقضين ثوبا واحدا.. «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» تقرير لهذه الحقيقة التي تحدث عن نفوذ علم الله، إلى ما فى الصدور، من وساوس وخواطر.. وهذه شواهد قدرته سبحانه، فيما بين الليل والنهار من امتزاج وافتراق فى وقت معا..
الآيات: (7- 11) [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
«آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ»(14/750)
بعد هذا البيان المبين الذي عرضت فيه الآيات السابقة بعض ما لله سبحانه وتعالى من قدرة، وتصريف فى هذا الوجود، وماله من علم يحيط بكل شىء، وينفذ إلى خفايا الصدور، وخوالج النفوس- بعد هذا جاءت دعوة الله إلى عباده أن يستجيبوا لله، وأن يؤمنوا به وبرسوله، وأن ينفقوا مما أعطاهم من فضله، وجعلهم خلفاءه فيه ووكلاءه عليه.. وأنه ليس للخليفة، أو الوكيل أن يخالف أمر من استخلفه أو وكله..
فالإيمان بالله، والولاء له، والتصديق برسوله، هو حق الخالق على المخلوق..
والإنفاق من عطاء الله فى سبيل الله، هو حق هذا العطاء، ومطلوب الشكر عليه..
ومع أن الإيمان بالله، والإنفاق من مال الله فى سبيل الله، هو حق مطلوب أداؤه، وأداء الحقوق، هو إبراء الذمة، لا يستوجب جزاء.. ومع هذا، فقد أوجب الله سبحانه على نفسه- فضلا وإحسانا- أن يجزى على أداء تلك الحقوق جزاء كريما، وأجرا كبيرا.. «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» قوله تعالى «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» بعد أن جاءت تلك الدعوة الآمرة الهاتفة بالإيمان بالله والإنفاق فى سبيله فى قوله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» ، وبعد أن أعقب هذه الدعوة هذا الوعد الكريم من الله سبحانه وتعالى بالجزاء العظيم، والأجر الكبير لمن يستجيب لها- جاءت الآيات بعدها لتناقش هذه الدعوة، ولتلقى أولئك المترددين فى قبولها، لقاء المنكر عليهم موقفهم هذا، المطالب لهم ببيان العلة أو العلل التي تحول بينهم وبين إجابة داعى الله الذي(14/751)
دعاهم.. «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟» أي أىّ شىء يحول بينكم وبين الإيمان بالله.. وهذا رسول الله إليكم، يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ لماذا لا تجيبون دعوة الله وتؤمنون به؟
إن دعوتكم إلى الإيمان بالله، وبعث رسول من عند الله إليكم بها، هو فضل من فضل الله عليكم، وإحسان من إحسانه إليكم، إذ كان من شأنكم أن تكونوا مؤمنين، من غير دعوة مجدّدة إليكم.. فلقد دعاكم الله سبحانه وتعالى إلى الإيمان من قبل، وأخذ ميثاقكم وأنتم فى ظهور آبائكم، فأجبتم ولبيتم.. فما لكم لا تذكرون هذا الميثاق، ولا توفّون به؟ ثم مالكم إذ قد نقضتم الميثاق، أن تجددوه على يد الرسول الذي بعثه الله إليكم ليذكر كم به، ويقيمكم عليه؟.
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . أي إن كنتم ما زلتم على إيمانكم بالله الذي وثّقه معكم وأنتم فى ظهور آبائكم- فما لكم لا تؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول من إيمان، وهو إنما يدعوكم إلى هذا الإيمان الذي آمنتم به من قبل؟ وعلى هذا يكون مفهوم نظم الآية هكذا: «وما لكم لا تؤمنون بالله إن كنتم مؤمنين» وأما قوله تعالى: «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ» فهما جملتان حاليتان تكشفان عن حال المخاطبين وهم يدعون إلى الإيمان ولا يجيبون دعوة الداعي..
وهذا يعنى أن دعوة الإسلام، هى دعوة تلتقى مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن من يرفض هذه الدعوة أو ينكرها، فهو منحرف عن الفطرة، حائد عن طريقها..(14/752)
والميثاق الذي أخذه الله سبحانه على الناس، هو فطرتهم التي أودعها فيهم، والتي يولد عليها كل مولود، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى!» (172: الأعراف) ..
فكل مولود يولد سليما معافى من داء الشرك والضلال، أشبه باللبن يخرج من الضرع.. وقد يتعرض هذا اللبن للعطب والفساد بما يعلق به من أفذار، وما يتخلّق من هذه الأقذار من جراثيم..
وفى الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» ..
ودعوة الإسلام، هى دعوة إلى الفطرة، وإلى تطهيرها مما يكون قد علق بها من آفات.. «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (30: الروم) ..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
هو بيان لفضل الله على عباده، إذ يجدّد دعوته إليهم، ويدعوهم إلى توثيق الميثاق الذي نقضوه، بما ينزل على عبده محمد صلوات الله وسلامه عليه، من آيات بينات، ليخرجهم بها من الظلمات إلى النور، وليعيد إليهم فطرتهم التي أفسدوها.. وهذا من رأفة الله سبحانه بعباده، ورحمته(14/753)
بهم.. «وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. فسبحانه، سبحانه، من رب كريم، برّ رحيم!! وألا خسر وخاب من أعرض عن ربه، وأسلم زمامه ليد شيطانه!.
وفى قوله تعالى: «ينزل» إشارة إلى أن القرآن لم يكن قد تمّ نزوله بعد، وأنه مازال يتنزل حالا بعد حال..
وفى قوله تعالى: «عَلى عَبْدِهِ» دون أن يذكر اسم هذا العبد- إشارة إلى أنه هو عبد الله، الذي تتحقق فيه صفة العبودية الكاملة لله، حتى أنه إذا أضيف إليه هذا العبد من غير ذكر اسمه، لم يكن المقصود إلا هو، وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وهذا مقام جليل لا يبلغه أحد من عباد الله.. فصلى الله عليك يا رسول الله، وعلى آلك، والمهتدين بهداك، وسلم تسليما كثيرا كثيرا..
قوله تعالى:
«وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ.. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا.. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى.. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.» ..
والشقّ الآخر من شقّى الدعوة التي يدعو الله سبحانه عباده إليها، بعد الإيمان به، هو الإنفاق فى سبيله..
فإذا استجاب العبد لدعوة الله، وآمن به، فلم لا ينفق فى سبيله؟
ولم يمسك هذا المال الذي آتاه الله؟ ولم يضنّ به على الإنفاق فيما يدعوه.(14/754)
إليه؟ أله شىء من هذا المال؟ أليس هذا المال من مال الله؟ وهل يملك أحد شيئا، مع الله سبحانه الذي له ملك السموات والأرض؟ وهل يبقى هذا المال فى يد ممسكيه إلى الأبد؟ وكيف.. ولله ميراث السموات والأرض؟ فمن أمسك هذا المال الذي فى يده، فهو صائر يوما إلى غيره..
ثم هو صائر آخر الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» (40: مريم) ..
وقوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا» - هو خطاب للمنفقين فى سبيل الله، وأنهم ليسوا على درجة واحدة فى الثواب والجزاء على ما أنفقوا..
فالذين أنفقوا- ولو قليلا- فى ساعة العسرة، وفى حال كان الإسلام فيها فى دور الامتحان والابتلاء، لم تثبت قدمه بعد، ولم يتمكن سلطانه- الذين أنفقوا فى هذه الحال، وقاتلوا، هم أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح، وبعد أن علت راية الإسلام، وانجحر الشرك، ودالت دولة المشركين..
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح- وهو فتح مكة، أو صلح الحديبية- إنما كانوا ينفقون ويقاتلون ابتغاء وجه الله، من غير أن ينظروا إلى مغانم تقع لأيديهم، ومن غير أن يكون لسلطان الإسلام قوة قاهرة تدعوهم إليه، أو سلطان ظاهر يغريهم به، وإنما أنفقوا ما أنفقوا من أموال ونفوس، لما وقع فى نفوسهم من إيمان بالله، وطمع فى رضوانه..
وهؤلاء هم الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله:(14/755)
«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (10- 11 الواقعة) ..
كما أشار إليهم سبحانه بقوله: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» (100: التوبة) ..
أما الذين أنفقوا بعد الفتح، وقاتلوا فى سبيل الله، فإنما ينفقون ويقاتلون، وقد أنفق الناس جميعا وقاتلوا، سواء منهم من نظر إلى سلطان الإسلام، أو لم ينظر.. وشتان بين منفق ومنفق، ومقاتل ومقاتل..
فتلك حال وهذه حال، ولكلّ من الحالين حساب وتقدير..!
وقوله تعالى: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» أي أن كلا من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا- هؤلاء وهؤلاء قد وعدهم الله الحسنى، أي المنزلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى..
فهم جميعا فى رضوان الله.. وإن اختلفت حظوظهم ومنازلهم من هذا الرضوان..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - إشارة إلى ما يصحب هذه الأعمال من نيّات.. فقد يتلبس العمل السابق بنية تحبطه، لأنه لم يكن خالصا لوجه الله.. وقد يجىء العمل المتأخر مصحوبا بنية خالصة لوجه الله، فيسبق المتأخر المتقدم.. «وإنما لكل امرئ ما نوى» ..
وهذا مما يعلمه الله سبحانه وتعالى من عباده، وما انعقدت عليه نياتهم..
وفى قوله تعالى: «أَنْفَقَ وقاتَلَ» وفى الجمع بين الانفاق والقتال فى(14/756)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
سبيل الله- فى هذا إشارة إلى أن الإنفاق ليس مقصورا على المال وحده، وإنما هو إنفاق من النفوس، وبذلها فى سبيل الله.. فمن لم يكن ذا مال لم يحرم اللّحاق بالمنفقين من أموالهم، وذلك بالإنفاق من ذات نفسه، ومن كان ذا مال لم يمنعه الإنفاق من ماله أن ينفق من ذات نفسه، فيجمع إحسانا إلى إحسان، وقد يكون الإنفاق إلى جانب النفس والمال، إنفاقا من حصافة الرأى، وحسن التدبير، والنّصح للمؤمنين..
قوله تعالى:
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى أن يقرضه المؤمنون مما أعطاهم، فيضاعف لهم هذا القرض، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى..
وإنه ليس بعد هذا عذر لمعتذر ممن يؤمنون بالله واليوم الآخر فى ألّا يجيبوا دعوة الله سبحانه وتعالى، وألّا ينفقوا مما خولهم إياه، وجعله ملكا خالصا لهم، فيأخذ منهم ما أنفقوا أخذ المقترض، الذي يشكر لمقرضه، ويحمد صنيعه معه.. فسبحانه سبحانه من رب بر رحيم!!! والقرض الحسن، هو أن يكون من مال مكتسب من حلال، وأن يكون من أكرم مال المنفق وآثره عنده، وأن يخرجه من يده عن طيب خاطر، ورضا نفس، وأن يكون الإنفاق والنفس راغبة فى الحياة، مقبلة عليها، لا بعد أن يهرم المرء ويذهب شبابه، وتنطفىء حدة رغباته، وشهواته..
الآيات: (12- 15) [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)(14/757)
التفسير قوله تعالى:
«يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
الظرف هنا متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» أي أن الذي يقرض الله قرضا، فيضاعفه الله سبحانه وتعالى له، ويعطيه الأجر الكبير عليه- إنما يجد ذلك يوم القيامة، يوم ترى- أيها الرائي فى ذلك اليوم- المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم..
والمراد بالنور- والله أعلم- هو الإيمان، وما يتبعه من الأعمال الصالحة، حيث يكون هذا الإيمان نورا هاديا لأصحابه إلى الجنة.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» . (9: يونس)(14/758)
والنور الذي فى أيمان المؤمنين والمؤمنات يومئذ، هو صحف أعمالهم التي يتناولونها بأيمانهم. فتكون أمارة من أمارات السلامة والنجاة، كما تكون نورا هاديا يتجه بهم إلى طريق الجنة.
وقوله تعالى: «بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . هو النداء الذي ينادى به المؤمنون والمؤمنات من الملائكة يوم القيامة، حيث يلقونهم مرحبين بهم، مسرعين إليهم بزفّ هذه البشرى المسعدة، مهنئين لهم بما ظفروا به من رحمة الله ورضوانه فى هذا اليوم العظيم..
وقوله تعالى:
«يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ.. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» .
هو وصف لموقف من تلك المواقف التي تجرى يوم القيامة بين أهل المحشر، من خصام، وملاحاة، وترام بالتّهم، وقذف بالشناعات..
وهنا موقف بين المنافقين والمنافقات، وبين المؤمنين والمؤمنات..
ذلك أنه حين يرى المنافقون والمنافقات أن المؤمنين والمؤمنات قد زايلوا موقف الحشر، وساحة القضاء، إلى دار الخلد والنعيم، يسعى بهم نورهم إلى دارهم تلك- حين يرى المنافقون والمنافقات ذلك، يركبهم الكرب، ويستبدّ بهم الفزع، بعد أن انطلق المؤمنون والمؤمنات من بينهم، وأخذوا طريقهم إلى الجنة.. وهنا يحاول المنافقون والمنافقات أن يتعلقوا بأذيالهم، وأن يلحقوا بهم. فينادونهم: «انظرونا» أي انتظرونا وأمهلونا قليلا(14/759)
«نقتبس من نوركم» أي نمشى على نوركم، ونتعرف على طريق السلامة بالجري على آثاركم.
وقوله تعالى: «قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» هو الجواب الذي يجاب به على ما سأل المنافقون والمنافقات بقولهم: «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» ..
وقد يكون هذا الجواب من المؤمنين والمؤمنات، وقد يكون من الملائكة.. ولهذا بنى الفعل للمجهول، ذلك لأن هذا الجواب هو الجواب الذي لا جواب غيره، وإن لم ينطق به أحد.. فهو جواب الحال، قبل أن يكون جواب المقال.. وهو ردع للمنافقين والمنافقات، وحبس لهم فى أماكنهم التي هم فيها لا يبرحونها، حتى يقضى الحق فيهم قضاءه.
وقوله تعالى: «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» .
ضرب بينهم: أي أقيم، ورفع بين المنافقين والمنافقات، والمؤمنين والمؤمنات، هذا الحجاز، وهو «سور» أي حائط، له باب، هو الباب الذي دخل منه المؤمنون والمؤمنات إلى ساحة الرحمة والمغفرة، وقد أغلق بعد أن دخل المؤمنون والمؤمنات إلى رضوان الله، وبقي فى الخارج المنافقون والمنافقات ينتظرون قضاء الله سبحانه وتعالى فيهم، وإنه لقضاء عدل، حيث ينال المنافقون والمنافقات جزاء ما كانوا يعملون..
ويلاحظ هنا فى هذا الموقف، أن المؤمنين والمؤمنات، والمنافقين والمنافقات، كانوا فى موقف الحساب والمساءلة، وأن المؤمنين والمؤمنات(14/760)
قد فصل فى أمرهم، وبرئت ساحتهم، وسيقوا إلى الجنة زمرا، وأن المنافقين والمنافقات قد همّوا ليلحقوا بهم، فضرب بينهم بهذا السد، وهو سد يحول بين المنافقين والمنافقات وبين الخروج من مكانهم الذي هم فيه.. وفى التعبير عن إقامة هذا الحاجز أو هذا السور بين أهل الجنة وأهل النار- فى الإشارة إلى هذا بالضرب، ما يدل على أن هذا السور قد أقيم مرة واحدة، فى لحظة خاطفة، ولم بين لبنة لبنة، وجزءا جزءا.. وشبيه بهذا ما يقام من خيام، فإنه يسمّى فى حال إقامته بالضرب.. كما يقول الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج
كما أن الضرب للشىء يستعمل لما يلزم ويدوم منه، كما فى قوله تعالى «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» (61: البقرة) أي لزمتهم الذلة والمسكنة لزوما دائما لا يزول.
أما الباب الذي لهذا السور، فهو معدّ لمن بقي من أهل السلامة فى الموقف، ولم يدخل الجنة بعد، ولم يلحق بالذين سبقوا من المؤمنين، حيث أبطأ به عمله.. ولكنه مع هذا سائر على طريق النجاة.. فإذا بلغ أول هذا الطريق، دخل من هذا الباب، فوجد أرواح الرحمة، والرضوان..
وقوله تعالى: «باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» - إشارة إلى أن الذين يجوزون هذا السور من المؤمنين والمؤمنات، يجدون ريح الجنة، وراء هذا الباب القائم على السور، أما الذين ظلوا فى موقف الحشر، خارج هذا السور، فإنه لا يطلع عليهم فى موقفهم هذا إلا نذر الشر، والعذاب..(14/761)
قوله تعالى:
«يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟. قالُوا بَلى! وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» .
أي أن المنافقين والمنافقات، وقد وجدوا المؤمنين والمؤمنات، أخذوا طريقهم إلى الجنة، ولم يستجيبوا لندائهم أن: «انظرونا نقتبس من نوركم» - حين رأوا ذلك عجبوا لهم، وجعلوا يسائلونهم: «ألم نكن معكم؟» ..
أي: ألم نكن نحسب من المؤمنين، بينكم؟ ألم تعاملونا معاملة أهل الإيمان؟
فلماذا تتبرءون منا الآن، وتأخذون طريقا وحدكم، لا حساب لنا فيه معكم؟
ويأتيهم الجواب من المؤمنين: «بلى!!» أي لقد كنتم حقّا معنا، ولكن بألسنتكم- أيها المنافقون والمنافقات، لا بقلوبكم- كان إيمانكم، وبهذا دخلتم مدخل المؤمنين فى الدنيا، بهذه الثياب الزائفة من النفاق، التي اتخذتموها زيّا لكم، لتدخلوا به فى زمرة المؤمنين.. أما قلوبكم فهى على ما هى عليه من ضلال، وشرك، وكفر.. وأنتم هنا فى هذا الموقف- موقف القيامة- إنما تحاسبون على ما فى قلوبكم، وقد كشف الله سبحانه وتعالى ما بها من نفاق!! لقد كنتم معنا، وكنتم فى حساب المؤمنين، لأننا لا نعلم ما فى قلوبكم من نفاق وخداع.. ولكنكم كنتم فى حقيقة الأمر، على غير سبيل المؤمنين.. فلقد «فتنتم أنفسكم» ، وأوردتموها موارد الضلال، «وتربصتم» أي كنتم تتربصون بالمؤمنين، وتنتظرون ما يحلّ بهم من هزيمة وخذلان، فتنفضون أيديكم منهم، وتجدون لكم طريقا إلى عدوهم..
«وارتبتم» أي كنتم فى ريبة وشك من دين الله، فلم تؤمنوا به عن صدق ويقين، «وغرتكم الأمانى» أي وظللتم فى خداع أنفسكم بتلك الأمانى(14/762)
الباطلة، التي كنتم تمنونها بها «حتى جاء أمر الله» .. أي حتى جاءكم الموت، وأنتم فى هذا الموقف من التربص والريبة والغرور.. «وغركم بالله الغرور» أي أنكم كنتم فى هذا كلّه منقادين للشيطان الذي دعاكم إليه، وزين لكم طريق الضلال، فاستجبتم له، وغررتم بخداعه وضلاله.
والغرور، هو الشيطان، لأن التغرير بالناس، هو وظيفته التي خلق لها..
قوله تعالى:
«فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
هو مما يردّ به على المنافقين والمنافقات، يوم القيامة، بعد أن سمعوا ما يسوؤهم، جوابا على قولهم للمؤمنين: «ألم نكن معكم؟» .. إنهم لم يكونوا من المؤمنين، بل كانوا على نفاق خفىّ انكشف أمره يوم القيامة، ولهذا فهم يساقون إلى النار، مع الكافرين، لأنهم فى الحقيقة كانوا كافرين، وإن حسبوا فى ظاهر أمرهم من المؤمنين..
وإنه لن يقبل منهم فدية يفتدون بها أنفسهم من هذا العذاب.. تماما كما لا يقبل من الكافرين فدية.. إنهم على سواء فى الكفر والضلال.
وقوله تعالى: «مَأْواكُمُ النَّارُ» تأكيد لقوله تعالى: «لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ» .. فالفدية إنما هى فدية من النار، وإذا لم تقبل الفدية فليس إلا النار..
وقوله تعالى: «هِيَ مَوْلاكُمْ» .. هى الولىّ الذي يضمكم إليه،(14/763)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
وتقوم بينكم وبينه المودّة والتآخى.. إنه لا بد لكم من ولىّ، وقد انقطعت بينكم وبين المؤمنين والمؤمنات حبال الولاء، وليس بعد ولاية المؤمنين إلا ولاية الكافرين.. والكافرين فى النار، فخذوا مكانكم معهم فيها..
الآيات: (16- 20) [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 20]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)(14/764)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..
فهم جمهور المفسرين هذه الآية على أنها خطاب للمؤمنين جميعا، وأن الله سبحانه وتعالى وجه هذا العتاب التهديدى للمؤمنين، ولمّا يمض عليهم زمن وهم فى صحبة هذا الدين الذي دانوا به، وبين يدى الرسول الكريم، وفى مشهد من آيات الله التي تتنزل عليه!! وهذا الاستفهام، فيه إنكار وتهديد، أكثر مما يحمل من إغراء وتحضيض!! والذي ينظر فى الآية الكريمة، وفى سياقها مع ما سبقها من آيات، يجد أنها خطاب تهديدىّ لهؤلاء المنافقين الذين كانو يعيشون فى مجتمع المؤمنين ويحسبون منهم.. وقد جاء هذا الخطاب التهديدى إليهم، بعد أن رأوا مصيرهم فى الآخرة، وما انكشف من شركهم وكفرهم، وأنهم حين أرادوا أن يكونوا فى زمرة المؤمنين، وبين جماعاتهم كما كانوا فى الدنيا، وحين هتفوا بالمؤمنين «ألم نكن معكم؟» - حين فعلوا ذلك، تحت ثوب النفاق الذي لبسوه فى الدنيا، قيل لهم: «بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ» ..
وإنه إذ يلقاهم هذا الخطاب التهديدى، بعد أن رأوا- وهم فى الدنيا-(14/765)
أن نفاقهم سينكشف يوم القيامة، وأنهم سيحشرون مع الكافرين- إذ يلقاهم هذا التهديد، فإنه إنما يوقظهم من غفلتهم تلك عن أنفسهم، وعن خداعهم لها، وأنه قد آن لهم أن يكونوا فى المؤمنين ظاهرا وباطنا، وإلّا فقد عرفوا أين يكون مكانهم يوم القيامة، إذا هم ظلوا قائمين فى هذا الموقف الذي هم فيه، وأنه ليس لهم مأوى إلا النار..
فقوله تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟» ..
هو دعوة مجدّدة إلى أولئك المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض، من المنافقين وأشباه المنافقين، الذين يعيشون بين المؤمنين، ويحسبون فى جماعتهم، ويشهدون مشاهدهم فى الحرب والسلم، كعبد الله بن أبىّ بن سلول، وغيره من الذين لم تطمئن بالإيمان قلوبهم، ولم تخشع لذكر الله وما نزل من آياته..
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟» ..
أي: ألم يحن الوقت الذي تخشع فيه لذكر الله، ولما نزل من الحق- قلوب هؤلاء المؤمنين الشاكّين المترددين؟ وماذا ينتظرون بعد هذا وقد عاشوا فى الإسلام وقتا كافيا، اطّلعوا فيه على سيرة الرسول فيهم، واستمعوا إلى آيات الله التي يتلوها عليهم؟.
وفى تسميتهم مؤمنين، إغراء لهم بتصحيح إيمانهم، وبإخلاء قلوبهم من النفاق، وإخلاص نياتهم لهذا الدين الذي لبسوه ظاهرا، بأن يلبسوه باطنا..
إنه أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي ليس من همّها قتل المرضى، بل همّها الأول هو الطّبّ لدائهم، وتقديم الدواء الناجع لعللهم..(14/766)
وقوله تعالى: «وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» - أي ألم يجىء الوقت الذي تخشع فيه قلوب هؤلاء المؤمنين المنحرفين، لذكر الله، وما نزل من الحق، وألا يكونوا كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب من اليهود، الذين قست قلوبهم، فجفوا دينهم، وعبثوا بشريعتهم، وخرج كثير منهم جملة عن دينه وأحكام شريعته؟
وفى تشبيه هؤلاء المؤمنين المرتابين فى دينهم بأهل الكتاب من اليهود- إشارة إلى ما كان بين هؤلاء المؤمنين المنافقين، وبين هؤلاء اليهود من اجتماع على الكيد للإسلام، والتربص بالمسلمين.. وفى هذا ما يكشف هؤلاء المرضى من المؤمنين، وأنّ من ينضوى منهم إلى هؤلاء اليهود، أو يلقاهم بالمودة، وهم على هذا الكيد للمؤمنين، فهو من المنافقين، وإلا كان عليه أن يعتزل مجالس هؤلاء اليهود، وأن يقطع حبال الود التي بينه وبينهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً» (11: الحشر) فهذا وجه بارز من وجوه النفاق، لا يجتمع مع الإيمان فى قلب مؤمن أبدا..
وليس القيد الوارد على حال أهل الكتاب فى قوله تعالى: «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» - ليس قيدا مشتركا بينهم وبين المنافقين وأشباه المنافقين من المؤمنين المخاطبين بهذه الآية، وإنما هو قيد خاص بأهل الكتاب الذين صاروا إلى تلك الحال من قسوة القلوب والفسوق عن دينهم، بعد أن تراخى الزمن بينهم(14/767)
وبين نبيهم الذي جاءهم بالشريعة التي يدينون بها، وبعد أن توارثوا هذا الداء، فقست قلوبهم، ولم تعد تقبل خيرا..
وقد جعل المفسرون هذا القيد: «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» - قيدا جامعا للمؤمنين وأهل الكتاب.. وهذا هو الذي جعلهم يجعلون قوله تعالى:
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» - خطابا عامّا للمسلمين جميعا، يدخل فيه صحابة رسول الله، كما يدخل فيه من فى قلوبهم مرض من المؤمنين، وهذا لا يتفق أبدا مع الحال التي كان عليها صحابة رسول الله، الذين أعطوا كل وجودهم لله، ولرسول الله، ولدين لله، وإنه ليس وراء ما أعطوا بقية من مشاعر الخشوع والولاء تعطى فى هذا المقام! قوله تعالى:
«اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
هو خطاب لهؤلاء المؤمنين المنافقين الذين لم يملأ الإيمان قلوبهم خشية وجلالا وولاء لله، ولرسوله، وللمؤمنين.. فهؤلاء إنما هم فى شك من البعث وأن هذا الشك هو الذي أقامهم من الدين هذا المقام المنحرف، ولهذا كان من تمام دعوتهم إلى تصحيح إيمانهم، أن يكون إيمانهم بالبعث واقعا موقع اليقين من قلوبهم وعقولهم، وأنهم إذا كانوا فى شك من هذا، فليعلموا أن أمر البعث لا يختلف عما يرونه بأعينهم من إلباس الأرض الميتة ثوب الحياة.. فالله سبحانه الذي يحيى الأرض بعد موتها، لا يعجزه أن يحيى الأجسام بعد موتها، فهذا من ذاك.. سواء بسواء.(14/768)
وقوله تعالى «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» استدعاء لهؤلاء المخاطبين، المنحرفين، أن يستدعوا عقولهم- إن كانت لهم عقول- وليتدبروا موقفهم من البعث، بالنظر إلى ما تفعله قدرة الله سبحانه بالأرض الميتة! قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» .
هو دعوة مجدّدة أيضا إلى هؤلاء المؤمنين المنحرفين، أن ينفقوا فى سبيل الله، بعد أن يصححوا إيمانهم، وأن يدخلوا دخولا كاملا فى دين الله، وأن يصبحوا من المؤمنين الذين خاطبهم الله سبحانه فى الآيات السابقة بقوله:
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» .. فليلحقوا بهؤلاء المؤمنين، الذين دعوا إلى الإنفاق فى سبيل الله واستجابوا لما دعوا إليه..
إنهم إن فعلوا كان لهم ما لإخوانهم الذين سبقوهم من مضاعفة الجزاء، ومن الأجر الكريم، الذي أعدّ لهم.. وهذا هو السر- والله أعلم- فى هذا التشابه الذي جاء عليه نظم الآيتين:
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» .
«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» .
والمصّدّق: أصله المتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت الصاد فى الصاد.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» .(14/769)
هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ» .
أي أنه إذا كان الإنفاق فى سبيل الله مما يردّ إلى المنفق مضاعف القدر، كريم الأجر- إذا كان ذلك كذلك، فإن هذا الإنفاق لا يزكو، ولا يطيب، ولا يعطى هذا الأجر الكريم- إلا إذا كان عن إيمان وثيق بالله، وبرسوله..
فالإيمان بالله رسوله، إيمانا خالصا من كل شائبة، هو الذي يزكّى كل عمل يعمله المؤمن، قلّ هذا العمل أو كثر، وهو الذي يرفع العبد عند ربه إلى درجه الصديقين والشهداء..
والصدّيق، هو كثير الصدق، أي من كان مصدقا بكل ما نزل من آيات الله، وبكل ما سمع من رسول الله، لا يرتاب فى شىء، ولا يتوقف عند شىء.. سواء عقله أو لم يعقله، وسواء وافق هواه أو خالفه.. فهذا هو الإيمان فى صميمه.. إنه ولاء، وطاعة، وإسلام، واستسلام.. ومن هنا كان «أبو بكر» رضى الله عنه «الصدّيق» الأول، و «الصديق» الأكبر، لأنه بعد أن آمن بالله وبرسوله، جعل عقله وراء كل ما يعرض له من أمر الله ورسوله.. وفى حادث صلح الحديبية، شاهد لهذا، فقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، قد سار بالمسلمين عام الحديبية، على أن يدخل هو والمسلمون المسجد الحرام، وذلك لرؤيا رآها النبي الكريم، وأعلم المسلمين بها.. فلما وقفت قريش فى وجه الرسول وأصحابه، وهم على مشارف مكة، وانتهى الأمر بينه وبين قريش إلى أن يعود النبي بأصحابه هذا العام، وألا يدخلوا على قريش مكة فى عامهم هذا، على أن يعودوا حاجّين فى العام القادم، بعد أن تخلى قريش مكة لهم- وإنه لما انتهى الأمر إلى هذا الموقف، اضطرب المسلمون، وكثرت تساؤلاتهم عن هذا الوعد الذي وعدهم النبي إياه من دخول المسجد الحرام- كان أبو بكر رضى الله عنه، هو الذي لم يقع فى قلبه شىء من(14/770)
هذا الذي وقع فى نفوس المسلمين، حتى إنه جاءه عمر متسائلا، قال له تلك القولة القاطعة الحازمة: «الزم غرزه» أي قف عند حدّك، ولا تراجع فى أمر فعله النبي! وهذا ما جاء به قوله تعالى بعد ذلك، فى القرآن المدنىّ: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (36: الأحزاب) .
فمن آمن مثل هذا الإيمان أو قريبا منه، فهو من الصديقين.. فصحابة رسول الله، أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من وجوه الصحابة هم من الصديقين، وإن اختلفت منازلهم، فى مقام الصدّيقيّة والشهداء: جمع شهيد وشاهد، وهم الذين آمنوا بالله ورسله، فهم صديقون وهم شهداء عند ربهم، وتلك صفة أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه، التي يشير إليها سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (143: البقرة) كما يصحّ أن يكون معنى الشهداء، هم الذين شهدوا بصدق الرسول، وأسلموا له، حين دعاهم إلى الله، وتلا عليهم آيات الله..
وهذا التأويل للشهداء، هو أولى عندنا من القول بأنهم هم الذين يقتلون فى سبيل الله.. وذلك أن القرآن الكريم لم يغلّب إطلاق لفظ «شهيد» أو شهداء على الذين يقتلون فى سبيل الله، بل غلّب على ذلك لفظ القتل. كما فى قوله تعالى:
«وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (74: النساء) وكما فى قوله سبحانه: «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (157 آل عمران) .. وفى استعمال لفظ القتل فى مقام الجهاد فى سبيل الله، ما يكشف للمجاهد عن الموقف الذي يدعى إليه، وأن مما قد يكون(14/771)
فى هذا الموقف، القتل، فليوطن نفسه على هذا، فإذا خرج على تلك النّية، كان قوة عاملة من قوى الحق، فلا يحجم عن الإقدام، ولا يفرّ عند اشتداد البأس، ولا يهاب القتل الذي أعدّ نفسه له.. وهذا خير مما لو صور له الموت فى موقف القتال فى صورة مجازيّة، يبدو فيها الموت فى صورة غير صورته التي يلقاه الناس عليها، ثم إذا استقبله المجاهد فى موقف القتال على حقيقته، أنكر ما عرف منه فى تلك الصورة المجازية، والتمس لنفسه السبيل أو السبل التي تباعد بينه وبينه!! ومن جهة أخرى، فإن الذين يقتلون فى سبيل الله، قد كان لهم فى القرآن الكريم ذكر خاص بهم، يشير إلى مقامهم عند الله، وما أعد الله لهم من حياة طيبة فى الدار الآخرة.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (170: آل عمران) .. وعن هذا المعنى جاء الوصف لمن يقتلون فى سبيل الله بأنهم شهداء.. إذ كان موتهم لم يقطع الحياة عنهم، فهم أحياء يرزقون عند ربهم، وهم فى مقام عال يشهدون منه ما يجرى فى العالم الدنيوي..!
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَالشُّهَداءُ» معطوفا على الصديقين، أي:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» أولئك هم الصديقون، وهم الشهداء عند ربهم وقوله تعالى: «عِنْدَ رَبِّهِمْ» متعلق بالصديقين والشهداء، وقع موقع الحال..
وقوله تعالى: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ» - خيرثان عن الذين آمنوا بالله ورسله.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ»(14/772)
هو وعيد لهؤلاء المنافقين المكذبين بآيات الله، فهم فى زمرة الكافرين، وليس للكافرين من مصير إلا عذاب الجحيم..
[الحياة الدنيا.. ما نأخذ منها وما ندع] قوله تعالى:
«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ.»
هو خطاب عام للناس جميعا، مؤمنهم، ومنافقهم، وكافرهم.. وفى هذا الخطاب كشف مبين عن حقيقة الحياة الدنيا، حتى يراها الناس فى وضعها الصحيح، فلا يغتروا بظاهرها، ولا يفتنوا بما تبدى لهم من صور الفتنة والإغراء..
فإن أكثر ما يضل الناس عن طريق الحق، ويعمّى عليهم سبل الخير، هو افتتانهم بزخارف الدنيا، وانخداعهم بهذا السراب الذي تلوّح لهم به، فى معرض الأمانىّ الخادعة، والآمال الكاذبة..
فالحياة الدنيا- فى حقيقتها- «لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» إن كل ما فى هذه الحياة الدنيا، هو تافه قليل الغناء، إذا ووزن بما فى الآخرة..
من نعيم، وعذاب.. فما ينعم به الذين يحسبون أو يحسبه غيرهم- أنه نعيم فى الدنيا، هو لمعة من سراب، أو قطرة من محيط مما أعد الله سبحانه لعباده المكرمين، من نعيم خالد لا يزول، كامل، لا ينقص منه شىء.. وما يشقى به(14/773)
الذين يحسبون أو يحسبهم الناس أنهم أشقياء فى الدنيا، هو نعيم، بالنسبة لعذاب الآخرة وأهوالها..
فكل ما فى هذه الحياة الدنيا، من نعيم أو شقاء، هو بالنسبة لنعيم الآخرة وشقائها، لعب ولهو.. وإذ كان ذلك هو كل ما فى الدنيا، فإن من شأن الراشدين العقلاء ألّا يقفوا طويلا عند هذا اللهو واللعب، بل إن عليهم أن يتجاوزوا هذا إلى ما وراء هذه الحياة، وأن يجعلوا من الدنيا معبرا إلى الحياة الآخرة، وأن يكون حظهم من دنياهم هو التزود ليوم القيامة، بالأعمال الطيبة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته، وكتبه، ورسله..
وقوله تعالى: «وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «لَعِبٌ وَلَهْوٌ» : أي أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بين الناس وتكاثر فى الأموال والأولاد..
وفى قوله تعالى: «زِينَةٌ» إشارة إلى أن الحياة الدنيا، وإن كانت العب واللهو، فإنها كذلك معرض من معارض الزينة، حيث يجد فيها الإنسان ما يتحلّى به ظاهرا وباطنا.. فيتحلى ظاهرا بالثياب الجميلة النظيفة، التي تبدو فيها صورته جميلة مقبولة، ويتحلى باطنا، بحلية الإيمان بالله، وبما يدعو إليه هذا الإيمان من مكارم الأخلاق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» (26: الأعراف) فهذه هى الزينة التي تحمّل الإنسان ظاهرا وباطنا..
زينة الجسد، وزينة القلب والروح..
وفى قوله تعالى: «وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» - إشارة إلى ما يجرى بين الناس من تنافس فى الاستكثار من متاع الحياة الدنيا،(14/774)
وزينتها من أموال وأولاد، لا لسدّ الحاجة، وإنما لإشباع رغبة التعالي والتفاخر، تلك الرغبة التي كلما ألقى إليها ما تشتهيه، اشتد جوعها، وازداد نهمها، فلا تشبع أبدا..
هذا، ويلاحظ أن الآية الكريمة جمعت بين خمسة أمور، من أمور الدنيا، هى موطن الفتنة بها، ومصدر الداء لكل من كان من صرعاها..
وهى اللعب، واللهو، والتزين، والتفاخر، والتكاثر فى الأموال والأولاد..
ويلاحظ كذلك، أن هذه الأمور ليست على سواء فيما يصيب الناس منها من ضرر..
فاللعب، وهو شغل الجسد، والعقل، بما يلعب به اللاعبون- هو أكبر هذه الأمور ضررا، وأشدها بلاء على الإنسان، حيث يستهلك وجوده كله، حسّا، ومعنى، فيما لا طائل تحته.. إنه لعب كلعب الأطفال..
واللهو، وإن كان ضربا من اللعب، إلا أنه قد يكون فى جانب من جانبى الإنسان، ظاهره، أو باطنه.. فهو بهذا فى المرتبة الثانية من السوء والبلاء..
ثم تجىء الزينة، لتأخذ مكانا وسطا بين اللعب واللهو، وبين التفاخر والتكاثر..
فلو وقف المرء بالزينة عند الحد الذي لا يجاوز به المطلوب، من التجمل، إلى طلب التفاخر والتكاثر- لكان ذلك محمودا غير مذموم..
ومن هذا ندرك أن الدنيا ليست شيئا بغيضا ينفر منه الإنسان، ويفر من(14/775)
وجهه، إذا هو أراد النجاة والسلامة، وإنما هى مراد فسيح، ومجال متسع للسعى والعمل، ولابتغاء كثير من وجوه الخير والنفع منها، إذا عرف المرء كيف يسوس حياته فيها، ويقيمها على طلب الطيّب النافع منها، على أن يكون ذلك فى قصد واعتدال، وبمعزل عن طلب التفاخر والتعالي، فإن من شأن التعالي والتفاخر أن يجور على حياة الإنسان نفسه، كما أن من شأن هذا أن يحمله على الجور على حقوق الناس، ابتغاء الوصول إلى الغاية التي يبلغ فيها حدّ التعالي الذي يملؤه فخرا وتيها..
فعرض الدنيا فى هذا المعرض الذي جاءت به الآية الكريمة، ليس دعوة إلى الزهد فى الدنيا، زهدا يقيم الإنسان فيها مقام الضائع المستكين، الذي لا يمسك فى يده بشىء منها- كما فهم ذلك بعض الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين، ولا يدركون مراميه البعيدة، فانسحبوا من معركة الحياة، وأخلوا مكانهم من ميادينها العاملة، فكانوا أشبه بالمنافقين الذين اندسوا فى جيش المجاهدين، فلما التحم القتال، أعطوا العدوّ ظهورهم، وولوا مدبرين..
إن الإسلام. إذ يعرض الدنيا فى هذا العرض الذي يهوّن منها، ويخفف من موازينها، إنما يواجه بهذا العرض النفس البشرية، التي من طبيعتها الإقبال على الدنيا، والتكالب على شهواتها.. وتلك حال تحتاج إلى دعوة تكسر من حدة هذا التكالب وتقيمه على صراط مستقيم..
فالناس- كل الناس- ليسوا فى حاجة أبدا إلى من يدعوهم إلى الإقبال على الدنيا، وإلى أخذ حظوظهم منها، إذ هم مقبلون بطبعهم عليها، مدعوون بحكم غريزتهم إلى الاندفاع فى هذا الإقبال إلى مالا نهاية له..(14/776)
وإنما الناس- كل الناس- محتاجون إلى من يمسك زمامهم ويروّض غرائزهم، فى تعاملهم مع الدنيا، وفى تنافسهم المهلك على ما فيها من مال ومتاع..
فكل معرض يعرض فيه القرآن الكريم، الحياة الدنيا، مستخفّا بها، مهونا من شأنها، إنما هو دواء ملطف لهذا السّعار الذي يدفع الناس دفعا فى غير وعى، إلى أن يلقوا بأنفسهم إلى مواطن التهلكة، دون أن يأخذوا حذرهم مما يلقاهم على هذا الطريق المحفوف بالمخاطر..
وقوله تعالى: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» - هو تشبيه لحال الدنيا، وما يبدو للناس منها من مفاتن ومغريات، ينخدع بها من يلهيهم ظاهر الأمور عن حقائقها..
فالحياة الدنيا- فى ظاهرها- أشبه بغيث وقع على الأرض، فبعث الحياة فى مواتها، وأخرج منها زروعا ناضرة، وحدائق ذات بهجة، ثم لا تلبث هذه الزروع وتلك الجنات أن تهيج، وتبلغ غايتها، ثم لا تلبث كذلك أن تأخذ فى الذبول والضمور، ثم نجفّ، وتصبح هشيما تذروه الرياح..
هذه هى الدنيا زرع، يملأ الأرض بهجة وجمالا، ثم إذا هذا الزرع النضر البهيج، قد زال عن وجه الأرض، وصار حطاما، وصارت الأرض خواء خلاء..
فمن أقام وجوده فى هذه الدنيا على أنها زرع لا يذبل، ولا يجفّ، ولا يتحول عن حاله، فهو مخطئ، ومن أقام وجوده فيها، على أنها جدب وقفر، فهو مخطئ كذلك.. وإنما هى زرع وحصاد، وخصب وجدب، وحياة وموت! ..(14/777)
وفى قوله تعالى: «كَمَثَلِ غَيْثٍ» - إشارة إلى أن الناس هم غيث هذه الأرض، وأنهم هم الذين يعمرونها، ويلبسونها حللا من العمران.. ولكن هذا العمران مهما امتد وعظم فهو إلى خراب، وزوال!.
وقوله تعالى: «أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ» - الكفار، جمع كافر، والكافر يطلق على الزارع، لأنه يكفر البذر فى الأرض أي يغطيه، والكفر ستر الشيء، ووصف الليل بأنه كافر لأنه يخفى الأشياء بظلامه، وكفر النعمة، وكفرانها، سترها بترك أداه شكرها.. والكافر على إطلاقه: هو من يجحد الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة.
والمعنى يمكن أن يكون على أن المراد بالكفار الزراع، كما يمكن أن يكون على أن المراد به الذين لا يؤمنون بالله، فهم الذين يعجبون بزهرة الحياة الدنيا، ويفتنون بها..
وقوله تعالى: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..
هو تعقيب على تلك الأوصاف التي وصفت بها الدنيا، من أنها لعب ولهو، وذلك بعرض ما يقابلها، وهو الآخرة، التي لا لعب فيها ولا لهو، بل كل أمرها جدّ فى جدّ.. ففيها عذاب شديد، وفيها مغفرة من الله ورضوان..
وقدّم العذاب على المغفرة، لأن الآية فى مواجهة الذين خدعوا بالحياة الدنيا وأذهبوا طيباتهم فيها.. ولهذا جاءت فاصلة الآية مؤكدة لما بدئت به: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..(14/778)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
الآيات: (21- 24) [سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 24]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
التفسير:
قوله تعالى:
«سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
بعد أن كشفت الآيات السابقة عن الوجه الصحيح للدنيا، وأنها لعب ولهو وزينة وتفاخر، وتكاثر فى الأموال والأولاد، وأنها فى حقيقتها أشبه بالزرع يبدو ناضرا جميلا معجبا، ثم لا يلبث أن يذبل ويصير حطاما- كان من تمام الحكمة أن يلفت الناس إلى الوجه الذي يتجهون إليه، إذا هم عرفوا من أمر الدنيا ما كشفت لهم عنه آيات الله- فكان قوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» -(14/779)
كان ذلك بيانا للاتجاه الصحيح الذي ينبغى أن يتجه إليه الناس، ويتنافسوا فى طلب المزيد منه، وهو العمل للدار الآخرة، وابتغاء مرضاة الله، والفوز بمغفرته، وبما أعد من نعيم فى جنات عرضها السموات والأرض، للذين يؤمنون بالله ورسله..
فقوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» هو فى مقابل قوله سبحانه:
«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ..»
فمن كان يطلب التفاخر والتكاثر، فليكن ذلك فى مجال الاتجاه إلى الله سبحانه، وابتغاء مغفرته ورضوانه بالعمل الصالح الطيب، الذي يقوم فى ظل الإيمان بالله واتقاء محارمه، ففى هذا المجال يحمد التنافس والتسابق، وفى هذا الميدان يطيب الجمع، والاستكثار، حيث يدّخر ليوم عظيم «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (30: آل عمران) ..
يقول السيد المسيح عليه السلام فى بعض عظاته:
«لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا فى السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك، يكون قلبك أيضا» ..
وفى وصف الجنة بأنها عرض السموات والأرض، إشارة إلى سعتها التي لا حدود لها، والتي لا يزاحم فيها أحد أحدا، حيث يتبوأ أهلها حيث(14/780)
يشاءون منها.. فما أوسع هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض..
فكيف يكون طولها؟.
وقوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» - إشارة إلى أن هذه الجنة لا يدخلها إلا من كان مؤمنا بالله، وبرسل الله.. فالإيمان بالله ورسله، شرط أول لدخول هذه الجنة.. فمن كان مؤمنا بالله ورسله، فهو من أهل الجنة، وإن عذّب بالنار، جزاء ما ارتكب- مع الإيمان- من آثام، وما اقترف من ذنوب! .. وفى الأثر: «أنه لا يبقى فى النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان» ..
وفى جمع الرسل إشارة إلى أن الإيمان برسل الله جميعا هو الإيمان الحق، إذ كان الرسل جميعا على دين واحد.. هو الإسلام.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» وقوله تعالى: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
الإشارة هنا قد تكون الجنة، أي أن هذه الجنة، التي أعدها الله سبحانه للذين آمنوا بالله ورسله، هى من فضل الله عليهم.. وقد تكون الإشارة للإيمان بالله ورسله، فهو من فضل الله على المؤمنين، إذ هداهم للإيمان، وفتح قلوبهم وعقولهم له، وهذا ما يشير إليه سبحانه على لسان المؤمنين فى الجنة:
«وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» (43: الأعراف) .
قوله تعالى:
«ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ(14/781)
قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» .
أي أنه ما حدث حدث فى الأرض، أو لإنسان من الناس، إلا كان ذلك أمرا مقدورا فى كتاب الله، من قبل أن يقع هذا الأمر، ويأخذه مكانه فى الأرض، أو فى حياة الناس.. وقوله تعالى: «نَبْرَأَها» أي نخرجها من عالم الخفاء إلى عالم الظهور.. ومن أسمائه سبحانه «البارئ» الذي برأ الوجود أي أوجده..
وفى التعبير عن وقائع الأمور وأحداثها بأنها «مصيبة» - إشارة إلى أن المكاره هى التي تلفت الناس أكثر من غيرها، وأنها هى التي تثير تساؤلاتهم، وتشغل أفكارهم.. أما مواقع النعم والإحسان فقلّ أن يلتفت الناس إليها، وإن التفتوا إليها أضافوها إلى أنفسهم، واعتبروها من كسب أيديهم وأن كثيرا منهم من يقول- بلسان الحال أو لسان المقال- قولة قارون:
«إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (78: القصص) والمخاطبون بهذا، هم أولئك الذين دعوا إلى المبادرة إلى الإيمان، والسعى حثيثا إلى الله، وإلى ابتغاء مرضاته وهم عاكفون على متاع الحياة الدنيا، وشهواتها- فهؤلاء يقفون من الإيمان بالله، موقف فتور، وتخاذل..
ففى إيمانهم دخل، ومن هنا فإنهم يرون ما يقع بهم من مكروه، هو من المصائب التي تملأ نفوسهم سخطا، فلا يستسلمون لأمر الله، ولا يرضون بما حكم به فيهم..
فقوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» - هو خطاب للناس عامة، وللمؤمنين بالله خاصة، ولهؤلاء الذين فى قلوبهم مرض على وجه أخص..(14/782)
قوله تعالى:
«لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» ..
الأسى: الحزن على فائت، والأسف. أشد من الحزن.
والتعليل هنا هو معلول لمحذوف، يفهم من سياق الآية السابقة، وتقديره أننا قد بينا لكم حقيقة ما يصيبكم، وأنه قدر مقدور عليكم فى كتاب- الله بيّنّا لكم هذا لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، إذ كان ذلك كله، من عند الله، الذي يملك كل شىء.. وهو سبحانه المتصرف فى ملكه كيف يشاء، لا معقب لحكمه..
وإذ كان ذلك كذلك، فإن من شأن المؤمن بالله أن يرضى الرضا المطلق بكل ما يصيبه من محبوب أو مكروه.. فالإيمان، ولاء، ورضى، وتسليم، وإنه لا يجتمع إيمان واعتراض على حكم أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وذلك هو عزاء المؤمن عند كل مصيبة، وروح نفسه عند كل كرب.. وهو لطف من لطف الله بعباده المؤمنين، الذين تخفّ عندهم المصائب، ويستساغ لديهم طعم المكاره.
أما غير المؤمنين، أو من فى قلوبهم مرض من المؤمنين، فإن وقع المصائب عليهم أليم، ونزول المكاره بهم بلاء لا يحتمل.. وهذا من العقاب المعجّل فى الدنيا لمن لا يؤمنون بالله.. فإن أي مكروه يصيبهم فى الدنيا- وهيهات أن يسلم أحد من مكارهها- يقطع نفوسهم حسرة، ويملأ قلوبهم كمدا.
هذا فى مقام المكروه، أما فى مقام المحبوب، فإن المؤمن إذا أصابه خير، ولبسته نعمة، لم يحمله ذلك على الزهو والاختيال، ولم ينظر إلى ما أصابه من(14/783)
فضل- إلّا على أنه ابتلاء من الله، وأنه مطالب بحقّ الشكر على ما أنعم به عليه، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) وأما غير المؤمن، أو المؤمن الذي فى قلبه مرض، فإن النعمة التي تقع ليده من عند الله، تفتح له طرقا إلى الاستعلاء والزهو، فيخيل إليه أن ذلك لمزيّة فيه، ولتفرده بصفات ليست لغيره، وأنه بهذا مالك أمر نفسه، قادر على أن يملك أكثر مما ملك، ويبلغ من الحياة والسلطان أكثر مما بلغ.. فلا يرضى بما أصاب، ولا يقنع بما حصّل، ولو ملك الدنيا جميعا..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» - إشارة إلى أن هذا الذي لا يضيف وجوده إلى الله، ولا يقف بالنعم التي يسوقها الله إليه فى محراب الحمد والولاء لله- هو فى معرض التعرض لسخط الله وغضبه، وحسبه بهذا شقاء وبلاء.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .
هو بدل من قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» . فإن من شأن المختال المعجب بنفسه، الفخور بما فى يده، أن يضن بماله الذي لا يرى لأحد فيه حقّا، لأنه- كما يعتقد باطلا- يرى أن ذلك من كسبه، ومن معطيات تدبيره وحوله، ثم إنه لا يقف عند هذا، بل سرعان ما يتحول إلى داعية من دعاة الإمساك عن الإنفاق فى سبيل الله، ليقوّى بذلك موقفه، ويدعم جبهته، فإن أهل الضلال إنما يأنسون بإخوانهم، ويتقوّون بالإكثار من أمثالهم، مثلهم فى هذا كمثل الشيطان إذ ضل وغوى، فكان دعوة للغواية والضلال.(14/784)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» - أي ومن يعرض عن الاستجابة لدعوة الله، والإنفاق فى سبيل الله، فقد ظلم نفسه، وأوردها موارد السوء، وأغلق بيديه هذا الباب الذي فتحه الله له، ليدخل فى رحمته، وينزل منازل رضوانه.. أما الله سبحانه وتعالى، فهو الغنى الذي بيده خزائن السموات والأرض، وما دعوته سبحانه وتعالى، لعباده أن ينفقوا مما أعطاهم، إلا فضلا من فضله عليهم، وإحسانا من إحسانه إليهم إذ أفسح لهم المجال للإنفاق على الفقراء والمساكين، الذين لو شاء الله سبحانه لأغناهم، ولسدّ الطريق على المنفقين عليهم، ولحرمهم ثواب هذا العمل المبرور.
وفى وصفه سبحانه بأنه «الحميد» بعد وصفه جل شأنه بأنه «الغنى» - فى هذا إشارة إلى أنه سبحانه هو المستحق للحمد وحده. على السراء والضراء، وعلى الغنى والفقر، وأنه سبحانه- هو الغنى الذي لا تنفد خزائنه- لم يفقر الفقراء ويحرم المحرومين إلا لحكمة وتقدير، وما كان من حكمة الله وتقديره فلا يستقبله المؤمن إلا بالحمد والرضا.
الآيات: (25- 29) [سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 29]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(14/785)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
البينات: المعجزات التي يضعها الله سبحانه فى يد رسله، لتقوم بين الناس شهادة على أنهم مبعوثون من عند الله، إلى عباده.
والكتاب: هو ما ينزل الله سبحانه وتعالى على رسله من كتب، كالتوراة والزبور، والإنجيل، والقرآن.. وسمى ما أنزل على الرسل من كتب، بالكتاب، إشارة إلى أن جميع الكتب السماوية كتاب واحد، فى دعوتها إلى الحق، وإلى الخير.
والميزان، هو شريعة الله التي يدعو إليها رسل الله، بكتاب الله الذي فى أيديهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه: قد وصف ذاته بأنه «الحميد» المستحق للحمد على ما أنعم على عباده، ولما كان من أجلّ هذه النعم(14/786)
نعمة الهداية إليه، فقد ناسب أن تذكر هنا هذه النعمة الجليلة، نعمة إرسال الرسل، وما معهم من كتب الشرائع، وما فى أيديهم من معجزات، تشهد لهم بأنهم رسل الله، وأن دعوتهم التي يحملونها إلى الناس هى دعوة الله.
وقوله تعالى: «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» هو بيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى الناس من آيات الله وكلماته، وما تحمل هذه الآيات والكلمات من أحكام وشرائع- فالحكمة من هذا، هى هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والخير، لتطيب لهم الحياة، ولتقوم بينهم روابط الأخوّة والمحبة والتعاون على البر والتقوى. هذا هو المقصد الأول لما يبشر به الرسل فى الناس، من الدعوة إلى الله، وإلى دين الله.. ولكن دعوة الخير شىء، والمدعوون إليها شىء آخر.. إنها أشبه بريح محملة بالطيب، فتنتعش بها نفوس وتختنق بها نفوس..
أو هى أشبه بالشمس، تشرق فتكتحل بنورها كثير من الكائنات، ويحيا بحرارتها كثير من المخلوقات، على حين يعمى فى ضوئها كثير من العيون، ويموت تحت أشعتها كثير من الجراثيم، والهوامّ! وقوله تعالى:
«وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» .
نظر أكثر المفسرين إلى «الحديد» هنا، على أنه إنما ذكر فى معرض التعداد لنعم الله على عباده، وأنه إذا كان بعث الرسل نعمة من أجلّ النعم، فإن الحديد كذلك نعمة من النعم العظيمة، التي يدفع به الناس عدوان بعضهم على بعض، كما يتخذون منه أدوات كثيرة غير أدوات الحرب والقتال.
عند هذه النظرة وقف المفسرون.. ولم نر أحدا- فيما بين أيدينا من كتب التفاسير- قد جاوز هذه النظرة، وجعل للحديد شأنا غير هذا الشأن الذي له فى حياة الناس، كمعدن من المعادن التي بين أيديهم..(14/787)
وأول ما يلفت النظر من أمر الحديد هنا، هو أنه خصّ بالذكر من بين المعادن كلها، وهو ليس أكثرها فائدة، ولا أعظمها نفعا.
ثم إنه مع الاختصاص بهذا الذكر من بين المعادن، قد ازداد شرفا وعظم قدرا بأن سميت سورة كريمة من سور القرآن الكريم به..
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا بد أن يكون للحديد هنا شأن غير شأنه المعروف، بمعنى أن ذكره فى مواجهة ذكر بعثة الرسل، وما يحملون من آيات الله وكلماته، لا بد أن يكون مقصودا لأكثر من معنى غير المعنى المعروف له..
والذي وقع لمفهومنا من ذكر الحديد هنا- والله أعلم- هو أنه يشير إلى ما يحمل الرسل إلى الناس من وعد، ووعيد، ومن يد تمتد بالخير والنجاح، والسلامة لمن يستجيبون لهم، وينضوون تحت أجنحتهم، ويد تمتد بالبلاء، والهلاك لمن يلقونهم بالعناد، ويرجمونهم بالسفاهات والضلالات..
فمع كل رسالة كل رسول من رسل الله، بشريات ومهلكات، بشريات للمؤمنين، ومهلكات للمكذبين، وفى أعقاب كل دعوة من دعوات الرسل حصاد كثير، بعضه للصون والحفظ، وبعضه للضياع والانحلال..
فالناس قبل بعثة الرسول إليهم يتركون لما هم فيه، من خير وشر، ومن هدّى وضلال، فإذا جاءهم رسول من رسل الله، وبلغهم رسالة ربه، قامت عليهم الحجة، وأخذوا بما أنذروا به، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .
فآيات الله التي ينزلها للناس على يد رسله هى أشبه بالحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ولهذا أشير إلى الحديد هنا بقوله تعالى: و «أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» فالحديد هنا هو البأس الذي ينزل مع آيات الله، وهو الزواجر التي تحلّ بالمكذبين(14/788)
المحاربين لله ولرسله.. والحديد أيضا هو هذا الخير الكثير الذي تتلقاه النفوس المهيأة للإيمان من آيات الله وكلماته المنزلة على الرسل.. وهذا لا يمنع من أن تبقى للحديد صفته المادية التي يعرف بها، فيتخذ منه فيما يتخذ أدوات الحرب للجهاد فى سبيل الله، وأنه كما يجاهد الرسل والمؤمنون معهم، أعداء الله بألسنتهم، فإنهم يجاهدون بأيديهم، ويدفعون بغيهم وعدوانهم بسيوفهم.
وقدّم ما فى الحديد من بأس شديد على ما فيه من منافع، لأن أكثر ما تنجلى عنه دعوة رسل الله، هو هلاك الأكثرين، ونجاة القليلين. كما يقول سبحانه عن دعوة نوح عليه السلام: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (40: هود) وكما يقول سبحانه مخاطبا النبي الكريم. «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .
قوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ» - هو معطوف على قوله تعالى «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» .. فهو تعليل آخر يكشف عن وجه ثان من وجوه الحكمة فى بعثة الرسل، وما يضع الله سبحانه وتعالى فى أيديهم من معجزات، وما ينزل عليهم من آياته وكلماته..
والحكمة الأولى من بعثة الرسل هى هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والعدل..
والحكمة الثانية، هى أن تنكشف بدعوة الرسل أحوال الناس، وما يكونون عليه من إيمان وكفر.. فيحاسب كل بما انكشف منه، وإنه لا حساب ولا جزاء إلا عن ابتلاء واختيار..
فقوله تعالى «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، بِالْغَيْبِ» - بيان لما ينكشف عنه أمر الناس من دعوة رسل الله إليهم، فعلى ضوء هذه الدعوة يعرف من هم(14/789)
أعداء الله، ومن هم أولياؤه، ومن يحارب دعوة الله، ومن ينتصر لها، ويدافع عنها.
وفى اختصاص الذين يؤمنون بالله، وينصرون دعوته، ويؤازرون رسله- فى اختصاص هؤلاء بالذكر- إشارة إلى أنهم هم أصحاب هذه الدعوة، وأنها فى حقيقتها إنما جاءت لتقودهم إلى الله، وقد انقادوا فعلا.. أما أولئك الذين كذبوا بآيات الله، وأبوا أن يستجيبوا لدعوته، فإنهم إنما كانوا شيئا عارضا فى طريق الدعوة الموجهة إلى من هم أهل لإجابتها، وإن كانت قد وجهت إليهم الدعوة ضمنا.. إن ذلك أشبه بمن يبذر بذرا، ثم يسوق إليه الماء، فإذا ظهر الزرع على وجه الأرض، ظهرت معه بعض الحشائش الضارة، التي لا يجد الزارع بدّا من اقتلاعها حتى يسلم ما زرع..!
وعلم الله سبحانه علم قديم أزلىّ، وهو غيب عن الناس، فإذا وقع من هذا العلم شىء فى الحياة وعلمه الناس، كان علما للناس، وهو فى الوقت نفسه من علم الله، وعلم الله تعالى حينئذ، علم لما وقع، وهو فى علم الله قبل أن يقع.. فعلم الله سبحانه واقع على الأمور فى كل حال من أحوالها، وفى كل زمان من أزمانها.
وقوله تعالى «بالغيب» متعلق بالفعل فى قوله تعالى: «مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ» أي وليعلم الله من ينصره ورسله فى غير مشهد من الناس، أي عن إيمان قد استقر فى القلب، واستولى على المشاعر..
وخص النصر لله ولرسله بالذكر فى تلك الحال- حال الغيب- لأنه هو النصر الذي يصدر عن صدق، وعن يقين، وهو النصر الذي لا ينقطع أبدا فى سر أو جهر، وفى قول أو عمل.. أما النصر الذي يكون بمشهد من الناس فقد يكون(14/790)
عن إيمان، وقد يكون عن نفاق، ورياء، ومصادفة.. ولهذا فإن المعوّل عليه، هو ما فى القلوب من إيمان، وما انعقدت عليه النيات من إخلاص.. فإذا صدقت القلوب وأخلصت النيات، صحت الأعمال، ووقعت موقع الرضا والقبول عند الله.
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ولرسل الله، ليس لحاجة الله سبحانه إلى من ينصره وينصر رسله، فهو سبحانه القوى الذي لا يملك معه أحد قوة، وهو العزيز الذي يملك العزة جميعا، فلا يدخل على عزته- جل شأنه- ضيم أو جور، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وأن ما يطلبه سبحانه من المؤمنين من نصره ونصر رسله، هو فضل من فضل الله على المؤمنين، إذ ندبهم لأمر هو فى غنى عنه، وذلك لينالوا أجرا، وليكسبوا خيرا.. وهذا مثل قوله تعالى فى دعوته إلى الإنفاق فى سبيل الله، وفى التعقيب على هذا بقوله:
«وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ» .. وهو تفصيل لهذا الإجمال..
فمن أرسل الله من رسل بالبينات، نوح وإبراهيم عليهما السلام.. وخصّا بالذكر لأنهما الأبوان لجميع أنبياء الله، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» .
وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» أي أن من ذرية هدين النبيين الكريمين الأنبياء والمؤمنين، كما أن من ذريتهما الأشقياء والفاسقين،(14/791)
وأن القليل من هذه الذرية من اهتدى وآمن، وكثير منهم من ضل وكفر.
وفى إفراد المهتدين وجمع الفاسقين- إشارة إلى أن أهل الهداية ذوات لها شخصية متميزة، يوزن للواحد منهم بميزان الذهب، ويحسب بحساب الجواهر الكريمة، جوهرة.. جوهرة أما أهل الضلال، فهم غثاء كغثاء السيل، يحسبون حساب الحطب، ويعدّون عدّ الحصا..
[المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟] أمريكا والمسيح
قوله تعالى:
«ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .
قفّينا: أي أتبعنا، وعقّبنا، والتقفيه للشىء إتباعه لغيره، ومجيئه على أثر ما قبله، كأنه يقفوه، ويتبع أثره.. والأنبياء والرسل هم على هذا الأسلوب، اللاحق منهم يقفو أثر السابق، ويسير على طريقه، إذ كانوا جميعا على طريق الله، يحملون مشعل الهدى، فيتسلمه اللاحق من السابق..
والرهبانية: ضرب من العبادة والتبتل، قائم على الرهبة والخشوع لله، والخشية لجلاله..
قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» أي بما حملت(14/792)
رسالة السيد المسيح من دعوة كريمة إلى الإخاء والبر والتسامح، فمن آمن بالمسيح واتبعه وأخذ بتعاليمه كان على تلك الصفات من الرأفة والرحمة.
وقوله تعالى: «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» أي وجعلوا هم رهبانية ابتدعوها..
وفى وصف الرهبانية بأنها مبتدعة، إشارة إلى أنها مما فرضه أتباع المسيح على أنفسهم، وألزموها إياها، وأنها لم تكن مما فرضه الله عليهم.. فهم الذين ابتدعوا هذه الرهبنة تقربا إلى الله بالزهد فى متاع الحياة الدنيا، والاستخفاف بمطالب النفس، من هذا المتاع الزائل..
وقوله تعالى: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» هو وصف آخر لهذه الرهبانية، وأنها لم تكن مما كتب الله على أتباع المسيح، وما شرع لهم من شريعة..
وقوله تعالى: «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» .. إلا هنا ملغاة، بمعنى لكن أي ولكن ابتدعوها هم ابتغاء رضوان الله، وطلبا لمزيد من الثواب عنده.
ويجوز أن تكون «إلا» استثناء عاملا، بمعنى أننا «ما كتبناها عليهم» أي ما قبلناها منهم، وما رضيناها لهم، بعد أن جعلوها قربة لله، ونذرا ألزموا أنفسهم به، إلا لتكون خالصة لوجه الله، قائمة على طريق العدل والإحسان..
فهذا هو الوصف الذي يقبلها الله عليه منهم، فإن هم أقاموها على هذا الوجه كانت عملا مبرورا، يقبله الله منهم، ويجزيهم عليه أحسن الجزاء..
وقوله تعالى: «فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» - أي فما رعى القوم هذه القربة حق رعايتها، وما أقاموها على وجهها المرضى منها.. وذلك فى الأعم الأغلب منهم، وإن كان بعضهم قد وفّاها حقها، ورعاها حق رعايتها، كما يشير إلى(14/793)
ذلك قوله تعالى: «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..
أي فآتينا الذين رعوا هذه الرهبانية حق رعايتها- آتيناهم أجرهم كاملا، وهم قليل..
أما أكثرهم فقد خرج عن هذا الطريق القويم، ولم يرع حق هذا العمل المبرور، الذي كانت غايتهم بإلزام أنفسهم إياه، ابتغاء فضل الله، وطلب المزيد من إحسانه..
وهذا يشير إلى أن الرهبانية أكثر من أن تحتملها النفوس البشرية، ولهذا فإنها لم تكن من شريعة الله، فلما شرعها الناس لأنفسهم، وعقدوا مع الله تعالى عهدا على مراسم خاصة بها- لم يطيقوا الوفاء بهذه المراسم، مع اتخاذهم الرهبنة زيّا.. فكان ذلك نقضا لعهد الله، وخيانة للأمانة التي ألزموا أنفسهم إياها، رياء وخداعا للناس.
والمعنى، أن الله سبحانه قفىّ أي أرسل، وبعث، بعد هذين النبيين الكريمين- نوح وإبراهيم- برسل كثيرين، ثم أرسل بعد هؤلاء الرسل عيسى ابن مريم، وآتاه الإنجيل، وجعل فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، إذ كانت دعوته عليه السلام، قائمة على الموادعة والمحبة والسلام.
فالرأفة والرحمة التي جعلها الله سبحانه فى قلوب المستجيبين لدعوة السيد المسيح، إنما هى أثر من آثار هذه الدعوة التي أرسله الله سبحانه وتعالى بها، فمن لم تسكن قلبه الرأفة والرحمة، فليس من أتباع المسيح فى شىء.. إنها دعوة أرادها الله سبحانه وتعالى ليكون من أتباعها جنود فداء وتضحية فى مقام البذل والعطاء من ذات أنفسهم لهذا المجتمع الإنسانى الذي تغلى فيه مراجل الأنانية والأثرة، ويتقاتل فيه الناس بالمخالب والأنياب، كما تتقاتل الحيوانات المفترسة(14/794)
فى الغابات.. إنها دعوة لا تحتملها إلا نفوس كبيرة تستطيع أن تجد هذه المعاني النبيلة مكانا فيها..
وإذن فليس كل من آمن بالمسيح أهلا للوفاء برسالته، وإلّا لكان أتباع المسيح الذين يعدون اليوم بمئات الملايين فى الشرق والغرب- لكانوا رسل سلام، ودعاة مودة ورحمة، ولاعتدل بهم ميزان الإنسانية المضطرب، ولسكنت دواعى الشقاق والخصام، ولخمدت نيران الحروب المشبوبة فى كل ركن من أركان الدنيا، والتي هى فى حقيقتها من صنع هؤلاء الأتباع الذين ينسبون إلى المسيح، والذين لا تكف أيديهم أبدا عن العدوان على الناس، وعلى البغي والتسلط.. وحسبنا شاهدا على هذا هذا الاستعمار الغربي الذي تسلط على الناس، واستبد بالشعوب فى كل صقع من أصقاع العالم.. فأتباع المسيح، أو من ينتسبون بغير حق إليه، هم الذين استعمروا الأمم، وأذلّوا الشعوب، وامتصّوا دماء الإنسانية، فى الماضي وفى الحاضر، وإن فى أمريكا لمثلا صارخا لأبشع صورة من صور الإنسانية، حين ينزع الإنسان عنه كل مشاعر المودة والإخاء، ويلبس جلد الأفعى، فينفث سمومه فى كل من مرّ به، لا لسبب إلا إرضاء لغريزة التسلط والبغي والعدوان.. ويشهد العالم فى هذه الأيام تلك الحرب الوحشية التي يشنها الأمريكان على شعب فيتنام الفقير الأعزل، الذي يلقى بإيمانه القذائف المدمرة التي تهلك الحرث والنسل..
ومن قبل هذا العدوان الآثم على شعب فيتنام، قام الأمريكان بأبشع جريمة عرفت فى تاريخ البشرية، حين ولد على أيديهم أشأم مولود فى الوجود، هو القنبلة الذرية، فألقوا بقنبلتين كل منهما كحجم بيض الحمام، على مدينتين من مدن اليابان، هما «هورشيما» و «نجازاكى» ..(14/795)
وفى ثوان معدودة تحولت المدينتان اللتان كانتا زاخرتين بالحياة والحركة، إلى كومتين من رماد..
وبهذه الفعلة الآثمة فتحت أمريكا المنتسبة إلى المسيح باب شر لا ينسدّ أبدا حتى إذا كان صباح يوم أو مساؤه، انفلتت هذه القنابل من مرابطها، وإذا وجه الأرض قد انقلب لظهرها، وإذا كل حىّ فيها قد تحول إلى فحم أو رماد.. وهذا كله مما تصدّر أمريكا- التي تنتسب كذبا وزورا إلى المسيح- من شرور ومهلكات..
ولأمريكا هذه دور نذل خسيس مع الأمة العربية الإسلامية.. إنها تبيع دينها، وشرفها لليهود، وعلى مائدة من موائد القمار، فتغريهم بالأمة العربية، وتمدهم بالسلاح والعتاد، وتعمل على ترسيخ أقدامهم فى الأرض المقدسة، التي دنسوها بآثامهم، وخضبوا أرضها بدم الحواريين من أتباع المسيح، بل وبدم المسيح نفسه كما يعتقد الأمريكان، أتباع المسيح، بأن المسيح قتل بيد اليهود!.
إن أتباع السيد المسيح عليه السلام، لهم سمات معروفة تتمثل فيها المثل الإنسانية الكريمة فى أرفع منازلها، وأكرم وجوهها.. فمن كان على تلك الصفة فهو المسيحي حقا، الذي يباركه المسيح حواريّا من حوارييه، وتلميذا من تلاميذه، أيا كان لونه، وجنسه ومذهبه..
فالمسيح عليه السلام دعوة خير، ورحمة، ومحبة، وسلام.. وأتباع المسيح دعاة خير، ورحمة، ومحبة، وسلام..(14/796)
وللمسيح- عليه السلام- قولته المشهورة: «من ثمارهم تعرفونهم» وتلك القولة الكريمة، هى الميزان الذي يوزن به أتباعه.. وإنه بقدر ما يحمل المسيحي من ثمار هذه الدعوة المباركة يكون قربه أو بعده من المسيح، ومن رسالة المسيح..
وقد جاء القرآن الكريم كاشفا عن حقيقة رسالة السيد المسيح، وعن آثارها فيمن يتقيمون، فيقول الله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ..» (82، 83: المائدة) فعن هذه الرحمة والرأفة التي أثمرتها دعوة المسيح فى أتباع المسيح المؤمنين حقّا- كان هذا الدمع الذي يفيض من تلك القلوب الرقيقة التي تذوب حنانا، ورحمة، كلما استقبلت نسمة من أنسام الحق، وكلما طاف بها طائف من آياته..
فكيف إذن يكون للأمريكان وأمثالهم ممن ينتحلون نسبتهم إلى المسيح- كيف يكون لهم وجه يلقون المسيح به، وقد قبلوا من رفضهم المسيح، واحتضنوا من ألبسهم ثوب اللعنة إلى يوم الدين..؟
ثم كيف يكون للأمريكان وأمثالهم ممن ينتسبون إلى المسيح كذبا- كيف يكون لهم يد تصافح يد المسيح، وقد صافحوا بأيديهم تلك الأيدى الملطخة بدم حواربى المسيح وتلاميذه، بل وبدم المسيح نفسه، كما يعتقدون عن يقين أن اليهود قد صلبوه، وعلقوا دمه عليهم وعلى أبنائهم إلى يوم الدين؟
لقد كان «بيلاطس» الرومانى الوثني أبرّ بالمسيح وأعرف لقدره من(14/797)
هؤلاء الأتباع من الأمريكان وأمثالهم، الذين يطلقون البخور اليهود، فى كل مكان، ويعطونهم من ذات أنفسهم الولاء والخضوع بغير حساب، وكأنهم بهذا إنما يباركون ما صنعوا بالمسيح، ويزكّون مواقفهم اللئيمة معه، ومع حوارييه وأتباعه، على حين لم يغفر الحاكم الرومانى ولا الحكام الرومانيون الذين جاءوا بعده- لهؤلاء الآثمين القتلة جنايتهم على المسيح وأتباعه، بل لقد ظلت فى قلوب الرومان الذين قاموا على حكم اليهود، بغضة ونقمة، إلى أن ضربوا اليهود تلك الضربات المتتالية المهلكة التي لوت أعناقهم، وأضرعت للأرض خدودهم..
إن «بيلاطس» الحاكم الرومانى الوثني، لم يستبح دم المسيح، ولم يقبل من اليهود الذين حاكموا المسيح إليه، أن يأخذه بالتهم الكاذبة الملفقة التي قدموه للمحاكمة بها، وطلبوا صلبه من أجلها، بل إن الرجل رأى بين يديه إنسانا بريثا تنبحه الكلاب، وتتعاوى حوله الذئاب، لتأكل لحمه وتلغ فى دمه، فأبى عليه ضميره أن يشارك فى هذا الفعل الآثم، وأن يلصّخ يده بهذا الدم البريء..
وأنه حين أعيته الحيل مع هذه الذئاب العاوية التي لا ترضى بغير دم هذا الإنسان، أو تثيرها فتنة، تصل إلى مسامع قيصر، فلا يأمن الحاكم الرومانى أن يكون هو الضحية- حين وصل الحاكم الرومانى إلى هذا الموقف، دعا بإناء، مملوء ماء، وغسل فيه يديه على أعين اليهود، ثم ألقى إليهم بقولته الخالدة: «إنى برىء من دم هذا البار.. فشأنكم أنتم معه» فتعاووا جميعا:
«بل دمه علينا وعلى أبنائنا.. إلى يوم الدين!» هذا هو «بيلاطس» الوثني، وموقفه من قتلة المسيح، الذين لم يشف(14/798)
ما بهم منه، حتى وقع فى يقينهم أنهم قتلوه، وصلبوه!! أما الأمريكان، وأما كثير غيرهم ممن ينتسبون إلى المسيح، فإنهم يضعون أيديهم فى أيدى قاتلى المسيح وصالبيه، ويزودونهم بأسلحة الهلاك والدمار، ليقتلوا بها كل معنى من معانى الرحمة، والحب، والمودة، التي بشّر بها المسيح.. وليصلبوا المسيح ويقتلوه كل يوم عشرات المرات ومئاتها، فيمن يقتلون ويصلبون، من أبرياء أبرار، من أطفال وشيوخ ونساء.. فى براءة المسيح وبره، على أرض مشت عليها أقدام المسيح، وأشرقت فيها أنوار حكمته، ورحمته..
فيا لثارات المسيح، من أتباع المسيح..!!
ونحن هنا لا ترجم بالغيب إذا قلنا إن الأمريكان وقد خلطوا أنفسهم باليهود، ودخلوا معهم فى هذا الحلف الشيطاني الذي يقوده اليهود لهدم معالم الإنسانية، وإشاعة الخراب والفساد فى كل أفق من آفاق العالم- لا ترجم بالغيب إذا قلنا إن الأمريكان- وهذا موقفهم اليوم- سيلقون نفس المصير الذي لقيه اليهود فى هذه الحياة، وسيأخذون نصيبهم من تلك اللعنة التي أنزلها المسيح عليهم، وألبسهم بها ثوب المذلة والمهانة والخزي إلى يوم القيامة! فلينتظر الأمريكان قريبا هذا المصير المشئوم، الذي لن يعصمهم منه ما بين أيديهم من قوى الشر والبغي، فإن هذه القوى نفسها هى التي سترتد إليهم، وتأتى على كل ما جمعوا وما استكثروا من مال وعتاد، والله سبحانه وتعالى يقول: «حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» ..
(24: يونس) ..(14/799)
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
الكفل. النصيب، والجزاء المقدور لما يأتى الإنسان من قول أو عمل..
وكفالة الشيء، رعايته، والقوامة عليه، سواء أكان شخصا، أو قولا، أو عملا، ومنه قوله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» (37: آل عمران) ..
والخطاب هنا للمؤمنين من أهل الكتاب، الذين ذكرهم الله سبحانه فى الآية السابقة بقوله: «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ» .
وهذا الخطاب، هو دعوة لهؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام.. أما الذين آمنوا بموسى، ولم يؤمنوا بعيسى فهم غير مؤمنين، وكذلك من آمنوا بعيسى ولم يؤمنوا بموسى، فهم غير مؤمنين أيضا، إذ كانت دعوة عيسى عليه السلام مكملة لدعوة موسى. كما يقول المسيح: «ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمل» ..
والدعوة الموجهة للمؤمنين من أهل الكتاب هنا، هى دعوة إلى أن يتقوا الله، فى أنفسهم، وفى دينهم، وألا يهلكوا أنفسهم، ويفسدوا إيمانهم..
وأنهم إذا ألزموا أنفسهم التقوى كان عليهم أن يؤمنوا برسول الله وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه.. فإن ما يدعوهم إليه، هو الإيمان الذي يؤمنون به، إن كانوا مؤمنين حقّا. ولهذا ناداهم الله سبحانه بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. فمن كان مؤمنا حقا من أهل الكتاب، فإنه لا يجد فى الإيمان برسول الله، محمد- صلوات الله وسلامه عليه- إلا دعوة مجددة للإيمان الذي تحمله دعوة موسى وعيسى، عليهما السلام..(14/800)
وقوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» هو جواب وجزاء للاستجابة لهذا الطلب الذي طلب إليهم فى قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ» - أي إنكم إن اتقيتم الله وآمنتم برسوله يؤتكم الله كفلين من رحمته، أي جزاء مضاعفا من رحمته.. جزاء على إيمانكم الصادق بموسى وعيسى- عليهما السلام- وجزاء على إيمانكم بمحمد عليه الصلاة والسلام..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» معطوف على قوله تعالى:
«يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» أي إن اتقيتم الله وآمنتم برسوله، آتاكم الله أجرا مضاعفا، وجعل لكم مع هذا الأجر المضاعف نورا تمشون به يوم القيامة..
وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» - إشارة إلى أن هذا النور، هو خاص بالذين يؤمنون بمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- وأن هذا النور لا يتحقق لأهل الكتاب إلا إذا آمنوا بمحمد..
وهذا النور الذي يجعله الله سبحانه لمن يؤمنون برسول الله من مؤمنى أهل الكتاب، هو نور فى الدنيا، يكشفون به معالم الطريق إلى الحق، كما يقول سبحانه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (15، 16 المائدة) .
ثم هو نور فى الآخرة، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول سبحانه:
«يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» (12: الحديد) .
وقوله تعالى: «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» معطوف على جواب الطلب، وبهذا يتحقق لمن يؤمن برسول الله من مؤمنى أهل الكتاب ثلاثة أمور:(14/801)
أولها: مضاعفة الجزاء لهم، وإيتاؤهم أجرهم مرتين، لأنهم آمنوا مرتين، مرة قبل مبعث محمد، ومرة بعد مبعثه..
وثانيها: أن يجعل الله لهم بهذا الإيمان نورا يمشون به فى الدنيا والآخرة وثالثها: أن يغفر الله لهم ما وقع منهم من أخطاء، أو آثام، قبل إيمانهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليه- شأنهم فى هذا شأن الجاهليين الذين دخلوا فى الإسلام.
قوله تعالى:
«لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
(الحروف التي يقال إنها زائد.. ما تأويلها؟) يكاد المفسرون يجمعون على أن «لا» فى قوله تعالى: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» - زائدة، وأن المعنى إنما يستقيم بحذفها.. وقد سوّغ عندهم القول بهذه الزيادة، واحتمال وجودها فى القرآن الكريم، ما وجدوه من بعض الشواهد لهذا فى اللغة العربية..
وهذه الشواهد، إن صح أصلها، فإنها لا تقوم حجة على القرآن الكريم، ولا ينبغى أن يؤخذ كلام الله سبحانه وتعالى بمعيارها..
فالزيادة، لغير غرض بلاغي، هى حشو، يدعو إليه الاضطرار، الذي لا يكون إلا عن عجز متحكم، لا يستطيع المرء مجاوزته، والاستعلاء عليه..
وتعالى الله سبحانه، وتعالت كلماته عن هذا علوّا كبيرا.
ونحن مع «لا» هذه بين أمرين لا ثالث لهما:
فإما أن تكون من كلام الله سبحانه.. وإذن فلا بد أن تكون من بنية(14/802)
هذا الكلام، لا يستقيم المعنى إلا بها، وأن عدم اعتبارها، عدوان على المعنى، وإفساد له.. وإما أن تكون دخيلة على كلام الله، لا يستقيم المعنى إلا بحذفها، وتجريد بنية الكلمة منها..
وهذا الفرض الثاني غير وارد أبدا فى هذا المقام، مقام الحديث عن كتاب الله، وآياته، وكلماته.. فقد تولى الله سبحانه وتعالى حفظ كتابه الكريم، من أي تحريف، أو تبديل فى كلمة من كلماته، أو حرف من حروفه. كما يقول سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (9: الحجر) .
وإذن فنحن على يقين لا شك معه، ولا ريب فيه، بأن «لا» هذه من بنية الكلمة، شأنها فى هذا شأن بقية حروف الكلمة «لئلا» ذات المقاطع الثلاثة:
اللام (لام التعليل) و «أن» (المصدرية) و «لا» النافية.
هذا ما ينبغى أن يقوم عليه إيماننا مع تلك الكلمة، ومع جميع كلمات الله، سواء انكشف لنا وجه الحق فى هذه الكلمة أو لم ينكشف، وسواء وقعت من مدركاننا موقع المحكم أو المتشابه من آيات الله. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (7: آل عمران) «1» .
ولو وقفنا عند هذا الحد من الآية الكريمة، وقلنا إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم- لو وقفنا عند هذا، لكان أولى وأحمد من القول بزيادة حرف من حروفها. حتى نطوّعها بهذا القول لمفهومنا، وإدراكنا..
__________
(1) انظر تفسيرنا لهذه الآية (7: آل عمران) فى الكتاب الثاني من التفسير القرآنى للقرآن ص 39.(14/803)
ومع هذا، فإن الآية الكريمة ليست من المتشابه، بل هى من المحكم الذي يمكن أن يكون لنا نظر فيه، وفهم له، وإن كنا لا ندّعى أننا من الراسخين فى العلم.
ونقرأ الآية الكريمة «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
وإنه لكى يقوم لنا فهم صحيح للآية الكريمة، ينبغى أن نصلها بما قبلها من آيات الله، وأن يكون نظرنا إليها قائما على مراعاة هذا الجوار المرعىّ بين آيات الله وكلماته، وإلا كان هذا قطعا منّا لما أمر الله به أن يوصل.
والآية التي تسبق هذه الآية وتجاورها، هى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وهذه الآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هى دعوة إلى المؤمنين من أهل الكتاب أن يؤمنوا برسول الله، وأنّ إيمانهم هذا هو الذي سيلحقهم بالمؤمنين، وينزلهم منازلهم، ويجعل لهم النور الذي جعله الله للمؤمنين يوم القيامة، وقد فتح الله سبحانه هذا المدخل الذي يدخل منه أهل الكتاب إلى هذا المنزل الكريم، لئلّا يعلموا أنهم لا يقدرون على شىء من فضل الله، ولئلا يقع فى تصورهم أنهم محجوبون عن هذا الفضل، لا يستطيون بلوغه بحال أبدا، إذ كان- كما خيّل إليهم- أنه فضل خاص بالعرب وحدهم.. وكلّا فإنه فضل الله، يناله كل مستجيب لله، مؤمن برسول الله.. وألا فليعلم أهل الكتاب أنهم قادرون على أن ينالوا هذا الفضل، إذا هم دخلوا فيما دخل فيه العرب.. فإن الفضل بيد الله وحده، لا بيد العرب، ولا بيد نبىّ العرب، بل هو بيد الله وحده يؤتيه الله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم الذي يسع فضله الناس جميعا، دون أن ينقص منه شىء!.(14/804)
فمعنى القدرة فى الآية الكريمة ليس معناه القدرة المتحكمة، المتمكنة، وإنما معناه الاستطاعة التي تمكن صاحبها من بلوغ ما بلغه غيره من الناس، فى السبق إلى منازل الفضل والإحسان.
ومعنى القدرة على فضل الله، إمكان التعرّض له، والنيل منه، على حسب ما يعمل الإنسان، فى سبيل مرضاة ربه، وابتغاء رضوانه.
وفى اقتصار فضل الله على شىء منه فى قوله تعالى «أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» - فى الاقتصار على هذا ليس من باب التحدي بالقدرة على هذا الشيء من الفضل، فضلا عن الفضل كله، وإنما هو إشارة إلى أن هذا الشيء من فضل الله، هو من الكثرة بحيث يسع الوجود كله، وأنه إذ أخذ العرب من هذا الشيء ما أخذوا، فإن ما أخذوه ليس إلا قطرة من بحر يمدّه من بعده سبعة أبحر..
والآية الكريمة إنما تخاطب بهذا أهل الكتاب، الذين غلب على تفكيرهم- وخاصة اليهود منهم- أنهم شعب الله المختار، وأن الله سبحانه إذا اختار شعبا- كما يزعمون- فإن فضله كلّه يتجه إلى هذا الشعب، فلا تكون منه بعد هذا بقية ينالها أحد! وهذا من سوء ظنهم بالله، وتصورهم القاصر المحدود، لجلاله وعظمته، وكماله.. ولهذا كان الحديث إليهم عن شىء من فضل الله، وأن هذا الشيء من فضل الله، يسع الوجود كله.. وإذن فلا يحجبهم عن الإيمان برسول الله هذا الشعور الخاطئ الذين يعيشون به، والذي يحيّل إليهم منه أن العرب إذ سبقوا إلى فضل الله، فلن يكون لأحد من بعدهم نصيب فى هذا الفضل..
ورتّل بعد هذا الآيتين الكريمتين معا:(14/805)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
رتلهما، وأقم فهمك للآيتين على أنهما فى مواجهة أهل الكتاب، وفى دعوتهم إلى الإيمان برسول الله، وبالدّين الذي جاء به، وعلى أن ذكر أهل الكتاب فى الآية الثانية هو إشارة إلى أن المدعوّين إلى الإيمان برسول الله فى الآية الأولى، هم أهل الكتاب هؤلاء، سواء فى هذا من استجاب منهم للدعوة، أو من أبى أن يستجيب لها..
وإنك إذ تفعل هذا ستجد أن المعنى يقضى بأن تكون «لا» هنا مطلوبة لتكون أداة نفى، لا أن تكون حرفا زائدا معطّلا عن أداء وظيفته فى بنية الكلمة..
هذا، والله أعلم.(14/806)
58 سورة المجادلة
نزولها: مدنيّة باتفاق.
عدد آياتها: اثنتان وعشرون آية..
عدد كلماتها: أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الحديد بقوله تعالى: «وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
وبدأت سورة المجادلة بعدها بقوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ» ... الآيات.
وفى هذا البدء فضل من هذا الفضل العظيم الذي بيد الله، إذ قد سمع قول هذه المرأة، التي تشتكى إليه فى مجادلتها مع النبىّ فى هذا الظّهار الذي أوقعه زوجها عليها، والذي من شأنه أنه لو مضى إلى غايته لبدّد شملها، وأفسد عليها حياتها، وأخرجها من هذا العشّ الذي يضمها ويضم صغارها.
استجاب الله سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة، وسفّه زوجها الذي أتى هذا الأمر المنكر معها، وأمسك بالمرأة وصغارها فى هذا العش الذي كانوا مهددين بالطرد منه. كما سنرى ذلك فى تفسير هذه الآيات.(14/807)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 6) [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
التفسير:
قوله تعالى:
«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .(14/808)
هكذا تبدأ السورة الكريمة، بهذه اللفتة الكريمة، من رب كريم، إلى امرأة من عامة النساء، لا يكاد يلتفت إليها أحد من قومها، بل لا يكاد يكون لها مكان ظاهر بين جيرانها الفقراء المغمورين من نساء ورجال..
فلقد سمع الله سبحانه قول هذه المرأة، التي جاءت تعرض على النبي شأنا من شئونها مع زوجها، وتشتكى إلى الله بين يدى النبي الكريم ماورد عليها من زوجها من أذى.. والنبي لا يجد سبيلا لإزالة ما تشكو منه.
والإخبار بسماع الله سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ليس مرادا به مجرّد العلم بمضمونه، فالله سبحانه وتعالى يسمع كل ما تنطق به الألسنة، وما تهمس به الخواطر، وما توسوس به النفوس. بل المراد بهذا الخبر- والله أعلم- هو التنويه بشأن هذه المرأة، وردّ اعتبارها إليها عند نفسها كإنسان كرّمه الله، وبعث إليه رسله بآياته وكلماته، وذلك بعد أن وجدت وجودها يكاد يضيع بيد زوجها الذي استخفّ بها، وعرّضها لهذا الضياع، ثم لم تجد عند رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- الحماية الكافية لردّ هذه اليد الباغية عليها، إذ لم يكن بين يدى الرسول الكريم حكم من الله، فى شأن الظّهار والآية الكريمة، والآيات التي بعدها تشير إلى حدث وقع بين امرأة بعينها وزوج بعينه، وإن كان لم يذكر لهما اسم.. لأن ذكر الاسم هنا لا ضرورة له، إذ كان هذا الحدث وإن تعلق بهذين الزوجين، ينسحب إلى كل زوجين، وإلى المبادي التي تحكم الصلة بين الزوج ولزوجة، أو الرجل والمرأة.
ومع هذا فقد احتفظ تاريخ النزول القرآنى باسم كل من المرأة والرجل، كما احتفظ القرآن الكريم بالحدث الذي وقع بينهما.
يقول المفسرون: نزلت هذه الآيات فى امرأة من الأنصار، من الخزرج،(14/809)
واسمها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، أخو عبادة ابن الصامت الصحابي المعروف.. قالوا وكان منه غضبة على امرأته هذه، فقال لها مغاضبا: أنت علىّ كظهر أمي.. وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية، وقد ندم زوجها على ما قال، وقال لها ما أظنك إلّا حرمت علىّ، فقالت لا تقل ذلك وائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إنى أجدنى أستحى منه أن أسأله عن هذا، قالت: فدعنى أسأله. قالوا: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت:
يا رسول الله، إن أوس بن الصامت تزوجنى وأنا شابة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالى وأفنى شبابى وتفرق أهلى، وكبرت سنى- ظاهر منّى، وقد ندم، فهل من شىء يجمعنى وإياه، فتنعشنى به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلّا حرمت عليه» ! قالت يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنّه أبو ولدي وأحب الناس إلىّ، وإنى إذا فارقته وضم الأولاد إليه ضاعوا، وإن وأنا ضممتهم جاعوا!! فقال «ما أراك إلا حرمت عليه، ولم أومر فى شأنك بشىء» .. قالوا فجعلت تراجع رسول الله، وكلما قال لها رسول الله حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتى، وحاجتى، وسوء حالى.. قالوا فما برحت مكانها، حتى أخذ رسول الله ما يأخذه من الوحى، فلما قضى الوحى قال: ادعى زوجك، فدعته، فتلا عليه الرسول الكريم الآيات الأولى من أول السورة.. وقال له: أعتق رقبة، فقال لا أجد، فقال: فصم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، إنى إذا جعت كلّ بصرى، وخشيت أن تغشى عيناى، فقال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ فقال لا والله، إلّا أن تعيننى على ذلك، فأعانه الرسول صلوات الله وسلامه عليه بخمسة عشر صاعا..
هذا هو موجز القصة من بين الروايات الكثيرة المختلفة الأقوال فى اسم المرأة، واسم زوجها، وإن كان هذا كما قلنا لا يؤثر فى الحكم الواقع على الحدث نفسه، وهو الظهار.(14/810)
وفى قوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ» .
فى هذا- كما قلنا- لفتة كريمة من رب كريم إلى تلك المرأة الضائعة فى معترك الحياة، وتطييب لخاطرها، وأنه إذا كان الرسول الكريم قد استمع لشكاتها، ولم يجد لها عنده جوابا شافيا- إذ كان الظهار أمرا معترفا به فى الجاهلية، ولم يكن الإسلام قد عرض له بشىء حين قرر أحكام الطلاق، حتى وقعت هذه الحادثة- نقول، إذا كان النبي قد استمع لشكاتها، ولم يجد لها عنده جوابا شافيا، فإن الله سبحانه، قد سمع هذه الشكاة، واستجاب لها، وطيب خاطرها، ورد لها اعتبارها، وأنزل العقوبة الرادعة بمن جار عليها..
ونلمح فى الآية الكريمة شيئا من العتاب الودود من الله سبحانه وتعالى للنبى الكريم. وأنه إذا كان لم يكن بين يديه حكم الله فيما تشتكى منه المرأة مما فعل بها زوجها بهذا الظهار الذي أوقعه عليها، فإنه كان عليه- صلوات الله وسلامه عليه- ألّا يقطع فى شأنها بهذا الحكم الذي يقضى بالفرقة بينها وبين زوجها- وأن عليه- صلوات الله وسلامه عليه- أن ينظرها مدة حتى يقضى الله فى شأنها، فإذا مضى زمن ولم ينزل فى شأن هذا الأمر قرآن، أجراه على ما هو جار عليه.. فهذا الأمر- أمر الظهار- منكر وزور من القول- كما وصفه القرآن بهذا فيما بعد، وأمر هذا شأنه، كان على النبي أن يتوقف فيه إلى أن يتلقّى أمر ربّه فى شأنه.
وقوله تعالى: «تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» أي تحاورك، وتحاجك فيما وقع بينها وبين زوجها.. وفى هذه المجادلة ما يكشف عن أن المرأة تنكر هذا الظهار فى شريعة هذا الدين الذي آمنت به، وأنها لو كانت على جاهليتها لما أنكرته، ولا ستسلمت لهذا الأمر الواقع.. وهذا يعنى أن الإسلام فتح على الذين دخلوا فيه آفاقا رحيبة مشرقة من التفكير السليم، والمنطق الحكيم، الذي يرفض(14/811)
الزور من القول، والمنكر من العمل.. فقد رأت المرأة على ضوء الشريعة الإسلامية، أن أمرا كهذا لا يتفق مع ما جاءت به هذه الشريعة من الرحمة والعدل، والسماحة واليسر.
ونعوذ بالله أن نفهم أو يفهم مسلم، أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه- قد غاب عنه ما فى هذا الأمر من منكر غليظ، ولكنه صلوات الله وسلامه عليه- كان فى مجلس الفصل والقضاء بحكم منصبه النبوي، وهو لا يقضى بعلمه هو، وإنما يقضى بما أوحى إليه من ربه وبما أراه الله من آياته وكلماته، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» (105: النساء) .
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان ينكر هذا الذي حدث من الرجل لزوجه، إلا أنه لم يكن قد جاءه من عند الله حكم فى الظهار الذي كانت تتعامل به الجاهلية، وتعدّه ضربا من ضروب الطلاق، تحرم به المرأة على زوجها.
وفى قوله تعالى: «تُجادِلُكَ» إشارة أخرى إلى احترام الشريعة الإسلامية للإنسان، وإعطائه حقه كاملا فى استعمال عقله، ومراجعة غيره، فيما يعرض له من قضايا الحياة.. ونرى هذا واضحا فى موقف المرأة من النبي ومراجعتها رسول الله فيما رآه فى الموقف الذي بينها وبين زوجها، حتى أنها لم تسلّم النبي بما رآه، وكان هذا الرأى عن اجتهاد فى أمر لم ينزل فيه على النبي، حكم سماوى، كما أخبرها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى قوله: «ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر فى شأنك بشىء» !! ولهذا سمّى القرآن موقفها هذا مجادلة، ولم ينكر عليها ذلك، بل جاءها بالرحمة الراحمة والفضل العظيم.
وفى إضافة المرأة إلى زوجها فى قوله تعالى: «تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» - إشارة إلى أن المرأة لا زالت زوجا لزوجها، لم تحرم عليه حرمة مؤبدة، بل ما زال(14/812)
هناك سبيل إلى وصل هذه العلاقة التي توشك أن تنقطع، وفى هذا إرهاص بأن الخبر المقبل من السماء- وراء هذا الاستفتاح- هو خبر يحمل استجابة من الله سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ومجادلتها فى أمر زوجها وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» إشارة ثالثة إلى هذا الحوار الذي جرى فى الحديث الذي كان بين المرأة وبين النبي.. فهى تتجه اتجاها، والنبي يتجه اتجاها آخر.. هى تريد ألا يكون الظهار طلاقا تحرم به على زوجها، والنبي يراه طلاقا تقع به الحرمة بينها وبين زوجها..
وفى الجمع بين النبي الكريم، والمرأة الشاكية، وفى التسوية بينها وبين النبي الكريم فى إصغاء الله سبحانه، إلى هذا الحوار فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» - فى هذا ما يرفع من خسيسة المرأة، بل ومن خسيسة الإنسانية كلها، دون أن ينزل ذلك من قدر النبي، ومن مكانه المكين عند ربه.. وهذا من فضل الله على الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسمع الله سبحانه وتعالى لهذا الحوار، ليس سمعا مطلقا، إذ أن الله سبحانه يسمع كل شىء، فى السماء والأرض.. ولكن السماع هنا سماع استجابة، وفصل فى هذا الحوار.
وعبّر بلفظ السمع، دون الاستماع، لأن السمع يكون من غير طلب، على حين لا يكون الاستماع إلا بطلب، والله سبحانه يسمع كل شىء من غير طلب لما يسمع، سواء أكان هذا المسموع سرا أو جهرا، وقريبا أو بعيدا.
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» إشارة إلى أن سمع الله يحتوى كل شىء يقع فى هذا الوجود، وأن هذه المسموعات جميعها واقعة فى علم الله موقع المبصرات، حيث تكشف المسموعات لعلم الله، حقائق مشاهدة، فيقضى(14/813)
سبحانه فيها عن علم لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، كما يقول سبحانه لموسى وهرون: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» (46: طه) .
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» .
هذا هو بيان لحقيقة الظهار، وإنه منكر من القول، وزور من الكلام، لأنه يجعل من الزوجة أمّا، الأمر الذي لا يمكن تصوره، ولا تحتمل اللغة مدلولا له على هذا الوجه الذي تتعامل به الجاهلية..
وقوله تعالى: «ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» جملة اسمية، هى خبر للمبتدأ: «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ» ..
و «ما» هنا نافية، تعمل عمل إن فى لغة الحجاز، وتسمى «ما الحجازية» للتفرقة بينها وبين «ما» التميمية التي تفيد النفي، ولا تعمل عمل إن فى لغة تميم.
و «أمهاتهم» خبر ما منصوب بالكسرة..
وقوله تعالى: «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» - هو توكيد لقوله تعالى: «ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» .. و «إن» هنا نافية بمعنى «ما» .
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» - هو حكم على هذا القول الذي يقوله المظاهرون، وهو قولهم للزوجة: «أنت علىّ كظهر أمي» .. فهو قول منكر، لأنه يضع الأمّ فى صورة الزوجة، وفى هذا استخفاف بحرمة الأمومة، وامتهان لقداسة هذه الحرمة، ووضعها مع الزوجة على كفتى ميزان. فى الحرمة، وفى الحلّ على السواء.. وهو مع ما فيه من منكر(14/814)
غليظ، هو زور من القول: فالزوج لا تكون أمّا أبدا، والأم لا تكون زوجا بحال..
وقوله تعالى: «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه قد وسع بعفوه ومغفرته، ما بقع من عباده من منكر وزور، إذا هم رجعوا إليه، وطلبوا عفوه ومغفرته: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (135: آل عمران) قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
بعد أن بينت الآية السابقة حقيقة الظهار، وكشفت عن زيفه وبهتانه، جاءت هاتان الآيتان لتبينا حكمه إذا وقع، وهذا من تمام الحكمة والتشريع، حيث يعرف وجه الأمر أولا، ثم يلحق به الحكم المناسب له، فيكون للحكم موقعه من العقول، وأثره فى الأخذ به، والامتثال له، فعلا، أو تركا.
وقد اختلف المفسرون فى تأويل قوله تعالى: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» ..
وهل معنى العود الرجوع عما قالوا والعدول عنه، أو العود إليه مرة أخرى، بمعنى أن يظاهروا مرة أخرى بعد المرة الأولى.. وبهذا القول يقول أهل الظاهر، وعلى هذا تكون كفارة الظهار عن المرة الثانية، أما الأولى، فلا كفارة عليها فى مذهبهم..
والرأى المعول عليه، هو أن معنى العود لما قالوا، هو نقض ما قالوه، والرجوع عنه.. هذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون.(14/815)
ولكن يبقى بعد هذا ما يقال من أن اللغة لا تساعد على هذا المعنى، إذ يقال عاد إلى كذا أي رجع إليه، بعد أن فارقه، ومنه قوله تعالى:
«وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (28: الأنعام) وقد جاء فى سورة المجادلة نفسها قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ» (8: المجادلة) .. فالعود إلى الشيء، معناه الرجوع إليه، لا الرجوع عنه.
ونقول- والله أعلم- إن العود هنا هو بمعناه اللغوي، وهو الرجوع إلى الشيء.. والشيء المرجوع إليه هنا هو ما قالوه، وهو قولهم: «أنت علىّ كظهر أمي» ورجوعهم إلى هذا القول، هو رجوعهم إليه رجوعا متلبسا بنسائهم اللائي وقع عليهن هذا القول، حيث لا يكون لهذا القول وجه يرى عليه إلّا مع من وقع عليهن الظهار من النساء..
فالظهار، المعروف فى الجاهلية كان يحرّم المرأة على الرجل، ويقطع العلاقة الزوجية بينهما، فإذا ظاهر الرجل من امرأته فلا سبيل إلى الرجوع إليها..
وقد واجه الإسلام هذا الظهار، ولم يعجل بالتعرض له، حتى يقع، فيلقاه بالحكم المناسب.. فلما وقع أول ظهار فى الإسلام، وجاءت المرأة تعرض أمرها على النبي، تنزلت هذه الآيات، فى شأن الظهار، وأنه لا يقطع العلاقة الزوجية قطعا باتّا، وأن على من يريد أن يعيد الحياة إلى حالها الأولى، أن يكفّر عن هذا القول المنكر، بما بينه الله سبحانه وتعالى فى آياته البينات..
فقوله تعالى: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» معناه- والله أعلم- ثم يعودون إلى الموضع الذي قالوا فيه هذا القول، حيث يجدون نساءهم(14/816)
اللائي ظاهروا منهن، ولكن على ألا يمسوهن إلا بعد أن يقدموا كفارة هذا الفعل الآثم.
والسؤال هنا: إذا كان المعنى على أن يعود المظاهرون إلى نسائهم اللائي ظاهروا منهن- إذا كان المعنى على هذا، فلم لا يجىء النظم القرآنى هكذا مثلا:
«والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون إليهن» ؟ ..
ونقول: وكيف يكون القرآن معجزا إذا جاء على هذا المستوي البشرى من النظم؟ وهل يوزن كلام الله بهذا الميزان الذي يوزن به كلام الناس؟
ندع هذه التساؤلات التي لا محل لها، فما من مسلم إلا وهو على يقين بأن وراء كل كلمة من آيات الله أكثر من معجزة، وإن خفيت عليه.
وننظر فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» ، على معنى «ثم يعودون إلى نسائهم» .. فنجد أن إيقاع فعل العود على القول- لا على النساء المظاهر منهن- فيه مواجهة للمظاهرين بهذا القول المنكر الذي قالوه، حيث حين يعودون إليه، فيجدونه حائلا بينهم وبين نسائهم، ثم إنهم إذا أرادوا أن يدفعوا يده التي أمكنته من نسائهم، وحالت بينهم وبينهن- لم يكن ذلك إلا بعد أن يقدموا الثمن عاليا لدفعه..
وبهذا يتمثل هذا القول لمن يعود إليه- وهو فى حاله تلك- ليدفعه(14/817)
عن زوجه- يتمثل له فى صورة منكرة أشد الإنكار، حيث يراه وقد أخذ مكانه من زوجه، وحال بينه وبينها، وأنه حين أراد رفع يده عن زوجه، بذل فى سبيل ذلك عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا.. على ما سنبين ذلك بعد قليل..
ولو وقع الفعل «يعودون» ، على النساء، لاختفى وجه هذا القول، ولم يحسب له حساب فى هذا المقام، الأمر الذي يفوّت الحكمة العالية من التشنيع على هذا المنكر من القول..
وقوله تعالى: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» - هو خبر لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» ..
واقتران الخبر بالفاء، لما فى المبتدأ من معنى الشرط، فكأن المعنى قائم على جملة شرطية وجوابها، والتقدير: ومن ظاهروا منكم من نسائهم فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا..
فتحرير الرقبة- أي عتقها من الرق- هو الكفارة التي تلزم المظاهر، حتى تحل له زوجه التي ظاهر منها..
وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» هو قيد متمم للخبر، أي أن تحرير الرقبة يجب أن يسبق مسّ الزوج زوجه، إذ أنها قبل تحرير الرقبة تكون محرمة عليه، ولن يعيدها إلى الحل إلا تحرير الرقبة، إن كان المظاهر قادرا على ذلك.
والمراد بالمسّ، مس الشهوة، سواء أكان ذلك بمجرد اللمس، أو بالمباشرة، التي تكون بين الرجل والمرأة..(14/818)
هذا، ويذهب بعض المفسرين إلى أن الحرمة إنما تقع على الرجل لا على المرأة، حيث أنه هو الذي ظاهر، وهذا يعنى أن المرأة لو مسّت الرجل بشهوة، فإنه لا حرمة عليها..
وهذا خلاف ما يشير إليه قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» حيث أسند الفعل إليهما معا.. ولو كانت الحرمة بالظهار واقعة على الرجل وحده، لجاء النظم هكذا:
«من قبل المس» مثلا، أو «من قبل أن تمسوهن» ! ..
وقوله تعالى: «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ» أي هذا الحكم الذي أخذتم به فى كفارة الظهار، إنما ليكون لكم منه عظة وعبرة، فلا تعودوا إليه مرة أخرى، كما أن فيه زاجرا لغير المظاهرين، فلا يقع منهم ظهار، وقد عرفوا ماوراءه من بلاء..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» تنبيه إلى أن الله سبحانه وتعالى مطلع على ما يكون من المظاهرين الذين يخونون أنفسهم، فيعودون إلى نسائهم من غير كفارة، وأنهم مؤاخذون بالتعدي على حدود الله..
وقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» .. أي فمن لم يجد فى يده رقبة يعتقها، فعليه صيام شهرين متتابعين، أي ستين يوما متصلة، لا يقطعها بفطر يوم أو أكثر، فإن قطعها، بدأ صيام الشهرين من جديد.. فمن لم يستطع صوم شهرين متتابعين، كان عليه إطعام ستين مسكينا..
فكفارة الظهار، مرتبة بهذا الترتيب: عتق رقبة، فمن لم يجد،(14/819)
فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع الصوم فإطعام ستين مسكينا.. ولا يصحّ الإتيان بالثاني إلا إذا عجز عن الأول، ولا الصيرورة إلى الثالث إلا إذا لم يستطع الثاني..
وجاء النظم القرآنى فى مواجهة تحرير الرقبة بقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» على حين جاء فى صيام الشهرين المتتابعين بقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» .. لأن تحرير الرقبة لا يكون إلا عن وجد ومقدرة، وملك للرقبة.. أما الصيام فلا يكون إلا عن استطاعة وقدرة على احتماله..
وقوله تعالى: «ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» .. أي هذه الأحكام التي حكم عليكم بها، إنما هى لتصحح إيمانكم بالله ورسوله، ولتقيمكم على دينه القويم..
وقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
أي هذه حدود الله، فالزموها، وخذوا أنفسكم بها، فإنّ تعدّى هذه الحدود، والاستخفاف بها، هو مدخل إلى الكفر بالله، وللكافرين عذاب أليم..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» .
الذين يحادّون الله: أي يخرجون على حدوده، ويستخفون بحرماته..
كبتوا: أي ذلّوا، وأهينوا.
والمعنى: أن الذين لا يمتثلون أمر الله، ولا يحرمون ما حرم الله، ولا يحلّون ما أحل- لن تكون عاقبتهم إلّا الخزي والهوان، والخسران.. هكذا(14/820)
شأن الخارجين على حدود الله، فى كل زمان ومكان.. «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» (18: الحج) وقوله تعالى: «وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» «أي أن الله سبحانه قد بين للناس على يد رسله، مواقع حدوده، وأوضح لهم الطريق المستقيم، وأنه لا عذر لهم بعد هذا البيان المبين.. فمن كفر بآيات الله، واعتدى على حدوده، فله عذاب مهين..
وقد وصف العذاب فى الآية السابقة، بأنه عذاب أليم، لأنه فى حق المؤمنين الذين يعصون الله ثم لا يصالحونه سبحانه، بالتوبة إليه والعمل الصالح الذي يرضيه..
فهذا العذاب تأديب لهم، وإصلاح لا عوجاجهم.. أما ما جاء فى الآية التالية من وصف العذاب بأنه عذاب مهين، فهو فى حق الكافرين الذين يحادون الله ورسوله، وهؤلاء إنما يعذبون عذابا لا يراد به إصلاحهم وتأديبهم، وإنما يراد به إذلالهم وإهانتهم وكبتهم، لأنهم بكفرهم بالله ومحادتهم له، استوجبوا هذا الهوان من الله «ومن يهن الله فما له من مكرم» .. وقد وضع المؤمنون العصاة المصرون على العصيان، موضع الكافرين، لأنهم بعصيانهم وإصرارهم على العصيان أقرب للكفر منهم إلى الإيمان.. ومع هذا فإن إيمانهم بإله واحد، هو ضمان لهم آخر الأمر، بالخروج من النار.
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا.. أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» يوم: ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» أي أن(14/821)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
للكافرين عذابا مهينا يوم يبعثهم الله جميعا.. «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» أي فيكشف لهم عن أعمالهم السيئة، ويدينهم بها..
وقوله تعالى: «أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ» .. الضمير فى أحصاه، يعود إلى العمل المفهوم من قوله تعالى: «بِما عَمِلُوا» أي ينبئهم الله بعملهم الذي أحصاه سبحانه وجمع ما تفرق منه، على حين أنهم نسوا كثيرا مما عملوا، ولم يعودوا يذكرونه «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» أي والله عالم كل شىء عملوه علم شهادة وحضور..
لا تخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء..
الآيات: (7- 10) [سورة المجادلة (58) : الآيات 7 الى 10]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)(14/822)
التفسير قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» النجوى: المناجاة التي تكون بين اثنين أو أكثر، فى تخافت، وتهامس بعيدا عن أسماع الناس. وأصل النجوى من النجوة، وهى المكان المرتفع، حيث ينجو به الإنسان عادة من أن تناله الأعين، أو الأسماع، أو الأيدى..
والخطاب هنا للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكل من هو أهل لتلقّى الخطاب والإفادة منه.. والاستفهام، يراد به فضح هؤلاء المتناجين، وضبطهم وهم متلبسون بهذا الإثم الذي يتعاطونه بينهم..
ومناسبة الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه قد ذكر فى الآيات السابقة أنه يتوعد الكافرين الذين يعتدون على حرماته، بالعذاب الأليم المهين، وذلك فى الآخرة، يوم يبعثهم الله جميعا، فينبئهم بما عملوا، وقد أحصى كل أعمالهم التي نسوها- فجاءت هذه الآية تحدث عن علم الله سبحانه وتعالى، وأنه علم وسع كل ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه ما يكون من مناجاة بين ثلاثة إلا كان الله سبحانه وتعالى، مشاهدا هذه المناجاة التي بينهم حتى لكأنهم أربعة وليسوا ثلاثة.. وهذا يعنى أن ما يحسبونه سرا بين ثلاثتهم، ليس بسرّ، فقد حضره الله سبحانه وتعالى.. وكذلك ما يجتمع خمسة الحسارة إلا كان الله سبحانه سادسهم، يشهد الحديث الذي يديرونه بينهم، ويريدون إخفاءه عن غيرهم..(14/823)
وفى قوله تعالى: «وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ» - هو استيفاء لجميع أعداد المجتمعين للنجوى.. من واحد يناجى نفسه، إلى ما لا نهاية له من الذين يتناجون فيما بينهم..
وعلى هذا، فلا محلّ للتساؤل عن الحكمة فى ذكر هذين العددين: ثلاثة وخمسة، إذ لو ذكر أي عدد غيرهما لكان هذا التساؤل واردا عليه أيضا..
ولا يقطع هذا التساؤل إلا إذا ذكرت الأعداد جميعها، ابتداء من الواحد، إلى ما لا نهاية، وهذا ما لا يكون فى كتاب غايته تقويم الأخلاق، وتهذيب النفوس، لا تربية الملكات الذهنية، وتدريب العقول الرياضية..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» - تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يتناجون بما لا يحل من القول.. فالله سبحانه مطلع على ما يتناجون به، وسيحاسبهم عليه.
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ.. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» الذين نهوا عن النجدي: هم المنافقون، من الذين أظهروا الإسلام، واستبطنوا الكفر، من اليهود وغيرهم..
وقد وردت آيات كثيرة تفضح المنافقين، وما يدبّرون من كيد للنبى والمؤمنين، كما حملت هذه الآيات نذرا إليهم بالويل والبلاء فى الدنيا والآخرة، إن هم لم يستقيموا على طريق الإيمان، ولم يخلصوا دينهم لله.. ومن ذلك قوله تعالى: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ(14/824)
يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً»
(108: النساء) ..
وهذه الآية تشنيع على المنافقين، ونذير من النذر إليهم، يفضح هذا النفاق الذي يعيشون فيه بين المؤمنين. إنهم ما زالوا على نفاقهم، لم يخرجوا منه، ولم ينتهوا عما نهوا عنه، فهم- حيث ضمهم مكان لا يكون لهم حديث إلا هذا الحديث الآثم، الذي يدبّرون فيه السوء، والمكروه للنبى وللمسلمين.. «وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ» .. هذا هو ما يتسارون به من أحاديث، وما يجرى على ألسنتهم من قول.. هو إثم، وعدوان، ومعصية للرسول.
وقوله تعالى: «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» .. هو فضح لأسلوب من أساليبهم الخبيثة التي دبروها فيما بينهم، وهو أنهم إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بتحية منافقة، يبدو ظاهرها سليما مقبولا، ولكنها تلف فى باطنها إثما غليظا، ومنكرا شنيعا، حيث يقولون: - قاتلهم الله- «السام عليكم» يقولون ذلك بألسنة معوجة، تدغم فيها حروف الكلمة، فلا يستبين وجهها، فلا هى السام، ولا هى السلام.. إنها كلمة منافقة لا وجه لها، من أفواه منافقة مداهنة، لا يعرف وجه أصحابها.. والسام: الموت، والهلاك.. فهذه تحية المنافقين للنبى.. تحية بالدعاء عليه، لا بالدعاء له، وهى غير ما حياه الله به- فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» (56: الأحزاب) وهى غير ما أمر الله المؤمنين أن يحيّوا النبي به.. فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (56: الأحزاب) .
وفى قوله تعالى: «بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» تنويه بقدر النبي الكريم، ومنزلته(14/825)
عند ربه، وأنه سبحانه إذ يحييه تلك التحية المباركة الطيبة، فلا عليه إذا حياه المنافقون تلك التحية الآثمة المنكرة..
وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ» - أي ومن مقولاتهم المنكرة التي يقولونها فيما بينهم وبين أنفسهم: «لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ؟» أي هلّا يعذبنا الله بما نقول من سوء فى محمد؟ إنه لو كان محمد على صلة بالله كما يدّعى لما خلّى الله بيننا وبينه، نرميه بالمنكر من القول، ثم لا يعاقبنا على ذلك؟! بل إنهم ليذهبون فى الضلال إلى أبعد من هذا، فيستدعون العذاب من الله، إن كان لله غيرة على محمد، ورعاية له!.
وقوله تعالى: «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. هذا هو جواب ما سألوه من العذاب، وهو عذاب الآخرة، حيث يصلون نار جهنم، وذلك هو مصيرهم الذي يصيرون إليه وهم سائرون فى طريق الضلال، وإنه لبئس المصير.. أفليس ذلك حسبهم من العذاب؟ ألا يكفيهم ما يلقون فى جهنم من عذاب؟ أيريدون بعد هذا مزيدا منه؟.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .
هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين، الذين أظهروا الإيمان واستبطنوا النفاق، أن تكون مناجاتهم إذا تناجوا فيما بينهم، بعيدة عن مواطن الضلال والريب، وخالصة من الإثم والعدوان، ومعصية الرسول، محملة بالبر والتقوى، حيث يتبادلون الكلمات الطيبة، ويتناجون بها، فتكون رسل هدى، وخير، تسعى بينهم بالأمن والسلام، وتفتح لهم الطريق إلى البر والتقوى..(14/826)
وقد جاء الخطاب إلى هؤلاء المنافقين بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وذلك لإلفاتهم إلى هذا الإيمان الذي دخلوا به فى جماعة المؤمنين، وأخذوا به مكانهم بينهم، ثم هم فى الوقت نفسه حرب على المؤمنين، يضمرون العداوة لهم، ويبيتون السوء والضرّ بهم.. وهذه حال منكرة، ينبغى أن ينكروها هم على أنفسهم قبل أن ينكرها الناس عليهم.. فإما أن يكونوا مؤمنين، فلا يصل إلى المؤمنين منهم ما يسوء، وإما أن يكونوا على غير الإيمان، فيكون لهم أن يكيدوا للمؤمنين كما يكيد لهم الكفار والمشركون.. فالناس:
إما مؤمنون، وإما كافرون.. وهؤلاء ليسوا مؤمنين، وليسوا كافرين..
إنهم مذبذبون بين ذلك.. لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.. وتلك أسوأ حال يكون عليها إنسان، حيث لا وجه له يعرف به فى الناس.. إنه الوجه المنافق الذي يلبس أكثر من وجه!.
وقوله تعالى: للمنافقين «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» يحقق أمرين:
أولهما: فضح هؤلاء المنافقين عند أنفسهم، وضبطهم متلبسين بالكيد للمؤمنين، وهم فى زىّ الإيمان.. وهذا من شأنه أن يخزيهم عند أنفسهم، وأن يحقر بعضهم بعضا، حين ينظر أحدهم إلى وجه صاحبه، فيراه مؤمنا يكيد للمؤمنين.
وثانيهما: أن نداءهم بالمؤمنين دعوة مجددة لهم إلى أن يكونوا مؤمنين حقّا، فهم إلى هذه اللحظة محسوبون فى المؤمنين، لم يفضحهم الله بعد، ولم يطلع النبىّ والمؤمنين على خبيئة أنفسهم، بل ستر الله عليهم ما هم عليه من نفاق، وإن هذا الأمر لن يطول بهم، فإن لم يبادروا إلى الخروج من هذا النفاق المضروب عليهم، فضحهم الله، فلم يكن لهم بين المؤمنين مكان!.(14/827)
قوله تعالى:
«إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» .
النجوى، هنا، هى النجوى المعهودة من المنافقين، وليست مطلق النجوى، فالحرف «ال» هنا للعهد، حيث النجوى التي أشار إليها سبحانه بقوله:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى.. الآية» أي أن هذه النجوى التي يتناجى بها المنافقون، هى من تدبير الشيطان وكيده للمؤمنين، إذ يتخذ من هؤلاء المنافقين سلاحا يحارب به المؤمنين، حيث يجمع المنافقين على هذه المجالس الآثمة، فيتناجون فيما بينهم، ويتهامسون ويتغامزون على ملأ من المؤمنين، فيخيل للمؤمنين أن القوم يدبرون لهم كيدا، أو يظهرون بهم شماتة لأحداث يحيّلون للمؤمنين بهذه المناجاة أنها وقعت، ولم يعلمها المؤمنون بعد، أو لأحداث ستقع لم يكن عند المؤمنين حساب لها.. وهكذا نحدث هذه النجوى بلبلة واضطرابا فى نفوس المؤمنين، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتداعى عليهم دواعى الضيق والحزن، ويشتمل عليهم ضباب كثيف، مما تتلمظ به هذه الشفاء الآثمة. من منكرات، وما تتغامز به العيون الزائغة من نظرات وإشارات..
وقوله تعالى: «وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي أن الشيطان لن يضر المؤمنين بهذا الكيد الذي يكيده لهم، وأن ما قد يقع للمؤمنين من ضر فهو مما قدره الله لهم، وشاءه فيهم. وقد يجىء هذا الضرر عن طريق الشيطان أو غيره، ولكن لا الشيطان ولا غيره يمستطيع أن يضر أحدا إلا من شاء الله له هذا الضر..(14/828)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
وقوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» - هو دعوة للمؤمنين ألّا يحفلوا بما يتناجى به هؤلاء المنافقون، وألا يعملوا له حسابا، فإن ذلك لن يأتيهم شر منه، إلا ما كان قد قدره الله عليهم.. وإذن فليتوكلوا على الله، وهو حسبهم ونعم الوكيل..
الآيات: (11- 13) [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» التفسح فى المجالس: التوسعة فيها، حيث يسع بعضهم بعضا، وحيث يجد الطارئ عليهم، مكانا بينهم.(14/829)
انشزوا: النشز، المكان المرتفع من الأرض، والخارج على المنبسط منها..
والمراد بالنشوز هنا، الخروج من المجلس.. ومنه الناشز، وهى المرأة الخارجة عن طاعة زوجها، والنشاز من كل شىء: الخارج على الوضع العام له.. ومنه قوله تعالى: «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» (259: البقرة) ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، أشارت إلى مجالس يتناجى فيها أهل المجلس، ويفضى بعضهم إلى بعض بسره.. أما المنافقون فلا يتناجى بعضهم إلى بعض إلا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأما المؤمنون فيتناجون بالبر والتقوى.. فناسب ذلك أن يذكر ما ينبغى أن يأخذ به المؤمنون أنفسهم، من آداب فى مجالسهم العامة التي لا مناجاة فيها والتي يباح لأىّ منهم أن يأخذ مكانه فيها، وذلك، حتى لا يقع فى مجلسهم ما يثير ضغينة، أو يوقع عداوة..
ومما ألزم الله سبحانه وتعالى به المؤمنين من آداب المجلس، أن يوسع بعضهم لبعضهم، وأن يفسحوا للقادم عليهم مكانا بينهم، فهو أشبه بالضيف، ومن حق الضيف الترحيب به، وإنزاله منزل الإكرام.. وإكرام الوافد على المجلس، هو أن يجد له مكانا بين أهل المجلس، وأن ينزل المنزل المناسب له بينهم، حسب دينه، وعلمه.. فلا يتصدر المجلس جاهل وفى المجلس عالم، ولا يتصدره من رقّ دينه وفى أهل المجلس من كان ذا دين وتقوى.. وفى المأثور: «أنزلوا الناس منازلهم» ويذكر المفسرون لهذه الآية سببا للنزول، فيقولون: إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كان فى مجلس وحوله بعض أصحابه، فجاء بعض وفود العرب إلى النبي، فسلموا فرد النبي والمسلمون عليهم السلام، ولم(14/830)
يفسح لهم أحد مكانا فى المجلس، فلما رأى النبي ذلك، قال: قم يا فلان وقم يا فلان ويا فلان.. ثم دعا الوفد إلى الجلوس.. قالوا، فساء ذلك المسلمين الذين دعوا إلى القيام من مجلسهم، وشنع المنافقون واليهود على المسلمين بهذا، وقالوا لهم فيما قالوا: كيف يقول نبيكم إنما المؤمنون إخوة، ثم يكون منه هذه التفرقة فى المعاملة بين أصحابه، فيخرج بعضا من المجلس دون بعض؟
وهذه المقولات التي تروى عن سبب نزول الآية الكريمة تبدو- على إطلاقها- واهية، لا معقول لها. وذلك:
أولا: أنه ليس من أخلاق العرب أن يفد عليهم وافد ثم لا يلقونه بالترحيب والاحتفاء، عدوّا كان أو صديقا.. فكيف بمن يفد على النبي؟ أفيعقل أن يفد على النبي وافد وهو بين أصحابه، ثم لا يلقاه أصحابه بالحفاوة والتكريم، ولا يفسحون له مكانا بينهم؟ .. ذلك محال.
وثانيا: أيكون من أدب صحابة رسول الله، الذين يجلسون إليه أن تجمد مشاعرهم هذا الجمود، فلا يتحركون لوافد يفد على الرسول، حتى يدعوهم الرسول هذه الدعوة التي يخرجهم بها من مجلسه؟
وثالثا: أيكون من أدب النبوة أن يجرح الرسول بعض صحابته هذا الجرح الغائر، فيخرجهم عن أماكنهم، ويلقى بهم خارج المجلس؟ إنه لو اضطر الرسول الكريم إلى مثل هذا الموقف، لكان من تدبيره- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتحول بأهل المجلس جميعا إلى مكان متّسع غير هذا المكان، ثم لأخذ بيد ضيفه الوافدين عليه، ولأنزلهم منزلهم فى المجلس الجديد..
أما قوله تعالى: «إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا» فإن(14/831)
القول هنا ليس بلسان المقال، وإنما هو بلسان الحال. ومعنى هذا أنه إذا وجد المسلمون فى مجلس، ثم دعت الحال إلى أن يدخل عليهم غيرهم، كان واجبا عليهم أن يفسحوا لهذا الغير، وأن يسعوه فى مجلسهم، دون أن يقال لهم افسحوا..
فإن الانتظار إلى أن يقال لهم هذا القول لا يليق بالمؤمنين، فذلك أمر لا يكون إلا عن طباع بليدة، ونفوس جفّت مشاعر الإنسانية فيها..
وكذلك الشأن إذا دعت الحال إلى أن ينصرف أهل المجلس، وأن يغادروا مجلسهم بعد أن يأخذوا حاجتهم منه، فإن الجلوس بعد هذا مضيعة للوقت، داعية إلى طرق أحاديث من اللغو، والبعث بعد أن فرغ حديث الجد والنفع..
فليس هناك فى تلك الحال قول يقال لأهل المجلس: أن انشزوا وانفضوا، وإنما الحال نفسها هى التي تدعو إلى انفضاض المجلس.. وهذا من شأنه أن يقيم المؤمن على حال من الوعى واليقظة، والالتفات الدائم إلى نفسه، والتنبه إلى ما حوله من الناس والأحداث، فلا يكون أبدا فى حال من الذهول والتبلد، بحيث لا يتحرك إلا بمهماز، كما تتحرك الدواب البليدة بالسياط تنهال عليها..
وإذا أردنا أن نلتمس لهذا الخبر متأوّلا- على فرض صحته- فهو أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، لم يقل هذا القول إلا لجماعة من المنافقين، كانوا يحضرون مجلس النبىّ، ممن أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (16: محمد) - فكان قوله صلوات الله وسلامه عليه، قم يا فلان، وقم يا فلان- هو إشارة إلى هؤلاء المنافقين، وفضحهم عند أنفسهم، وخزيهم بين جماعة المسلمين التي دخلوا فيها متلصصين، متربصين(14/832)
وقوله تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» ..
هو إشارة إلى هذه المشاعر اليقظى، وتلك الأحاسيس المرهفة، التي ينبغى أن يكون عليها المؤمن، فإنه بقدر ما يكون عليه المؤمن من هذه المشاعر وتلك الأحاسيس، بقدر ما تكون منزلته فى الإنسانية..
والإيمان من شأنه أن يربىّ هذه المشاعر، وينمّى هذه الأحاسيس، وبمقياس الإيمان، تقاس هذه المشاعر وتلك الأحاسيس..
والعلم، شأنه فى هذا شأن الإيمان، فى رفع إنسانية الإنسان، وإعلاء منزلته.. فالإيمان، هو فى حقيقته علم، والعلم فى حقيقته إيمان.. وإن إيمانا لا يقوم على علم، هو إيمان هزيل باهت، لا يؤثر أثرا، ولا يطلع زهرا ولا ثمرا..
وإن علما لا يفتح للعقل والقلب طريقا إلى الإيمان، ولا تنقدح منه شرارات مضيئة، تضىء للإنسان طريقه إلى الله، هو نار تحرق، أو دخان يعمى العيون، ويزكم الأنوف، ويخنق الصدور..
وقد جمعت الآية الكريمة بين الإيمان والعلم، وجعلت كلّا منهما صفة لموصوف، كما يقول سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» ولم يجىء النظم هكذا: يرفع الله الذي آمنوا منكم وأوتوا العلم» .. وذلك أن من الناس من يبدأ الطريق بالعلم، ثم يقوده هذا العلم إلى الإيمان.. ومنهم من يبدأ الطريق بالإيمان ثم، يقوده الإيمان إلى العلم.
فالمؤمن حقّ الإيمان.. عالم..
والعالم حقّ العلم.. مؤمن..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(14/833)
دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين فى آية سابقة، إلى أن تكون مناجاتهم بالبر والتقوى، حيث يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . (9: المجادلة) فمناجاة المؤمنين بعضهم بعضا ينبغى أن تقوم على البر والتقوى.. فكيف إذن تكون مناجاتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟ إنها حينئذ ينبغى أن تكون المناجاة الخالصة للبر والتقوى..
ولهذا جاء قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» والمراد بتقديم الصدقة هنا قبل مناجاة الرسول، هو أن يلقى المؤمن رسول الله على طهارة وتزكية بهذه الصدقة التي يقدمها.. فالصدقة مرضاة للربّ، مطهرة القلب، كما يقول سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (103: التوبة) ..
وليس المراد بتقديم الصدقة هنا، أن توضع بين يدى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإنما المراد بها أن توضع فى يد من يستحقها من الفقراء والمساكين وابن السبيل..
وهذه الصدقة التي يقدمها المؤمن الذي يغشى مجلس الرسول، هى- كما قلنا- مطهرة لهذا المؤمن، وإعداد له كى يلتقى بالنبي الكريم، وينتفع بهديه، حيث يكون فى تلك الحال على قرب نفسىّ وروحى منه.. إن ذلك أشبه بالطهارة قبل الصلاة.. فالصلاة مناجاة لله سبحانه وتعالى، ودخول إلى ساحة مغفرته ورضوانه، والطهارة قبل الدخول فى الصلاة، هى التي تهيىء المؤمن(14/834)
نفسيّا وروحيّا للاتصال بالله سبحانه، والقرب منه جل وعلا.. إنها أشبه بالاستئذان قبل الدخول.. فكما أنه لا يجوز للمؤمن أن يدخل بيتا غير بيته من قبل أن يستأذن، رعاية لحرمة المسكن وأهله- فكذلك ينبغى على المؤمن ألا يقتحم مقام الرسول، ويغشى حماه الطهور، من غير أن يقف بين يدى هذا الحمى، وأن يقدّم صدقة، يدخل منها على مشاعره أنه لن يؤذن له بالدخول إلى هذا الحمى، من غير استئذان! وقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ» أي هذا الفعل الذي تفعلونه بتقديم الصدقة قبل مناجاتكم الرسول- هو خير لكم، وأطهر، حيث يرضى الله سبحانه وتعالى عنكم، ويطهركم من ذنوبكم، فيكون لقاؤكم للرسول على صفاء نفس، وشفافية روح، فتصيبون كثيرا من الخير الذي بين يديه..
قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فإن لم تجدوا صدقة تقدمونها، فلا حرج عليكم، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والله سبحانه يغفر لكم ذنوبكم، ويطهركم، حتى إذا ناجيتم الرسول كنتم على حال من الطهر كحال الذين قدموا صدقات بين يدى نجواهم، فالله سبحانه غفور، أي كثير المغفرة، تسع مغفرته الخلق جميعا، وهو رحيم بكم، فلا يحرمكم مغفرته التي قصرت أيديكم عن أن تنالوها بالصدقة..
وقوله تعالى:
«أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» .(14/835)
المفسرون يكادون يكونون على إجماع بأن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها.. بمعنى أن تقديم الصدقة من المؤمن الذي يودّ مناجاة الرسول، قبل أن يدخل فى مناجاته، والذي دعت إليه الآية السابقة- قد جاءت هذه الآية ناسخا له، تخفيفا على الذين يودون مناجاة النبي.
ويقولون لتعليل هذا النسخ، إنه لما نزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» .. شقّ ذلك على كثير من المؤمنين، وضنّ كثير من الأغنياء بأموالهم أن يخرجوا منها صدقة عند مناجاة الرسول، وبهذا قلّت تلك الأعداد الكثيرة التي كانت تسعى إلى مناجاة النبي، فنزلت الآية: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ»
فنسخت الآية التي قبلها، وأبيح للمؤمنين مناجاة الرسول من غير صدقة يقدمونها بين يدى نجواهم!! ونحن على رأينا من أنه لا نسخ فى القرآن، وأنه لا نسخ فى هذه الآية بالذات.. وذلك من وجوه.
أولا: أن الصدقة التي دعى المؤمنون إلى تقديمها بين يدى نجواهم غير محددة المقدار، ومن هنا كانت أىّ صدقة يقدمها المؤمن فى هذا المقام مجزية له، ولو كانت شقّ تمرة.. وإذن فليس فى هذه الصدقة ما يشق على المؤمنين، حتى يجىء الأمر بنسخ تقديم هذه الصدقة.
وثانيا: ليس ما جاءت به الآية من الأمر بتقديم الصدقة- والله أعلم- أمرا ملزما، يقع موقع الوجوب، بل هو أمر للندب والاستحباب، ولذلك علّل له بقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ» .. ثم جاءت المجاوزة عنه عند عدم وجود الصدقة: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .(14/836)
وثالثا: قوله تعالى فى الآية التي يقال إنها ناسخة: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» - ليس معنى كلمة الإشفاق هنا الضنّ بالمال الذي ينفق فى هذا الوجه، وإنما هو الخوف من ألا يجد المؤمنون ما يتصدقون به فى كل وقت يلقون فيه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. وكثير منهم كان يلقى النبي كل يوم مرات كثيرة.. وخاصة صحابته الذين كانوا على اتصال دائم به، كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى عبيدة، وطلحة، والزبير، وأبى هريرة وغيرهم.. فهؤلاء الصحابة الكرام وأمثالهم، يشق عليهم أن يحجبهم عن الرسول حجاب فى نهار أو ليل، وكثيرا ما تكون الصدقة غير ممكنة لهم فى كل حال.. فهم- والأمر كذلك- بين حالين: إما، ألّا يلتقوا بالرسول حتى يقدموا بين يدى لقائهم صدقة.. وفى هذا إعنات شديد لهم، وخاصة أن لقاءهم للنبى يتكرّر مرات فى اليوم.. وقد لا يكون بين يدى أحدهم ما يقدمه من صدقة.. وإنه ليس بالذي يرضى نفس هؤلاء الصحابة الكرام أن يكون لقاؤهم للنبى من غير تقديم صدقة، حيث يدخلون فى حكم قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
فإن ذلك- وإن كان يبيح لهم لقاء النبي ومناجاته من غير صدقة- إلا أنه يضعهم فى موضع لا يحبونه، ولا يرضونه لأنفسهم، إنهم يطلبون أن يكونوا على أحسن أحوالهم فى لقائهم للنبى، وإنهم ليعدّون أنفسهم مقصّرين، إذا هم التقوا بالرسول من غير تقديم الصدقة، وإن كان ذلك متجاوزا لهم عنه!.
وإنه لكى يزول هذا الحرج من صدور الصحابة الذين لا يجدون الصدقة التي يقدمونها بين يدى مناجاتهم الرسول- جاء قوله تعالى: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» .. وجاء لفظ الصدقات جمعا، لا مفردا،(14/837)
وفى ذلك دليل على أن المراد بهذا، هم الصحابة الذين كانوا على لقاء دائم بالنبي، ذلك اللّقاء الذي يدعوهم إلى تقديم صدقات كلّ يوم، لا صدقة واحدة..
ومن جهة أخرى، فإنه من المحال أن يضنّ واحد من صحابة رسول الله بماله كله، ويمسك به، إذا كان هذا المال وسيلة إلى لقاء النبي.. فكيف والصدقة المطلوبة هى بعض من هذا المال؟.
ورابعا: قوله تعالى فى هذه الآية أيضا: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» يشير إلى أن الذين لم يفعلوا، أي لم يستطيعوا تقديم الصدقة- لا ضنّا بها، ولكن عجزا عنها- هؤلاء قد تاب الله عليهم، أي رحمهم، ورفع عنهم الحرج، وأفسح لهم الطريق إلى مناجاة النبي من غير تقديم الصدقة التي عجزوا عنها.
فالتوبة هنا، معناها الرحمة، والقبول، والرضا، فهى توبة من الله سبحانه وتعالى عليهم، أي عود عليهم منه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته. ومثل هذه التوبة ما جاء فى قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» (117: التوبة) فالتوبة هنا توبة رضى وإحسان.
أما التوبة من العبد، فهى رجوع إلى الله بالندم، والانخلاع من المعصية..
وقوله تعالى «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» جملة حالية من الفاعل فى قوله تعالى:
«فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» أي إذ لم تقدموا الصدقة فى حال قد قبلكم الله عليها، ورحمكم فيها.
وقوله تعالى «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» - هو جواب «إذ» التي تفيد مع الظرف معنى الشرط.. أي فإذ قد رحمكم الله، وعاد بفضله عليكم، ورفع عنكم الحرج فى لقاء النبي من غير(14/838)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
تقديم صدقة- فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطيعوا الله ورسوله، فذلك هو شكركم لله سبحانه وتعالى على ما فضل به عليكم..
ففى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، ما يقربكم من الرسول، ويقيمكم أبدا على طهارة دائمة، أشبه بمن يمدّ يده بصدقات لا تنقطع أبدا..
وعلى هذا فإنه ليس بين الآيتين تناسخ، بل إن كلا الآيتين من المحكم، وأنهما يتناولان أمرا واحدا، ويعالجان قضية واحدة، لا تتم أركانها إلا بالآيتين معا.. والله أعلم.
الآيات: (14- 22) [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(14/839)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» هو استفهام إنكارى، يفضح أولئك المنافقين من الذين دخلوا فى الإسلام..
فهؤلاء المنافقون قد تولوا، أي صاروا أولياء ومناصرين «قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود.. فاليهود، هم المغضوب عليهم من الله، فحيث وقع غضب الله فى القرآن الكريم، كان اليهود هم الواقع عليهم هذا الغضب.. نعوذ الله من غضب الله.
وقوله تعالى: «ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ» أي أن هؤلاء المنافقين ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من اليهود أهل الكتاب.. أما أنهم ليسوا من المؤمنين فقد بعد بهم نفاقهم عن دائرة المؤمنين، وأما أنهم ليسوا من اليهود، فلأنهم من مشركى العرب الذين دخلوا فى الإسلام بألسنتهم، كعبد الله بن أبىّ وغيره، ممن انحاز إلى جانب اليهود فى كيدهم لرسول الله وللمؤمنين..
وقوله تعالى: «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» أي أن هؤلاء المنافقين لا دين لهم، ولا مروءة عندهم حتى إنهم ليحلفون على الكذب،(14/840)
وهم يعلمون أنه الكذب.. وهذا الحلف هو الحلف الفاجر، واليمين الغموس..
وقوله تعالى:
«أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي أن الله سبحانه قد أعد لهؤلاء المنافقين عذابا شديدا، جزاء بما اقترفت أيديهم وألسنتهم من سيئات ومنكرات وفى قوله تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» - إشارة إلى سوء هذا العذاب الذي ينتظر هؤلاء المنافقين، وأنهم قد أعد لهم العذاب، قبل أن يلتقوا به، فهو عذاب خاص بهم، يتناسب مع مكانتهم فى أهل الضلال..
قوله تعالى:
«اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» الجنة: الوقاية، ومنه المجن، وهو الترس، والدرع، مما تتقى به الضربات فى الحرب.. فهؤلاء المنافقون، قد اتخذوا من الأيمان الفاجرة الكاذبة جنة، يتقون بها النظرات التي ينظر بها المؤمنون إليهم، فيرون خزى النفاق ظاهرا على وجوههم، فلا يجد المنافقون سبيلا لستر نفاقهم إلا الحلف الكاذب، الذي يبرّرون بهم مواقفهم المنحرفة الضالة.. وإنهم تحت ستار هذه الأيمان الكاذبة استطاعوا أن يداروا نفاقهم، وأن يمضوا فى طريقهم الضال المنحرف عن سبيل الله: «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هو جزاء من يضل عن سبيل الله، ويتبع غير سبيل المؤمنين.
قوله تعالى:
«لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»(14/841)
أي أنهم لن يجدوا مفرّا من العذاب المهين المعدّ لهم، وأن ما جمعوا من أموال، وما استكثروا من أولاد، لن يغنى عنهم أي غناء فى هذا المقام، ولن يدفع عنهم عذاب الله الواقع بهم، والذي هم خالدون فيه أبدا..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» .
أي أنهم لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا يوم يبعثهم الله جميعا، ويعرضون بين يديه للحساب، فيحلفون له كذبا، كما كانوا يحلفون فى الدنيا للمؤمنين كذبا.. فلقد صحبهم نفاقهم الذي عاشوا به فى الدنيا، إلى الآخرة، وكأنه طبيعة ملازمة لهم، متمكنة فيهم. إنهم ليكذبون حتى على أنفسهم ويخادعونها بهذا الضلال الذي يزينونه لها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» (23- 24: الأنعام) .
وقوله تعالى: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» أي أنه بخيل إليهم من كثرة إلفهم لهذا الكذب، أنه حق، وأن ما يقولونه من مفتريات هو من الحق الذي ينفعهم فى هذا اليوم، كما كانوا يجدون لكذبهم فى الدنيا مدخلا إلى الناس، بالأيمان الفاجرة التي يدارونه بها.. ولكن كذبهم هذا الذي يحلفون له بين يدى الله، سيرونه بأعينهم بلاء ووبالا عليهم، حيث ينكشف زبفه. ويتعرّى وجهه الكئيب، فيرون على صفحته المخازي والضلالات التي تدفع بهم إلى عذاب الجحيم..(14/842)
قوله تعالى:
«اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
الاستحواذ على الشيء. الغلبة عليه، والتملك له، والاستبداد به وما زالت الآيات تتحدث عن هؤلاء المنافقين، وتفضح أساليب نفاقهم، والدوافع التي تدفع بهم إليه.. وأنهم قد أصبحوا ليد الشيطان الذي استحوذ عليهم، وملك أمرهم، وضمهم إلى حوزته، فأنساهم ذكر الله، وصرفهم عن النظر إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا من حساب وجزاء. فهم أولياء الشيطان، وحزبه، وحيث كان الشيطان فهم معه.. وليس للشيطان إلا الخزي والخسران.. فهم آخذون نصيبهم كاملا من هذا الخزي، وذلك الخسران.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» .
المحادّة لله ورسوله: التحدي لأمر الله ورسوله، والخروج عن طاعتهما.
والمنافقون، يقودهم الشيطان إلى محادة الله ورسوله، والخروج عن طاعتهما، وإنه لن يكون لمن يحاد الله ورسوله إلا الذلة والهوان، وإلّا أن يدخل فى زمرة الذين أذلهم الله، وأنزلهم منازل الهون..
قوله تعالى:
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
كتب الله: أي قضى، وحكم.. وفى التعبير عن القضاء والحكم، بالكتابة، إشارة إلى أن ذلك قضاء نافذ، وحكم قاطع.. أو أن ما قضى الله سبحانه وتعالى به، مكتوب فى أم الكتاب.. وهو اللوح المحفوظ..(14/843)
أي ومما قضى الله به أن الغلبة له سبحانه، ولرسله على أهل الباطل، والضلال، وأن الخزي والهوان على الذين يحادّون الله ورسوله.. وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بنصرة الحق، والانتصار لأهله الذين يدافعون عنه.. فإن العاقبة دائما للحق، والمدافعين عن الحق، وإن ضاقت بالحق وأهله المسالك، وتراكمت الغيوم، فذلك الضيق إلى سعة، وهذه الغيوم إلى صحو وإشراق.
قوله تعالى:
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
بهذه الآية الكريمة تختم سورة «المجادلة» فتضع الميزان الذي يوزن به الناس، فى مقام الإيمان والكفر.. فحيث كان الإنسان بولائه، وبمودته، كان الوجه الذي يعرف به، ويحاسب بين الناس عليه.. فمن والى قوما، ووادّهم، عدّ منهم، وحسب فيهم..
وإذن فلا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر من كان على مودة لمن حاد الله ورسوله.. إذ لا يتفق أن يجمع المرء فى قلبه بين ولائه لله، وولائه لأعداء الله.
وإذن فلا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. ففى سبيل الولاء لله ولرسوله، ينقطع كل ولاء مع من حاد الله ورسوله، ولو كان ذلك بين الأب وابنه، أو الابن وأبيه، والأخ وأخيه، والعشير وعشيره..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» أي أولئك الذين يخلصون ولاءهم لله من المؤمنين بالله ورسوله، ويقطعون فى سبيل ذلك كل ولاء لهم مع(14/844)
أعداء الله من أهل وعشير- «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» أي ثبته الله ومكنه فى قلوبهم، فلا تعصف به عواصف الفتن، ولا تغلبهم عليه الأهواء..
«وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» أي أعانهم الله سبحانه وتعالى بروح منه، تقيهم عوادى الفتن، وتعصمهم من نزعات الشيطان.. «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» فهذا هو جزاؤهم عند الله.. فقد «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» وتقبّل منهم أعمالهم، فكان جزاؤهم عنده هذا الرضوان، وذلك النعيم المقيم، وقد أرضاهم هذا النعيم، فحمدوا ربهم وشكروا له..
وفى قوله تعالى: «وَرَضُوا عَنْهُ» ما يكشف عن بعض لطف الله بعباده وإكرامه لأهل ودّه، وإغداق الإحسان عليهم، حتى تطيب نفوسهم وتمتلىء غبطة ورضى.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى خطابه لنبيه الكريم:
«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» ..
وماذا يملك العبد حتى يكون لرضاه عن ربه أو سخطه، وزن أو قدر؟ ..
إنه لا شىء..
ولكن هكذا فضل الله على عباده، وإحسانه على أوليائه.. إنهم أرضوا الله بإيمانهم، وإحسانهم، فكان جزاؤهم عند الله أن يعطيهم حتى يرضوا عنه..
إنه رضى متبادل بين الله وأوليائه. حيث يطلب العبد رضى سيده ومولاه، فإن رضى عنه سيده، فعل به ما يرضيه عنه.. وكما يكون الرضا المتبادل بين الله وأوليائه، يكون الحب المتبادل بين الله وأحبابه.. «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (54: المائدة) ..
«أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ» .. أولئك الذين جعلوا ولاءهم لله ولرسول الله، هم حزب الله وأنصاره، وجنده، «أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ومن كان فى حزب الله، ومع الله، فهو من الفائزين المفلحين..(14/845)
59: سورة الحشر
نزولها: مدنية باتفاق..
عدد آياتها: أربع وعشرون آية..
عدد كلماتها: أربعمائة وخمس وأربعون كلمة..
عدد حروفها: ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كان مما تحدثت عنه سورة المجادلة فضح وجوه المنافقين، الذين يتناجون مع اليهود الذين يكيدون للإسلام، ويدبرون معهم ما يكيدون به للمؤمنين.. وقد توعد الله هؤلاء المنافقين بالخزي فى الدنيا، والمذلة والخسران والعذاب الأليم فى الآخرة..
وهنا فى سورة الحشر، يعرض على المنافقين بعض ما لقى أحلافهم وأولياؤهم من اليهود، من خزى، وذلة، ونكال، فى هذه الدنيا.. وإن هذا الخزي والذلة والنكال، ليتربص بهؤلاء المنافقين، إن هم ظلوا على نفاقهم، وسيلحقهم بإخوانهم الذين رأوا بأعينهم ما حلّ بهم..(14/846)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 5) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
تبدأ السورة بهذا النشيد القدسي الذي ينتظم الوجود كله، فى سمواته وأرضه، مسبّحا بحمد الله، فى ولاء لعزته، وانقياد لسلطانه.
وهذا النشيد، هو تقدمة حمد وشكر لله على ما أخذ به أهل الضلال والفساد من عقاب، فأنزلهم منازل الهون، وضرب على أيديهم الآثمة، التي طالما تطاولت(14/847)
على أولياء الله، وتصافحت على الكيد لهم، وإلحاق الضرر بهم..
فهذه نعمة عظمى تستحق من المؤمنين التسبيح بحمد الله، والشكر له..
وليس المؤمنون وحدهم هم الذين يحمدون الله ويسبحونه، ويذكرون آلاءه على ما أنزل بالمنافقين والكافرين من خزى، وهوان، وعلى ما كتب للمؤمنين من إعزاز وتأييد ونصر- بل إن كل ما فى السموات والأرض يسبح بحمد الله، أن أحق الحق وأزهق الباطل، وأزاح هذه العلة، التي كانت قذّى فى عين الوجود، وسحابة سوداء فى سمائه الصافية..
هذا، وقد ورد التسبيح لله فى القرآن الكريم بالصيغ الثلاث، الدالة على أزمنة الحدث، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا..
فجاء بصيغة الماضي فى قوله تعالى: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الحشر) ..
وجاء بصيغة المضارع فى قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. (1: الجمعة) وجاء بصيغة الأمر فى قوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» ..
(1: الأعلى) .
وفى هذا ما يشير إلى أن جميع آنات الزمن ولحظاته مملوءة بذكر الله، والتسبيح بحمده.. من عوالم الوجود فى السموات والأرض جميعا.
فمن لم يسبح اختيارا، سبّح اضطرارا.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» .
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ(14/848)
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ»
..
أي أن الله سبحانه بعزته وحكمته، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، ومكّن للمسلمين منهم، ومن ديارهم..
والذين كفروا من أهل الكتاب هنا، هم جماعة من جماعات اليهود، التي كانت تسكن المدينة، وهم بنو النضير: الذين كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة، عقد معهم عقدا، على أن يقفوا موقفا حياديّا منه ومن أصحابه، فلا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه.. وقد كانوا من هذا العقد على دخل وخيانة..
وكانوا يتربصون بالنبي والمسلمين الدوائر.. حتى إذا كانت وقعة أحد، ورأوا فيها هزيمة المسلمين، تحركت نوازع الغدر فى صدورهم، فسعى كبيرهم كعب بن الأشرف إلى عقد حلف مع قريش، ضد النبي وأصحابه، وجاء إلى مكة ومعه أشراف قومه، يعرض على قريش أن يدخل معها هو وقومه بنو النضير فى حلف لحرب النبي، وأنه إذا جاءت قريش إلى المدينة، وخرج النبي وأصحابه لحربهم، كان بنو النضير جيشا محاربا مع قريش، يضرب فى ظهور المسلمين، على حين تضرب قريش فى وجوههم..
وقد علم النبي بهذا الذي أحدثه بنو النضير، من نقض العهد، فأمر النبي بقتل كعب بن الأشرف بأمر من الله سبحانه، جاءه به جبريل، عملا بقوله تعالى:
«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
(33: المائدة) ..(14/849)
وكما كان جزاء كعب بن الأشرف- رأس الفتنة- القتل، كان جزاء قومه النفي من الأرض..
والذي تولّى قتل كعب بن الأشرف، بأمر من رسول الله، هو محمد بن مسلمة الأنصاري..
وقوله تعالى: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» إشارة إلى أن هذا أول إخراج لليهود من ديارهم، وأنه سيكون بعده إخراج لجماعات أخرى منهم.. وقد حدث هذا فعلا، فأخرج بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وقتل كل من بلغ الحلم منهم، وسبى النساء، والأطفال والشيوخ، ثم أخرج اليهود جميعا من الجزيرة العربية فى عهد عمر بن الخطاب، حيث أجلى البقية الباقية منهم، والتي كانت تعيش فى خيبر..
وسمّى هذا الإجلاء حشرا، لأنه أشبه بالحشر الموعود يوم القيامة، حيث وقع عن قهر، ولم يقع عن رغبة منهم.. ثم إنه كان إجلاء عامّا، لم يدع أحدا منهم، كما لم يدع حشر القيامة أحدا ممن فى القبور.. ثم إنه من جهة ثالثة كان جماعيّا فوريّا، وليس جماعة جماعة، وزمنا بعد زمن..
فالحشر: يشير إلى القوة الضاغطة الحاشرة، التي تسوق المحشورين سوقا عنيفا، وتجمع أشتاتهم فى دائرة واحدة، وتقيمهم على وجه واحد.. فهو والحشد بمعنى، ومنه قوله تعالى: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» (53: الشعراء) وقوله تعالى: «فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» .. أي فطلع عليهم قدر الله فيهم من حيث لم يقدّروا، فقد كانوا يحسبون أنهم من حصونهم فى أمن من كل يد تنالهم، وخاصة يد النبي والمسلمين الذين كانوا يرون أنهم لن ينالوا(14/850)
منهم منالا أبدا، وهم فى داخل هذه الحصون التي لا تنال.. فكان من تقدير الحكيم العليم أن يبطل حساب هؤلاء الأشقياء، ويفسد تدبيرهم، ويختل تقديرهم، فيكون النبي وأصحابه هم الذين تتداعى بين أيديهم هذه الحصون، ويخرج منها القوم كما تخرج الفئران من أجحارها، وقد أغرقها السيل الجارف!! وقوله تعالى: «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» إشارة إلى ما كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، لإبطال عمل هذه الحصون، فقد قذف الله سبحانه الرعب والفزع الشديد فى قلوب المتحصنين بها، فبدت لهم هذه الحصون الحصينة وكأنها بيوت من زجاج أو ورق، فلم يكن منهم حين رأوا المؤمنين يحاصرونهم إلّا أن يستسلموا من غير قتال، أو اعتداد بتلك الحصون..
وقوله تعالى: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» - أي أن هذه الحصون التي كانت بمكان الإعزاز والإعجاب من نفوسهم، قد هانت عليهم، وخفت موازينها فى أعينهم، بعد أن رأوا- بما امتلأت به قلوبهم من رعب- أنها لا تردّ عنهم عدوا، ولا تدفع مغيرا، فأخذوا يخربونها بأيديهم، ويفتحون معاقلها للمسلمين، كما تركوا للمسلمين أن يدخلوها عليهم، وأن يفتحوا مغالقها، ويطلعوا على مسالكها.. وهذا هو معنى خرابها، الذي يبدو فى تعطيلها، وتعطيل وظيفتها التي أعدت لها.. ومنه قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» (114: البقرة) وقوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» - هو إلفات إلى هذا الحدث، وما فيه من دلالات على قدرة الله سبحانه، وعلى تدبيره المحكم الذي لا يغالب، وهذا ما لا يراه إلا أصحاب الأبصار النافذة إلى حقائق الأمور، وإلى مواقع العبرة والعظة منها..(14/851)
قوله تعالى:
«وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» أي أن هؤلاء القوم الذي كتب الله عليهم الجلاء، وقضى عليهم به- لو نظروا إلى المستقبل القريب، ورأوا ما سوف يحلّ بإخوانهم من بنى قريظة، من قتل، إذن لحمدوا الله وشكروا له، أن كان الجلاء هو الجزاء الذي أخذوا به، فأجلوا عن المدينة، فكان بعضهم فى خيبر، وبعضهم فى الشام.
وهذا يعنى أن اليهود فى الجزيرة العربية كانوا يومئذ بين أمرين من أمر الله: إما الجلاء، وإما القتل والسبي.. وأن أحسنهم حظّا من كتب عليهم الجلاء.. وفى هذا إرهاص بالبقية الباقية من اليهود فى المدينة، وأنهم إذا لم يجلوا عنها، عذّبوا فى الدنيا بالقتل وبالسبي.. أما فى الآخرة فلهم جميعا عذاب النار..
وهذا العذاب الأخروى ليهود الجزيرة العربية، إنما هو لكفرهم برسول الله، بعد علمهم بدعوته، والوقوف على معطيات رسالته، وشهودهم شواهد الإعجاز منها.. ولهذا، كان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- الذين بلغتهم الرسالة النبوية- كانوا يخاطبون فى القرآن الكريم على أنهم كافرون، كما يقول سبحانه: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (1: 3 البينة) ومن هذا قوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (70: آل عمران) قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»(14/852)
هو بيان للسبب الذي من أجله أنزل الله سبحانه ما أنزل من بلاء فى الدنيا، وما أعد من عذاب فى الآخرة- لهؤلاء القوم من بنى النضير، ومن على شاكلتهم.. إنهم شاقّوا الله ورسوله، أي كانوا على شقاق وخلاف لله ولرسوله.. وإنه ليس لمن يشاقّ الله، ويحيد عن صراطه المستقيم إلا أن يلقى العذاب الشديد من الله..
«فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن يشاقه، ويشاق رسوله.
هذا، وقد جاء التعليل للعذاب جامعا بين مشاقة الله ومشاقة رسوله فى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
ثم جاء الشرط الموجب للعذاب، بمشاقة الله وحده، دون رسوله فى قوله تعالى:
«وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .. وذلك للإشارة إلى أن مشاقة الرسول، هى مشاقة لله، سواء بسواء، إذ كان الرسول هو رسول الله، وكلماته التي يتلوها على الناس، هى كلمات الله.. فذكر الرسول مع الله، أولا، ثم الاكتفاء بذكر الله وحده ثانيا- هو تأكيد لهذا المعنى، وإقامته على التسوية بين مخالفة الله ومخالفة رسوله.. وكما يكون هذا فى المعصية والخلاف، يكون فى الطاعة والولاء.. كما يقول سبحانه: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (80: النساء) ..
قوله تعالى:
«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ»(14/853)
اللينة: النخلة، وهى من اللّين، الذي يدل على الرخاء والنعمة، ولين العيش، إذ كانت النخلة نعمة طيبة، ورزقا كريما لأهل البادية، فأطلقوا عليها هذا الاسم، احتفاء بها، وإشارة بفضلها، كما سموا الخيل خيرا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام. «فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» (32: ص) .. يريد الخيل.
والخطاب هنا للمسلمين الذين حاصروا بنى النضير، الذين تحصنوا بحصونهم وأبوا أن يستسلموا، فاتجه المسلمون إلى قطع نخيلهم التي كانت تحيط بديارهم..
فلما استسلموا للمسلمين بعد هذا، وقع فى نفوس بعض المسلمين ندم على أنهم قطعوا هذا النخل الذي صار إلى أيديهم، فجاء قوله تعالى هنا، مسرّيا عن المسلمين ومعزيا لهم فى هذا الخير الذي فاتهم.. فما قطع من النخيل، أو بقي منه، فهو بما قضى به الله سبحانه وتعالى وإذن فلا يأس المسلمون على مافاتهم.. إذ كان ذلك عن إرادة الله سبحانه، وعن إذن منه..
ثم إنه لكى يرضى المسلمون بهذا القضاء، وليروا وجه الحكمة منه، فليعلموا أن ذلك إنما كان ليخزى الله به هؤلاء الفاسقين، وليذلّهم، وليريهم أن ما غرسوه بأيديهم، وبذلوا له جهدهم وأموالهم، قد استبدّت به يد المسلمين، وحصدته يد المنايا كما يحصد الموت أبناءهم بين أيديهم، دون أن يملكوا لذلك دفعا..
وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، ومضاعفة للحسرة فى قلوبهم.. فإذا كان المسلمون قد خسروا شيئا من هذا الرزق الطيب، فهو إنما هو الثمن الذي أدّوه لخزى أعدائهم وكتبهم، تماما كما يؤدّون مثل هذا الثمن بمن يقتل منهم فى ميدان القتال، لقاء النصر على العدو!.(14/854)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
الآيات: (6- 10) [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ(14/855)
وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
..
الفيء لغة: ما نسخته الشمس من الظل.. والأصل فيه الرجوع إلى الشيء المتروك، ومنه قوله تعالى: «فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (226: البقرة) ..
والفيء: شرعا ما أفاء الله على المجاهدين من أموال الكافرين من غير قتال.. وفى هذا إشارة إلى أن ما فى أيدى الكافرين من أموال، هى فى حقيقتها أموال المؤمنين، إذ كانوا هم أولى بها، وأعرف بحق الله والعباد فيها..
فلما أخذها المؤمنون من أيدى الكافرين، أصبحت وكأنها فاءت، أي عادت إلى أهلها الذين هم أحق بها..
وقوله تعالى: «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ.. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» أي والذي أفاءه الله على رسوله من أموال بنى النضير، فإنكم- أيها المؤمنون- لم تسيّروا إليه خيلا ولا إبلا، ولم تقاتلوا عليه، إذ كان القوم قريبا منكم فمشيتم إليهم بأقدامكم من غير خيل أو إبل، وقد استسلموا لكم من غير قتال..
والوجيف: ضرب من السير السريع، فيه اضطراب للركاب من حركة عدو الحيوان الذي يركبه.. ومنه وجيف القلوب، أي اضطرابها، ومثل هذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» .
(8: النازعات) ..
وهذا الخبر يشير إلى أمرين:
أولهما: أنه ليس للمؤمنين أن يحزنوا على ما قطعوا من نخل.. فإن(14/856)
ما بقي، فيه رضىّ لهم، كما أن فيما ترك القوم من ديار ومتاع، عوضا من هذا النخل الذي قطع.. وخاصة أن ما وقع لأيديهم قد جاءهم صفوا عفوا لم يوجفوا عليه بخيل ولا إبل، ولم يقاتلوا فى سبيله.
وثانيهما: أن هذا المال، الذي لم يقاتل عليه المسلمون، لا ينطبق عليه حكم الغنائم، التي يكون لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، خمس ما غنموا، ويكون للمقاتلين أربعة الأخماس الباقية- فهذا المال الذي لم يقاتل عليه المسلمون، لا يقع تحت هذا الحكم، وإنما هو كله لله وللرسول، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..
أي أنه يكون فى يد الرسول، أو يد ولىّ الأمر القائم على المسلمين، ينفقه فى هذه الوجوه.
قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» أي أن هذا النصر الذي وضعه الله بين أيديكم، هو من عند الله، لم تعملوا له بخيل ولا إبل، ولم تنالوه بقوة السلاح، ولكنه أتاكم بتأييد من الله سبحانه لرسوله، وتمكين لكم من السلطان والغلب على من يشاء من عباده.. فهكذا يؤيد الله سبحانه وتعالى رسله، وينصرهم، ويجعل لهم سلطانا على الناس، بما يضع فى أيديهم من معجزات، وبما يمدهم به من جنود لا يعلمها إلا هو، تحارب معهم، وتلقى الرعب فى قلوب أعدائهم..
فقوله تعالى: «يُسَلِّطُ رُسُلَهُ» أي يجعل لهم سلطانا.. فالتسلط هنا من السلطان، ومن هذا قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» (96: هود) .. أي تسلط على فرعون، وقهر له.(14/857)
قوله تعالى:
«ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هذه الآية معطوفة على الآية السابقة، ومقررة للحكم الضمنى، الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» .. كما أنها تشير إلى إلحاق قرّى أخرى بهذه القرية، كما سيحدث ذلك لبنى قريظة..
فهذا الفيء الذي يفيئه الله على رسوله من أهل قرى اليهود، لا يقع تحت حكم الغنائم، وإنما هو كله فى يد الرسول، يضعه فى هذه المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة، والتي ستشير إليها الآيات التالية بعد ذلك..
وقوله تعالى: «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» هو تعليل لحكم التصرف فى الفيء، وأنه إنما جرى عليه هذا الحكم حتى ينال الفقراء والمساكين حظهم منه، وحتى لا ينتقل من يد الذين يملكون إلى يد الذين يملكون، فيصبح دولة بينهم، أي متداولا بين الأغنياء، على حين يظل الفقراء على فقرهم، ويقيم المحرومون على حرمانهم!! قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» هو إلفات للمؤمنين إلى ما ينبغى لهم من ولاء وطاعة للرسول، وتقبّل ورضىّ، بكل ما يقضى به النبىّ فى المؤمنين، وخاصة وهم فى مواجهة هذه الفتنة المطلة عليهم من المال الذي وضعه الله فى يد الرسول.. فهناك كثير من الأعين ترنو إلى هذا المال، وكثير من القلوب تتلفت إليه، وإنه لن يعصم المسلم- من هذه الفتنة، إلا الإيمان الوثيق، والرضا المطلق، بكل ما يقضى به الرسول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ(14/858)
عَنْهُ فَانْتَهُوا»
.. فهذا هو حقّ الرسول على المؤمنين: الامتثال والطاعة من غير مراجعة، ولا توقف، أو ريبة..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .. وعيد لمن تحدثه نفسه من المؤمنين بالخروج عن أمر الرسول، أو الضّيق به، فإن ذلك معناه الكفر، والانسلاخ من الإيمان.. وليس للكافرين إلا النار، هى حسبهم، وبئس المصير..
قوله تعالى.
«لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: «فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أي أن هذا الذي أفاءه الله على رسوله من أهل القرى، هو لله ولرسوله، ولذى القربى للرسول، ولليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وللفقراء المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله.. فكأنّ ما لله ولرسوله ولذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، هم هؤلاء المهاجرون الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وكأن هذا الفيء الذي أفاءه الله على الرسول هو من أجل هؤلاء المهاجرين الفقراء، ليكون مواساة لهم فى هذه الغربة، التي اختاروها ابتغاء مرضاة الله، وآثروا بها دينهم على أهليهم وأموالهم..
وقوله تعالى: «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» جملة حالية، تكشف عن الحال التي تلبّس بها هؤلاء المهاجرون، حين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وأنهم حين أخرجوا كانوا على حال يبتغون بها فضل الله ورضوانه، وينصرون الله ورسوله، ولم يكن إخراجهم عن حال أخرى تدعوا قومهم إلى إخراجهم(14/859)
من بينهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» (40: الحج) ويجوز أن يكون قوله تعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» .. جوابا عن سؤال يتردد فى خاطر النبي الكريم، بعد أن وضع الله سبحانه هذا الفيء بين يديه، وجعل ينظر فيما حوله إلى الفقراء الذين دعاه الله سبحانه إلى إعطائهم نصيبا من هذا الفيء.. فالفقراء كثيرون، فإلى من من هؤلاء الفقراء يمدّ يده بالعطاء؟
فكان جواب الله سبحانه وتعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ... الآية» وفى إسناد فعل الخروج «أخرجوا» إلى غير الفاعل، إشارة إلى أنهم لم يخرجوا عن رغبة منهم فى الخروج، وإنما أخرجوا إخراجا بيد القهر والعدوان..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» هو تنويه بشأن هؤلاء المهاجرين الأولين، وأنهم إنما كانت هجرتهم لله ولرسوله، لا لابتغاء مغنم من مغانم الدنيا، أو متاع من متاعها! قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» : هم الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين فى مدينتهم، وهم الذين تبوءوا دار الهجرة، أي كانوا أهلها وسكانها قبل المهاجرين، وهم الذين تبوءوا الإيمان أي دخلوا فيه، وسكنوا إليه، واستظلوا بظله، قبل كثير من المهاجرين، لاكلّ المهاجرين.. وإنما عبر عن هذه الكثرة بما يفيد العموم فى قوله تعالى: «تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» - تنويها بفضل الأنصار، وتغليبا لكثرة المؤمنين منهم على كثرة من آمن من أهل(14/860)
مكة قبل الهجرة.. «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا» أي ولا يجد الأنصار فى صدورهم شيئا من الضيق، أو الألم، أو الغيرة، لما أخذ المهاجرون من غنائم بنى النضير.. فقد جعل الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما أفاءه الله عليه من تلك الغنائم- جعلها فى فقراء المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر منهم كانوا على حال ظاهرة من الفقر.. وبهذا العطاء الذي ناله المهاجرون خفّ العبء عن الأنصار الذين كانوا يقاسمون إخوانهم المهاجرين ديارهم وأموالهم..
«وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» الإيثار: هو تقديم حاجة الغير على حاجة النفس، سخاء وتفضلا.. وهذا لا يكون إلا من نفوس مهيأة للتضحية.. والإيثار: ضد الأثرة، وهى حب النفس حبّا يعميها عن كل شىء، فلا يرى المرء إلا ذاته، ولا يعمل إلا من خلال هذه الذات، وما يحقق لها من نفع ذاتى لا يشاركها فيه أحد..
والخصاصة: الحاجة، والفقر الذي يعجز الإنسان عن إدراك الضروري من مطالب الحياة..
أي أن هؤلاء الأنصار، من طبيعتهم السماحة والبذل، وإيثار إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، والنزول لهم عن الطيب الأكثر مما فى أيديهم، مع حاجتهم إليه.. وهذا هو الفضل على تمامه وكماله، حيث يجىء عن حاجة، ولا يجىء عن غنّى وسعة.. وإذن فهم لا يجدون فى صدورهم حاجة من الحسد لما أصاب إخوانهم من خير، بل إنهم ليجدون فى هذا سعادة ورضى لهم.. فإن النفوس الطيبة الكريمة ليسعدها أن تجد الخير يغمر الحياة، ويعمر البيوت، ويشيع فى الناس الغبطة والرضا.. أما النفوس اللئيمة الخبيثة، فإنه يزعجها ويسوءها أن ترى خيرا يصيب أي أحد من الناس، ولو كان من أقرب المقربين إليها..(14/861)
«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «يوق» : أي يحفظ، ويحمى وشح النفس، بخلها، وحرصها.
وفى التعبير عن السلامة من شح النفس وبخلها وحرصها، بلفظ الوقاية منه- للإشارة إلى أن الشح عدو راصد، يتربص بالنفس الإنسانية فى أية لحظة يغفل فيها الإنسان عن حراسة نفسه منه، فإذا غفل الإنسان عن هذا العدو دخل على نفسه، واستولى عليها..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» الذين جاءوا من بعدهم، هم المؤمنون الذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار، فى مختلف الأزمان والأوطان.. فالمؤمنون جميعا كيان واحد، وأنه إذا كان للمهاجرين والأنصار وضع خاص فى الإسلام، ومنزلة عالية فى المسلمين- فليس ذلك بالذي يعزلهم عن المؤمنين فى أي زمان ومكان، وليس ذلك بالذي يعزل أي مؤمن عنهم.. فالمؤمنون جميعا إخوة فى الله، ومجتمع واحد فى دين الله.. على امتداد الأزمان والأوطان.
والآية معطوفة على الآية السابقة: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» والتي هى معطوفة على قوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» أي كما أن المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله- هم الصادقون فى إيمانهم، فكذلك مثلهم فى صدق الإيمان، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، وهم الأنصار.. وكذلك مثل هؤلاء وأولئك،(14/862)
الذين جاءوا من بعدهم من المؤمنين، وسلكوا سبيلهم، وامتلأت قلوبهم بهذه العواطف والمشاعر من الحب والإخاء والمودة للمؤمنين جميعا.. وأنه إذا كانت هجرة المهاجرين إلى الأنصار قد جمعت بين المهاجرين والأنصار على الحب والمودة والإخاء، فجعلت منهم تلك الهجرة أسرة واحدة، يقتسم أفرادها السراء والضراء فيما بينهم- إذا كانت الهجرة قد عقدت بين المؤمنين هذا العقد الموثّق- فإنه ليس من الضروري أن تكون هناك هجرة كتلك الهجرة، حتى ينتظم المؤمن فى هذا العقد، ويأخذ مكانه فيه، بل إنه من الممكن دائما وفى أي زمان ومكان، أن يهاجر المؤمن بقلبه ومشاعره إلى إخوانه المؤمنين، وإنه لمن الممكن دائما وفى كل زمان ومكان، أن يجعل المؤمن قلبه ومشاعره مهاجرا إلى المؤمنين، فإذا هاجر إليهم، وجد فى ظلهم الحب والرحمة والإخاء، وإذا هاجروا إليه نزلوا من قلبه، ومشاعره منزل الإعزاز والإكرام..
وبهذا يستطيع المؤمن أن يجمع بين الهجرة والنّصرة، فيكون من المهاجرين، ويكون من الأنصار.. وذلك إنما يكون حين يفتح قلبه، لكل مؤمن، ويخلط مشاعره بكل مؤمن.. فإن كان فقيرا، وجد لفقره عندهم غنى وإن كان ضعيفا وجد لضعفه فيهم قوة.. وإن كان غنيّا، وجد فقيرهم من غناه، غنىّ، وإن كان قويا وجد ضعيفهم من قوته قوة..
فهذا هو المؤمن، الذي يدخل مع المؤمنين الداخلين فى قوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» ..
وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ» إشارة إلى تلك الوسيلة التي يتوسل بها المؤمنون اللاحقون، إلى أن ينتظموا فى سلك المؤمنين من المهاجرين والأنصار..(14/863)
ذلك أنه إذ لم تكن هناك هجرة بعد الفتح، كما يقول الرسول الكريم:
«لا هجرة بعد الفتح ولكن نيّة وجهاد» - فإنه بهذه المشاعر التي يرتبط بها المسلم بالمسلمين جميعا، وبهذا الدعاء الذي يدعو به، لإخوانه الذين سبقوه بالإيمان- بهذه المشاعر، وبهذا الدعاء، يكون قد بذل من ذاته شيئا، وقدّم لإخوانه خيرا، واقتسم معهم ما يدعو الله به من رحمة ومغفرة، وبهذا أيضا يكون أشبه بالأنصار الذين آووا المهاجرين، واقتسموا معهم أموالهم وديارهم..
وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا» - إشارة أخرى إلى أنه إذا لم يكن من المؤمن وصلة من مال أو دعاء بخير، يصل به إخوانه المؤمنين، فلا أفلّ من أن يخلى قلبه من الغلّ، والحسد، والحقد والبغضة، لإخوانه المؤمنين..
فإذا لم يستطع أن يوصّل إليهم شيئا من الخير، فليمسك يده ولسانه، عن أي شر أو أذّى، يلحق بمسلم من جهته!.
وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ..
وفى جعل الغلّ فى القلوب، إشارة إلى أن القلوب هى مستودع المشاعر، من حب أو بغض، ومن مودة أو جفاء.. وأن هذه المشاعر هى التي تتولد منها الأقوال والأفعال، ولهذا كان على المرء أن يحرس نفسه من الوساوس والخواطر السيئة، ولا يدع لها فرصة كى تتمكن منه، وتستقر فى وجدانه، فإنها إن تمكنت منه، واستقرت فى كيانه، كانت قوة عاملة فى توجيه سلوكه، وتشكيل أعماله..
وأصل الغلّ، من الغلة والغليل، وهو ما يجده الإنسان فى داخله من حرارة العطش، ومعناه هنا: العداوة والحقد، حيث تغلى الصدور، وتحترق القلوب بنار الحقد والعداوة.(14/864)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
وفى قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» استدعاء لهاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه وتعالى، وهما الرأفة والرحمة ليستشعر بهما المؤمن مشاعر الرأفة والرحمة بإخوانه المؤمنين، فيؤثرهم ببعض ما عنده من خير، رأفة ورحمة بهم..
الآيات: (11- 17) [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ(14/865)
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لإيمان المؤمنين وولاء بعضهم لبعض، وإيثار بعضهم بعضا، فى مشهد ومغيب، وفى حاضر، وماض، وآت.. إنهم جميعا أمة واحدة، وكيان واحد، يجمعه الإيمان، ويوحد بينه التوحيد- فجاءت هذه الآية وما بعدها لتكشف عن وجه أهل الضلال والنفاق، وعن الروابط الزائقة الواهية التي تربط بعضهم ببعض..
ففى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» .. فضح لهذا العهد الكاذب الذي قطعه المنافقون، للذين كفروا من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين ما زالوا فى المدينة كبنى قريظة، وبنى قينقاع، وبنى النضير الذي أجلاهم النبي عن المدينة، كما أشارت إلى ذلك الآيات فى أول السورة..
والمنافقون، هم جماعة عبد الله بن أبى بن سلول، ومن انضوى إليه من أهل الضلال..
وهؤلاء المنافقون، كانوا قد بعثوا إلى اليهود بعد جلاء بنى النضير ألّا يستسلموا أبدا للنبى، وألا يخرجوا من ديارهم، وأنهم، - أي المنافقين- يد واحدة معهم على النبي والمسلمين، وأنه إذا اضطر هؤلاء اليهود يوما إلى الخروج، خرج هؤلاء المنافقون معهم، وأبوا أن يسمعوا لقومهم إذا دعوهم إلى البقاء معهم.. وهذا يعنى أنهم معهم أينما كانوا، فإذا كان خروج من المدينة خرجوا معهم منها، وإن كان قتال قاتلوا معهم.(14/866)
وقدّم الإخراج على القتال، مع أن القتال هو الذي ينبغى أن يكون أولا، حتى إذا غلبوا على أمرهم أخرجوا- وذلك ليكشف عما فى عهد هؤلاء المنافقين من كذب ونفاق.. فهم لو كانوا على ولاء حقا مع إخوانهم هؤلاء، لحرضوهم على القتال، ولقالوا لهم: ها نحن أولاء معكم بأسلحتنا إذا وقع بينكم وبين محمدا قتال..
ولكنهم جاءوا إليهم أولا بالأمر الذي لا يكلفهم شيئا أكثر من مجرد الكلام، وما أكثر الكلام، وما أرخصه فى سوق المنافقين!! فبذلوا لهم القول فى سخاء، وبلا حساب، قائلين: «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً!!» .. ثم رأوا أن هذا القول الذي ألقوا به إلى أسماع إخوانهم الذين كفروا، هو مجرد كلمة عزاء، إذ ماذا يغنى القوم إن أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يخرج معهم المنافقون أو لا يخرجوا؟ وهنا يتنبه المنافقون حين نظروا فى وجه هذا الكلام الذي ألقوا به إلى القوم، وحين رأوا أن القوم لم يمسكوا بشىء منه، وأنهم قد أخرجوا من ديارهم، أو هم على طريق الإخراج من الديار..
حين رأى المنافقون ذلك ألقوا إليهم بهذه القولة الزائفة المنافقة أيضا: «وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ!» .. ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن فضح كذبهم ونفاقهم بقولهم أول الأمر: «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ» ..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» تعقيبا على هذه الوعود الكاذبة التي يبذلها المنافقون لإخوانهم من بنى النضير..
وهو معطوف على محذوف تقديره إن هذا القول يشهد بكذب المنافقين(14/867)
وينادى عليهم بأنهم كاذبون، والله يصدق هذه الشهادة، ويشهد بأنهم لكاذبون..
وفى قوله تعالى: «يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» - إشارة إلى هذه الأخوة التي يجمعهم عليها هذا النسب، من الكفر، والضلال..
وهذه جملة حالية، تمثل الحال التي عليها هؤلاء المنافقون، وقد دعى النبي إلى النظر إليهم وهم على تلك الحال التي يقولون فيها لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ما يقولون.. أي انظر إليهم وهم فى تلك الحال التي يقولون فيها هذا القول الكاذب المنافق..
وقوله تعالى:
«لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» ..
هو بيان لما أشار إليه قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ..
ومن كذبهم أنهم لن يكون منهم وفاء بهذا العهد الذي عاهدوا عليه القوم..
فلو أخرج حلفاؤهم ما خرجوا معهم، ولو قوتلوا ما قاتلوا إلى جانبهم ولو قاتلوا إلى جانبهم لما صبروا على القتال، ولما ثبتوا فى ميدان المعركة، لأنهم إنما يقاتلون بأجسامهم، لا بقلوبهم.. فإذا اشتد البأس ولوا الأدبار، وكانت الدائرة عليهم وعلى حلفائهم..
وقد جاء هذا الخبر مؤكدا بالقسم من الله سبحانه وتعالى، وما يخبر به الله سبحانه، لا يحتاج فى الدلالة على صدقه، إلى توكيد، ولكن هذا(14/868)
الخبر يواجه المنافقين الذين لا يقدرون الله حق قدره، فكان توكيده إشارة إلى ما فى قلوبهم من مرض، وأن أخبار الله سبحانه تقع من نفوسهم موقع الشك والارتياب.
وهذه الآيات من أنباء الغيب، التي كشفت الأيام فيما بعد عن تأويلها على الوجه الذي أخبرت به، والتي سجل بها التاريخ معجزة ناطقة بأن هذا القرآن من لدن عليم خبير..
فلقد نزلت هذه الآيات عقب إجلاء بنى النضير، ولم يكن هناك ما يشير إلى أن شيئا ما سيحدث بين النبي وبين من بقي من اليهود فى المدينة، وأنه إن حدث شىء فلم يكن أحد يتصور الصورة التي سيكون عليها..
وقد قلنا إن فى قوله تعالى فى أول السورة: «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» - إرهاصا بأن هذا الحشر الذي بدىء به بإخراج بنى النضير، سيتبعه مثله من الحشر، لغيرهم من إخوانهم اليهود..
ولكن ما فى هذه الآيات لم يكن مجرد إرهاص، وإنما كان عرضا لأحداث تجرى، وإخبارا مسبّقه بما ستتمخض عنه هذه الأحداث من وقائع محددة، كأنها قد وقعت فعلا..
ففى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، كان المنافقون- وعلى رأسهم عبد الله بن أبى بن سلول- قد مشوا إلى بنى قريظة وغيرهم من يهود المدينة، وأنذروهم بما يمكن أن يفعل بهم محمد، كما فعل ببني النضير، وأعطوهم هذا العهد بأنهم لن يقفوا معهم هذا الموقف الذي وقفوه من بنى النضير، والذي أخذوا فيه على غرّة، دون أن تكون هناك فسحة من(14/869)
الوقت، يدبرون فيها أمرهم، ويأخذون له العدة..
أما الآن، فإن فى الوقت متسعا، وإن عليهم جميعا أن يأخذوا حذرهم، وأن يستعدوا لما يمكن أن تأنى به الأيام بينهم وبين محمد..
ولقد جاءت الأيام بما ينطق بصدق آيات الله، وبما يخزى اليهود ويذلّهم ويفضح نفاق المنافقين وكذبهم. فلقد أخرج بنو قريظة وما خرج المنافقون معهم، وما قام أحد من هؤلاء المنافقين لينصرهم، وليدفع يد النبي والمسلمين عنهم، وقد قتل رجالهم، وسبى نساءهم وأطفالهم..
قوله تعالى:
«لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» .
أي إنكم أيها المؤمنون أشد رهبة، وخشية فى صدور هؤلاء المنافقين، وإخوانهم اليهود- أشد رهبة وتخويفا لهم من الله.. إنهم جميعا يخافونكم ويخشون بأسكم، ولا يخافون الله، ولا يخشون بأسه.. وذلك لأنهم قوم لا يفقهون، أي فى غباء وجهل، ولو فقهوا لعلموا أن الله سبحانه هو أولى بأن يخاف منه، ويخشى من الاعتداء على حرماته..
إنهم لا يؤمنون بالله، ولا يعلمون ماله سبحانه من علم وقدرة، فهم لهذا، لا يستحضرون عظمة الله، ولا يشهدون وجوده، وإنما الذي يشهدونه هو الذي يرونه رأى العين، والذي تتمثل لهم شخوصه.. فهم لهذا يخشون الناس، ولا يخشون الله!.
قوله تعالى:
«لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ(14/870)
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..
هو بيان لقوله تعالى: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» .. أي أن هؤلاء اليهود لما ركبهم من جهل، قد نزلوا إلى مرتبة الحيوان الذي لا يخاف إلا اليد التي تمسك بالسوط يلهب ظهره.. فهم لهذا أجين الناس، وأحرصهم على الحياة. لا يواجهون الأخطار، ولا يقدمون على لقاء عدوهم إلا مخالسة، وقد تحصنوا فى أجحارهم، واختفوا وراء الجدران، شأنهم فى هذا شأن الحيات التي تتحصن فى أجحارها، ترصد أعداءها من داخلها، فإذا رأت فرصة سانحة فى عدو لها أطلت برأسها، ثم نفثت فيه سمومها، وعادت سريعا تدفن نفسها فى جحرها..
والصورة تمثل حال اليهود فى كل زمان..
إنهم لا يقاتلون أبدا فى ميدان حرب، إلا إذا كانوا متحصنين فى حصون يضمنون معها ألا ينال العدوّ منهم شيئا.. ولهذا قامت قراهم قديما وحديثا على نظام الحصون، بحيث إذا دهمهم عدوّ دخلوا هذه الحصون، واحتموا بها، وعاشوا فيها زمنا، بما جلبوا إليها من سلاح ومتاع.. حتى ييئس العدوّ منهم، إذا طال الحصار، أو يجدوا سبيلا إلى إيقاع الفتنة فى صفوفه.. فإن لم يكن هذا أو ذاك، كانت أمامهم فرصة لشراأ أنفسهم من عدوهم، بالمال أو بأى ثمن بطلبه منهم..
هكذا اليهود قديما وحديثا.. ونحن نشهد اليوم فى حربهم معنا، أنهم لم يخرجوا للقتال إلا وقد اتخذوا من عدد الحرب حصونا تحميهم من القتل، وتدخل فى قلوبهم الطمأنينة إلى أنهم فى مأمن من أن ينال العدوّ منهم! ..
إنهم لا يحاربون، ولكن الأسلحة التي مكناهم الأمريكان منها، هى التي تحارب..(14/871)
ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» جامعا بين اليهود جميعا، فى كل زمان ومكان، على تلك الصفة التي وصفهم الله سبحانه بها، وأنهم لا يقاتلون إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر.. كذلك كان سلفهم، وكذلك يكون خلفهم..
قوله تعالى: «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» - إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم، وأنهم أشد الناس شراسة، وأقساهم قلبا، وأقدرهم على الفتك، حيث يقاتل بعضهم بعضا، ويفتك بعضهم ببعض.. إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا، ويفتك بعضها ببعض، فهى أعلم بمواطن الضعف فى أبناء جنسها، وهى لهذا أشد جسارة، وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها..
وقوله تعالى: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» .. أي تبدو حال هؤلاء اليهود فى ظاهرها، أنهم جمع واحد، ويد واحدة..
هكذا هم فيما يضمهم من مكان.. أما قلوبهم فهى أشتات موزعة، تذهب فى أودية مختلفة، كل قلب منها يذهب فى واد غير الذي يذهب فيه صاحبه..
وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه، وبهم بسلامتها قبل كل شىء.. لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا.. إنهم فى ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب، فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر..
وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .. أي لا عقل لهم، ولو عقلوا لعلموا أن السلامة فى اجتماعهم عند الخطر، وفى لقائهم له كيانا واحدا، وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا.. فهم فى هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه، إنما يردون به موارد الهلكة جميعا..(14/872)
ولهذا جاء وصفهم هنا «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» على حين جاء وصفهم فى مقام خوفهم من الناس أشد من خوفهم من الله: «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
إذ كان العقل- مجرد العقل- كاف فى تقدير السلامة من الخطر، وأن السلامة رهن بالاجتماع لا بالتفرق، حتى إن بعض الحيوانات لتهتدى إلى هذا بغريزتها، فإذا واجهها خطر واجهته جبهة واحدة، لم يفر منها أحد.. أما فى مقام الخشية لله، فإنها لا تكون عن عقل- مجرد عقل- بل لا بد من عقل، معه فقه وعلم..
قوله تعالى:
«كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
أي سيكون مثل هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وهم بنو قريظة- سيكون مثلهم مثل الذين من قبلهم قريبا، وهم بنو النضير الذين لم يمض زمن بعيد على ما وقع لهم، وأن بنى قريظة سيذوقون مثل ما ذاق بنو النضير من خزى وهوان، بل ولهم فوق هذا «عَذابٌ أَلِيمٌ» وهو القتل والسبي، اللذان نجا منهما بنو النضير الذين كان حكم الله فيهم هو الجلاء، كما يقول سبحانه. «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» .
وفى قوله تعالى: «قريبا» إشارة إلى قرب الزمن بين إجلاء بنى النضير وبين ما سينزل ببني قريظة.. وذلك أن ما حل ببني قريظة من قتل وسبى كان بعد غزوة الأحزاب، حيث إنه ما كاد الحصار الذي ضربه المشركون على المدينة حول الخندق- ما كاد هذا الحصار ينتهى، وينقلب المشركون مدحورين خائبين- حتى دعا النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أصحابه إلى حرب(14/873)
بنى قريظة، قائلا: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا ببني قريظة» ، الذين ما إن علموا بهذا حتى دخلوا فى حصونهم، وأغلقوها دون المسلمين، فحاصرهم النبي وأصحابه أياما، حتى رهقهم الحصار، وبعثوا إلى النبي يطلبون إليه أن يرضوه بما شاء منهم، فلم يقبل منهم إلا أن ينزلوا على حكمه أو حكم أحد أصحابه، فرضوا بأن ينزلوا على حكم «سعد بن معاذ الأنصاري» الذي كان حكمه فيهم أن يقتل كل قادر على حمل السلاح من ذكورهم، وأن يسبى النساء والأطفال.. وأن تقسم الأموال.. فأمضى الرسول هذا الحكم فيهم..
قوله تعالى:
«كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» .
أي أن مثل المنافقين مع إخوانهم هؤلاء من اليهود، كمثل الشيطان، الذي يدعو الإنسان إلى الكفر، فيستجيب له، ويتقبل دعوته، ويأخذ بنصيحته، حتى إذا كفر هذا الإنسان، ولبس الكفر ظاهرا وباطنا، وأحاطت به خطيئته، وحلّت به النقمة- تركه الشيطان لمصيره، ونفض يديه منه، وتبرأ من الجناية التي جناها عليه، وتنكر له، بل ورماه بالجهل والغفلة، ليزيد فى آلامه وحسرته، وقال له: «إنى أخاف الله رب العالمين» .. وبهذا يريه أنه قد أضله، وخدعه، وصرفه عن الله، وعن الخوف منه، على حين أنه هو لم يصرف عن الله، وعن خشيته والخوف منه..!!
والسؤال هنا: ماذا يريد الشيطان بقوله: «إنى أخاف الله رب العالمين» ؟
وهل هو صادق فيما يقول؟ وإذا كان صادقا فكيف يتفق هذا مع دعوة غيره إلى الكفر بالله والمحادة لله؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن الشيطان يعلم ما لله سبحانه وتعالى(14/874)
من جلال وقدرة، وأنه على خوف من جلال الله وقدرته، ولكنه- وقد غلبت عليه شقوته، وأعماه حسده لأبناء آدم وعداوته لهم- ذهل عن هذا، فى سبيل الانتقام لنفسه، وما يحمل للإنسان من عداوة وحسد، لما كان من تكريم الله لآدم، وأمر الملائكة بالسجود له، واستعلاء إبليس واستكباره عن أن يكون من الساجدين، فلعنه الله وطرده من عالم الملائكة.. فخرج بهذه اللعنة، وهو على عزيمة بأن ينتقم من آدم ومن ذريته، ولو كان فى ذلك هلاكه!! وكم من الناس من يعلم الحق ويأخذ نفسه بخلافه، ويعرف الطريق القويم، ويسلك المعوج؟. وهل كان موقف المشركين من النبي إلا عن حسد وكبر واستعلاء؟ إنهم كانوا يعرفون صدق النبي، ومع هذا فقد بهتوه، وكذبوه، وأبوا أن يقبلوا هذا النور الذي بين يديه، وآثروا أن يعيشوا بما هم فيه من عمى وضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . (33: الأنعام) وفى هذا التشبيه، يمثل المنافقون دور الشيطان، فهم يعرفون طريق الحق ويتجنبونه، وهم يزينون الشر لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، ويدعونهم إلى المحادة لله ولرسوله، ويشدون ظهرهم فى كيدهم للنبى وخلافهم له..
حتى إذا وقعت الواقعة بهم، نظر إليهم هؤلاء المنافقون نظر الشيطان إلى صاحبه الذي استجاب له، وأروهم أنهم لا يستطيعون أن يخفّوا إلى نجدتهم، وأنهم يخافون النبي والمسلمين، كما يخاف الشيطان الله رب العالمين.. وهنا نذكر قول الله للمؤمنين عن المنافقين: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» .
ففى هذا التشبيه ثلاثة أطراف.. الشيطان، والإنسان الذي أضله الشيطان، والله، الذي يخافه الشيطان..
وفى مقابل هذه الأطراف: المنافقون، وإخوانهم اليهود، والنبي وأصحابه الذين يخافهم المنافقون..(14/875)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قوله تعالى:
«فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» ..
تلك هى عاقبة الشيطان وصاحبه.. لقد هلك الشيطان، وهلك معه من استجاب له.. وتلك هى عاقبة المنافقين، وإخوانهم من اليهود.. إنهم جميعا إلى النار خالدين فيها.. وذلك جزاء الظالمين.. لا جزاء لهم إلا جهنم وبئس المصير..
الآيات: (18- 24) [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)(14/876)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ..
تجىء هذه الآية بعد ما عرضت الآيات السابقة موقف جماعات المنافقين واليهود، من النبي والمسلمين، وكيف ينتهى بهم هذا الموقف إلى خسران الدنيا والآخرة جميعا- فتحمل الآية إلى المؤمنين دعوة مجددة إلى تقوى الله، وإلى إخلاص العبودية له وحده، وإلى أن يخلى المؤمن نفسه من كل واردة من واردات النفاق، الذي إن تمكن من صاحبه قتله شر قتله، وصار به إلى أسوأ مصير.. وذلك يكون بأن ينظر المؤمن فى أعماله، وما يقدمه لغده من خير يجده عند الله، وألا يكون حاضره، وعاجل أمره، هو الذي يحكم أعماله، ويوجه تصرفاته، كما هو الشأن عند المنافقين والضالين، والكافرين.
وتقوى الله، هى خوفه، واتقاء محارمه..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» دعوة عامة إلى تقوى الله ومخافته، وملء النفس خشية من بأسه، ونقمته..
ومن تقوى الله، محاسبة المرء نفسه، ومراجعتها، فى نوازعها ورغباتها.. وأن هذه المحاسبة، وتلك المراجعة، لا تعطيان ثمرا طيبا إلا إذا وقف المرء من نفسه موقفا حذرا، حازما، حتى يقهر هواها، ولا تغلبه على أمره، وذلك لا يكون إلا باستحضار تقوى الله، والخوف من عقابه.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك «واتقوا الله» تلك التقوى التي تشهد محاسبة المرء نفسه ومراجعتها بين يدى جلال الله، وعظمة الله وسلطان الله، حتى لا يميل مع نفسه، ولا يغلبه هواها على تقوى الله.(14/877)
فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» .. هو استحضار للتقوى التي تدعو الإنسان إلى مراقبة نفسه ومحاسبتها.. وذلك ما أشار إليه قوله تعالى «وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ» وأما قوله تعالى بعد ذلك: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فهو استحضار لتقوى الله، فى كل حال يقف المرء فيها مع نفسه موقف المحاسب والمراجع، حتى لا يميل مع هواه. ولا تغلبه نفسه على ما تشتهى.. فالمراد بالأمر بتقوى الله هنا، هو تقواه فى تلك الحال، أي واتقوا الله وأنتم تحاسبون أنفسكم، فلا تميلوا معها، ولا تتبعوا أهواءها..
قوله تعالى:
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، هم أهل الضلال من المنافقين، واليهود، الذين خلت قلوبهم من تقوى الله، وخشيته، فلم ينظروا فيما يقدمون لغد، بل شغلوا بما هم فيه من متاع الحياة الدنيا، ونسوا الله، ولم يذكروا عقابه، ولم يستحضروا جلاله وعظمته، فكان هذا النسيان لله، ولجلاله، وعظمته، سببا فى نسيانهم لأنفسهم، فلم ينظروا إلى المصير الذي هم صائرون إليه، ولم يروا البلاء المحدق بهم من هذا الضلال الذي هم فيه.. ولو أنهم ذكروا الله، وذكروا حسابه وعقابه، لذكروا وجودهم هذا الذي يسبح فى بحار الضلال، ولعملوا جاهدين على إنقاذ أنفسهم مما هم فيه، فكان نسيانهم لله، هو الداء الذي ران على قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فلم يروا حقا، ولم تقبل قلوبهم ما هو حق.
وعلى هذا يكون فاعل الفعل أنساهم ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من الفعل «نسوا الله» أي: فأنساهم هذا النسيان أنفسهم.. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير لفظ الجلالة العائد على قوله تعالى: «نسوا الله» .. بمعنى: نسوا الله فعاقبهم الله بأن أنساهم أنفسهم.(14/878)
والفاسقون: هم الخارجون عن طريق الحق، الذي قام عليه الوجود كله، وهم الخارجون على فطرتهم التي فطر الله الناس عليها..
قوله تعالى:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» فمن اتقى الله ونظر إلى ما قدم لغد، وحاسب نفسه على ما يعمل، حسابا قائما على تقوى الله وخشيته، فقد أعد نفسه ليكون من أصحاب الجنة، وذلك هو الفوز العظيم.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) وشتان بين من يعذب فى النار، ومن ينعم بنعيم الجنة..
[القرآن.. وما يتجلى على الوجود] قوله تعالى:
«لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تقوى الله، وذلك إنما يكون بذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته، وحذرت من نسيان الله، والغفلة عن ذكره، فذلك النسيان يخلى قلب الإنسان من كل أثر لتقوى- الله- فجاءت هذه الآية لتقدم بين يدى تلك الدعوة إلى ذكر الله، وإلى تقواه خير- هاد يهدى إلى الله، وخير مذكّر يذكّر به، وهو القرآن الكريم، الذي يقول الله سبحانه وتعالى عنه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ.. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (17: القمر) ويقول فيه سبحانه أيضا: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (82: الإسراء) ويصفه سبحانه بأنه ذو الذكر فى قوله: «ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» ..
فهذا القرآن لو أنزل على جبل، لخشع وتصدع من خشية الله.. ولكن(14/879)
هذا القرآن لم يتجه إلى الجبل، وإنما اتجه إلى الإنسان.. ومع هذا فإن كثيرا من الناس لم يقع هذا القرآن منهم موقعه من الجبل الأصم لو نزل عليه.. فلم يخشعوا له، ولم تلن قلوبهم به.. فهناك فى الناس قلوب قاسية، أشد قسوة من حجارة هذا الجبل، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (74: البقرة) وكما أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وما يشقق فيخرج منه الماء، وما يهبط من خشية الله- فكذلك فى القلوب ما يفيض بالخير، فيكون أشبه بالنهر العظيم أو النبع الصافي يعيش فى خيره الناس، وكذلك فى القلوب ما يلين ويخشع لذكر الله. «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (2: الأنفال) فمن قرأ القرآن، أو استمع إليه، ولم يخشع قلبه له، ولم ينضح بقطرات من الخير والإحسان، ولم تبرق فى سمائه بروق الهدى والإيمان- فليعلم- إن كان منه أن يعلم- أنه دون بعض الأحجار، قبولا للخير، وتأثرا به..
قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» أي وهذه الأمثال التي يسوقها القرآن للناس، إنما هى لتقريب الحقائق إلى عقولهم، ليروا على مرآتها أحوالهم، وما فى تلك الأحوال من انحراف أو عوج، حتى يقوموا منها ما انحرف، ويصلحوا ما اعوج.. هذا إذا كانت لديهم عقول يعقلون بها.. فهذه الأمثال، إنما هى لمن يعقل، ويتفكر فيما عقل..
قوله تعالى:
«هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ»(14/880)
هذا مما نزل به القرآن الكريم من ذكر الله، وهو مما لو نزل على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله..
فهذه الآية والآيات التي بعدها إلى آخر السورة، قد خلصصت لذكر بعض أسماء الله سبحانه وتعالى، وصفاته.. لم يذكر مع أسماء الله وصفاته غيرهما..
وهذا يعنى أن القرآن كله، هو دعوة إلى الله سبحانه، وإلى تجلى أسمائه وصفاته على عباده..
فالقرآن الكريم كلام الله، وكلامه- سبحانه- صفة من صفاته..
ففى كلمات الله تتجلّى صفاته على القلوب المؤمنة، التي من شأنها أن تخشع لذكر الله..
والتفرد بالألوهية، هو أول صفة لله سبحانه، ولهذا كانت هذه الحقيقة أول ما بدىء به من صفات الله تعالى..
«هُوَ اللَّهُ.. الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» ..
فهذا التفرد هو الذي يجعل الكمال المطلق لصفات الله.. فإذا تفرد- سبحانه- بالألوهية، تفرد بالكمال المطلق فى كل شىء.. وكان من أول مراتب الكمال بعد التفرد بالألوهية «العلم» الذي يحيط بكل ما فى الوجود من غائب أو حاضر، وباطن، أو ظاهر..
فمن كمال الذات، كمال العلم الذي تتصف به، وبهذا العلم الكامل تقوم الربوبية على كل ذرة فى هذا الوجود، ما ظهر منه، وما بطن..
ومن صفات الإله الواحد المتفرد بالألوهية وبالعلم- الرحمة، التي بها وجد(14/881)
ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» جامعا بين اليهود جميعا، فى كل زمان ومكان، على تلك الصفة التي وصفهم الله سبحانه بها، وأنهم لا يقاتلون إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر.. كذلك كان سلفهم، وكذلك يكون خلفهم..
قوله تعالى: «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» - إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم، وأنهم أشد الناس شراسة، وأقساهم قلبا، وأقدرهم على الفتك، حيث يقاتل بعضهم بعضا، ويفتك بعضهم ببعض.. إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا، ويفتك بعضها ببعض، فهى أعلم بمواطن الضعف فى أبناء جنسها، وهى لهذا أشد جسارة، وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها..
وقوله تعالى: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» .. أي تبدو حال هؤلاء اليهود فى ظاهرها، أنهم جمع واحد، ويد واحدة..
هكذا هم فيما يضمهم من مكان.. أما قلوبهم فهى أشتات موزعة، تذهب فى أودية مختلفة، كل قلب منها يذهب فى واد غير الذي يذهب فيه صاحبه..
وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه، وبهتم بسلامتها قبل كل شىء.. لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا.. إنهم فى ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب، فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر..
وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .. أي لا عقل لهم، ولو عقلوا لعلموا أن السلامة فى اجتماعهم عند الخطر، وفى لقائهم له كيانا واحدا، وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا.. فهم فى هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه، إنما يردون به موارد الهلكة جميعا..(14/882)
المعتقد هو فيصل ما بين الإيمان والكفر.. وإنه لا يضرّ مع الإيمان شىء، كما لا ينفع مع الكفر شىء!.
و «الملك» هو المالك المطلق لكل شىء.. لا ينازعه أحد فى ملك شىء من هذا الوجود، إذ أن أي موجود لا يملك وجود نفسه، فكيف يكون له مع الله ملك فى ملكه الذي هو- أي هذا الموجود- بعض منه؟
و «القدوس» .. هو المنزه عن كل نقص، المبرأ من كل عيب.
و «السلام» .. هو من سلمت ذاته، وصفاته، وأفعاله، من أي عارض من عوارض النقص..
و «المؤمن» هو الطاهر الذي لا تعلق به شائبة.. ومنه سمى المؤمن مؤمنا..
و «المهيمن» هو القائم على الوجود، المسيطر على كل ذرة فيه..
و «العزيز» هو المتفرد بالعزة، والسلطان..
و «الجبار» هو القوىّ، الذي يخضع لجبروته كل جبار.
و «المتكبر» هو المتعالي الذي لا يطاول..
فهذه ثمان صفات، جاءت متتابعة من غير حرف عطف، لأنها جميعها صفة واحدة، لموصوف واحد.. فكما أن الله سبحانه واحد فى ذاته، هو واحد فى صفته، وهى الألوهية.. وليس هذا التعدد فى الصفات إلا من حيث نظرنا نحن إلى الذات، وما ينبغى أن نراه فيها من صفات الكمال..
فنحن بعقولنا البشرية هذه، لا يمكن أن نعرف الذات الإلهية، ولا أن نخشع لجلالها وسلطانها، إلّا بقدر ما نتمثل لها من صفات الكمال، وإنه(14/883)
بغير هذه الصفات التي نتمثلها، لا يمكن أن تقوم بيننا وبين الخالق جلّ وعلا علاقة ذات أثر وتأثير فينا..
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي تنزه الله سبحانه، وتعالى عما يشرك به المشركون، بما يعبدون من دونه من معبودات.
قوله تعالى:
«هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
- «هُوَ اللَّهُ» .. توكيد بعد توكيد، لذات الله الواحد الذي لا إله إلا هو..
- «الْخالِقُ» .. أي الذي تفرد بالخلق.. فكل ما فى الوجود مخلوق له.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) ..
فكل ما فى الوجود مخلوق لله، والمخلوق لا يخلق، وما يبدو من المخلوقين أنه خلق، وابتكار، وابتداع- هو عمل فيما خلق الله، بالحلّ والتركيب فى عالم المادة، وفيما أودع الخالق سبحانه فيها من قوى وما أخضعها له من قوانين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» (73: الحج) ..
- «الْبارِئُ» .. أي الذي خلق ما خلق ابتداء على غير مثال سبق..
- «الْمُصَوِّرُ» .. أي الذي يبدع فى خلقه، ويصور كيف يشاء..(14/884)
- «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» .. أي أنه سبحانه، مسمّى بكل اسم حسن، يليق به، لأن حسن الاسم من حسن المسمّى، حيث يسمى الشيء عادة بالاسم الذي يدل على أوضح صفة فيه.. وفى قاموس اللغة فى أي لسان، تجد تشابها كثيرا بين اللغات المختلفة فى اختيار الأسماء للأشياء التي بين أيدى الناس، هذا الاختيار الذي يقوم على أن يعطى الاسم دلالة واضحة على أبرز صفة فى هذا الشيء، من حيث الشكل، أو اللون، أو الطعم، أو الوظيفة التي يقوم بها.. إلى غير هذا مما يميز بين الشيء والشيء..
ولعل هذا ما يفهم من قوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» بمعنى أن الله تعالى أقدر آدم على أن يتعرف على الأشياء، وأن يجعل لكل شىء مفهوما، وأن يتخذ من هذا المفهوم اسما يجعله شارة لهذا الشيء يذكره به غائبا، وحاضرا..
وهذا هو ما كان من الإنسان، فإنه لم يدع شيئا يقع تحت حواسه، إلا استدعاه إليه باسم خاص به، مهما بلغت هذه الأشياء من الكثرة والتعدد..
بل إن الإنسان لم يقف عند هذا، بل وضع لكل جزء من أجزاء الشيء الواحد اسما يدل عليه، كما نرى ذلك فى الإنسان، والأسماء التي لا تحصى لأعضائه الظاهرة والباطنة.. وهكذا صنع الإنسان بأدوات طعامه، وشرابه، ولباسه، ونومه وصيده، وحربه، إلى غير ذلك مما تلده الحياة كل يوم من مواليد فنونه ومخترعاته..
فإذا تعامل الإنسان، مع الله- سبحانه- وتعالى- بأسماء يدعوه بها، وجب أن تكون هذه الأسماء دالة على ما لله سبحانه وتعالى، من كمال، وعظمة، وجلال، وسلطان قائم على هذا الوجود.. كما يقول سبحانه:
«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» .. ففى أسماء الله الحسنى التي ندعوه بها(14/885)
تتجلى لنا صفات الكمال التي له سبحانه.. ولهذ، فإن أسماء الله سبحانه، هى صفاته.. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه الأسماء المباركة لله وصفاته وهى متفرقة فى آيات الكتاب الكريم، وقد جمعها الحديث الشريف فى تسعة وتسعين اسما.. فيجب علينا أن نقف عندها، لا نتجاوزها، ولا نعدل عنها إلى غيرها، إذ كانت هى أكمل الأسماء، وأكمل الصفات التي تليق به سبحانه.. فى قاموس اللغة العربية.
(أسماء الله الحسنى)
روى البخاري، ومسلم، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه قال:
«إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» .
والأسماء الحسنى كما أحصاها العلماء هى: الله لا إله إلا هو.. الرحمن..
الرحيم.. الملك.. القدوس.. السلام.. المؤمن.. المهيمن.. العزيز.. الجبار.. المتكبر..
الخالق.. البارئ.. المصور.. الغفار.. القهار.. الوهاب.. الرزاق.. الفتاح.. العليم..
القابض.. الباسط.. الخافض.. الرافع.. المعز.. المذل.. السميع.. البصير..
الحكم.. العدل.. اللطيف.. الخبير.. الحليم.. العظيم.. الغفور.. الشكور..
العلى.. الكبير.. الحفيظ.. المقيت.. الحسيب.. الجليل.. الكريم..
الرقيب.. المجيب.. الواسع.. الحكيم.. الودود.. المجيد.. الباعث..
الشهيد.. الحق.. الوكيل.. القوى.. المتين.. الولي.. الحميد.. المحصى..
المبدئ.. المعيد.. المحيي.. المميت.. الحي.. القيوم.. الواجد.. الماجد..
الواحد.. الصمد.. القادر.. المقتدر.. المقدم.. المؤخر.. الأول.. الآخر..
الظاهر.. الباطن.. الوالي.. المتعال.. البر.. التواب.. المنتقم.. العفو..(14/886)
الرءوف.. مالك الملك ذو الجلال والإكرام.. المقسط.. الجامع.. الغنى..
المغني.. المعطى.. المانع.. الضار.. النافع.. النور.. الهادي.. البديع.. الباقي..
الوارث.. الرشيد.. الصبور.
قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» أي أن كل ما فى السموات والأرض من عوالم، يسبح لله، ويحمد له، ويتعبد لذاته، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من عزة يخضع لها كل ما فى هذا الوجود.. «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» (10: فاطر) فإن من كمال الإله الواحد، المتفرد بالسلطان- أن يخضع لسلطانه كل شىء «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .. وهذه العزة القاهرة لله، هى عزة الحكيم الذي يقيم كل شىء بعزته وسلطانه على ميزان الحكمة والعدل والإحسان، لا على الهوى، والجور، والإذلال، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
هذا ويلاحظ أن الآيات الثلاث التي عرضت هذه الأسماء الكريمة لله سبحانه وتعالى، قد جاءت متلاحمة، من غير أن يصل بعضها ببعض حرف عطف، أو أن يتوسل إلى وصل بعضها ببعض بعاطف يجمع بينها، إذ أنها فى حقيقتها اسم واحد، أو صفة واحدة للإله الواحد.. وكما أنه قد استغنت الآيات فيما بينها عن رابط غير رباط الوحدة التي تجمعها جميعا فى مضمون واحد، هو وحدة الله سبحانه، وتفرده ذاتا، وصفة- كذلك استغنت كل آية عن أن يدخل بين مفرداتها عاطف يصل بين أفراد المتآخيه..(14/887)
واتل أيها المؤمن الآيات الكريمات:
«هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
وانظر فى وجهها الكريم، فإنك لا تجد فيها حرف عطف واحدا، إذ كانت مستغنية بما بينها من تلك الوحدة الجامعة لها جميعا من الكمال والجلال عن أن يدخل عليها ما ليس منها.. إنها نور إلى نور، وما كان النور أن يحتاج إلى شىء يمزج شعاعاته بعضها بعض، أو يصل بعضها ببعض..
فهذه الصفات الكريمة هى صفة واحدة فى تفرقها واجتماعها.. وكل صفة منها تجمع جميع الصفات.. فهى صفة فى صفات، وصفات فى صفة، وما هذا التعدد إلا من وجهة نظرنا نحن البشر، حسب ما يبدو لعقولنا من تجليات الله سبحانه وتعالى علينا، وذلك أشبه- من غير تشبيه- بما يقع لأبصارنا من الضوء يمر خلال منشور زجاجى، فتنعكس لأبصارنا عليه ألوان الطيف، وليس ثمة.
فى الحقيقة- إلا هذا الضوء المشع الذي يفيض من عالم النور.(14/888)
60- سورة الممتحنة
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: ثلاث عشرة آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وخمسمائة وعشرة.
مناسبتها لما قبلها
كان مما تحدثت به السورة السابقة (الحشر) هذا الحديث الذي يكشف عن وجوه المنافقين، الذي جعلوا بينهم وبين الذين كفروا من أهل الكتاب مودة قائمة على العداوة والكيد، للنبى وللمؤمنين، وأن هذه المودة قد كانت شؤما وبلاء على أهلها من هؤلاء وأولئك جميعا..
وتبدأ سورة الممتحنة بهذا التحذير للمؤمنين، أن يأخذوا هذا الاتجاه المهلك الذي اتخذه الذين نافقوا ممن كانوا فى المؤمنين.. فهذا التحذير الذي يجىء عقب هذا البلاء الذي حلّ بأحلاف الضلال- هو أشبه بالضرب على الحديد وهو ساخن- كما يقولون- حيث يظهر أثر هذا الضرب عليه، ويستجيب للصورة التي يراد تشكيله عليها.. فإنه ما إن ينتهى الذي يتلو سورة (الحشر) من تلاوتها، حتى تلقاه سورة (الممتحنة) لتعيده مرة أخرى إلى هذه الصورة التي تمثلت له مما حل بالمنافقين وأحلافهم من اليهود، ولتقيم بين يديه منها، هاوية يهوى إليها كل من يأخذ هذا الطريق الضال، فيجعل بينه وبين أعداء الله ورسوله ألفة ومودة. فإنه إن يفعل تردّى فى هذه الهاوية السحيقة التي تردّى فيها المنافقون الذين وقف على مصارعهم منذ قليل.. فلينظر من كان له نظر.. وليختر الطريق الذي يحلوله..!!(14/889)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 3) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» .
النداء للمؤمنين جميعا، الذين كانوا فى مواجهة المشركين من قريش وأحلافهم، حيث كانوا يتربصون بالنبي وبالمؤمنين، ويكيدون لهم، ويستعدون ضعاف الإيمان عليهم، ويجذبونهم إليهم بالوعد وبالوعيد..(14/890)
وقد كشف الله سبحانه للمؤمنين عن وجه هؤلاء المشركين، وأنهم أعداء الله وأعداء الذين آمنوا.. فمن كان مؤمنا بالله حقّا كان على ولاء لله وللمؤمنين به، الأمر الذي لا يتفق معه الولاء والمودة لأعداء الله وأعداء المؤمنين..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» فإن من يتصف بالإيمان، لا تبقى له هذه الصفة، إذا هو كان على ولاء ومودة، لمن كان عدوّا لله وعدوا للمؤمنين، أولياء الله..
وقوله تعالى: «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» هو جملة حال من فاعل الفعل:
«لا تَتَّخِذُوا» أو هو صفة لأولياء..
والإلقاء بالمودة، بذلها فى صورة رسائل، أو هدايا، أو عواطف من الحب والود، مع بعد الشقة النفيسة، التي ينبغى أن تكون بين المؤمنين بالله والكافرين به، أو بعد الشقة المكانية حيث المؤمنون فى المدينة، والمشركون فى مكة.. ولهذا عدّى الفعل بالياء، لتصمنه معنى تبعثون إليهم بالمودة، مع إفادته معنى السر والخفاء حيث تلقى إليهم المودة فى كلا الحالين فيتلقفونها من غير أن يراها أحد.
وقوله تعالى: «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» أي أنكم تلقون إلى عدوّ الله وعدوكم بالمودة، فى حال قد كفر فيها هذا العدو بما جاءكم من الحق، الذي نزل به القرآن الكريم، وتلاه عليكم رسول الله.. بل ليس هذا فحسب، إنهم «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» أي مع كفرهم بالحق الذي آمنتم به- وهذا وحده كاف لقطع كل ولاء بينكم وبينهم، فإنهم- مع هذا- يخرجون الرسول، ويخرجونكم من دياركم وأهليكم لا لجناية جناها الرسول أو جنيتموها أنتم عليهم، إلا أنكم آمنتم بالله ربكم.. فتلك هى جنايتكم عند القوم.. إنهم يعادونكم لإيمانكم بالله.. فقوله تعالى:
«وَإِيَّاكُمْ» معطوف على «الرسول» أي يخرجون الرسول ويخرجونكم.(14/891)
قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» - هو تعقيب على قوله تعالى: «أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» - أي إن كان إيمانكم هذا صادقا، وكانت هجرتكم خالصة لوجه الله، تريدون بها جهادا فى سبيله وابتغاء مرضاته.. وفى هذا إلفات للمسلمين إلى هذا الإيمان الذي فى قلوبهم، وإلى تمحيصه من شوائب النفاق، حتى يكون إيمانا حقّا.. فهذا الإيمان الحق من شأنه ألا يقيم بينكم وبين أعداء الله وأعداء المؤمنين مودة.. أما إذا كان إيمانكم على غير تلك الصفة، فهو ليس الإيمان الذي خرج به النبي والمؤمنون من ديارهم، وليس هو الإيمان الذي يجعل من المشركين عدوا للمؤمنين..
فهل أنتم مؤمنون حقا؟ فإن كنتم مؤمنين حقا، فلا تتخذوا عدوا الله وعدو المؤمنين أولياء.
وفى التعبير عن إخراج المشركين للنبى والمؤمنين، بالفعل المضارع الذي يفيد تجدّد الزمن حالا بعد حال، للإشارة إلى أن المشركين ما زالوا على موقفهم من النبي والمؤمنين، وأنه لو عاد النبي والمؤمنون إلى ديارهم بمكة لأخرجهم المشركون منها، بما يلاحقونهم به من أذى وضر.. كما أن المشركين لم يزل هذا موقفهم من المؤمنين الذين كانوا فى مكة، ولم تتح لهم فرصة الهجرة لسبب أو لآخر..
ويحوز أن يكون قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» .
يجوز أن يكون منصلا بقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» .. ويكون ما بينهما اعتراض يراد به الكشف عن وجه أعداء الله وأعداء المؤمنين، وما يرمون به النبي والمؤمنين من أذّى متلاحق..
وقوله تعالى: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ»(14/892)
هو استفهام إنكارى، أي أبعد هذا الذي علمتم أو تعلمون من أمر القوم- أبعد هذا تسرون إليهم بالمودة؟ أي تبادلونهم المودة فى ستر وخفاء «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ» .. فإنه لا يخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء:
«سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10: الرعد) وإن إسراركم هذه المودة لدليل على أنها أمر تنكرونه أنتم، وينكره المؤمنون عليكم، وإنه لو كان غير منكر لأعلنتموه.. فإخفاء هذه المودة التي بين بعض المؤمنين وبين المشركين شاهد على أنها مما يعاب على المؤمن، ومما ينبغى ستروه وإخفاؤه، وحسب الأمر شناعة ألا يكون له وجه يظهر به فى الناس، فإن ظهر كان فضيحة لصاحبه!! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» الضمير فى «يفعله» يعود إلى هذا الإسرار المودة.. أي ومن يفعل هذا الإسرار بالمودة، فقد ضل سواء السبيل، لأن الإسرار بها- كما قلنا- دليل على نكرها وبشاعتها.. وإذا امتنع الإسرار بها، فقد أصبح من المستبعد إعلانها إلّا إذا كان ذلك عن كفر صريح، وردّة عن الإيمان.. فهذا شأن آخر غير شأن المؤمنين.
قوله تعالى:
«إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ» : أي يظفروا بكم، وينتصروا عليكم، ومنه قوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (57 الأنفال)(14/893)
والثّقاف: ما يثقّف به الرمح، أي يعدّل ويقوّم، والمراد بثقف القوم هنا التمكن منهم، كما يتمكن الثقاف من الرمح. والخطاب هنا للمؤمنين الذين بينهم وبين المشركين مودة.. أي أن هؤلاء المشركين الذين توادّونهم أيها الموادون لهم من المؤمنين- إن يظفروا بكم فى حرب بين المؤمنين وبينهم، لن يبقوا على هذا الود الذي تحسبونه قائما بينكم وبينهم، بل إنهم سيكونون لكم فى تلك الحال أعداء، يبسطون إليكم أيديهم بالأذى، وألسنتهم بالسوء، بل إنهم ليفعلون بكم أكثر من هذا، وهو حملكم على أن تعودوا إليهم كفارا.. فهذا هو الذي يقطع عداوتهم لكم..
وفى قوله تعالى: «يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً» - إشارة إلى أن هذه المودة التي بين بعض المؤمنين والمشركين، هى التي تخفى هذه العداة التي فى صدور المشركين لهم- فإذا أمكنت الفرصة المشركين منهم، ظهرت هذه العداوة الكامنة..
وفى قوله تعالى: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» - بعطف الفعل الماضي على فعل المستقبل «يبسطوا» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الرغبة، أي رغبة المشركين فى أن يكفر المؤمنون- هى رغبة قديمة، من يوم أن آمن هؤلاء المؤمنون.. إنها رغبة لم تنقطع بالهجرة، ولا بالمودّة التي تجرى بينهم وبين هؤلاء المؤمنين، بل هى قائمة فى صدور المشركين، لن تموت أبدا إلا بعودة المؤمنين كفارا..
قوله تعالى:
«لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(14/894)
أي أنه- أيها المؤمنون- لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين أمسكوا بشركهم، فقد أصبحتم فى حزب الله، وظلّوا هم فى حزب الشيطان، ولن يجتمع حزب الله وحزب الشيطان، ولن يتبادلوا المنافع بينهم.. فليس فى جانب المشركين إلا السوء والضلال.. وكما فرق الإيمان بينكم وبين أرحامكم وأولادكم المشركين فى الدنيا، كذلك يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة.. فأنتم فى رحمة الله ورضوانه، وهم فى سخط الله وعذابه..
قيل إن هذه الآيات نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة- وهو صحابىّ ممن شهد بدرا- وكان ذلك بعد صلح الحديبية، وبعد أن نقضت قريش شروط الصلح التي صالحها عليها النبي يومئذ.. وكان النبىّ يعدّ العدّة لفتح مكة، ويتجهز لهذا فى سر وخفاء، حتى لا تعلم قريش، وتستعد للحرب..
وكان حاطب بن أبى بلتعة حين هاجر من مكة قد خلّف بعض أهله بها، ولم يكن له فى مكة عصبية تحمى أهله المخلفين هناك، من أذى قريش، فأراد أن يصطنع عند قريش يدا ينتفع بها أهله عندهم، فبعث إليهم برسالة مع امرأة من مكة كانت قد وفدت إلى المدينة، فلما قفلت راجعة إلى مكة، أعطاها «حاطب» رسالة إلى قريش، يعلمهم فيها أن النبي يعد العدة لحربهم، وأوصى المرأة أن تخفى الرسالة، وأن تكتم أمرها، لقاء مال أعطاها إياه.. فلما أخذت المرأة طريقها إلى مكة، جاء خبر السماء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بما كان من هذا الحدث، فبعث النبي بجماعة من أصحابه فيهم على بن أبى طالب رضى الله عنه، يتبعون المرأة، ويأخذون الرسالة التي معها.. فلما جىء بالرسالة إلى النبي، دعا إليه حاطبا، وسأله عن أمر هذه الرسالة، فاعترف بها، واعتذر للنبى صادقا، بأنه لم يرد بهذا كيدا للمسلمين، ولا ممالأة للمشركين، وإنه ليعلم أن الله سيؤيد النبي بنصره، وأنه لن يغنى عن قريش أي تدبير يدبرونه(14/895)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
فصدقه النبي، وقبل ما اعتذر به، وردّ عمر بن الخطاب حين قال: ألا أضرب عنقه يا رسول الله، بقوله- صلوات الله وسلامه عليه: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد عفوت عنكم» وهكذا أعفا النبي عن هذا الصحابي الذي شهد بدرا، ثم تنزلت آيات الله فى مواجهة هذه الحادثة، فكان منها هذا الدرس الخالد للمسلمين، يقيم لهم دستورا حكيما، يحرس إيمانهم من أن تفسده مشاعر المودة بينهم وبين أعداء الله وأعداء المؤمنين بالله.
الآيات: (4- 9) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)(14/896)
التفسير:
قوله تعالى:
«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ..
الأسوة: القدوة، وهى من التأسىّ بمن هو فى مقام الفضل والإحسان، فى الأمر الذي يتأسى به فيه.. وقد غلب على الأسوة أن تكون فى الأمور الحسنة، وفى وصفها بالحسنة هنا، تأكيد لتلك الصفة الغالبة عليها، فقد يتأسّى المرء بما هو غير حسن، وهو فى ظنه أنه حسن..
وفى تأسّى المؤمنين بإبراهيم عليه السلام، وبالمؤمنين معه وهم الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، الذين جاءوا بعد إبراهيم- وسمّوا هؤلاء مع إبراهيم، لأنهم كانوا جميعا على دين الله الذي آمن به، كما كان معظم الأنبياء من ذريته- وفى أخذهم الموقف الذي وقفه إبراهيم ومن معه من الأنبياء والمؤمنين- من قومهم، إذ تبرءوا من أقوامهم، ومما يعبدون من دون الله، وكفروا بهم وبمعبوداتهم وأظهروا لهم العداوة، وجاهروهم بها، وأنها عداوة دائمة حتى يؤمن هؤلاء الكافرون بالله وحده لا شريك له، فإن آمنوا انقطعت هذه العداوة، وقام مقامها الحب الذي بين المؤمنين والمؤمنين- فى هذا التأسّى توجيه للمؤمنين إلى ما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم.
فهذا هو الإيمان، الذي يخلى قلب المؤمن من كل مشاعر الودّ والمحبة(14/897)
لمن حادّ الله وكفر به.. «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (22: المجادلة) ..
وقوله تعالى: «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» - هو استثناء من التأسّى بإبراهيم عليه السلام، فى هذا الموقف الذي وقفه من أبيه، والذي كان موضع عتاب من الله سبحانه وتعالى لخليله إبراهيم عليه السلام.. ومع هذا، فقد كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه، إذ قال لأبيه: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» (47: مريم) .. وقد كان إبراهيم بهذا الاستغفار يطمع فى أن يهدى الله أباه إلى الإيمان، ولكن أباه كان عند الله من الكافرين..
فلما تبين لإبراهيم هذا من أبيه، تبرأ منه كما تبرأ من قومه الكافرين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (114: التوبة) ..
وقوله تعالى: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» هو حال من فاعل مقول القول: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» .. أي والحال أنى لا أملك لك من الله من شىء.
وقوله تعالى: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ..
هو من قول إبراهيم والذين معه، فى مواجهة أقوامهم، إذ قالوا لهم:
«إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» ويكون قوله تعالى:(14/898)
«إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» - كلام معترض، خاص بمقولة إبراهيم لأبيه، والتي لم يشاركه فيها الذين آمنوا معه..
قوله تعالى:
«رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
هو من مقول قول إبراهيم والذين معه.. وهو دعاء يتجهون به إلى الله سبحانه وتعالى ألا يجعلهم فتنة للذين كفروا بمعنى ألا يغرى بهم الذين كفروا، فتشتد عداوتهم لله، وتغلظ فتنتهم، وضلالهم، بسبب العناد الذي يحملهم على ألا ينظروا إلى ما فى أيدى المؤمنين من هدى وإيمان..
وبهذا يشتد غضب الله عليهم، وتنزل نقمته بهم، وكأنّ المؤمنين بهذا هم الذين ساقوهم إلى هذا الكفر الغليظ، وهذا من شأنه أن يدخل فى شعور المؤمنين بأنهم بإيمانهم قد حملوا الكافرين على أخذ طريق غير طريق المؤمنين.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان قوم نوح: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (111: الشعراء) ويقول سبحانه على لسانهم أيضا:
«فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» (27: هود) .. ويقول سبحانه على لسان المشركين الذين كذبوا رسول الله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» (11: الأحقاف) .
واليهود، كانوا قبل مبعث النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ينتظرون بعثته، فلما سبقهم الأنصار إلى الإيمان به، حملهم الحسد على أن يكذّبوا برسول الله، بل ويكيدوا له، ويؤلبوا المشركين على حربه..(14/899)
وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) ويجوز أن يكون المعنى على طلب المؤمنين الحماية من الله سبحانه وتعالى لهم، من أن يفتنوا فى دينهم، بما يرميهم به الذين كفروا من مكاره، وما يسوقون إليهم من أذّى..
ويجوز كذلك أن يكون المعنى متضمنا الوجهين معا، وهو ألا يكون المؤمنون فتنة للكافرين، وألا يكون الكافرون فتنة للمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20: الفرقان) وفى قوله تعالى: «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى قدرة الله وعزّته التي يعزّ بها المؤمنين، ويحميهم من أذى الكافرين، حتى لا يفتنوا فى دينهم.. وعزّة الله عزّة قائمة على الحكمة، فكل ما يصدر عن قوة الله، وعزته، هو عن حكمة محكمة، لا عن هوّى، وتسلط، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
قوله تعالى:
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» هو توكيد للدعوة التي دعى إليها المؤمنون ليتأسّوا بإبراهيم والذين معه، بعد أن تبين لهم موقف إبراهيم، ومن معه، من أقوامهم.. فقد دعى المؤمنون أولا إلى التأسى بإبراهيم ومن معه قبل أن يعرفوا الوجه الذي يتأسّون به منهم، فلما تبيّن لهم هذا الوجه، وهو موقفهم المجانب لقومهم، المتبرئ منهم ومن كفرهم- حسن أن يدعى المؤمنون بعد هذا دعوة مجدّدة إلى ما دعوا إليه أولا، حيث عرفوا موضع الأسوة فى إبراهيم ومن معه.. ولهذا جاءت الدعوة(14/900)
الثانية مؤكّدة بمؤكدين.. اللام، وقد.. «لَقَدْ» : على حين جاءت الدعوة لأولى مؤكدة بمؤكد واحد: «قد» ..
والجملة الخبرية هنا، وهناك، مراد بها الطلب، أي الأمر بالتأسى، لا مجرد الخبر.. أي تأسّوا أيها المؤمنون بإبراهيم والذين معه، وقفوا من قومكم موقفهم من أقوامهم.. فذلك التأسى هو شأن من كان يرجو الله واليوم الآخر، حيث يكون ولاؤه لله وللمؤمنين، ذلك الولاء الذي يقضى بأن يقطع كلّ ولاء مع المشركين والكافرين، ولو كانوا آباء، أو أبناء..
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» أي ومن يعرض عن موالاة الله والمؤمنين، ويؤثر موالاة أهله، وعشيرته من المشركين- «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» - الذي لا ينفعه ولاء من والاه، ولا يضره عداوة من عاداه..
إنه سبحانه هو الغنى غنى مطلقا عن كل ما فى هذا الوجود، لأنه موجود بكمالاته كلها قبل أن يوجد هذا الوجود.. وهو سبحانه «الحميد» الذي يحمد لعباده المؤمنين إقبالهم عليه، وموالاتهم له، وإن كان فى غنى عن هذا الإيمان، وهذا الولاء.. فذلك الحمد، هو فضل، وإحسان منه، إلى عباده المؤمنين المحسنين..
قوله تعالى:
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فى الآية الكريمة عزاء للمؤمنين عن هذه القطيعة التي تقع بينهم وبين ذوى قراباتهم وأصدقائهم من المشركين، وإنه لكيلا تبلغ هذه القطيعة مداها، وتأخذ مكانا متمكنا فى النفوس، وتنبت فى صحرائها أشواك الضغينة والحقد التي لا يمكن اقتلاعها.. جاءت الآية الكريمة، لتقيم المسلمين على قطيعة موقوتة مع أهليهم، وعلى جفاء يرتقب له اليوم الذي ينتهى فيه، وذلك أن كثيرا(14/901)
من هؤلاء المشركين لم يقع اليأس بعد من دخولهم فى الإسلام، وأن كثيرا منهم سيدخل فى دين الله، ويجاهد مع المجاهدين فى سبيل الله.. ويومئذ يلتقى الأهل جميعا على الأخوة فى الله، كما التقوا من قبل على الأخوة فى القرابة والنسب..
وقوله تعالى: «عسى» الذي يدل على الرجاء، هو منظور فيه إلى المؤمنين، وما ينبغى أن يساق إلى قلوبهم من مشاعر الرجاء والأمل، حيث يقيمهم هذا الشعور من أهلهم المشركين، فى مقام بين اليأس والرجاء، فى أن تجمعهم يوما جامعة تؤلف بينهم.. وبهذا الشعور يقتصد المبالغون فى العداوة لأهليهم، كما يقتصد المتراخون فى قطع حبال الود معهم.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ قَدِيرٌ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة على أن يفتح قلوب هؤلاء المشركين للإيمان، وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من العداوة القائمة بين المؤمنين وهؤلاء المشركين، رحمة ومودة..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند الله سبحانه من مغفرة ورحمة لمن جاوز الحدّ فى العداوة، أو غلبته حال من الولاء لأهله، فإن أبواب المغفرة والرحمة مفتحة لكل من يتجه إلى الله طالبا مغفرته ورحمته..
كما أن مغفرة الله ورحمته تنال هؤلاء المشركين، إذا هم دخلوا فى دين الله، وعندئذ يغفر لهم ما كان منهم من أذى وضرّ للنبى والمؤمنين، ويلحقهم بركب المؤمنين الذين سبقوهم إلى الإيمان..
قوله تعالى:
«لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» القسط: العدل، والقسطاس: الميزان الذي يوزن به..(14/902)
والمقسط: العادل، الذي يقيم ميزان العدل.. والقاسط: الظالم، الجائر.. يقال:
أقسط، أي عدل، وقسط: أي جار وظلم..
والآية الكريمة تدعو إلى هذا المبدأ العام الذي قامت عليه الشريعة السمحاء، من الإخاء الإنسانى، القائم على العدل والإحسان.. وأن هذه القطيعة التي فرضها الإسلام على المسلمين فيما بينهم وبين أهلهم من المشركين- إنما هى قطيعة لقوم قطعوا أرحام قومهم، وقاتلوهم، وأخرجوهم من ديارهم.. إنهم فى حال حرب، معهم لم تنته بعد، وأن المشركين ما زالوا ينتظرون الفرصة التي تمكنهم من المؤمنين.. وفى موالاة المؤمنين لهم توهين للمؤمنين، وتمكين للمشركين من مقاتلهم..
فإذا لم يكن من قوم عداوة بادية للمؤمنين، أو قتال لهم، أو مساندة لمن قاتلهم- فإن موقف المؤمنين من هؤلاء القوم، ينبغى أن يقوم على السماحة، وعلى العدل والإحسان.. «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» ..
وفى قوله تعالى: «وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» تضمين للفعل معنى الإحسان، بمعنى وتحسنوا إليهم، بالعدل الذي تقيمون ميزانه بينكم وبينهم.. هذا، ويرى كثير من المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية السيف.. وإنه لا معتبر لهذا الرأى الذي يعمّى ويشوش على سماحة هذه الشريعة، وإنسانيتها.. وممّن سفّه هذا الرأى الإمام الطبري فى تفسيره، فرضى الله عنه.
قوله تعالى:
«إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(14/903)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
أما هؤلاء الذين قاتلوا المؤمنين فى الدين، أي من أجل الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا، أي أعانوا على إخراجهم- أما هؤلاء، فهم الذين ينهى الله المؤمنين عن تولّيهم لهم، أي موالاتهم وبرّهم، والإحسان إليهم، ووصل حبال المودة بهم.
«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ» أي يقيم ولاء معهم، ويبقى على صلة بهم «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» أي الذين اعتدوا على حق الله، وظلموا أنفسهم بما حملوها من أوزار.
الآيات: (10- 13) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)(14/904)
التفسير «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
هذه الآية والآيات التي بعدها، تبيّن حكم ما يقع بين المسلمين والمشركين من أمور تتصل بتنفيذ صلح الحديبية الذي عقده النبي معهم.. فهذا الصلح قد قضى بأنه إذا جاء إلى المسلمين من أسلم من المشركين، ردّه المسلمون إليهم، ومن جاء إلى المشركين من عاد إلى الشرك لم يرده المشركون إليهم.. وقد قبل النبي هذا الشرط، لأن من دخل فى الإسلام، إنما دخل بعد ابتلاء وتمحيص، فهو حيث كان، فى حصانة من أن تغيره الأحوال والأحداث.. وأما من كان مؤمنا، ثم عاد إلى الكفر، فإن الإمساك به فى مجتمع المؤمنين بعد هذا، إنما هو تمسك بعضو فاسد فى جسد سليم..
وهذا الشرط خاص بالرجال دون النساء.
وقد كان من مقتضى هذا، أن تكون بين المؤمنين والمشركين شبه صلة فى حدود تنفيذ أحكام هذا الصلح، بعد أن دعا الإسلام المؤمنين إلى قطع كل ولاء بينهم وبين هؤلاء المشركين.
وفى هذه الآية الكريمة، بيان لحكم من جاء من مجتمع المشركين من النساء، مؤمنات مهاجرات.. فهذا الحكم يقضى بأن يمتحن المؤمنون هؤلاء المؤمنات فى إيمانهن، حتى يتبين لهم صدق إيمانهن، وأنهن إنما هاجرن فرارا بدينهن من أن(14/905)
يفتّن فيه، لا فرارا من زوج، ولا رغبة فى زواج، ولا طمعا فى مأرب من مآرب الحياة.. فإذا تبين أنهن على الإيمان.. كان على المؤمنين أن يؤو وهن إليهم، وأن يمسكوا بهن فى مجتمع المؤمنين، وألّا يرجعوهن إلى الكفار.. وذلك لأمرين:
أولهما. أن النساء لم يدخلن فى الشرط الذي اشترط فيه المشركون على المسلمين أن يردوا إليهم من أتاهم مؤمنا من المشركين.. فهذا شرط خاص بالرجال، دون النساء..
وثانيهما: أن النساء لا يصبرن طويلا على موقع الفتنة من المشركين، ولا يحتملن ما يحتمل الرجال من بلاء فى سبيل العقيدة التي يعتقدنها، إنهن أسرع تحولا، وأقل ثباتا وصبرا من الرجال، وإن كان فى بعض النساء ما لأقوى الرجال من عزيمة وثبات، إلا أن النساء فى مجموعهن دون الرجال فى هذا المقام..
وفى قوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» - إشارة إلى أن الامتحان الذي يمتحن به المؤمنون المؤمنات المهاجرات إليهن- هو امتحان لا يكشف إلا عن ظاهر الحال منهن.. أما ما فى القلوب وما تكنّ الصدور، فعلمه عند الله سبحانه وتعالى.. وأنه يكفى فى هذا الامتحان أن تشهد ظواهر الأحوال ما يدل على إيمان هؤلاء المؤمنات، أما ما فى القلوب فأمره إلى الله..
وقوله تعالى: «وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» أي وردّوا إلى الكفار أيها المؤمنون ما أنفقوا على هؤلاء المؤمنات من مهور.. بمعنى أن المؤمنة التي كانت متزوجة من مشرك ثم جاءت مهاجرة إلى المؤمنين، يجب على المؤمنين، بعد امتحان إيمانها أن يمسكوها عندهم، وأن يردّوا إلى زوجها المشرك، ما كان قد أمهرها إياه، فذلك المهر هو ما يمسك به زوجها المشرك منها، وقد فرق الإسلام بينها وبينه، فأصبحت بإسلامها محرمة عليه.(14/906)
وهذه الفرقة بين المؤمنة وزوجها المشرك، قد جاءت من جهة المرأة، وكأنها بهذا هى التي رغبت فى المفارقة، فكان عليها- والأمر كذلك- أن تردّ إليه ما أخذت منه من صداق..
روى أن جميلة امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أجد فى ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد فى طوقى مجاراته.. فسألها الرسول الكريم: هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها، إذا هو طلقها؟ فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها» فهذا أشبه بالفرقة الواقعة من المرأة، تخرج من عصمة زوجها المشرك، بدخولها فى دين الله..
وفرق واحد هنا، وهو أنها لا تحمل بدخولها فى دين الله غرما، فلا تردّ ما أمهرها به زوجها المشرك من مالها هى، بل يتحمل ذلك عنها المسلمون الذين هاجرت إليهم، وحلّت بينهم..
وقوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي أن هذه الفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها المشرك، تعتبر طلاقا بائنا، يحلّ للمسلم بعد هذا، زواجها، بعد انقضاء عدتها، وبعد إيتائها المهر المناسب لها..
وقوله تعالى: «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» العصم: جمع عصمة، وهى ما يعتصم به، وهى كناية عن رباط الزوجية، الذي يربط كلّا من الزوجين بصاحبه، ويعتصم به.
والكوافر: جمع الكافرة. وقد جمعت جمع تكسبر، ولم نجمع جمع المؤنث السالم «الكافرات» استخفافا بهن، وعزلا لهن عن مجتمع العقلاء،(14/907)
إذ قد اغتال الكفر الذي لبسهنّ، معلم الإنسانية فيهن.. وهذا من شأنه أن يهوّن على الأزواج المؤمنين فراق مثل هؤلاء الكوافر.
ولهذا جاء النهى للمؤمنين أن يمسكوا بما فى أيديهم من روابط الزوجية بينهم وبين نسائهم المشركات، بل إن عليهم أن يقطعوا حبل الزوجية معهن، كما يقول سبحانه: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» (221: البقرة) قوله تعالى: «وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» أي اطلبوا أيها المؤمنون من المشركين مهور نسائكم المشركات اللائي فرّق الإسلام بينكم وبينهن، كما يطلب منكم المشركون مهور نسائهم اللائي هاجرن إليكم مؤمنات، «ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» - هذا ما قضى به الله سبحانه من التفرقة بين المؤمنات المهاجرات وأزواجهن المشركين، وبين المؤمنين، وزوجاتهم المشركات، ومن ردّ ما أنفق المشركون على زوجاتهم المؤمنات، وما أنفق المؤمنون على زوجاتهم المشركات- هذا كله هو حكم الله يحكم به بينكم «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بما يقضى به، وبما فيه الخير لكم، «الحكيم» الذي يضع الأمور بحكمة فى أعدل موضع وأحكمه.
قوله تعالى:
«وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» أي وإن فاتكم أيها المؤمنون شىء من مهور أزواجكم الماثلات إلى الكفار، المنحازات إلى جبهتهن، بمعنى أنه إذا طلقتم أزواجكم المضافات إلى المشركين، ولم يردّ المشركون عليكم ما أنفقتم من مهورهن، ثم كانت منكم معاقبة للمشركين، ومقابلتهم بالمثل، فلم تردوا عليهم ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات إليكم- إذا كان ذلك، فآتوا- أيها المؤمنون- الذين ذهبت أزواجهم منكم(14/908)
بالطلاق من أجل شركهن- آتوهم مثل ما أنفقوا، أي مثل ما قدموا لهن من مهور..
وفى التعبير عن فرقة المشركات لأزواجهن المؤمنين بالذهاب فى قوله تعالى:
«ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ» - إشارة إلى أن هؤلاء الزوجات إنما هن شىء قد ضلّ، وذهب فى متاهات الحياة، فلا تأس عليه نفس، ولا يحزن له قلب.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» - هو تعقيب على هذه الأحكام، وأنها يحب أن تقوم عند المؤمن فى ظل من تقوى الله، حتى لا يقع فيها جور، أو انحراف عن ميزان العدل والإحسان..
وفى قوله تعالى: «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» - إلفات للمؤمنين إلى أنهم فى هذا المقام، إنما يقيمون أمورهم على ميزان الإيمان، الذي فرق بينهم وبين المشركين، وهم لهذا مطالبون بأن يحضروا إيمانهم هذا كلّ تصرف يكون بينهم وبين المشركين، من أخذ أو إعطاء..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هذا بيان لما يقوم عليه إيمان المؤمنات، سواء بايعن الرسول بيعة حضور، أو غيبة، بمعنى أن هذه البيعة هى بيعة الإسلام للنساء، وما يفترض عليهن من فرائض.. وذلك:
- «أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً» . أي يخلصن إيمانهن لله، ويخلين قلوبهن من كل معبود سواه..(14/909)
- «وَلا يَسْرِقْنَ..- «وَلا يَزْنِينَ..- «وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.. خشية الفقر- «وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ» والبهتان، هو الباطل، الفاسد من العمل، كالزور من الكلام.. والمراد به هنا، هو ولادة الأبناء منهن من غير آبائهن..
وفى تصوير المولود من غير أبيه، بأنه «بهتان» - تنفير من هذا المولود، وإثارة لمشاعر الخوف منه، والكراهية له وفى وضع هذا «البهتان» بين يدى المرأة ورجليها- إزعاج لها، وإقلاق لمشاعرها أن تسكن إلى هذه الجريمة البشعة التي تعيش معها، كما يعيش القتيل بين يدى قاتله..
وما بين يدى المرأة ورجليها، هو بطنها الذي يحمل هذا البهتان، ويعيش فيه تسعة أشهر ملتصقا بالمرأة، هاتفا بها فى كل لحظة، إنى هنا! إن ذلك- إذا علمت المرأة المؤمنة أنه بهتان- لا يدع لها لحظة من الاستقرار والسكون، فى يقظة أو منام، الأمر الذي يدعوها إلى التفكير الطويل قبل أن تضم فى كيانها هذا البهتان! وأن تنسبه كذبا وافتراء إلى فراش الزوجية.
وقوله تعالى: «وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» - المعروف ما يقوم عليه إيمان المؤمن- ذكرا، أو أنثى- فيما قدر عليه، ووسعته نفسه.. من طاعة الرسول، وامتثال أمره، واجتناب نهيه..
والعصيان يقع على الأمر والنهى معا..
فعصيان الأمر عدم امتثاله.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان موسى(14/910)
لأخيه هرون: «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» (93: طه) وعصيان النهى إتيان المنهىّ عنه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» ..
وعصيان آدم، هو أكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها فى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» (19: الأعراف) وفى قوله تعالى: «فِي مَعْرُوفٍ» وفى تقييد عدم العصيان بما هو معروف- إشارة إلى أن العصيان لا يكون عصيانا إلا فيما عرف لهنّ من أمر أو نهى، وهذا يعنى أن غير المعروف لهن من أحكام الشريعة، من أوامر ونواه، هو معفوّ عنه، وهذا يعنى أن على الرسول أن يبلغ رسالة ربه كاملة إليهن.
وقوله تعالى: «فَبايِعْهُنَّ» أي اقبل إيمانهن، واعتبرهن فى جماعة المؤمنين، لهن ما للمؤمنين، وعليهن ما عليهم..
وقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي ادع الله لهن بالمغفرة لما سلف منهن من ذنوب قبل الإسلام.. من شرك، أو سرقة، أو زنى، أو إتيان ببهتان افترينه بين أيديهن وأرجلهن.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي واسع الرحمة والمغفرة، فيغفر لهن ذنوبهن جميعا التي كانت منهن قبل الإسلام، مهما عظمت أو كثرت.. وبهذه المغفرة العامة الشاملة يدخلن الإسلام طاهرات من كل ذنب، مبرات من كل إثم، وبهذا العفو العام يبدأن صفحة جديدة نقية، مع الحياة الجديدة التي ولدن بها فى الإسلام.. وهذا من شأنه أن يقوّى من عزائمهن على الاحتفاظ بنقاء هذه الصفحة وصفائها.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ»(14/911)
الذين غضب الله عليهم، هم اليهود، وإنه حيث ذكر غضب الله فى القرآن على قوم، أو جماعة- فالمقصود به اليهود والتولي: من الولاء، والمولاة..
وبهذه الآية الكريمة تختم السورة، وبهذا الختام يلتقى ختامها مع بدئها حيث بدئت بنهي المؤمنين عن موالاة أعداء المؤمنين من الكفار والمشركين..
ثم كان ختامها دعوة من الله إلى مجانبة الذين غصب الله عليهم، وهم اليهود..
وبهذا لا يكون للمؤمنين ولاء مع جميع أهل العداوة لله وللمؤمنين.
وفى قوله تعالى: «قوما» بالتنكير، إشارة إلى ازدراء هؤلاء القوم، وهوانهم، وأنهم- حيث كانوا- هم فى صغار وذلة وهوان..
وحسبهم صغارا وذلة وهوانا، أن يصحبهم غضب الله فى كل زمان ومكان..
ثم إن فى هذا التنكير دلالة على أن وصف القوم بغضب الله عليهم، يكشف عن وجه هؤلاء القوم، ويقوم شاهدا عليهم، إذ ليس هناك من وقعت عليه لعنة الله غيرهم.. فالصفة قرينة دالة على الموصوف، إذ كانت مقصورة عليه..
قوله تعالى:
«قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» - إشارة إلى موقف اليهود من الحياة الآخرة، وأنهم فى شكّ منها وفى يأس من لقائها، فهم- مع إيمانهم بالله- على عقيدة بأن لا بعث بعد الموت، وأن الناس إنما يوفّون جزاءهم فى هذه الحياة الدنيا.. ولهذا فإنهم يستنفدون كلّ جهدهم فى العمل لما يبنى حياتهم الدنيوية، دون أن تكون منهم لفتة إلى ماوراء هذه الحياة..(14/912)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» .. (32: الجاثية) .. هذا هو المعتقد الغالب على اليهود، فيما يتصل بالبعث، وبالحياة الآخرة، وإن كانت شريعتهم التي جاءهم بها موسى، تدعو إلى الإيمان بالحياة الآخرة، وإلى العمل لها، ولكن القوم يتأولون نصوص الشريعة، ويلوونها مع أهوائهم، حتى كانت الحياة الآخرة عندهم أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.
وقوله تعالى: «يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ» بدلا من أن يقال كفروا بالآخرة، أو كذبوا بها، للإشارة إلى ما عندهم من علم بالآخرة، وبما يكون فيها من حساب وجزاء، وأنه علم نظرىّ، ميئوس من وقوع المعلوم منه، وتحققه.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، فى تصوير هذا المفهوم الذي يقوم عند اليهود للبعث وللحياة الآخرة.. إنه انتظار لغائب لا يرجى له إياب، فوقع اليأس من لقائه..
وفى قوله تعالى: «كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» أي أن يأس اليهود من لقاء الآخرة، هو أشبه بيأس الكفار من أن يلتقوا يوما بموتاهم الذين أودعوهم القبور..
فاليهود ينظرون إلى الآخرة، نظرة الكفار إلى الأموات فى القبور..
إن كلّا منهم ينظر إلى شىء.. ولكن هذا الشيء- فى زعمهم- لن يلتقوا به أبدا.. الآخرة فى زعم اليهود، والأموات فى زعم الكفار.. وكلا الزعمين باطل، فاليهود سيلتقون بالآخرة، وإن كرهوا، والكفار سيلتقون بموتاهم وإن يئسوا..(14/913)
61: سورة الصّفّ
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: أربع عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وإحدى وعشرون كلمة.
عدد حروفها: تسعمائة حرف.
مناسبتها لما قبلها
كانت السورة السابقة «الممتحنة» حديثا متصلا إلى المؤمنين، وما ينبغى أن يكون عليه موقفهم من المشركين، والذين يكيدون للإسلام والمسلمين، وأن هذا الموقف يقتضيهم أن يقطعوا ما بينهم وبين هؤلاء وهؤلاء من صلات القربى والمودة، وأن يجعلوا ولاءهم خالصا لدين الله والمؤمنين بالله- وهذه حال من شأنها أن تكشف عن ضعف بعض النفوس التي لا تحتمل هذه التجربة، ولا تصبر على هذا الامتحان، وهنا تكثر الأقوال التي يدّعى أصحابها دعاوى تحدّث عن موقفهم من المشركين، والمنافقين، على حين أن حالة أفعالهم أو ما فى قلوبهم، تخالف هذه الأقوال.. فكان أن بدأت سورة (الصف) بالتسبيح بحمد الله الذي هدى المؤمنين إلى الإيمان، ثم ببيان المنهج الذي ينهجه المؤمنون، كى يبقى هذا الإيمان سليما قوبا فى صدورهم..
وأساس هذا المنهج هو الأفعال لا الأقوال.. الأفعال التي تصدر عن قلب مؤمن، وعن مشاعر مستجيبة لهذا الإيمان، لا الأقوال التي لا يصدّقها العمل، ولا يزكيها الإيمان.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» ..
وهكذا تبدأ سورة «الصفّ» فتتصل هذا الاتصال الوثيق بسورة «الممتحنة» قبلها.(14/914)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 6) [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
هو خبر يراد به تمجيد الله وتعظيمه، لذاته سبحانه وتعالى.. فهو- سبحانه- ممجد ومعظم، وإن لم يستجب المشركون والكافرون للإيمان به.
ولتمجيده وتعظيمه..(14/915)
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» .
هو إنكار من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يلبسوا ثوب الإيمان ظاهرا، ثم يكون هذا الظاهر على خلاف مع الباطن.. أو أن تقول ألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.. فهذا وجه من وجوه النفاق.. لا يليق بالمؤمن أن يلمّ به، أو يدخل على إيمانه شىء منه..
فالأقوال التي لا يصدّقها العمل، لا تخلو من أحد وصفين: إما أن تكون لغوا من القول.. وهذا مما ينبغى للمؤمن أن ينزه نفسه عنه.. فإن الكلمة على لسان المؤمن يجب أن تكون عقدا بين المؤمن ونفسه، لا تبرأ ذمته حتى يفى بهذا العقد، ويحققه.. فإنه عن الكلمة تلقّى المؤمن رسالة السماء، وعرف شريعة الله.. فليكن الكلمة عنده- سواء نطق بها هو، أو استمع إليها- حساب وتقدير.. وإما أن تكون الكلمة التي ينطق بها اللسان، ولا يصدقها العمل، كلمة كاذبة أو منافقة.. ولا يجتمع الإيمان مع النفاق.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» تعقيبا على هذا الإنكار، وتجريحا لهذا القول الذي لا يصدّقه العمل، وأنه قول ممقوت عند الله، يبغضه، ويبغض أهله..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنها تبين الصورة الكريمة التي ينبغى(14/916)
أن يكون عليها إيمان المؤمن، بعد أن كشفت الآيتان السائقتان عن الصورة المهزوزة، المنكرة، التي تكون للمؤمن حين يقول، ولا يفعل ما يقول..
ولما كان الجهاد فى سبيل الله أعظم الأفعال، وأكرمها، وأصدقها، حيث موقف المجاهد، وثباته فى ميدان القتال، والتحامه فى صفوف المجاهدين، وجعل كيانه بعضا من كيانهم، وحيث يكون هذا الموقف دليلا عمليا قاطعا على صدق الإيمان ووثاقته- لمّا كان هذا شأن الجهاد، فقد جعله الله سبحانه وتعالى هو المحكّ الذي يظهر عليه إيمان المؤمن، والشهادة التي تشهد له عند الله وعند الناس أن فعله يصدّق قوله على أتم صورة وأكملها..
وعلى هذا، فإن من أراد أن يكون مؤمنا حقّا، وأن يبرىء نفسه من الكذب والنفاق- عليه أن يشهد مواقف القتال، وأن يأخذ مكانه فى صف المجاهدين، وأن يعطى الجهاد حقه، وأن يقاتل حتى يكتب الله النصر للمومنين، أو يقتل وهو فى مواجهة العدو، لا موليا دبره، ولا محتميا بظهر غيره من المجاهدين.. فذلك هو الإيمان، بل هو أعلى درجات الإيمان وأكرمها، وأصدقها.. فأى قول يقوله المؤمن المجاهد بعد هذا، هو قادر على الوفاء به.. فإن من قدّم نفسه للاستشهاد فى سبيل الله، لهو أقوى من أن يضعف عن الوفاء بكلمة يقولها..
وقوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» فى هذه الآية عزاء للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- عما يرى فى بعض المؤمنين من ضعف إيمان، أو انحراف عن غير الطريق القويم، أو انحياز إلى المشركين، أو ممالأة للكافرين.. فهذا كله مما يمكن أن يقع فى الإنسانية، حيث(14/917)
لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات البشرية من هذا الضعف الإنسانى، وحيث لم تسلم دعوة من دعوات الرسل من أن يقع فى محيطها مثل ما يرى النبي فى محيط دعوته، من منافقين، ومنحرفين..
فهذا موسى- عليه السلام- قد لقى من قومه اليهود، الذين يرى النبي أبناءهم يكيدون له، ويكيدون لدعوته- قد لقى منهم نبيهم موسى ألوانا من الكيد، وصنوفا من الأذى.. وإذن فليوطن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- نفسه على أنه سيستقبل صورا من الأذى الذي لا ينقطع أبدا، ما دام قائما فى مواجهة الناس بتلك الدعوة، سواء فى هذا ما يكون من المشركين والكافرين والمنافقين، أو من المؤمنين الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان.. فتلك هى الحياة، وهؤلاء هم الناس..!!
والأذى الذي لقيه موسى من قومه، هو ما كان يأتيه منهم من مكر بآيات الله، وشرود عن الطريق الذي أقامهم عليه.. فقد كانوا أبدا فى لجاج وعناد، وفى تحدّ وتكذيب لآيات الله التي بين أيديهم..
وفى القرآن الكريم مواقف كثيرة لإعنات اليهود لموسى، وشرودهم، وجماحهم عن طريق الهدى..
لقد أنجاهم الله على يد موسى من فرعون، ومما كان يسومهم، من سوء العذاب، وبين أيديهم، وأمام أعينهم ضرب موسى البحر بعصاه، فأقام من هذه الضربة طريقا فى البحر يبسا، سلكوه، وعبروا به الجانب الآخر من البحر، على حين أنه أطبق على فرعون وجنوده حين اتخذوا هذا الطريق مركبا فكانوا من المغرقين..
ومع هذه المعجزة القاهرة، فإن بنى إسرائيل ما كادت تستقر أقدامهم فى(14/918)
المكان الجديد، حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى، اجعل لنا إلها كما لهم آلهة..
وفى مكانهم الجديد ينزل الله عليهم المنّ والسلوى، ثم لا تلبث طباعهم النكدة أن تنفر من هذا الطعام، كما نفرت قلوبهم المظلمة من الإيمان بالإله الواحد، فقالوا لموسى: «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها» (61: البقرة) .. وإنهم وهم يطلبون ما يرضى طباعهم الخبيثة، لا يقولون لموسى: ادع لنا ربنا، بل يقولون «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ» فكأنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم.!
ويذهب موسى لميقات ربه، ثم يعود إليهم، فيجدهم قد اتخذوا من حليّهم عجلا جعلوه إلها يعبدونه، كما يقول سبحانه: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا.. اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ..» (148: الأعراف) .
فهذه المواقف الضالة، المسرفة فى الضلال، هى التي كانت تؤذى موسى، ونزعجه، إذ كانت تهدم كل بناء يقيمه، وتفسد كل طريق يصلحه.
وفى قوله تعالى: «وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» أي لم تؤذوننى بهذا الخلاف علىّ، والخروج عن السبيل الذي أقيمكم عليه، وأنتم تعلمون أنى رسول الله إليكم، بما أقمت أمام أعينكم من آيات ومعجزات، هى شهادة قائمة بأنّى رسول من عند الله.؟
فالواو هنا، واو الحال، و (قد) حرف تحقيق، يفيد التوكيد، والجملة حالية، وقد جىء بالفعل المضارع بدل الماضي، للدلالة على أن هذا العلم قائم بينهم، وأن الآيات والمعجزات لا تزال تتنزل عليهم، وفى هذا ما يشير إلى ما فى طبائع القوم من عناد وجماح عن الانقياد للحق، والاستقامة على طريق الهدى.(14/919)
وقوله تعالى: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» أي فلما انحرفوا، ومالوا عن طريق الحق، أمال الله قلوبهم نحو هذا الضلال، وأغرقهم فيه، لأنهم فسقوا «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» الذين يلبسون ثوب الحق ثم ينزعونه عنهم، ويخرجون منه.. فقد هداهم الله إلى الحق، ثم خرجوا من هذا الهدى، وآثروا الظلام والضلال.. فهم بهذا يخالفون الله عن عمد، وعن علم.. ومن كان هذا شأنه، فهو على عداوة متحدية لله، والله لا يهدى من يعاديه..
وفى ذكر كلمة القوم فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» بدلا من أن يقال «والله لا يهدى الفاسقين» - فى هذا إشارة إلى أن المراد بهذا، هم قوم مخصوصون، وهم هؤلاء القوم، أي اليهود..
قوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
نسب السيد المسيح إلى أمه، لأنه هو النسب الذي له فى الناس، إذ لا أب له من بنى الإنسان، وإنما هو نفحة من روح الله..
ونادى المسيح بنى إسرائيل بقوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ» ولم يقل يا قوم كما هو حديث الأنبياء إلى أقوامهم، لأنه- وإن ولد فيهم- ليس ابنا لرجل منهم..
واليهود لا ينسبون أحدا إليهم إلا إذا كان مولودا من أبوين يهوديين، أو من أب يهودى على الأقل..
ومع أن اليهود، كانوا ينسبون السيد المسيح- عليه السلام- نسبة غير شرعية- إلى يهودىّ منهم، هو يوسف النجار، وإنه بهذا لا مانع عندهم من أن ينسب(14/920)
السيد المسيح إليهم، إلا أنه عليه السلام، رفض هذا النسب المدّعى له، محتفظا بنسبه السماوي، الذي كرمه الله به، متحدّيا بهت اليهود، ضاريا فى وجوههم بهذا الافتراء الذي افتروه عليه، وعلى أمه البتول.. لأنه لا يقول غير الحق، ولا يقبل إلا ما هو حق! وفى قوله: «إنى رسول الله إليكم» - إشارة إلى أنه رسول الله إليهم خاصة، كما كان موسى- عليه السلام- رسولا من عند الله إليهم..
وقوله: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» .. أي مؤمنا بالتوراة التي بين يدىّ، والتي هى كتابكم الذي تؤمنون به.. فأنا لم أجئكم بما تنكرونه علىّ، بل جئتكم مجددا هذه الرسالة التي جاءكم بها موسى، لأفيمكم على تعاليمها.. فلم تنكرون ما أدعوكم إليه! وفى هذا يقول السيد المسيح فى الإنجيل: «ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأكّمل» أي لأقيم ما هدمتم من تلك الشريعة، وما نقضتم من ناموسها..
وقوله: «ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد» - هو إشارة إلى نبىّ يأتى من بعده اسمه أحمد، وهو رسول الله «محمد» صلى الله عليه وسلم..
وقد صدقت كلمة المسيح- عليه السلام- فما جاء بعده رسول- ولو على سبيل الادّعاء- حتى كانت رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» أي فلما جاءهم المسيح بالمعجزات التي وضعها الله سبحانه بين يديه، بهتوه، وكذبوه، واتهموه بالسحر والشعوذة، وتعقبوه بالأذى، وأخذوه بالبأساء والضراء، ولم يمسكوا عن مساءته حتى ساقوه إلى ساحة الاتهام، وحكموا عليه بالموت صلبا: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (157: النساء) .(14/921)
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وقد بشر به المسيح فى قوله تعالى: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .. بمعنى فلماء جاءهم النبي الذي بشرهم به المسيح، ومعه آيات الله البينات، كفروا به وقالوا هذا سحر مبين..
والذين كفروا هنا هم اليهود والنصارى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) ..
[المسيح.. وتبشيره بالنبي] جاء فى هذه السورة- سورة الحشر- قوله تعالى على لسان المسيح: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ.. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ.. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..»
هذا ما جاء به القرآن، على لسان المسيح، إلى بنى إسرائيل، مبشرا إياهم، برسول يأتى من بعده اسمه «أحمد» ، وهو اسم «محمد» رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كلا الاسمين مشتق من الحمد، فهو- صلوات الله وسلامه عليه، أحمد، ومحمود، ومحمد..
وإذا كانت الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم، قد خلت من هذه البشرى على وجه صريح، فإن ذلك لا ينقض ما جاء به القرآن الكريم، فى الآية السابقة، إذ القرآن، هو الحجة القائمة على ما سبقه من الكتب السماوية، لأنه آخرها، وضابط محكمها، والمهيمن عليها، كما يقول سبحانه(14/922)
وتعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) .
والإنجيل الذي يتحدث عنه القرآن، هو كتاب واحد، ولكنّ الذي فى أيدى الناس اليوم ليس إنجيلا واحدا، وإنما هو أربعة أناجيل، وقد كان فى وقت ما خمسة وسبعين إنجيلا، وقد وقع خلاف فيما بينها.. لأنها لا تعتمد على أصل واحد، ولا ترجع إلى الإنجيل الذي أنزل على المسيح عليه السلام، وإنما هى مرويات تتحدث عن السيد المسيح، وعن سيرته وأخباره، فيما يرويه عنه بعض حوارييه، أو من اتصل بحوارييه، وسمع منهم، وتتلمذ عليهم، وفى هذه السيرة عبارات من عظات السيد المسيح ووصاياه، وقد يكون فيها بعض آيات من الإنجيل السماوي، كان السيد المسيح يضمّنها عظاته ووصاياه..
وإذن فالأناجيل التي ذكرت سيرة السيد المسيح، تختلف فى تشخيص شخصية السيد المسيح، وفى تناول مواقفه، وفى نقل عباراته وكلماته، باختلاف الكتّاب الذين كتبوا هذه السيرة، ونفضوا عليها من عواطفهم ومشاعرهم، ومن ألوان ثقافاتهم ما جعل الأناجيل تختلف هذا الاختلاف، كما يختلف إنسان عن إنسان، فى تفكيره، وفى تصوره للأحداث.
وليس من همّنا هنا دراسة الأناجيل دراسة تاريخية، محققة، للإنجيل السماوي، أو الأناجيل التي جاءت محدّثة عنه..
وإنما الذي نقف عنده منها، هو أن القرآن الكريم قد ذكر آية صريحة تذكر على لسان السيد المسيح، تلك البشرى التي أعلنها فى بنى إسرائيل، مبشرا برسول يأتى من بعده اسمه «أحمد» .. ثم نبحث فى(14/923)
الأناجيل الأربعة فلا نجد هذه البشرى صريحة تلك الصراحة التي تقطع بأن نبيّا اسمه أحمد سيجيئ بعد المسيح! وإنما الذي جاء فى بعض الأناجيل التي اعتمدتها المسيحية- إشارات، يمكن أن تؤوّل إلى ما يفهم منه ظهور نبى عربى، يأتى من بعد المسيح موصوفا بصفات الحمد.. وهو كلمة «بار قليط» الذي وعد المسيح بأنه سيأتى من بعده..
وإنه لكى نفهم هذه الإشارة التي جاءت على لسان المسيح، كما رواها «يوحنا» فى إنجيله، ينبغى أن نقف وقفة قصيرة مع السيد المسيح، ومع الظروف التي ولد فيها، وما كان بينه وبين اليهود من مواقف..
فذلك من شأنه أن يحل لنا كثيرا من رموز هذه الكلمات التي رويت عن السيد المسيح، عليه السلام..
فى حياة المسيح- عليه السلام- أكثر من حدث أثار تضارب الآراء فيه، واختلاف الناس عليه..
(فأولا) ميلاده من عذراء..
كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعى، وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرءوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى للقول فيه، أو التقول عليه.
فاليهود- مثلا- لم يعترفوا بهذا الميلاد، ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم، ويوسف النجار.
وبهذا وضعوا المسيح وأمه فى هذا الموضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار!.(14/924)
(وثانيا) صلبه.. ووقوعه بهذا الصلب تحت حكم الناموس الذي يقضى بلعن كل من علق على خشبة! كما تقول التوراة.
(وثالثا) ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى الذي رآه الناس عليه والقضاء على شخصيته، وإفنائها..
فهذه ثلاث شبه، أوتهم، تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأى فيه، وتجعل منه شخصية أسطورية أكثر منها شخصية حقيقية..
والقرآن الكريم، هو وحده الذي تولّى «الدفاع» عن المسيح، وكشف الشّبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان، يأخذ مكان الذورة بين الناس! ..
يقول الله تعالى «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ» : (171: النساء) وبقول سبحانه: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» (59 الزخرف) .. ويقول جل شأنه:
«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.. كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (75: المائدة) .
إن الأخذ بما يقول القرآن فى المسيح، هو الذي يرفع هذه الشبه، التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب، والقلق النفسي، والروحي، والعقلي، عند أتباعه، إذ يرونه إنسانا فى شخص، إله، أو إلها فى جسد إنسان!.
كان المسيح قد تنبأ لهذا الخلاف، الذي يكون فى شأنه، ولهذه المقولات المنحرفة التي قيلت، أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه فى شرف مولده، وفى طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلحه من بشريته، ويخرجه من إنسانيته إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان فى ذات واحدة، وفى جسد واحد..(14/925)
كان المسيح قد تنبأ لهذا، وأشفق منه، بل وتألم له! ولكن الله طمأنه وأذهب مخاوفه، إذ أوحى إليه أن هناك من سيتولى الدفاع عنه، ودفع الشبهات التي ستدخل على الناس من أمره.. فى حال حياته، وبعد أن فارق الحياة..
يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل المعتمدة اليوم، على لسانه، مخاطبا تلاميذه، وحوارييه:
«لكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذك يبكّت العالم على خطّية، وعلى برّ، وعلى دينونه.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي.. وأما على برّ فإنى ذاهب إلى أبى، ولا تروننى أيضا.. وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد أدين! «إن لى أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء بروح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية.. ذاك يمجّدنى، لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، كل ما للأب هولى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى، ويخبركم.. بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى لأنى ذاهب إلى الآب» «1» يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص، سيجيئ بعده، إذا هو ترك مقامه فيهم، وفارق هذه الدنيا.
وصفات هذا الشخص كما يحددها السيد المسيح هى:
أولا: أنه المعزّى الذي يجىء مواسيا ومعزيا، فيما أصيب به المسيح فى شخصه
__________
(1) إنجيل يوحنا 16: 8- 16.(14/926)
وما رمى به من تهم.. وكلمة المعزّى، هى إحدى المعاني التي فسرت بها كلمة «بارقليت» اليونانية، والتي فسرت أيضا بمعنى المحامى، أو مستشار الدفاع.
ثانيا: أنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة:
ا- على خطية.. هى أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاء عليه.
ب- وعلى برّ.. وهو أنه ذاهب إلى الله، لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن الناس أنزلوه فى غير هذه المنزلة، حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين.
ح- وعلى دينونة.. وهى هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح.
وثالثا: أن المعزّى هذا، سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا، أيضا أن هذه الأشياء هى مما جدّ بعد المسيح من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها، وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل المحامى، الدفاع عنه، ودفع الشبه التي ألقيت عليه.
ورابعا: أن هذا المحامى لا يتكلم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هى التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية.
وخامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح.
وسادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى فى شأن المسيح ليس مديحا، تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس(14/927)
وإزالة ما علق بذاته من شبه وضلالات.
هذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح، فى أوصاف المحامى أو المعزى الذي سيجيئ بعده، ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه، على ما سنرى:
يقول صاحب المسيحية الأصلية:
«وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسى فى قصد الله- بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا، ليحلّ محله، بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه «المعزى» (باراكليت) وهى تسمية مشروعة، ومعناها المحامى، أو مستشار الدفاع.
«وبذلك يكون عمل (الروح القدس) هو الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع: «هو يشهد لى» (يوحنا 15: 26) ثم قال: «ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم» (يوحنا 16: 14) «1» .
ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو «روح القدس» لا محمد، ولا غيره من البشر..!!
وإذا علمنا أن معتقد المسيحية هو أن المسيح هو «الله» وأن «روح القدس» هو الله، بمعنى أن كلّا منهما هو فى أقنوم من أقانيمه الثلاثة- إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون «المعزّى» شخصا، وأن يكون هذا الشخص هو الله، ثم أن يكون المسيح- وهو الله- يرسل «روح القدس» وهو الله!!.
الله يذهب فى صورة المسيح «الابن» ويجىء فى صورة روح القدس!
__________
(1) المسيحة الأصلية ص 27- 28(14/928)
ثم من جهة أخرى.. ما معنى أن المحامى- إذا كان هو «روح القدس» ، الذي هو الله ذاته- ما معنى أنه لا يتكلم من عند نفسه.. «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم؟» أروح القدس، أو الله، ينتظر من يلقّنه ما يقول، وبأذن له به.. فيتكلم بما يكون قد سمع؟
وهذا من حيث الشكل- كما يقال فى لغة القضاء- أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد:
(أولا) : أن «روح القدس» الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى- لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح، ولا من غيرهم.
(وثانيا) أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع- لم يعرف له أحد موقعا، ولم يكن له قول مأثور فى شأن المسيح، وفى تمجيده..
فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله، وأقواله، التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا فى القرآن الكريم، ووقفنا عند ما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه فى شخصه، وفى شخص أمّه، من ضرّ وأذى! جاءت- بعثة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه- وقد مضى على الدعوة المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة فى الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه فى عقول الناس وقلوبهم.. من أولياء الدعوة وأعدائها على السوء.. إذ قد استنفد أعداؤها كلّ ما لديهم من مقولات يقولونها فى المسيح ودعوته، كما استنفد أولياؤها كلّ ما عندهم من مقولات، فى تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها.. ومن هذا الشد والجذب،(14/929)
والهجوم والدفاع، تشكّلت للمسيح «قضية» من أشد ما عرف الناس من قضايا، غموضا وتعقيدا.. والمسيح هو «الضحية» التي تنوشها رميات المتنازعين فيه، والمختلفين عليه.. من أعدائه، وأوليائه جميعا! ..
وهنا تبرز الحكمة فى الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول فى هذه القضية، شيئا.. لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمّة شك فى أن هذا المحامى، أو مستشار الدفاع أو المعزّى، هو «محمد» عليه الصلاة والسلام.
فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح:
(أولا) : هو المحامى، الذي كان له دور معروف فى قضية المسيح، وكان بمشهد، أو بمسمع من الناس جميعا..
(وثانيا) هو الذي دافع فى هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح، وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا لهما، وعزاء مما أصابهما من رميات وطعنات.
(وثالثا) : لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه.. «لأنه لا يتكلم من عند نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به» ..
(ورابعا) أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه، لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به، وبلّغه للناس، كما أمره ربه بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ(14/930)
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ»
.. وفى هذا يقول السيد المسيح: «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم» .
لقد كان «محمد» بما تلقّى من كلمات الله، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما فى العالمين، وكان فى ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة، لما أصابهما من بلاء عظيم.!
وننظر فى كلمات المسيح مرة أخرى..
ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات:
1- «إن فى انطلاقى لخيرا لكم» .. فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان «المحامى» الذي يتولى الدفاع عن قضيته، وبعرضه لهم فى المعرض الذي يجلّى حقيقته، ويكشف عن شخصه الكريم.
2- «فإنى أرسله إليكم» .. وهذه المقولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر، هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث، هو الإله المتصرف فى هذا الوجود.
وهى مقولة إن حملت على ظاهرها هذا، كانت إقرارا من الله- الذي هو المسيح- بالعجز عن الدفاع عن نفسه، فيقيم محاميا يتولّى الدفاع عنه!! وعلى هذا، فإن هذه المقولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو الله! وإما أن تحمل على غير ظاهرها، ويكون قول المسيح: «إنى أرسله إليكم» محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع فى قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه- فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيىء للمحامى سبيلا إلى الظهور.. وبهذا يمكن(14/931)
القول بأن المسيح هو الذي أرسله، بمعنى أنه كان سببا من أسباب إرساله! 3- فى قوله: «يخبركم بما يأتى» فيه إشارة إلى تلك المقولات التي ستقال فى المسيح بعد ذهابه، والتي ستشكّل منها تلك القضية التي تولّى القرآن الكريم الكشف عن وجه الحق فيها.
4- فى قوله: «يأخذ ممّا لى ويخبركم» إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح، ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّاله، أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشريته. كما نطق بذلك القرآن الكريم.
وإذا كان القرآن الكريم، قد قال على لسان المسيح: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» - نقول إذا كان القرآن قد قال هذا على لسان السيد المسيح، فإن هذا القول يوافق تماما ما سجلته الأناجيل عنه، من قوله الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقول فيه مخاطبا أتباعه: «إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إذا لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى» .. وكلمة «المعزّى» هى إحدى المعاني التي فسرت بها كلمة «باركليت» اليونانية، والتي فسّرت أيضا بمعنى: المحامى، أو مستشار الدفاع.
والقرآن يصرّح بأن المسيح بشّر فى الإنجيل باسم هذا الذي سيجيئ من بعده، لا بصفته، إذ يقول: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..»
وأحمد صفة من الحمد، يشتقّ منها محمد، ومحمود، وحامد، وحمّاد..
وقد أخذ الرسول الكريم أعدل صفات الحمد، وأقومها، وأجمعها للمحامد كلّها، فهو «محمد» أي هو موضع الحمد له، والثناء عليه، من كلّ حامد(14/932)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
للخير، ومن كل مثن على الحق والعدل والإحسان. وإنه- صلوات الله وسلامه عليه- ما استحق أن يكون «محمدا» حتى كان أحمد، وحامدا، وحمّادا، ومحمودا.. فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من أنبياء الله ورسله أجمعين..
الآيات: (7- 14) [سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 14]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)(14/933)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ..»
الاستفهام هنا، مراد به النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب..
إنه أظلم الظالمين، لأنه يفترى على الله، فى حال يدعى فيها إلى الإسلام، وتقوم بين يديه أمارات الحق، وشواهد الهدى، فيفترى الكذب، أي يختلقه اختلاقا، ثم يرمى بهذا الكذب المفترى فى وجه الحق، بلا حياء..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو تعقيب على هذه الجريمة التي يقترفها هؤلاء المجرمون، الذين يبهتون الحق، ويكابرون فى إنكاره..
إنهم أظلم الظالمين، لأنهم ضلّوا عن الحق لم يقبلوه، ثم إنهم إذ لم يقبلوا هذا الحق الذي دعوا إليه- رجموه بالزور والبهتان.. فهم ظالمون، ظالمون.. «والله لا يهدى القوم الظالمين» الذين تأبى طبائعهم أن تستجيب للهدى، وتسكن إليه..
والقوم الظالمون هنا، هم «اليهود» ، الذين رفضوا دعوة السيد المسيح، والذين لم يقفوا عند حدّ الرفض، بل بهتوه، وكذبوه.. وإنه كما دعا المسيح آباء هؤلاء اليهود إلى الإسلام الذي هو دين الله فكذبوه، وأنكروا عليه دعوته- كذلك فعل أبناؤهم هؤلاء، الذين دعاهم «محمد» - عليه السلام- إلى الإسلام، فافتروا الكذب، وأنكروا أنه رسول الله.. وكما ضلّ الآباء، كذلك ضل الأبناء..
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..(14/934)
قوله تعالى:
«يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .
نور الله، هو الحق الذي يحمله رسل الله، ويبشرون به فى الناس..
أي أن هؤلاء القوم الظالمين يريدون بافترائهم الكذب، وتعمدهم له- إطفاء نور الله، وهو القرآن الكريم، وما يدعو إليه..
واللام فى قوله تعالى: «ليطفئوا» هى لام العاقبة، أي يريدون الافتراء ويحملون أنفسهم عليه، ليطفئوا نور الله بأفواههم.. فافتراؤهم الكذب لغاية يريدونها، هى لإطفاء نور الله.. وعلى هذا المعنى جاء قول قيس بن الملوح (مجنون ليلى) :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لى ليلى بكل سبيل
أي أريد البعد عنها، والانفراد بنفسي فى الخلوات، لكى أنسى ذكرها، ولكن وجودها يصحبنى حيثما أكون..
وفى قوله تعالى: «بأفواههم» - إشارة إلى الكذب والافتراء الذي تتفوه به أفواههم، فكأن هذه الكلمات الآثمة التي تخرج من أفواههم- هى نفثات تخرج من صدور مغيظة محنقة، ينفخون بها فى هذا المصباح الهادي، ليطفئوا نوره..
قوله تعالى: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .. هو تعقيب على موقف هؤلاء المفترين من نور الله، ومن دينه الذي يدعو إليه رسول الله..
فهذا النور سوف يبسط سلطانه على الآفاق كلها، وسيبلغ به الله سبحانه وتعالى تمام كماله، وإن كره الكافرون هذا، وإن احترقت أكبادهم حسرة وكمدا، لما(14/935)
سيبلغه هذا الدّين من قوة وسلطان.. وتمام نور الله إنما يكون حين يطلع على آفاق الأرض جميعها، ويبسط سلطانه على كل صقع من أصقاعها. وهذا يعنى أن الإسلام سيكون يوما، هو دين الله على هذه الأرض.. فذلك هو تمام نور الله الذي وعد الله سبحانه وتعالى به.
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أرسل رسوله «محمدا» بالهدى، ودين الحق، ليظهر هذا الدين، ويعليه على الدين كله، وهو ما سبقه من أديان، ولو كره المشركون هذا الظهور لدين الله..
وفى هذه الآية وعد من الله سبحانه وتعالى بنصر هذا الدين، وبسط سلطانه على كل دين، لأنه الحق، الذي بلغ بالدين غاية كماله وتمامه.. إنه نور الله، والله متم نوره..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» .
هو نداء من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين استجابوا لله ولرسوله، ودانوا بهذا الدين، وهو دعوة لهم إلى تجارة تنجيهم من عذاب أليم فى الدنيا والآخرة..
قوله تعالى:
«تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .(14/936)
هو بيان لهذه التجارة التي دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين إليها، وأمرهم بالاتجار فيها.. وهى الإيمان بالله وبرسول الله، والجهاد فى سبيل الله بالأموال والأنفس..
ففى هذه التجارة الربح العظيم، والخير العميم، الذي يقع لأيدى المتجرين بها، لو كانوا يعلمون ما يكون لهم من ورائها، من خير..
ودعوة المؤمنين إلى الإيمان بالله ورسوله، هو دعوة إلى إيمان خالص من الريب، مبرأ من الشرك.. فليس كل من دخل فى الإيمان كان مؤمنا حقّا..
وسمّى هذا الإيمان، وهذا الجهاد، تجارة، لأن التجارة عطاء وأخذ، وأعيان تقدّم للبيع، وثمن يؤخذ فى مقابل هذه الأعيان.. والمؤمنون بالله ورسوله، يقدمون أموالا وأنفسا، ويأخذون فى مقابل ما يقدمون ما يجزيهم الله سبحانه وتعالى عليه، من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111: التوبة) ..
وقوله تعالى:
«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
هو جواب لشرط مقدّر دلّ عليه ما فى الآية السابقة من الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والجهاد فى سبيله.. أي إن استجبتم لهذه الدعوة التي دعيتم إليها- أيها المؤمنون- يغفر الله لكم ذنوبكم. ويسترها عليكم، فلا ترونها بعد أن محاها الله، وطهّركم منها بمغفرته، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار،(14/937)
وينزلكم فيها مساكن طيبة، تطيب لكم الحياة فيها، فلا تتحولون عنها أبدا.. وذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يعدله فوز، فيما عرفتم فى الحياة الدنيا..
قوله تعالى:
«وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» أي ولكم مع هذا الفوز العظيم بجنات النعيم فى الآخرة- رغيبة أخرى تحبونها، وتتطلعون إليها، تلك هى ما ستلقون من نصر من الله، ومن فتح قريب، بما يفتح الله لكم فى هذه الدنيا من فتوح، وما يمكّن لكم من نصر على أعدائكم.. وقد حقق الله للمؤمنين ما وعدهم به من نصر وفتح، فقد انتصروا على أعدائهم من المشركين وللكافرين، وفتحوا معاقل الشرك، ودانت لهم مواطن المشركين، فيما وقع لهؤلاء المؤمنين من فتح خيبر، ومن إجلاء اليهود من المدينة، ومن فتح مكة.. ثم ما تلا ذلك من فتوح لمملكتى الفرس والروم..
وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» .. هو أمر سماوى من الله سبحانه وتعالى للنبى الكريم أن يبشر المؤمنين بهذا الوعد الذي وعدهم الله إياه، وأن يكشف لهم عن مواقع هذا النصر والفتح القريب.. وقد بشّر النبي الكريم أصحابه بما سيلقاهم على طريق الإسلام من نصر وفتح.. وفى هذا ما يدخل الطمأنينة والرضاء على قلوب المؤمنين، ويمدّهم بأمداد السكينة والصبر على ما كانوا يعانون من شدة وضيق، وما كانوا يلقون من كيد وبلاء..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» .(14/938)
هو دعوة أخرى إلى المؤمنين أن يكونوا أنصار الله، بأن يخلصوا وجودهم كلّه لله.. والصورة المثلى لهذا الإيمان، هو إيمان الحواريين، الذين كانوا أول المؤمنين بالمسيح، وهم اثنا عشر حواريّا.. فقد سبقوا إلى الإيمان، واحتملوا الصدمة الأولى التي صدم بها اليهود دعوة المسيح.. ومطلوب من هؤلاء المؤمنين السابقين من أتباع محمد، أن يكونوا فى إيمانهم على هذا الإيمان، يحتملون فيه ما احتمل الحواريون من ألوان الكيد والمكر، ومن صنوف البلاء والشدة..
وأنصار الله، هم الذين ينصرون دين الله، ويبذلون أنفسهم وأموالهم فى سبيله..
وقوله تعالى: «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» .. أي أنه بهؤلاء الحواريين الذين قاموا لنصر دين الله، وبجهادهم فى سبيله- قد آمنت طائفة من بنى إسرائيل، وكفرت طائفة، كما كان الحال فى مبدأ الدعوة الإسلامية، حيث آمن بإيمان الذين سبقوا إلى الإيمان، وجاهدوا فى سبيل الله- آمن بعض المشركين، وكفر بعض..
ثم كانت الخاتمة أن اندحر الذين كفروا بالمسيح، وأصبحت للمؤمنين به الغلبة عليهم، إلى يوم القيامة، كما يقول الله تعالى: «يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (55: آل عمران) .. وهكذا ظل اليهود الذين كفروا بالمسيح تحت يد المؤمنين منذ المسيح إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم.. سواء منهم المؤمنون بالمسيح الذين آمنوا به إلى ظهور النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أو المؤمنون الذين آمنوا برسول الله، فهم مؤمنون كذلك بالمسيح.. وهكذا ينتصر الذين آمنوا برسول الله على الذين كفروا به، وتكون لهم اليد العليا عليهم أبد الدهر ... إلى يوم القيامة.(14/939)