يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
فإن هؤلاء المعبودين يلقون عابديهم يوم القيامة على عداوة لهم، وكفر بعبادتهم إياهم، وبراءة من تلك التهمة التي أرادوا أن يلصقوها بهم..
وقوله تعالى: «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إشارة إلى أن ما تحدّث به الآية من تلك الحقائق، هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، لأنه من عند الله، العليم الخبير.. وهذا ما يقضى بالتصديق بهذه الأخبار، والعمل بها، وأخذ العبرة منها، لأنها ممن يعلم الغيب فى السموات والأرض، وكلّ علم يخالف هذا العلم، باطل، وضلال..
الآيات: (15- 23) [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 23]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(11/865)
كشفت الآيات السابقة عن وجه الأرباب التي يتعبد لها المشركون، وأنها لا تسمع دعاء، ولو سمعت ما استجابت لداعيها، لأنها لا تملك شيئا..
- وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ» دعوة للناس أن يتجهوا بحاجاتهم إلى من يملك كل شىء، ومن بيده الخير كله.. والناس جميعا فى حاجة دائمة إلى من يعينهم، ويقضى حوائجهم، وهم يتوسلون إلى هذا بكثير من الوسائل، ومنها عبادة الأصنام، والملائكة والجنّ، والملوك وأصحاب الجاه والسلطان، يبغون بذلك الخير منهم.. وكلهم إنما يتناولون ما بين أيديهم من جاء، أو سلطان، أو مال- من عطاء الله.. إنهم فقراء إلى الله..
إن حبس عنهم العطاء، كانوا أفقر الفقراء، وأضعف الضعفاء.. وإذن فالناس جميعا- غنيّهم وفقيرهم- فقير إلى الله.. «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (20: الإسراء) وقوله تعالى: «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» حثّ للناس على الطلب من الله، والرغب إليه فيما عنده.. فإنه سبحانه غنىّ، لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بالعطاء أبدا.. «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» (32: النساء) فهو سبحانه يستجيب لمن سأله، ويعطيه ما شاء من فضله.. وهو سبحانه «حميد» أي يحمد لعباده ما يلقون به عطاءه، من حمد وشكر، أيّا كان هذا العطاء، قليلا أو كثيرا..
إنه فضل من فضل وإحسان من إحسانه.. وإن من لا يشكر على القليل لا يشكر على الكثير..
قوله تعالى:
«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي إن من فقركم إلى الله، أيها الناس، هو احتياجكم إليه فى حفظ حياتكم..(11/866)
فهو سبحانه الذي أوجدكم، وهو سبحانه الذي يحفظ عليكم وجودكم، كما يحفظ وجود الموجودات كلها: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» (41: فاطر) وفى الآيتين تهديد للناس، إذا هم لم يؤمنوا بالله، ويحمدوا له ما هم فيه من فضله وإحسانه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»
(56- 58 الذاريات) .. فإذا لم يؤدّ الناس واجب الشكر لله، ولم يقوموا على الوظيفة التي خلقهم الله لها، لم يكونوا أهلا ليشغلوا هذا المكان، وكان أولى أن يشغله غيرهم، ممن يعرف لهذا المكان قدره، ويؤدى المطلوب منه فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) «وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي ليس عسيرا على الله أن يستبدل خلقا بخلق، وعالما بعالم، وكيف وهو الخالق لكل شىء؟
قوله تعالى:
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ.. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» جاءت هذه الآية تعقيبا على الآيتين السابقتين اللتين حملتا تهديدا للناس بإفنائهم جميعا، إذا هم لم يوفوا حق الله عليهم، من إيمان به وشكر له..
وفى هذه الآية تفرقة بين الناس، الذين وضعتهم الآيتان السابقتان وضعا واحدا فى مقام التهديد..
فالناس، وإن كانوا مجتمعا واحدا، هم أشبه بالجسد الواحد، يتأثر، ويشقى(11/867)
بالأعضاء الضعيفة، أو الفاسدة فيه، إلا أنهم من جهة أخرى أفراد متميزون..
كلّ منهم له وجوده الذاتي، وحياته الخاصة به، وحسابه الذي يقوم عليه ميزانه فى مقام الخير والشر على السواء.. فإذا نظر إلى الإنسان من خلال المجتمع، كان عليه أن يكون عضوا صالحا فيه، ثم كان عليه أيضا أن يعمل على إصلاح ما يظهر من فساد فى مجتمعه.. ففى ذلك حماية له من عدوى الفساد، ومن ريحه الخبيثة، أن تفسد عليه حياته..
ثم إذا نظر إليه من خلال ذاته- صالحا كان أو فاسدا- كان التعامل معه فى مقام الحساب والجزاء على أساس شخصى.. فله إحسانه كله، وعليه إساءته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
- «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» والوزر: الإثم والذنب.
والوازرة. حاملة الوزر، والمراد بها ذات الإنسان..
والمعنى، أنه لا يحمل إنسان ذنب غيره، ولا يعينه فى حمله، وإن كان حمله خفيفا، وحمل غيره ثقيلا، ولو كان حامل هذا الحمل الثقيل قريبا، كأب، أو ابن، أو زوج، أو أخ لمن يدعوه إلى حمل بعض ما حمل.. كما يقول سبحانه بعد هذا:
- «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» هذا هو ميزان الحساب للناس.. لكل إنسان عند الله، جزاء ما عمل..
قوله تعالى:
- «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» أي إنما ينفع هذا البيان، وذلك النذير، من يخشى الله بالغيب، ويعرف(11/868)
جلاله وبأسه، من غير أن يراه، وإنما يرى آثاره ويشهد جلال قدرته، وعلمه، وحكمته فيما أبدع وصور فى هذا الوجود.. وهذه الخشية إنما تكون عن استعداد فطرى، يقبل التعامل مع العالم غير المحسوس، عالم الغيب.. فهناك كثير من الطبائع قد تأثرت بالعالم المادي، وتشكلت ملكاتها على قوالبه، فلا تقبل التعامل إلا مع الماديات.. أما ما وراء المادة فإنها ترفض التسليم به، وتأبى التعامل معه.
وفى قصر الإنذار على الذين يخشون ربهم بالغيب، مع أن الرسول نذير وبشير للناس جميعا- فى هذا إشارة إلى أن الذين ينتفعون بهذا النذير، هم الناس، وهم أهل للخطاب، وأما غيرهم، فلا حساب لهم ولا وزن فى هذا المقام..
- قوله تعالى: «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» معطوف على قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» وكان النظم يقضى بالتوافق فى وحدة الزمن بين الفعلين المتعاطفين، فيكونان مضارعين أو ماضيين،.. ولكن جاء الحديث عن الخشية بالفعل المضارع، الذي يحمل زمنا متجددا، على حين جاء الحديث عن إقامة الصلاة بالفعل الماضي، الذي يقطع الفعل عن المستقبل، وهذا لا يكون فى القرآن الكريم إلا عن حكمة، وتقدير..
والذي يبدو لنا من هذا- والله أعلم- أن الخشية لله بالغيب، لا تكون إلا عن طبيعة تتقبل التعامل بما وراء المادة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما الطبيعة التي تلبست بها المادة، وسيطرت عليها، فلا يكون منها نظر إلى ما وراء المادة، ولا تقع منها خشية لله، لأنها لا ترى الله، ولا تشهد جلاله، وسلطانه.. فالإنذار لا يفيد، ولا يؤثر، إلا إذا صادف طبيعة من شأنها أن تتقبل الإيمان بما وراء المادة، وعن هذه الطبيعة تصدر الخشية من الله، فى كل حال، وفى كل موقف يقفه صاحب هذه الطبيعة، فيشهد فى أي حال(11/869)
من أحواله، وفى كل موقف من مواقفه- جلال الله، وسلطان الله، فيخشاه ويتّقى حرماته، ولا يجد الجرأة على تعدّى حدوده..
ومن جهة أخرى، فإن هذه الطبيعة التي من شأنها أن تخشى الله بالغيب، وتتوقّى الوقوع فى الإثم- هذه الطبيعة لا يقيمها على الطريق القويم، ولا يجلو بصيرتها جلاء ترى على ضوئه ما لله- سبحانه- من كمال، وجلال، وسلطان- إلا الصلاة، وإقامتها على وجهها الصحيح.. فهى التي تعطى الخشية مضمونا ذا قيمة مؤثرة فى سلوك الإنسان، كما أن الخشية هى التي تعطى الصلاة قدرا وأثرا.. فالصلاة من غير خشية لا ثمرة لها، ولا خير منها.. والخشية التي لا تغذّيها الصلاة وتنميها، هى زرع حبس عنه الماء، فلا يلبث أن يذوى، ويذبل، ثم يجفّ ويموت فمن الخشية لله، أن تقام الصلاة، فمن لا يخشى الله لا يقيمها، ومن أقامها على غير خشية، فلا نفع له منها..
فخشية الله، هى أساس الإيمان، وملاك كل عمل يعمله المؤمن بالله..
فإذا خلا قلب الإنسان من خشية الله، لم يكن ثمة إيمان، ولم يكن ثمة عمل يقوم فى ظل هذا الإيمان..
وفى الحديث الشريف: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن» .. فالمراد بنفي الإيمان هنا، هو نفى الخشية من الله، عند ارتكاب هذه المنكرات.. فلو كان الإنسان المواجه لهذه المنكرات على خشية من الله ما أقدم على اقتراف واحدة منها..
فالخشية المطلوبة من المؤمن، خشية دائمة، متجددة.. ومن هنا كان التعبير عنها بفعل الاستمرار والتجدد..(11/870)
أما إقامة الصلاة.. فهى عمل من أعمال المؤمن، لا يقوم إلا فى ظل من خشية الله، ولا يثمر ثمرة طيبة إلا إذا كان عن فيض منها،. ومن هنا ارتبطت إقامة الصلاة بها، وكانت حالا من أحوالها، أو أحوال أهلها..
واختصت الصلاة بالذكر لأنها عمود الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» (11: يس) وقوله سبحانه: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .. (2- 3: البقرة) قوله تعالى:
«وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» ..
التزكى: التطهر، من الشرك، والكفر، ومن الآثام والمنكرات..
أي ومن تطهر من الشرك والكفر، وجنّب نفسه التلوث بأقذار الآثام والمنكرات، فإنما يتطهر لنفسه، حيث تظهر آثار ذلك عليه، وتكون عائدة هذا التطهر راجعة إليه، يوم يعرض على ربه نقيا، طاهرا، فيدخل فى رضوان الله مع الطيبين الطاهرين..
[الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة] قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ..
فى هذه الآيات عرض لما بين الأشياء ونقيضها من تفاوت بعيد، واختلاف شديد.. وأن الشيء ونقيضه لا يستويان أبدا..(11/871)
فالأعمى.. والبصير.. لا يستويان.. هذا أعمى، وذاك مبصر..
والظلمات.. والنور. لا يستويان كذلك. هذه ظلمات، وذاك نور..
والظل.. والحرور.. لا يستويان أيضا.. هذا ظل بارد، وذاك سموم حار..
والأحياء.. والأموات.. على رفى نقيض.. هؤلاء أحياء، وأولئك أموات هامدون..
ويلاحظ هنا أمران:
أولهما: جمع الظلمات، وإفراد النور..
وذلك لأن الظلمات هى ظلال أشباح، داخلة إلى عالم النور، إذ كان العالم كله نورا من نور الله، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فالعالم كيان واحد من نور، وهذا الظلام الذي يرى فى العالم، إنما هو من ظلال تلك الأشباح الكثيفة الداخلة عليه..
ومن جهة أخرى، فإن الذي يعيش فى النور، إنما يأخذ طريقا واحدا فيه إلى غايته، أما الذي يعيش فى الظلمات، فإنه لا يعرف له طريقا.. بل يتحرك مضطربا على طرق شتى..
وثانيهما: تقديم الظل على الحرور، والأحياء على الأموات.. وكان النظم يقضى بتقديم الحرور على الظل، والأموات، على الأحياء، لتتسق ألوان الصورة كلها، فيكون الأسود المعتم (الأعمى، والظلمات، والحرور، والأموات) - فى جانب، والأبيض المشرق (البصير، والنور، والأحياء، والظل) - فى جانب آخر! فما حكمة هذا؟.
نقول- والله أعلم- إن الجواب على هذا من وجهين:(11/872)
أولا: أن الظل هو نعمة، فى مقابلة الحرور، وكذلك الحياة نعمة، فى مقابلة الموت..
فقدمت هنا نعمتان، على حين قدمت قبلهما آفتان، هما العمى والظلمات..
وفى هذا التوزيع توازن لألوان الصورة، حيث جاءت هكذا:
آفتان تقابلان نعمتين.. العمى والبصر، والظلام والنور..
ونعمتان تقابلان آفتين.. الظل والحرور، والحياة والموت.
وثانيا: أن الأصل فى نفى الاستواء- وهو التوازن بين الشيئين- أن يقع أولا على الناقص منهما، فيقدّم المفضول على الفاضل، كما فى قوله تعالى:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» ..
(29: الحشر) وقوله سبحانه: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. (95: النساء) هذا هو الاستعمال فى أصل اللغة، فإذا خرج الاستعمال عن هذا الأصل، كان ذلك لغاية يراد لها.. كما فى قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (9: الزمر) وذلك حين لا يكون المراد هو تقرير حكم فى المفاضلة بين أمرين، وإنما المراد هو الإلفات إلى أن الأمور ليست على وجه واحد، وإنما لكل أمر وجهان.. وجه، وضدّ لهذا الوجه.
مثل الوجود والعدم، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظل والحر، والعذب والملح.. وهكذا.. والمطلوب من الخصم أن يعترف به هنا، هو أن الشيء الذي يمسك به، ليس هو كل الشيء، وإنما يقابله نقيضه، الذي يجب أن ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه، على الوجه الآخر، الذي لهذا الشيء..
فإذا كان المشركون يمسكون بالشرك، ولا يرون أن هناك معتقدا غيره-(11/873)
فيلعلموا أن هناك وجها، آخر لا بد أن يقابل هذا الشرك، دون التفات إلى أيهما الفاضل وأيهما المفضول.. إن الأمور لا تكون إلا على هذا الازدواج..
الشيء وضده.. وليس الشرك الذي بين أيديهم بدعا من الأشياء..
فليبحثوا عن الوجه الآخر المقابل له.. فإذا فعلوا، كانت المرحلة الثانية من مراحل النظر، وهى أن يوازنوا بين ما معهم من شرك، وبين الوجه الآخر المقابل له، وهو الإيمان..
وقد جاء الأمران الأولان على الأصل، فقدّم فيهما المفضول على الفاضل، على حين جاء الأمران الآخران على غير الأصل، فقدم فيهما الفاضل على المفضول.. وبهذا أخذ كل من الفاضل والمفضول مكانه فى الصورة على قدم المساواة.. لأن الأمر- كما قلنا- لم يكن يراد منه المفاضلة، وإنما المراد هو إثبات تلك الحقيقة التي لا خلاف عليها، وهى الازدواج فى الأشياء، والتقابل بين الشيء وضده..
وفى مجىء المقطع الأول من الصورة، على أصل الوضع فى اللغة، الذي يتفق مع مجرى التفكير، وذلك بتقديم المفضول على الفاضل، فى مقام الموازنة والمفاضلة بينهما- فى هذا التقاء مع المشركين على أمر لا خلاف عليه، بين مؤمن وغير مؤمن.. وهذا من شأنه ألّا يصدم تفكيرهم، ولا يخرج بهم عن مألوفهم، الأمر الذي يدعوهم إلى الاستماع إلى هذا الذي يعرض عليهم، وإلى النظر فيه..
فإذا وقع مقطع هذا الحديث من أنفسهم هذا الموقع، واجههم المقطع الآخر من الصورة، وهو مقطع قد انقلب فيه الوضع، وانعكست فيه مواقع الأمور، فقدّم ما حقه التأخير، وأخّر ما حقه التقديم، وفى هذا إشارة إلى أمرين:(11/874)
أولهما: أن المشركين قد انعكست فى أنفسهم حقائق الأشياء، وأنهم إنما ينظرون إلى الأمور، وهم فى وضع منكوس، وأنهم لو اعتدلوا فى وضعهم لرأوا هذا المقطع من الصورة على حقيقته.. إنهم يعيشون فى الحرور ويحسبونه الظلّ، وهم أموات، ويحسبون أنهم أحياء.. هذا هو وضعهم، فإذا شكّووا فى هذا فلينظروا فى هذا المقطع من الصورة التي بين أيديهم، وسيرون أن الحرور أفضل من الظل، وأن الميت أكثر حياة من الحىّ.. وبهذا ينكشف لهم الوضع المقلوب، الذي ينظرون فيه إلى الأشياء..
وثانيهما: أنهم لو أرادوا أن يقيموا الصورة كلها على وضع سليم، لكان عليهم أن يغيّروا بأيديهم هذا الوضع الذي أخذه المقطع الثاني من الصورة، وأن يجعلوه موافقا للوضع الأول، فيقدموا الحرور على الظل، والأموات على الأحياء، وبهذا يكون الحكم على المطلوب صادرا منهم، فتجىء الصورة العامة هكذا:
«وما يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الحرور ولا الظل ولا الأموات ولا الأحياء» .. إنها عملية تدعو إلى تحريك العقل، وإلى أن يعمل عملا جادّا على تسوية هذه المتناقضات.. فإذا اتجهت عقولهم إلى هذا الاتجاه، كان من طبيعة الأمور ألّا ترصى عقولهم بهذه المتناقضات، التي تقوم فى كيانهم، حيث يؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان.. وهكذا تجىء آيات الله، بهذه الإيحاءات النفسية، التي تدخل العقل فى رفق ولطف، إلى مواطن الهدى، ومواقع الخير..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ» .. إشارة إلى أن الناس فريقان:
فريق يسمع آيات الله ويستجيب لها، وفريق لا يسمع ولا يستجيب..(11/875)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
هذه بديهة تنطق بها الحقيقة المنتزعة من المقدمة السابقة، التي عرضت فيها هذه الأمور الأربعة..
وفى إسناد الإسماع إلى الله تعالى، إشارة إلى أن هذا الأمر كلّه بيد الله، وكل شىء معلق بمشيئته: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) :
وقوله تعالى: «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» تيئيس للمشركين الذين استولى عليهم الشرك، أن يكونوا فى السامعين، وإراحة للرسول من بذل الجهد فى سبيل إسماعهم.. إنهم أموات.. وليس من عمل الرسول أن يسمع الأموات.. «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» . (80: النمل) «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ» .. فهذا هو عمل الرسول.. إنه نذير، ينذر هؤلاء الضالّين، ويخوفهم عذاب الله، وليس من شأنه أن يفتح آذانهم التي أصمها الله عن أن تسمع كلماته.. وقد اقتصر هنا على جانب من رسالة الرسول، وهو الإنذار، لأن الخطاب فى مواجهة المشركين، الذين لن يؤمنوا أبدا، والذين ليس لهم إلا ما تحمل إليهم النذر من عذاب، وبلاء..
الآيات: (24- 28) [سورة فاطر (35) : الآيات 24 الى 28]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)(11/876)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وليس الرسول.. صلوات الله وسلامه عليه.. نذيرا وحسب، وإنما هو نذير وبشير.. نذير للضالين المكذبين، وبشير للمؤمنين المهتدين..
وفى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» إشارة إلى أن الله سبحانه قد بعث فى كل أمة رسولا، ينذر، ويبشر.. كما يقول سبحانه.
«رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (165: النساء) .
واقتصر هنا فى رسالة الرسل، على الإنذار، لأن المقام- كما قلنا- مقام تهديد للمشركين وأهل الضّلال، ولأن أبرز جانب فى حياة الرسل، هو الجانب الإنذارى، حيث كانت حياتهم جهادا متصلا لأهل الكفر والضلال..
قوله تعالى:
«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ»(11/877)
البينات: المعجزات المادية، البينة الإعجاز..
والزبر: جمع زبور، مثل عمود، وعمد..
والزّبور، الشيء المقطوع من أصل.. والمراد بالزّبر هنا، ما كان ينزل على الأنبياء من آيات الله، تحمل عظات وعبرا، وبشريات، ونذرا..
والكتاب المنير: هو التوراة.. كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (44: المائدة) والآية مواساة للنبىّ، وعزاء كريم له من ربه، فيما يلقى من قومه من تكذيب.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- ليس أول رسول يلقى من قومه ما لقى، من اتهام وتكذيب، وإنما ذلك شأن الرسل قبله مع أقوامهم، جاءوهم بمعجزات مادية محسوسة، وجاءوهم بآيات الله وكلماته، وجاءوهم بكتاب منير من عند الله، يحمل دستورا متكاملا، للحياة الدنيا والآخرة- جاءوهم بكلّ هذا، فما وجدوا منهم إلا البهت والتكذيب، وإلا التهديد والأذى..
«فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ.. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (35: الأحقاف) وقوله تعالى:
«ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» تلك عاقبة المكذبين برسل الله.. لقد أخذهم الله بذنوبهم، وصبّ عليهم البلاء، صبا: «فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) - وقوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» إلفات إلى بأس الله، وما أخذ به الظالمين، الذي أتوا المنكرات، فأنكر الله عليهم ما أتوه، وليس بعد إنكار الله(11/878)
إلا النقمة والبلاء.. فكيف تجد هذا البلاء وتلك النقمة فى أصحاب المنكر؟
انظر.. إنه شىء مهول.. نعوذ بالله منه..
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ.. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» الجدد: القطع، واحدتها جدّة.. ومنه «جدّة» البلد المعروف على ساحل البحر الأحمر من الجزيرة العربية، لأنها جدّت أي قطعت من الآكام والهضاب القائمة فى هذا الموقع.. ومنه أيضا قول الشاعر..
أبى حبّى سليمى أن يبتدأ ... وأمسى حبها خلقا جديدا
أي أمسى حبها قديما، قد تقطع أديمه..
والغرابيب: جمع غربيب، مثل قنديل وقناديل، وهو الشيء الحالك السواد، ومنه سمى الغراب غرابا..
والآية معرض من معارض الخلق والإبداع، لقدرة الله سبحانه وتعالى..
وفيها إلفات إلى هؤلاء السادرين فى غيهم، الهائمين فى ظلمات جهلهم وضلالهم، أن يقيموا وجوههم على هذا الوجود، وأن يفتحوا أبصارهم على صحفه، وأن يقرءوا ما خط على هذه الصحف من سطور، تحدث عن قدرة الخالق، وإبداعه، وعلمه، وسلطانه..
- وفى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» خطاب للنبىّ ولكلّ من هو أهل لهذا الخطاب، من كل ذى عين، وعقل..(11/879)
فهذا سطر من صحيفة الوجود، يرى فيه الناظرون ما أبدعت قدرة الله، وما أخرجت من هذه الأرض الهامدة ومن ترابها الأسود، من ثمرات مختلفة ألوانها وطعومها.
فمن هذا التراب الأسود، اكتست الأرض العارية الجديب، بحلة قشيبة، من الزهر، والثمر، المختلف الألوان، بين أحمر، وأصفر، وأبيض.. إلى غير ذلك مما لا حصر له من ألوان..
فمن أبدع هذا، وصوره على تلك الصور الرائعة المذهلة؟
«أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها.. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» (60: النمل) قوله تعالى:
«وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» سطور أخرى من صفحة الوجود.. يرى فيها الناظرون بألبابهم، قدرة الله وإبداعه فى هذا الجماد الجامد، وفى الجبال الثابتة الراسخة بالذات- إنها ليست أكوانا متضخمة بلا وزن ولا حساب، بل إن يد القدرة ممسكة بكل ذرة فيها، وإن الناظر ليرى فى ألوانها المختلفة من أبيض وأحمر، وأسود وما بين الأبيض والأحمر، والأسود- أن يدا قادرة، مدبرة، قد أقامتها بحساب دقيق وتدبير محكم، حيث أن وراء هذه الألوان صفات أخرى لتلك الجبال، فاللون الأبيض وراءه أحجار جبرية، على حين أن اللون الأحمر يضم أحجارا صلدة جامدة، أما اللون الأسود، ففى كيانه أحجار أشد صلابة، وأكثر احتمالا..
ففى هذه الألوان علم ينفذ منه العقل إلى حقائق، ومعطيات، فيها خير كثير،(11/880)
ورزق موفور.. وفى هذا دعوة إلى الدراسة والبحث والتعمق إلى ما وراء ظوهر الطبيعة.. فهذه الظواهر قشور، تخفى وراءها جواهر كريمة ومعادن نفيسة.. فمن وقف عند هذه القشور، لم يقع ليده إلا التافه المتساقط من لحاء شجرة الطبيعة، وأما من تجاوز هذه القشرة، فإنه خليق بأن يملأ يديه من كل خير، ويطعم من كل ثمر.. فإذا امتد نظر الناظر إلى عالم الإنسان، والدواب، والأنعام، وجد فى كل عالم صورا وأشكالا لا حصر لها..
فالعالم الإنسانى مثلا.. كل إنسان عالم بذاته.. فى صورته، ولونه، ولسانه، وفى مشاعره، وتفكيره، وتصوراته، وخواطره، بحيث لا يكاد يتفق إنسان وإنسان.. والدواب.. والأنعام كذلك.. كل حى منها، وإن بدا أنه قريب الشبه بغيره، فإن لكل حىّ منها صفات ظاهرة وباطنة، تميزه من غيره.
ولكن من الذي يرى هذا، ويدرك الفروق الظاهرة، أو الخفية بين هذه المخلوقات؟ إنه لا يرى هذا إلا أهل العلم، وأصحاب النظر، الذين ينظرون بعقولهم لا بعيونهم وحدها.. ولهذا جاء قوله تعالى، تعقيبا على هذه الدعوة الداعية إلى النظر فى تلك الموجودات:
«إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» فإن هذه الخشية لله، التي تقع فى القلوب، وتستولى على المشاعر، لا تجىء إلا عن علم بما لله من جلال، وقدرة، وعلم، وحكمة.. وهذا العلم لا يحصّل إلا بالبحث الجادّ، والنظر المتأمل، والعقل الدارس المفكر، فى خلق السموات والأرض، وما فى السموات والأرض..
فمعرفة الله أولا، ثم الخشية له ثانيا..(11/881)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
وإنه لا خشية إلا عن معرفة الذّات التي تخشى، ويخشى سلطانها، ويخاف بأسها.
وإنه لا معرفة إلا عن نظر، وتفكر، وتدبر..
فمن كان أكثر معرفة لله، وعلما بما له من صفات الكمال والجلال- كان أكثر خشية لله، وتوقّيا لحرماته..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» أي أنه مع ما لله من عزة وقوة وسلطان، فإنه سبحانه، غفور، يلقى أهل الإساءة بالمغفرة، إذا سألوا هم مغفرته، وطلبوا عفوه، والتمسوا رضاه.
الآيات: (29- 37) [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)(11/882)
التفسير قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة، أشارت إلى العلم، وإلى ما للعلماء من مقام عند الله، وما فى قلوبهم من خشية له، وذلك بما علموا من دلائل قدرته بالنظر فى آياته الكونية، نظرا عاقلا، مدركا، متفحصا. ملأ قلوبهم خشية لله، ومراقبة له، ومجانبة لحرماته..
وهنا- فى هذه الآية- دعوة إلى النظر فى آيات الله القرآنية، وما يقع للعقل منها من علم بالله سبحانه، وبما له- سبحانه- من علم، وحكمة، وقدرة..
ففى هذه الآيات القرآنية، معجزات، يرى فيها الذين يتلونها تلاوة مبصرة، وشواهد ناطقة تشهد بما لله من كمال وجلال، تماما كما يرى الراءون لآيات الله المادية المعجزة..(11/883)
فقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ» دعوة إلى التلاوة المتدبرة الفاقهة، التي تحصّل علما وحكمة، وهى التي تملأ القلوب إجلالا وخشية لله.
«وَأَقامُوا الصَّلاةَ» .. الجملة هنا حالية من فاعل يتلون، أي يتلون كتاب الله، أي يخشون الله، وقد أقاموا الصلاة، فى ظل من هذه الخشية، وفى استصحاب لها..
فالآية هنا مثل قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» (18: فاطر) .
«وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» معطوف على «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» أي وأنفقوا مما رزقهم الله سرّا وجهرا، فى ظل من خشية الله كذلك، وفى استصحاب لتلك الخشية..
«يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ» .. خبر إن.. أي أن هؤلاء الذين يتلون كتاب الله، تلاوة تملأ قلوبهم خشية لله، ثم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة- وهم على خشية من الله- هؤلاء يرجون تجارة رائجة، رابحة لن تبور..
بل إنها تجد من يشتريها منهم، ويضاعف لهم الثمن فيها.. وإنه الله سبحانه وتعالى هو الذي يشترى منهم هذه البضاعة، ويضاعف لهم الثمن عليها..
قوله تعالى:
«لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» .
هو تعليل لنفى البوار عن تجارة هؤلاء العاملين، إنها تجارة يتقبلها(11/884)
الله منهم «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ» أي ليعطيهم أجر ما عملوا كاملا وافيا غير منقوص، بل وأكثر من هذا، فإن الله سيزيدهم، ويضاعف لهم الأجر، فضلا وكرما وإحسانا منه.. «إِنَّهُ غَفُورٌ» يتجاوز عن سيئاتهم، «شكور» يقابل القليل من الإحسان بالجزيل من العطاء..
قوله تعالى:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» .
هو إلفات إلى هذا الكتاب، الذي دعت الآية السابقة إلى تلاوته..
وأنه هو الحق، المصدق لما بين يديه من الكتب السابقة..
- وقوله تعالى: «مِنَ الْكِتابِ» من للتبعيض، وهذا يعنى أن ما كان قد نزل من القرآن الكريم، لم يكن كل القرآن، بل بعضه.. وهذا هو الواقع، فإن السورة مكية.. وهذا يعنى أن القرآن المدني لم يكن قد نزل منه شىء بعد..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» .. أي إنه سبحانه عالم بما يصلح أمر العباد، بصير بهم، فينزّل عليهم من آياته، فى كل زمن ما يناسبهم، ويتفق وعقولهم..
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» ..
الكتاب هنا، هو القرآن الكريم..(11/885)
والذين أورثهم الله هذا الكتاب هم المؤمنون به، فى كل زمن، ومن كل أمة.. فهم الوارثون لهذا الكتاب، المنتفعون بما فيه من خير، انتفاع الوارث بما يرث.. والآية الكريمة تنويه بهذه الأمة الإسلامية، ورفع لقدرها، وحسبها أن تكون المصطفاة من عباد الله، لتلقّى هذا الكتاب، وجعله ميراثا دائما، يأخذه الأبناء عن الآباء إلى يوم الدين..
ففى العطف بحرف «ثم» إشارة إلى أن ما أوحى إلى النبي حتى نزول هذه الآية، لم يكن إلا بعضا من الكتاب.. وأن ميراث المسلمين لهذا الكتاب لم يأت بعد، لأن الكتاب لم يتم نزوله، وسيتم ذلك بعد بضع سنوات. ولهذا جاء العطف بثم ليفيد هذا التراخي فى الزمن، بين نزول هذه الآية وبين تمام نزول القرآن:
- وفى قوله تعالى: «أَوْرَثْنَا» - إشارة أخرى إلى أن هذا الكتاب، هو ميراث المسلمين على مرّ الأزمان، وأنه لهم خالصة من دون الناس، إذ كانوا هم الذين ينتفعون به، ويجنون الثمر الطيب منه.. وسمّى القرآن ميراثا، لأنه فضل من فضل الله سبحانه وتعالى، لم يحصله المسلمون بكدّهم وسعيهم، وإنما وضعه الله بين أيديهم، إحسانا وفضلا.
- وفى قوله تعالى: «اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» إشارة ثالثة إلى أن هؤلاء المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب، هم المصطفون من عباد الله جميعا، لأنهم هم المؤمنون.
وهذا يعنى أن الذين لا يؤمنون بهذا الكتاب، ليسوا على الإيمان،. بل هم كافرون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ»
وهذا يعنى من جبهة رابعة أن المسلمين جميعا هم الفريق المصطفى والمتخير من فريقى الناس.. إذ الناس فى الدنيا فريقان:
مؤمن، وكافر، كما يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. وهم فى الآخرة فريقان كذلك. كما يقول الله تعالى(11/886)
«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) - وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» أي أن هؤلاء المسلمين، الذين أورثهم الله الكتاب، واصطفاهم من بين عباده للإيمان به- هؤلاء ليسوا على درجة واحدة، فى إيمانهم بالله، وفى منزلتهم عنده، بل هم درجات عند الله، وإن كانوا جميعا فى مقام الاصطفاء..
إنهم فى مجموعهم، ثلاث طوائف: طائفة آمنت بالله، ولكنها لم تعمل بهدى هذا الإيمان، ولم ترتفع بأعمالها إلى مستواه، فظلمت نفسها بالوقوف عند أول درجة من درجات الكمال، وقد فتح أمامها الطريق إليه، وأقيمت لها على جوانبه معالم الهدى.. وإنه لا عذر لها فى التوقف عن السير فى هذا الطريق الآمن المطمئن، لتجنى ما وعدت به على طريقه من خيرات ومسرات..
وهذه الطائفة هى طائفة العصاة من المؤمنين، أصحاب الكبائر.. وطائفة أخرى.. آمنت به كذلك، ولكنها لم تقف عند أول منزلة من منازل الإيمان، بل خطت خطوات بطيئة متمهلة.. تسير حينا، وتتوقف حينا..
ومع هذا فهى على الطريق سائرة.
وهؤلاء هم المؤمنون، الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. فأحسنوا وأساءوا، وأطاعوا وعصوا.. وهؤلاء هم وسط بين الذين ظلموا أنفسهم، والذين سبقوا بالخيرات. وهم الطائفة الثالثة من طوائف المؤمنين.. أما الطائفة الثالثة فهى طائفة أولئك الذين ساروا سيرا حثيثا على طريق الإيمان، فلم يقفوا عند إثم، ولم يسكنوا إلى كنف معصية، فسبقوا بالخيرات، وبلغوا الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم.. وهؤلاء هم الأتقياء، والصالحون، والأبرار، وهم الذين أنعم الله عليهم، ومنحهم التوفيق، وحفظهم من الزلل على الطريق..(11/887)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» .. فهذا السبق الذي كان لهم، هو بتوفيق الله، وبفضله عليهم، وإلى هذا يشير الله سبحانه بقوله: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» .. ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الميراث، أو الاصطفاء فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» . فهذا وذاك فضل كبير من الله رب العالمين.
ونخلص من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما على ضوء هذه الآية الكريمة:
الحقيقة الأولى، هى أن المسلمين، الذين أورثهم الله القرآن الكريم، هم جميعا- المستقيم منهم والمعوج، والمطيع والعاصي- هم الفريق المصطفى المتخير من الله من بين عباد الله.. فالمسلمون فريق.. والناس جميعا فريق..
الحقيقة الثانية، وهى أن أهل هذه الملة جميعا ناجون، وأن أهل المعصية منهم إذا حبسوا على النار قليلا أو كثيرا، فإنهم من أهل الجنة. وهذا ما بشير إليه الحديث الشريف: «من قال لا إله إلا الله مؤمنا بها قلبه دخل الجنة» وفى الحديث أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وينبنى على هاتين الحقيقتين أمور:
أولها: أن على المسلم أن ينظر إلى نفسه، فى هذا المقام الكريم الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيه، وجعله من أهل اصطفائه، وهذا يقتضيه أن يحرص الحرص كله على أن يحتفظ بمكانه هذا، وأن يطلب منزلة أعلى، فى منازل الإيمان التي لا حدود لها، وألا يسفّ ويتدلّى، فتزلّ قدمه بعد ثبوتها..
وثانيها: أن المسلمين إنما أورثهم الله القرآن الكريم، بعد أن تخيرهم له من بين الناس.. فهم أهله، وأولى الناس به.. ولن يكونوا أهله وأولياءه إلا إذا(11/888)
حفظوه، وعملوا بأحكامه، وتأدبوا بآدابه.. إنه ميراثهم من فضل الله، فإذا لم يحسنوا القيام عليه، والرعاية له، أفلت من أيديهم هذا الميراث، كما يفلت الميراث من يد الوارث السفيه.. كما يقول سبحانه: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) وثالثها: أن كل مسلم له نصيبه فى هذا الميراث، وهو ميراث يسع المسلمين جميعا، فردا فردا، وجماعة جماعة.. وجيلا جيلا.. يسلمه السّلف إلى الخلف..
فهو أمانة فى عنق كل إنسان، وهو أمانة فى أعناق المسلمين جميعا.. وعلى هذا فإن هذا الميراث لن يضيع أبدا.. إذ لو بقي فرد واحد من المسلمين، لكان هذا الكتاب ميراثا له ولكان أمانة فى عنقه، ولكان مطالبا بحمل الأمانة، مطالبا بأدائها..
وقدم الظالم لنفسه، لأن الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي هم الكثرة فى المسلمين، ثم جاء بعدهم المقتصدون، وهم أقل منهم عددا، ثم جاء السابقون بالخيرات بإذن ربهم، لأنهم قلة فى المسلمين، وصفوة صفوتهم.. وقيل إن هذا الترتيب منظور فيه إلى الأحوال التي تعترى الناس فى هذا المقام، وهى ثلاث: معصية، ثم توبة، ثم قربة.. فإذا عصى العبد فهو ظالم، فإذا تاب، فهو مقتصد، فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته، فهو سابق.. وقيل قدم الظالم، لئلا يبئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله، فتعيّن توسط المقتصد.
وقوله تعالى:
«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» «جَنَّاتُ عَدْنٍ» بدل من قوله تعالى: «الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» .. فالفضل(11/889)
الكبير الذي يتلقاه المؤمنون من ربهم، هو «جنات عدن» أي جنات خلود، لا يخرجون منها أبدا..
وقوله تعالى: «يَدْخُلُونَها» خبر لجنات أي جنات عدن يدخلها المؤمنون.
وقوله تعالى: «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» .
هو حال من الفاعل فى قوله تعالى: «يَدْخُلُونَها» وهذه الحلىّ التي يلبسها المؤمنون فى جنات عدن، هى من بعض ما كانوا يشتهون فى دنياهم، أو مما كانوا يتمتعون به، ويجدون المسرّة منه.. فيكون من تمام النعمة عليهم أن ينالوا كلّ شىء كان مشتهى لهم فى دنياهم، وقصرت عنه أيديهم، أو كان متعة من متعهم فى هذه الدنيا..
وليس هذا كل نعيم أهل الجنة، بل هو شىء لا يكاد يذكر إلى ما هناك من نعيم لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. ولكنه من شهوات النفس فى دنياها، فلا نحرم منه إذا هى نزلت منزل الإحسان المطلق، والنعيم الشامل.. تماما كما يجىء إنسان من أقاصى الريف إلى مدينة كالقاهرة..
إن كل ما فى نفسه أن ينال شيئا مما كان يراود خياله، ويطرق أمله، كأن يدخل «السينما» أو يجلس فى مطعم فيأكل حتى يشبع، أو يلبس بدلة!! أو نحو هذا..
إن آماله وهو فى عيشه الضيق الضنك، لا تتسع لأكثر من هذا..
ولك فى هذا مثل تجده فى طوارق الأحلام.. إن كل إنسان يقع له فى أحلامه، ما يشتهيه فى يقظته، وتقصر عنه يده..
وفى عالم الأحلام متسع لكل شىء.. ومع هذا فإن المحروم من الشيء لا يكاد يحلم إلّا به، وإن كان عند غيره تافها لا يلتفت إليه فى يقظة أو منام.. وفى المثل:
«الجوعان يحلم بالرغيف!» فمخطىء أولئك الذين يتهمون الإسلام من هذا الجانب، ويحقرون(11/890)
الجنة التي وعد الله المتقين بها، ويقولون إنها جنّة حسيّة، تستجيب لشهوات الجسد، أكثر من استجابتها لمطالب الروح.. ثم إنها من جهة أخرى جنّة تافهة، لا تستحق أنه يعمل لها الإنسان فى دنياه هذا العمل الشاق الطويل، كى يلبس حريرا، أو يحلّى بذهب أو لؤلؤ، أو يشرب من نهر خمر، أو لبن، أو عسل، أو ينال من لحم طير أو نحوه.. إن ذلك كله موجود فى الدنيا، بل هو أقلّ ما يوجد فيها.. هكذا.. يقولون! ويردّ على هذا من وجوه..
فأولا: ليس هذا هو كلّ نعيم الجنة التي وعد به المتقون، وإنما هو- كما قلنا- شىء قليل قليل إلى كثير كثير، لا حصر له، مما لم تره عين فى هذه الدنيا، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر..
وثانيا: أن هذا الذي يساق إلى أهل الجنة من نعيم الدنيا، ليس فرضا عليهم، وإلزاما لهم، بل هو استجابة لمطلب كان لهم فى الدنيا، وعزّ عليهم الحصول عليه.. وأنه لكى تتم سعادتهم، ولكى يدركوا أن ما فاتهم فى دنياهم لم يكن إلا شيئا تافها إلى هذا النعيم الذي أعدّه الله لهم- كان وضع هذا المتاع الدنيوي بين أيديهم، إزاء ما فى الجنة من نعيم.
وثالثا: ليس هذا النعيم جسديّا، بل إن الرّوح لتجد راحتها وسعادتها فى حصولها على ما حرمت منه، ولو كان أمرا ماديا فى ذاته.. كما يقع ذلك للروح فى عالم الأحلام.. إن ما يقع فى الأحلام من أمور تستجيب لرغبة الإنسان، هى مما يسعد نفسه، ويرضى مشاعره..
قوله تعالى:
«وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ»(11/891)
بهذا الحمد الخالص المطلق، يستقبل أهل الجنة هذا النعيم الذي هم فيه..
فهم يحمدون الله مع كل نعمة تطلع عليهم من نعيم الجنة التي لا ينقطع نعيمها لحظة.. لقد أذهب الله عنهم فى هذا المقام الكريم «الحزن» الذي كان قد وقع فى نفوسهم لما فاتهم من متاع الدنيا، ولما ابتلوا به فيها من مصائب وفتن.. ولقد غفر الله لهم ما كان منهم من ذنب، وما فعلوه من منكر، وستره عنهم، فلم يروه، حتى لا يسوءهم وجهه، وهم فى رضوان الله، وفى رحاب فضله وإحسانه، وشكر لهم الله القليل من صالح أعمالهم فجزاهم عليه هذا الجزاء العظيم.
قوله تعالى:
«الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» ..
النّصب: التّعب من العمل والجهد.. واللغوب: الإعياء والفتور..
أي وإنهم ليحمدون الله سبحانه، أن أنزلهم هذه الدار الكريمة الطيبة من فضله، والتي لا يتحولون عنها أبدا، والتي لا يمسهم فيها تعب أبدا، ولا ينالهم أدنى عناء أو مشقة.. لأنهم ينالون ما شاءوا من نعيم. وينعمون بما اشتهوا من طيبات، دون أن يبذلوا لذلك جهدا، أو يعملوا له عملا..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» أما أهل الكفر والضلال، فإن لهم دارا غير هذه الدار، وحياة غير تلك الحياة.. إن دارهم هى النّار، وحياتهم فيها عذاب لا ينقضى، ولا(11/892)
ينقطع.. ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، فهم أحياء فى عذاب أليم دائم.. وإنها لحياة، يتمنى أصحابها الموت ولا يجدونه، كما يقول الله تعالى:
«الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (12- 13 الأعلى) وهذا ما يشير إليه المتنبي بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وقوله تعالى: «كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» أي بمثل هذا الجزاء من العذاب الأليم، وتلك الحياة المشئومة النكدة، نجزى كل كفور، أي شديد الكفر، غليظ الضلال.
قوله تعالى:
«وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» .
الاصطراخ: التنادى بطلب الغوث من أمر مفظع.. والصارخ هو من يستصرخ غيره، ويدعوه إلى نجدته.. كما يقول الشاعر..
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
فهذه حال أهل النار.. صراخ، واستصراخ لطلب الغوث والنجدة..
يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» .. ولا يلقون لهذا الاستصراخ إلا الردع والزجر.. «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» (108: المؤمنون) ..(11/893)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
وقوله تعالى: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» ؟.
هذا ما يجيبهم به لسان الحال. لقد عمروا فى الدنيا عمرا طويلا، يتسع لأن يتذكر فيه من تذكر، وأن يتعرف إلى ربه، ويؤمن به، ويعمل صالحا يرضاه له.
وقوله تعالى: «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» .. إشارة إلى أنه مع العمر الذي عاشوه فى الدنيا، ومع ما معهم من عقول، لو استعملوها لاهتدوا بها، ولعرفوا الطريق إلى الله- مع هذا فقد بعث الله فيهم رسولا ينذرهم بين يدى هذا العذاب الأليم، فما استمعوا له، ولا التفتوا إليه..
وقوله تعالى: «فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» - هو تعقيب على هذا اللوم الزاجر، الذي أجيبوا به على استصراخهم.. فما لهم إلا هذا العذاب، وما لهم هنا من نصير، يستجيب لهم، ويخلصهم مما هم فيه
الآيات: (38- 41) [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)(11/894)
التفسير تعود هذه الآيات بالمشركين والكافرين، من عذاب جهنم، الذي ساقتهم إليه، الآيات السابقة، فتلقاهم بهذا الحديث الذي يكشف عن علم الله وقدرته، وأنه وحده- سبحانه- العالم بكل شىء، المالك لكل شىء، القائم على كل شىء..
وقوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»
- هو تقرير للحقيقة، التي غايت عن أهل الشرك والضلال، وهى أن الله سبحانه هو الإله الذي ينبغى أن يعبد.. إنه يعلم كل غائبة فى السموات أو فى الأرض، وإنه يعلم ما تنطوى عليه الصدور، وما تكنّه الضمائر.. ومن كان هذا شأنه، كان سلطانه قائما على كل شىء، وكانت عبادته وحده واجبة على كل مخلوق..
وقوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» أي أنه سبحانه قد أعلى قدر الإنسان، ورفع منزلته، وجعله خليفة فى الأرض.. وكان مقتضى هذا أن يحتفظ الإنسان بهذا المقام الكريم، وأن يعرف لله فضله عليه، وإحسانه إليه، وأن يذكر أنه خليفة لله، وأنه بهذه الخلافة يعمل فى الأرض التي هى ملك لله.. فكيف يسوغ له أن يخرج عن(11/895)
سلطان الله، وأن يجعل ولاءه لغير الله، مما على الأرض من كائنات، يعبدها، ويتخذها آلهة له من دونه؟.
وقوله تعالى: «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» أي فمن خرج على استخلاف الله إياه، وكفر به، فعليه كفره، وسيلقى الجزاء الذي يستحقه وقوله تعالى: «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» أي أن هذا الكفر الذي لبسه الكافرون بعد أن خلعوا نعمة الخلافة التي ألبسهم الله إياها، لا يزيدهم عند ربهم إلا، بغضا، وبعدا من رحمته، حيث ينزع عنهم ثوب الكرامة الذي خلعه عليهم، ويلبسهم الذلة والمهانة، ويلقى بهم فى جهنم مذمومين مدحورين ...
وقوله تعالى: «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» أي لا يزيدهم هذا الكفر الذي لبسوه إلا كفرا وضلالا، فهم مع هذا الكفر فى كفر ينمو على الأيام.. فهم يزدادون كل يوم مع هذا الكفر، خسرانا، حيث تخف موازينهم يوما بعد يوم.. إنهم يحملون فى كيانهم داء خبيثا، هو الكفر يمتص ماء الحياة منهم، قطرة قطرة، حتى يتحولوا إلى أعواد من الحطب لا نصلح إلّا وقودا للنار! قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً» أسئلة مطلوب من المشركين أن يوردوها على عقولهم- إن كانت لهم عقول- ثم ليجيبوا عليها، إن كانوا يجدون لها جوابا..(11/896)
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» ؟
أي أنظرتم فى وجه هؤلاء الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله؟
وهل عرفتم ما هم عليه؟.
- «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟» أي أخلقوا شيئا مما ترون على هذه الأرض من مخلوقات؟ هل خلقوا ذبابة؟
- «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟» وإذا لم يكونوا قد خلقوا شيئا مما هو على الأرض، فهل لهم شىء مما فى السموات؟ ذلك بعيد.. فإن من عجز عن أن يخلق أدنى المخلوقات فى الأرض، لهو أعجز من أن يكون له أي شىء فى السموات..
- «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ» .
سؤال إلى المشركين عن ذات أنفسهم هم.. وهو أنهم إذا لم يجدوا لهذا الذي سئلوا عنه فى شأن آلهتهم، جوابا يقبله العقل، بأن لهم شيئا فى هذا الوجود فى أرضه وسماواته- إذا لم يجدوا فى أنفسهم ما يحدّث عن آلهتهم تلك بأن لها شيئا أو شأنا فى الملك- فهل أخذوا هذا الذي أضافوه إلى آلهتهم عن كتاب من عند الله، فهم لهذا على بينة وعلم فى شأن آلهتهم، مما علموه من هذا الكتاب؟ ذلك ما لم يكن!.
فإذا كان العقل يأبى أن يضيف إلى آلهتهم شيئا، أو يجعل لهم شأنا فى هذا الوجود، وإذا لم يكن بأيدى هؤلاء المشركين كتاب من عند الله، أقامهم على هذا الرأى السقيم الباطل الذي رأوه فى آلهتهم، فلم يبق إذن شىء يصل بين هؤلاء المشركين وآلهتهم، إلا ما تلقوه من ضلالات الضالين وأهواء ذوى الأهواء منهم.. «بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً» ..
إن هذا الذي هم فيه من ضلال مع هذه المعبودات التي يعبدونها، هو من(11/897)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
وحي بعضهم إلى بعض بالباطل، ومن تزيين بعضهم لبعض بالخداع والغرور..
وفى الحديث عنهم بضمير الغائب، إعراض عنهم وإنزالهم منزلة الغائب، إذ لم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا. وقد استرخصوا عقولهم، واستخفّوا بها..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» - هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يسقط الله عليهم السماء، أو يخسف بهم الأرض.. فهو سبحانه الذي يمسكهما بموضعيهما اللذين هما فيهما..
«وإن» فى قوله تعالى «إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» - نافية، بمعنى ما، أي إن زالتا ما أمسكهما أحد من بعد الله، لو رفع يده عنهما..
- وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» - إشارة إلى أن الله سبحانه قد وسع بحلمه الناس، ولم يأخذهم بظلمهم، ولولا هذا لأهلكهم، وأفسد عليهم حياتهم، وهو سبحانه مع حلمه، غفور، ينتظر رجعة الظالمين إليه، فيقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم..
الآيات: (42- 45) [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)(11/898)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ..
أي أن هؤلاء المشركين، الذين استرخصوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم، كانوا يقسمون بأعظم الأيمان عندهم وآكدها، - قبل أن يأتيهم النبي- «لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» أي رسول، كما جاء إلى الأمم السابقة رسل- «لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» أي ليكونن أهدى من إحدى هذه الأمم، وهم بنو إسرائيل، إذ كانوا يتمثلون فيهم العلم، والدّين، لما كان بين أيديهم من كتاب، وما بينهم من علماء..
ولم يصرح القرآن ببني إسرائيل، مع أن المشركين لا يعنون غيرهم، وذلك- والله أعلم- للاستصغار بشأنهم، وأنهم ليسوا المثل الذي يحتذى به فى الاستقامة والهدى..(11/899)
وجهد الإيمان: أغلظها، وأشدها..
والاقتصار على وصف الرسول بأنه «نذير» إشارة إلى أن الإنذار هو أول ما يتلقاه الأقوام من رسلهم، إذ كان الرسل إنما يبعثون فى أقوامهم، حين يكثر الفساد فيهم، وتختلط معالم الدين الصحيح فى قلوبهم وعقولهم.. فيكون أول ما يلقى به الرسول قومه هو الإلفات إلى هذا الضلال الذي هم فيه، وتحذيرهم منه، وإنذارهم سوء عاقبته.
- وقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» - أي لما جاء الرسول الذي كانوا يتمنون الهدى عليه يديه، لم يزدهم إلا نفورا عن الحق، وإعراضا عن الهدى..
قوله تعالى:
«اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» .
- «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ» هو بدل من قوله تعالى:
«إِلَّا نُفُوراً» أي لم يزدهم إرسال الرسول إليهم إلا نفورا عن الحق، وإلا استكبارا فى الأرض، واستعلاء على العباد، وإلا الإمعان فى تدبير المكر السيّء للرسول، وتبييت الشر له وللمسلمين..
- وقوله تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» أي لا يقع المكر السيّء الذي مكروه إلا بهم.. إنهم يحفرون الحفرة التي سيقعون فيها، ويفتلون الحبل الذي يشنقون به..(11/900)
وقوله تعالى:
- «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ» - أي فهل ينتظرون إلا أن يؤخذوا بما أخذ به الأولون الذي كذبوا رسل الله، من بلاء وهلاك؟ ..
- وقوله تعالى: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» ..
أي أن سنة الله قائمة على طريق مستقيم لا ينحرف أبدا.. وهى سنة مطردة، لا تتبدل اتجاها باتجاه، ولا تتحول من حال إلى حال..
وسنة الله، هو هذا النظام الذي أقام عليه الوجود، وربط المسببات بأسبابها..
ومن سنة الله فى الظالمين أن يأخذهم بظلمهم، كما أن من سنته فى المحسنين أن يجزيهم بإحسانهم..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً» ..
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الضالين أن يسيروا فى الأرض، وأن ينظروا بأعينهم سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتحول.. إنهم سيرون أقواما كانوا قبلهم، وكانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فأخذهم الله بذنوبهم، وقلب عليهم دورهم..
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» أي وما كان لقوة هؤلاء وبأسهم أن تردّ عنهم بأس لله إذا جاءهم.. فماذا يعصم هؤلاء(11/901)
للمشركين من بأس الله، وقد ساروا مسيرة الهالكين من قبلهم؟ إنهم هالكون لا محالة.. إن الله يعلم ما هم عليه، لا تخفى عليه- سبحانه- خافية من أمرهم، وهو قادر على إهلاكهم..
ولقد أتوا الجرم الذي يوجب الهلاك، وهم فى قبضة الله. وعلمه يكشف عن كل ما اقترفوا.. ولم يبق إلا إمضاء العقوبة فيهم.. فلينظروا، وسيرون عاقبة أمرهم!.
قوله تعالى:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» ..
هو جواب على سؤال يقع فى نفوس المشركين، عند سماعهم التهديد الذي حملته إليهم الآية السابقة، وهو: أين هو العذاب الذي نهدّد به؟ ..
فكان قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» - جوابا على مثل هذا السؤال.. وهو أن الله سبحانه لو يؤاخذ الناس فى الدنيا بذنوب المذنبين منهم، وما يحاربون به الله سبحانه، من كفر، وإلحاد، ومجاهرة بالمعاصي- لو يؤاخذهم بهذا، ما ترك على ظهر هذه الأرض، من دابة.. فإن ذنوب المذنبين- لجسامتها، وشناعتها- لا يغسل دنسها ورجسها إلا طوفان من العذاب، يأتى على كل حياة قائمة على هذه الأرض..
«وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» أي لكن يؤخر حساب الناس إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة..(11/902)
«فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» أي إذا استوفوا آجالهم فى الدنيا، وصاروا إلى الدار الآخرة، كانوا بمنازلهم عند الله.. فالكافرون والمشركون، وأهل الضلال، فى نار جهنم.. وأهل الإيمان والتقوى فى نعيم الجنات.. «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» يفرق بين الأشرار والأخيار، ويميز الخبيث من الطيب كما يقول سبحانه: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ» (37: الأنفال) .(11/903)
36- سورة يس
نزولها: مكية.
عدد آياتها: ثلاث وثمانون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة وتسع وعشرون.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف.
مناسبتها لما قبلها جاء فى الآيات التي ختمت بها سورة «فاطر» السابقة قوله تعالى:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ثم جاءت الآيات الثلاث التي تلت هذه الآية والتي ختمت بها السورة- تعقيبا على تلك الآية، وبيانا لموقف المشركين من هذا القسم الذي أقسموه..
وقد بدئت سورة «يس» بالقسم بالقرآن الكريم، الذي جاءهم النبىّ الكريم به، ثم وقوع هذا القسم على الإخبار بأن محمدا هو رسول الله، وأنه على صراط مستقيم، وأن تكذيب المشركين له، ورفضهم لدعوته، لم يكن إلا عن ضلال وعمى، وإلا عن استكبار وحسد.. لقد كانوا يتمنون أن يبعث الله فيهم رسولا، وأن يأتيهم بكتاب، مثل كتب أهل الكتاب، وها هو ذا الرسول، والكتاب.. فماذا هم فاعلون؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال..(11/904)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 12) [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
التفسير:
قوله تعالى:
«يس» .. اختلف فى تأويلها، فقيل فيها كل ما قيل فى الحروف التي بدئت بها بعض سور القرآن.. وقيل إنها اسم للنبىّ صلى الله عليه وسلم.. ولا نقول إلا أنها من المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم!.
قوله تعالى:
«وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
هو قسم بالقرآن الحكيم، وفى هذا القسم تشريف لمقامه، وتأكيد وتنويه(11/905)
بمنزلته.. وكيف لا يكون فى قمة التشريف والتكريم، وهو آيات الله، وكلمات الله؟
وفى وصف القرآن بالحكمة هنا، إلفات لما اشتمل عليه من فرائد الحكمة، التي هى مورد العقول، ومطلب الحكماء.. وأن الذي ينظر فى آيات الله ينبغى أن ينظر فيها بعقل متفتح، وبصيرة متطلعة، وقلب مشوق، حتى يظفر ببعض ما يتحدث به هذا القرآن الحكيم، فإنه لا ينتفع بحكمة الحكيم، إلا من كان ذا حكمة وبصيرة..
- وقوله تعالى: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» خطاب للنبىّ، وتوكيد للصفة التي له عند الله. وأنه من المرسلين، الذين اصطفاهم الله لرسالته إلى عباده.
- وقوله تعالى: «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. هو خبرثان، عن النبىّ، وأنه قائم على صراط مستقيم، من اتبعه فقد اهتدى، ومن اتخذ سبيلا غير سبيله فقد ضلّ وهلك.
قوله تعالى:
«تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» «تنزيل» منصوب على المصدر، أي إنك لمن المرسلين.. وإنك على صراط مستقيم، نزّل «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» .. ويكون المراد بالصراط المستقيم هنا هو القرآن الكريم، كما يقول الله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» (153: الأنعام) ويكون قوله تعالى: «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» جملة وقعت صفة.
قوله تعالى:
«لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» .
أي إنك من المرسلين، وإنك على صراط مستقيم بهذا الكتاب المنزل من العزيز الرحيم: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» .. فهذا الحشد العظيم من(11/906)
الصفات العظيمة للنبىّ، هو وإن كانت تكريما للنبىّ، وامتنانا عليه بإحسان ربّه إليه- هو أيضا تكريم لهؤلاء الجاهليين، وامتنان بفضل الله عليهم، إذ بعث فيهم خير رسله، وخاتم أنبيائه، ومجتمع كتبه.. وفى هذا حثّ لهم على أن يقبلوا على هذا الخير الكثير المرسل إليهم، وأن يأخذوا حظهم منه.
- وفى قوله تعالى: «ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» .. إشارة إلى أنهم لم يبعث فيهم رسول قبله.. أما رسالة إسماعيل عليه السلام، فهى رسالة كانت مقصورة على أهله، كما يقول تعالى: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» (55: مريم) وإذا كان لهذه الرسالة أثر، فقد اندثر، وعفّى عليه الزمن وسط ظلام الجاهلية وضلالها.
- وفى قوله تعالى: «فَهُمْ غافِلُونَ» .. إشارة أخرى إلى ما كان عليه القوم من جهل وغفلة، فكانوا بهذا فى أشد الحاجة إلى من يعالج هذا الداء المتمكن فيهم.
قوله تعالى:
«لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» هذا حكم قاطع على هؤلاء المشركين، وهم فى لقاءاتهم الأولى مع الدعوة..
«لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ» والقول الذي حق على أكثرهم هو الحكم الذي قضى الله سبحانه وتعالى به فى سابق علمه، على الكثرة من هؤلاء المشركين، من أنهم لا يؤمنون، ولا ينزعون عنهم الشرك الذي لبسوه.. «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» لسابق قضاء الله فيهم..
وقد صدق ما أخبر به القرآن، ووقع كما أخبر به.. فإن أكثر هؤلاء المشركين الذين شهدوا مطالع الدعوة الإسلامية، لم يدخلوا فى الإسلام، فإنه(11/907)
خلال ثلاث وعشرين سنة- وهى مدة الرسالة الإسلامية- مات كثير من هؤلاء المشركين على شركه، ومن لم يمت منهم على فراش الموت مات قتيلا فى ميدان القتال مع المسلمين.. ومن امتدّ به الأجل وأدرك الفتح، ودخل فى دين الله مع الداخلين- ظل ممسكا بشركه فى صدره، حتى مات عليه، أو مات فى حروب الردّة مع المرتدّين..
أما لماذا حقّ القول عليهم؟ فهذا سؤال لا يسأله مؤمن بالله.. إنه اعتراض على مشيئة الخالق فيما خلق! «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) .
قوله تعالى:
«إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ» هو بيان للأسباب التي أقامها الله سبحانه، لتصرف فى هؤلاء المشركين عن الحق، وتمسك بهم على الشرك والضلال..
لقد جعل الله «فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا» أي أطواقا من حديد، أشبه بالقلادة، تطوق بها أعناقهم..
«فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ» - أي وهذه الأغلال أو القلائد تشتمل على العنق كله، حتى لتصل إلى الأذقان..
«فَهُمْ مُقْمَحُونَ» أي مشدود والرءوس إلى أعلى.. فهم لا يستطيعون أن يحركوا رءوسهم يمينا أو شمالا، أو إلى تحت أو فوق..
والصورة التي تبدو ممن طوّق بهذا الطوق، أنه تمثال جامد، وأنه لا يستطيع أن يرى غير الطريق القائم بين يديه، أما ما حوله، عن يمين وشمال، فلا يرى منه شيئا(11/908)
والطريق الذي بين يدى هؤلاء المشركين الذين حق عليهم القول، هو طريق الضلال.. وإذن فلا طريق لهم غيره..
والأغلال التي جعلها الله فى أعناق هؤلاء المشركين، هى أغلال معنوية.
فإن الذي ينظر إليهم، وهم ماضون على طريق الشرك، لا يلتفتون إلى هذا النور الذي عن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم- يخيّل إليه أن فى أعناق القوم أطواقا من حديد، قد شلت حركة رءوسهم، فلم يقدروا على إلفاتها يمينا أو شمالا..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» هو من تمام الصورة التي جعل الله المشركين عليها، حتى لا يهتدوا حين جاءهم الهدى، لما سبق من قضاء الله فيهم فهم- بالأغلال التي فى أعناقهم- مقمحون، قد دفعت رءوسهم إلى أعلى، بحكم المخنقة التي فى أعناقهم.. وهم فى هذا الوضع لا يستطيعون التفاتا يمينا أو شمالا، ولكنهم مع ذلك يستطيعون أن يروا ما أمامهم، وأن يستدبروا ليروا ما خلفهم..
- وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا» هو سدّ لهذين المنفذين اللذين يمكنانهما من الرؤية من أمام ومن خلف.. وأما وقد جعل الله- سبحانه- سدّا من بين أيديهم أي من أمامهم، وسدّا من خلفهم، فقد أحكم سد المنافذ عليهم من جميع الجهات، وأصبحوا وقد أغلقت عليهم منافذ النظر إلى العالم الخارجي، وصاروا محصورين فى عالمهم الذي لا شىء(11/909)
فيه غير الضلال والظلام.. فيمينهم وشمالهم مغلق عليهم أبدا بحكم هذا الطوق الذي طوقوا به.. وأمامهم وخلفهم.. مسدودان.. فإذا أداروا وجوههم إلى أي اتجاه، لم يتغير حالهم، ولم يرتفع عنهم سد من هذه السدود المضروبة عليهم، حيث يلازمهم هذان السدان المضروبان عليهم من أمام ومن خلف.. فعلى أي اتجاه يكونون، يكون السدان من خلفهم ومن أمامهم.. أما عن أيمانهم وعن شمائلهم، فالطوق قائم بوظيفته فيهم فى كل حال..
وهذه الصورة إعجاز من إعجاز القرآن، فى تجسيد المعاني، وفى بعث الحياة، والحركة فى الجمادات والساكنات.. حيث نرى الكافر هنا وقد أدخل فى سجن محكم، مطبق عليه، لا يرى منه النور أبدا.
- وفى قوله تعالى: «فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» إشارة إلى ما يقع لهؤلاء المشركين من هذه الآيات التي سلطها الله عليهم، من الأغلال والسدود، فلقد أقامت هذه الآفات غشاوة على عيونهم، فهم لا يبصرون.. وكيف يبصر من عاش فى هذه الحدود التي لا تتجاوز محيط جسده؟ وماذا يبصر لو كان له أن يبصر؟.
قوله تعالى:
«وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» وهذا ما يقضى به الوضع الذي عليه هؤلاء المشركون.. إنهم لن يتحولوا عن حالهم التي هم فيها، فلقد جمدوا على حالتهم تلك، كما تحنط الموتى فى توابيتها «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101 يونس) .. وإذا فلا يقف النبي كثيرا عن هؤلاء المشركين الذين وقفوا من الدعوة هذا الموقف المحادّ لها، المتربص بها..
قوله تعالى:
«إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» أي إنما تنفع النذر، والعظات، من استمع إلى آيات الله، فاتبعها، وآمن(11/910)
بها، وخاف ربه، وعمل ليوم القيامة، مصدّقا بما وعد به، وإن لم يره..
وعلى هذا، فليوجه النبي وجهه كله إلى المؤمنين، وليعطهم جهده كله، ففى هذا الميدان يثمر عمله، ويقع موقعه من أهله..
وفى قصر الإنذار على من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب- فى هذا إشارة إلى الاستعداد الفطري للإيمان عند هؤلاء المنذرين، وأنهم بفطرتهم السليمة كانوا والإيمان الذي يدعون إليه على موعد، بل إنهم فى انتظار له، وشوق إليه، قبل أن يطلع عليهم..
وفى جعل الخشية، للرحمن، إشارة إلى أنها خشية إجلال وتعظيم،.. خشية حب وتوقير، لا خشية جبروت وقهر.. إنها خشية «الرحمن» الذي وسعت رحمته كل شىء..
وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» .. هو ما يلقى به النبي هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا له بمجرد أن دعاهم إلى الله..
قوله تعالى:
«إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله، وهى من الغيب الذي آمن به المؤمنون، والذي كان مضلّة للمشركين، وهو الحياة بعد الموت.
والحساب والجزاء..
وفى هذا التقرير يتأكد للمؤمنين إيمانهم بهذا الغيب، وتزداد خشيتهم لله..
- وقوله تعالى: «وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا» أي نحصى على الموتى ما قدموا بين أيديهم من أعمال لهذا اليوم، من حسن أو سيىء، ونسجلها فى كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها..(11/911)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
- وقوله تعالى «وَآثارَهُمْ» معطوف على «ما» الموصولة، وهى مفعول به لنكتب- أي نكتب ما قدموا ونكتب آثارهم، أي ما خلفوه وراءهم من آثار صالحة أو فاسدة..
والآثار هنا، هى ما يبقى للأموات فى الحياة بعد موتهم من آثار فى الناس، فتكون منارات هدى، أو سبل ضلال.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
والإمام المبين، هو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب..
الآيات: (13- 27) [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)(11/912)
التفسير:
مناسبة ضرب هذا المثل هنا، هو أن الآيات السابقة كشفت عن الطبيعة الإنسانية، وأن الناس على طبيعتين: أصحاب طبيعة متأبيّة على الخير، مغلقة الحواسّ عنه، لا يستجيبون له مهما جىء إليهم به من شتى الوسائل.. وأصحاب طبيعة أخرى مهيأة للإيمان، مستعدة له، متشوفة إليه، لا تكاد تهبّ عليهم نسمة من أنسامه العطرة، حتى يتنفسوا أنفاسه، ويملئوا صدورهم به..
وفى هذا المثل، عرض للناس فى طبيعتيهم هاتين معا..
قوله تعالى:
«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» ..
[القرية.. والمرسلون إليها] المفسّرون على إجماع بأن هذه القرية، هى «أنطاكية» .. وعلى إجماع كذلك بأن هؤلاء الرسل، هم من حواريى المسيح، ورسله الذين بعثهم لينشروا الدعوة فى الناس..
وهذا التأويل للقرية وللرسل، لا يقوم له شاهد من القرآن الكريم، ولا تدل عليه إشارة من إشاراته القريبة أو البعيدة.. وإنما هو من واردات أهل الكتاب، وأخبارهم. والخبر هنا وارد من المسيحية، وينسب إلى وهب(11/913)
ابن منبّه، الذي تلقاه من المسيحية، مما يعرف عند المسيحيين بأعمال الرسل، الملحقة بالأناجيل..
فهذا التأويل- فى نظرنا- لا يعوّل عليه، ما دام غير مستند إلى دليل من القرآن الكريم ذاته.. فالقرآن الكريم- فى رأينا- يفسر بعضه بعضا، وهو كما وصفه الحق سبحانه وتعالى فى قوله: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (89: النحل) فكيف لا يكون تبيانا لما فيه؟.
وندع القرية واسمها، والرسل والصفة التي لهم- ندع هذا الآن، ونعرض المثل على أن القرية واحدة من القرى المبثوثة فى هذه الدنيا، وأن الرسل، هم بعض رسل الله إلى عباده..
فهذه قرية، قد جاءها رسل، مبعوثون من عند الله، وقد دعوا أصحابها إلى الإيمان، فلم يلقوا منهم إلّا الصد اللئيم، والقول القبيح..
أرسل الله سبحانه إليهم رسولين معا.. فكذبوهما.. «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» أي أمدهما الله برسول ثالث، يقوّيهما، ويشد أزرهما.. فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وإصرارا على الكفر والضلال:
«إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ.. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» ..
ولم يكن للرسل بين يدى هذا القول المنكر، إلا أن يقولوا ما حكاه القرآن عنهم:
الُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»
..
ويجىء ردّ القوم على الرسل، زاجرا مهددا:(11/914)
«قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ويلقى الرسل هذا الرد الفاجر، بملاطفة، ووداعة:
«قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ..!» أي شؤمكم معكم، ومستقرّ فى كيانكم الفاسد، الذي يمسك عليكم هذا الداء الذي أنتم فيه.. وليس هو شؤما واردا عليكم من خارج، فإن ما معكم من الشؤم لا يحتاج إلى مزيد..
- «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟» ألأن ذكرتم بما أنتم فيه من غفلة، وما أنتم عليه من ضلال، ترموننا بهذا الاتهام الكاذب الفاجر؟.
- «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» - أي متجاوزون الحد فى الضلال..
وينتهى موقف الرسل مع أصحاب القرية إلى هذا الطريق المسدود..
ثم لا يلبث أن يجىء صوت العقل، من واحد من أهل القرية، فيكسر هذا الحائط، ويدخل على القوم منه، ويأخذ موقفه مع الرسل، داعيا إلى الله..
«وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» .. فأى دعوة أولى من هذه الدعوة، بالقبول لها، والاحتفاء بأهلها؟ إنها دعوة من أهل الهدى، الذين لا يسألون أجرا على هذا الهدى الذي، يقدمونه ويدعون إليه..
فلم التمنّع والإعراض عن خير يبذل بلا ثمن؟ ذلك لا يكون إلا عن سفه وجهل معا..
ثم يعرض هذا الوافد الجديد، نفسه عليهم، فى الزىّ الجديد الذي تزيّا، والخير الموفور الذي بين يديه من تلك الدعوة..(11/915)
«وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
أسئلة إنكارية، ينكر بها الرجل على نفسه ألا يكون فى العابدين لله، الذي فطره، والذي إليه موعده ولقاؤه مع الناس، يوم الحشر، إنه لا بد أن يكون له إله يعبده.. أفيترك عبادة من خلقه ورزقه، والذي يميته ثم يحييه..
ويعبد آلهة من دون الله، إن يرده الله بضر لا تغنى عنه هذه الآلهة شيئا، ولا تمد يدها لإنقاذه مما يريده الله به من ضر؟ «إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» !! وأي ضلال بعد هذا الضلال، الذي يدع فيه الإنسان حبل النجاة الممدود إليه، ثم يتعلق بأمواج البحر الصاخبة، وتيارانه المتدافعة؟.
«إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» . وهكذا يقولها صريحة مدويّة فى وجه القوم.. إنها هى كلمة النجاة، وحسبه أن يمسك بها، وليكن ما يكون..!
وألا فليسمعوها عالية مدوية متحدية.. إنها كلمة الحق التي يجب أن ترتفع فوق كل كلمة، وتعلو على كل نداء.
«قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» - هذا هو الجواب الذي تلقاه الرجل المؤمن، ردّا على إقراره بالإيمان بربه.. وهو الجزاء الذي يلقاه كل مؤمن صادق الإيمان..
والقول الذي قيل لهذا المؤمن، إما أن يكون فى الحياة الدنيا، بوحي من الله سبحانه وتعالى، وإما أن يكون ذلك بعد الموت، حيث يعلم المرء مكانه من الجنة أو النار فيقال له يومئذ: «ادخل الجنة» فهى الدار التي أعدّها الله لك.
«قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» !(11/916)
إنه يتمنّى لقومه أن ينالوا هذا الخير الذي ناله، بإيمانه بربه، وأن يعلموا ما أعد الله للمؤمنين من مغفرة وإكرام.. وأنّى لهم أن يعلموا هذا الغيب؟
وأنّى لهم أن يؤمنوا به، وقد أنكروا ما لمسوه بحواسهم، وكذبوا ما رأوه بأعينهم؟ ..
هذا هو المثل، وتلك هى مواقف الشخصيات والأحداث فيه..
وعلى ضوء هذا المثل يرى المشركون الضالون، إلى أين يسير بهم كفرهم وضلالهم، وإلى أين ينتهى الإيمان بالمؤمنين الذين استجابوا لرسول الله، واستقاموا على الطريق الذي يدعوهم إليه!.
والصورة التي يصورها المثل واضحة مشرقة، لا ينقصها أن يفتقد اسم القرية فيها، ولا أن تغيب أسماء الرسل ومشخصاتهم.. إنها مستغنية عن كل هذا..
وإذا كان لا بد من التطلع إلى ما وراء هذه الصورة، والنظر إلى موقع القرية من هذا العالم، وإلى أشخاص الرسل من بين رسل الله- إذا كان لا بد من ذلك، فليكن النظر مقصورا على كتاب الله، وليكن التطلع محجوزا فى هذه الحدود.. لا يتجاوزها..
وننظر فى القرآن الكريم فنرى:
أولا: أن القرآن الكريم، لم يتحدث عن رسولين حملا رسالة واحدة، إلى جهة واحدة، غير موسى وهرون..
وثانيا: أن هذين الرسولين الكريمين، قد حملا رسالتهما إلى فرعون..
وثالثا: أنه قد قام من قوم فرعون رجل مؤمن، خرج على سلطان فرعون، وعلى ما كان عليه قومه من متابعة فرعون فى كفره وضلاله.(11/917)
ورابعا: أن القرآن الكريم، يعقد الصلة فى أكثر من موضع منه، بين فرعون، وبين هؤلاء المشركين من قريش..
فإذا نظرنا إلى المثل على ضوء هذه الإشارات المضيئة من القرآن الكريم، نجد:
أولا: أن قوله تعالى: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما» يقبل التأويل، على أن الرسولين، هما موسى، وهرون، كما يقول تعالى: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» (43: طه) ..
وثانيا: أن قوله تعالى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» يقابله فى قصة موسى وهرون مع فرعون، حديث عظيم فى القرآن العظيم، عن رجل لم يكشف القرآن عن اسمه، وإنما أشار إلى أنه من آل فرعون.. أي خاصته، وذوى قرابته..
فهو إنسان ذو شأن فى المجتمع الفرعوني.. ومع هذا لم يكشف القرآن عن اسمه.. إذ ما جدوى الاسم، فى مقام الوزن للقيم الإنسانية فى الناس؟ إن المعتبر هنا هو الصفة لا الموصوف، وذات المسمّى لا الاسم..
يقول القرآن الكريم، عن هذا الرجل المؤمن: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ(11/918)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ... »
(28- 34: المؤمن) .
ثم تمضى الآيات، فتذكر دعوة هذا الداعي إلى الله.. فيقول سبحانه:
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» (38- 45: المؤمن) ..
هذه دعوة رجل صاحب رسالة.. إنها إن لم تكن على يد رسول، فهى رسالة رسول، وحقّ لصاحبها أن يدخل فى زمرة الرسل.. وهذا هو السر فى التعبير القرآنى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» أي فعززنا الرسولين بثالث، وهذا يمكن أن يحمل- وهو فى إطلاقه كهذا- على محملين، فيقدّر برسول ثالث، أو معين ثالث، بعد المعين الثاني، الذي كان معينا للرسول الأول، فهو تعزيز بعد تعزيز.. ولقد عزّز موسى بهارون، وكان هذا الرجل المؤمن تعزيزا لهما..
بقيت مسألة تحتاج إلى نظر.. وهى أن المثل ذكر مع الرسل الثلاثة، رجلا، كانت له دعوة إلى الله كدعوة هؤلاء الرسل، وأنه جاء من أقصى(11/919)
المدينة، وهى القرية التي جاء ذكرها فى أول المثل.. وهذا الرجل يكاد يكون صورة مطابقة لمؤمن آل فرعون، الذي قلنا عنه إنه رسول، أو حوارىّ رسول. فمن هو هذا الرجل؟ وهل له مكان فى قصة موسى مع فرعون؟.
ونعم، فإننا نجد فى قصة موسى مع فرعون، رجلا آخر، جاء من أقصى المدينة، يسعى.. ولكنه فى هذه القصة لم يكشف عن دعوة له إلى الله، وإنما جاء ناصحا لموسى، هاتفا به أن يخرج من المدينة، فإن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، كما يقول تعالى فى سورة القصص: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» (آية 20) .
ولم تكن للرجل دعوة إلى الله هنا، لأن موسى لم يكن قد أرسل بعد..
وربما كان الرجل مؤمنا بالله، يدين بالتوحيد عن طريق اليهودية، أو عن طريق النظر الحرّ.. وعلى أىّ فهو على غير دين فرعون.. وقد ظل الرجل على إيمانه إلى أن بعث الله موسى رسولا، فلما جاء موسى يدعو فرعون إلى الله، وعرض بين يديه تلك المعجزات، ازداد الرجل إيمانا، فأصبح داعية إلى الله، يدعو قومه إلى الإيمان بالله..
وعلى هذا، فإننا نجد فى القصة والمثل رجلين:
أحدهما، وهو المؤمن الذي من آل فرعون. والذي وقف مع موسى وهرون موقف الداعية إلى الله، وأنه كان على إيمان بالله، ولكنه كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون، فلما رأى أن فرعون يدبّر لقتل موسى، فزع لهذا الأمر، وأعلن إيمانه، ووقف مع موسى وهرون، يحاجّ فرعون، ويجادله، إذ كان- مع إيمانه- ذا جاء وسلطان.. إنه من آل فرعون! ..(11/920)
أما الرجل الآخر، فهو الذي جاء إلى موسى، قبل الرسالة، وحذّره مما يدبر له القوم، ونصح له بالفرار من المدينة..
وبهذا نرى أن أحد الرجلين، خلّص موسى من القتل بعد الرسالة، على حين أن الآخر قد خلّصه من القتل أيضا، ولكن قبل الرسالة..
ومسألة أخرى، تحتاج إلى نظر أيضا..
إذا كان هذان الرجلان هما المشار إليهما فى المثل المضروب، فى سورة «يس» باعتبار أن الرجل الذي من آل فرعون هو الرسول، أو حوارىّ الرسول، وأن الآخر هو الذي جاء من أقصى المدينة، وقال: يا قوم «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ الآيات» - إذ كان ذلك كذلك، فلم نوه القرآن الكريم فى المثل المضروب بالرجل الآخر، ولم يذكر شيئا عن موقف الرجل الأول، الذي هو من آل فرعون، والذي قلنا إنه هو الذي عزّز به الرسولان الكريمان؟:
والجواب على هذا- والله أعلم- من وجهين:
فأولا: أنه بحسب مؤمن آل فرعون تنويها، أن يضاف إلى الرسولين الكريمين، وأن يكون له المكان الثالث معهما.. فقد رفع إلى درجة رسول.
وثانيا: وبحسبه شرفا وتكريما أن تسمى فى القرآن سورة باسمه، هى سورة «المؤمن» والتي تسمى «غافر» أيضا.. وقد ذكرت فى هذه السورة رسالته كلها، والتي قلنا عنها إنها رسالة رسول..!
هذا، والله أعلم..(11/921)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة من أنباء الغيب 475 الليل وما وسق 499 فتنة الترتيب النزولى للقرآن 632 المرأة والرجل.. فى بيت النبوة 688 زينب.. وزواج النبي منها 715 الأمانة التي حملها الإنسان.. ما هى 761 الرسول.. وعموم الرسالة الإسلامية 812 الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة 871 القرية والمرسلون.. إليها 913 تم الجزء الثاني والعشرون، ويليه الجزءان الثالث والعشرون والرابع والعشرون إن شاء الله.؟(11/922)
كتب للمؤلف إعجاز القرآن.. جزءان.
قضية الألوهية.. بين الفلسفة والدين (كتابان) .
النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم: إنسان الإنسانية ونبىّ الأنبياء.
القضاء والقدر بين الفلسفة والدين.
السياسة المالية فى الإسلام.
عمر بن الخطاب.. الوثيقة الكاملة.
من الحقل الإسلامى: دراسات إسلامية.
الدعاء المستجاب.
فى طريق الإسلام: دراسات إسلامية.
القصص القرآنى.
محمد بن عبد الوهاب (الدعوة الوهابية) .
الخلافة والإمامة: ديانة وسياسة.
نشأة التصوف.
الأدب الصوفي فى مفهوم جديد.
التعريف بالإسلام.
المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل.(11/923)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
[الجزء الثاني عشر]
[تتمة سورة يس]
الآيات: (28- 44) [سورة يس (36) : الآيات 28 الى 44]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
التفسير:
ينتهى المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لأصحاب القرية فى الآية السابقة على هذه الآيات- ينتهى بهذا التعقيب الذي بدأت به الآيات التي نحن بين(12/925)
يديها الآن، ومن هذا التعقيب يكون المنطلق الذي تنطلق فيه الآيات بعد هذا، فتواجه المشركين الذين استمعوا إلى هذا المثل، وتعرض عليهم مشاهد من قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن آثار رحمته فى خلقه، لعلهم يجدون فى هذه المشاهد، ما يفتح قلوبهم وعقولهم إلى الله، حتى يؤمنوا، ويلحقوا بركب المؤمنين، قبل أن تفلت من أيديهم تلك الفرصة السانحة، ثم لا يكون منهم إلا الحسرة والندم، ولات ساعة مندم.
قوله تعالى:
«وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» .
هو تعقيب على قوله تعالى على لسان العبد المؤمن: «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» ..
إنهم لن يعلموا شيئا، ولو علموا ما آمنوا.. إنهم لا يؤمنون إلا إذا نزل عليهم ملائكة من السماء، بعد أن رفضوا الرسل، لأنهم بشر، وقالوا «ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» .. والله سبحانه لم يرسل إلى قوم ملائكة حتى تتحقق أمنيتهم فيهم، وما كان الله مرسلا ملائكة إلى هؤلاء المشركين، الذين كانوا يقولون: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟» (21: الفرقان) ويقولون: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (7: الفرقان) .
وإذن فليمت هؤلاء المشركون على شركهم، كما مات فرعون وقومه من قبلهم على كفرهم..
وهذا ما يشهر إليه قوله تعالى فى الآية التالية:
«إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» .. إنها صيحة(12/926)
الموت، التي يقضى بها على النّاس، مؤمنهم، وكافرهم..
قوله تعالى:
«يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
يمكن أن يكون هذا نداء من الحق سبحانه وتعالى للحسرة، لتقع على الكافرين المكذبين برسل الله، وأن تشتمل عليهم، ليذوقوا عذاب الندم، إلى جانب العذاب الجهنمى، نعوذ بالله منهما.. وهذا ما يشير إليه سبحانه فى قوله تعالى: «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» (156: آل عمران) .
ويمكن أن يكون ذلك نداء تعجبيّا من الوجود كلّه، لهذه الحسرة التي تقع على الناس، استفظاعا لها، وإشفاقا منها أن تمتد ظلاله الكئيبة إلى كل موجود.
- وقوله تعالى: «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو على التقدير الأول، تعليل للحسرة التي ساقها الله إلى المكذبين والضالين.. وهو على التقدير الثاني، جواب لسؤال ينطق به لسان الحال، وهو: أية جناية جناها الناس حتى يساق إليهم هذا البلاء العظيم؟ فكان الجواب: «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
وفى وصف الناس بأنهم عباد، إشارة إلى أنهم- وهم عباد- لم يرعوا حق العبودية لله، بل كفروا بالله، وكذبوا رسله، واستهزءوا بهم.
والمراد بالعباد، هم الناس جميعا على اختلاف أوطانهم، وأزمانهم..
إنهم هكذا دأبهم وقليل منهم من يؤمن بالله، ويصدّق رسله.. أما الكثرة منهم، فهم على هذا الوصف!.(12/927)
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» .
الخطاب هنا للمشركين. وهو تقرير لتلك الحقيقة التي يشهدونها عيانا، وهى أن الهالكين قبلهم من الأمم السابقة، كثيرون، وقد ذهبوا وذهبت آثارهم، وأنهم لن يرجعوا مرة أخرى إلى هذه الدنيا.. فلم يشتدّ حرص هؤلاء المشركين على دنياهم تلك، التي كل ما فيها باطل وقبض الريح؟ ألا يفكرون فى حياة أخرى وراء هذه الحياة، أبقى، وأعظم؟.
قوله تعالى:
«وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» .
«إن» هنا نافية بمعنى «ما» و «لما» بمعنى إلّا، أي ما كلّ إلا جميع محضرون لدنيا.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» .
والمعنى، أنه إذا كانت القرون الكثيرة التي هلكت لم ترجع إلى الدنيا مرة أخرى. فإن لها رجعة إلى الله.. وحضورا بين يديه.. فكل من هلك من الناس راجع إلى الله، للمساءلة، والجزاء..
وفى قوله تعالى: «مُحْضَرُونَ» - إشارة إلى أن هناك قوة تستدعيهم للحضور بين يدى الله، وأن ذلك ليس عن اختيار منهم، ولو كان ذلك كذلك لكان للكافرين وأهل الضلال مهرب إلى عالم الفناء الأبدى، حيث يذهبون ولا يعودون، كى يفلتوا من العذاب الأليم.
وإذا كان الحديث هنا عن المجرمين، فقد كان قوله: «مُحْضَرُونَ» مناسبا لحالهم، التي هم فيها، والتي يمنون النفس بأن لارجعة إلى حياة بعد(12/928)
الموت، كما يقولون: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (29. الأنعام) .
أما إذا كان الحديث عامّا إلى الناس جميعا، مؤمنين وكافرين، فأكثر ما يجىء الحديث عن البعث بالرجعة إلى الله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
(8: العلق) .
وكما يقول سبحانه: «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» (93: الأنبياء) .. والرجوع هنا، هو عودة إلى المبدأ الذي بدأت منه رحلة الحياة.. حيث كانت الحياة من عند الله، ثم رجعت إليه..
قوله تعالى:
«وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» .
وهذا شاهد يشهد للمكذبين بالبعث، بأنه أمر ممكن، وإن إنكارهم له يقوم على فهم خاطئ لقدرة الله.. فلو أنهم نظروا إلى هذه الأرض الميتة، وكيف يحيى الله مواتها، ويبعث فيها الحياة، ويخرج من أحشائها صورا لا حصر لها من الكائنات الحية- لو نظروا إلى هذا لرأوا أن بعث الأجساد الهامدة لا يختلف فى شىء، عن بعث الحياة فى الأرض الجديب.
وقوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ» مبتدأ وخبر، وقدم الخبر «آية» على المبتدأ «الأرض» للإلفات إليه، لأنه الآية المراد النظر فى وجهها، وأصل النظم:
«والأرض الميتة آية لهم» وقوله تعالى: «أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» هو بدل من الأرض الميتة.. وهو بيان لها، يكشف عما فى كيان هذه الآية التي تخرج من الأرض.. والحبّ، هو ما يخرج من نبات البرّ، والشعير والأرز، ونحوها..(12/929)
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ» خصت جنات النخيل والأعناب من بين أنواع الفاكهة بالذكر، لأن هاتين الشجرتين- النخلة، والكرمة- غاية ما يبلغه النبات من كمال فى سلّم الترقّي..
فهما على قمة العالم النباتي، وما تحتهما تبع لهما.. وإلى هذا يشير الحديث الشريف:
«أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم» - وهذا يعنى أن النخل قد أشرف من قمة عالم النبات على عالم الحيوان، وكاد يلامس هذا العالم، ويحسب من أفراده.. وقدم النخيل على الأعناب، لأنه أرقى درجة منه..
قوله تعالى:
«لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ» يمكن أن تكون اللام فى قوله تعالى: «لِيَأْكُلُوا» للتعليل، أي أحيينا الأرض، وأنبتنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ليكون ذلك نعمة من نعمنا عليهم، لحفظ حياتهم، بالأكل من ثمرات هذه الجنات..
ويمكن أن تكون اللام للأمر، وفى هذا الأمر دعوة لهم إلى الأكل من تلك المائدة التي مدها الله للعباد، وجعل عليها ما تشتهى الأنفس من طيبات- وفى هذا الأمر إلفات لهم إلى هذا الإحسان، وذلك الفضل من الله، وإلى ما ينبغى لله من شكر وحمد، وهذا مثل قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى» (53- 54: طه) والضمير فى ثمره، يعود إلى النخيل، لأنه المقدم رتبة على العنب، وهو(12/930)
أكثر أنواعا وألوانا منه، فلا يعدو أن يكون العنب لونا من ألوان الثمر- وقوله تعالى: «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» يمكن أن تكون الجملة معطوفة على قوله تعالى: «مِنْ ثَمَرِهِ» أي ليأكلوا من ثمره من غير صنعة، وليأكلوا ما عملته أيديهم من هذا الثمر، وصنعته..
ويمكن أن تكون الجملة حالية، والواو واو الحال، وما نافية.. ويكون المعنى، ليأكلوا من ثمر هذا الشجر، والحال أنه لم تعمله أيديهم، ولم يكن فى قدرتهم أن يخرجوا شجرة منه، أو أن يصنعوا ثمرة من هذا الشجر.
- وقوله تعالى: «أَفَلا يَشْكُرُونَ» حثّ لهم على الشكر، وإنكار لموقفهم من هذه النعم موقف الجاحد المنكر للمنعم بها..
قوله تعالى:
«سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» هو تسبيح بحمد الله، وتنزيه له عن الشريك والولد، وتمجيد لجلاله وقدرته.. وهذا التسبيح والحمد، بلسان الوجود كله. وأنه إذا خرست ألسنة الضالين والمكذبين أن يسبحوا بحمد الله، وأن ينزهوه ويمجدوه، فإن الوجود كلّه لسان تسبيح، وتنزيه، وتمجيد لله رب العالمين: «الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» فالمخلوقات كلها من أزواج، هى الذكر والأنثى.. كما فى عالم الأحياء من حيوان، ونبات، وهى الشيء ومقابله، كما فى عالم المعاني. كالصدق والكذب، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والضلال والهدى.. وقد تحدثنا عن ذلك فى غير موضع من قبل.(12/931)
قوله تعالى:
«وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» أي والليل آية لهم.. وقوله تعالى: «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» جملة حاليّة من الليل..
وسلخ النهار من الليل، كشطه عنه، وإزالة القشرة النورانية التي تكسوه، كما يكسو الجلد الحيوان.. فإذا سلخت هذه القشرة النورانية عن كيان الكائنات، سادها الظلام..
وفى قوله تعالى: «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» - إشارة إلى حركة انسحاب النور، بحركة الأرض، ودورانها حول الشمس، فينسلخ النور شيئا فشيئا عن الأماكن التي تطلع عليها الشمس، وذلك كما يسلخ الجلد عن الحيوان، شيئا فشيئا.. لا دفعة واحدة..
وفى قوله تعالى: «فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» - إشارة إلى أن كل إنسان يكتسى من النور حلة، فإذا سلخت عنه صار جسما معتما مظلما، وأصبح قطعة من هذا الظلام، تجتمع قطعه بعضها إلى بعض، فإذا هى الليل..
قوله تعالى:
«وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي وآية لهم الشمس.. فهذه الشمس تسير فى مدار محدود لها، وتتحرك فى فلك لا تتعداه ولا تخرج عنه.. وذلك بتقدير «العزيز» ذى العزة والسلطان «العليم» الذي تجرى أحكامه ومقاديره بعلم نافذ إلى كل شىء، متمكن من كل كبيرة وصغيرة فى هذا الوجود.
وجريان الشمس، هو حركتها فى فلكها المرسوم لها. وهى تقطع دورة هذا الفلك فى سنة كاملة، وفى سرعة مذهلة.(12/932)
قوله تعالى:
«وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» أي أن القمر يأخذ كل ليلة منزلا من الأرض، على مدى شهر قمرى، ففى أوسط منازله يبدو قمرا منيرا، يغمر نور الشمس وجهه كله المواجه للأرض، المتوسطة بينه وبين الشمس، فيرى بدرا كاملا، ثم يرجع إلى الوراء منزلة كل ليلة، وذلك لبطء دورانه عن دوران الأرض، فيقلّ مع كل ليلة أو منزلة، الوجه المقابل منه للشمس، ويظل يتناقص شيئا فشيئا مدة نصف شهر قمرى، حتى يكون وجهه المواجه للأرض متوسطا بين الأرض والشمس، وهنا يكون وجهه المواجه للشمس مضيئا بضوئها، على حين يكون وجهه المواجه للأرض معتما، فإذا نزل منزلته فى آخر ليلة لم ير من وجهه شىء، وسمى محاقا، لأن نوره الذي كان يبدو منه قد محق.. ثم يبدأ يولد من جديد.. فإذا كانت الليلة الأولى أو المنزلة الأولى لمولده، لم ير منه إلا قوس صغير، أشبه بقلامة الظّفر، ويسمى هلالا، غائرا فى الشفق، فيختلط الضوء القليل الذي يبدو منه بحمرة الشفق، فيكون له تلك الصورة التي صورها له القرآن الكريم أدق تصوير وأروعه، حين شبهه بالعرجون القديم..
والعرجون، هو عذق النخلة، الذي يحمل النمر، ومنه تتدلى عناقيد النمر، ولونه أصفر، فإذا جفّ، وطال عليه الزمن تقوس شكله وصار لونه ضاربا إلى الحمرة الداكنة.. وهذه التحركات والتغيرات التي تظهر على وجه القمر ليلة بعد ليلة، جديرة بأن تستثير التفكير والتأمل، وأن تدعو العقل إلى النظر فيما وراء هذه المنظر الظاهر للقمر، إلى وضعه فى المجموعة الشمسية، وإلى صلته بالأرض، وإلى إمكان الوصول إليه، ولو على سبيل الفرض أولا، ثم اتخاذ الأسباب التي يمكن تحقيق هذا الفرض بها.. إن الملاحظة للشىء، هى الطريق الطبيعي(12/933)
للكشف عن حقيقته.. وليس مثل هذا العرض الذي عرضه القرآن الكريم للقمر داعية إلى الملاحظة والتأمل، لو أن ذلك وجد همما متطلعة، وعزائم جادة..!!
قوله تعالى:
«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» أي أن من قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن إحكام علمه، أن أجرى هذه العوالم بعلمه، وسخّرها بقدرته، وأقامها على نظام محكم، وأجراها فى مجار لا تتعداها.. فلا يصطدم بعضها ببعض، ولا يأخذ بعضها من بعض وضعا غير الذي أقامه الله فيه.. فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر. فهى مع سرعتها المذهلة، التي تبلغ ألوف المرّات بالنسبة لسرعة القمر فإنها لا تدركه..
فهى لها فلك تدور فيه، كما للقمر فلكه الذي يدور فيه..
وكما أن الشمس لا تدرك القمر، كذلك الليل لا يسبق النهار، إنهما يجريان بحيث يتبع أحدهما الآخر، دون أن يسبقه.. «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ،.
وجعل الليل وراء النهار، لأن النهار أسبق من الليل هى دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق.. فالأرض فى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق، إنما تجرى نحو النور، ومن وراء النور الظلام.. فالنور دائما أمام الظلام، وهما معا فى حركة وجريان. فالآية الكريمة تشير إلى حركة الأرض وإلى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق..
واستعمل مع هذه العوالم ضمير العقلاء- إشارة إلى هذا النظام المحكم(12/934)
الممسك بها، والذي يقيمها على طريق مستقيم، كما يقيم العقل السليم صاحبه على طريق مستقيم..
قوله تعالى:
«وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» .
أي ومن آياتنا التي نعرضها على هؤلاء المشركين، والتي تحمل إليهم الدلائل على قدرتنا، وإحساننا- أننا «حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» .
والفلك. يطلق على الواحد والجمع من السفن، قال تعالى: «فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» . فهى هنا سفينة واحدة، وقال تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ.» وهى هنا جمع.. والمراد بها فى الآية الجمع كذلك، لأنه وصف بمذكر، وهو قوله تعالى: «الْمَشْحُونِ» ، وعاد عليها الضمير كذلك مذكرا فى قوله تعالى: «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ» ..
فعومل بهذا معاملة الجنس.. والمشحون: الممتلئ..
والمراد بالذرية: الأبناء، وهى، تجمع على ذرارى، وذريات، وأصلها من الذرء، وهو إظهار الشيء، يقال ذرأ الله الخلق، أي أوجد أشخاصهم، والذرأة بياض الشعر.. وفى الإشارة إلى حمل ذرياتهم دون حمل آبائهم إلفات إلى ما تحمل الفلك لهم من فلذات أكباد، ونفائس أموال وأمتعة، فتحفظها، وتصل بها إلى غايتها.. وفى هذا ما يريهم فضل الله عليهم، وإحسانه بهم، فقد لا يرى الإنسان فضل النعمة، ولا يقدرها قدرها إذا هى لبسته هو، فإذا رآها فى غيره عرف لها قدرها، وذكر فضلها..(12/935)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قوله تعالى:
«وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ» معطوف على قوله تعالى: «حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ» أي وآية لهم أنا خلقنا لهم من مثل هذا الفلك، مراكب يركبونها فى البر، وهى الإبل التي تسمى سفائن الصحراء، والخيل، والبغال والحمير، وغيرها مما يركب، ويحمل عليه..
قوله تعالى:
«وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ..»
أي أنه إذا كان من قدرة الله أن سخّر الفلك لتجرى فى البحر بأمره، فلا يغرق راكبوهم فإن من قدرته سبحانه أن يغرق هذه السفن، بمن فيها من أولاد وأموال، فلا يجدون من يسمع لهم صراخا، أو يستجيب لهم، أو يقدر على إنقاذهم إن سمع واستجاب.. فهم هلكى لا محالة، إلّا أن تتداركهم رحمة الله، وإلا أن تكون لهم بقية من أجل..
فقوله تعالى: «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» استثناء من قوله تعالى:
«فَلا صَرِيخَ لَهُمْ» أي لا ينقذهم منقذ أبدا إلا رحمة الله، وما لهم من أجل لم ينته بعد..
الآيات: (45- 54) [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 54]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)(12/936)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .
لا تزال الآيات الكريمة، تلقى المشركين بالوعيد والتهديد، بعد أن عرضت عليهم من مشاهد قدرة الله ما فيه عبرة لمعتبر، ولكنهم ذوو أعين لا تبصر، وآذان لا تسمع، وقلوب لا تلين..
فإذا دعوا إلى أن يتقوا الله فيما بين أيديهم من نعم، يستقبلونها من الله، وما خلفهم من نعم أفاضها الله عليهم، لعلهم ينالون رحمة الله، ويدخلون فى عباده المتقين- إذا قيل لهم هذا القول، لم يقفوا عنده، ولم يلتفتوا إليه،(12/937)
ومضوا على ما هم عليه من كفر بنعم الله ومحادّة له..
وجاء القول بصيغة البناء للمجهول «قِيلَ» ، للإشارة إلى أنهم لا يقبلون هذا القول الذي يدعوهم إلى تقوى الله، لا لأن رسول الله هو الذي يدعوهم إليه، وإنما لأن طبيعتهم لا تقبله، من أية جهة تأتهم به، ومن أي إنسان يدعوهم إليه..
وحذف جواب الشرط «إذا» لدلالة حالهم عليه.. فهم على إعراض أبدا عن كل خير، وحق، وإحسان..
وقوله تعالى:
«وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» .
هو مما يشير إلى جواب الشرط فى الآية السابقة.. فهو حكم عليهم بأنهم لا يلتقون بآية من آيات ربهم، إلا أعرضوا عنها، مكذبين بها، ساخرين منها..
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
وهذه آية من آيات الله، تدعوهم إلى خير، وإلى بر وإحسان، بأن ينفقوا مما رزقهم الله- فماذا كان جوابهم على هذه الدعوة من صاحب الأمر، وصاحب الرزق؟. كان جوابهم هو:
- «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وهذا جواب خبيث ماكر، يكشف عن كفر غليظ..(12/938)
إنهم فى سبيل الغلب بالمماحكة والجدل، يؤمنون بالله، ويؤمنون بمشيئته فى خلقه، وبتصريفه المطلق لكل أمر.. فيقولون ردّا على قول الله أو الرسول أو المؤمنين لهم: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» - يقولون: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟» إن تلك هى مشيئة الله فى هؤلاء الجياع الذين ندعى إلى إطعامهم..
إن الله أراد لهم أن يجوعوا، ولو أراد أن يطعمهم لأطعمهم.. فإنه قادر، وخزئنه لا تنفد!! فلم يدعوننا نحن إلى إطعامهم، وهو القادر، ونحن العاجزون، وهو الغنى ونحن الفقراء؟ إن أنتم أيها المؤمنون «إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ! لا تعرفون الله، ولا تقدرونه قدره!!.
وهذا الرد من المشركين، هو ردّ من خذله الله، وأضله على علم.. فهم إذ يدعون إلى الإيمان بالله، لا يسمعون، ولا يعقلون.. وهم إذا دعوا إلى ما تقتضيه دواعى المروءة الإنسانية، من الإحسان إلى إخوانهم الفقراء، يقيمون من الله، ومن علمه وقدرته حجة كيدية، يبطلون بها الدعوة التي يدعون إليها..
ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، معترفين بمشيئته فى خلقه، لاستجابوا لما يدعوهم الله إليه، من الإنفاق فى سبيل الله..
وفى الإظهار بدل الإضمار فى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من قالوا- كشف عن الوصف الذي هو ملتصق بهم، وهو الكفر..
قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
الوعد: هو يوم القيامة، الذي يعدهم الرسول به، ويدعوهم إلى الاستعداد للقائه.
وسؤال المشركين عن موعد هذا اليوم، هو على سبيل التكذيب به،(12/939)
والإنكار له.. لا سؤال الذي جهل، ويريد أن يعرف.. ولهذا فهم يعقبون على هذا السؤال بقولهم: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وقولهم هذا للنبى والمؤمنين معه.. هو قول الشاك فى صدق من يسأله، بل هو قول من يتهم وينكر.
قوله تعالى:
«ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» أي ما ينظر هؤلاء المشركون المكذبون بيوم القيامة، إلّا صيحة واحدة تطلع عليهم من حيث لا يحتسبون، فتأخذهم وهم فى هذا الجدل والاختصام فيما يشغلهم من أمور دنياهم، وفيما يختصمون فيه مع المؤمنين فى أمر هذا اليوم..
والصيحة هى صيحة الموت العام، أو الخاص..
قوله تعالى «فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» .
أي أن هذه الصيحة التي تنزل بهم، إنما تأتيهم بغتة، فلا تدع لهم سبيلا إلى أن يتصرفوا قى شىء مما فى أيديهم، أو أن يوصوا بشىء منه إلى من يودون إيثاره بشىء مما كانوا يحرصون عليه، وقد أوشك أن يفلت من أيديهم، كما لا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم وأموالهم بعد موتهم.. أو أنهم لا يستطيعون أن يرجعوا إلى أموالهم وأهليهم، إذا جاءهم الموت، وهم فى مكان بعيد عنهم.. إن الموت لا ينتظر هم لحظة واحدة، إذا جاء أجلهم..
قوله تعالى:
«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» .
وإذا كان هؤلاء المقبورون من المشركين، لا يرجعون إلى أهليهم،(12/940)
فإنهم سيرجعون إلى الله، وسيلقون جزاء ما كانوا يعملون.. فكما ماتوا بصيحة واحدة، فإنهم سيبعثون كذلك بنفخة واحدة.
والصور: هو قرن ينفخ فيه، فيحدث صوتا عاليا..
والأجداث: جمع جدث، وهو القبر.
وينسلون: أي يخرجون مسرعين من القبور.
قوله تعالى:
«قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» .
وتأخذ المفاجأة المشركين والكافرين، لأنهم كانوا لا يتوقعون نشورا، فيفزعهم هذا البعث، ويتنادون بالويل.. لأنهم لا يدرون ماذا يراد بهم فى هذا العالم الجديد الذي أخذوا إليه؟ ويأخذهم العجب من تلك اليقظة التي أخرجتهم من هذا النوم الطويل.. «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» ؟ ويجيئهم الجواب: «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» .. هذا ما كنتم به تكذبون! قوله تعالى.
«إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» .
«صيحة» خبر كان منصوب، واسمها ضمير يعود على الصيحة فى قوله تعالى: «ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» .. أي ما كانت الصيحة إلا صيحة واحدة، أخرجتهم من قبورهم، ثم جمعتهم فى المحشر بين يدى الله..(12/941)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله تعالى:
«فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي ففى هذا اليوم، يلقى كل إنسان جزاء ما عمل، فلا تظلم نفس شيئا، فالمسىء لا يلقى من الجزاء إلا بقدر إساءته، والمحسن لا يبخس من إحسانه شىء، بل يوفّاه مضاعفا..
الآيات: (55- 70) [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 70]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)(12/942)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» هذا ما يلقّاه المؤمنون فى هذا اليوم الذي يساق فيه المشركون إلى موقف الحساب والجزاء.. وهذا الخبر هو تشويق للمؤمنين إلى هذا الجزاء الكريم الذي وعدوا به من ربّهم.. ثم هو فى الوقت نفسه عزل للكافرين عن هذا المقام، ومضاعفة للحسرة فى قلوبهم.. وسمى أهل الجنة أصحابها، تمكينا لهم منها، وإطلاقا لأيديهم بالتصرف فى كل شىء فيها، شأنهم فى هذا شأن المالك فيما ملك.. فضلا من الله وإحسانا.
وشغل أصحاب الجنة فى الجنة، هو ما يلقّون من ألوان النعيم، حيث يشغل هذا النعيم كل لحظة من حياتهم، إذ يجيئهم ألوانا وصنوفا، فإذا هم فى أحوال متغايرة متشابهة معا.. متغايرة فى صورها وآثارها، متشابهة فى إسعاد النفوس ونعيمها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (25: البقرة) وفاكهون: أي منعّمون بما يساق إليهم من ألوان النعيم، وأصله من الفاكهة، إذ كانت من طيبات المطاعم.. ومنه الفكاهة، وهى التخير من طرف الكلام وملحه.
وقوله تعالى: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ» .. إشارة إلى أن أهل الجنة يجدون نعيما خاصا، فى صور من الحياة التي كانوا يحيؤنها فى دنياهم، ومن هذه(12/943)
الصور، هذا الإلف الذي يجمع بين الزوج وزوجه، وبين الوالدين وأولادهم.. فهذه رغيبة من رغائب الناس فى الحياة، يسعد بها من وجدها فى زوجه وولده، ويشتهيها من حرمها، فلم يجد الزوج الموافقة، ولا الولد الذي يسعد به.. فإذا كانت الآخرة، كان من مطالب أهل الجنة أن يستعيدوا ما كانوا يجيدون من نعيم فى دنياهم، وأن ينالوا ما كانوا يشتهونه ولا يجدون سبيلا إليه.. وهذا- كما قلنا غير مرة- هو التأويل لهذا النعيم الحسى، ولهذه الصور الدنيوية من ذلك النعيم، الذي يدخل على أصحاب الجنة مع نعيم الجنة..
وهذا مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (21: الطور) فالمراد بالأزواج هنا، الزوجات المؤمنات اللاتي أدخلن الجنة، فيكون من تمام النعمة عليهن وعلى أزواجهن، أن يجتمع بعضهم إلى بعض.
وقوله تعالى: «فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» - هو صور من صور النعيم الدنيوي، وكان كثير من أصحاب الجنة يتطلعون إليه فى دنياهم، ولا يجدونه..
وقوله تعالى: «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ..» أي لأصحاب الجنة فاكهة» ..
وأطلقت الفاكهة من غير تحديد، لتشمل كل فاكهة، فيتخيرون منها ما يشاءون، كما يقول سبحانه: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ» (2: الواقعة) وقوله تعالى: «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» أي لهم ما يشاءون، وما يطلبون، غير ما يقدّم إليهم من غير طلب..
وقوله تعالى: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» بدل من الاسم الموصول «ما» فى قوله تعالى: «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» أي ولهم سلام.. وهذا السلام يقال لهم قولا من رب رحيم، أي يسلم عليهم الرحمن به، فيقول جل جلاله لأصحاب(12/944)
الجنة «سَلامٌ عليكم» .. وهذا هو غاية نعيم أصحاب الجنة وأطيب طعومها الطيبة عندهم..
قوله تعالى:
«وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» أي انعزلوا، وخذوا مكانا خاصا بكم، حيث تتميزون به، وتعرفون فيه.. وهذا زجر للكافرين، وردع لهم أن يكونوا بمحضر من هذا المقام الكريم الذي ينزله أصحاب الجنة، أو أن يروه بأعينهم..
قوله تعالى:
«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» .
العهد هنا، هو ما كان من الله سبحانه وتعالى من تحذير من الشيطان وأعوانه، كما يقول سبحانه على يد الرسل «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» (27: الأعراف) وكما يقول جلّ شأنه: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» (6: فاطر) وعبادة الشيطان، هى اتّباعه فيما يدعو إليه، وهو لا يدعو إلا إلى ضلال، وشرك، وكفر..
والاستفهام فى الآية للتقرير.. الذي يثير مشاعر الندم والحسرة..
قوله تعالى:
«وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» هو معطوف على قوله تعالى: «أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» .. أي «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي» ؟ .. فالعهد الذي أخذه(12/945)
الله على أبناء آدم جميعا، هو أن يتجنبوا عبادة الشيطان، وأن يحذروا الاستجابة له فيما يدعوهم إليه، وأن يعبدوا الله وحده.. فهذا هو الصراط المستقيم.. فمن لم يعبد الله، فقد ضل وهلك..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» الجبلّ، والجبلة: الخلق والآية تلفت العقول إلى هذه الآثار السيئة التي تركها الشيطان فيمن عصوا الله، ونقضوا العهد، واتبعوا خطوات الشيطان.. لقد ألقى بهم الشيطان فى بلاء عظيم، وأوردهم موارد الهلاك.. فإذا لم ير بعض الغافلين أن يستجيبوا لما دعاهم الله إليه من اجتناب الشيطان، والحذر منه- أفلم يكن لهم فيما رأوا من آثاره فى أتباعه وأوليائه، ما يدعوهم إلى اجتنابه، ومحاذرته؟
- وفى قوله تعالى: «أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟» هو عود باللائمة والتوبيخ لهؤلاء الذين لا تزال أيديهم ممسكة بيد الشيطان، وهم يمشون على أشلاء صرعاه منهم! قوله تعالى:
«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» ..
لقد نقض المشركون عهد الله، وخرجوا عن أمره.. ولكن الله سبحانه لم ينقض عهده معهم، وهو أنهم إذا نقضوا عهده، وخرجوا عن أمره، كانت النار موعدهم.. كما يقول سبحانه: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (72: الحج) قوله تعالى:
«اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ»(12/946)
أي اصطلوا بها، وذوقوا عذابها، بسبب كفركم وضلالكم..
وفى هذا الأمر الذي يلقى إليهم وهم يتقلبون على جمر جهنم مضاعفة للعذاب ومزيد منه، إن كان وراءه مزيد! قوله تعالى:
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» أي فى هذا اليوم يختم الله على أفواه أهل الضلال، فلا ينطقون.. وفى هذا زجر لهم، وكبت للكلمات التي كانت ستنطلق من أفواههم، ليعتذروا بها إلى الله، وليتبرءوا بها من أنفسهم، وما جنته أيديهم، أو يحاولوا بها إلقاء التهمة على غيرهم.. وفى كل هذا مجال للتنفس عنهم.. وكلّا، فإنه لا متنفس لهم، ولو بالكلمة!! ومما يضاعف فى إيلامهم وحسرتهم أن يقوم الشهود عليهم بإثبات جريمتهم- من أنفسهم، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم.. إنهم شهود أربعة، تتم بهم الشهادة على مرتكبى الكبائر..
ولا نسأل كيف تتكلم هذه الجوارح.. إنها تنطق للخالق الذي خلقها..
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ (19- 21:
فصلت) .
فليست الأيدى والأرجل وحدها هى التي تنطق وتشهد على أصحابها، بل إن كل جارحة فيهم تشهد عليهم بما كان منها، حتى ألسنتهم تلك التي(12/947)
ختم الله عليها.. إنها ستنطق ولكن بعد أن تشهد الجوارح كلها، فلا يكون لهم حجة تنطق بها الألسنة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) قوله تعالى:
«وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» أي لو شاء الله لطمس على أعين هؤلاء المشركين، وهم فى هذه الدنيا، وأنزل بهم هذا العقاب الرادع، فأسرعوا إلى الإيمان، واستبقوا إليه، تحت ضغط هذا النذير، ولكن الله سبحانه لم يشأ هذا بهم، ولم يلجئهم إلى الإيمان اضطرارا..
فقوله تعالى: «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» سبب للطمس على أعينهم، والفاء للسببية..
وقوله تعالى: «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» أي فكيف يبصرون، إذا طمس الله على عيونهم؟ إن هذه الإبصار نعمة جليلة من نعم الله، وقد أبقاها الله لهم فلم يطمس عليها.. أفلا يرعون هذه النعمة المهددة بالطمس؟ ثم ألا ينظرون بها، ويهتدون إلى الإيمان ويستبقون بها إلى صراط الله المستقيم؟
قوله تعالى.
«وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ» أي لو شاء الله كذلك، لمسخهم على مكانتهم التي هم فيها من الضلال والعناد، هو لم يدخل على مشاعرهم شيئا من الإيمان، ولأمسك بهم على الكفر فما استطاعوا «مضيّا» أي اتجاها إلى الإيمان، ولا رجوعا عما هم عليه من طرق الضلال..(12/948)
ولكنه سبحانه وتعالى، لم يشأ ذلك فيهم، وترك لهم مجال النظر، والاختيار، والتحرك من الكفر إلى الإيمان، إن شاءوا.. فمشيئتهم مطلقة عاملة، غير معطلة، وبهذا لا تكون لهم على الله حجة.
وهذا يعنى أن الخطاب هنا- وهو لجماعة المشركين- يشير إلى أن فيهم من سيتحولون من حالهم تلك، ويخرجون من هذا الظلام، ويلحقون بالمؤمنين، ويدخلون فى دين الله.. فالفرصة لا تزال فى أيديهم، لن تفلت منهم بعد..
وإن السعيد منهم من سبق، وأخذ مكانه على طريق الإيمان، قبل أن تفلت الفرصة من يده قوله تعالى:
«وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ.. أَفَلا يَعْقِلُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيتين السابقتين، حملتا مع هذا التهديد الذي حملته إلى المشركين، دعوة إلى المبادرة إلى الإيمان بالله، واستباق الزمن قبل أن يفوت الأوان..
وهنا فى هذه الآية، دعوة أخرى إلى المبادرة واستباق الزمن.. حيث أنه كلما طال الزمن بهم لم يزدهم طول الزمن إلا نقصا فى الخلق، وإلا ضعفا فى التفكير، حيث يأخذ الإنسان عند مرحلة من مراحل العمر فى العودة إلى الوراء، وفى الانحدار شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ، طفلا فى مشاعره، وخيالاته، وصور تفكيره..
فالزمن بالنسبة لهؤلاء المشركين، ليس فى صالحهم، وأنهم وقد بلغوا مرحلة الرجولة الكاملة، لا ينتظرون إلا أن ينقصوا لا أن يزدادوا، وعيا وإدراكا، وأنهم إذا لم تهدهم عقولهم إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي بين أيديهم فلن يهتدوا بعد هذا أبدا، بل سيزدادون ضلالا إلى ضلال، وعمى إلى عمى..(12/949)
- وفى قوله تعالى: «أَفَلا يَعْقِلُونَ» حثّ لهم على استعمال عقولهم تلك، التي هى معهم الآن، ثم إذا هى- بعد أن يمتد العمر بهم- وقد تخلت عنهم! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» (70: النحل) .
قوله تعالى:
«وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» ..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أيضا، هو أنه وقد حملت الآيات الثلاث قبلها دعوة إلى المشركين أن يستبقوا الإيمان بالله، وأن يبادروا باستعمال عقولهم والنظر بها إلى آيات الله قبل أن تذهب هذه العقول مع الزمن- فقد جاءت تلك الآية تلقاهم برسول الله، وبكتاب الله الذي معه، ليكون لمن انتفع بهذه الدعوة معاودة نظر إلى رسول الله، وإلى كتاب الله.. فالضمير فى قوله تعالى:
«وَما عَلَّمْناهُ» يعود إلى الرسول الكريم، وهو وإن لم يجر له ذكر فى الآيات السابقة، فإنه مذكور ضمنا فى كل آية من آيات الكتاب، إذ كانت منزلة عليه..
فهذا رسول الله.. ليس بشاعر كما يقولون.. إنه لم يؤثر عنه شعر، ولم يكن- كما عرفوا منه- من بين شعرائهم.. فهذه تهمة ظالمة، يجب أن يبرئوا النبىّ منها، وأن يلقوه من جديد على أنه ليس بشاعر.
وهذا كتاب الله الذي بين يديه.. ليس من واردات الشعر- كما يزعمون زورا وبهتانا- بل هو «ذكر» يجد الناس من آياته وكلماته، ما يذكّرهم بإنسانيتهم، وبما ضيعوا من عقولهم فى التعامل مع الجهالات والضلالات، على خلاف الشعر، فإنه- فى غالبه- استرضاء للعواطف(12/950)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
وتغطية على مواطن الرشد من العقول.. وهذا الكتاب هو «قُرْآنٌ مُبِينٌ» أي كتاب غير مغلق على قارئه، أو سامعه من قارئ له، بل هو واضح المعنى، بيّن القصد، فلا تعمّى على قارئه أو سامعه أنباء ما به..
قوله تعالى:
«لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ» أي أن هذا الرسول الكريم، إنما ينذر بالكتاب الذي معه، «مَنْ كانَ حَيًّا» أي من كان فى الأحياء من الناس، بعقله، ومدركاته، وحواسه.. فإن من كان هذا شأنه، كان أهلا لأن ينتفع بما ينذر به.. أما من تخلى عن عقله، وملكاته ومشاعره فلا يحسب فى الأحياء، ولا ينتفع بالنذر.. بل سيظل على ما هو عليه من كفر وضلال، ويحق عليه القول، أي ينزل به العذاب، الذي توعد به الله سبحانه وتعالى، أهل الكفر والضلال..
الآيات: (71- 83) [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)(12/951)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ» هو عرض للآيات الكونية، التي تكشف عنها الآيات القرآنية لأبصار هؤلاء المشركين، الذين دعوا إلى إعادة النظر فى كتاب الله، وإلى إخلاء مشاعرهم من القول بأنه شعر، وأن الرسول الذي جاء به من عند الله شاعر..
فهذا الكتاب الذي بين أيديهم ليس شعرا، إنه ذكر وقرآن مبين..
ومن الذكر الذي فى هذا القرآن- هذا العرض الذي تعرض فى آياته هذه المظاهر من قدرة الله، وصنعة يده..
فهذه الأنعام التي يملكها هؤلاء المشركون، والتي فيها عبرة وذكرى لمن سمع، ووعى.. من خلقها؟ ومن جعل لهم سلطانا عليها؟ ومن وضعها فى أيديهم وجعلها ملكا خالصا لهم؟ ..
ألا فلينظروا بعقولهم إلى هذه الأنعام، وليجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم منها..(12/952)
إنها صنعة الله، وفى ملكه.. ولكنه- سبحانه- قد ملّكهم الله إياها، وأقدرهم على تسخيرها، والانتفاع بها..
«وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ» أي أنه لولا أن ذللها الله لهم، وجعلها فى خدمتهم، لما قدروا عليها، ولما أمسكوا بها.. إذ كانت أقوى قوّة منهم.. ولو شاء الله لجعلها فى طبائع الحيوانات المفترسة، التي لا تألف الناس، ولا يألفها الناس.. فلا يكون لهم منها نفع أبدا..
«وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ» - أي أن فى هذه الأنعام منافع كثيرة لهم.. يركبونها، ويحملون عليها أمتعتهم، ويأكلون لحومها، ويشربون ألبانها، ويتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها أثاثا ومتاعا.. أفلا يشكرون الله على ذلك؟
قوله تعالى:
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» .
هو عطف حدث على حدث.. وبين الحدثين تغاير كبير، وتفاوت بعيد، والشأن بين المتعاطفين أن يتقاربا، ويتجاوبا.. ولكن فى هذا العطف فضح لضلال المشركين، وانحرافهم هذا الانحراف الحادّ، عن الطريق السوىّ.. حيث يقابلون الإحسان بالكفران.
فالله سبحانه وتعالى يفضل عليهم بهذه النعم، خلقا، وتسخيرا، وتذليلا..
وهم يكفرون به، ويحادّونه، ويتخذون من دونه آلهة.. فما أبعد ما بين الإحسان والكفران!.
وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» بيان للغاية التي يقصد إليها المشركون من اتخاذ هذه الآلهة من دون الله.. إنهم يرجون من وراء ذلك الاستعانة(12/953)
بها على ما يغلبهم من شئون الحياة، وما يلقاهم على طريقها من عقبات..
وهيهات.. ضعف الطالب والمطلوب..!
قوله تعالى:
«لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ» .
هو ردّ على معتقد المشركين فى آلهتهم.. فهؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من دون الله معبودين لهم، يرجون منهم نصرا- هؤلاء الآلهة لا يستطيعون لهم نصرا، بل وأكثر من هذا، فإن آلهتهم هذه، محتاجة إلى من يحرسها، ويدفع عنها يد المعتدين..
وهؤلاء المشركون هم أنفسهم، جند محضرون، يقومون على حماية هذه الآلهة، وحراستها، وحراسة ما تزيّن من به حلىّ، وما يلقى عليها من ملابس..
- فقوله تعالى: «وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ» - الضمير «هم» يعود إلى المشركين، وفى قوله تعالى: «مُحْضَرُونَ» - إشارة إلى أن هناك قوى مسلطة على هؤلاء المشركين، تجعل منهم جندا لخدمة هذه الآلهة.. وهذه القوى هى تلك المشاعر المتولدة من معتقدهم الفاسد، وتصورهم المريض، حيث تسوقهم هذه المشاعر الضالة، سوقا، إلى التزلّف لهذه الدّمى، والولاء الأعمى لها..
«فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ.. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» .
هو عزاء كريم، للنبى الكريم، من ربّ كريم، مما يرميه به قومه من يذىء القول وساقطه.. «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هذا الذي يقولونه عنك، من أنك كاذب، وشاعر، ومجنون، ولا يحزنك ما يقولونه فى آلهتهم، وأنها شفعاء لهم من دون الله..(12/954)
- وفى قوله تعالى: «إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» .. تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالحساب الشديد، والعذاب الأليم، فالله سبحانه يعلم ما يسرون وما يعلنون، من كفر، وضلال، وبهتان، وهو سبحانه محاسبهم ومجازيهم عليه..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» .
هو مراجعة لهؤلاء المشركين، وتنبيه لهم من هذه الغفلة المستولية عليهم..
وفى هذا الاستفهام التقريرى الموجه إلى الإنسان على إطلاقه- دعوة إلى كل إنسان أن ينظر فى نفسه، وأن يمد بصره، إلى نقطة الابتداء فى حياته، ثم ليسير مع نقطة الابتداء هذه فى الطريق الذي سلكه، حتى صار هذا الإنسان، الذي يجادل، ويخاصم، ويقف من الله موقف المحادّ المحارب!.
ألم يكن هذا الإنسان نطفة؟ .. إنه لو نظر الإنسان فيها لأنكر نفسه، وما وقع فى تصوره أنه كان جرثومة من آلاف الجراثيم السابحة فى هذه النطفة..
وأين تلك النطفة أو هذه الجرثومة العالقة بالنطفة- أين هى من هذا الإنسان، الذي أبدعته يد القدرة هذا الإبداع العظيم الحكيم؟
ألا ما أضأل شأن الإنسان، وما أعظمه! ما أضأله نطفة، وما أعظمه رجلا..
ما أضأله ضالا ضائعا، كضلال هذه النطفة وضياعها..
وما أعظمه إنسانا رشيدا، عاقلا مؤمنا، فى ثوب الإنسانية الرشيدة العاقلة المؤمنة!.
قوله تعالى:
«وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» .(12/955)
هو عطف حدث على حدث، عطف خلق الله سبحانه الإنسان من نطفة، ثم قيام إنسان من هذه النطفة يجادل الله، ويختصمه، ويضرب له الأمثال، احتجاجا وحجة!.
ففاعل الفعل «ضرب» يعود إلى هذا الإنسان الخصيم المبين، الذي تولد من النطفة!.
إنه لم يقف عند هذه الدعوة التي دعاه الله سبحانه وتعالى بها إلى أن ينظر فى خلقه، وأن يعرف من أين جاء، وكيف كان، ثم كيف صار- لم يقف عند هذه الدعوة، بل أقبل يحاجّ الله ويجادله، ويضرب الأمثال له.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) ..
والمثل الذي ضربه هذا الكافر، ليدلل به على معتقده الفاسد، فى إنكار البعث- هذا المثل، هو أنه نظر فى هذه العظام البالية التي يراها فى قبور الموتى، ثم اتخذ منها معرضا يعرضه على الناس، ويسألهم هذا السؤال الإنكارى الساخر: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؟ أهذه العظام التي أبلاها البلى تعود ثانية كما كانت، ويتشكل منها أصحابها الذين كانوا يحيون بها فى الحياة؟
أهذا معقول؟ إن محمدا يقول هذا..فماذا تقولون أنتم أيها الناس فيمن يقول هذا القول؟ ألا ترجمونه؟ ألا تسخرون من جنونه؟.
وقوله تعالى: «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» جملة حالية، أي أن هذا الكافر ضرب هذا المثل ناسيا خلقه، ولو ذكر خلقه وكيف كان بدؤه، ثم كيف صار- لرأى بعينيه- قبل أن يرى بعقله- إن كان له عقل- أن هذه النطفة التي أقامت منه هذا الإنسان الخصيم المبين، هى أقل من العظام شأنا، وأبعد منها عن مظنّة الحياة.
إذ كانت النطفة لا تعدو- فى مرأى العين- أن تكون نقطة ماء قذرة(12/956)
أشبه بالمخاط.. أما العظام فهى تمثل حياة كاملة، كانت تسكن فى تلك العظام- إنها عاشت فعلا حياة كاملة، وكان منها إنسان كامل، كهذا الإنسان، الذي يجادل، ويضرب الأمثال لله..
فهذه العظام، تمثل حياة لها تاريخ معروف.. أما النطفة، فلا ترى عين هذا الجهول فيها أثرا للحياة.
قوله تعالى:
«قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» .
هو الرد المفحم على هذا السؤال الإنكارى.. «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؟ إن الذي يحييها، هو الذي أنشأها أول مرة.. لقد أنشأ هذه العظام من نطفة، وألبسها الحياة، ثم أماتها.. ثم هو الذي يحييها.. إنه إعادة لشىء كان بعد أن لم يكن، وإعادة بناء الشيء، أهون- فى حسابنا- من ابتداعه، واختراعه أصلا..
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» - إشارة إلى علم الله المحيط بكل شىء، ومن كان هذا علمه فلن يعجزه شىء.. فبالعلم استطاع الإنسان أن يحرك الجماد، وينطقه، وبالعلم استطاع أن ينقل الأصوات، وصور المرئيات من طرف الأرض إلى طرفها الآخر فى لحظة عين، أو خفقة قلب.. وبالعلم يستطيع الإنسان أن يفعل الكثير، مما تعدّ هذه الأشياء من نوافل علمه..
فكيف بعلم الله الذي وسع كل شىء؟ أيعجزه شىء؟ إن من يعجز عن أي شىء لا يستحق أن يضاف إليه العلم كله.. إذ لو كان معه العلم كله لما أعجزه شىء؟ والله سبحانه وتعالى: «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (29: البقرة) ..
قوله تعالى:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» .
هذه بعض آيات من علم الله.. إنه سبحانه خلق الشجر، وقد امتلأ(12/957)
كيانه بالماء يجرى فى أصوله، وفروعه وأوراقه.. ثم جعل من طبيعة هذا الشجر أن يجفّ، وأن يقبل الاحتراق، وإذا هو فى النار، قطع من الجمر! فأين هذا الشجر الأخضر، من هذا الجمر الملتهب؟
وكما يخرج الله سبحانه النار من الماء، يخرج سبحانه الميت من الحىّ، ويخرج الحىّ من الميت..
هذه صورة من الإبداع فى الخلق، لا تحتاج فى وضوحها إلى علم، وتجربة، وإنما بحسب الإنسان- أي إنسان.. أن يقف قليلا بنظره عندها، فيرى آيات بينات، من علم الله وقدرته..
قوله تعالى:
«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» ..
وصورة أخرى للدلالة على قدرة الله سبحانه.. هى هذه السموات والأرض.. من خلقها؟ إنه الله سبحانه، بإقرار الكافرين والمشركين أنفسهم..
إنهم لا يعرفون لهما خالقا غيره.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (25: لقمان) .
وهنا سؤال: أليس الذي خلق السموات والأرض قادرا على أن يخلق سموات كهذه السموات وأرضا كهذه الأرض؟ وبديهية المنطق تقول: إن ذلك ممكن.. فمن صنع شيئا قادرا على أن يصنع أشياء مثله، لا شيئا واحدا.
ولهذا جاء الجواب عن هذا السؤال: «بلى» أي بلى قادر.. «وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .. الخلّاق، الذي يزيد فى الخلق ما يشاء «العليم» الذي لا يعجزه شىء! قوله تعالى:
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .(12/958)
أي إنما شأنه سبحانه فى الخلق، أن يريد، فيقع ما يريد.. بلا معاناة ولا بحث.. إنه سبحانه يقول للشىء الذي يريد إيجاده «كن» فيكون كما أراد..
فبالكلمة خلق الله كل شىء.. إن الكلمة: «كن» هى مظهر إرادة الله. والموجودات هى مظاهر كلمات الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (109: الكهف) .
قوله تعالى:
«فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
فتسبيحا لله، وتنزيها له، وإجلالا لجلاله- سبحانه- «بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» أي ملك كل شىء، ملكا متمكنا، مستوليا على كل ذرة فيه..
والملكوت: مبالغة فى الملك، بالاستيلاء عليه استيلاء مطلقا، يمسك بكل ذرة، وبكل ما دون الذرة منه.
وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» تقرير للبعث، وتأكيد له.. وأنه ما دام بيد الله ملكوت كل شىء والناس من أشياء هذا الوجود الذي هو ملك لله، فإنهم لا بد راجعون إلى الله.
وإلى أين يذهب الناس بعد الموت إذا لم يرجعوا إلى الله؟ إنهم إذا لم يرجعوا إليه فليسوا إذن فى ملكه.. وليس هناك شىء غير مملوك لله، وهو «الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . (54: الأعراف)(12/959)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
37- سورة الصافّات
نزولها: مكية.. باتفاق عدد آياتها: مائة واثنتان وثمانون آية..
عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وستون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «يس» بقوله تعالى: «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
وبدئت سورة الصافات بهذا القسم الذي يقسم به- سبحانه- على تلك الحقيقة، وهى وحدانية الألوهية، التي هى من مقتضى ملكية الله لكلّ شىء.. فإذا كان الله هو مالك لكل شىء، كان من مقتضى هذا أن ينفرد بالألوهية، وألا يشاركه فى هذا الوجود أحد، وإلا كانت ملكينه له غير تامة.. وأما وملكيته سبحانه ملكية مطلقة لهذا الوجود، فهو- وحده سبحانه- صاحب الأمر فيه، وإليه وحده يكون ولاء كل موجود.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 10) [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)(12/960)
قوله تعالى:
«وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» .
اختلف فى المراد بالصافات.. فقيل هم الملائكة باعتبارهم جماعات وفرقا..
وقيل هم جماعات المؤمنين، الصّافين فى الصلاة.. بمعنى أنهم قائمون صفوفا ساجية ساكنة، خاشعة فى الصلاة..
وقيل هى جماعات الطير تسبح فى جوّ السماء صافة أجنحتها، أي باسطة لها من غير حركة، وأن الزاجرات هى جماعة الملائكة التي تنزل بالمهلكات، وأن التاليات ذكرا، هن جماعات المؤمنين فى الصلاة.. وعلى هذا التأويل يكون القسم بثلاثة أصناف، لا بصنف واحد، له ثلاثة أوصاف..
والذي يقول بأن الصافات هم جماعة الملائكة، يقول كذلك إن الزاجرات، والتاليات هم جماعات الملائكة فى أحوال غير أحوالهم وهم صافّون، أو هم جماعات غير تلك الجماعة الصافة.. فالزاجرات زجرا، هى جماعات الملائكة التي تحمل نذر الهلاك إلى المكذبين بالله، والتاليات ذكرا، هى جماعات الملائكة التي تحمل إلى رسل الله آياته وكلماته..
والذي يقول إن المراد بالصافات صفّا، هم جماعة المؤمنين فى مواقف الصلاة- يقول إن الزاجرات زجرا، هنّ الآيات التي يتلوها المصلون فى صلاة الجهر، والتاليات ذكرا هن الآيات التي تتلى فى صلاة السرّ..
والذي نرجحه من هذه الآراء هو- والله أعلم- القول بأن هذه الأوصاف هى للملائكة.. وذلك:(12/961)
أولا: أن الله سبحانه ذكر فى أول سورة «فاطر» قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» ..
وفى هذا إشارة إلى أن الملائكة يصفّون كما تصف الطير بأجنحتها.
وثانيا: أن الله سبحانه ذكر فى آخر هذه السورة «الصافات» قول الملائكة:
«وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» . (165- 166)
والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وتقوم دلالات بعض آياته شواهد على بعض..
فالصافات صفّا، جماعات الملائكة، الذين يصفون أجنحتهم فى ولاء وخشوع دائم، وفى عبادة متصلة لله رب العالمين..
والزاجرات زجرا.. جماعات من الملائكة، يسلطهم الله على أعدائه فى الدنيا والآخرة، يرجمونهم بالمهلكات..
والتاليات ذكرا، جماعات من الملائكة، هم حملة كلمات الله إلى عباده..
يتلونها على رسله، لينذروا بها أقوامهم..
قوله تعالى:
«إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» .. هو جواب القسم، «والصافات» ، وهو يقرر هذه الحقيقة ويؤكدها،.. تلك الحقيقة التي يشهد بها كل موجود، وهى أن إله الموجودات جميعها، إله واحد، هو الذي أوجدها، وهو الذي قام بسلطانه عليها..
قوله تعالى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ» .
فهذا الإله الواحد، هو رب السموات والأرض، وما بين السموات(12/962)
والأرض، وما فى السموات والأرض.. إنه ربّ كلّ شىء وبيده ملكوت كل شىء، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله.. وهو رب المشارق..
والمشارق، يمكن أن يكون معناها، المنازل التي تنزلها الشمس فى شروقها..
فهى تطلع كل يوم من مطلع غير الذي طلعت منه، على مدار السنة.. وكذلك الشأن فى مغربها.. كما هو معروف فى علم الفلك، وكما هو ظاهر للعين من مطلع الشمس ومشرقها فى الفصول الأربعة، وفى فصلى الصيف والشتاء بخاصة..
ويمكن أن تكون المشارق، والمغارب مشارق الأرض ومغاربها، أي جهة الشرق والغرب فيها،. ويكون المراد بذلك، هو لفت الأنظار إلى اتساع آفاق الأرض، وأنه كلما اتجه الإنسان فى هذين الاتجاهين- الشرق والغرب- وجد مشارق ومغارب، وقد أصبح الشرق اليوم- فى التقسيم السياسى والجغرافى للعالم- شرقا أدنى، وشرقا أوسط، وشرقا أقصى.. وإلى هذا المعنى- وهو اتساع آفاق الأرض- يشير قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» (137: الأعراف) .
وقد جاء فى القرآن الكريم: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17: الرحمن) وجاء فى القرآن الكريم كذلك: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (9: المزمل) ..
وعلى كلا المعنيين يمكن أن يحمل تأويل كل من الآيتين.. وهذا ظاهر..
واختص المشارق بالذكر، لأنها هى مطلع النور، ومن الشرق تطلع الشمس، التي هى مصدر النور، والدفء والحياة!.
قوله تعالى:
«إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» .(12/963)
الكواكب: بدل من زينة.. والتقدير إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب..
والكواكب، جمع كوكب.. والكواكب غير النجوم فى اصطلاح علماء الفلك.. إذ أن الكواكب متحركة تدور حول النجوم، على حين أن النجوم ثابتة تدور حول نفسها.. وكل نجم له مجموعة كواكب تدور حوله..
كالشمس، والكواكب السيارة التي تدور حولها، ومنها الأرض والقمر، والمشرق وزحل، والمريخ، وعطارد، والزهرة..
والسماء الدنيا، هى أقرب السموات إلينا، وأدناها من عالمنا الأرضى، وهى هذه السماء التي تطل علينا منها الشمس، والقمر، والنجوم.. وهناك سموات أخرى فوق هذه السماء، لم يبلغها علمنا، ولا تصل إليها أدوات الرصد التي نرصد بها ما فى السماء الدنيا من كواكب ونجوم.. وأن هذه السماء الدنيا، وما فيها من نجوم يصل ضوءها إلى الأرض فى أكثر من مليون سنة ضوئية- هذه السماء وما فيها من نجوم وكواكب، ليست إلا سطرا فى كتاب الوجود الذي لا نهاية له.. فما أعظم قدرة الخالق، وما أروع ما أبدع وصور..! وما أضأل شأن هذا الإنسان، وما أصغر قدره إلى هذه الوجود العظيم، الذي لا يعدو أن يكون هذا الإنسان فيه، هباءة سابحة فى الهواء، لا تراها عين، ولا تمسك بها يد..
لقد طارت الإنسانية طربا، واهتزت زهوا وغرورا، أن وصلت بمراكبها إلى القمر، وأن مشت بأقدامها فوقه!!.
وما القمر هذا؟ وما مكانه فى هذا الوجود؟ إنه ليس إلا ذرة من رمل فى السماء الدنيا! فكيف بالقمر هذا فى مواجهة الوجود كله، وسمواته جميعها؟
إن الإنسان لم يقطع من صفحة السماء الدنيا، فى رحلته هذه إلى القمر، إلا كما تقطع النملة رحلة العمر، من جذر شجرة إلى ورقة من أوراقها! إنه انتصار للنملة(12/964)
لا شك، ولكنه نصر محسوب بحسابها، مقدور بقدرها..
قوله تعالى:
«وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» - معطوف على قوله تعالى زينا، أي زيناها بالكواكب وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد.
والمارد، والمريد، هو المجرد من كل خير.. وشجرة مرداء، لا ورق ولا ثمر عليها..
قوله تعالى:
«لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» .
أي إن هؤلاء الشياطين المردة، وقد حفظت السماء من أن يقربوا منها، أو يطوفوا بها- لا يستطيعون أن يصغوا إلى الملأ الأعلى، وما يجرى فيه، فإذا حاولوا ذلك قذفوا من كل جانب بالشهب، ورموا من كل مكان بالرجوم، فيرجعون مدحورين مقهورين، لم يحصلوا على شىء.. «وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» أي خالص وتام، كما فى قوله تعالى: «وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» (25: النحل) .
قوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» - هو استثناء من الفاعل فى قوله تعالى «لا يَسَّمَّعُونَ» .. أي إن هؤلاء الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى إلا خطفا من بعضهم، ممن يلقى بنفسه منهم فى سبيل ذلك إلى التهلكة، حيث يرمى بشهاب راصد لكل من حام حول هذا الحمى..(12/965)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
ويسّمّعون: أصله يتسمعون.. وقد ضمن معنى الفعل يصغون أو يدنون، ولهذا عدّى بحرف الجر «إلى» .. أي لا يستطيعون أن يتسمعوا إلى الملأ الأعلى، وهم فى إصغاء شديد حالة التسمع.
والآية الكريمة، ترد على المشركين معتقدهم الفاسد، فى أن الشياطين يعلمون الغيب، وأنهم يتلقون ذلك باتصالهم بالملأ الأعلى، واستماعهم إلى ما يدور بين الملائكة هناك، مما يتصل بالعالم الأرضى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» ..
(6: الجن) ..
والحديث عن الجن والشياطين، وإن كان ينكره الماديون، ويعدّونه ضربا من الخرافات، قد أصبح اليوم من مقررات العلم الذي يقوم على التجربة والاختبار، حتى إن كثيرا من الماديين الذين كانو ينكرون عالم «الروح» لم يجدوا أمام الشواهد الكثيرة الملموسة، إلا أن يعترفوا به.. ولسوف يكشف العلم لهم يوما أن الجن والشياطين، هى من تلك الأرواح التي تسكن هذا العالم الأرضى، وتعيش مع الإنسان فيه.. فهذا مما تحدث به القرآن، وما حديث القرآن إلا الحقّ المطلق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
الآيات: (11- 26) [سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 26]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)(12/966)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» .
الحديث هنا إلى المشركين.. والحديث إليهم هو لطلب الجواب منهم على هذا السؤال، وهو: أهم أشد خلقا أم من خلق الله فى السموات والأرض، من ملائكة وإنس وجن وشياطين؟ إنهم قد اتخذوا الشياطين أولياء، ينصرونهم من دون الله، كما اتخذوا الملائكة شفعاء لهم عند الله.. وهذا يعنى أنهم يضعون أنفسهم فى منزلة التابع للسيد، والعبد للرب..
وهؤلاء المخلوقون، من جن وملائكة، هم عبيد لله، وقد خلقهم، وإنّ من يخرج منهم عن واجب الولاء والعبودية، يلقى عذابا ونكالا فى الدنيا والآخرة، كما فعل ذلك بالجن الذين أرادوا التسمّع إلى الملأ الأعلى، فرماهم الله بالصواعق المهلكة، وأعد لهم فى الآخرة عذابا أليما..
وإذن فهؤلاء المشركون ليسوا أشدّ من الجن بأسا، ولا أقوى قوة، وإنه ليس يعصمهم عاصم من بأس الله إن جاءهم..(12/967)
- وفى قوله تعالى «فاستفتهم» بدلا من «فاسألهم» - إشارة إلى أن الأمر الذي يسألون فيه ليس امتحانا لهم.. وإنما هو مجرد طلب الرأى فيه، وكأنه أمر لا شأن لهم به، وفى هذا دعوة لهم إلى أن يقولوا الحق فيما يستفتون فيه، وألا يميلوا مع هواهم، إذ لا مصلحة لهم- فى ظاهر الأمر- فى أن يقولوا غير الحق، فى أمر لا شأن لهم فيه..!
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، فى الإمساك بمقود الضالين المتكبرين المعاندين، بهذا الأسلوب الحكيم، الذي يستأنس نفار هذه النفوس الوحشية!.
- وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» ..
الطين اللازب، هو اللزج، وهو الزبد الذي يتكون على شواطىء البحار والأنهار..
فهذه هى مادة خلق الإنسان.. حيث تطوّر هذا الطين وتنقل فى أطوار كثيرة، ومراحل شتى.. من النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.. وقد أشرنا إلى هذا فى مبحث خاص، من الكتاب الأول فى هذا التفسير «سورة البقرة» أما الجن، فقد خلق من النار.. والنار- فى ظاهر الأمر- أفوى من الطين قوة، وأشد أثرا..
قوله تعالى:
«بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» .
الخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، الذي استفتاهم- كما أمره الله سبحانه- بقوله: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً» ..
وعجب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو من أن يستفتى قوما(12/968)
لا يؤمنون بالله، ولا يستمعون لرسوله.. فكيف يستفتيهم؟ وكيف يتلقّى كلمة الحق منهم، وهم لم يقولوا الحق أبدا؟.
وعجب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إنكارا- وحاشاه- لأمر ربه، وإنما هى مشاعر تقع فى نفسه- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يلقى فيه المشركين مستفتيا.. إنه أمر عجيب.. ولكنه أمر الله! ..
- وقوله تعالى: «ويسخرون» .. هو معطوف على قوله تعالى: «عجبت» .
فقد كان من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف، عجب، وكان من المشركين سخرية!! إن هؤلاء الضالين، وقد دعوا إلى أن يجلسوا مجلس الفتيا، وهم ليسوا أهلا لها، حتى لقد عجب النبىّ من أن يدعى المشركون إلى هذا المقام- هؤلاء الضالون لم يقبلوا هذه الكرامة، وأبوا إلا أن يكونوا فى ملعب الصبيان يصخبون، ويسخرون! - وقوله تعالى: «وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ» معطوف على قوله تعالى «ويسخرون» أي ومن صفات المشركين وأحوالهم، أنهم إذا جاءهم من يذكرهم بما هم فيه من ضلال، لا يتذكرون، ولا يقبلون نصحا..
- وقوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» ومن صفاتهم كذلك أنهم إذا رأوا آية من آيات الله الكونية، أو سمعوا آية من آياته القرآنية، «يستسخرون» أي يبالغون فى السخرية، ويستكثرون منها، ويجتمعون جماعات على مجالسها..
وفى قوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا آيَةً» - إشارة إلى تلك الآيات التي عرضتها(12/969)
الآيات السابقة.. مثل قوله تعالى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ.. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ.. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ.. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» .. فهذه كلها آيات كونية، يرى فيها ذوو الأبصار دلائل ناطقة بقدرة الله، وبسطة سلطانه.. ولكن المشركين يتخذون منها مادة للهزء والاستسخار!.
قوله تعالى:
«وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
الإشارة هنا إلى أمر البعث، وما حدّثوا به من منكر القول فى هذا المثل الذي ضربوه بقولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» .. فالحديث عن البعث متصل لم ينقطع بين سورتى يس، والصافات.. ويجوز أن تكون الإشارة إلى مقول قولهم فى الآية التالية..
وهم هنا ينفون نفيا قاطعا أن يكون هناك بعث، فإن كان فهو من شىء لا واقع له، وإنما هو من حيل السّحر، وألاعيب السّحرة! «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ..»
قوله تعالى:
«أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» .
استفهام إنكارى لأن تعود الحياة مرة أخرى إلى الأموات.. إذ كيف ترجع هذه الأجسام التي صارت ترابا، أو تلك التي ما تزال عظاما- كيف ترجع إليها الحياة مرة أخرى؟ كيف هذا، والإنسان إذا فسد عضو من أعضائه وهو حىّ- لا يمكن إصلاحه.. فكيف بهذه الأعضاء- وهى الإنسان(12/970)
كلّه- وقد صارت ترابا، وعظاما؟ أيقوم منها هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى؟.
وقوله تعالى:
«أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ! أي وهل إذا صحّ- فرضا- أن يبعث الموتى الذين ماتوا من إخوانهم، أو أبنائهم، أو آبائهم الأقربين، أيصح- ولو فرضا- أن يبعث آباؤهم الأولون الذين ماتوا منذ مئات السنين؟ أهذا مما يعقل؟.
قوله تعالى:
«قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» ..
هو جواب على أسئلتهم تلك المكذبة، المنكرة..
إنه تحدّ لهذا الإنكار، وإهدار له.. ولهذا كان الجواب «نعم» وكأنه جواب عن سؤال يريد به صاحبه أن يعرف الحقيقة، وينشد المعرفة..
وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» جملة حالية من نائب فاعل فعل محذوف، تقديره: نعم، تبعثون.. «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» أي صاغرون، مقهورون، لا تملكون من أمركم شيئا..
قوله تعالى:
«فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ» .
الزجرة: الصيحة المفزعة.. وهى صوت البعث الذي يفزع له أهل الكفر والشرك، الذين كانوا ينكرون البعث.
وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ» .. إذا للمفاجأة، وهى تدل على وقوع الحدث فجأة وعلى غير انتظار وتوقّع له.(12/971)
وقوله تعالى: «ينظرون» - كناية عن يقظتهم، وتنبههم لما حولهم، حين يدعون من قبورهم..
قوله تعالى:
«وَقالُوا يا وَيْلَنا.. هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ..
وإنهم إذ يقومون من مرقدهم، وتأخذهم هذه المفاجأة غير المنتظرة- لا يجدون إلا صرخات الوبل، تقطع سكون هذا الصمت الرهيب، الذي اشتمل عليهم.. «يا ويلنا» أي يا هلاكنا وضياعنا!!.
وقوله تعالى: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» هو الخبر الذي يطلع عليهم، وهم ينادون بالويل، ولا يدرون أين هم، ولا ماذا يراد بهم؟ .. إنه يوم الدين، يوم الحساب والجزاء.. إنه يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون!.
قوله تعالى:
«احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» .
إنه أمر إلى الملائكة، أن يسوقوا هؤلاء المشركين إلى المحشر، وأن يحشروا معهم أزواجهم الذين كانوا على شاكلتهم، وأن يحشروا كذلك معهم ما كانوا يعبدون من دون الله.. ثم ليتجهوا بهم جميعا إلى الطريق المؤدى إلى الجحيم..
وفى قوله تعالى: «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» - إشارة إلى أنهم وقد أبوا أن يقبلوا الهدى إلى الحق، والخير، فى الدنيا، فإنهم سيقبلون الهدى(12/972)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
فى الآخرة، ولكنه الهدى إلى عذاب الجحيم.. حيث يسوقهم الملائكة سوقا إلى هذا المورد الوبيل..
قوله تعالى:
«وَقِفُوهُمْ.. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» ..
أي احبسوهم هناك على طريق الجحيم، قبل أن تفتح لهم أبواب جهنم، ويلقوا فيها.. إذ لا بد قبل ذلك أن يحاسبوا، وأن يسألوا عما أجرموا.. وهو حساب عسير.. لا يقلّ هولا عن عذاب الجحيم..
قوله تعالى:
«ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟» ..
ومما يسأله هؤلاء الظالمون يومئذ، إذلالا لهم، واستهزاء بهم- هذا السؤال: «ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟» أي ما بالكم هكذا مستسلمين، لا ينصر بعضكم بعضا، ولا يستنصر بعضكم ببعض؟ أين آلهتكم الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ أين شفاعة الشافعين منهم؟.
قوله تعالى:
«بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ» .. ولا يجد الظالمون جوابا.. إنهم جميعا- العابدين والمعبودين- مستسلمون.. صاغرون.. أذلاء..
لا يملكون شيئا..
الآيات: (27- 39) [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 39]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)(12/973)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» .
هو من حديث أهل الضلال والكفر فيما بينهم، وهو حديث ملاحاة وتجريم، واتهام.. إنها حرب كلامية، يرمى بها الظالمون بعضهم بعضا، ويخدش بها بعضهم وجه بعض..
قوله تعالى:
«قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ» .
هو بدل من قوله تعالى: «يَتَساءَلُونَ» .. فهذا بعض تساؤلهم..
والقائلون هنا، هم الأتباع، الذين استجابوا لإغواء من أغواهم وأضلّهم من الضالين الغاوين..
- وقولهم: «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ» - إشارة إلى أن قادتهم(12/974)
هؤلاء، كانوا يأتونهم من جهة اليمين، أي من جهة الهدى، فيحولون بينهم وبين سلوك هذا الطريق، ويدفعون بهم إلى طرق الضلال.. ومثل هذا قوله تعالى، على لسان إبليس- لعنه الله-:
«ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» (17: الأعراف) ويجوز أن يكون الإتيان عن اليمين، كناية عن جهة النصح والإرشاد، حيث كانت جهة اليمين جهة اليمن والاستبشار، ولكنه نصح إلى ضلال، وإرشاد إلى هلاك.
قوله تعالى:
«قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ» .
هو ردّ المتبوعين على تابعيهم.. وفيه دفع لهذا الاتهام الذي اتهموهم به..
«لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» ، أي لم نجدكم مؤمنين حتى صرفناكم عن الإيمان..
ثم إننا لم نحملكم حملا على الكفر، ولم نقهركم عليه بسلطان لنا عليكم..
فإنه لا سلطان لأحد على القلوب والضمائر، حيث هى مستقرّ الإيمان، ومستودعه.. بل إنكم كنتم منحرفين بطبيعتكم عن طريق الحق، وأهل بغى، وعدوان، وطغيان..
قوله تعالى:
«فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ» .
أي وجب علينا قضاء ربنا فينا أن نكون من أصحاب النار، وأن نذوق عذابها. فهذا حكم الله علينا، وإرادته فينا.. وإنه لا مفرّ لنا من هذا المصير..(12/975)
فإذا كنا أغويناكم، ودفعنا بكم إلى الضلال، فإننا أهل غواية وضلال، وذلك ليحقّ علينا قول ربنا، وتنفذ فينا مشيئته..
وإنهم بهذا ليقولون حقا.. فقد انكشف لهم قضاء الله فيهم، وما صار إليه أمرهم..
فالتسليم بالقدر بعد وقوع الأمر.. هو حقّ، وهو إيمان.. وأما تعليق الأمور على القدر قبل أن يقع المقدور، فهو ضلال، ومكر بالله..
كما يقول المشركون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا» (35: النحل) .
إنهم هنا ضالون زائغون.. إن عليهم أن يطلبوا ما يرونه حقا وخيرا، وأن يعملوا له.. فإن كان الله قد أراد لهم الخير، التقت إرادتهم مع إرادة الله، وتحقق لهم ما أرادوا.. وإن لم يكن الله قد أراد بهم خيرا، نفذت إرادة الله فيهم، وبطلت إرادتهم.. وهذا موقف غير موقف من يركب الشرّ بإرادته، ثم يقول: لو أراد الله بي الخير لفعل.. فهذا حق، وباطل معا!! وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص.. من هذا التفسير «1» ، وفى كتابنا:
«القضاء والقدر» .
قوله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ» ..
أي إن هذه الملاحاة التي تدور بين أهل الضلال، لا تغنى عنهم شيئا..
__________
(1) الكتاب الثامن: ص 672.(12/976)
فهم جميعا مشتركون فى هذا العذاب المحيط بهم.. وهذا جزاء كل من أجرم، وكفر بالله، وضلّ عن سواء السبيل..
قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» ..
أي إن هؤلاء المجرمين الذي نعذبهم هذا العذاب الأليم- إنما نفعل بهم هذا، لأنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان بالله، وإلى أن يعبدوه وحده، أبوا أن يستجيبوا لهذا الداعي الذين يدعوهم، واستكبروا أن يتلقوا كلمة التوحيد منه.. ويقولون، أنتبع هذا الشاعر المجنون، ونترك آلهتنا؟.
قوله تعالى:
«بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» - هو إضراب على اتهامهم للنبىّ الكريم بأنه شاعر ومجنون.. إنه ليس بشاعر ولا مجنون، بل جاءهم بالحق من ربّهم وصدّق المرسلين الذين أرسلوا من قبله، إذ دعا إلى توحيد الله، كما كان ذلك دعوة كل رسول من رسل الله..
وفى وصف الرسول الكريم، بأنه مصدّق للمرسلين، إشارة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه- الشاهد الأمين، الذي يشهد لهم على الزمن، بصدق ما جاءوا به، فهو المجدد لدعوتهم، المصحح لما دخل عليها من شبهات وضلالات من أهلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45- 46: الأحزاب) ..
وكما هو- صلوات الله وسلامه عليه- مصدق للرسل، فإن القرآن الذي تلقاه وحيا من ربه، مصدق للتوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه:(12/977)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) .. وهكذا كل رسول، مصدق للرسل الذين سبقوه.. وما معه من كتاب، هو مصدّق لما نزل عليهم من كتب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (6: الصف) .
وإذا كان الرسول الكريم، هو خاتم الرسل، وكتابه جامعة الكتب، فهو بهذا مصدّق لإخوانه الرسل من قبله، وكتابه مصدق لما نزل عليهم من كتب.
قوله تعالى:
«إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو خطاب للمشركين، الذين شهدوا- وهم فى هذه الدنيا- مشاهد الآخرة، ثم ووجهوا بما كانوا يقولون فى الرسول الكريم: «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» .
وهذا الخبر المؤكد، هو وعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي سيلقونه يوم القيامة فعلا.. وهذا العذاب الأليم، هو الجزاء العادل، لما كانوا يعملون..
ليس فيه عدوان عليهم، ولا ظلم لهم، وإن كان أليما، بالغ الغاية فى الإيلام..
الآيات: (40- 61) [سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 61]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)(12/978)
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة، موقف الحساب، والمساءلة لأهل الكفر والضلال، وسوقهم إلى الجحيم، وتجرعهم غصص العذاب- جاءت هذه الآيات لتعرض أصحاب الجنة، أهل الإيمان والعمل الصالح، وما يلقون من نعيم ورضوان..
قوله تعالى:
«إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» - هو استثناء من الاسم الموصول فى قوله تعالى:(12/979)
«وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ويكون الضمير فى تجزون للناس جميعا.. أي ما يجزى الناس إلا بما كان لهم من عمل، إلا عباد الله المخلصين، فإنهم يجزون أضعاف ما عملوا، فيقبل الله منهم حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فضلا منه وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» (37 سبأ) .. أما أصحاب النار، فإنهم يجزون بما عملوا.. كيلا بكيل. ومثقالا بمثقال..
والمخلصون من عباد الله، هم الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يشركوا به شيئا، ولم يجعلوا ولاءهم لغيره..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» هو بعض ما يجزى به عباد الله المخلصون:
«لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» أي معدّ وحاضر لهم.. «فَواكِهُ» .. هى بعض هذا الرزق.. وخصّت بالذكر، لأنها مما يتفكه به بعد الطعام، إذ هى مما يناله المترفون فى حياتهم، بعد أن يأخذوا حاجتهم من الطعام.. «وَهُمْ مُكْرَمُونَ» أي أنهم ينالون هذا الرزق، وهم فى موضع الاحتفاء والتكريم..
«فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» متعلق بمكرمون.. أي أن منزل إكرامهم والاحتفاء بهم، هو جنات النعيم.. «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» حال أخرى من أحوالهم، وهم فى هذا المنزل الكريم.. إنهم على سرر، يواجه فيها بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم إلى بعض، كما يقول سبحانه: «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (15- 16 الواقعة) .
والسّرر: جمع سرير، والسّرير، المقعد المنضّد..
وقوله تعالى:(12/980)
«يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» .. أي ومما يطرف به أصحاب الجنة، أنّه يطوف عليهم السّقاة بكئوس صافية الأديم، كأنها الماء يتفجر من «معين» أي من عيون.. والطائفون، هم غلمان مخلدون، كما يقول سبحانه: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» (16- 17 الواقعة) ..
- وقوله تعالى: «بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» وصفان للكأس، فهى بيضاء صافية، وهى ببياضها وصفائها، تلذّ الناظر إليها، وتملأ عينه بهجة وحبورا.
وقوله تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» أي ليس فى الشراب الذي تحمله هذه الكأس، مما يغتال العقول، ويذهب بصوابها، كما تفعل الخمر برأس شاربها.. «وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» أي لا يصدّون عنها، ولا يزهدون فيها، لأنها لا تستنزف لذتهم منها، بل تظلّ هكذا لذة دائمة موصولة.. وقد جاء فى قوله تعالى: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» (19: الواقعة) جاء بكسر الزاى، بنسبة الفعل إليهم، على حين جاء فى الآية السابقة بفتح الزاى «ينزفون» بنسبة الفعل المسلّط عليهم إلى غيرهم..
وذلك ليجمع بين صفتهم، وصفة الخمر التي يشربونها.. فهى من شأنها أن تمسك شاربها عليها، لطيبها وحسنها، ولذتها.. وهم- بما أودع الله فيهم من قوّى- يتقبلون هذا النعيم، فلا يزهدون فيه أبدا..
قوله تعالى:
«وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» .
أي وعند أصحاب الجنة، وبين أيديهم، فتيات «قاصِراتُ الطَّرْفِ» ..
والطرف، هى العين، وقصر الطرف، كسره، حياء وخفرا.. وهذا كناية(12/981)
عن صغرهن، وأنهن لم يلقين الرجال، ولم يتصلن بهم.. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» . (56: الرحمن) والعين، جمع عيناء، وهى واسعة العينين، فى كمال وجمال.. وفى هذا احتراس مما قد يفهم من وصفهن بأنهن قاصرات الطرف، أن هذا القصر عن داء بهذه العيون، وأن خلقتها هكذا مغلقة، أو متكسرة..
وكلّا، فإنها فى حقيقها عيناء.. ولكنه الحياء، والخفر، قد أمسكا بها عن أن تمتلىء بالنظر الحادّ، إلى الرجال!.
- وقوله تعالى: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» وصف لألوانهن، وأنهن بيضاوات، كأنهن البيض المكنون، أي المحفوظ من الشمس، والغبار..
تحت أجنحة الطير.. فهو باق على بياضه ونقائه..
وفى تشبيه لون بشرة المرأة بالبيض المكنون، إعجاز من إعجاز القرآن فى دقة الوصف، وصدقه.. فالبيض المكنون تحت أجنحة الطير، يضم فى كيانه حياة يغتذى منها قشر البيض نفسه، كما تغتذى بشرة الجلد فى جسد الكائن الحىّ.. ثم إن هذا البيض يحمل فى كيانه الحياة فى مطلع نموها، واكتمالها..
فهى إذن ليست حياة مولية، وإنما هى حياة مقبلة، كتلك الحياة التي فى كيان هؤلاء الفتيات من حور الجنة.. فالقشرة التي تحتوى البيضة، تشير إلى ما فى كيانها من حيوية متدفقة.. تماما كتلك البشرة التي تحتوى جسد الشباب المتدفق حياة وقوة!.
قوله تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» .
الفاء فى «فأقبل» للسببية، أي أنهم وقد جلسوا على سررهم، متقابلين،(12/982)
وطعموا ما اشتهوا من طعام، وشربوا ما طاف عليهم من كئوس الشراب- لم تبق عندهم إلا لذة الحديث، فأقبل بعضهم على بعض، يتساءلون، ويتسامرون..
وكما أقبل أصحاب النار بعضهم على بعض يتساءلون، كذلك أقبل أصحاب الجنة بعضهم على بعض يتساءلون.. ولكن شتان بين تساؤل وتساؤل، وحديث وحديث.. إنه هناك- كما رأينا- كان اختصاما، وكان اتهاما، وكان تراميا بالشناعات واللعنات..!
أما هنا، فهو حديث الأحبّاء الأصفياء.. يتساقون به كئوس المودة والإخاء..
قوله تعالى:
«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ» .
وهذا من بعض ما يتحدث به أهل الجنة بعضهم إلى بعض.. فقال أحدهم: إنى كان لى فى الدنيا قرين.. أي صاحب قد جمعتنا الصحبة فى قرن واحد.
ويصغى أهل المجلس إلى هذا الحديث، وما كان من شأن هذا الصاحب مع صاحبهم هذا!.
«يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ» ..
أي أن هذا الصاحب، كان مما يحدّث به صاحبهم هذا، أن يشككه فى أمر البعث، وأن يكشف له عن استحالته بما يضرب له من أمثال، فى هذه العظام البالية، وهذا التراب الذي صارت، إليه العظام، وأن لبسها الحياة بعد(12/983)
هذا، أمر لا يصدقه عقل، ولا يقبله عاقل..!! إنه كان يراود صاحبه على أن يترك هذا المعتقد الذي يعتقده فى البعث، والحساب والجزاء، ويقول له ما كان يتردد على ألسنة أهل الشرك:
حياة، ثم موت، ثم بعث؟ ... حديث خرافة يا أمّ عمرو!
فهذا الاستفهام الذي كان يلقى به هذا المشرك إلى صاحبهم هذا- هو استفهام المنكر، الساخر..
وقوله: «أَإِنَّا لَمَدِينُونَ» أي أإنا لمحاسبون، والدينونة، هى الحساب.
أي أنحيا بعد أن نصير ترابا وعظاما، ثم نحاسب، وندان، ونعذب فى النار كما يقول «محمد» بهذا؟.
وطبيعى أن صاحبهم هذا لم يستجب لهذا الضلال، ولم ينخدع لصاحبه المشرك.. ولهذا كان معهم فى هذا المنزل الكريم.. وطبيعى أيضا أن صاحبه قد أخذ طريقه إلى جهنم..
«قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ» .
أي هل أنتم أيها الصحاب الكرام، ناظرون إلى أين استقر المقام بصاحبى هذا؟ إنه هناك فى جهنم! ها هو ذا فانظروا إليه، وإلى ما هو فيه!! «فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ..
وألقى بنظرة إلى حيث النار وأهلها.. فرأى صاحبه فى «سَواءِ الْجَحِيمِ» أي وسط الجحيم، يأخذ مكانا متمكنا منها.. فلقد كان داعية من دعاة السوء، ورأسا من رءوس الكفر..(12/984)
«قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» ..
ولا يجد صاحبهم ما يقوله لصاحبه، إلا أن يتبرأ منه فى الآخرة، كما تبرأ منه فى الدنيا.. إنه ينظر إليه غير راحم، إذ كان- لولا رحمة الله به، وإحسانه إليه- لو اتبعه، وأخذ طريقه معه، أن يكون قرينه فى هذا البلاء الذي يعانيه، وهذا العذاب الذي يكتوى بناره!.
«أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» .
وإنه، وقد أمسك بهذا النعيم العظيم، الذي يخيل إليه- من عظمته، وطيبه- أنه فى حلم يخشى أن يستيقظ منه إنه ليسأل أصحابه هذا السؤال الذي يريد أن يعرف به، هل هو فى حقيقة أم فى حلم: «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟» أحقا لا نموت بعد هذا ولا نفارق هذا النعيم الذي نحن فيه؟ إنه ليعلم هذا يقينا، ولكن يريد علما يثبّت علمه، ويقينا يؤكد يقينه..
وفى قوله: «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى» هو استثناء داخل فى عموم المستفهم عنه، وهو الموت.. أي أفما نموت إلا هذه الموتة الأولى التي بعثنا منها؟ ألا يكون بعد هذا البعث موت.. ثم بعث..؟ ثم إذا كانت هذه الموتة هى آخر موتة، وكان هذا البعث آخر بعث- فهل نظلّ على حالنا هذه من النعيم الذي نحن فيه؟ ألا تتغير بنا الأحوال، كما كان شأننا فى الحياة الدنيا؟ ألا يمكن أن تتبدل حالنا، فنعذب كما يعذّب هؤلاء المعذّبون فى النار؟
إن هذا كلّه يكشف عن أمرين:
أولهما: ما يجد أصحاب الجنّة من نعيم عظيم، لم يقع فى تصوراتهم، ولم يطف بخيالهم.. فهم يحرصون عليه أشدّ الحرص، ويتمنّون الخلود فيه، وقد(12/985)
وعدهم الله الخلود فى جنات النعيم.. كما يقول سبحانه: «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» .
وثانيهما: ما يراه أصحاب الجنة أيضا، من هذا العذاب الذي يلقاه أصحاب النار.
فهم لهذا يفزعون منه، ويخشون أن يكون لهم نصيب منه.. وقد أمّنهم الله شرّ هذه الخواطر المزعجة.. فكانت تحيتهم من الملائكة دائمة موصولة، بقولهم: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (73 الزمر) .. «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (23- 24: الرعد) .
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
هو الجواب الذي يجيب به هذا المتحدث إلى أصحابه، على ما كان يسألهم هو عنه فى قوله: «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ؟
إنه تجاهل العارف لما يعرف، ليزداد يقينا بما عرف، واستيقانا منه.. ولهذا فهو يسأل، وهو يجيب: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. فأى فوز أعظم من الظفر برضا الله، والخلود فى جنّاته؟
جعلنا الله من أهل الفوز برضاه، والخلود فى جنات النعيم..
قوله تعالى:
«لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» .
هو تعقيب على هذا الحديث الذي كان بين أصحاب الجنة، وما تكشف(12/986)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
منه من هذا المقام الكريم، وهذا المنزل الطيب الذي ينزله المؤمنون بالله واليوم الآخر..
فلمثل هذا المقام يسعى الساعون، ولمثل هذا المنزل يعمل العاملون..
وكل سعى إلى غير هذا المقام، هو سعى باطل، وكل عمل لغير هذا المنزل هو عمل لا يعقب إلا الحسرة والندامة..
الآيات: (62- 74) [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ» .؟
هو خطاب للمشركين، وأهل الكفر والضلال.. والمشار إليه هو هذا النعيم الذي ينعم فيه أصحاب الجنة.. أي أىّ خير: أهذا المنزل الكريم، والنعيم العظيم الذي يلقاه أهل الجنة.. أم شجرة الزّقوم هذه، التي هى طعام(12/987)
أهل الشرك والضلال؟ .. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ» ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46 الدخان) .
قوله تعالى:
«إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ» أي إنا جعلنا ذكرها والحديث عنها فى القرآن، فتنة لأهل الظلم والعناد من هؤلاء المشركين، وكانت- لو عقلوا- مزدجرا لهم، وطلبا للنجاة منها..
ولكنهم اتخذوها مادة للتفكه والسخرية، وقال قائلهم: انظروا إلى ما يحدّث به محمد!! إنه يعدنا بشجرة تنبت فى النار، وتطلع وسط اللهب! أرأيتم شجرا تقوم أصوله وفروعه فى النار، فيكون منها ريّه، ونماؤه، ويطلع فى أحشائها زهره وثمره؟ وهكذا يظلّون فى هذا اللغو من القول، غير ملتفتين إلى مالله سبحانه وتعالى من قدرة لا يعجزها شىء، وغير واقفين عند ما لفتهم الله إليه فى قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» ! أو ليس الذي جعل من الشجر الأخضر نارا، بقادر على أن يجعل من النار شجرا أخضر؟ أليس هذا من ذاك؟
قوله تعالى:
«إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ» .
أصل الجحيم: قراره- والطلع: الزهر الذي ينعقد عليه الثمر..
وفى تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين، إشارة إلى بشاعتها مظهرا، الذي ينمّ عن مخبر هو أشد منه بشاعة..
والشياطين، وإن لم يكن لها صورة حقيقية تعرف بها، إلا أن لها صورة متوهمة فى خيالات الناس وتصوراتهم، وهى صورة بشعة مخيفة.. وإذا(12/988)
كانت رأس الشيء هى أظهر ما فيه، وأدل شىء على حسنه أو قبحه، فقد اختير من الشياطين رءوسها التي تتجمع فيها بشاعة الشياطين وقبحها..
قوله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ» الفاء للتفريع.. أي وينبنى على وجود هذه الشجرة فى أصل الجحيم، أن يأكل منها هؤلاء المجرمون، حتى لكأنّ هذه الشجرة ما غرست ونبتت فى الجحيم، إلا ليكون منها طعامهم.
وامتلاء بطونهم منها، ليس عن شهوة أو رغبة، وإنما هو عن قهر وقسر..
إمعانا فى عذابهم، والتنكيل بهم..
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ» .
الشوب: المختلط بغيره من كل شىء، ومنه الشائبة، وهى ما يعلق بالإنسان من أمور لا تليق به، والحميم: السائل الذي اشتد غليانه.
ومع كل طعام شراب.. وإذا كان طعام هؤلاء الأشقياء هو من ثمر تلك الشجرة الجهنمية، فإن شرابهم كذلك هو مما ينبع من عيون هذا الجحيم..
وفى قوله تعالى: «عَلَيْها» إشارة إلى أن مورد الحميم، هو قائم عند هذه الشجرة.. والمعنى، أن لهم عند وردهم على هذه الشجرة، وأكلهم منها، شوبا من حميم، أي أخلاطا من سوائل تغلى وتفور..
ويجوز أن يكون «على» بمعنى «فوق» أي أن لهم فوق هذا الطعام الذي طعموه من شجرة الزقوم- لهم فوق هذا، شراب من حميم، وكأن(12/989)
ذلك مبالغة فى إكرامهم، على سبيل السخرية والاستهزاء، والمبالغة فى النكال والعذاب؟.
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» .
أي ثم يقادون بعد أن يأكلوا ويشربوا، إلى حيث مربطهم، ومنزلهم..
فالشجرة التي يطعم منها الآثمون قائمة فى قعر جهنم، فيساق إليها هؤلاء الآثمون، حتى إذا أكلوا من ثمرها، وشربوا من الحميم الذي يجرى تحت أصولها، أعيدوا إلى حيث كانوا.. وهكذا يغدون ويروحون فى أودية جهنم! قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ» .
هو تعليل لما فيه هؤلاء الآثمون الخاطئون، من عذاب عظيم، وبلاء مقيم..
إنهم ضلّوا عن سواء السبيل، ولم يستمعوا إلى ما جاءهم من نذر، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من هدى.. بل إنهم وجدوا آباءهم على ضلال، فمشوا على آثارهم، واتبعوا خطوهم، وقالوا: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (22: الزخرف) .
ويهرعون: أي يسرعون من غير توقف.. إذ لم يكن لهم عقول يرجعون إليها، ويعرضون ما يعرض لهم من أمور عليها..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ» .
هو عزاء كريم للنبى الكريم، ومواساة له فى الضالين من قومه. إنهم(12/990)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
ليسوا أول الضّالين، ولا آخرهم.. فلقد ضلّ قبلهم أكثر النّاس، وقليل هم المؤمنون «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .
قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .
هو تطمين لقلب النبىّ.. وأن الله سيدفع عنه كيد هؤلاء الضالين، كما فعل بالمرسلين من قبله، إذ نجاهم والمؤمنين معهم. من كيد الكافرين، الذين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .. تهديد لهؤلاء المشركين، وجمع بينهم وبين من أهلكهم الله من المكذّبين برسل الله، على مورد الهلاك، وسوق لهم جميعا إلى عذاب الجحيم..
قوله تعالى:
«إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» .
هو استثناء من «المنذرين» فى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .. أي فلقد أهلكناهم، إلا عباد الله المخلصين، والذين استجابوا لرسل الله، وأخلصوا دينهم لله.. ووقع الفعل على المنذرين جميعا، إذ كانوا هم الكثرة الغالبة الذين أهلكهم الله..
أما المؤمنون، فهم قلة قليلة مستثناة من هذا الطوفان الكبير..
والمخلص: هو من اختاره الله للهدى من بين هذا الركام، وصفّاه من شوائب الضلال الضارب بجرانه على القوم.
الآيات: (75- 98) [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 98]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)(12/991)
التفسير:
قوله تعالى.
«وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» .
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تفصيل لما أجملته الآيتان السابقتان عليها، وهما قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .
فهذا نوح عليه السلام، قد أرسله الله سبحانه، نذيرا إلى قومه، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (1: نوح) .(12/992)
ولقد أنذر نوح قومه، وبالغ فى إنذارهم، فلم يستمعوا له، ولم يقبلوا منه قولا.. فلما يئس منهم لجأ إلى ربه شاكيا: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (5- 7: نوح) .
فلما بلغ به اليأس مداه، دعا ربه أن يأخذهم بعاجل ذنوبهم: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (26- 27: نوح) .
وقد استجاب الله لنوح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» أي نادانا نوح مستغيثا بنا، فأجبناه.. فنعم المجيبون نحن، حيث يجد من يجيبه إلى طلبه.. ويمنحه نصرا عزيزا وفتحا مبينا.
فتباركت يا الله وتعاليت.. وخاب من طرق بابا غير بابك، ووجه وجها إلى غير وجهك!.
«وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» .
معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» أي دعانا نوح، فاستجبنا له، «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» أي من البلاء العظيم، الذي أخذ الظالمين، وهو الطوفان!.
«وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» .
وإذ كان المؤمنون هم أهله، وهم الذين نجوا من هذا الطوفان، فقد كان منهم ذريته التي بقي بها نسله، جيلا بعد جيل..(12/993)
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» .
أي وتركنا عليه ثناء طيبا، باقيا فى الأجيال من بعده..
«سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» .
هو سلام من الله سبحانه وتعالى على نوح فى مجتمعات الإنسانية كلها، يردده كل مؤمن بالله، وبرسل الله..
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» .
أي بمثل هذا الجزاء الحسن نجزى أهل الإحسان من عبادنا، الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات..
«ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» .
أي بعد أن نجينا نوحا ومن معه، أغرقنا الذين حق عليهم القول منّا..
وقدّم نجاة نوح ومن معه، إظهارا للعناية به وبالمؤمنين.. إذ المطلوب أولا هو نجاتهم من هذا الكرب العظم..
هذا، والطوفان الذي أهلك به قوم نوح، ليس طوفانا عامّا شمل الدنيا كلها، وغطى وجه الأرض، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين..
وإنما هو- كما قلنا- طوفان إقليمى محدود.. وقد عرضنا لهذا الأمر بالتفصيل فى سورة «هود» ..
وهذا إبراهيم- عليه السلام- يجىء منذرا قومه..
فيقول سبحانه:
«وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ» .
أي أن من شيعة نوح وأنصاره، والقائمين على دعوته من بعده، إبراهيم(12/994)
وشيعة المرء، أولياؤه وأنصاره..
وحسب إبراهيم- عليه السلام- من شيعة نوح، لأنه كان على الإيمان، بفطرته، فلم تستحب فطرته لعبادة صنم.. فكأنه بهذا كان ممن آمن مع نوح، وركب معه السفينة، وكان من الناجين.. ثم إن إبراهيم قد اعتزل قومه، وتركهم لضلالهم يتخبطون فيه حتى يهلكوا، كما فعل نوح باعتزاله قومه بركوب السفينة تاركا إياهم للبلاء الذي حلّ بهم.. ولهذا كان إبراهيم أمة وحده، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (120: النحل) .
«إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .
أي أن إبراهيم كان على نهج نوح وطريقته، حين جاء ربه، أي أقبل على ربه «بقلب سليم» أي قلب قد سلم من آفات الشرك والضلال، فلم تعلق بفطرته شائبة، بل ظل على الفطرة التي فطره الله عليها، لم يدخل عليها شىء من غبار الشّرك، الذي كان يسدّ وجه الأرض..
«إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ» - بدل من قول الله تعالى:
«إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. أي أن إبراهيم كان شبيها بنوح، حين قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ أي منكرا عليهم تلك المعبودات التي يعبدونها من دون الله.. فهو ونوح على طريق سواء..
«أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» .
الإفك: الباطل والمفترى من الأمور..
وآلهة: بدل من «إفكا» ..(12/995)
والاستفهام إنكارى، أي أتطلبون آلهة من واردات الإفك والافتراء، بدلا من الله رب العالمين؟ أليس ذلك سفها وجهلا، وكفرا؟.
«فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» .
أي فما معتقدكم فى رب العالمين؟ وما تصوركم له؟ وما حسابه عندكم؟
أهو واحد من آلهتكم تلك؟ أم هو على هيئة ملك أو أمير، أو سيد من ساداتكم؟ ..
«وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
(23: فصلت) .
فالله سبحانه وتعالى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (103: الأنعام) .. إن الله- سبحانه- هو مبدع هذا الوجود، وهو القائم عليه، وبيده ملكوت كل شىء.. فكيف تعبدون إلها غيره؟ وكيف ترضون لعقولكم أن تقبل هذه الأحجار آلهة، تتعامل معها، وتتخاضع بين يديها، وتجعلها شريكة لله فى الملك والتدبير؟.
«فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» .
النظرة التي نظرها إبراهيم فى النجوم، هى، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ(12/996)
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(75- 79: الأنعام) .
وسقم إبراهيم هنا، هو سقم نفسى، لما اعتراه من حيرة خلال تلك التجربة التي عاناها مع هذه الكواكب، التي ظل يرصدها ليلة بعد ليلة، ويرعى مسيرتها، ويتأمل وجهها مشرقة وغاربة.. فإذا أشرق واحد منها لقيه حفيّا به، راجيا أن يكون الوجه الذي يرى فيه ربه الذي يعبده، ثم إذا رآه يغرب خاب ظنه فيه، فنفض يديه منه، كما ينفض المرء يديه من ميت دفنه فى التراب.. وهكذا ظل إبراهيم يستقبل وجوه الكواكب، كوكبا كوكبا، ويدفنها واحدا واحدا، وهكذا أيقن- بفطرته، وتجربته- أن إلهه ليس من عالم المنظور فى الأرض أو فى السماء.. إنه- سبحانه- القوة القائمة على هذا الوجود، والسلطان المتصرف فيه، والإله الذي لا يتحول ولا يتبدل، ولا يقع فى حدود النظر.
وهذه النظرة التي نظر بها إبراهيم إلى النجوم هنا، غير تلك النظرة التي جاء ذكرها فى الآيات السابقة، والتي كانت نظرة متسائلة متطلعة، سأل فيها النجم والقمر والشمس، وإنما كانت نظرته هنا نظرة مذكرة له بما كان منه وهو فى سبيل البحث عن الله، قبل أن تأتيه الرسالة، وكأنه يدعو بهذه النظرة قومه إلى أن يسلكوا الطريق الذي سلك، وأن يهتدوا إلى الله بعقولهم كما اهتدى، إن كانوا يستنكفون من اتباعه، والأخذ بما يدعوهم إليه.. ولكن لم تكن لهم عقول تعقل، ولا آذان تسمع.. فولّوا عنه مدبرين.
وقد أقام أكثر المفسرين تأويلهم، لقوله تعالى: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» على أن ذلك النظر كان فى مواجهة قومه، وفى معرض(12/997)
حديثه إليهم حين جاء يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما يعبدون من أصنام..
والذي أقام المفسرين على هذا الرأى- فى نظرنا- هو هذا العطف بالفاءات، المتلاحقة.. «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ» .. ولأن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب- هكذا يقول النحاة- فقد جعلوا هذه الأحداث، حدثا واحدا، يضمها مجلس واحد، ويحتويها ظرف واحد من الزمان، لا تتخلله أحداث!.
ولو نظر المفسرون إلى أبعد من مقررات القواعد النحوية الضيقة، لرأوا أن بين الحدث والحدث هنا أزمانا ممتدة، قد تكون أياما، وقد تكون سنين.. فالتعقيب هنا ليس هو التعقيب الفوري، ولو كان ذلك لكانت رؤية إبراهيم للنجم، وللقمر، وللشمس، فى ليلة واحدة، مع أن هذا غير وارد ولا معقول.. فقد يكون إبراهيم رأى النجم، ورصد تحركاته ليالى كثيرة، ثم تركه وصحب القمر أياما وشهورا.. وكذلك الشمس.. حتى وصل إلى هذا الحكم الذي قضى به فى شأنها جميعا..
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» .
ليس التولّي هنا، بعد نظرة إبراهيم نظرته فى النجوم- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- وإنما كان توليهم عنه هو نهاية المطاف فى دعوته لهم، ومحاجّتهم له.. فقد انتهى الأمر بينه وبين قومه إلى اليأس منهم أن يؤمنوا، وإلى اليأس منه أن يعبد ما يعبدون.. «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» .(12/998)
قوله تعالى:
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟» .
أي تسلل إلى آلهتهم، ودخل عليها بيتها المعدّ لها، من غير أن يراه أحد.. ثم رأى بين يدى تلك الآلهة كثيرا من صنوف المأكولات والمشروبات، وألوان الهدايا التي كان يتقرب بها القوم إليها، فقال ساخرا هازئا: «أَلا تَأْكُلُونَ» ؟ فلما لم يسمع جوابا قال متابعا سخريته:
«ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ» ؟
قوله تعالى:
«فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ» .
أي فنزل عليهم يضربهم بيده اليمنى، ويحطمهم حطما «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً.. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» (58: الأنبياء) .
والتعبير بقوله تعالى «فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً» بدلا من: فأقبل عليهم ضربا للإشارة إلى أنه كان يفعل ما يفعل فى حذر، وفى غير جلبة، حتى لا يحدث صوتا يكشف للقوم عما يجرى هنا!.
فالروغ، والرّوغان، ضرب من العمل، فى ذكاء وحذر.
وقوله: «بِالْيَمِينِ» إشارة إلى الإرادة القوية التي كان يعمل بها فى تحطيم هذه الأصنام، إذ كانت اليد اليمنى هى القوة العاملة فى تنفيذ هذه الإرادة.
قوله تعالى:
«فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ» .(12/999)
أي حين رأى القوم ما حل بآلهتهم، ووقع ما وقع من اضطراب وبلبلة، وانتهى الأمر بينهم إلى أن إبراهيم هو الذي فعل هذه الفعلة بآلهتهم- أقبلوا إليه مسرعين، فى خفة وطيش، ليمسكوا به، وليحاسبوه الحساب العسير على هذا الجرم العظيم! ..
والزفيف: هو الصوت الذي تحدثه النعامة بجناحيها، حين تنطلق مسرعة من وجه خطر يتهددها، فتزّف بجناحيها..
وفى وصف القوم بهذا، تشبيه لهم بالنعامة فى جبنها الذي يطير معه صوابها، حين ترى، أو تتوهم أنها ترى، خطرا، فتنطلق إلى حيث ترمى بها أرجلها، لا إلى حيث يدعوها عقلها، إذ كانت ولا عقل لها، ولا حيلة عندها، حتى إذا دهمها الخطر، دفنت رأسها فى الرمل، وكأنها بذلك قد دخلت مأمنها!! وهكذا القوم فى تصريف أمورهم.. إنهم نعام طائش لا عقل لهم، ولا تدبير عندهم..
قوله تعالى:
«قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟» .
وقد كان لقاء القوم لإبراهيم، لقاء عاصفا مزمجرا، كثرت فيه الرميات بالوعيد والتهديد.. وقد ضرب القرآن الكريم هنا صفحا عن كل ما حدث، إذ كان لهذه القصة حديث فى غير موضع منه.. واكتفى القرآن هنا بالإمساك بكلمة الفصل فى هذه القضية:
«أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟» .
فهذه هى القضية.. وهذا هو السؤال الذي يحسم الأمر فيها..(12/1000)
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» ..
أي أن الله خلقكم وخلق الذي تعملون من أصنام وغيرها..
كيف تعبدون ما تنحتون بأيديكم؟ أليس هذا الذي تنحتونه هو من مخلوقات الله؟.
إن هذه الأصنام التي تخلقونها بأيديكم هى من مادة خلقها الله قبل أن تخلقوها.. فكيف تعبدون ما تخلقون؟ أيعبد الخالق ما خلق؟ هذا وضع مقلوب!.
هذا، وقد كثر الخلاف فى تأويل هذه الآية بين المعتزلة والجبرية، وأهل السنة، على اعتبار أن «ما» هنا مصدرية، وعلى هذا يكون المعنى أن الله خلقهم، وخلق أعمالهم..
وقد ترتب على هذا أن قال الجبرية- إن الله خالق أفعال العباد، والله سبحانه لا يخلق القبيح، وعلى هذا فالأفعال كلّها حسنة، ليس فيها قبيح..
وتعددت فى هذا مذاهبهم، واختلفت مقولاتهم..
وقد أنكر المعتزلة هذا التأويل للآية، واعتبروا «ما» موصولة لا مصدرية، وقالوا إن العبد خالق أفعاله، الحسن منها والقبيح.. ففى الأفعال الحسن والقبيح، ومن ينكر هذا فإنما يكابر فى بدهيات الأمور..
وقال «الأشعري» - من أهل السنة، وممثل رأيهم هنا: إن العبد مكتسب أفعاله، والله خالقها!! ..
وهذه قضية استنفدت جهد العلماء.. وليس هنا مجال عرضها، وقد(12/1001)
عرضنا جانبا من هذه القضية فى مبحث خاص من هذا التفسير تحت عنوان:
«مشيئة الله ومشيئة الإنسان» - كما عرضنا هذه القضية بالتفصيل فى كتابنا.
«القضاء والقدر» ..
وبقي أن نقول إن «ما» فى هذه الآية موصولة لا مصدرية، لأنها لو كانت مصدرية لكان قول إبراهيم لقومه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» - لكان قوله ذلك حجة عليه لا له..
قوله تعالى:
«قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» ..
هذا هو الحكم الذي انتهى إليه رأى القوم فى إبراهيم، وهو أن يموت حرقا بالنار، جزاء له على ما فعل بآلهتهم، فليس لمن يفعل هذا إلا أن يلقى هذا العذاب الأليم.. إن إبراهيم كان يحذّرهم نار الآخرة التي يعذب بها الله سبحانه الذين يعبدون هذه الأصنام..
وهاهى ذى الأصنام تعذّب بالنار من يعبد غيرها!! أليست آلهة؟ وأليس للإله أن يعذّب بالنار من يكفر به، ويتعدّى حدوده؟ ..
قوله تعالى:
«فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ» ..
أي أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يأخذوه بهذا العذاب، فنجى الله إبراهيم من النار- كما نجى نوحا من الطوفان- وجعلهم هم الأسفلين، كما جعل قوم نوح فى قرار الطوفان، وجعل نوحا فوق الطوفان بسفينته..(12/1002)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
الآيات: (99- 113) [سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 113]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» .
لقد نجّى الله إبراهيم من النار، وأغرق قومه فى لجج الكفر والضلال، فتركهم إبراهيم يتخبطون فى هذا البحر اللجّى من الضلال، وقال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» أي إنى متجه إلى ربى، معتزل إياكم، متخذ دارا غير داركم، وموطنا غير موطنكم.. ولا أدرى إلى أين سأذهب.. ولكنى موقن أن الله سيهدينى إلى خير دار، وأطيب مقام، هذا هو ظنى بربي الذي أعبده وأسلم أمرى له..(12/1003)
«رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» وهنا يجد إبراهيم نفسه وحده، بعيدا عن الأهل والوطن.. وقد خلا قلبه من الاشتغال بأمر قومه، فالتفت إلى نفسه، ووجد أن لا ولد له، يؤنسه فى وحدته، ويشد ظهره فى غربته، فسأل ربه أن يرزقه ولدا صالحا، تقربه عينه حين يراه مؤمنا بربه، لا تختلف بينه وبينه السبل، كما اختلفت من قبل بينه وبين أبيه، هو.
«فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» واستجاب الله لإبراهيم دعاءه، وجاءته البشرى من الله سبحانه بهذا الولد الذي طلبه، وأنه «غلام حليم» .. رزين العقل، راجح الرأى، يستدل بعقله على مواقع الحق فى كل أمر يعرض.. وحسب المرء- كمالا، وصلاحا- أن يكون معه عقل سليم، وإدراك صحيح.. والحلم ضد الجهل..
قال الشاعر.
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جنّا إذا ما نجهل
والجهل من واردات العقل السقيم، والإدراك القاصر.
هذا، ولم يرد فى القرآن الكريم أن وصف الله أحدا بالحلم غير إبراهيم، وهذا الولد الذي بشر به، وهو إسماعيل عليه السلام.. فقال تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود) وهذا يعنى أن هذا الغلام، هو على صورة أبيه إبراهيم، فى كمال عقله، وسلامة إدراكه.
«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»(12/1004)
قيل إن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقى هذه البشرى من ربه، رأى أن يكون شكره لله، على هذا الإحسان، وهذا اللطف، بالمبادرة بالاستجابة لما طلب- رأى أن يكون شكره لله أن يقدم هذا الولد قربانا لله.. وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، فى المبالغة فى التقرب إلى الله..
فلما رزق إبراهيم إسماعيل، وهو على نية التقرب به إلى ربه، متى بلغ مبلغ الرجال- رأى فى منامه وهو على تلك النية التي لم يحدد لها يوما معينا- رأى فى منامه أن يذبح هذا الابن، وكان قد بلغ معه السعى، أي صار قادرا على أن يعمل مع أبيه، وأن يسعى له فى بعض حاجاته.. فعرف إبراهيم من هذه الرؤيا أنها تذكير من الله سبحانه بالوفاء بما نذر، وأن يوم الوفاء قد جاء.. فكان هذا الحديث الذي جرى بين الأب وابنه..
«يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» إن الأمر أمر الله.. وإن لك فى هذا الأمر مثل الذي لى.. فإن رأيت أن تطيع أمر الله أطعت أنا أمر الله فيك، فما ذبحك بيدي بأقل ابتلاء لى من ابتلائك! فهل أنت مطيع لأمر الله؟ إن الأمر إليك فى هذا.. «فَانْظُرْ ماذا تَرى!» ؟
وماذا يرى الولد- وهو صورة من أبيه- إلا الامتثال لأمر الله، والطاعة المطلقة لحكمه فيه..؟
«قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» إنه جواب المؤمن بالله، إيمانا لا يرى معه لنفسه حقّا إلى جانب ما لله فيه من حق.. إنه كلّه ملك لله، وللمالك أن يتصرف كما يشاء فيما ملك..(12/1005)
قيل: إن قول إسماعيل حين قرن مشيئة لله بما سيكون عليه من صبر مضاف إلى صبر الصابرين- قد كان سببا فى أن وفّاه الله جزاء الصابرين كاملا، فنجاه من هذا البلاء، وفداه بالذبح العظيم، على حين أن موسى عليه السلام، إذ قرن مشيئة الله بما وعد به العبد الصالح من الصبر، وخص بهذا الصبر نفسه فقال:
«سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» - لم يعط الصبر الذي ينال به ما طلب من صاحبه، من علم، بل تفرقت بينهما سبل بعد ثلاث مراحل على هذا الطريق الذي سلكاه معا..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» أسلما: أي استسلما لأمر الله، ورضيا حكمه فيهما.
تلّه للجبين: أي طرحه على التلّ: والتلّ: المكان المرتفع، كهضبة أو نحوها.. والجبين. الجبهة.. والمعنى: أنه لما أن امتثل الولد ما دعاه إليه أبوه، وأسلما أمرهما إلى الله، وأسلم وجه ابنه للتلّ، أي وضع وجهه عليه، حتى لا يرى بعينيه عملية ذبحه، ناداه ربّه: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا- لما حدث كلّ هذا، قبلنا نذره، وتقبلنا قربانه، وجزيناه الجزاء الأوفى.. «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» - أي فمثل هذا الجزاء العظيم نجزى أهل الإحسان..
فجواب «لمّا» فى قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما» محذوف، دلّ عليه قوله تعالى «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» واقعا فى حيّز «لمّا» وهذا الذي ذهبنا إليه يخالف الرأى الذي عليه المفسرون، وهو أن جواب «لمّا» واقع تقديرا بعد «أسلما» .. ويكون قوله تعالى: «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ»(12/1006)
كلام مستأنف، وما بعده معطوف عليه.. أو أن الجواب هو قوله تعالى:
«وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وأن «الواو» زائدة!! قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ» هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، وعلى هذا الامتحان الذي امتحن الله به عبدين من عباده المؤمنين..
وفى هذا التعقيب تنويه من الله سبحانه وتعالى بهذين النبيين الكريمين، وبوثاقة إيمانهما، وأنهما كانا أهلا لهذا الامتحان العظيم..
قوله تعالى:
«وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» الفداء: هو افتداء شىء بشىء، وإحلاله محلّه فى مقام البذل، والإحسان..
وفى هذا يقول النابغة الذبياني
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمّر من مال ومن ولد
والذبح: ما يذبح من الحيوان..
ومن الجزاء الحسن الذي جازى الله به إبراهيم، أنه سبحانه تقبل قربانه إلى الله بولده، دون أن يصاب هذا الولد بسوء.. ثم ضاعف هذا الإحسان بعد أن تولى سبحانه فداء هذا الولد بهذا الذبح العظيم الذي قدمه لإبراهيم.. فإبراهيم أراد أن يقدم قربانا لله، فقدم الله سبحانه له قربانا من فضله وإحسانه. وهذا ما يشير إليه وصف الذبح بأنه عظيم.. لأنه مقدّم من عند الله الذي تقدم إليه القربات!! فما أعظم هذا الإحسان، وما أكرم هذا العطاء، الذي لا يستقلّ بحمده الوجود كله!(12/1007)
وليس الشأن فى هذا الذّبح، أكان كبشا نزل من الجنة، أو أخذ من الأرض.. وإنما الشأن فى أنه كان رمزا لرضا الله، وتبادله الإحسان مع خليله إبراهيم.
قوله تعالى:
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» .
ومن إحسان الله تعالى على خليله إبراهيم، أن جعل له ذكرا باقيا بعده إلى يوم الدين، وجعل فى ذريته النبوة والكتاب..
قوله تعالى:
«سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» ..
هو سلام من الله عليه، وسلام من المؤمنين بالله، على من سلّم لله عليه..
وهذا من الذكر الحسن، الباقي على الزمن،. فعلى لسان كل مؤمن، ثناء وسلام على إبراهيم إلى يوم الدين..
قوله تعالى:
«كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .
أي بمثل هذا الجزاء الحسن، وهو الذكر المتجدد بالثناء، نجزى المحسنين من عبادنا، فنبقى لهم فى الناس ذكرا طيبا، ونجعل فيهم الأسوة الحسنة لكل من يريد الإحسان..
قوله تعالى:
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» ..
هو تعليل لهذا الإحسان العظيم الذي أفاضه سبحانه وتعالى على خليله،(12/1008)
وأن الإيمان بالله، هو الذي سلك به هذا المسلك، ورفعه إلى هذا المقام..
وأن من أراد أن يكون فى عباد الله المحسنين، فليكن أولا من عباد الله المؤمنين.. فإنه لا إحسان إلا على أساس متين من الإيمان..
قوله تعالى:
«وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
أي ومن الجزاء الحسن كذلك لإبراهيم أن بشره الله سبحانه بولد آخر إلى جانب هذا الولد، الذي أراد ذبحه وتقديمه قربانا لله..
قوله تعالى:
«وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ» ..
أي وجعلنا البركة مشتملة عليه وعلى إسحق، وذلك بتكثير نسلهما، وجعل النبوة والكتاب فى ذريتهما..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ» إشارة إلى أن هذه البركة- لا تنال ذريتهما جميعا.. بل ينالها من أراد الله سبحانه وتعالى به الخير والإحسان من ذريتهما.. فمن ذريتهما سيكون المؤمن المحسن، ومن ذريتهما سيكون الكافر الظالم.. وهذا ما يشير إليه وصف الظلم بأنه مبين.. إذ أنه لا ظلم أعظم من الكفر والشرك بالله، كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «13: لقمان» .
وقد يسأل سائل: لماذا لم تكن هذه البركة عامة شاملة فى ذرية هذين النبيين المباركين، إلى يوم الدين؟ ..
والجواب: أن ذلك- لو كان- لرفع التكليف عن كل من ولد(12/1009)
لهذين النبيين، وعمن ولد لذريتهما، وذرية ذريتهما.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وهذا ما لا يدخل على حكمة الله، فيما قضى به فى عباده من ابتلاء.
ليميز الله الخبيث من الطيب.
وهكذا خرج إبراهيم من هذا الابتلاء بهذا الفيض الغدق من فضل الله وإحسانه..
فأولا: حفظ الله سبحانه له ابنه، وعافاه من الذبح..: «يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» ..
وثانيا: قدم الله سبحانه له قربانا..: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ..
وثالثا: أبقى الله سبحانه له ذكرا حسنا، فى المؤمنين إلى يوم الدين:
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» ..
ورابعا: جعل الله سبحانه الدعاء له بالصلاة والسلام، قربانا يتقرب به المؤمنون إلى الله: «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» .
وخامسا: وهب الله سبحانه وتعالى له ولدا آخر إلى هذا الولد الذي لم يكن له غيره: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» .
وسادسا: بارك الله سبحانه على إبراهيم، وبارك على إسحق تكريما لأبيه وإحسانا إليه..
[من الذبيح؟ إسماعيل أم إسحق؟] وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو: من الذبيح؟ إسماعيل.. أم إسحق؟ وهو أمر ما كان يجوز أن نثير حوله جدلا، إذ كان- فى(12/1010)
رأينا- أوضح من أن يجادل فيه، وهو أن الذبيح- على يقين- هو إسماعيل عليه السلام.
ولكن أصابع اليهود قد لعبت فى هذا النسج المحكم، ونسجت حوله خيوطا من الكذب والتضليل، كان لها تأثير فى تفكير بعض المسلمين، الذين لهم مقامهم فى المسلمين، ومكانتهم فى الإسلام، حتى لقد وقف بعضهم موقف الشكّ والتوقف.. وحتى لقد تجاوز بعضهم هذا، فرجّح القول بأن الذبيح هو «إسحاق» لا «إسماعيل» !!.
ونحبّ أن ننبّه هنا إلى أننا لا نفاضل بين هذين النبيين الكريمين..
فكلاهما، فى مقامه العظيم عند الله، وفى مكانه المكين من قلوب المسلمين جميعا.. فالمسلمون جميعا يختمون كل صلاة بهذا الدعاء: «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .. وإسماعيل وإسحاق- عليهما السلام- هما رأس آل إبراهيم، وفرعا شجرتها المباركة.
وإنما الذي يدعونا إلى هذا، هو حمل الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر هذا الحديث، على غير ما ينطلق به مدلول ألفاظها، حتى تستجيب للقول الذي دسه اليهود على المسلمين، بأن إسحق هو الذبيح.. وهذا- فى رأينا- عدوان على القرآن الكريم، يبلغ حد التبديل، وتحريف الكلم عن مواضعه! وقبل أن ننظر فى آيات الله التي تحدث بهذا الحديث، يحسن أن نكشف عن وجه «اليهود» فى هذا المقام، وعن المدخل الذي دخلوا على المسلمين منه..
وقبل أن نواجه اليهود بهذه الفرية التي افتروها، بحسن كذلك أن نذكر ما لليهود من جرأة على الكتاب الذي فى أيديهم، وعلى العبث به، وإلقاء أهوائهم وضلالاتهم عليه، دون تحرج أو تأثم.. وفى هذا يقول الله سبحانه(12/1011)
وتعالى فيهم: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (79: البقرة) ويقول سبحانه فيهم أيضا: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» (91: الأنعام) فاليهود- كما وصفهم القرآن- قد بدلوا كثيرا وحرفوا كثيرا فى التوراة، ولم يحترموا كلمة الله، ولم يقفوا عند منطوقها أو مفهومها.. وقد كادوا للإسلام بهذا كثيرا، ورفعوا من التوراة كل ما كان فيها من دلائل وإشارات على بعثة النبي العربي، كما رفعوا منها كثيرا من الأحكام التي جاء الإسلام يدينهم بها كما جاءت فى شريعتهم.. ولم يقفوا عند هذا فى الكيد للإسلام.. بل راحوا يدسون على المسلمين أحاديث ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيمون لها سندا ينتظم فى سلسلته عددا من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، وخاصة من كثرت روايات الحديث عنهم كأبى هريرة وابن عباس- رضى الله عنهما- وغيرهما.
وأكثر من هذا، فإن بعضا من اليهود دخل الإسلام، لا عن عقيدة، ولكن ليكيد له.. وقد كشف بعضهم عن ظاهر، انخدع به المسلمون، بما رأوا فيهم من مظاهر الاستقامة، والزهد، والغيرة على الدين، حتى اطمأنوا إليهم، وقبلوا كل ما يأتى من جهتهم..
وحسبنا أن نذكر هنا بولس «الرسول» الذي كان من أشد اليهود عداوة للمسيح- عليه السلام- وملاحقة له بالأذى، هو وأتباعه.. ثم رأى أن يكيد للمسيحية كيدا أبلغ من هذا، فدخل فى دين المسيحية، ثم ما لبث أن أخذ مكان القيادة فيها، وأصبح الداعية الأول بعد المسيح.. وبهذا أمكنه أن يحدث ما أحدث فى المسيحية من تثليث، لم يكن أحد من أتباع المسيح وحوارييه(12/1012)
يعرف شيئا عنه.. حتى أن الأناجيل الأربعة المعتمدة الآن- على رغم ما حدث فيها من تحريف- لم تجىء فيها إشارة واحدة إلى ألوهية المسيح، وإلى جعله أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس.. «1»
نقول هذا لنقيم منه شاهدا على أن هذا النص الذي جاء فى التوراة عن أن إسحق هو الذبيح- هذا النص هو من مفتريات اليهود على الله، ومن تبديلهم لكلمات الله.. ومثل كل مجرم، فى أنه لا بد أن يترك على جريمته أثرا ينمّ عنه، وشاهدا يشهد عليه، مهما اجتهد فى أخذ الحذر والحيطة، ومهما بلغ من مكر وخبث ودهاء، فقد ترك اليهود على هذا النص الذي حرفوه، ما يشير بأكثر من إصبع، وينطق بأكثر من فم، بأنهم كاذبون مفترون! تقول التوراة التي فى أيدى اليهود (فى الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين) : «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له:
«يا إبراهيم، فقال هأنذا.. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال التي أقول لك..»
والتلفيق واضح فى هذا النص، لا يحتاج الكشف عن زيفه إلى اجتهاد، إذ يكاد يكون الحكم على زيفه نصّا منطوقا.. وإنه لا اجتهاد مع النص..
فإذا كان إسحق هو الابن الوحيد لإبراهيم، فلا داعى لأن يحدّده الله له بالاسم، فيقول له: ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق.. وكان يكفى أن يقال له:
ابنك، أو وحيدك، أو إسحق..
ومن جهة أخرى، فإن التوراة تذكر أنه قد ولد لإبراهيم ابن من زوجه هاجر، اسمه إسماعيل، وأنه ولد قبل إسحق بأربعة عشر عاما.. فكيف
__________
(1) وقد عرضنا لهذه القضية فى دراسة مفصلة فى كتابنا (المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل) .(12/1013)
يكون إسحق الابن الوحيد لإبراهيم؟ وهل إسماعيل ليس ابنا لإبراهيم حتى يكون إسحق هو الابن الوحيد له؟ ولو قالت التوراة هذا لما كان هناك تضارب فى أقوالها.. ولكن التوراة تقول عن إسماعيل إنه ابن إبراهيم..
تقول التوراة: «فولدت هاجر لأبرام (إبراهيم) ابنا، ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل» (الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين) .
وإذا كنا نعذر اليهود فى هذا التقوّل على الله، إذ كان ذلك طبيعة فيهم وشأنا غالبا عليهم، وإذ كانوا إنما يبغون بهذا مصلحة خاصة لهم، وكيدا للإسلام، وتلبيسا على المسلمين.. وإذا كنا نعذر العلماء والدارسين من غير المسلمين، أن يأخذوا بما فى التوراة، مما يخالف القرآن الكريم، وأن يرجحوا نصوصها على نصوص القرآن- فإننا لا نجد وجها للعذر فيما كان من بعض المسلمين- وفيهم العلماء الأعلام- من التوقف فى نصوص القرآن، إزاء هذا النصّ الذي جاءت به التوراة، أو الأخذ به، وإقامة تأويل الآيات القرآنية عليه.. إن ذلك- كما قلنا- يكاد يكون تبديلا لآيات الله، وتحريفا للكلم عن مواضعه..
ومن عجب أن نجد عالما فقيها مفسّرا كالإمام ابن جرير الطبري، يرجّح القول بأن إسحق هو الذبيح.. ومن عجب أيضا أن نجد عالما جليلا، كابن عياض، يذهب إلى هذا المذهب ويقول به، فى كتابه: «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» .. ومن عجب- ولا عجب- أن نرى رجلا كالجاحظ يجعل هذه المقولة من المسلّمات عنده، فيتحدث فى كتابه البيان والتبيين، عن إسحق، ويضيف إليه تلك الصفة، وهى أنه الذبيح..
وأكثر من هذا، فإن هناك أحاديث كثيرة تنسب إلى أصحاب رسول الله كابن عباس، وابن مسعود وأبى هريرة وغيرهم، وفيها أن إسحق هو الذبيح..(12/1014)
وفى تفسير ابن كثير مقولات كثيرة فى هذا المقام، تضاف إلى صحابة رسول الله، لتقع من النفوس موقع القبول والتسليم.. وقد فضحها ابن كثير رضى الله عنه، وكشف عن المصدر الذي جاءت منه.. يقول ابن كثير:
«وهذه الأقوال- والله أعلم- كلها مأخوذة عن «كعب الأحبار» فإنه لما أسلم فى الدولة العمريّة، جعل يحدث عمر رضى الله عنه، عن كتبه قديما، فربما استمع له عمر، فترخص الناس فى استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة- والله أعلم- حاجة إلى حرف واحد مما عنده» .
ولا نجد حجة أبلغ ولا أقوى من تلك الحجج الدامغة التي قدمها الإمام ابن تيمية- نضر الله وجهه- فى دفع تلك الفرية، وفضح هذه الدسيسة التي دسها اليهود على هذه الحادثة..
ولا يستمدّ ابن تيمية حججه من نصوص الكتاب الكريم وحده، إذ أن الذين لا يدينون بالإسلام، لا يأخذون أنفسهم بنصوص كتابه، ولهذا يعمد ابن تيمية إلى الواقع التأريخي لإبراهيم وذريته، وللظروف التي عاش فيها مع زوجيه- سارة وهاجر- ومع ولديه- إسماعيل وإسحق..
ويقيم على ذلك شواهد من التوراة نفسها، ثم يعمد إلى هذا النصّ الذي تصرح فيه التوراة بأن إسحق هو الذبيح فيكشف عن زيفه وباطله..
يقول ابن تيمية رحمه الله.
«وهذا القول- أي القول بأن إسحق هو الذبيح- متلقّى من أهل الكتاب (يعنى اليهود) مع أنه باطل بنصّ كتابهم: فإن فيه: «إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه، بكره» ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن «إسماعيل» هو بكر أولاده.(12/1015)
«والذي غرّ أصحاب هذا القول- أي القول بان الذبيح هو إسحق- أن فى التوراة التي بأيديهم: «ادع ابنك إسحاق» .. وهذه زيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: «ادع ابنك ووحيدك» .
«ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف، وأحبّوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، وأبى الله أن يجعل هذا إلّا لأهله..
ثم يمضى ابن تيمية فيقول:
«وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحق، والله تعالى، قد بشّر أم إسحق به، وبابنه يعقوب.. فقال تعالى عن الملائكة، إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: «لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» (70- 71: هود) فمحال أن يبشرها الله بأن يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه؟ .. ولا ريب أن يعقوب عليه السلام- داخل فى البشارة، فتتناول البشارة إسحق، ويعقوب فى لفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه..» ؟
يريد ابن تيمية أن يقول هنا، إن البشرى التي تلقتها سارة فى مواجهة إبراهيم، كانت بأن يولد لها ولد، هو إسحق، وأن يولد لإسحق ولد هو يعقوب.. وهذا يقطع بأن إسحق لن يموت حتى يولد له يعقوب.. وهذا يقطع أيضا بألا يكون إسحق هو القربان الذي يتقرب به إبراهيم إلى ربّه..
إذ لا بد- بحكم هذه البشرى- أن يعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال، ويتزوج، ويولد له.. فى حين أن الذي يذبح- عادة- يكون غلاما حدثا.. وهذا ما كان فى شأن الولد الذي قدمه إبراهيم للذبح، كما يقول الله تعالى: «فَلَمَّا(12/1016)
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ»
.. وهذا يكون فى سن لا تتجاوز العاشرة..
ثم يقول ابن تيمية:
«ويقال أيضا: إن الله سبحانه لمّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى سورة الصافات قال: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ..» ثم قال تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» .. فهذه بشارة من الله تعالى، له، شكرا على صبره على ما أمر به.. وهذا ظاهر جدا فى أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنصّ فيه..
«فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته.. لمّا صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر ربه، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوّة- قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر، أي مقدرا نبوّته، فلا يمكن إخراج البشارة من أن تقع على الأصل، ثم تخصّ بالحال الجارية مجرى الفضيلة.. هذا محال من الكلام.. بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى..» .
ثم يمضى ابن تيمية فيقول:
«وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى، سمّى الذبيح حليما.. يشير إلى قوله تعالى: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح، طاعة لربه.. ولما ذكر إسحق سماه «عليما» .. فقال تعالى: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (28: الذاريات) .(12/1017)
«وأيضا.. فإنهما.. أي إبراهيم وسارة.. بشرا به (يعنى إسحق) على الكبر، واليأس من الولد وهذا بخلاف إسماعيل، فإنه ولد قبل ذلك (كما تصرح بذلك التوراة) ..
هذا بعض ما ساقه ابن تيمية من أدلة على أن إسماعيل هو الذبيح.. وإذا كان لنا أن نضيف إلى هذا شيئا، وهو مستغن بذاته عن كل إضافة..
فإنا نقول:
أولا: إن الله سبحانه ذكر عن إسماعيل قوله: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» (54: مريم) .
وصدق الوعد، هو صفة كاشفة لما كان من إمضاء إسماعيل ما وعد به أباه فى قوله: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ.. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وقد وجده كما وعد، لم تختلج فيه خالجة تردّد، أو رجوع عن هذا الوعد.
بل مضى به إلى غابتة صابرا، مستسلما لأمر الله، منقادا ليد أبيه، حتى أضجعه مضجع الذّبح، وبدأ يجرى السكّين على رقبته! وقد تكرر فى القرآن وصف إسماعيل بالصير، وجمعه مع الكرام الصابرين من رسل الله، فقال تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (82- 85: الأنبياء) هذا، على حين لم يجر القرآن ذكرا خاصا لإسحق، وإنما كان دائما فى سباق الحديث عن ذريّة أبيه من الأنبياء..
فاختصاص إسماعيل بهذا الذكر المنفرد، ووصفه بتلك الصفة التي هى من(12/1018)
ألزم الصفات لمن يدخل فى هذا الامتحان، ويخرج منه سليما معافى- يقطع بأنه الذبيح.
وثانيا: إسماعيل- عليه السلام- كان بكر إبراهيم، يشهد بذلك التاريخ، وتحدث به التوراة.. والعادة التي كانت جارية فى التضحية بالأبناء، وتقديمهم قربانا لله- هى أن يكون الولد البكر، هو القربان الذي يتقرب به إلى الله.. ولهذا أضاف اليهود بأيديهم الآثمة وصف «البكر» إلى إسحق مع أنه لم يكن بكرا، وذلك ليسوّدوا وجه الباطل بهذه الفعلة البلهاء، التي كشفت عن زيفهم، إذ ما كان لهم أن يقولوا: إن إسحق هو الذبيح، حتى يكون بكر أبيه، وتلك هى عادتهم التي جروا عليها فى التضحية بالأبناء، كما تحدث بذلك التوراة فى مواضع كثيرة منها.. حيث كان الولد البكر هو المتخير للتضحية، والمنذور للقربان، كما كان الولد البكر، هو الوارث لكل ما كان لأبيه..
وثالثا: أن إسماعيل، كان دعوة مستجابة من الله سبحانه لأبيه إبراهيم، إذ قال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فكان أن بشره الله سبحانه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» .
أما إسحق، فقد كان بشرى غير منتظرة، بشر الله بها امرأة إبراهيم، على يأس من أن يكون لها ولد، إذ يقول الله تعالى: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» (71- 72: هود) .
وهذا يعنى أنه لو أراد إبراهيم أن يقدم ابنا من أبنائه قربانا لله، لكان الحقّ يقتضيه أن يقدم الولد الذي طلبه، واستجاب الله له فيه، لا أن يقدم(12/1019)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
الابن الذي وهب الله إياه امرأته.. إن ذلك مما يدخل الضيم على هذه الهبة العظيمة من الله، الواهب المنان.
ولا يعترض على هذا، بأن القرآن الكريم قد ذكر أن الله سبحانه بشر إبراهيم بإسحاق فى قوله تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» .. فإنه إذ كانت البشرى لامرأته بالولد، فإنها فى الوقت نفسه بشرى له.. وخصّت هى بالبشرى، إذ كانت ولا ولد لها، على حين كان لإبراهيم ولد من امرأته «هاجر» وهو إسماعيل..
الآيات: (114- 132) [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 132]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)(12/1020)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ» .
هو استئناف لقصة أخرى من قصص أنبياء الله، وما أفاض عليهم الله سبحانه وتعالى، من جزيل عطاياه، وسابغ أفضاله.. وقد ذكرت الآيات السابقة قصة نوح وإبراهيم..
وهنا فى هذه الآيات تذكر قصة موسى وهرون، ثم قصة إلياس، كما سنرى..
والمنّ: فى الأصل تذكير المحسن للمحسن إليه بالإحسان، فى شىء من الاستعلاء، الذي يجرح العواطف ويؤذى الشعور. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (17: الحجرات) .
ومنّ الله سبحانه وتعالى على عباده بتذكيرهم بنعمه وإحسانه إليهم- ليس فيه شىء مما يكون بين الناس والناس من منّ.. بل هو الشرف الذي لا ينال، والعزة التي لا تطاول، أن يكون الإنسان بموضع الإحسان من ربه..
إنه إحسان من مالك الإحسان، وفضل من رب الفضل، وجود من صاحب الجود.. فمن أصابه شىء من عطاء ربه وإحسانه، فهو تاج شرف يزين به جبينه، وثوب فخار وعزة يمشى به فى الناس..
فمن يستحى أن يمد يده إلى الله سائلا متضرعا؟
ومن يجد فى صدره حرجا- من أمير أو صغير- أن يسأل رب الأرباب، وسيد الملوك والأمراء؟(12/1021)
روى أن لبيدا الشاعر، تلقّى من أحد الأمراء عطاء جزلا، وكان قد حرّم على نفسه أن يقول شعرا بعد أن أسلم، فقال لابنته- وكانت شاعرة- أجيبى عنى الأمير، فمدحته بقصيدة ختمتها بقولها:
فعد إنّ الكريم له معاد ... وظنى بابن أروى أن يعودا
فقال لها أبوها أحسنت يا بنية، لولا أنك سألت!! فقالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم! فقال لها أبوها، وأنت فى هذا أشعر!! فالمنّ إنما يستقبح حين يكون بين الأنداد، أو المتقاربين منزلة..
أما حين يكون المنّ من عظيم لصغير، فهو تنويه به، وهو مدح له، وهو ثناء، عليه..
فقوله تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ» - هو تنويه بشأنهما، ورفع لقدرهما عند الله، وأنهما أهل لفضله وإحسانه..
قوله تعالى:
«وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» .
الكرب العظيم: هو ما كان فيه بنو إسرائيل من محنة قاسية تحت يد فرعون، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» (30- 31: الدخان) .
فهذا من منن الله سبحانه وتعالى على عبديه، موسى وهرون، وعلى قومهما، إذ نجاهما من هذا البلاء المبين، الذي كانوا فيه تحت يد فرعون.
قوله تعالى:
«وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» ..(12/1022)
والنصر والغلب، هو ما كان من نجاة بنى إسرائيل، وغرق فرعون..
إذ كانت هناك معركة قائمة فعلا بين الفريقين.. حيث كان موسى وبنو إسرائيل جادين فى الهرب، وكان فرعون من ورائهما بجنوده يريد اللحاق بهم.. ولو لحق بهم لأهلكهم جميعا.
قوله تعالى:
«وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ» .
المستبين: أي الواضح البين.. وهو التوراة..
وقد نسب الكتاب إلى موسى وهرون، مع أن الكتاب كتاب موسى، لأن هرون كان يبشر فى قومه بهذا الكتاب، وإن لم يكن تلقاه من ربه.!
فهو شريك فى الرسالة، وشريك فى الكتاب بهذا الاعتبار!.
قوله تعالى:
«وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» .
هذه الآيات، تعدد النعم التي أنعم الله بها على هذين النبيين الكريمين.
وهذا هو جزاء المحسنين من عباد الله.. وقد شرحنا فى آيات سابقة المعاني التي ضمت عليها هذه الآيات..
قوله تعالى:
«وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» .
اختلفت أقوال المفسرين فى إلياس عليه السلام(12/1023)
والذي لا شك فيه هو أن «إلياس» عليه السلام كان معروفا عند العرب، فيما يحدثهم به اليهود عن أنبيائهم..
وإلياس، هو المذكور فى التوراة باسم إيليا بن متى.. وهو من أنبياء بنى إسرائيل، الذين سبقوا زكريا ويحيى عليهما السلام..
وقد كان اليهود، لجفاء طبعهم، وبلادة حسهم، وكلب أنانيتهم- ينظرون إلى الله نظرا قاصرا محدودا، فيرونه إله إسرائيل، لا إله العالمين، ومن ثمّ جعلوه قائد جيوشهم، وسموه «رب الجنود» ثم تمادوا فى هذا التصور الخاطئ لجلال الله وعظمته، فتصوروه رجلا شديد البأس، مثل فرعون الذي كانوا يرون فيه أقصى ما يمكن أن يتصوروا من قوة، حتى لقد امتلأت التوراة بالحديث عن الله، بأنه «رجل حرب» . وحتى إنهم ليتحدثون إليه على لسان أنبيائهم كحديثهم مع واحد منهم..
فكانت دعوة إلياس- عليه السلام- إلى اليهود، هى أن يصححوا هذا الفهم القاصر الجهول، لله، وأن يقيموا وجوههم إليه على أنه ربّ العالمين! فقوله: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟» إنكار عليهم أن يدعوا الله بعلا.. والبعل هو الرجل، كما فى قوله تعالى: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» (72: هود) .
وقوله: «وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ؟
أي أتدعون الله رجلا، وتلبسونه صفات الرجال، وتتركون دعوته بالصفات اللائقة به، وهو أحسن الخالقين، ورب العالمين؟.
قوله تعالى:
«فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» .(12/1024)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
أي أنّهم إذ لم يأخذوا بنصحه، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من تصحيح معتقدهم فى الله- «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» أي فهم لهذا سيساقون إلى الحساب والجزاء بين يدى الله يوم القيامة، وسيجزون جزاء المكذبين الضالين..
«إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» ويستثنى من هذا الجزاء عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله، ولم يلبسوا إيمانهم بالضلالات والأباطيل..
قوله تعالى:
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» .
مضى تفسير أمثال هذه الآيات.
والياسين: هو إلياس الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» .
الآيات: (133- 148) [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 148]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)(12/1025)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» الظرف «إذ» هو قيد لنجاة لوط وأهله بسبب أنه كان من المرسلين، الذين اختارهم الله لحمل الله رسالته إلى عباده، فدخل بهذا فى الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (51: غافر) .
وقوله تعالى: «إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» - إشارة إلى امرأة لوط، التي كانت من الضالين، الذين لم يستجيبوا لدعوته، فأهلكها الله فيمن أهلك من قوم لوط، وقد ضربها الله سبحانه وتعالى مثلا لنبتة السوء تنبت فى الأرض الطيّبة، فقال تعالى فيها وفى امرأة نوح: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (10: التحريم) .
والعابرون: هم من عبروا، وهلكوا، وعلتهم غيرة التراب. وقوله تعالى:
«ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ»
- إشارة إلى قوم لوط الذين أهلكهم الله، بعد أن نجّى لوطا وأهله، إلا امرأته، التي هلكت مع الهالكين(12/1026)
قوله تعالى:
«وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
الخطاب للمشركين من قريش، وأنهم يمرون على أطلال هؤلاء القوم الهالكين، ويرون ما حل بهم من غضب الله ونقمته.. يرون ذلك فى وضح النهار، ويرونه بالليل، وذلك فى طريق تجاراتهم إلى الشام..
وفى قيد المرور بالصباح وبالليل، إشارة إلى أن آثار القوم الهالكين قائمة فى مكانها، يراها كل من يمر بها فى أي وقت.. إنها فى معرض النظر دائما..
وفى هذا تهديد لهؤلاء المشركين، أن يفعل الله بهم ما فعل بإخوان لهم من قبل، خالفوا رسولهم، وكذبوه، وتهددوه بالأذى.. فلو أنه كان لهؤلاء المشركين عقول، لكان لهم فى مصارع الظالمين عبرة ومزدجر! قوله تعالى:
«وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» .
يونس- عليه السلام- هو نبى من أنبياء الله، ورسول من رسله إلى قرية من قرى الشام، اسمها «نينوى» .
وهو إذ أبق إلى الفلك المشحون، كان من المرسلين، أي لم تنزع عنه صفة الرسالة.
وأبق: أي هرب، وهروبه كان من الرسالة التي حملها إلى قومه، حيث لم يصبر طويلا على أذاهم، فسمى آبقا، أي هاربا، كما يأبق العبد من سيده. وسيد يونس، هو الله سبحانه وتعالى..(12/1027)
والفلك المشحون: أي الممتلئ بالناس والأمتعة..
وقوله تعالى: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» .
ساهم: أي اقترع، وأخذ سهما.. والمدحضين: المغلوبين، الساقطين، الذين خاب سهمهم.. ومنه حجة داحضة: أي ساقطة، غير مقبولة.. وأرض دحض: أي زلق، لا يثبت من يمشى عليها..
أي أن يونس، حين فر من قومه، وزايل المكان الذي يجب أن يكون فيه، ليؤدى رسالة ربه- ركب مركبا مشحونا، ثم حين سارت السفينة واحتواها البحر، ماجت واضطربت، وكادت تغرق.. وكان من تدبير ركاب السفينة أن يتخففوا من أمتعتهم، فألقوها فى اليم، ثم لمّا لم يجد ذلك شيئا، رأوا أن يلقوا ببعض ركابها فى الماء، حتى يسلم الباقون من الغرق، ثم إنه لكى يكونوا جميعا على سواء فى هذا الأمر، اقترعوا على من يخرج من السفينة منهم، فأصابت القرعة- فيمن أصابت- «يونس» .. «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
..
قوله تعالى:
«فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» .
أي حين وقعت القرعة على يونس، وألقى به فى الماء- التقمه الحوت..!!
وفى تعريف «الحوت» - إشارة إلى أنه حوت مرصود لهذه الغاية، وأنه مسوق بقدرة الله إلى تلك المهمة، وهى ابتلاع يونس!.
وقوله تعالى: «وَهُوَ مُلِيمٌ» جملة حالية، أي ابتلعه الحوت،(12/1028)
وهو ملوم على ما كان منه من فرار من قومه..
و «مليم» اسم فاعل من الفعل ألام، أي أتى ما يستحق اللوم عليه..
قوله تعالى:
«فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .
أي لولا أن يونس حين التقمه الحوت، ذكر ربه، واستغفر لذنبه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» - لولا هذا، لما خرج من بطن الحوت، ولما عاد إلى الحياة إلى يوم البعث.. ولبثه فى بطن الحوت إلى يوم البعث، أي موته فى بطنه، ثم قبره فيه.. إلى أن يموت الحوت، فإذا مات الحوت، كان البحر قبرهما معا..
والسؤال هنا هو: ماذا لو لم يكن يونس من المسبحين؟ أكان يلبث فى بطن الحوت إلى يوم البعث؟.
والجواب بلا تردد: نعم، فقد قرن الله سبحانه الأسباب بالمسببات، وجعل المسببات رهنا بأسبابها..
وحيث أن الله سبحانه وتعالى، قد جعل نجاة يونس قدرا من قدره، وحيث أنه سبحانه، قد جعل نفاذ هذا القدر متعلقا بوقوع التسبيح من يونس- فإنه كان من الحتم المقضىّ، أن يسبّح يونس حين التقمه الحوت، وأن ينجو بسبب هذا التسبيح.
فتسبيح يونس قدر من قدر الله.. تماما، كنجاته من بطن الحوت..
وعلى هذا فإنا إذا أعدنا السؤال بصورة أخرى، وهو:(12/1029)
أما وقد نجا يونس من الموت فى بطن الحوت.. فهل لو لم يسبح أكان ينجو؟ ..
والجواب هنا هو: إنّ فرض عدم التسبيح أمر مستحيل، ما دامت النجاة قد تمت، وما دامت النجاة مشروطة بالتسبيح.. وفى الأصول الفقهية: أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب!.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أدوية نتداوى بها.. أتردّ من قدر الله شيئا؟.
فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «هى من قدر الله..» !
فالقدر ليس حكما مستقلا بذاته، منعزلا عن أحداث الوجود.. بل إن كل قدر هو مقدور لأقدار سابقة، كما أنه- وهو مقدور- هو قدر لأقدار لاحقة..
قوله تعالى:
«فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ» .
نبذناه. أي طرحناه، ونبذ الشيء: لفظه وطرحه..
والعراء: الخلاء..
واليقطين: اختلف فيه.. أهو الدّباء، أي القرع، أم الطّلح، وهو الموز..؟
وفى قوله تعالى: «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ» - إشارة إلى أن يونس عليه السلام، ما يزال واقعا تحت اللائمة من ربه سبحانه وتعالى، وأنه لم ينل الرضا بعد،(12/1030)
وإن كان فى الطريق إلى هذه الغاية، بما أخذ به من تربية وتأديب من ربّه! ..
فلقد نبذه الله سبحانه بالعراء، ولو شاء سبحانه، لكساه سندسا وحريرا..
ولكن هكذا كانت إرادة الله فيه، أن يخرجه من الدنيا عاريا، كما خرج من قومه هاربا.. ولقد أظلّه- سبحانه- بشجرة من تلك الأشجار التي تنبسط أوراقها على سطح الأرض، فيضطر المستظل بها إلى أن يضع خذه على الأرض!.
وهذا كلّه أدب سماوى لعبد من عباد الله المكرمين.. وهو أدب فيه معاناة ذاتية، وتعمل لها أجهزة الإنسان كلها، من جسمية وعقلية، وروحية..
ولو شاء سبحانه- لما أدخل عبده يونس فى هذه التجربة، ولكنه- سبحانه- قضت إرادته- جلّ وعلا- أن يقوم كل كائن بما أودع فيه من قوّى..
ففى ذلك تحقيق لذاته، وإثبات لوجوده.. والإنسان من بين الكائنات كلها، النصيب الأوفى فى هذا المجال، فذلك من مقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، والتي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها!.
قوله تعالى:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» ..
وهذا الإرسال، هو بعد تلك التجربة، فهو إرسال متجدد، بعد أن ليس يونس عزما جديدا، ومشاعر جديدة.. وكأنه بهذا يبدأ الرسالة من جديد!.
وقوله تعالى: «إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» - هو التحديد الحق، الذي يضبط أعداد تلك الجماعة.. فهى ليست مائة ألف، بل إنها نزيد على مائة(12/1031)
ألف، أما هذه الزيادة على مائة الألف، فلا يمكن ضبطها إلا للحظة لا تتجاوز غمضة عين، إذ كانت مواليد هذه الجماعة مستمرة، ونموها مستمرا فى كل لحظة، وإن أي قول يضبط به عددها ضبطا كاملا، لا يمكن أن يقع موقع الصدق الذي يمثل الواقع، حيث أنه ما يكاد المحصى الذي يحصى هذه الأعداد- ما يكاد ينطق بما أحصى، حتى تكون الحياة قد ألقت إلى هذه الأعداد بأعداد.. فإذا قال إنها مائة ألف ومائتان وعشرون مثلا، تغير هذا العدد بمجرد تلفظه به، فزاد واحدا أو اثنين.. أو عشرة، أو أكثر..
والذي يلفت النظر أيضا من هذا التعبير القرآنى، هو لفظ «يزيدون» ..
فهذا اللفظ لا يتغير أبدا، وحكمه ملازم لهذه الجماعة ما دامت على الحياة، فهى فى زيادة، وليست فى نقص، إذا أن هذا هو شأن الكائنات الحية.. إنها فى زيادة..
حيث أن مواليدها أكثر من أمواتها..
قوله تعالى:
«فَآمَنُوا.. فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
وفى العطف بالفاء، دليل على سرعة استجابة القوم لرسولهم.. وهذا ما يكشف عن أنهم كانوا على استعداد للإيمان، وإن توقفوا شيئا ما، عند دعوة يونس لهم أول الأمر.. ولو أنه صبر قليلا على خلافهم له، لآمنوا..
وهذا التلبث والانتظار فى عدم قبول الدعوة، هو حق لهم، إذ أن من حق الإنسان أن يلقى الأمور بعقله، وأن يأخذ الوقت الكافي للنظر والبحث، حتى يعرف ما هو مدعو إليه، وهل هو حق أو باطل؟.
وفى هذه القصة، إشارة إلى أن الإنسان- من حيث هو إنسان-(12/1032)
ليس شرّا خالصا، وأنه يشتمل على قدر كبير من الخير، وأنه كما فى الناس الأشرار الذين يغلب شرّهم خيرهم، ويغتال ما فيهم من فطرة، فإن فى الناس من يغلب خيرهم شرّهم، وأنهم مستعدون لتلقّى الخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أنه ليس كلّ النّاس على شاكلة هؤلاء المشركين من قريش، الذين جمدت عقولهم على هذا الضلال الذي أمسك بها.. ثم إن فى هذا إشارة ثالثة إلى أنه ليس للرسول أن تقوم له الحجة على قومه، إلا بعد أن يبلغ رسالته إليهم كاملة، وأن يحتمل فى سبيلها كلّ جهد، وأن يبذل لها كل قدرة ممكنة لديه، وإلا كان فى موضع اللوم والعتب، كما أن المرسل إليهم يكونون تحت طائلة اللوم والعقاب، لو أنهم دعوا وأبوا أن يستجيبوا.. وهكذا يسوّى حساب الناس عند الله. كلّ يأخذ حقّه كاملا، يستوى فى هذا الحساب، الرسل ومن أرسلوا إليهم.. إنهم جميعا عباد الله.. وإنه لا محاباة ولا مجاملة.
ولا شك أن هذه اللّفتة السماوية إلى الإنسان- من حيث هو إنسان- جديرة بأن تفتح عيونا أعماها الضّلال، إلى ما لله سبحانه على الإنسان من فضل وإحسان، وأنه لن تخفّ موازينه عند الله- حتى مع أنبيائه وسفرائه إلى خلقه- إلا إذا استخفّ الإنسان بميزانه، واستهان بوجوده، وقبل أن ينزل راضيا، عن هذا المقام الكريم الذي أحلّه الله فيه، فزهد فى عقله، وأبى أن يوجهه ليرتاد له مواقع الخير.
فهل وقف المشركون من قريش، وغير قريش، عند هذا؟ وهل أخذوا بحقّهم الإنسانى فى هذا الوجود؟ وهل هم مستعدّون لأن يثبتوا أنهم أهل لهذا المقام الكريم، الذي سوّى الله سبحانه وتعالى فيه بين عباد الله، وبين رسل الله، فى موقف الحساب والمساءلة؟ ذلك ما يكشف عنه الزمن منهم، وذلك ما ينجلى عنه الموقف بينهم وبين هذا الرسول الكريم الذي لا يزال معهم.(12/1033)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
الآيات: (149- 170) [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَاسْتَفْتِهِمْ.. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟» .
مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها، للآيات التي قبلها، والتي عرضت قصّة يونس مع قومه- أنها دعوة، مجدّدة إلى هؤلاء المشركين، ومقابلة- ربما تكون أخيرة- بين هؤلاء المشركين وبين رسول الله إليهم،(12/1034)
إنها أشبه بذلك اللقاء الجديد الذي كان بين يونس وقومه.. وقد آمن قوم يونس.. فهل يؤمن هؤلاء المشركون، بعد هذا اللقاء الجديد بينهم وبين رسول الله؟
وفى هذا اللقاء بين رسول الله وبين المشركين، يدعوهم الرسول إلى أن يستحضروا عقولهم، وإلى أن يفتوه فيما يستفتيهم فيه.. إنهم هنا فى مقام الفتيا، ذلك المقام الذي لا يقوم فيه إلا أصحاب العلم والعقل، وإلا أهل الرأى والفهم.
فهل هم أهل لهذا؟ وهل هم مستعدّون لأن يفتوا فيما يستفتون فيه؟ وإن الذي يستفتون فيه ليس إلّا بديهة من بدهيّات العقل عند العقلاء.. فهل يخطئون وجه الصواب فى هذه البديهيّات؟
- «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟» .
هذه هى القضية التي يطلب إليهم الرأى فيها: - إذا كان هناك فى المخلوقات بنات وبنون.. ثم كانت هناك قسمة بينهم وبين الله.. فأىّ تكون له البنات، وأىّ يكون له البنون؟
لا شكّ أن البنات عندهم أنزل درجة من البنين.. فهل يقضى العقل- عندهم- أن يكون لله البنات، ويكون لهم البنون؟ أهذه قسمة عادلة؟
أيكون للإله الخالق دون ما لهم؟ إن ذلك جور فى الحكومة، وخرق فى الرأى، وضلال فى الفتيا.. ولهذا نقض الله عليهم رأيهم هذا، وردّ قسمتهم تلك الجائرة.. فقال تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (21، 22: النجم) .
قوله تعالى:
«أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ» ؟.(12/1035)
إنهم كانوا يقولون عن الملائكة: إنهم بنات الله.. وقد جعلوهم إناثا..
وهذا الحكم على الله بأنه لا يلد إلا البنات- تعالى الله عن أن يلد أو يولد- فيه عدوان عظيم على الله.. فهو فوق أنه عدوان بنسبة الولد إلى الله تعالى هو عدوان آخر بجعل هذا الولد من صنف الإناث لا الذكور.. فلو أنه كان لله أن يتخذ ولدا، أفيتخذه أنثى؟ إنهم لا يرضون أن تولد لهم البنات.
فإذا ولدت لهم بنت- ضاقوا بها، بل خجلوا أن يظهروا فى الناس ولهم بنات ينتسبن إليهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» (58- 59: النحل) .
وقوله تعالى: «وَهُمْ شاهِدُونَ» جملة حالية، ينكر بها عليهم أنهم لم يشهدوا خلق هؤلاء الملائكة، ولم يشاركوا فيه، حتى يكون لهم قول فى هذا الأمر.. إنهم يحكمون بلا علم، ويقضون بغير حجة..
قوله تعالى:
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» .
فى هذه الآيات عرض لمقولتهم فى تلك الفتيا التي استفتوا فيها. وتسفيه لهذا القول الأحمق الجهول الذي قالوه..
إنهم يقولون.. إفكا وبهتانا «وَلَدَ اللَّهُ» أي أن الله يلد ولدا..(12/1036)
وهذا إفك وضلال، سواء كان هذا الولد ذكرا أم أنثى.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
ثم إنهم ليقولون- إفكا وبهتانا- إن مواليد الله إناث، وليسوا ذكورا..
- «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟» فما لكم إذن لا ترضون بأن يولد لكم الإناث؟ ..
- «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» أهذا حكم يستقيم حتى مع منطقكم أنتم؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟ أفلا تصححون هذا التناقض الذي وقعتم فيه، أيها المستفتون؟ ..
قوله تعالى:
«أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
وإذا لم تكن لكم عقول تعقل، وتقيم لكم على هذا الذي تقولونه حجة- فهل معكم بهذا «سلطان مبين» أي كتاب من عند الله ينطق بهذا؟
«فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ»
هذا «إن كنتم صادقين» !.
قوله تعالى:
«وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» ..
أي ومن مفترياتهم على الله سبحانه، أن جعلوا بينه- سبحانه- وبين «الجنّة» أي العالم الخفي، غير المنظور لهم، وهو عالم الملائكة والجن- جعلوا بين الله وبين هذه المخلوقات الخفية، نسبا وقرابة، حيث نسبوا إليه(12/1037)
- سبحانه- الولد، والولد لا يكون إلا من زواج، ولا يكون زواج إلا بين متناسبين، متقاربين فى الصورة، والطبيعة..
وهذا العالم الخفي، الذي يرهبه المشركون، ويتخذون منه أربابا يعبدونها من دون الله، لاعتقادهم- الفاسد- أن بينهم وبين الله قرابة ونسبا- هذا العالم يعلمون أنهم محضرون بين يدى الله، ومحاسبون على ما كان منهم..
إنهم خلق الله، ولن يخرجوا عن سلطان الله.. فسبحان الله، وتنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون، ذلك الوصف الذي يسوون فيه بين الخالق والمخلوق! ..
والمراد بالجنة هنا، هم الشياطين.. وإحضارهم، هو للحساب، والجزاء..
وقوله تعالى: «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» هو استثناء من قوله تعالى:
«لَمُحْضَرُونَ» ..
أي أن هذا العالم الخفي، يعلم أنه معبود لله، وأنه محاسب بين يديه، وأنهم سيلقون العذاب الأليم، إلا عباد الله المخلصين منهم، وهم الملائكة..
فإنهم- وإن كانوا من الجنة، أي العالم الخفي- عباد مخلصون، أي ممحّضون للخير، مفطورون على الطاعة، لا يقع منهم مالا يرضاه الخالق، جلّ وعلا..
والجنة: جمع جن.. وهم المخلوقات غير المنظورة من ملائكة، وجن..
وأصله من الخفاء وعدم الظهور، ومنه الجنبن، الذي فى رحم الأم، ومنه الجنون، لأنه يستر العقل ويغطى عليه، ومنه المجنّ، وهو الترس، الذي يستر به المحارب مواطن القتل منه، عن عدوه..(12/1038)
قوله تعالى:
«فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ» ..
الخطاب هنا للمشركين، الذين عبدوا القوى الخفية، من ملائكة وجنّ والفاتن: من يجىء بالفتنة، ليخدع بها غيره، ويغرر من يستجيب له..
وفى الآية الكريمة، استخفاف بشأن المشركين، وبما يعبدون من شياطين، فإنهم وما يعبدون، لا يملكون من أمر الله شيئا، وإنهم لا يستطيعون أن يفتنوا أحدا من عباد الله، إلا من كان من أهل الضلال، ومن سبقت إرادة الله فيه أنه من أصحاب الجحيم.. كما يقول الله تعالى لإبليس- لعنه الله:
«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» (42: الحجر) .
والصّالى: المصطلى بالنار، المستدفئ بها، والصّالون للجحيم، هم المعذبون بالنار..
قوله تعالى:
«وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» ..
هذا هو لسان حال الملائكة، تتردد أصدؤه من الملأ الأعلى، ليملأ أسماع العالمين، مؤمنهم وكافرهم جميعا.
إن كل ملك منهم، له مكانه الذي أقامه لله فيه، وله منزلته بين إخوانه.(12/1039)
فهم ليسوا على درجة واحدة، بل هم- فى منازل الكرامة والإحسان- درجات عند الله، كما أن الناس درجات، فلا يستوى المؤمنون والكافرون، ولا يستوى مؤمن ومؤمن، ولا كافر وكافر.. فلكلّ مكانه، ولكل درجته، وليس لأحد منهم أن ينتقل من حال إلى حال، أو يتحول من مكان إلى مكان.. بل هو أبدا، حيث أقامه الله سبحانه..
وفى قولهم: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» - إشارة إلى أن الملائكة- وهم فى هذه المنزلة العالية عند ربهم- هم «الصافون» أي القائمون صفوفا يعبدون الله، وهم «المسبحون» بحمده.. كما يقول سبحانه فيهم: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (20: الأنبياء) .. فكيف يعبد من يعبد؟ أفليس معبوده أولى بالعبادة منه؟ ..
قوله تعالى:
«وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» ..
هو حكاية لمقولة من مقولات المشركين، كانوا يرددونها قبل مبعث لنبى إليهم.. إنهم كانوا يتمنون أن يكون عندهم ذكر من الأولين.. أي كتاب من عند الله، تلقاه آباؤهم من قبلهم، ويتلقونه هم عن آبائهم، كما كان ذلك شأن أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين يعيشون بينهم..
إنه لو كان لهم ذلك لكانوا- كما يدّعون- من عباد الله القائمين على طريق الحق، الذين لا يدخل عليهم شىء من الباطل والضلال..
و «إن» هنا هى المخففة من الثقيلة «إنّ» .. واسمها ضمير محذوف، أي إنهم.. وخبرها جملة «كانُوا لَيَقُولُونَ» ..(12/1040)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
قوله تعالى:
«فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .
معطوف على محذوف، تقديره، ولقد جاءهم الذكر، الذي كانوا يتمنونه، فكفروا به..
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» - تهديد لهم، ووعيد.. إنهم جهلوا أو تجاهلوا ما يجر عليهم موقفهم هذا الذي يقفونه من الذكر الذي جاءهم، وسوف يجىء اليوم الذي يعلمون فيه ما جهلوا أو تجاهلوا، ولن يكون حينئذ بين أيديهم إلا الحسرة والندم..
الآيات: (171- 182) [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» .(12/1041)
فى هذه الآيات تهديد للكافرين، وإنذار لهم بهذا الوعد الكريم، الذي وعد الله به رسله بالنصر والغلب..
فهذا الصراع الدائر بينهم وبين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- سينتهى آخر الأمر بنصر الله للنبى وللمؤمنين معه، على هؤلاء المشركين..
فتلك سنة الله فيما بين الرسل وأقوامهم.. وكلمة الله التي سبقت، هى ما أشار إليه سبحانه فى قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) .
وفى قوله تعالى: َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ»
- إشارة إلى أن المؤمنين هم جند الله، وان الله لن يتخلّى عن جنده الذين يقاتلون فى سبيله، ويدافعون عن دينه، وما نزل من الحق..
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» .
هو دعوة إلى النبي من ربه سبحانه، أن يدع هؤلاء المشركين وما هم فيه من شرك، وذلك إلى وقت قريب، سيلقاهم فيه، وسيرون تحقيق هذا الوعد الذي وعد الله رسله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله..
وفى قوله تعالى: «وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» وعيد للمشركين بما ينتظرهم من مصير مشئوم، يرونه بأعينهم فيما يصابون به فى أنفسهم، يوم يلتقى الجمعان، يوم بدر..
وفي حذف المفعول فى «يبصرون» إشارة إلى أن هذا الذي سيبصرونه، هو مما سيطلع عليهم من عالم الغيب، من حيث لا يقدّرون، ولا يتوقعون..(12/1042)
قوله تعالى:
«أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» ؟.
هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم على شركهم، وعلى استخفافهم بوعيد الله، وتكذيبهم له.. ولهذا فهم يتحدّون النبي بأن يأتيهم بهذا العذاب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) .
قوله تعالى:
«فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» .
أي أن هذا العذاب الذي يستخفون به، ويطلبون- متحدّين- تعجيله لهم- هذا العذاب إذا نزل بهم فيالسوء حالهم وما يلقون منه..
وفى إسناد السوء إلى صباحهم، لا إليهم، إشارة إلى أنه صباح مشئوم، يطلع عليهم بالمساءات كلها، لأنه كلّه صباح سوء بالإضافة إليهم..
وفى توقيت العذاب بالصباح، إشارة أخرى إلى أن العذاب الذي سينزل بهم، هو صباح يوم من أيام السوء عليهم، وهذا ما كان فى صباح يوم بدر..
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
قوله تعالى:
«وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ» .
دعوة أخرى إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن يرى بعينيه فى هذه الدنيا هزيمة المشركين- أن يتولى عنهم إلى يوم الدين.. فمن(12/1043)
آمن منهم، فقد نجا، ومن أمسك بالشرك الذي انعقد عليه قلبه، فهو فى الخاسرين..
وقوله تعالى: «وَأَبْصِرْ» أي انظر ماذا يلقون فى هذا اليوم، يوم القيامة، «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» هم هذا المصير الذي سيصبرون إليه.
قوله تعالى:
«سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
بهذه الآيات الثلاث تختم السورة،. وبهذا التنزيه لله عن الشريك والولد، والتسبيح بحمده، والتمجيد لعزته، والسلام على رسله، والحمد لله على ما أفاض على الناس من نعم، وما بعث فيهم من رسل- بهذا كله تعمر القلوب، وتلهج الألسنة..(12/1044)
38- سورة ص
نزولها: مكية عدد آياتها: ثمان وثمانون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة واثنتان وثلاثون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كان من الآيات التي ختمت بها سورة الصافات قوله تعالى عن المشركين:
«وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» - وكان بدء سورة ص ردّا على هؤلاء المشركين، وعلى ادعائهم هذا.. فهذا هو القرآن ذو الذكر قد جاءهم..
فماذا كان منهم؟ لقد كذبوا به، «وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» !!.
كذلك كان مما ختمت به السورة السابقة قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» .
فجاء فى هذه السورة- سورة ص- «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» - جاء إخبارا بالغيب، بما سيحل بهؤلاء المشركين، وبما ينزل بهم من هزيمة هم وما يجمعون من جنود الباطل لحرب النبىّ..
وهكذا يصفح ختام سورة الصافات، بدء سورة (ص) مصافحة لقاء، لا سلام مودّع.(12/1045)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 11) [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
«ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ» .
«ص» هو حرف من حروف المعجم، بدئت به السورة، كما بدئت كل من سورتى «ق» و «ن» بحرف واحد، على خلاف السور التي بدئت بحروف، حيث بدىء بعضها بحرفين، مثل (طه) و (يس) وبدىء(12/1046)
بعضها بثلاثة أحرف، مثل «الم» و «الر» ، وبعضها بأربعة مثل «المر» وبعضها بخمسة مثل: «كهيعص» و (حم عسق) ..
والملاحظ أن هذه السور الثلاث التي بدئت بحرف واحد، قد جعل الحرف اسما لها، وإن كان غلب على سورة «ق» اسم القلم، وكذلك الشأن فيما بدىء بحرفين، وهما «طه» و «يس» .. أما السور الأخرى التي بدئت بأكثر من حرفين فلم تكن الحروف التي بدئت بها، علما عليها.. ولعل فى هذا ما يشير إلى أن هذه الحروف ليست حروفا بالمعنى المفهوم لها فى النحو، وإنما هى أسماء، ذات دلالات، وأن الحرف هنا قد صار اسما على السورة، وعلما عليها..
وعلى هذا يصح أن يكون «ص» - والله أعلم- اسما مقسما به، ويكون «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» معطوفا عليه، فيكون المقسم به هو (ص) ، والقرآن معا..
وإذ كان قوله تعالى: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» معطوفا على مقسم به وهو «ص» - كان «ص» ذا شأن جليل، وجلال عظيم، كشأن القرآن وجلال القرآن..
والقرآن الكريم، هو كلام الله، وكلام الله صفة من صفات الله، وصفات الله هى ذات الله.
وإذن فيكون القول بأن «ص» هو اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، قولا له مفهوم على هذا الاعتبار..
ويصح أن يكون «ص» - والله أعلم- إشارة مجملة إلى ما استقبل به النبىّ والمؤمنون قوله تعالى فى آخر الصافات: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي سبّحنا بحمدك ربّنا وحقّ ص والقرآن ذى الذكر، الذي آمنا به..(12/1047)
وعلى القول الأول يكون جواب القسم محذوفا، ويكون المعنى: وحقّ الله، وحقّ القرآن ذى الذكر، لقد تنزهت ربّنا عن الشريك والولد، فلك الحمد، ولرسلك السلام.. ولكن الذين كفروا «فى عزة» أي غرور بأنفسهم، «وشقاق» أي منازعة فى هذا الأمر الذي سلّم لك به الوجود كله..
وعلى القول الثاني، يكون جواب القسم، هو ما ختمت به سورة الصافات، وهو قوله تعالى «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، وقد تقدم الجواب على القسم.
وقوله تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ» .
وصف المشركين بالعزة، هو فى مقابل قوله تعالى فى آخر «الصافات» «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ» .. فهذه العزة التي للمشركين هى عزة باطلة مدّعاة، هى عزة غرور، وحمق وجهل، تلك العزة التي يخيل لمدعيها أنه واحد هذه الدنيا، ومالك أمرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى شأن مدعى هذه العزة الكاذبة: «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» (206: البقرة) ..
فعزة الكافرين هى من هذه العزة، التي تملأ كيان صاحبها غرورا وتعاليا..
وفى حرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن هذه العزة الكاذبة، مستولية على أهلها، مغطية على أبصارهم، فلا يرون على صفحة مرآتها إلا أنفسهم، فى هذا الثوب الزائف الذي لبسوه.
والشقاق الذي، فيه هؤلاء الكافرون، هو منازعتهم لله فى عزته، واستكبارهم عن أن يستجيبوا لله، ويؤمنوا به قوله تعالى:
«كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» .(12/1048)
«كم» هنا خبرية، تفيد التكثير.. أي ما أكثر ما أهلكنا قبل هؤلاء الكافرين الذي لبسوا هذه العزة الزائفة- ما أكثر ما أهلكنا قبلهم من أمم ظالمة، كانت أكثر منهم قوة، وأعز سلطانا، فلما جاءهم بأسنا نادوا مستغيثين، فلم يغاثوا، إذ كان قد فات أوان الغوث: «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» .
و «لات» أداة تفيد النفي، بمعنى «لا» والتاء زائدة، لتأكيد النفي وتقويته..
و «المناص» المفرّ، والملجأ.. ومنه الناصية، وهى الرأس من كل شىء.
وناصية الجبل أعلاه الذي يعتصم به.
قوله تعالى:
«وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» .
أي أن هؤلاء المشركين، قد عجبوا أن جاءهم رسول بشر منهم، وقال الكافرون عن هذا الرسول، «هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» فرموه بالسحر، واتهموه بالكذب! وفى قوله تعالى: «وَعَجِبُوا» إسناد للعجب إليهم جميعا.. فهذا العجب هو الذي استقبل به المشركون بعثة الرسول فيهم.. ثم كانوا فريقين: فريقا لم يتلبث كثيرا فى عجبه من هذا الرسول البشر.. فما هى إلا وقفة- طالت أو قصرت- ثم رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده فآمن بالله.. وفريقا ظل على عجبه هذا، فتولد منه الإنكار والكفر، وعلى حين قال المؤمنون: آمنا بالله، ورسول الله، قال الكافرون: هذا ساحر كذاب..
قوله تعالى:
«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» ..
هو من مقولة المشركين، الذين قالوا هذا القول المنكر فى النبي: «ساحِرٌ كَذَّابٌ» ..(12/1049)
وهم بقولهم: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» هو تعجب من دعوة الرسول لهم إلى توحيد الله، ونبذ ما يعبدون من دونه من آلهة.. إنها دعوة غير معقولة وغير مقبولة عندهم..
إذ كيف تكون الآلهة إلها واحدا؟ وكيف ينزل كل إله منها عن سلطانه إن شيخ القبيلة، أو زعيم الجماعة، لا يقبل أن ينزل عن مكانه من الرياسة لزعيم آخر، ولو كان هذا معقولا ومقبولا، لكانت قريش مثلا تحت زعيم واحد.
فإذا كان هذا غير ممكن فى مجتمع القبائل، فكيف يمكن هذا فى مجتمع الآلهة؟
«إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» .. أي مثير للعجب، الذي ليس وراءه عجب! قوله تعالى:
«وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ» أي أنه لم يطل العجب منهم، بل أعطوا ظهورهم لما سمعوا من كلام الله، وتنادوا: أن اصبروا على آلهتكم، وتمسكوا بها.. أما هذا الذي سمعتموه من محمد، فإنما هو كيد من كيده، يريد به حاجة فى نفسه!! قوله تعالى:
«ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ» .
أي إن هذا القول لم نسمع به فى الديانة الآخرة. وهى المسيحية، التي هى آخر الديانات السماوية.. فهاهم أولاء يرون أتباع المسيحية- وهم أهل الكتاب- يجعلون لله ابنا، هو المسيح، ويجعلونه إلها، كما يجعلون أمه إلها.. فكيف إذن يكون الإله إلها واحدا؟ وأين تذهب ألوهية المسيح، وأمّ المسيح؟ «إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ» أي كذب وافتراء على الله.. إذ لو كان الله يأبى أن يكون معه آلهة لما قبل أن يكون المسيح، وأم المسيح إلهين معه!! قوله تعالى:
«أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.. بَلْ لَمَّا(12/1050)
يَذُوقُوا عَذابِ»
. وإذا اطمأنوا إلى هذا المنطق السقيم، الذي أقاموا منه الحجة الباطلة على كذب النبي ودعوته أن يكون الآلهة إلها واحدا- راحوا ينظرون فى النبي ذاته مع صرف النظر عن محتوى رسالته، بعد أن أظهروا بطلانها- بزعمهم- فرأوا أنه على فرض التسليم بصدق ما جاء به- أنه ليس أهلا لأن يتلقى من الله هذا الذكر، وفيهم من هو أكثر مالا وولدا.. فكيف تتخيره السماء دونهم؟ وأين عين السماء عن هؤلاء السادة منهم؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) .
وفى تقديم متعلق الفعل «عليه» على فاعله «الذكر» - إشارة إلى أن الإنكار للقرآن هنا، ليس منظورا إليه منهم، بقدر إنكارهم لاختيار الرسول لهذا الأمر، وترك ساداتهم ورجالاتهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» - إضرابا على إنكارهم لشخص الرسول فيهم.. فإن الأمر ليس أمر الرسول، وإنما هو أمر ما أرسل به، والذي كان أولى بالنظر فيه، وإلى مواقع الصدق منه، وإلى محامله من الهدى والخير.. إنّ ذلك هو الذي كان ينبغى النظر إليه والوقوف عنده، والتعرف عليه، ثم قبوله أو التوقف فيه..
ثم إذ كان لهم نظر فى حامل الرسالة بعد هذا، فليكن نظرا قائما من وراء النظر فيما يحمل إليهم.. ولكنهم قلبوا الأوضاع، فنظروا إلى الرسول بمعزل عن هذا الذي يحمله إليهم، فلم يروا فيه إلا واحدا منهم.. ثم إنهم إذ نظروا إليه فى هذا الوضع، لم ينظروا إلى القيم الإنسانية العالية التي يشتمل عليها كيانه، من مكارم الأخلاق، وصفاء الروح، وعظمة النفس، فكل هذا لا حساب له فى موازينهم التي يزنون بها الرجال، تلك الموازين التي لا يقام وزن الرجال(12/1051)
فيها إلا بكثرة المال والأولاد! ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- إذا وزن بهذا الميزان المادي، لا يكاد يقام له وزن، ولو أنه كان فى ميزان الروح والنفس يرجح العالمين جميعا.!!
وإنهم ليسوا فى شك من الرسول وحسب، بل إنهم فى شك من الرسالة التي يحملها إليهم، وفى القرآن الكريم الذي يتلوه عليهم.. وإنهم كما نظروا إلى محمد ووزنوه بهذا الميزان الفاسد، نظروا إلى ذكر الله، ووزنوه بميزانهم المضطرب المختل، فقالوا عنه: هو شعر، وهو سحر، وهو أساطير الأولين..
إلى آخر تلك المقولات التي قالوها فى كلام الله..
وفى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» - وفى إضافة الذكر إلى الله- إشارة إلى أن حكمهم على القرآن، وتكذيبهم له، ليس حكما، على محمد، ولا تكذيبا له، بل هو حكم على الله وتكذيب لله، فهذا القرآن قرآنه، وهذا الكلام كلامه.. وإذن. فإن حسابهم ليس بينهم وبين محمد، وإنما حسابهم بينهم وبين الله..
وفى قوله تعالى: «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» - إضراب على الحديث إليهم بمنطق الحق، وإنهاء لهذا الموقف معهم، إذ لا تجدى معهم حجة.. وإذن فليذوقوا العذاب الذي يسوقه الله إليهم، بعد أن رفضوا هذه الرحمة المهداة لهم..
وفى قوله تعالى: «لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» تهديد لهم بالعذاب الذي لم يذوفوا طعمه بعد، وأنه آت لا ريب فيه..
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» .(12/1052)
أي وإلى أن يقع العذاب المرسل إلى هؤلاء المشركين، فلينظروا فى هذه القضية، وليجيبوا منها على هذا السؤال: أعندهم خزائن رحمة الله، حتى يتصرفوا فى هذه الرحمة كما يشاءون، فيسوقوها إلى من شاءوا، ويصرفوها عمّن شاءوا؟ وإذا كانت رحمتنا قد شاءت لها إرادتنا أن تجىء إلى «محمد» وأن تجعله الرسول المصطفى لرسالة السماء من بينهم، فهل فى مقدورهم أن يتحكموا فى إرادتنا، وأن يصرفوا هذه الرحمة عنه، وأن يسوقوها إلى الرجل الذي يتخيرونه منهم؟ أليس ذلك مصادمة منهم لمشيئة الله، وتحديا لإرادته؟ «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (32: الزخرف) .. فهل هم يقسمون فيما بينهم رحمة الله فيما أفاء عليهم من نعم، فأغنى وأقنى، ومنح ومنع؟
وفى وصف الله سبحانه وتعالى «بالعزّة» .. إشارة إلى أن مشيئته لا تغلب، وأن إرادته لا تنازع «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) ..
وفى وصفه سبحانه «بالوهاب» .. إشارة أخرى إلى أن هباته وعطاياه سبحانه- كثيرة لا تنفد، وأنه ليس لهم- وتلك هى هبات الله الشاملة، وعطاياه الغامرة- أن يحسدوا «محمدا» على ما أعطاه الله، فإن لهم من هذا العطاء شيئا كثيرا لو أرادوا أن ينالوا منه.. فهذا الخير الذي بين يديه، هو خير مسوق إليهم، وهذه الرحمة التي وضعها الله بين يديه، هى لهم، فليردوا مواردها، وليستقوا من ينابيعها، فإنها رحمة السماء إلى الناس جميعا..
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ» .
أي ألهؤلاء المشركين ملك ما فى السموات والأرض، ليشاركوا الله فى(12/1053)
تصريفه، ويكون لهم ما شاءوا من منح ومنع، وإحسان وحرمان؟ إن لم يكن لهم ذلك، أو شىء منه، فليقفوا عند حدّهم، وليأخذوا بالأسباب التي فى أيديهم.. تلك الأسباب، التي لو أحسنوا استخدامها لامتلأت أيديهم من فضل الله وإحسانه.. فما لهم إذن يتطلعون إلى السماء وأسبابها، ويعترضون على أحكامها ومقدّراتها، وبين أيديهم الأسباب القريبة التي ينالون بها الخير من قريب؟ .. وما بالهم لا يتخذون طريقهم إلى كتاب الله، وينظرون بعقولهم فى آياته وكلماته؟. إنهم لو فعلوا لأصابوا كلّ خير، ولظفروا بالسعادة فى الدنيا والآخرة.. ولكنهم فى ضلال يعمهون.. إنهم ينظرون إلى مقادير السماء، ولن يصلوا، وإنهم يعمون عما فى أيديهم فلم ينالوا شيئا.. وذلك هو الخسران المبين..
ويجوز أن يكون هذا تعجيزا لهم، وتحديا لهذا المدّعى الذي يدّعونه فيما تنطق به حالهم من تكبر واستعلاء، واعتراض على ما لله سبحانه وتعالى من تصريف فى ملكه، فيعطى ويحرم، ويغنى ويفقر.. فإن كان لهم مع سلطان الله سلطان، فليمدّوا أسبابهم إلى السماء، وليرتقوا إلى السماء، وليقوموا على سلطانها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (42: الإسراء) .
قوله تعالى:
«جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» .
أي هم جند.. مبتدأ وخبر.. وقد أضرب عن ذكرهم، إهانة لهم، واستخفافا بهم.. وأنهم مغلوبون مهزومون فى الأرض بجند من جند الله، فكيف يكون لهم سلطان وغلب فى السماء؟(12/1054)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
و «ما» نكرة، تفيد العموم.. أي هم جند ما، من تلك الجند الكثيرة، ويجوز أن تكون للتنكير استخفافا بهم، وتهوينا لشأنهم أي هم جماعة من تلك الجماعات، التي تجتمع على الضلال، وتتحزّب على الباطل، فى كل زمان ومكان.. ومن هؤلاء قوم نوح وعاد وفرعون، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. فهؤلاء هم الأحزاب الذين أشارت إليه الآيتان (12، 13) من هذه السورة..
وهزيمة هؤلاء الجند، هى هزيمتهم فى مواقع الحق، وخذلانهم فى مجانى الخير.. فهم لا يعرفون حقا، ولا ينالون خيرا..
وفى وصفهم بالجند، إشارة إلى أنهم فى حرب مع الله، ومع جند الله..
هذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة من قريب، إلى موقف هؤلاء المشركين..
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أبعد من هذا، وهى هزيمتهم فى موقعة الأحزاب، المعروفة بالخندق. فقد هزم المشركون، وما حزّبوا من أحزاب على النبي والمسلمين، وظاهرهم اليهود على هذا الذي أرادوه بالنبي والمؤمنين من سوء.. فهم وما جمعوا، جمع هزيل، لا قيمة له..
الآيات: (12- 20) [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 20]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)(12/1055)
التفسير:
قوله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ» .
فى هذا العرض للأقوام الذين كذّبوا رسل الله أمران.
الأول: مواساة للنبىّ الكريم؟ بهذا الذي لقيه رسل الله من قبله من تكذيب أقوامهم لهم.. فليس النبىّ- صلى الله عليه وسلم- بدعا فيما ناله من قومه، من أدى وضرّ..
والثاني: هو تهديد لهؤلاء المشركين أن يلقوا هذا المصير المشئوم الذي لقيه المكذّبون برسل الله.
فرعون ذو الأوتاد، هو فرعون مصر الذي وقف من موسى هذا الموقف الذي انتهى به وبجنده إلى الهلاك غرقا.
وأوتاد فرعون، هى تلك الأهرام التي أقامها فراعين مصر، فكانت أوتادا على الأرض كالجبال.. فالجبال هى أوتاد الأرض، كما يقول تعالى:
«وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (7: النبأ) .
وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام.. والأيكة الشجر الكثير المجتمع بعضه إلى بعض أشبه بالغاية..(12/1056)
وفى عطف «عاد» على فاعل الفعل «كذبت» وهو «قوم» - إشارة إلى أن المكذّبين هم «عاد» لا قوم عاد، إذ كانت نسبة الأقوام هنا إلى أنبيائهم.. وعاد ليس نبيا.. وكذلك الشأن فى «ثمود» وأصحاب الأيكة..
أما عطف «فرعون» على عاد، فلأنه:
أولا: ليس نبيا، حتى يضاف القوم إليه فى هذا المقام، ثم إن قوم فرعون، ليسوا من قوم النبىّ موسى، حتى يضافوا إليه..
وثانيا: لو أضيف القوم إلى فرعون، لأشعر هذا بأنه غير داخل معهم فى التكذيب.. وهذا غير مراد..
وثالثا: تسليط فعل التكذيب على فرعون، يشعر بأنه كان هو الكيان المكذّب، الذي احتوى قومه جميعا فى كيانه هذا..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الْأَحْزابُ» .. الإشارة إلى هؤلاء المكذبين الذين ذكرتهم الآيتان السابقتان.. وأنهم الأحزاب الذين جاء ذكرهم فى قوله تعالى:
«جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» - أي فهؤلاء المشركون من قريش، هم جماعة من تلك الجماعات، وهم من أحزابهم التي اجتمعت على الكفر والضلال، وعلى التكذيب برسل الله.. وهؤلاء جميعا- ومنهم هؤلاء المشركون- محكوم عليهم بالهزيمة والخذلان.. وهذا ما يشير إليه:
قوله تعالى:
«إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ» .
«إن» هنا نافية، بمعنى (ما) . أي ما كلّ هؤلاء إلا كذّب الرسل، «فحق عقاب» فوجب عليه عقاب الله الراصد له..
وفى إسناد التكذيب بالرسل جميعا، إليهم فى مقام واحد- إشارة إلى أمرين:(12/1057)
أولا: أن الرّسل جميعا على أمر واحد، وعلى دعوة واحدة، هى الإيمان بالله.. فمن كذب برسول من رسل الله، فهو مكذب برسل الله كلهم.. لأن الحق الذي معهم واحد، والدين الذي يدعون إليه دين واحد..
وثانيا: أن أهل الضلال، كيان واحد أيضا، لا اختلاف بين أولهم وآخرهم..
فالطريق الذي سار عليه أولهم، من الكفر بالله والتكذيب بالرسل، هو نفس الطريق الذي سلكه وسار عليه كل مشرك ضال..
قوله تعالى:
«وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ» .
الفواق: البرهة القصيرة من الزمن، بين الجرعة والجرعة من الماء.. يأخذ فيها الشارب نفسه..
والإشارة هنا (بهؤلاء) إلى المشركين، وأنهم هم المقصودون فى هذا المقام بهذا الحكم المشار إليهم به..
والآية تهديد لهم بأنهم- وقد أهلك الله أمثالهم من المكذبين الضالين، وأنزل بهم العذاب الذي يستحقونه- لن يمهلوا طويلا حتى يأتيهم العذاب، وهو حين يأتى لا يدع لهم لحظة من الزمن يستردون فيها أنفاسهم.. إنها صيحة واحدة تخمد أنفاسهم بعدها..
والصيحة هنا، هى صيحة الموت.. فإن مشركى العرب لم يهلكوا بعذاب من عند الله فى الدنيا، إكراما لرسول لله صلوات الله وسلامه عليه، كما يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) وصيحة الموت هذه، هى بالنسبة للكافر، الذي يموت على كفره،(12/1058)
بلاء عظيم، إذ تقطعه عن الإيمان الذي كان يمكن أن يكون منه قبل أن يموت، فإذا مات على الكفر استحال أن يكون فى المؤمنين أبدا.. وكانت الصيحة عليه بالموت، هى المركب الذي يحمله إلى جهنم فى غير مهل!!.
قوله تعالى:
«وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» .
أي أن هؤلاء المشركين- وقد وعد الله نبيه فيهم، ألا يأخذهم بما أخذ به المكذبين قبلهم من عذاب الدنيا- لم يقبلوا هذا الإحسان من الله، بل ردوه فى قحة وتحدّ «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» يقولون هكذا «ربّنا» ولا يستحيون أن يتحدوه هذا التحدي، ولا يخشوا عذابه!.
والقط: هو النصيب المقسوم من الشيء.. ولعلها كلمة جاءت إلى اللسان العربي من ألسنة الأمم المجاورة للعرب.. ولعل أصلها «القط» وهو جزء من أصل الشيء، ومنه القسطاس، وهو الميزان الذي توزن به الأشياء، ويحدّد به قدرها..
وفى قولهم: «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» مع أنهم يكذبون به، استهزاء وسخرية، ومبالغة منهم فى التكذيب بهذا اليوم.. يوم الحساب الذي يوعدهم الرسول به، وهو غير واقع فى تصورهم..
قوله تعالى:
«اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» .
الأمر بالصبر: هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، بالمصابرة، واحتمال المكروه من هؤلاء المكذبين، وما يقولون من منكر القول، كقولهم هذا: «عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ!» - فإن لهؤلاء الظالمين يوما يجعل الولدان شيبا..(12/1059)
وقوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» أي واذكر فى هذا المقام الذي تدعى فيه إلى الصبر- «اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ» ففى ذكره فى هذا المقام ما تجد فيه الروح الأنس، لما يتمثل لك من سيرته، التي يقصها الله عليك..
والأيد: القوة.. وهى مأخوذة من اليد، التي تتمثل فيها قوة الإنسان الجسدية.. ثم إنها ليست يدا واحدة، بل أيديا كثيرة.. وإذن فهى قوة خارقة..
والقوة هنا ليست قوة جسدية- وحسب- بل هى قوة روحية ونفسية أيضا، تشتمل على طاقات عظيمة، من الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد..
والأوّاب: كثير الأوب، والأوب هو الرجوع إلى المكان الذي كان منه الذهاب.. فهو رجوع بعد ذهاب.. وقد غلب الأوب على المعنويات، كما غلب الإياب على الماديات..
والمراد بالرجوع هنا، الرجوع إلى الله، والاستقامة على طريقه، بعد ميل عنه.. فالأواب: هو الراجع إلى الله مرة بعد مرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» (25: الإسراء) .
والسؤال هنا هو:
لماذا كان داود عليه السلام هو المثل الذي يقيمه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بين عينيه، وهو بشدّ عزمه بالصبر على ما يقول قومه من زور وبهتان فيه؟ وهل فى داود- عليه السلام- فصل خاص فى هذا المقام، لم يبلغه الأنبياء؟ إن القرآن يحدثنا عن إسماعيل، وإدريس، وذى الكفل، على أنهم المثل البارز فى الصبر الكامل.. فيصفهم سبحانه بالصبر، مجتمعين، فيقول(12/1060)
سبحانه: «وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (85: الأنبياء) ويقول سبحانه عن أيوب: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ويقول سبحانه على لسان إسماعيل لأبيه: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما تأويل هذا؟.
والجواب- والله أعلم- هو من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالأمر الموجه من الله سبحانه، للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- بذكر داود عليه السلام، فى مقام إلفات النبي إلى الصبر، وإلى إقامة أمره عليه- ليس المراد به التأسى بهذا النبي الكريم، وإنما المراد به الحذر من أن تطرقه حال من أحوال الضعف البشرى، فيقع منه ما وقع من داود، فيما كان موضع ندم منه، واستغفار لربه، وتوبة إليه..
إن داود- عليه السلام- كان مع ما وصفه الله سبحانه به من قوة وأيد- غير قادر على مواجهة الفتنة التي ابتلى بها مواجهة كاملة، فكان منه هذا الذي وقع منه، والذي استغفر له ربه، فغفر له.. فالنبى عليه الصلاة والسلام، مطالب بأن يكون على عزم وقوة، أشد وأقوى مما كان عليه داود، من عزم وقوة، لأنه فى وجه فتنة أعظم وأشد من فتنة داود..
فالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- هم بشر قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا.. والنبوة والرسالة، لم تنزع عنهم ثوب البشرية، وإن ألبستهم النبوة والرسالة حلل الصفاء، والنقاء، والطهر، ولكنها مع هذا، لم تسلبهم نوازع البشرية، وضروراتها.. وإلا لكانوا خلقا آخر غير خلق الناس، ولكانوا أبعد من أن يعيشوا فى دنيا الناس، وأن يألفهم الناس ويألفوا الناس..
والأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- على هذا الحساب، ليسوا على درجة واحدة. وإن كانوا جميعا على قمة البشرية كلها، فهم درجات ومنازل(12/1061)
عند الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (253: البقرة) .. ولو أنهم كانوا على الكمال المطلق، لكانوا درجة واحدة.. ولكنهم- على حدود الكمال البشرى- فى أعلى منازله.. وهم فى هذه الحدود، درجات ومنازل..
وثانيا: ليس هذا التأويل الذي ذهبنا إليه فى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» - من أنه ليس مرادا به التأسى به، وإنما المراد هو تخطّى هذا الحد الذي وقف عنده داود عليه السلام وتجاوزه، فى مقام الصبر، والعزم- نقول ليس هذا التأويل بالذي ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإنما هو وضع له فى المقام الكريم الذي وضعه الله فيه، وإن كان فوق هذا المقام مقامات ومقامات!!.
وهذا كلام قد لا يهضمه كثير من أهل العلم، أو أدعياء العلم.. ويعدّونه تطاولا على مقام الأنبياء، وعدوانا على عصمتهم.. ومن يدرى فقد يذهب ببعضهم الشطط إلى أن يقولوا إن هذا كفر!! ونقول لهؤلاء مهلا.. فإننا على الإيمان بالله وبرسل الله، وعلى التوقير لهم، والصلاة والسلام عليهم..
ومع هذا، فإننا سنقول هذا القول، لأنه مما تنطق به آيات الله، وتجرى عليه سنة الحياة البشرية، وترضاه العقول السليمة، وتطمئن إليه القلوب المؤمنة.
ثم نسأل: إذا كان ما قلناه فى تأويل الآية الكريمة، مما يعدّ تطاولا على مقام هذا النبي الكريم.. فماذا عند من ينكر هذا التأويل- من تأويل لقوله تعالى للنبى صلوات الله وسلامه عليه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (48- 50: القلم) ..
ماذا فى تأويل قوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» ؟ أليس فى هذا(12/1062)
إلفات للنبى الكريم، ألا يكون على حال من الصبر كحال هذا النبي الكريم، «يونس» عليه السلام؟ أليس هذا صريح منطوق الآية الكريمة؟ وهل هذا مما يضير يونس عليه السلام؟ وهل ينقص ذلك من قدره فى موازين الناس؟
وكلا، فإنه وهو على تلك الحال كان بمنزلته العالية، وبمقامه الكريم عند ربه، الذي يقول سبحانه عنه: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» .
وثالثا: لم يكن من محامل الآية الكريمة، وهى تحمل إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هذا التحذير الخفي من أن يكون على مستوى النبي الكريم «داود» فى مقام الصبر- لم يكن من محاملها شىء يمس مقام هذا النبي الكريم، بل لقد حملت الآية الكريمة مع هذا ألطافا كثيرة من عند الله إلى عبده «داود» .. كلها تنويه به، ورفع لقدره، وإحسان بعد إحسان إليه، وكفى داود شرفا وفضلا أن يكون عبدا لله، مضافا إلى ذاته جل وعلا.. ثم إن فى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» عدولا عن اللفظ الذي يدل على الاحتراس والحذر والتجنب، إلى اللفظ «اذكر» الذي لا يكون إلا فى مقام الإحسان وتذكر النعم.. ثم جاء بعد هذا إضافة داود إلى الله سبحانه وتعالى، إضافة عبودية، الأمر الذي لا يناله إلا المخلصون الأصفياء من عباد الله..
ثم جاء بعد هذا وصفه بأنه «ذو الأيد» أي القوة والصبر على ما يبتلى به من ربه من منح أو منع.. ثم أنبع هذا الوصف بوصف آخر، وهو أنه «أواب» أي كثير الأوب والرجوع إلى الله، إذا هو شعر بأنه لم يؤد لله ما يجب فى مواقع الابتلاء، من شكر، أو صبر..
ثم يذكر بعد هذا ما ساق الله إليه من سوابغ رحمته المادية ولروحية معا، فيقول سبحانه: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» .. فهذه وهى الجبال أبرز وجوه ما على الأرض من عوالم، تستجيب له، وتأنم به، وتسبّح لله معه.. وهذه الطيور التي تبسط سلطانها فى(12/1063)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
الجو، تحشر إليه- بقدرة الله- من كل صوب،. وكأنها بعض جنوده من البشر تسبّح الله معه، وتردد ما يسبح به..
ثم يقول سبحانه: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» أي أعطيناه ملكا، وثبتنا له قواعده، «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» أي إلى جانب هذا الملك المتمكن، آتيناه نبوة، وعلما، تتكشف له بهما موارد الأمور ومصادرها، فيقيمها على ميزان العدل والإحسان.. ثم يقع لداود النبي- وهو قائم على سياسة هذا الملك الذي بين يديه- يقع له ابتلاء، فيهتز ميزان العدل فى يده، ويجد لهذا نحسة فى ضميره، فيرجع إلى الله تائبا مستغفرا، فيلقى من ربه قبولا ومغفرة، ويكسى حلل الرضا والإحسان، فيقول سبحانه: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ»
وهكذا يفعل الله لعباده المؤمنين.. يبتليهم، ثم يعافيهم، ليريهم مواقع رحمته بهم، وإحسانه إليهم، فيزدادون حمدا له، وقربا منه..
الآيات: (21- 26) [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 26]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)(12/1064)
داود.. وما خطيئته؟
قلنا إن الله سبحانه وتعالى، حين دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الصبر، لفته- فى رفق ولطف- إلى ألا يكون كداود عليه السلام فيما ابتلى به، فلم يكن على المستوي المطلوب منه فى مواجهة هذا الابتلاء.. وقلنا إن ذلك لا ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإن كان يزيد فى قدر النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ويشير إلى المقام الذي يجب أن يرتفع إليه، متجاوزا مقام داود عليه السلام- وإن كان مقاما رفيعا عظيما..
والذي نريد أن نقف عنده هنا، هو: ماذا كان من داود عليه السلام، فيما ابتلى به، مما لفت النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يذكره فى مقام الصبر، وأن يكون له من ذكره عبرة وعظة..؟
فماذا كان من داود عليه السلام؟
تحدّث الآيات السابقة عن قصة حدثت لداود عليه السلام، وتذكر أن خصمين دخلا عليه مجلسه فى صورة غير مألوفة، إذ تسورا عليه السور، ولم يدخلا من المدخل الطبيعي إليه.. ففزع منهما، وتوقع الشر من دخولهما على تلك الصورة، التي يقتحمان عليه فيها مجلسه اقتحاما، من غير استئذان، وهو(12/1065)
الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب..
فبأىّ سلطان دخل عليه هذان الخصمان؟ وكيف نفذا إليه؟ وأين عيون الجند والحرس؟ إن فى ملكه إذن لخللا، وإن فى سلطانه لثغرة يمكن أن ينفذ منها الشر إليه!! ولكن سرعان ما يكشف الخصمان عن شخصيتهما، فيهدئان من روعه، ويقولان له: «لا تخف» !! ومم يخاف وهو السلطان ذو البأس والقوة؟
وهل هما إلا بعض رعاياه؟ وهل يخاف الراعي من رعيته؟ وهو حصن أمنها، وموطن سكنها؟ وإذا كان ثمة خوف فهو خوف الرعية من سلطانها، لا خوف السلطان من رعيته!! إن فى الأمر إذن لشيئا. ويمضى الخصمان يعرضان أمرهما: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» !! ويزداد داود عجبا إلى عجب، من هذا الأمر الصادر من المخصمين إليه: «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» هكذا بالأمر! وهل يحكم بغير الحق؟
وهل يتوقعان منه غير هذا؟ وإذا كانا يتوقعان غير ذلك، فهل لهما أن يصدرا إليه هذا الأمر؟ بل هل لهما أن يجهرا بما تحدثهما به نفسهما من جهته؟ إن فى الأمر لأكثر من شىء؟ .. ثم لا يقف أمر الخصمين عند هذا الأمر الصريح لداود بأن يكون عادلا فى حكمه بينهما، بل إنه ليحذّر منهما بألا يشتط فى الجور، إن كان لا يملك أن يعدل أو لا يحسن أن يقيم ميزان العدل مستقيما..
«ولا تشطط» !! تلك هى مقدمات القضية.. أما القضية، فلم يرض الخصمان أن يعرضاها إلا بعد أن اشترطا لنفسهما على داود، أن يكون عادلا فى الحكومة بينهما، وألا يجور فى الحكم.. فإن قبل منهما هذا الشرط، عرضا عليه أمرهما، ورضياه حكما بينهما، وإلا كان لهما شأن آخر معه..! إن الأمر فيما يبدو هو محاكمة لداود، أكثر منه احتكاما إليه؟.(12/1066)
وأعجب ما فى الموقف هنا، أن الخصمين يتفقان على هذا الأمر، ويقفان موقفا واحدا فيه، حتى لكأن كلا منهما قد وقع فى نفسه، ما وقع فى نفس صاحبه، من اتهام لداود فى عدله! .. والقضية- كما سنرى- واضحة لا تحتاج إلى نظر دقيق فى التعرف على وجه الحق فيها.. إذ كان الظلم فيها صارخا، يكاد يمسك بتلابيب أحدهما.. فكيف يساغ لهذا الظالم ذلك الظلم الصارخ، أن يطلب العدل، وأن يتشدد فى طلبه؟ إن فى القضية لأشياء وأشياء، تخرج بها عن مألوف ما يجرى بين الناس من قضايا، وما يقع من خصومات.
فما القضية؟.
إنها قضية موجزة، واضحة، قد جمعها القرآن الكريم فى كلمات:
«إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» !!.
هذه هى القضية:
أخوان فى النسب، أو فى الإنسانية، لأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللآخر نعجة واحدة.. وصاحب التسع والتسعين نعجة، لا يقنع بما فى يده، بل يمدّ عينه إلى أخيه صاحب النعجة الواحدة، ثم لا يزال به حتى يسلبه نعجته، ويخلى يديه من كل شىء، حتى يصبح هو صاحب مائة.. فيكمل بتلك النعجة ما يراه نقصا فى تمام العدد.. وإن تسعا وتسعين عدد ناقص، ومائة عدد كامل.. فلا بد إذن أن يكملّ هذا العدد، ولو كان بحرمان صاحب النعجة الواحدة، من نعجته..!
وماذا يفعل صاحب القليل بقليله هذا؟ إنه لا غناء له فيه، وإنه ليسدّ خللا فيما بين يدى صاحب الكثير، ويكمل نقصا واضحا فيه.. فماذا عليه(12/1067)
لو ضاع منه هذا القليل، ليوضع فى موضعه الذي ينتظره عند صاحب الكثير؟
هكذا قدّر صاحب الكثير، وهكذا أمضى حكمه فى صاحبه!.
والظلم واضح صريح فى هذه القضية.. ولهذا بادر داود ببيان وجه الحق فيها، على حسب ما سمع من المدعى: فقال- معلقا على دعواه:
«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» ! إن الأمر- فيما يبدو- ظلم صارخ، وعدوان مبين.!
ولم يلتفت داود إلى الظالم، ولم يواجهه بالحكم الذي يقتضيه الموقف، بل عاش لحظاته تلك، مع هذا المظلوم، يواسيه، ويخفف عنه مرارة الظلم الذي تجرعه من يد أخيه.. فيقول له: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» .. فلست أنت يا صاحبى أول من ظلم من معاشريه ومخالطيه.. فما أكثر بغى الخلطاء بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء الخلطاء.. وقليل هم أولئك الذين لا يظلمون!.
وهنا يبحث داود عن هؤلاء القليل فى الناس، ويتفرس فى وجوههم، ثم يلتفت إلى نفسه، وهل هو واحد من هؤلاء القليل؟ وهنا يطلع عليه من صفحة أعماله ما يراه غير قائم على ميزان العدل.. وسرعان ما يرى نفسه طرفا فى هذه القضية التي بين يديه، وأنه يأخذ موقف المدعى عليه فيها، وأن هذا المدعى إنما يقيم دعواه عليه هو، لا على هذا الشخص الذي جاء به إليه.. إن هذا الشخص ما هو إلا المرآة التي يرى فيها داود نفسه!.
ومن إعجاز القرآن فى هذا، أنه لم يضع هذا المدعى عليه موضع اتهام،(12/1068)
فلم يسأل فى هذا الادعاء المدعى عليه به، ولم يوجّه إليه أي حديث، بل كان الحديث كله بين داود وبين صاحب الدعوى.. إذ يقول له معلقا على دعواه:
«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» .. وكان الموقف يقتضى أن يقول للمدعى عليه «لقد ظلمته بسؤال نعجته إلى نعاجك» !. فما جوابك على هذا؟.
لم يكن شىء من هذا.. بل لقد ذهب الخصمان، دون أن يفصل بينهما فيما اختصما فيه.. ويخليان مكانهما للخصمين اللذين هما أولى منهما بهذا الموقف:
داود وخصمه، الذي تمثّل له فى خطيئته..
وهنا يدرك داود أن هذين الخصمين، إنما هما ابتلاء من الله سبحانه وتعالى له، ليكشفا له عن أمر كان منه، فيه مشابه كثيرة من هذه القضية التي بين يديه، فيذكر هذا الأمر، ويكون له من ذكره امتحان وابتلاء، حيث يلتمس السبل فى تخليص نفسه مما وقع فيه، فلا يجد إلا التوبة إلى الله، والاستغفار لذنبه، وهو فى ذلك المقام يتقلب على جمر من الحسرة والندم، قد كربه الكرب واستبد به الجزع على ما فرّط فى جنب الله.. إنه أعرف بربه، وبجلاله وعظمته، وقدرته، وبالنعم السابغة التي أضفاها عليه، ثم هو أعرف بما لله من غيرة على حرماته، كما هو أعرف بما لله من حساب لأوليائه على صغائرهم، وهم فى هذا المقام الكريم الذي أنزلهم فيه..
ومن هنا كان داود فى فتنة قاسية، وابتلاء عظيم، بعد أن كشفت له تلك القضية عن حال من أحواله، لا يرضاه عنه ربه، فغامت نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. وقد ظل هكذا فى كرب وبلاء عظيمين، يستغفر ربه، ويذرف دموع الندم، إلى أن تلقى إشارة السماء بمغفرة الله سبحانه وتعالى له، ورضوانه عنه، وإحسانه إليه!!(12/1069)
إنها هفوة من هفوات النفس البشرية، وهى فى حساب الناس لا تكاد تعدّ شيئا، بل حتى لا تحسب من اللمم المعفو عنه، ولكنها فى مقام الأنبياء والرسل شىء عظيم، وذنب كبير..!
ونكاد نقف عند هذا الحد من هذه القضية، أو القصة. فهذا ما نأخذه من آيات الله، ودلالاتها القريبة، دون تعسف فى التأويل، ودون استجلاب للمقولات الغريبة، التي تحمل عليها آيات الله حملا..
نقول، نكاد نقف عند هذا الحدّ من تلك القضية، وحسبنا أن نعرف مما تحدثنا به آيات الله، أنه كان من نبى من أنبياء الله الكرام هفوة، ثم كان له من الله سبحانه ألطاف، فتاب إلى الله واستغفر لذنبه، فغفر الله له، وزاد مقامه عنده رفعة- نقول- مرة ثالثة- كنا نريد أن نقف عند هذا الحد لا نتجاوزه، ولكنا نجد بين أيدينا، كتب التفاسير كلها، قد جاءت بمقولات من وراء دلالات الآيات القرآنية، وأكثرها مأخوذ عن روايات إسرائيلية يرويها اليهود عن كتابهم الذي حرّفوه، وألقوا فيه بأهوائهم الفاسدة، ومنازعهم الخبيثة..
ثم توسّع الرواة والنقلة فى هذه المقولات، وتصرفوا فيها كيف شاءوا، ومن وراء ذلك اليهود، يدسّون على المسلمين أحاديث عن الرسول، يضعون لها سلسلة من الرواة الذين اشتهر عنهم الحديث عن رسول الله، فتقع هذه الأحاديث المكذوبة من قلوب المسلمين موقعا، لا يجدون معه سبيلا إلى دفعها، وإذا حصيلة هذه الأحاديث المكذوبة، مجموعة من المتناقضات، يدفع بعضها بعضا، ويكذّب بعضها بعضا، فلا يدرى المرء ماذا يأخذ منها وماذا يدع. وفى أكثر الأحوال ينتهى الأمر إلى الشك فيها جملة.. إذ كانت لا تتصل بالعقيدة أو الشريعة..(12/1070)
وهذه قضية قد عرضنا لها فى أكثر من موضع، وربما عرضنا لها فى دراسة خاصة- إذا شاء الله- بعد أن يعيننا الله سبحانه، على أداء هذه المهمة التي نقوم بها فى خدمة كتابه الكريم،. فإن مثل هذه الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم، وإن لم تكن ذات أثر فى العقيدة أو الشريعة، فإنها تسبب إزعاجا، وخلخلة فى نفس المسلم إزاء الأحاديث النبوية الشريفة، وتقيمه منها على مقام بين الشك واليقين، فى كل ما يعرض له من أحاديث تنسب إلى الرسول.. وتلك هى جناية الأحاديث المكذوبة والملفقة على السنّة، التي هى المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.
ونعود فنقول:
إن الذي يدعونا إذن إلى الوقوف عند هذه القصة- قصة داود عليه السلام- هو تلك المقولات الكثيرة المتناقضة المتضاربة، التي قيلت عن الهفوة التي كانت من هذا النبي الكريم.. ولا نريد أن نعرض هذه المقولات، ونناقشها، ونعدّل أو نجرّح فيها، فهذا يحتاج إلى بحث طويل، يستنفد منا جهدا نحن حريصون على ألا يكون لغير كتاب الله..
وإذن فلن نقول هنا فى هذه الهفوة، وفى الكشف عن وجهها إلا قولا واحدا، نختاره من بين هذه المقولات، لأنه أقرب شىء إلى مفهوم تلك الإشارة الخصية التي يراها الناظر بقلبه وبعقله فى الآيات الكريمة التي نحدثت عن تلك القصة.
فالآيات القرآنية، تحدث عن أن داود عليه السلام، قد آتاه الله سبحانه ملكا، وقد مكّن له فى هذا الملك- إلى جانب النبوة التي اختصه الله سبحانه بها، فجمع لله سبحانه بهذا بين يديه السلطة الدينية والدنيوية معا..(12/1071)
هذه واحدة..
وأخرى، هى أن هذا النبي الكريم، وإن لم تكن له رسالة خاصة فى قومه، فإن رسالته فيهم، كانت امتدادا لرسالة موسى. فهو- والأمر كذلك- لم يكن فى رسالته إليهم إلا أن يقيمهم على الشريعة التي فى أيديهم، وأن يحقق العدل الذي اختلت موازينه فى أيديهم..
وهذه ثانية..
وثالثة، هى أن معركة هذا النبىّ وميدانها، هو فى هذا الصراع الذي يقوم بين السلطتين اللتين فى يديه.. سلطة الدين الذي يمثل سلطان الله الذي وضعه فى يده بمنصب النبوة، وسلطة الدنيا التي تتمثل فى هذا الملك الذي يقوم عليه..
ومن هنا كان على داود- عليه السلام- أن يمسك ميزان العدل فى يديه، وأن يقيمه بالقسط، فلا يميل ولا ينحرف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الآية..
ورابعة.. وهى أن إقامة هذا الميزان على حال سوى متوازن دائما، أمر لا تكاد تحتمله طاقة البشر، فقد يكون فى طاقة الإنسان أن يعمل للملك وحده، فلا يعطى للدين ولا للآخرة شيئا.. وقد يكون فى طاقته أن يعمل للدين وحده، فلا يعطى الدنيا من نفسه شيئا.. هذا وذاك أمران ممكنان.. وممكن كذلك، أن يجمع الإنسان بين السلطان فى الدنيا، والعمل للآخرة.. وذلك بأن يعمل للآخرة، وأن يمسك بطرف من السلطان الدنيوي أو أن يعمل للدنيا، ويمسك بطرف من الآخرة.. أما أن يجمع بين الدين والدنيا هذا الجمع المتوازن، المستقيم على خط هندسى.. فهذا هو لذى لا يمكن أبدا..
وننظر إلى داود- عليه السلام- فى موقفه هذا:(12/1072)
إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها..
وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها..
والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى فى حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا..
إنه ملك من عند الله، ونبىّ من عند الله، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك! ..
ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» . ولهذا أيضا كان تقبل الله سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هى هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هى عثرته؟
إنها- والله أعلم- ملففة فى ستر من ألطاف الله ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان! ..(12/1073)
وداود- عليه السلام- يمثّل السلطان فى أعزّ مكان، وأقوى سلطان..
وبكلمة منه إلى أحد رعاياه نزل له هذا الرعية عن شىء- هو أعز ما يملك- كانت نفس داود قد مالت إليه، ورغبت فيه.. ولم يستطع هذا «الرعية» أن يقول: لا.. توقيرا وهيبة، أو خوفا وإشفاقا..
وفى قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» - إشارة إلى أن كلمة «داود» كانت حكما قاطعا، وقضاء نازلا، لم يستطع له هذا «الرعية» ردّا.
يقال: عز فلان، أي صار ذا عزة، وعز فلان فلانا، أي غلبه.
وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من قوى، غلب وسلب! وماذا أخذ «داود» من هذا الإنسان؟
إنه شىء ما، عزيز على هذا الإنسان، مستغن به.. قد يكون فرسا، يضمه داود إلى مقتنياته من جياد الخيل.. وقد يكون مزرعة بين مزارع داود.. وليس من الحتم أن يكون امرأة، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، مستندين فى هذا إلى ما جاء فى قضية الخصمين، وإلى أن النزاع كان بينهما على «نعجة» .. والنعجة تطلق فى لسان العرب على المرأة!! ولو سلمنا بهذا، لكان لنا أن نقول، إن هذا مثل، تراد دلالته، ولا تراد صورته..
فلو ذهبنا نأخذ صورة المثل هنا، لكان من الحتم أن يكون لداود تسع وتسعون امرأة.. وهذه الكثرة فى النساء، إن فرض التسليم بها، فلم يوقف بها عند هذا العدد بالذات؟. ولم لا تزيد أو تنقص؟
إن دلالة التسع والتسعين- كما قلنا- هى دلالة على أمرين:
أولا: كثرة الشيء ووفرته..
وثانيا: نقص هذه الكثرة، وحاجتها لشىء يبلغ به تمامها، حتى تكون مائة!.(12/1074)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
هذه هى القصة أو القضية.. وقد أدين فيها داود، أدان نفسه وحكم عليها بهذا اللوم الصارخ، وهذا الاستغفار الدائب، والضراعة السابحة فى دموع الندم.. ولعل هذا الصوت الشجى، المحمّل بزفرات الحسرة، ونشبج الحرقة، الذي كان يسبّح به داود، ويتلو به آيات الزبور، على أنغام مزاميره، فتهتز له الجبال، وتصغى إليه الطير- لعل هذا الصوت كان من مواليد هذه المحنة، التي ولدت لداود أكثر من مولود، ورفدته بأكثر من عطاء من عطايا الله ومننه..
أمّا ما تقول به التوراة، وما تلقاه عنهم المفسّرون، ودعموه بالأحاديث من أن داود قد وقع فى حب امرأة قائد من قواد جبشه اسمه «أوريا» وأنه أراد أن يستخلص المرأة لنفسه، بعد أن رآها من قصره وهى تستحم فى فى دارها القائمة تحت قصره، أو وهى تمشط شعرها- فكان من تدبيره لهذا أن بعث بهذا القائد فى مهمة حربية، وجعله فى مواجهة الموت الراصد له هناك.. فلما قتل فى المعركة تزوج داود امرأته- فهذا قول فيه جرأة على مقام هذا النبي، الأمر الذي كان لا يتورع عنه اليهود مع أنبياء الله، أحياء وأمواتا، أو قتلى بأيديهم، فضلا عن أن هذا العمل المشين مدفوع بأكثر من دفع، على حسب ما جاء فى القرآن الكريم، منطوقا ومفهوما، كما رأينا..
الآيات: (27- 29) [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)(12/1075)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد ذكرت داود عليه السلام، وأشارت إلى أن شيئا ما، من العدوان على غيره، قد وقع منه..
وأنه- وقد كان خليفة الله فى الأرض- فإن الله سبحانه لم يدعه يذهب بما فعل، بل أوقفه موقف الحساب والمساءلة، وبعث إليه من يهجم عليه وهو فى محراب ملكه، وعلى كرسى سلطانه، وأن يجد نفسه بين هذين الخصمين اللذين تسوّرا عليه محرابه، وآتياه من عل، وهو فى قبضة الفزع والاضطراب، لا يجد من قوة سلطانه شيئا يردّ عنه ما حلّ به. إنه قصاص للرعية، وبيد الرعية، من هذا الراعي.. وهذا حسابه مع الناس. أما حسابه مع الله، فقد أدى ثمن هذا العدوان، بكاء وعويلا، وسهرا طويلا..
هكذا سنة الله فى خلقه، وحكمه بين عباده، فكما لا يظلمهم ربّهم شيئا، كذلك جعل الظلم محرّما بينهم، فمن ظلم اقتصّ الله له من ظالمه، فى الدنيا وفى الآخرة. وفى الحديث القدسي: «يا عبادى حرّمت الظلم على نفسى، وقد حرمته عليكم.. فلا تظالموا»(12/1076)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (60: الحج) ..
وعلى هذا نجد الصلة وثيقة بين قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» وبين الآيات السابقة عليها، التي تضمنت هذه القضية التي وضع فيها نبىّ من أنبياء الله موضع المحاسبة والمساءلة على ما كان منه من عدوان على أحد رعاياه.. فالله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقامهما على ميزاته، ولم يخلقهما باطلا، حتى يسمح للباطل أن يسكن إليهما، ويعيش فيهما.. بل إن الحق ليمسك بكل ذرة من ذرات هذا الوجود، وإنه ليس فى كائنات الوجود من ينحرف عن طريق الحق إلّا الإنسان، لماله من إرادة، تصدر عن تفكير وتقدير.
وهذا الانحراف، لا يدوم أبدا.. فما هى إلا لحظة عابرة من لحظات الزمن الأبدى، يضطرب فيها ميزان العدل بين الناس، ثم يعود هذا الميزان إلى توازنه، فيوفّى كلّ إنسان جزاء عمله يوم الجزاء: «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (17: غافر) .
وقوله تعالى: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» الإشارة هنا إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، أي أن الله سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، ولكن الذين كفروا لا يؤمنون بهذه الحقيقة، بل يعيشون فى أوهام وظنون وراء هذا الحق الذي تنطق به آيات الله.. فلو كانوا يؤمنون بالله لآمنوا بهذه الحقيقة، ولا ستيقنوا أن الله هو الحق، وأن الحق لا يكون من صنعته إلا ما هو حق، وأنهم إذا ظلموا لن يتركوا وشأنهم، بل سيحاسبون ويعاقبون، وفى كفرهم بالله ظلم عظيم، يلقون عليه أشد(12/1077)
العذاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» .
قوله تعالى:
«أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» أي أحسب الذين كفروا أننا نسوى بين الأخيار والأشرار، وأن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كالمفسدين فى الأرض، الذين كفروا بالله، وعصوا رسله، وآذوا خلقه؟ ذلك ما لا يتفق مع الحق الذي أقام الله عليه خلقه، والذي به خلق السموات والأرض.
قوله تعالى:
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» أي هذا كتاب أنزلناه إليك «مبارك» أي فيه البركة التي تنال كل من يلقاه، ويتلقى منه الحكمة والموعظة الحسنة، فيتدبر آياته، ويستضىء بأضوائه ويهتدى بهديه.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها.. أن الآيتين السابقتين عليها كانتا بيانا لحقيقة هذا الوجود، وأنه قائم على ميزان الحق والعدل، وأن الذين ينحرفون عن طريق الحق والعدل سيلقون سوء العذاب.. وهذه الآية، هى دعوة إلى كل من يلتمس طريق الحق، ويطلب النجاة لنفسه من عذاب الله..
وليس غير كتاب الله هاديا يهدى إلى الحق.. فمن التمس الهدى فى غيره ضلّ، ومن جاوز حدوده هلك..(12/1078)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
الآيات: (30- 40) [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
[سليمان.. وشمسه.. والجسد الملقى على كرسيّه] التفسير:
قوله تعالى:
«وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ.. نِعْمَ الْعَبْدُ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ» الواو للاستئناف، وعطف حدث على حدث.. أو هى للعطف على قوله تعالى: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» .. أي فغفرنا لداود ما كان منه، ووهبنا له سليمان.. ويكون ما بين المتعاطفين اعتراضا، يراد به التعقيب على القصة، والإلفات إليها، والوقوف موقف التأمل عندها.(12/1079)
وأيّاما كان، فإن ذكر سليمان هنا، وأنه مما وهبه الله لداود، هو مما يشير إلى فضل الله سبحانه، وإحسانه إلى عبده داود، بعد خطيئته، واستغفاره وندمه، وقبول الله توبته. وهكذا يبتلى الله سبحانه المصطفين من عباده بما يبتليهم به من مكروه، ثم يخرجهم من هذا المكروه، أصفى جوهرا، وأضوأ نورا، وأكثر إشراقا وألقا. وأن سليمان هذا، إنما هو هبة من هبات الله العظيمة، وعطاء من عطاياه الجليلة المسوقة إلى عبد من عباده المحسنين، بعد هذا الابتلاء العظيم، وبعد تلك المحنة القاسية..
وفى قوله تعالى: «نِعْمَ الْعَبْدُ» ثناء عظيم من المولى سبحانه وتعالى، على سليمان، وعلى داود أيضا، إذ كان ذلك الابن هبة له من ربه..
وقوله تعالى: «إِنَّهُ أَوَّابٌ» إشارة إلى أنه كثير الأوب والرجوع إلى الله وأنه مع الملك العظيم الذي جعله الله بين يديه، كان على صلة وثيقة بربه..
فلم يقطعه الملك عن ذكر ربه، بل إنه كلما كانت له نظرة إلى ملكه كانت له إلى ربه نظرات..
وفى وصف سليمان بالصفة التي وصف بها أبوه داود، وهى «الأواب» إشارة إلى أنهما على درجة واحدة من الاتصال بربهم، والرجوع إليه دائما..
ثم إنه إشارة أخرى إلى أن سليمان سيقع منه ما وقع لأبيه من فتنة وابتلاء، ثم من استغفار وندم، ثم من توبة وقبول من الله، وعطاء جزل عظيم، بعد هذا القبول والرضا من رب العالمين..
قوله تعالى:
«إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ»(12/1080)
«إذ» ظرف يبيّن حالا من أحوال سليمان فى أوبه إلى الله.. أي ومن أو به إلى الله ورجوعه إليه، موقفه هذا الذي كان منه حين عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد..
والصافنات: الخيل الواقفة على ثلاث قواتم، على حين تكون الرابعة قائمة على حرف الحافر.. وهذا من علامات الكرم والأصالة فى الخيل.. أما ذوات الحافر الأخرى، كالحمير والخيل غير الكريمة، فإنها تقف على قوائمها الأربعة، متمكنة من الأرض على سواء.. يقول عمرو بن كلثوم فى معلقته، يصف كرام الخيل التي يقتنونها، ويحاربون عليها:
وسيّد معشر قد توّجوه ... بتاج الملك يحمى المحجرينا
تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلّدة أعنتها صفونا
والجياد: جمع جواد، وهو اسم غلب على الذكر من الخيل.. وأصله من الجودة.. والخير: هو الخيل.. وتسمى الخيل خيرا، لأنها مظهر من مظاهر النعمة، حيث لا يملكها إلا أصحاب الثراء والجاه، فحيث كانت الخيل كان الخير معها.. وفى الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير» والآيتان الكريمان تحدثان عن حال من أحوال سليمان، وموقفه من الاشتغال بملكه وذكره لربه..
فهو- عليه السلام- إذ يستعرض الخيل، كبعض من سلطانه الذي بين يديه، أو كنعمة من نعم الملك الذي آتاه الله- إنه إذ يفعل هذا، وإذ يرى كثرة هذه الخيل المجراة بين يديه، بسرجها، ولجمها، يستعظم هذه النعمة، ويرى أنها شىء كثير، ما كان له أن يستكثر منه إلى هذا الحد، وأن يحفل به إلى هذا المدى، وأنه لو استكثر من ذكر الله، وأعطى لهذا الذكر ذلك المجهود الذي بذله، فى انتقاء هذه الخيل، وفى استجلاب كرائمها من كل أفق- لو أنه فعل هذا لكان أولى، وأجدى..(12/1081)
ولهذا، فإنه عليه السلام، ما إن يرى هذه الخيل تطلع عليه فى جمالها وروائها وروعة منظرها، حتى يلقى نفسه بهذا اللوم: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» ! أي لقد آثرت حبّ الخير الدنيوي، على ذكر ربّى.. فهذا الحب للخيل، هو شهوة متمكنة فى النفس، وهو فتنة من فتن الدنيا، كما يقول سبحانه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ.. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» . وللخيل فى ذاتها شهوة كشهوة المال، ولها فى النفوس موقع لا يعرفه إلا من عرف الخيل وشغف بها، وخاصة فى حياة البادية، التي ترى الخيل فيها وجها من وجوه الجمال والحسن، فى هذه المواقع المجدبة المكفهرة التي لا يلمح فيها الحسن إلا لمحات خاطفة..
وهذا ما تحدثنا به الحياة العربية- وخاصة فى الجاهلية- وما كان للخيل فيها من علقة بالنفوس، وهوى فى الأفئدة، حتى لقد عرفت الخيل بأسمائها، كما يعرف الأبطال، ومشاهير الفرسان. وحتى لقد كان للخيل أنساب كأنساب القبائل والعشائر، وحتى لقد وسعت اللغة العربية من الكلمات فى أوصاف الخيل، وفى وصف كل عضو من أعضائها، وكل شية من شياتها- ما لم يكن يجتمع لشىء آخر غيرها من حيوان أو إنسان.. ولهذه العناية العظيمة بشأن الخيل عند العرب والاحتفاء بها، كان ذلك النتاج العربي من كرائم الخيل وأصائلها، والتي لا تزال محتفظة بمكانها فيه، فوق عالم الخيل إلى اليوم.
وفى الشعر العربي ديوان كبير، يتمدح فيه الشعراء بالخيل، ويتغنون بها، ويكشفون عن مشاعرها، وأحاسيسها فى الحرب، وفى السلم.. كما نرى فى شعر عنترة، وعمرو بن كلثوم، وامرئ القيس.. وغيرهم..
يروى أن عربيا كان يملك فرسا اسمها «سكاب» وكانت من كرائم،(12/1082)
الخيل.. وقد سامه أحد أصحاب السلطان أن يشتريها منه، أو أن يهبها له، إن ضنّ يبيعها، وارتفع بقدرها عن أن تنزل منازل السلع، فلم يجد العربي بدّا من أن يدفع هذا المكروه، متلطفا متوسلا بقصيدة يقول فيها.
أبيت اللّعن إن سكاب علق ... نفيس لا يعار ولا يباع
مفدّاة مكرمّة علينا ... نجاع لها العيال ولا تجاع!
فحبّ سليمان عليه السلام للخيل، هو من هذا الحبّ، خاصة وهو مولود فى بيت ملك، تربّى من صغره على الفروسية..
ونعود إلى القصة فنقول: إن سليمان- عليه السلام- إذ يقول هذا القول:
«إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» . إنما هو مراودة بينه وبين نفسه، وخاطر من خطرات اللوم يدفع بها الزهو والعجب عنه، وهو مواجهة هذه الفتنة، ثم هو مع هذا يمضى فيما هو فيه، ولا يقطع مراسم هذا الحفل العظيم الذي احتشد له رؤساء القوم وسادتهم فى هذا الاستعراض العظيم لجيشه مشاة وفرسانا.. وإنه لا بأس من أن يمضى فيما هو فيه الآن، ثم ليكن له بعد هذا حساب مع نفسه، وتدبير فيما يكون منه فى شأن هذه الخيل وغيرها، مما يشغل منه وقتا يقطعه فترات عن ذكر الله، بالاشتغال بهذا المتاع..
وهكذا ظل- عليه السلام- يستعرض الخيل، حتى دخل الظلام، فتوارت عن نظره بالحجاب، أي حجاب الظلام.. فلم يعد يرى ملامحها، ويتحقق من شياتها، وما ينكشف لعينيه من أعضائها، التي تعطى الصفة الملاءمة لكل جواد منها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» أي أنه- عليه السلام- ما زال ينظر إليها، ويستعرض بعينه تناسب أعضائها، وتناسق ينائها، حتى توارت عنه بهذا الحجاب الذي أرخاه الليل عليها، إذ أن عرضها(12/1083)
عليه قد كان فى أخريات النهار، كما يقول الله تعالى: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ» ..
هذا، ولم يكن- عليه السلام- قد فرغ من الأمر الذي قصد إليه من هذا العرض للخيل، وهذا هو حجاب الظلام يحول بينه وبين تفرسها بعينيه، إذ كان العرض فى أخريات النهار بالعشي.. فماذا يفعل؟
لقد أراد القائمون على أمر هذا الاستعراض من حاشيته، أن يؤجّلوا ذلك إلى يوم آخر، وأن يذهبوا ببقية الخيل التي لم تعرض إلى مرابطها.. وربما همّ الرجال بهذا فعلا، بل وربما مضوا فى تنفيذه- بعد أخذ موافقته ضرورة- ولكن سرعان ما بدا له أن ينتهى من هذا الاستعراض فى مجلسه هذا، حتى لا يعود إلى هذه الفتنة من غد.. فقال وقد أخذت الخيل طريقها إلى مرابطها: «ردّوها علىّ!» فلما ردت إليه، أخذ يتحسسها سريعا بيديه، بالمسح بيديه على سوقها وأعناقها «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ» .. وأعراف الخيل، وأرجلها- وخاصة سيقانها- هى المواضع التي تنمّ عنها، وتحدّث عن مكانها من الأصالة والجودة.. وفى هذا يقول امرؤ القيس فى وصف جواده:
له أيطلا ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
والأيطل: الكفل، وهو أعلى الفخذ.. والسرحان الذئب، والتتفل:
ولد الظبى.
فامرؤ القيس يصف ساق جواده بالضمور، وعدم الامتلاء، ويشبهه بساق النعامة فى دقته، وتجرده من اللحم. على حين يشبّه كفله بكفل الظبى فى الامتلاء باللحم..!
ونلخص مضمون القصة فنقول:(12/1084)
إن سليمان- عليه السلام- استعرض ما يملك من خيل، وكان ذلك فى أخريات النهار، فلما طلعت عليه، هالته كثرتها، وكثرة ما تتزين به من سروج وقلائد، ولجم، فوقع فى نفسه، أن هذا حصيلة جهد كبير، بذله فى هذا الوجه، وأنه كان الأولى به أن يصرف جهده هذا فى ذكر الله..
وقد حدثته نفسه أن يردّ الخيل على أعقابها، وأن يلغى هذا الاحتفال، ولكن وجد أن ذلك قد يثير كثيرا من الأقاويل والشائعات، وأنه ربما يبلغ أعداءه عنه أنه انصرف عن اقتناء الخيل أو زهد فيها، وهى أقوى عدد الحرب يومئذ، فتحدثهم أنفسهم بحربه، ويجدون الجرأة على قتاله، فرأى لهذا أو لغيره أن يمضى فيما هو فيه، وكان الليل قد أرخى حجابه قبل أن يفرغ من استعراض الخيل، وكان من التدبير أن يؤجل بقية العرض إلى يوم آخر، ولكنه- لأمر دبره لنفسه- رأى أن يفرغ من هذا العرض، وأن يستعمل يديه فى التعرف على الجياد من هذه الخيل، وذلك بإمرار يديه على المواضع التي تدل على الجودة أو الرداءة منها، كل ذلك فى سرعة نراها فى قوله تعالى: «فَطَفِقَ» الذي يدل على الاستمرار مع التدفق والجريان للفعل.
أما الأمر الذي دبره سليمان عليه السلام فى نفسه بإنهاء هذا العرض فى هذا المجلس، فهو أن يأخذ نفسه بسياسة غير تلك السياسة التي كان يصرف فيها هذا الجهد باقتناء الخيل، والاحتفاء بها، وأن يجعل ذكر الله همّه وأن يفرغ فيه جهده، وأن يستغفر لما كان منه من تقصير أو تفريط فى جانب ذكره لربه..
هذه هى قصة الخيل.. ولها ذيول سنعرض لها فيما بعد.. بعد أن نفرغ من قصة الكرسي والجسد الملقى عليه..(12/1085)
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.. ثُمَّ أَنابَ» ..
هذه الآية هى إشارة إلى هذه الفتنة التي فتن بها سليمان، وهو اشتغاله بهذا المتاع من الخيل، وحشد هذا الجهد منه ومن حاشيته، ورعيته فى سبيله..
ففى قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد فتنه بهذا المتاع الكثير، الذي ساقه إليه.. وأن هذا المتاع كان عبئا ثقيلا على «كرسيه» أي سلطانه، الذي كان ينبغى أن يكون مكان النبوة فيه أبرز وأظهر من مقام الملك.. وهذا هو السر فى كلمة «جسدا» الذي يمثل المتاع الدنيوي الذي يضمه هذا الملك.. إن كرسى سليمان قد ثقل فيه ميزان الملك، وكاد يجور على المكان الذي ينبغى أن يكون للنبوة فيه، الحظّ الأوفر، والنصيب الأوفى!.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» بمعنى وألقيناه على كرسيه جسدا، فيكون جسدا حال، بمعنى كائنا جسدا.. على حين أن روحه قد زايله فى تلك الحال، فرأى- من عالم روحه- وجوده الجسدى قائما على الكرسي، ملتصقا به.. وهذا ما يعرف فى الروحية الحديثة باسم «الطرح الروحي» حيث تستطيع بعض الأرواح أن تنفصل عن أجسادها فى حال اليقظة، فيرى الإنسان بروحه عوالم كثيرة بعيدة، ويشهد من وراء حجب المادة الكثيفة ما يشهده عن قرب وعيان.. ومما يشهده فى حاله تلك، وجوده الجسدى.
وقد يكون سليمان- عليه السلام- رأى فى حال من أحوال الطرح الروحي، ذاته الجسدية على كرسى ملكه، على حين رأى ذاته الروحية بعيدة(12/1086)
عن هذا الكرسي، فأنكر مقامه على هذا الكرسي وهو على تلك الحال التي انفصلت فيها أو كادت تنفصل عنه النبوة!.
ولقد لفتنى إلى هذا المعنى الأستاذ العالم الأديب محمد شاهين حمزة، الذي ينفق من ذخائر علمه ويسعى بها إلى طلاب العلم، حاملا عنهم مشقة الطلب والسعى.. فجزاء الله عن العلم وأهله خير ما يجزى العالمين العاملين.
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنابَ» - إشارة إلى معطوف عليه محذوف.
تقديره: فشغل سليمان وقتا ما بهذا المتاع أي (الجسد) الذي ألقى على كرسيه.. «ثم أناب» ..
أي رجع إلى ربه، وصحح هذا الوضع الذي صار إليه «كرسيه» ..
فأفسح للنبوة فيه مكانها، وأعطاها كل حقها..
واقرأ الآية الكريمة: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» .
تجد مفهوما واضحا لكلمات الله على هذا التأويل الذي تأولناها عليه..
ثم تجد للعطف «بثم» مكانا مكينا فى الآية، حيث أن هذه الإنابة قد جاءت متراخية زمنا ما، كان لا بد منها لجمع هذه الأعداد الكثيرة من أصائل الخيل وجيادها، وما يتصل بها من عدد وفرسان..
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» ..
هو بيان لإنابة سليمان إلى ربه، وأن إنابته هى قوله: «رَبِّ اغْفِرْ لِي(12/1087)
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»
- ولهذا لم يفصل بين الفعلين «أناب» «وقال» بفاصل ما، من حرف عطف، أو نحوه..
وقد قرن سليمان فى إنابته إلى الله سبحانه- قرن طلب المغفرة بهبة هذا الملك الذي لا يكون لأحد من بعده! وفى هذا ما يشير فى وضوح إلى أن ما طلبه من أن يهب الله له هذا الملك الذي لا ينبغى لأحد من بعده- فيه إشارة واضحة إلى أن هذا هو ما يصحح إنابته إلى ربه، ويجعلها إنابة سليمة، خالية من كل معوق يعوقها عن الله! فكيف هذا؟ وهل بهذا الملك العجيب الذي لا يملكه أحد من بعده يكون أقرب إلى الله منه وهو على كرسى ملكه الذي هبت عليه منه ريح الفتنة؟
وهل كان ما كان منه من اشتغال- أكثر مما ينبغى- عن ذكر ربّه، إلا من الملك، وسلطان الملك وما يحف به من شهوات؟
فكيف يكون طلب هذا الملك الذي لم يكن لأحد غيره- إنابة ورجوعا إلى الله، وتخففا من الاشتغال بالملك؟
ندع هذا الآن.. وننظر فيما أجاب به الله سبحانه وتعالى هذا الطلب..
يقول الله تعالى:
«فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» هذا هو ما أجاب به الله سبحانه، سليمان فيما سأل.. وقد جاءت الإجابة(12/1088)
فى غير مهل.. دعاء فإجابة.. وهذا يدل على ذلك الرضا العظيم من الله سبحانه عند عن هذا الذي أقبل عليه بقلب سليم، منيبا إليه، طامعا فى رحمته ومغفرته! ولا بد من وقفة هنا:
فأولا: لقد أقام الله سبحانه سليمان فى منصب الملك، كما أقامه فى منصب النبوة.. فهو- بتكليف من الله سبحانه- ملك ونبىّ معا..
وثانيا: لقد جرب سليمان الحياة مع الملك والنبوة، فوجد سلطان الملك يكاد يطغى على مقام النبوة.. ولقد رأى رأى العين كيف شغلته الخيل عن أن يؤدى للنبوة حقها، وأن يذكر الله ذكر الأنبياء، ووقف من نفسه موقف اللائم المؤنب، فيقول لها: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» ! وثالثا: بعد هذا العرض للخيل الذي رأى فيه سليمان وجه الفتنة كالحا مخيفا، يهجم على نبوته ويكاد يحتويها، رأى فى هذا الملك خطرا يتهدد نبوّته إن هو ظل قائما عليه، ممسكا به، ثم رأى- من جهة أخرى- أنه ملك من قبل الله، كما هو نبىّ من عند الله، وأنه لا سبيل له أن يخلى يده من هذا الملك..
إنه ملك ونبىّ معا..
ورابعا: لا بد إذن أن يكون سليمان ملكا، وقد رأى ما يسوق إليه الملك من فتنة.. فليكن إذن ملكا، ولكن ليكن هذا الملك على صورة غير هذا الملك الذي تجىء منه الفتن.!
وخامسا: فى طلب سليمان تغيير صفة هذا الملك، نراه يقول: «هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» .. إنه ملك، ولكنه على غير ما يملك(12/1089)
الملوك، مما على هذه الأرض.. إنه ملك لا تجىء منه هذه الفتن التي، لا يملك دفعها الملوك، حتى الأنبياء..!
وأين هذا الملك الذي يكون على هذه الصفة؟ ..
إن سليمان لا يعرفه، ولهذا طلب إلى الله سبحانه أن يهبه إياه، وهو سبحانه لا يعجزه شىء، وهو سبحانه «وهاب» لا تقف هبانه عند حدود أو قيود! «إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» .
وسادسا: وجاء الملك الذي طلب سليمان!: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ» ..
هذا هو ملك سليمان الجديد.. وهو ملك عجيب حقا.. إنه ليس جسدا. وليس فيه من عالم الجسد شىء.. ريح يمتطيها كما يمتطى الخيل.،
وهى مطاياه التي أقامها الله سبحانه وتعالى له مقام الخيل بعد أن زهد فيها، وصرف نفسه عنها ابتغاء مرضاة الله.. فكان الجزاء الحسن من جنس العمل الحسن.. أضعافا مضاعفة.
ثم كان جنود من عالم الجن، يعملون له بدلا من عالم الإنس..!
وإذن فلا التفات إلى الخيل، وما يتصل بها.. ولا التفات إلى الناس، وإلى ما قد يقع عليهم من ظلم، فيما يقيم به دعائم الملك، من قلاع، وحصون، وقصور! ..
فالريح تنقله إلى حيث يشاء، بلا خدم، ولا حشم، ولا حرس..
والجن.. «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ.. مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» !!(12/1090)
وبهذا خرج سليمان من سلطان هذا الملك الذي يفتن به الملوك، وقام على ملك لا تخلص إليه منه فتنة..!! أو بمعنى آخر، لقد صفّى ملكه من تلك الشوائب التي تجىء منها الفتن، بما وضع الله سبحانه وتعالى فى يديه من قوّى يستغنى بها عما يكلف به الملوك رعاياهم، وما يحملونهم عليه من أمور، يحققون بها أبّهة سلطانهم، ويقيمون عليها عظمة ملكهم، فيكون الظلم والقهر والاستبداد..
هذه هى قصة سليمان، على هذا التأويل الذي تأولنا عليه آيات الله، التي عرضت لهذه القصة.. وهو تأويل، نرجو أن يكون- بتوفيق الله- أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى موقع الحق.. فإننا لم نر أحدا من المفسرين- فيما بين أيدينا من أمهات كتب التفسير- قد تأول الآيات هذا التأويل، وأقامها على هذا الوجه..
وإنه لا بأس من أن نعرض هنا بعضا من وجوه التأويل التي ذهب إليها المفسرون، حتى ينكشف وجه الخلاف، ويكون للناظر فى تفسيرنا هذا أن يأخذ به، أو يأخذ ما يشاء من تلك المقولات:
فأولا: يذهب أكثر المفسرين لقوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» يذهبون إلى أن الضمير فى «توارت» يعود إلى الشمس، وأن سليمان عليه السلام، شغل باستعراض الخيل، حتى توارت الشمس فى مغربها.. فلما غربت الشمس تنبه إلى أن وقت الصلاة قد فاته، فوقع فى نفسه الندم على هذا(12/1091)
التفريط فى جنب الله، وقال ناعيا على نفسه هذا الذي كان منه: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» !! ثم يختلف المفسّرون بعد هذا فى: هل كانت هذه الخيل خيل زينة، فيكون سليمان بهذا مقصرا فى حق الله؟ أم أنها كانت خيلا يعدّها للجهاد فى سبيل الله، فلا يكون ذلك محل لوم، كما حدث للمسلمين يوم أحد، حين فاتتهم صلاة العصر..
وثانيا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: «رُدُّوها عَلَيَّ» إلى أن هذا أمر من سليمان إلى الشمس أن تعود من حيث غربت، فتظهر له على الأفق الغربي من جديد، حتى يؤدى الصلاة التي فاتته، فى وقتها..
ثم يختلف المفسرون فى هذا الأمر، وهل كان متجها به إلى الله، وأن ضمير الجمع للتعظيم، أم أنه أمر اتجه به إلى أعوانه وأتباعه كاللائم لهم أن لم ينبهوه إلى وقت الصلاة، وأن عليهم- وقد قصّروا- أن يعملوا المستحيل لإصلاح ما أفسدوا، وأن يعيدوا الشمس التي غربت!.
ولا يختلف المفسرون الذين يقولون بأن الضمير فى ردوها يعود إلى الشمس- وهم جمهور المفسرين- لا يختلفون فى أن الشمس قد ردّت إليه، فظلت على الأفق الغربي حتى أدى الصلاة فى وقتها..
ومن المفسرين من ذهب إلى أن الشمس لم تردّ، وإنما حبست، عن أن تغرب، وقد لامست الأفق، فظلت فى مكانها حتى أدى الصلاة..
ولهذا تأويلات وتعليلات أكثر من أن تحصر..
ثم إنهم يأتون لعودة الشمس من مغربها، أو إمساكها على الأفق بشواهد لمثل هذا الحدث، فى زمن النبوة، وفى غير زمن النبوة-(12/1092)
تساق إليها كثير من الأحاديث والأخبار مسندة إلى ابن عباس وغيره من أعلام الصحابة..
وثالثا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ» إلى أن سليمان بعد أن تنبه إلى مغيب الشمس، وطلب ردها إليه، اتجه إلى الخيل، وأخذ يضرب بالسيف فى سوقها وأعناقها، ليكفّر بذلك عن خطيئته فى اشتغاله بها حتى فاته وقت الصلاة..
فهذه الخيل هى التي شغلته، وهى التي يجب أن يتخلص منها، وأن يقدمها قربانا لله يأكل من لحمها الفقراء والمساكين!.
ولم يسأل الآخذون بهذا الرأى أنفسهم: ما ذنب هذه الخيل حتى تلاقى هذا المصير، وهى فى موضع الاحتفاء والتكريم؟.
ورابعا: اختلف المفسرون فى تأويل قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» ..
فمن قائل، إن سليمان قال لنفسه مرة: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة من نسائى فيولد لى منهن سبعون ولدا يجاهدون فى سبيل الله..!! قالوا، ولم يقل إن شاء الله، فلم تحمل من نسائه فى تلك الليلة غير واحدة، والذي ولدته جاء مسخا، على صورة نصف إنسان، فلما ولد جاءت به القابلة، وسليمان على كرسى مملكته، فوضعته بين يديه!.
والقصة كما ترى- تفضح نفسها بهذا الخبال الصبيانى المريض..!
ومن قائل، إن سليمان دخل الحمام، وكان جنبا- ودائما النساء وما يتصل بالنساء! - فخلع خاتم الملك فأخذه الشيطان، ولبسه، وظهر فى(12/1093)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
صورة سليمان، وجلس على كرسىّ المملكة، واتصل بنسائه، وسليمان ينادى فى الناس معلنا أنه سليمان، فلا يصدّقه أحد، حتى زوجاته.. وقد ظل سليمان هكذا زمنا لا يجد مكانا يؤويه، أو لقمة عيش يتبلغ بها، وهو دائب التوبة والاستغفار؟؟؟ قالوا، وكان الشيطان قد خاف أن يقبل الله توبة سليمان، وأن يعيد إليه الملك، فأمسك بالخاتم ورمى به فى البحر..
قالوا، ولما قبل الله توبة سليمان، وأراد ردّ ملكه إليه، دفع به إلى شاطىء البحر، فاصطاد سمكة فلما شقّ بطنها وجد خاتمه.. فلبسه، وعاد إلى ما كان عليه..!!
ثم تمضى القصة فتقول: إن سليمان أخذ هذا الشيطان فحبسه فى قمقم، ثم ختم عليه بالرصاص وألقاه فى البحر.. فهو فى هذا القمقم إلى يوم الدين!.
وهذه القصة أيضا أكثر من سابقتها سخافة وسذاجة، وتناقضا، وفسادا، فى كل حدث من أحداثها..
وهكذا تمضى الروايات حول تأويل هذا الجسد الذي ألقى على كرسى سليمان، وكلها من هذا العالم الخرافى، الذي لا مكان فيه للعقل، أو المنطق، إذ كل ما ينبت، فى هذا العالم هو أطياف وأشباح، يموج بعضها فى بعض، ويضرب بعضها وجه بعض!!.
الآيات: (41- 44) [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)(12/1094)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» ..
هو دعوة أخرى إلى النبي الكريم من الله سبحانه وتعالى، أن يذكر هذا الذي بذكره له ربّه من أمر عبد من عباده الصالحين، ونبى من أنبيائه المقربين، هو أيوب عليه السلام..
والذي يدعى النبي- عليه الصلاة والسلام- إلى تذكره، والوقوف على موضع العبرة والعظة منه، من أمر أيوب- عليه السلام- هو ضراعته لربه، ولجوؤه إليه، فيما مسه من ضرّ..
وأيوب- عليه السلام- إنما يقف على حدود هذا الأدب النبوي الرفيع، حين يرفع إلى الله- سبحانه- شكواه مما به، ولا يسأل العافية، وكشف الضر..
فذلك إلى الله سبحانه وتعالى، حسب مشيئته وإرادته فى عبده.. فقد يكون هذا البلاء خيرا له من العافية.. وإنه كبشر، يشكو إلى ربه ما يجد من آلام، ويفوض الأمر إليه سبحانه فيما يريد به.. ولو أنه استطاع ألا يشكو لفعل، فالله سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ولكنها، أنّات موجوع، وزفرات محموم! «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» .. والنّصب، كالنّصب، وهو الرهق والتعب، والعذاب: الألم الناجم عن هذا التعب.(12/1095)
وفى إسناد المسّ إلى الشيطان، إشارة إلى أن هذا الّذى نزل بأيوب، هو من الأسباب المباشرة، التي تجىء من النفس الأمارة بالسوء، ومثل هذا ما كان من موسى عليه السلام، حين قتل المصري فقال: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» .
قوله تعالى:
«ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» .
وهذا جواب الحق سبحانه وتعالى على ما سأله أيوب، ولم يفصل بين السؤال والجواب فاصل، للإشارة إلى أن الإجابة كانت متصلة بالسؤال والطلب، من غير تراخ.. فما هو إلا أن سأل، حتى وجد ما طلب حاضرا..
وهذا يشير إلى أن أيوب صبر زمنا طويلا لا يشكو، فلما شكا، أزال الله سبحانه شكاته..
والركض: الجري، والمراد به الضرب بالرجل على الأرض بقوّة، حيث أن الرّجل تخدّ الأرض وتضربها أثناء الجري..
وقد ضرب أيوب برجله الأرض، كما أمره ربّه، فتفجر نبع من الماء! وماذا يعمل أيوب بهذا الماء؟ هكذا وقف عليه متسائلا.. فكشف له ربّه عمّا وراء هذا الماء، فقال له: «هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» .. إنه ماء عذب، بارد سائغ للشاربين.. فاغتسل به، واشرب منه.
قوله تعالى:
«وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» .
أي وهبنا له أهله، الذين كانوا قد نفروا منه، وتخلّوا عنه أثناء محنته، فلما لبس ثوب العافية، وخرج من ضباب المحة، عاد إليه أهله، وعاد إليه الغرباء، فكانوا له مثل أهله، تقرّبا إليه، وتودّدا له، إذ أفاض الله سبحانه(12/1096)
وتعالى عليه من الخير، ما جعل العيون تتطلع إليه، والآمال تتجه نحوه..
وهكذا الناس.
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل
وفى التعبير بالهبة عن عودة أهله وغير أهله إليه فى قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» - فى هذا التعبير إشارة إلى أن هذا التحول فى حال «أيوب» من تلك العزلة الموحشة بينه وبين أهله وغير أهله، إلى إقبال القريب والبعيد عليه، وتوددهم له- إنما كان هبة من هبات الله له، ورحمة من رحماته، على هذا العبد الذي ابتلى هذا الابتلاء العظيم، فصبر راضيا بأمر الله سبحانه وتعالى فيه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (10: الزمر) .. وفى ذلك ذكرى وموعظة لأولى الألباب، الذين يأخذون العبر من الأحداث التي تمر بهم، أو بالناس من حولهم.
قوله تعالى:
«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» .
الضّغث: الخليط من كل شىء.. والمراد به هنا، مجموعة من العيدان الدقيقة، من حطب أو غيره.. والحنث: الذنب المؤثم، واليمين الغموس.
والآية معطوفة على قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» الذي هو اعتراض بين الآيتين اللتين يحملان خطابا من الله سبحانه وتعالى إلى «أيوب» .. فالأمر الموجّه من الله سبحانه وتعالى إلى «أيوب» هو: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ...
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» .. وقد جاء قوله تعالى: «وَوَهَبْنا(12/1097)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ»
بين الأمرين- إشارة إلى أن هذه الأوامر ليست تكليفا، كما هو الشأن فى الأمر، وإنما هى دعوة إلى تناول هذا العطاء الكريم من ربّ كريم، إلى عبده الصابر الشكور.. فهذان الأمران، يحملان هبات من عند الله، كما يحمل الخبر فى قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» ..
فإن قوله تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» يحمل إليه الشفاء والعافية، وقوله تعالى:
«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» يحمل إليه الوفاء بيمينه، ويدفع عنه الحرج.. إذ كان قد حلف وهو فى حال مرضه أن يضرب امرأته، مائة سوط على أمر خرجت به عن رأيه.. وكان من لطف الله به وبامرأته، أن جعل تحلّة يمينه بأن يضربها بعرجون يحمل مائة أو أكثر من الشماريخ!!
الآيات: (45- 54) [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» .(12/1098)
أي واذكر- أيها النبىّ- وأنت تدعو نفسك إلى الصبر على ما تكره من قومك- اذكر فيمن تذكر من عبادنا الصالحين، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. فهؤلاء من ذوى الأيدى العاملة فى كل مجال للخير والإحسان، ومن ذوى الأبصار الكاشفة عما فى هذا الوجود من بعض جلال الله، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. إنهم لم يؤنوا ملكا وإنما أوتوا نبوّة، وهم لهذا إنما يعملون بأيديهم، ويسعون فى تحصيل معاشهم بأنفسهم، لا يملكون سلطانا يعمل لهم العاملون فيه.. ثم إن لهم إلى جانب هذه الأيدى العاملة فى الدنيا، أبصارا عاملة فى التدبّر فى ملكوت الله، والتسبيح بحمده.
قوله تعالى:
«إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ» .
هو بيان لقوله تعالى: «أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» .. أي إننا أخلصناهم لعبادتنا، إذ أخلينا أيديهم من الملك والسلطان، فلم يشغلوا بتدبير ملكهم وحراسة سلطانهم، عن ذكرنا، وذكر لقائنا.
فقوله تعالى: «بخالصة» متعلق بقوله تعالى: «أَخْلَصْناهُمْ» .. أي نجيناهم من الفتنة بمنجاة، هى إقامتهم على تذكر الدار الآخرة.. وقوله تعالى:
«ذِكْرَى الدَّارِ» بدل من (بخالصة) ..
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» ..
أي، فهم لما أخلصناهم به، فى مقام عظيم عندنا، إنهم من المصطفين الأخيار من عبادنا..(12/1099)
هذا، ويلاحظ أن ذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد جاء متأخرا عن ذكر داود وسليمان وأيوب، مع أن إبراهيم، هو الأب الأكبر لهم، كما أن إسحق ويعقوب، من آبائهم الأولين..
فما سر هذا الترتيب الذي جاء عليه النظم القرآنى، مخالفا الترتيب الزمنى؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو:
أولا: أن داود وسليمان، وأيوب، كانوا أصحاب دنيا عريضة، إلى جانب النبوة..
فقد كان داود وسليمان ملكين، يقومان على ملك عظيم، على حين كان أيوب ذا ثراء كبير، ومال وبنين، إلى جانب نبوته أيضا..
وهذا الملك، وذلك الثراء، هما ابتلاء وفتنة حيثما وجدا، سواء أكان ذلك مع الأنبياء، أو غير الأنبياء.. وهذا يقتضى ممن يبتلى بهما أن يكون على حذر دائم، ومراقبة متصلة لنفسه، فى كل ما يأتى وما يذر من عمل.. إنه فى مواجهة الفتنة أبدا، فإذا لم يكن على حذر منها، جرفه تيارها، فكان من المغرقين..
ثانيا: لم يكن إبراهيم وإسحق ويعقوب، أصحاب مال أو سلطان- كما قلنا- ولهذا فقد خلصت نبوتهم من عوائق الفتن الدنيوية، فأخلصوا لله وجودهم ووجوههم، فلم تكن منهم زلة أو هفوة..
وثالثا: فى هذه الصورة التي تفرّق بين الأنبياء الملوك أو أشباه الملوك، وبين الأنبياء المخلصين للنبوة- يرى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- أين منزلته التي جعله الله فيها.. فهو صلوات الله وسلامه عليه- نبى خالص النبوة، لا تشغله الدنيا، ولا تعرض له بفتنة من فتنها.. ومن ثم فهو فى عصمة من نبوته. فلا(12/1100)
يذكر غير الله، ولا يلتفت إلى غير الرسالة التي فى يديه، يحوطها، ويرعاها، ويحتمل الضر والأذى فى سبيلها..
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» .
وهؤلاء ثلاثة آخرون من أنبياء الله، هم على شاكلة إبراهيم وإسحق ويعقوب.. أنبياء لم يكن لهم مع النبوة ملك أو سلطان.. فهم «من الأخيار» كما أن إبراهيم وإسحق ويعقوب من (الأخيار) ..
وليس يعنى هذا أن داود وسليمان وأيوب، لا يدخلون فى هذا الوصف الجليل.. وكلّا.. فهم أنبياء لله قبل أن يكونوا ملوكا.. ولكن الخيرية درجات..
وأنبياء الله فى مقامهم العظيم، هم درجات أيضا.. «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (253: البقرة) .
واليسع: هو إلياس، وهو الياسين..
وذو الكفل: هو- والله أعلم- زكريا عليه السلام، لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول الله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» (37: آل عمران) ..
قوله تعالى:
«هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ» .
الإشارة هنا إلى ما ذكر من حديث عن هؤلاء الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وفى الحديث، ذكر وموعظة، لمن يتذكر ويتعظ، فيكون بهذا من المؤمنين المتقين..(12/1101)
قوله تعالى:
«جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» ..
هو بدل من «حسن مآب» .. فالمآب الحسن، هو جنات عدن، أي جنات خلود، يجدها المتقون، وقد فتحت أبوابها لهم، يدخلونها من أي باب شاءوا، دون أن يحجبهم عنها حاجب..
قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ» ..
الاتكاء هنا كناية عن الراحة من السعى وراء المطالب المعيشية.. فهم لا يعملون عملا فى سبيل ما يريدون.. بل إن كل شىء حاضر عتيد بين أيديهم، وما عليهم إلا أن يطلبوا فيجدوا ما طلبوا حاضرا.. إنهم يأكلون ما يشاءون، ويشربون ما يشتهون، مما كان قد فاتهم من حظوظ الدنيا.. هذا إلى ما أعدّ الله لهم، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر..
قوله تعالى:
«وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» ..
قاصرات الطرف: أي غاضّات البصر، حياء، وخفرا، وعفّة..
الأتراب: جمع ترب، والترب الشبيه والمثيل..
أي وبين يدى أهل الجنة حور عين، قاصرات الطرف، أي خاشعات الأبصار، حياء وخفرا، على صورة كاملة فى الجمال، والشباب.. كلهن على ميزان واحد فى الجمال، ليس فى أىّ منهن زيادة لمستريد.(12/1102)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قوله تعالى:
«هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ» .
أي هذا النعيم الخالد، بألوانه، وأشكاله، هو ما وعد الله به المؤمنين، حيث يلقونه يوم الحساب، والجزاء.
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ» .
أي هذا النعيم الخالد، هو الرزق الذي يرزقه الله أصحاب الجنة، وهو رزق لا ينفد أبدا، ولا ينقص منه شىء أبدا، على كثرة الواردين عليه.
الآيات: (55- 64) [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
التفسير:
قوله تعالى:
«هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ» .(12/1103)
هذا هو الوجه المقابل لأصحاب الجنة، الذين ينعمون بهذا النعيم الخالد، ويهنئون بما أفاء الله سبحانه عليهم من رحمته ورضوانه.
فقوله تعالى: «هذا» إشارة إلى المؤمنين وأحوالهم فى الجنة، أي هذا شأن.. وشأن آخر، هو شأن الطاغين، من رءوس أهل الكفر والشرك والضلال.. فهؤلاء لهم شرّ مآب، وسوء منقلب، هو هذا العذاب الذي يلقونه فى جهنم، التي هى المهاد الذي يجدون فيه متكأهم وراحتهم.. إن لهم فى دارهم هذه مهادا ومتكأ، كما للمتقين فى دارهم مهادا ومتكأ! وشتان بين مهاد ومهاد! «هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ» .
هو فى مقابل لقوله تعالى فى المؤمنين: «يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ» ، فأهل الجنة يطلبون ما يشتهون، فيجدونه حاضرا..
أما أهل النار، فإنهم لا يطلبون شيئا.. وماذا يطلبون من النار، إلا النار؟ ..
ومع هذا، فإنهم لا بد أن يطعموا من ثمر جهنم، ويسقوا من شرابها، كما طعم أهل الجنة من فاكهة الجنة، وشربوا من شرابها..
وإنه إذ لم يطلب أصحاب النار طعاما ولا شرابا. فهذا طعام وشراب حاضر بين أيديهم.. هذا حميم وغساق. فليدوقوه!.
والحميم: اللهب، ومنه الحمم وهو قطع الجمر.
والغساق: القيح والصديد.
وإذا كان لأهل الجنة حور عين: «قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» فإن لأهل النار كذلك أزواجا من شكل هذا الحميم والغساق «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ»(12/1104)
أي وعندهم إلى جانب هذا الطعام والشراب، من الحميم والغساق، أزواج مشكّلة على شاكلة هذا الحميم والغساق..!!
وليس هذا فحسب..!
إن أهل الجنة يدخل عليهم الملائكة من كل باب، يؤنسونهم، ويحيونهم قائلين «سلام عليكم» ..
وإن هؤلاء الطاغين، ليرد عليهم بين حين وحين، من يصبّ عليهم اللعنات، من أتباعهم وأشياعهم: «هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» ..
إنهم قد سبقوا إلى النار، وتقدموا أتباعهم، فهم أئمتهم فى الدنيا والآخرة..
فإذا أخذوا أماكنهم من جهنم، دفع إليهم «فوج» أي فريق من أتباعهم، «مقتحم» أي يقتحم عليهم مكانهم الضيق الذي هم فيه، ليأخذ له مكانا..
فليقاهم الذين سبقوهم قائلين: «لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ» .. ويجيئهم ردّ التحية من أتباعهم: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ.. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا» أي أنتم الذين دفعتم بنا إلى هذا المصير المشئوم.. «فَبِئْسَ الْقَرارُ» الذي استقر بنا وبكم..
ولا يقف الأتباع عند هذا مع سادتهم، بل يدعون الله عليهم أن يقتصّ لهم منهم، وأن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا هم الذين زينوا لهم الضلال الذي أوردهم هذا المورد.. «قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ» ..
وفيما هم فى هذا التلاحي والتخاصم، ينظرون فى وجوه من حولهم من أهل النار، باحثين عن أناس كانوا يعرفونهم فى الدنيا، ويرونهم أهل سوء، وأنهم أولى بالنار منهم..(12/1105)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
«وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ» ؟ فأين فلان وفلان، وفلان.. من الفقراء والضعفاء والعبيد والإماء؟ ألا ينزلون هذا المنزل؟ وإذا لم ينزله هؤلاء، فمن ينزله؟.
«أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا؟» أي أاتخذناهم سخريا، وكنا على خطأ فى استهزائنا بهم، وسخريتنا منهم فى الدنيا؟
«أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» ؟ أم أننا كنّا على صواب فى سخريتنا واستهزائنا، وأنهم على ما كنا نقدّر، فهم موجودون هنا فى جهنم، ولكن أبصارنا زاغت عنهم؟ لا ندرى!.
«إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ» .
أي إن هذا التخاصم والتلاحي بين أهل النار، هو حق واقع..
فمن كذّب، فلينتظر، وسيرى..
الآيات: (65- 88) [سورة ص (38) : الآيات 65 الى 88]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)(12/1106)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .
بعد هذه المشاهد التي وقف فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه، على أخبار بعض أنبياء الله ورسله، ممن ابتلاهم الله، ومن عافاهم، وبعد أن رأى المؤمنون ما أعد الله لهم فى جناته من نعيم خالد، ورضوان مقيم، ورأى المشركون جهنم وما يلقاه أهل الضلال والطغيان فيها من بلاء عظيم- بعد هذا كله- والمشاعر متوفزة والقلوب واجفة- يلتقى النبي مرة أخرى مع المشركين، يذكرهم برسالته فيهم، وشأنه بهذه الرسالة معهم.. وأنه إنما(12/1107)
هو منذر» أي مبلّغ ما أمر به من ربه، وليس له عليهم من سلطان..
وقوله تعالى: «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» هو من مقول القول، الذي يقوله النبىّ للمشركين، وينذرهم به، وهو أن يؤمنوا بإله واحد، قهار، يذل الجبابرة، ويقصم ظهور الظالمين..
قوله تعالى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» .. هو من مقول القول أيضا، وهو عطف بيان على قوله تعالى: «الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .. أي ما من إله إلا الله الواحد القهار خالق السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار.. فهذه بعض صفات الإله المتفرد بالألوهة، المستحق للعبادة..
قوله تعالى:
«قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.» .
النبأ العظيم، هو ما حدثتهم به الآيتان السابقتان عن الله سبحانه وتعالى، وعما يليق له- سبحانه- من صفات الفردية والقهر والجلال، والعزة والمغفرة.. فهذا نبأ عظيم، يطلع على الناس بالهدى، ويقيمهم على طريق الفلاح، لو استقاموا عليه.. ولكن المشركين معرضون عنه، مستخفّون به، لا يعطونه آذانا مصغية، ولا يفتحون له قلوبا واعية..
قوله تعالى:
«ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .
أي هذا النبأ العظيم الذي حدثتكم به، ليس من عندى، وإنما هو من عند الله..(12/1108)
ولكنكم لا تصدقون أنى رسول الله، وأنى أتلقى ما يوحى به إلىّ من آياته وكلماته..
أنتم لا تصدّقون هذا، وتستكثرون فضل الله علىّ، أو تستكثرون أن يتصل الله ببشر..
فإذا كان هذا ظنكم بربكم، وهذا رأيكم فىّ.. فما قولكم فى هذه الأخبار السماوية، وتلك الأحداث التي وقعت فى العالم العلوي غير المنظور أو المسموع- ما قولكم فى هذه الأخبار التي تحدثكم بها آيات الله وكلماته؟ أهي من عندى أيضا؟ إنه «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .. فأنا معكم على هذه الأرض.. وهل لمن كان من عالم الأرض أن يتصل بالعالم العلوي، ويعلم ما يدور هناك، إلا إذا كان موصولا بهذا العالم، مدعوّا إليه من ربه؟.
والذي يختصم فيه الملأ الأعلى، هو ما ستعرضه الآيات التالية، من موقف الملائكة، وإبليس من خلق آدم، ومن أمر الله سبحانه، بالسجود له..
قوله تعالى:
«إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .
فهذا الذي أحدثكم به، أو تحدثكم به آيات الله عن الملأ الأعلى، هو وحي من عند الله، وما أنا إلا بشر مثلكم، وما «يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. لا شىء أكثر من هذا.. إنى أبلّغ ما يوحى إلىّ به، لا أدخل عليه بشىء من عندى..(12/1109)
قوله تعالى:
«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» .
هذا ما كان من اختصام فى الملأ الأعلى، وهو مما لم يكن للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- علم به، كما لم يكن لبشر أن يعلمه.. ولكن الله سبحانه وتعالى أخبره به وحيا من عنده، بهذه الآيات التي يتلوها على العالمين..
وفى التعبير عما كان بين الله سبحانه وتعالى، وبين إبليس- لعنه الله- فى التعبير عنه بالاختصام- إشارة إلى تطاول هذا اللعين، وإلى موقفه من ربه موقف جدل واختصام، وذلك لشقوته التي غلبت عليه، بما سبق من قضاء الله فيه..
وأنه إذا كان فى الملأ الأعلى من يكفر بالله، ويعمى عن طريق الهدى وهو فى عالم النور والصفاء والطهر، فإن فى العالم الأرضى، عالم الظلام والكثافة، كثيرين وكثيرين، ممن يكفرون بالله، ويركبون مراكب(12/1110)
الضلال.. وأنه إذا كان الكفر بالله، والخروج عن طاعته، لا يعصم أهل الملأ الأعلى من أن يردّوا إلى عالم الظلام، وأن يكونوا فى الدّرك الأسفل من مخلوقات الله، فإن الكفر بالله والخروج عن طاعته، لا يعصم من كان فى العالم الأرضى، أن يردّ إلى ما دون هذا العالم، وأن يلقى به فى عذاب السعير..
ثم إنه- من جهة أخرى- إذا كان فى الملأ الأعلى ملائكة مقرّبون، لا يعصون الله ما أمرهم، فيزدادون بذلك قربا من الله- فإن فى العالم الأرضى من يرتفع عن هذا العالم، بإيمانه بالله، وولائه له، وينزل منازل الرحمة والرضوان، فى جنات النعيم..
وهكذا.. رجيم من العالم العلوي يهوى إلى الأرض، وشهب من الأرض، تصعد إلى السماء، وتتألق بين كواكبها ونجومها..!
فأىّ من هذين الفريقين من أهل الأرض يكون هؤلاء المشركون؟
أيظلون على كفرهم بالله، فيهوى بهم كفرهم إلى قرار الجحيم، أم يؤمنون بالله، ويسعون إلى مرضاته، فيرتفعون عن هذا التراب، ويصعدون إلى الملأ الأعلى، ويصبحون من أهله؟.
وقوله تعالى: «قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» - هو قسم من الله سبحانه وتعالى بأن تمتلىء جهنم من إبليس، وممن شايعه واتبع سبيله من الناس.. وفى هذا وعيد شديد من الله، بأن لجهنم أهلها من بنى آدم، وهم كثير تمتلىء بهم على سعتها.. فليطلب كل إنسان السلامة لنفسه منها، والنجاة من أن يكون من أهلها، فإن لها أهلا- نعوذ بالله أن نكون منهم- وإنه لا نجاة إلا بالإيمان بالله،(12/1111)
والعمل الصالح.. فاللهم اجعلنا من المؤمنين بك، الساعين فى مرضاتك، الفائزين برضاك ورضوانك..
قوله تعالى:
«قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» .
بهذه الآيات تختم السورة، ويلتقى ختامها ببدئها.. فقد بدأت بالقسم بالقرآن الكريم، ذى الذكر، تعظيما له، وإلفاتا إلى ما فيه من هدى ورحمة.. وختمت بالتذكير بالنبيّ، وبرسالته، وبالكتاب الذي بين يديه..
فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إلا رسولا من عند الله يبلغ ما أرسل به، وإنه لا يسأل الناس على ما يدعوهم إليه أجرا، ولا يتكلف لدعوته ما يخرج به عن حدود التبليغ، فلا يقهر أحدا، ولا يختله أو يخدعه، حتى يستجيب له: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» .. أي ما هذا القرآن الذي بين يديه إلا ذكر للعالمين، والذكر مكانه العقول، وما يقع فيها من اقتناع بما تذكّر به.. «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» ..
وقوله تعالى: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» .. تهديد للمشركين، ووعيد لهم، بما يلقون من عذاب شديد، يوم يكشف لهم الغطاء عما حجبه العناد والضلال عنهم.. ويومئذ يرون أنهم كانوا فى عمى وضلال، وأن ما فاتهم لا يمكن تداركه أبدا.. «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا»(12/1112)
39- سورة الزّمر
نزولها: مكية.
عدد آياتها: خمس وسبعون.. آية عدد كلماتها: ألف ومائة وسبعون.. كلمة عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «ص» بما بدئت به، من تنويه بشأن القرآن الكريم، وما فيه من هدى ورحمة. وكانت السورة كلها معرضا لمواقع الهدى من الناس، على مختلف منازلهم، من أنبياء أخلصهم الله بخالصة النبوّة، وأنبياء جمع الله لهم بين النبوة والملك، ومؤمنين اقتبسوا من هدى النبوّة، وكافرين، ضلّوا عن سواء السبيل، فكفروا بالله..
وهنا تبدأ سورة «الزمر» بذكر القرآن الكريم، والمتنزّل العالي الكريم تنزل منه.. ثم بدعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بهذا الكتاب الذي نزل عليه، وبإخلاص العبودية لله، لا يشغله عن ذلك ما يسوق إليه المشركون من كيد وأذّى..(12/1113)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 7) [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)(12/1114)
التفسير:
قوله تعالى:
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .
هو جواب عن سؤال أو أسئلة كثيرة، كانت تدور فى رءوس المشركين وتجرى على ألسنتهم: من أين جاء محمد بهذا الذي يحدثنا به؟ ومن علّمه هذا؟
ومن أي الكتب أخذه؟ إلى غير ذلك مما كانوا يحدثون به أنفسهم، ويتحدث به بعضهم إلى بعض فى شأن القرآن.. وقد جاء فى آخر السورة السابقة «ص» ما يجيب- إجابة غير مباشرة- عن تلك الأسئلة، فقال تعالى على لسان نبيه الكريم: «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .. ثم جاء بعد هذا من آيات الله، ما يحدّث عن هذا الاختصام، الأمر الذي يقطع بأن النبىّ على صلة بالملأ الأعلى، حتى يكون له أن يأتى ببعض ما يقع هناك من أمور..
وهنا فى قوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» إجابة مباشرة عن تلك الأسئلة التي يسألها المشركون عن المصدر الذي جاء منه القرآن.. وإذ كان سؤالهم أو أسئلتهم، تنحصر فى هذا المحتوى: من أين هذا الكتاب؟ فكان الجواب: من الله العزيز الحكيم تنزيله..
وقد جاء النظم القرآنى هكذا: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» بتقديم الجهة التي نزل منها على الذات التي أنزلته- إشارة إلى أنه صادر من جهة عالية، وأنه ليس مما على هذه الأرض، وما فيها من جهات وذوات.. وبهذا ينعزل القرآن عن أن يكون من العالم الأرضى. إنه نور خالص، لمن نظر فيه، والسماء هى مصدر كل نور على هذه الأرض.. فإذا تقرر ذلك، كان البحث فى طبيعة هذا النور، وهل هو نور إلهى، أم من ذلك النور الذي تشعّه(12/1115)
الكواكب والنجوم؟ وإمعان النظر فى القرآن يكشف للناظر عن أنه نور إلهى، لا ينكسر ضوؤه، ولا تغرب شمسه أبدا.. وإذن فهو نور من الله.. «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .
قوله تعالى:
«إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ» أي قد نزل إليك أيها النبي هذا الكتاب من ربك شائبة بالحقّ.. الذي لا يعلق به باطل.. فهو يحمل إليك الحق خالصا من كل شائبة، فمن نظر فى آياته، وتدبر فى كلماته، عرف طريق الحق واضحا مشرقا.. وإذ كان ذلك هو ما عرفت من آيات الله وكلماته من حق، فاعبد الله على هذه المعرفة، عبادة خالصة، تملأ القلب، وتملك المشاعر، وتستولى على الوجدان.. فلا ترى غير الله الحق..
وإذ كان الله سبحانه، هو الحق، وما سواه- بالإضافة إليه- باطل، فكل ولاء لغيره، باطل، وكل تعبّد لسواه، ضلال.. فالعبودية الخالصة له وحده سبحانه وتعالى..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ» ..
أي وأما الذين لم يخلصوا عبوديتهم لله لم يجعلوا ولاءهم خالصا له. واتخذوا من دونه أولياء، قائلين: ما نعبدهم إلا لنتقرب بهم إلى الله، ونزلف بهم إلى مرضاته- هؤلاء سيحكم الله بينهم يوم القيامة، فيما هم فيه يختلفون من أمر الله،(12/1116)
وفى وتصورهم الباطل لذاته، وجعل معبوداتهم شفعاء لهم عند الله، لأنهم- كما يزعمون- أبناؤه، أو بناته، أو شركاء له فى الخلق والتصريف! وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ» حكم على مدّعيات هؤلاء المشركين، بأنها من ملفقات الأكاذيب، وأن الكفر هو صفة من يدين بهذا الإفك، ويقيم معتقده على هذه الأكاذيب، وأن من سلك هذا الطريق، ولم يراجع نفسه، ويصحح معتقده، فإن لله سيخلى بينه وبين الضلال الذي هو فيه، فلن يهتدى أبدا..
قوله تعالى:
«لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ، هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .
أي لو أراد الله سبحانه أن يتخذ له ولدا- كما يزعم هؤلاء الضالون- لاختاره هو سبحانه، ولخلقه على ما يشاء، لا أن يختاره له هؤلاء الضالون، كما يقول سبحانه عنهم: «وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» (100: الأنعام) .
وقوله تعالى: «سُبْحانَهُ.. هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» تنزيه لله عن أن يكون له ولد.. فهو سبحانه «الواحد» الذي لا شريك له.. والولد شريك للوالد، وهو سبحانه «القهار» أي القوى الذي لا يغلب.. فليس به إلى الولد حاجة، مما يبغيه الوالدون من الأولاد..
قوله تعالى:
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» .(12/1117)
ذلك هو بعض سلطان الله، وتلك هى بعض قدرته.. فالسموات والأرض صنعة يده.. وبعض خلقه.. وقد خلقهما سبحانه بالحق، الذي هو صفته.
وقوله تعالى «يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» .. يشير إلى أمور:
أولها: أن النهار والليل يكوّر كل منهما على الآخر، فى حركة دائبة..
حيث لا يكون نهار إلا كور عليه الليل، ولا يكون ليل إلا كور عليه النهار..
وثانيهما: أن التكوير يعنى الحجب والتغطية من الأعلى للأسفل، إذ أن أصله من تكوير العمامة على الرأس.. يقال كر العمامة، وكورها، أي لفها على رأسه، حتى صارت مثل الكرة.
وثالثها: أن هذه الصورة من التكوير، تشير إلى كروية الأرض، وإلى أن الليل والنهار يتحركان فوق كرة، أشبه بالعمامة التي تعلو الرأس.
ورابعها: أن لفظ «يكور» يشير إلى أن الأرض متحركة، وأن هذا التكوير الذي يجرى على الكرة، إنما يقع حالا بعد حال، ووقتا بعد وقت..
وخامسها: تقديم تكوير الليل على النهار، إشارة إلى اتجاه حركة الأرض، بعد لإشارة إلى شكلها الكروي وإلى حركتها- فإن هذه الحركة من الغرب إلى الشرق، حيث يكون النهار أولا، ثم يتلوه الليل فيتكور عليه، ثم يعقبه النهار، فيعلوه متكورا عليه كذلك.. وهكذا..
قوله تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» .
أي وأجرى الشمس والقمر، وسخرهما بقدرته، وأقامهما على نظام محكم(12/1118)
لا يخرجان عنه.. فلكلّ فلكه الذي يجرى فيه.. لا يتعداه..
وقوله تعالى: «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» .. إشارة إلى عزّة الله وقوته، وأنه القهّار الذي يخضع كل موجود لسلطانه.. ومن كان هذا شأنه فإن نسبة الولد إليه ضلال مبين، وسفه جهول.. لأن الولد إنما يسدّ نقصا، ويشبع رغبة، ويرضى عاطفة.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
والله سبحانه وتعالى مع عزّته وقوته، فهو غفار للسيئات، غفور للمذنبين، إذا هم تابوا إلى الله، واستغفروا لذنوبهم! «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (135 آل عمران) قوله تعالى:
«خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» هو كشف لوجه آخر من وجوه قدرة الله سبحانه.. تلك القدرة المتمكنة من كل شىء، المتصرفة فى كل شىء، المستغنية عن كل شىء..
ومن دلائل تلك القدرة خلق الناس جميعا من نفس واحدة، أي طبيعة واحدة، أو جرثومة واحدة، هى الجرثومة الأولى التي تخلّق منها الكائن الحىّ..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» . إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن الجعل غير الخلق. فالخلق إيجاد للمخلوق، والجعل، إظهار لما فى المخلوق من خصائص، وإبراز ما اشتمل عليه من صفات.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» ..
وهذا يعنى أن الجرثومة الأولى للحياة، كانت ذكرا وأنثى معا.. ثم حصل(12/1119)
التوالد بانقسام الكائن الحىّ على نفسه.. كلّ قسم يحوى جرثومة ذكرا وأنثى.. وهكذا تتوالد الخلايا بانقسامها على نفسها.
وثانيهما: أن انفصال الذكر عن الأنثى جاء فى مرحلة متأخرة، بمعنى أنه كان بين الخلق والجعل آمادا طويلة، وأزمانا ممتدة، وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى العطف بحرف «ثم» الذي يفيد الامتداد والتراخي فى الزمن.
قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» .
التعبير بالإنزال دون الخلق. إشارة إلى أنها نعم منزلة من عند الله.. وأن شأنها فى حياة الإنسان عظيم، أشبه بالغيث الذي ينزل من السماء..
والأنعام الثمانية، هى ما أشار إليها سبحانه وتعالى فى قوله: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا» (143- 144: الأنعام) .
فهى أربعة أصناف: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.. وكل صنف منها ذكر وأنثى، فهى ثمانية متزوجة، ذكر وأنثى. كلّ منها زوج للآخر..
وقوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» ..
أي أن هذا التوالد، هو خلق جديد لكل كائن يولد، وليس عملا آنيّا يتم بغير حساب وتقدير.. بل إنه ليس خلقا واحدا، وإنما هو خلق بعد خلق، وأطوار بعد أطوار، يلبسها الكائن إلى آخر مرحلة الخلق، حتى يستوى خلقه ويصبح على الصورة التي قدّر الله سبحانه إخراجه عليها.. وهذا الخلق يقع فى عالم خفىّ محجّب بحجب ثلاثة، تلفّه فى كيانها، واحدا بعد واحد.. هى البطن،(12/1120)
فالرّحم، فالمشية التي يغلّف فيها الجنين داخل الرحم!! ففى هذا الكون الضيق المظلم، تجرى عمليات الخلق والتكوين، والتصوير، بيد المبدع، الخلاق العليم! وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» .
«ذلكم» إشارة إلى من خلق هذا الخلق وأبدعه، وأخرجه على هذا النظام المحكم.. واللام للبعد، وهى إشارة إلى علو مقام المشار إليه، وهو الله سبحانه.. والكاف حرف خطاب للمخلوقين.. فهذا الخالق العظيم، هو الله، وهو رب كل مخلوق، خلقا ورزقا، وهو المتفرد بملكية الوجود، وهو- سبحانه- بهذه الصفات، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة..
«لا إله إلا هو» .. تتجه إليه وحده الوجوه، وتفوض إليه وحده الأمور..
فإلى أين يولّى المشركون وجوههم، إذا هم صرفوها عن الله؟ إنه لا وجه إلا الضلال والخسران! قوله تعالى:
«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
هو تعقيب على تلك الدعوة التي دعا بها الله سبحانه وتعالى عباده إليه بقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. بعد أن بيّن لهم- سبحانه- آيات بينات من دلائل قدرته، وآثار رحمته.. فمن استجاب لهذه الدعوة،(12/1121)
وآمن بالله إلها واحدا لا شريك له، فقد اهتدى إلى طريق الخير والفلاح، ومن كفر فإن الله غنىّ عن العالمين، لا ينفعه إيمان من آمن، ولا يضره كفر من كفر. «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» (12: لقمان) .
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) .
- «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» فلا تخفى على الله منكم خافية، فيجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته..
وهنا أمور:
فأولا: قوله تعالى: «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» :
ما معنى رضا الله هنا؟ وإذا كان سبحانه لا يرضى شيئا فكيف يقع ما لا يرضاه؟
المراد بالرضا هنا، القبول، ويكون معنى أن الله لا يرضى لعباده الكفر، أنه- سبحانه- لا يقبله منهم، لأنه تعالى، طيب، لا يقبل إلا طيبا.. والكفر نجس، وخبث..
ووجه آخر فى هذه الآية: وهو أن المراد بالعباد هنا، هم المؤمنون، ولهذا أضافهم لله سبحانه وتعالى إليه فى قوله تعالى: «لعباده» ، ويكون معنى الرضا على حقيقته، وهو أن الله سبحانه لا يرضى لعباده الذين أراد لهم الإيمان أن يكفروا، فهو سبحانه يهديهم إلى الإيمان، وييسر لهم السبيل إليه- وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) .(12/1122)
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» دعوة للمؤمنين- وكلهم عباد الله- أن يكونوا بالمكان الذي يرضاه الله لهم، ويقبله منهم، وأن ينأوا عما لا يرضاه الله لهم، فإنهم عباده! وثانيا: قوله تعالى: «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» .
ما المراد بالشكر هنا؟ وهل هو الإيمان المقابل للكفر؟ أم هو أمر آخر وراء الإيمان؟
الشكر هنا- والله أعلم- هو أمر مترتب على الإيمان.. وهو مطلوب من المؤمنين الذين هداهم الله إلى الإيمان، ويسر لهم سبله.. فكانوا فى المؤمنين، ويجب بعد هذا أن يكونوا من الشاكرين، أن هداهم الله إلى الإيمان..
وثالثا: ماذا عن الذين كفروا؟ أرضى الله لهم الكفر، وذلك بمفهوم المخالفة لقوله تعالى: «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» - على أن المراد بعباده هم المؤمنون خاصة؟
الجواب- والله أعلم- أن كفر الكافرين وإن كان إرادة لله سبحانه فيهم، ومشيئة له غالبة عليهم- فإنه مطلوب منهم أن يعملوا إرادتهم، ويحركوا مشيئتهم إلى الإيمان، لأنهم لا يدرون ما إرادة الله فيهم ولا مشيئته بهم.. وتلك هى الحجة القائمة عليهم.
أما أن مشيئة الله هى النافذة، وإرادته هى الغالبة، فهذا أمر لم يمنع العقلاء من أن يعملوا فى كل ميدان من ميادين العمل.. ثم هم صائرون حتما إلى مشيئة الله وقدره «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) .
وهذا هو موضوع قد عرضنا له أكثر من موضع من هذا التفسير، وأفردناه ببحث خاص، تحت عنوان «القضاء والقدر «1» » .
__________
(1) الكتاب الثامن ص 672 وما بعدها.(12/1123)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
الآيات: (8- 18) [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 18]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ(12/1124)
ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» .
خوله نعمة: أي ساق إليه نعمة، وألبسه إياها.. وأصل اللفظ من الخال الذي يزين المرأة.. ومن حق نعم الله التي تلبس عباده أن تكون زينة كمال وجمال لهم..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، قد حثّت عباد الله المؤمنين، على أن يطلبوا رضا الله بالشكر له، على ما أنعم عليهم من نعم، أجلّها الإيمان الذي هداهم إليه..
وفى المؤمنين، من لا يشكر الله، ولا يؤدى ما لنعم الله عليه من واجب الشكر للمنعم..
وفى المؤمنين، من لا يذكر الله وهو فى حال من النعمة والعافية، ولكن إذا مسّه ضر ضرع إلى ربه، ورجع إليه، ودعاه لكشف الضر عنه.. فإذا استجاب الله سبحانه له، وكشف ما به من ضر، نسى هذا الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل، ونسى ربه، وإحسانه إليه.
وهذا الإيمان، على صورته تلك- هو ضرب من النفاق، وصورة من صور المكر بالله.. والله سبحانه وتعالى قد توعد الذين يمكرون بآياته، وفى هذا يقول سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11: الحج) .(12/1125)
وقوله تعالى: «قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا.. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» - تهديد ووعيد بالعذاب الأليم فى الآخرة، لهذا الذي يعرف الله فى الشدة، وينكره فى الرخاء.. فهو فى الشدة يعرف ربّا يطرق بابه، وهو فى الرخاء لا يعرف وجه ربه.. وفى الأثر: «من عرف الله فى الرخاء عرفه الله فى الشدة» ..
وحسن أن يعرف الإنسان ربه فى الشدة، ويفزع إليه، ويطرق باب فضله وإحسانه، ويدعوه لكشف الضر عنه.. فذلك من إيمان المؤمن بربه وثقته فيه، وطمعه فى رحمته..
وأحسن الحسن أن يعرف الإنسان ربه فى الرخاء، ويسبح بحمده، ويشكر له، ويذكر نعمه وإحسانه إليه.. فذلك إقرار من المؤمن بسلطان ربه، وبقيومته على هذا الملك، وعلى كل ما يجرى فيه..
وذلك هو الإيمان، وتلك هى حال المؤمن حقا، إن أصابه خير حمد وشكر، وإن أصابه ضرّ رضى وصبر، وفى الأنبياء والمصطفين من عباد الله الأسوة والقدوة..
والتمتع بالكفر، هو الحياة معه على ذلك الوجه الذي يزين فيه الكفر لأهله، كل منكر، فلا يتقيد صاحبه بأى قيد، ولا يرتبط بأى التزام أدبى، أو خلقى، أو إنسانى، قبل الله أو قبل الناس..
فليتمتع الكافر بهذه الحياة البهيمية التي يدعوه إليها كفره.. إنه من أصحاب النار.. وإنه لا بأس أن ينال من يقدّم للقتل ما تشتهى نفسه؟؟
قوله تعالى:
«أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا(12/1126)
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ»
..
أي أهذا الذي يمكر بالله، فإذا أصابه ضرّ لجأ إليه، وإذا كشف الضرّ عنه نسى ربه، ومرّ كأن لم يدعه إلى ضرّ مسّه- أهذا، أم ذلك الذي هو على ذكر دائم لربه فى السراء والضراء جميعا؟ ..
أهذا الذي لا يذكر ربه إلا عند الشدّة، أم هذا القانت فى محراب صلاته بين يدى ربه، القائم فى ولاء وخشوع، يقطع الليل ساجدا، وقائما، وهو بين خوف من عذاب الله، وطمع فى رحمته.. فإذا ذكر عذاب الله طلب السلامة من هذا العذاب بالاستغفار، وإذا ذكر رحمة الله، أنس بالرجاء فى مغفرته ورضوانه فلهج بالحمد والشكر؟ .. أيستوى هذا الحامد الشاكر فى السّرّاء والضراء، وهذا الجاحد الغافل؟
وفى توقيت القنوت بالليل، إشارة إلى المعاناة التي يجدها المؤمن فى طاعة ربه، حيث يهجر النوم بالليل ويقهر سلطانه.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» (6: المزمل) ويقول سبحانه فى الثناء على عبّاد الليل، وما لهم من جزاء عظيم عنده: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (17- 18: الذاريات) .
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
كان مقتضى السياق أن تجىء المفاضلة بين المؤمن والكافر، أو بين من يذكر الله ومن لا يذكره، فيقال مثلا: هل يستوى المؤمنون(12/1127)
والكافرون؟ أو هل يستوى من يذكر الله ويشكر له، ومن يكفر بالله ويمكر به؟.
ولكن جاءت المفاضلة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، للإشارة إلى أن العلم، هو الذي تقوم عليه قيم الناس، وتثقل أو تخفّ به موازينهم، فى أي أمر من أمور الدنيا، أو الدين..
ففى الإيمان بالله، تكون التفرقة بين المؤمن وغير المؤمن قائمة أساسا على العلم وعدم العلم، فمن آتاه الله علما، انكشف له بالعلم الطريق إلى الله، فآمن واتّقى.. وإنه بقدر علمه يكون مبلغ إيمانه وتقواه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28: فاطر) .. ومن جهل، فمن أين تأتيه المعرفة بربه؟ ومن أين يقع فى قلبه الخشوع لجلاله والولاء لسلطانه، والخشية من بأسه وعقابه، وهو لا يعرف لله جلالا، ولا سلطانا ولا بأسا؟.
وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم النظري التجريدى، وإن كان لهذا العلم خطره وأثره، فى توسيع المدارك، وشحذ الملكات، وإنما المراد هو العلم الذي يجلو عمى البصائر، ويرفع الغشاوة عن القلوب.. فهذا العلم هو ثمرة كل علم نافع، وحصيلة كل معرفة طيبة..
وقوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» - هو تعقيب على هذا الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» الذي يفرق بين من يعلم ومن لا يعلم.. فمن علم، كان ذا لبّ وفهم، وكان على بصيرة من أمره، فيتذكر ويتدبر، ويهتدى إلى الحقّ، وإلى سواء السبيل.. ومن جهل، كان فى ضلال وعمى، فلا(12/1128)
يقف عند عبرة، ولا يلتفت إلى موعظة، بل يمضى فى طريق الضلالة إلى غايته..
والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى.. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» (19: الرعد) .
قوله تعالى:
«قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ.. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
هو نداء من رب كريم إلى عباده الذين آمنوا به، واستجابوا لرسوله، بعد أن سمعوا آيات ربّهم، وعرفوا مواقع الحق منها.. وفى هذا النداء الكريم يستدعيهم ربهم إليه بالتقوى التي تقربهم منه، وتدنبهم من رحمته وإحسانه..
فالإيمان هو أول خطوة إلى الله.. والوقوف عند هذه الخطوة تقصير بالإيمان وتعطيل لمعطياته التي كان جديرا بالمؤمن أن يحصل عليها بإيمانه.. والعمل بهذا الإيمان، والغرس فى مغارسه هو الذي يحقق للمؤمن الوصول إلى الله، وإلى مواقع رحمته ورضوانه.. وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (9: يونس) .. فالإيمان مصباح يضىء للمؤمن الطريق إلى ربه.. والعمل الصالح هو الزيت الذي يمدّ هذا المصباح بالوقود الذي تظلّ به شعلته متقدّة مضيئة أبدا..(12/1129)
وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» - إشارة إلى أن الأعمال، الحسنة، تعطى ثمرة حسنة معجلة فى هذه الدنيا إلى ما تعطيه من حسنات كثيرة فى الآخرة.. فالعمل الحسن هو حسن فى ذاته، لا يجىء منه إلا ما هو حسن.. وهذا من شأنه أن يضمن للمحسنين حياة طيبة معه فى الدنيا- مع صرف النظر- عما يكون له من آثار طيبة فيما وراء هذه الدنيا.. وبهذا.
الحساب يرى المحسنون أنهم غير مغبونين فى تعاملهم بالإحسان فى دنياهم، وأنهم- وبصرف النظر عن الحياة الأخرى، وبمعزل عنها- ينالون بإحسانهم حياة طيبة، ويجدونها فى راحة الضمير، وصفاء النفس، وإن لم يجدوها فيما يحصّلون من متاع مادى، وشهوات عاجلة لا تلبث أن تخمد، فلا يجد المرء لها أثرا..
وفى إفراد كلمة «حسنة» وتنكيرها، إشارة إلى أن ما يجزى به المحسنون بإحسانهم فى الدنيا، هو قليل قليل بالإضافة إلى ما يجزون به فى الآخرة..
وقوله تعالى: «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» - إشارة إلى أن المؤمن قد لا يجد فى مكان ما سبيلا إلى العمل، وإلى الغرس فى مغارس الإحسان، حيث تكون الأرض التي يعيش فيها أرضا خبيثة، لا تمسك ماء، ولا تنبث نباتا.. وهنا ينبغى على المؤمن أن يتحول عن هذه الأرض، إلى غيرها، مما هو طيب صالح.
فأرض الله واسعة، وكما أن فيها الخبيث النكد، ففيها الطيب الكريم..
وفى هذا، دعوة للمؤمنين الذين كانوا يعيشون فى مكة قبل الهجرة، محاصرين من المشركين، لا يستطيعون أن يعطوا إيمانهم حقه، ولا أن يفجروا ينابيع الخير منه- فى هذا دعوة لهم أن يتحولوا عن هذا الموقع من الأرض إلى أرض أخرى، حيث تطيب فيها مغارسهم، وحيث يرفعون مصابيح الهدى التي بين أيديهم، فتملأ الدنيا من حولهم هدى ونورا.. وقد كان، فهاجر المؤمنون(12/1130)
إلى المدينة، وفى هذا المكان الطيب من الأرض سطح نور الإسلام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا..
وقوله تعالى: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» - دعوة للمؤمنين إلى الصبر، الذي هو ملاك كل أمر يراد منه الخير الكثير الدائم الذي لا ينقطع..
إن كل ثمرة إنما تكون قيمتها بقدر ما يبذل فيها من جهد، وما يحتمل فى سبيلها من عناء ومعاناة.. ومن طلب ثمرة بلا عمل، فقد طلب ريّا من سراب! وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ حِسابٍ» - إشارة إلى أن جزاء الصبر جزاء عظيم، وأن ميزان العمل الذي يجىء فى أعقاب الصبر يرجح جميع الأعمال كلها، حيث ينال الصابر جزاء صبره، ما يشاء من فضل وإحسان، بلا حساب! قوله تعالى:
«قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» هو بيان لحال النبي فى هذه الدعوة التي حملها إلى الناس من ربه، وأنه مأمور من الله، بما يأمر الله به عباده جميعا.. فهو والناس فى هذا الأمر السماوي على سواء، فلا استثناء لأحد فى هذا القانون، كما يقع ذلك فى القوانين الوضعية، التي ترفع السلطان عن الخضوع للقانون العام الذي تخضع له الرعية.. بل وأكثر من هذا، فإن صاحب الدعوة- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذه الدعوة من ربه فى صورة أمر وإلزام، على حين يتلقاها الناس مجرد دعوة لا إلزام فيها، ولا إكراه معها.. «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» .
وفى قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- هو أول المسلمين: خضوعا لسلطان(12/1131)
الله، وامتثالا لأمره، يسلم إليه وجوده، وتخلص له ولاءه.. وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- القدوة للمسلمين فى طاعة ربه، وفى اتقاء حرماته، وأنه- وهو سلطان المؤمنين- أكثر المؤمنين عبادة لله، واجتهادا فى عبادته، واتقاء لحرماته، وخوفا من عقابه.. إنه عبد من عباد الله. وأفضل عباد الله، وأكرمهم عنده، وأقربهم إليه، من كان أعرفهم به، وأكثرهم طاعة وولاء له.. فمن أراد من المؤمنين أن يكون أقرب إلى الله، فليكن فى طاعة لله، فإنه كلما ازداد طاعة ازداد قربا..
قوله تعالى:
«قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» وشأن عباد الله فى طاعته، شأنهم فى معصيته.. فكما أنه من ازداد طاعة لله، ازداد قربا منه، كذلك من أقام أمره مع الله على معصيته، والخروج عن أمره، والاجتراء على محارمه- كلما ازداد معصية لله، ازداد بعدا عنه، وتعرضا لسخطه وعذابه.. حتى الأنبياء، وحتى سيد الأنبياء، رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إنه لو عصى الله- وحاشاه- فهو محاسب بهذا الحساب..
وهكذا شريعة الله.. وهكذا عدل الله: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) قوله تعالى:
«قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي.. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» هذا هو حال النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مع ربه.. إنه على العبادة الخالصة لله، لا يلتفت إلى غيره. ولا يدين لسواه. أما أنتم أيها(12/1132)
المشركون فلكم ما تشاءون من معبودات تعبدونها من دون الله.. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» (6: الكافرون) فكلّ محاسب بما يدين به، وكل مجزىّ بما يعمل: «لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (25: سبأ) قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» إن العبرة فى الريح أو الخسارة، هى فى الحساب الختامى، الذي يسوّى فيه حساب الإنسان.. أما هذا الحساب اليومي فى هذه الدنيا، فإنه لا يكشف عن المركز الصحيح للإنسان..
هكذا يعرف الناس شئونهم فى هذه الدنيا. إنهم يقيمون موازين حياتهم لا على لحظه عابرة، ولا على يوم يعيشون فيه، وإنما ينظرون إلى الغد، وما بعد الغد.. وحياتهم الدنيوية، هذه- لو عقلوا- لحظة من لحظات حياتهم الممتدة إلى ما وراء هذه الحياة، وأنها ليست إلا يوما، أو بعض يوم.. وإنه لضلال مبين أن يقيم المرء حسابه كله على ميزان يوم أو بعض يوم، حتى إذا طلع عليه صح يوم جديد، ولم يكن قد عمل له حسابا، وجد نفسه ولا شىء معه. وهنا يكون الندم، ويكون الخسران..
والخاسرون حقا، هم أولئك الذين أقاموا ميزانهم على هذه الحياة الدنيا، ولم يجعلوا للآخرة حسابا.. إنهم يجيئون إلى الحياة الآخرة، وقد صفرت أيديهم من كل خير يجدونه فى هذا اليوم، بل سيجدون ديونا كثيرة هم مطالبون بها، ولا يقدرون على أداء شىء منها، إلا الحبس فى جهنم، وفاء لهذه الديون! والسؤال هنا: إذا خسر المجرمون أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك يوم(12/1133)
القيامة، فكيف تكون خسارتهم لأهليهم فى هذا اليوم؟
والجواب- والله أعلم- من وجهين:
الوجه الأول: أن أهل الضلال لا يلتقى بعضهم ببعض يوم القيامة إلا على عداوة وخصام، وإلا على قطيعة ونفور.. كما يقول الله تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .
(25: العنكبوت) .
فأهل الضلال بعضهم فتنة لبعض، ومن هنا يقع بينهم يوم القيامة هذا الخصام، وتلك العداوة، ومن هنا يلتفت الضالّ، فلا يجد حوله فى جهنم إلا وجوها كالحة تلعنه، وترمى إليه بالعداوة، ممن كانوا هم أقرب الناس إليه فى الدنيا من أهل وصديق.
والوجه الثاني: أن خسارة الضال لأهله يوم القيامة، هو تفرقهم عنه، فلا يلتقى بهم إذا كانوا فى الجنة، أما إذا كانوا فى جهنم فإن لقاءه بهم حسرة وبكاء وعويل.. على خلاف لقاء المؤمنين، حيث يجمعهم الله بأهليهم، وبإخوانهم من أهل الجنة، فيتضاعف لذلك سرورهم، نعيمهم، كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (21: الطور) وكما يقول سبحانه عن أهل الإيمان: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» (70: الزخرف) .
قوله تعالى:
«لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ» هذا هو الذي يلقاه أهل الضلال فى الآخرة تغشاهم النار، وتشتمل عليهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم.. كما يقول سبحانه:(12/1134)
«لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» (41 الأعراف) والظلل جمع ظلة، وهى ما يستظل به وفى التعبير عن النار بالظلل، مع أن الظلل يتقى بها وهج الشمس- إشارة إلى أن النار المسلطة على أهل النّار لا تتّقى هناك إلا بنار من النار..
إذا استصرخ أهلها، كان الصريخ لهم بعضا منها، وقطعا من شواظها..
وفى هذا بلاء إلى بلاء، وعذاب إلى عذاب.. حيث تتضاعف البلوى بهذا الطارق الجديد، الذي كان موضع أمل ورجاء.. وفى هذا يقول المتنبئ:
إذا استشفيت من دء بداء ... فأقتل ما أعلّك ما شفاكا
والظلل التي من تحت أهل النار هى نار، يمشون على شواظها، فلا ينتقلون إلا من نار إلى نار، فحيثما وضعوا أرجلهم كانت النار تحتها، فلا ظلّ يمشون عليه إلا هذه النار الجاحمة التي يضعون أقدامهم عليها.
وقوله تعالى: «ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ» .. أي هذا العوض لأهوال جهنّم- أعاذنا الله منها- وما يلقى فيها أهلها من هذا العذاب الأليم- هو تحذير من الله لعباده، وتخويف لهم من هذا المورد الوبيل، وهم فى هذه الدنيا، ليأخذوا لذلك حذرهم، وليعملوا على توقّيه، بالإيمان بالله واتقاء محارمه، ولهذا جاء قوله تعالى: «يا عِبادِ فَاتَّقُونِ» تعقيبا على هذا التحذير، وإلفاتا إلى طريق السلامة والنجاة من هذا البلاء الراصد، وذلك بتقوى الله. فالتقوى هى مركب النجاة من هذا الطوفان الجهنّمى، الذي يحتوى بأمواجه المتلاطمة كلّ من لم يكن فى هذا المركب! وفى قوله تعالى: «يا عِبادِ» نداء من رب كريم إلى عباده، ليأخذوا طريقهم إليه سبحانه وتعالى، حيث الأمن والسلامة والنعيم والرضوان.(12/1135)
والفاء فى قوله تعالى: «فَاتَّقُونِ» هى فاء الفصيح، والتفريع، وهى تفصح عن كلام محذوف.. أي قد بينت لكم ما ينتظر الذين لا يؤمنون بي، ولا يتقون محارمى، من بلاء شديد وعذاب أليم، فاتقون، أنتم حتى لا تقعوا تحت طائلة نقمتى وعذابى..
قوله تعالى «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ.. لَهُمُ الْبُشْرى.. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» هو تعقيب أيضا على هذا العرض الذي عرضت فيه جهنم وأهلها، وما يلقون فيها..
وفى هذا التعقيب بيان شارح للطريق الذي يعدل بالناس عن الطريق الجهنمى، إلى طريق النجاة والفوز بجنات النعيم..
فمن اجتنب الشرك بالله، وأخلى يديه، وقلبه، من هذه المعبودات المخلوقة لله، أو المصنوعة بأيدى الناس- من اجتنب هذه المعبودات ابتداء، أو تاب إلى الله من بعد شركه، وأخلص لله عبادته، فله البشرى بالنجاة والفوز برضوان الله..
وقوله تعالى: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» أي أن هذه البشرى بالنجاة والفلاح إنما ينالها عباد الله الذين يستضيئون بنور الله ويتدبرون ما يقع لأسماعهم من كلمات، فيميزون الخبيث من الطيب، والضلال من الهدى، ثم يؤدّيهم هذا إلى أن يستجيبوا لكل ما هو طيب، وأن يتبعوا كل ما هو هدى ورشاد.. فإنهم إن فعلوا ذلك كانوا من عباد الله المهتدين، الذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وأخذوا طريقهم المستقيم، السالك بهم إلى جنات(12/1136)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
النعيم.. ثم كانوا مع هذا- أو قبل هذا- أصحاب عقول، يعيشون بها فى صورة بشرية كريمة..
والطاغوت: هو كل ضلال.. وأصله من الطغيان، الذي يعدل بصاحبه عن طريق الحق والخير، إلى متاهات الضلال والهلاك..
وفى التعبير عن الضلال بكلمة «الطاغوت» - تشنيع على الضلال، وعرض له فى تلك الصورة، التي تتمثل فى هذه الأحرف المتنافرة، التي تشكلت منها هذه الكلمة، كما يتشكل الضلال من وجوه الآثام والشرور..
وقوله تعالى: «أَنْ يَعْبُدُوها» مصدر مؤوّل، وقع بدلا من الطاغوت فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ» .. أي اجتنبوا عبادة الطاغوت..
وفى تأنيث الطاغوت، إثارة لمشاعر البغضاء والكراهية، التي عند الجاهليين للأنثى، ليلتقوا بهذه المشاعر مع معبوداتهم، ولينظروا إليها فى صورة أنثى يعبدونها، ويخرون للأدقان سجّدا بين يديها..
وهكذا من المتناقضات التي تعيش فى عقولهم الفاسدة، إذ كيف يستقيم لذى عقل أن يحقر الأنثى، ويكره وجهها فى صورة ابنة هى فلذة من كبده، ثم إذا هو عبد ذليل بين يدى أنثى سوّها بيده من، حجر، أو خشب؟.
الآيات: (19- 26) [سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 26]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)(12/1137)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» ؟.
هو تهديد ووعيد لأولئك الذين استولى الضلال عليهم، فحجب عقولهم عن رؤية النور الذي يشعّ من حولهم، وأصمّوا آذانهم عن داعى الهدى الذي يدعوهم إليه، ليخرجهم مما هم فيه من ضلال..
والخطاب لرسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه لا يملك(12/1138)
أن يردّ قضاء الله، فى هؤلاء المشركين، الذين حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم من أصحاب النار، فليدعهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لمصيرهم هذا، بعد أن أعذر إليهم، وبلّغهم رسالة ربه..
وقوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» استفهام يراد به النفي، وهو جواب للشرط قبله.. «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ» أي أفمن حق عليه كلمة العذاب، ينتفع بالهدى الذي بين يديك أيها النبىّ، ويتحول من الشرك إلى الإيمان؟ ذلك محال.. «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» ؟ إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب..
قوله تعالى:
«لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ» هو إشارة إلى أن قضاء الله فى خلقه، ليس حجة لأهل الضلال على ما هم فيه من ضلال، وأن عليهم أن يعملوا بمعزل عما لله من مشيئة فيهم، لأنهم لا يدرون ما تلك المشيئة.
فهؤلاء المؤمنون من عباد الله، المتقون لحرماته، قد أخذوا بالأسباب التي من شأنها أن تدنيهم من الله، وتبلغ بهم منازل رضوانه، دون أن يعلموا مشيئة الله فيهم. ولكنهم مع هذا قد أخذوا بالأسباب.. إنهم لم يستسلموا للقدر إلا وهم على طريق العمل.. وهذا هو ما يقضى به العقل.. إن العاقل لا يلقى بنفسه بين مخالب حيوان مفترس، أو يضع يده فى فم حيّة..
بل إنه ليفر من وجه هذا الخطر، وإن كان هذا لا يمنع القدر المقدور له! ..(12/1139)
إن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن.. فمن كان على غير الإيمان، وطلب الجنة فقد غبن نفسه، وأضلّها وغرّر بها.. فليطلب المرء رضوان الله من بابه، وهو الإيمان.. ثم يدع ما وراء ذلك، فإن كان ممن أراد الله لهم الهدى والرشاد، أذن له بالدخول، ووفّقه للعمل الصالح، وإن كان ممن أراد الله له الضلال والشقاء، حجبه عنه، وحلّى بينه وبين ما هو فيه من ضلال! ..
إن المرء لا يحاسب على إرادة الله فيه، وإنما يحاسب على إرادته هو لنفسه، على ما تجرى عليه أموره فى الدنيا.. فهو إن سرق أخذ بجريرة السرقة، وإن قتل أخذ بمن قتل.. وهكذا.. إن العقل يقضى بأن يسأل الإنسان نفسه إزاء كل أمر يعرض له: ماذا أريد، لا ماذا يريد الله بي، أولى؟ لأنه يعرف يقينا ماذا يريد هو، ولا يعرف قطعا ماذا يريد الله به، أوله..
وفى وصف الغرف بأنها مبنية- إشارة إلى أنها ثابتة، تطيب فيها الحياة بالسكن والاستقرار. وأنها ليست خياما مضروبة، لا يستقر المقيم فيها إلا ريثما يتحول بها إلى أماكن أخرى..
ونعود مرة، بعد مرة، لنقرر أن هذه الصور التي لنعيم الجنة، مما هو من حياة البادية ومطالب النفس فيها- هذه الصور، هى مما يشتهيه أهل الجنة الذين حرموا منه فى دنياهم، وقصرت أيديهم عن تناوله، فهى بالنسبة للمحرومين منها نعيم عظيم، لا يكمل نعيمهم إلا بتحقيقه، وإن كان لا يعدّ شيئا إلى ما فى الجنة من ألوان النعيم.(12/1140)
وقوله تعالى: «وَعْدَ اللَّهِ» منصوب على الإغراء، أي انتظروا وعد الله، أو صدّقوا وعد الله.
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» ..
هو عرض لقدرة الله، وتذكير بآلائه، ونعمه على عباده..
فهذا الماء، ينزل من السماء بقدرة القادر، ثم يأخذ مسالكه فى ظاهر الأرض، وباطنها، فيكون على ظهر الأرض جداول وأنهارا، ويكون فى باطنها شرايين، تتجمع، ثم تتفجر منها العيون، ومن ماء الأنهار والعيون، يخرج الزرع مختلف الألوان، والثمار.. وهذا الزرع يأخذ دورة فى الحياة كدورة الكائن الحي، ينتقل من طور الطفولة إلى الشباب، فالكهولة، فالشيخوخة، فالموت..
وهيجان النبات: فورانه، وبلوغ أشدّه.. أشبه بفوران الشباب وهيجانه..
وفى العطف بالفاء فى قوله تعالى: «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» . إشارة إلى قصر الزمن بين شباب الزرع وشيخوخته..
وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً» - إشارة إلى الزمن بين اصفرار النبات، وجفاف ماء الحياة منه، وهو زمن أطول بالنسبة إلى الزمن بين هيجانه واصفراره..(12/1141)
والحطام: القطع المحطمة من كلّ شىء قابل للكسر.. مثل حطام الآنية، أو قطع الخشب ونحوها، وهذا ما يكون من النبات بعد أن يجفّ وييبس.
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» .. إشارة إلى أن هذه المشاهد التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة الله، لا يراها، ولا يذكر ما فيها من دلالات دالة على تلك القدرة، إلّا أصحاب العقول السليمة، التي لم يغطّ عليها الجهل والضلال..
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
جواب الشرط (من) محذوف دل عليه المقام، وتقديره: أيستوى من شرح الله صدره للإسلام، فأشرقت نفسه بنور الحق، واستبان له الطريق إلى الله، ومن ختم الله على قلبه، فلم يقبل ما ساق الله إليه من نور، فضلّ سواء السبيل؟ وهذا مثل قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (14: محمد) .
قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الضالين، الذين إذا ذكرّوا بآيات ربّهم اشمأزّوا ونفروا..
وهذا هو بعض السر فى تعدية اسم الفاعل «قاسية» بحرف الجرّ (من) وذلك لتضمنه معنى (نافرة) ، أي فويل للنافرة قلوبهم من ذكر الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» :
(45: الزمر) ..(12/1142)
قوله تعالى:
«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .
هو إلفات إلى نعمة جليلة من نعم الله، إلى جانب ما ينزل سبحانه من نعم.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج منها حبّا ونباتا، تغتذى منه الأجسام، وإنه يغير هذا الماء، وبما يخرج من الأرض من ثمرات، لا يكون للإنسان ولا لكائن حىّ حياة..
ثم هو سبحانه بعد أن كفل للإنسان حياته، وللجسم حاجته- أنزل له من السماء ما يحيا به الجانب الروحىّ منه.. فالإنسان ليس جسدا وحسب، مثل سائر الأحياء، وإنما هو جسد وروح، وهو بهذا الجسد وحده حيوان، ولا تتحقق إنسانيته إلا بالجسد والروح معا..
وقوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» .. هو بيان للغذاء الروحي الذي أنزله الله، وهو القرآن الكريم.. إنه حديث الله إلى عباده، وكلماته إليهم.. فأى حديث أحسن من حديث الله؟ وأي كلام أكرم وأطيب من كلامه؟.
وقوله تعالى: «كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ» .. هو بدل من قوله تعالى:
«أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» ..
وهو وصف لأحسن الحديث، وبيان له.. فأحسن الحديث، هو هذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهو كتاب متشابه فى جلال قدره، وعلوّ منزلته، وسموّ معانيه.. إنه الحق فى آياته وكلماته.. فهو على درجة واحدة(12/1143)
فى كماله وجلاله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» : (82: النساء) .
والمثاني: جمع مثنى، وذلك بما فيه من بيان للأمور وأضداد.
كالإيمان والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والحسنات والسيئات، والجنة والنار.. والقرآن الكريم فى الحالين، هو على مستواه العالي من الكمال والجلال.. فالحديث عن الكفر مثلا، معجز إعجاز الحديث عن الإيمان، لأن هذا وذك من كلام الله..
وقوله تعالى: «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» .
الاقشعرار، والقشعريرة، حال تعترى الجسد من أثر رهبة أو خوف، فيموج الجلد بموجات أشبه بمسّة الكهرباء.
واقشعرار جلود الذين يخشون ربّهم من هذا الحديث المنزل من عند الله، هو لما يقع فى قلوبهم من رهبة وجلال لما يسمعون من كلام الله، الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (21: الحشر) . فإذا نزل هذا القرآن على القلوب المؤمنة اهتزت لجلاله، وزلزلت أقطارها لرهبته.. أما غير المؤمنين، الذين لا يعرفون الله ولا يقدرونه قدره، فلا تلمس قلوبهم نفحة من آيات الله، ولا تصوبها قطرة من سماء كلماته..
وقوله تعالى: «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» إشارة إلى حال أخرى من أحوال المؤمنين الذين يخشون ربّهم فى لقائهم مع آيات الله..
إنهم فى أول لقائهم مع آيات الله، وفى مفتتح كلّ اسّماع إليها، تغشاهم حال من الخوف والرهبة، فتقشعرّ لذلك جلودهم.. ثم إذا هم أطالوا النظر فى آيات(12/1144)
الله، وامتدّ جلوسهم فى حضرتها، أخذ هذا الخوف وتلك الراهبة يزايلانهم شيئا، شيئا، حيث تعلوهم السكينة وتظللهم الطمأنينة ويغشاهم الأنس، فتسكن قلوبهم الواجفة، وتهدأ أوصالهم الراجفة، وإذا جلودهم التي علتها أمواج القشعريرة، وشدّتها رعدة الخوف، قد استرخت ولانت! وفى تعدية الفعل «تلين» بحرف الجرّ إلى- إشارة إلى تضمين الفعل معنى الميل، بمعنى أن قلوبهم تميل وتهفوا إلى مواصلة الحياة مع كتاب الله..
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ» الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه هدى الله، الذي أنزله على رسوله، ليكون هدى للعالمين..
وقوله تعالى: «يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ» .. أي أن هذا الهدى لا يهتدى به إلّا من وفّقه الله، وشرح صدره للإيمان..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .. أي أمّا من أضلّه الله وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة- فلن يهتدى أبدا، ولن تجدى معه الحجج التي تساق إليه.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) قوله تعالى:
«أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» .
أي أفمن يلقى فى جهنم فيتقيها بوجهه، كمن عافاه الله من هذا البلاء، وقيل له ادخل؟ الجنة كلّا.. «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ.. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (20: الحشر) .
وقوله تعالى: «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» معطوف على(12/1145)
محذوف، هو بيان لحال المؤمنين الذين اتقوا سوء العذاب بإيمانهم، فقيل لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» .
وفى اتقاء العذاب ودفعه بالوجه، إشارة إلى شدّة هذا العذاب، حتى أن الوجه الذي تقوم جوارح الإنسان على حراسته ودفع الأذى عنه، يصبح هو لذبّة التي يذبّ بها هذا العذاب.
قوله تعالى:
«كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» .
هو مواجهة للمشركين بما ينتظرهم من عذاب مباغت، يطلع عليهم من حيث لا يشعرون، كما وقع ذلك للذين كذبوا رسل الله من قبلهم.. فتلك هى عاقبة المكذبين، ولن يفلت هؤلاء المشركون من هذه العاقبة..
قوله تعالى:
«فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
هو بيان للعذاب الذي حلّ بالمكذبين.. إنه عذاب فى الدنيا، بما أصابهم فى أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وعذاب فى الآخرة، حيث تكون النار مأواهم.. وهذا العذاب الأخروى أكبر من كل عذاب يراه الناس فى هذه الدنيا.. ولكن المكذبين فى غفلة من هذا، فهم لا يعلمون سوء هذا المصير الذي ينتظرهم.(12/1146)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
الآيات: (27- 31) [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .
المراد بالناس هنا، هم المشركون، الذين ووجهوا بالرسالة الإسلامية..
ثم هو خطاب عام للناس جميعا إلى آخر الدهر..
وقوله تعالى: «مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» أي من كل مثل فيه عبرة وعظة..
قوله تعالى:
«قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» .
قرآنا: منصوب على المدح، وعربيا صفة لقرآن، وغير ذى عوج صفة ثانية له.. أي أن هذا القرآن الذي ضرب الله سبحانه فيه الأمثال للناس، هو قرآن عربّى مبين، واضح المعنى، بيّن الدّلالة، ليس من سجع الكهان، ولا من رطانة الرهبان..
وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» هو تعليل لنزول القرآن بلسان عربّى مبين، فبهذا اللسان العربىّ المبين، يقع منه العلم، ومن العلم يكون الإيمان والتقوى، ومثل هذا قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا(12/1147)
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً»
:
(113: طه) .
قوله تعالى:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا.. الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
هذا المثل، هو من تلك الأمثال التي ضربها الله سبحانه وتعالى للناس فى القرآن..
وفى هذا المثل تعرض صورة لرجلين مملوكين..
أمّا أحد الرجلين فهو فى ملكة شركاء، متشاكسين، أي مختلفين طباعا، ونوازع، وتفكيرا.. فهم على خلاف فى أمر هذا الرجل المملوك لهم.. هذا يأمره بأتيان أمر، وهذا ينهاه عن إتيان هذا الأمر.. وثالث يطلب منه عملا، ورابع يطلبه فى نفس الوقت لعمل.. وهكذا يصبح هذا الإنسان موزّع المشاعر، ممزّق الكيان.. لا يدرى ماذا يأخذ وماذا يدع، ولا يستطيع أن يقرر أيتقدم أم يتأخر.. إنه ريشة فى مهبّ ريح هوجاء..
وأما الرجل الآخر فهو فى ملك يد واحدة.. فهو مع مالكه على أمر معلوم، ووجه مفهوم.. إنه يجد كيانه كلّه حاضرا معه، أينما أقبل أو أدبر..
فهل يستوى هذان المملوكان فى حظهما من الحياة؟
إن الأول شقىّ، تمزّقه الأيدى الممسكة به، والمختلفة فيه.. كلّ يد تريد أن تذهب به مذهبا..(12/1148)
أما الآخر، فهو على حال من الأمن والاستقرار..
ومن هذا المثل تبدو العبرة والعظة لمن اعتبر واتعظ.
فالذى يعبد آلهة شتى، هو صورة من هذا الرجل الذي تملكه تلك الأيدى الكثيرة المتشاكسة.. إنه يقطع أنفاسه لاهثا، وراء كل إله يريد أن يكسب رضاه، بالملق والرياء، والدّس على الآلهة الآخرين..
وأما الذي يعبد إلها واحدا، هو الله ربّ العالمين، فهو صورة لهذا الرّجل الذي هو سلم لرجل، أي خالص له، لايدين بالولاء لغيره.. إنه إذ يعبد الله وحده، فهو على حال من الأمن والطمأنينة، مادام مطيعا له، مخلصا فى عبادته.
وقوله تعالى: «الحمد لله» .. هو التعقيب على هذا المثل، الذي تنكشف به الطريق إلى الحق، وإلى الإيمان بإله واحد لا شريك له.. وهذا الحمد، هو منطق كل مؤمن، ولسان كل عاقل، نظر فى هذا المثل، وأخذ العبرة منه..
قوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - هو إضراب عن الحمد المطلوب من المشركين والضالين، والذي يقتضيه العقل منهم، وهم فى مواجهة هذا المثل المضروب.. فالناس جميعا مطالبون من عقولهم بأن يحمدوا الله الذي ضرب لهم الأمثال، ليبين لهم الطريق إلى الحق والخير.. ولكن أكثر الناس، - وهم أهل الضلال والشرك- لا يعلمون شيئا، ومن ثم فلا يحمدون الله على هذا المثل المضروب لهم، إذ لم يعلموا ما ينطوى عليه من هدى ونور.(12/1149)
قوله تعالى:
«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» هو إحالة لما بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وبين المشركين، إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، إذ قد استنفد النبي جهده معهم، فى إبلاغهم رسالة ربه إليهم، كما استفرغوا هم جهدهم معه، فيما كانوا يرمونه به من ضر وأذى، وفيما كانوا يكيدون له وللمؤمنين معه..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» - إشارة إلى أن هذا الموت المقضىّ به على النبىّ وعلى الناس جميعا، ومنهم هؤلاء المشركون- هذا الموت ليس هو خاتمة الأمر بينه وبينهم، وإنما هو بدء مرحلة جديدة، يكون فيها الفصل بينه وبينهم فيوفىّ كلّ جزاءه..
وفى التسوية بين النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وبين الناس، فى الموت، ثم فى التسوية بينه وبينهم فى مجلس القضاء والفصل بين يدى الله- فى هذا إشارة إلى أن الناس جميعا على سواء عند الله، وإنما هى أعمالهم التي تنزلهم منازلهم عنده.. «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» (46: فصلت) .(12/1150)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
الآيات: (32- 40) [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 40]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ.. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى قد أنذر المشركين بالموت، المقضىّ به على الناس جميعا فى هذه الدنيا، ثم أنذرهم بالحساب، المحكوم به على الناس جميعا فى الآخرة.. ثم جاءت هذه الآية لتكشف(12/1151)
للمشركين عن المصير الذي هم صائرون إليه يوم الحساب، وهو مصير مشئوم، حيث تكون النار هى مثواهم..
والاستفهام فى قوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ» - مراد به النفي، أي أنه لا أظلم ممن جمع بين هذين المنكرين، وهما الكذب على الله، بنسبة الولد إليه، أو اتخاذ تلك المعبودات التي عبدوها شفعاء عنده.. ثم التكذيب بالصدق، وهو القرآن الذي أنزله الله على النبي، فما كان قولهم فيه إلا أنه حديث مفترى، وأنه أساطير الأولين اكتتبها محمد، وتلقاها من علماء أهل الكتاب..
فهؤلاء الذين كذبوا على الله، وكذّبوا بالحق الذي بين أيديهم- هم أكثر الظالمين ظلما، لأنهم قطعوا على أنفسهم كل عذر يعتذرون به عن هذا الكفر الذي هم فيه. وذلك أنه إذ كان لهم عذر بالكذب على الله لجهلهم، فإنه لا عذر لهم بتكذيب الحقّ الذي جاءهم.. إذ كان من البيان والوضوح بحيث لا يكذّب به إلا كل معاند مكابر..
قوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» - هو استفهام يراد به الإثبات، على طريق الإلزام والتوكيد، حيث لا جواب لهذا الاستفهام إلا التسليم بالمستفهم عنه، وإلا أن يجيب المستفهم منه بقوله: «بلى فى جهنم مثوى للكافرين» .. فهى منزلهم المعدّ لهم، لا منزل لهم سواه..
قوله تعالى:
«وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» الذي جاء بالصدق، هو رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- والصدق الذي جاء به، هو القرآن الكريم، الذي تلقاه وحيا من ربه..(12/1152)
والذي صدق بهذا الصدق هم المؤمنون..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» هو وصف شامل، للذى جاء بالصدق، وللذين صدّقوا به.. وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ» - إشارة إلى علو منزلتهم، وأنهم بهذا المقام العالي الذي تتقطع دونه الأعناق.. وفى ضمير الفصل «هم» - إشارة أخرى إلى اختصاصهم وحدهم بهذا المقام الرفيع الكريم الذي هم فيه..
قوله تعالى:
«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» .
هو بيان لما يلقى هؤلاء المتقون من أجر عظيم، ورزق كريم، وهم فى هذا المقام الرفيع الذي هم فيه «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. حيث يجدون كل ما يشتهون من نعيم الجنة، حاضرا بين أيديهم..
وقوله تعالى: «ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» - إشارة إلى أن هذا الذي للمتقين عند ربهم من فضل وإحسان، هو الجزاء الذي يجزى الله به المحسنين من عباده.. كما يقول سبحانه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (26: يونس) .
قوله تعالى:
«لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
هو تعليل لهذا الجزاء الذي يجزاه المحسنون من الله.. وهو جزاء(12/1153)
يضاعف فيه الإحسان إلى المحسن، حتى ليسأل السائلون: ما بال هؤلاء المحسنين يجزون الحسنة أضعافا مضاعفة، على حين يجزى المسيئون السيئة بمثلها؟ أليس العدل يقضى بالتسوية فى الجزاء، فيجزى المحسنون الحسنة بالحسنة، كما يجزى المسيئون السيئة بالسيئة؟ فيجاب على هذا التساؤل: إن جزاء السيئة بالسيئة، عدل، وإن جزاء الحسنة بأضعافها، إحسان.. فالمسيئون مأخوذون بعدل الله، والمحسنون مجزيّون بإحسانه، وذلك «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» أي بهذا الإحسان المضاعف يمحو الله عنهم أسوأ ما فى صحفهم من أعمال، وهى السيئات التي تقع منهم وهم على طريق الإحسان، حتى تصبح صحفهم كلها إحسان، فيكون جزؤهم الإحسان بهذا الإحسان..
وهذا مثل قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» (16: الأحقاف) ..
قوله تعالى:
«أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .
الكافي: الكافل: والحافظ..
وعبده: هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.. وفى الإشارة إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بضمير الغيبة دون ذكره.. تنويه بشأنه وإعلاء لذكره، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- هو وحده المعنىّ بهذا الحديث، وأنّه وحده الجدير بهذه الإضافة بالعبودية الخالصة إلى ربّه..
والاستفهام هنا، للوجوب.. أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يكفى(12/1154)
عبده محمدا ويكفله، ويحفظه من كل سوء يراد به.. إذ كيف يعجز سبحانه عن أن يحمى حماه هذا، ويدفع المكروه عنه؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
وقوله تعالى: «وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .. هو معطوف على مضمون قوله تعالى: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» - أي الله هو الذي يرعاك ويحفظك، والمشركون يخوفونك بآلهتهم، وما يقدّرون أن يلحقوه بك من سوء..
فهل يقع فى نفسك شىء من هذا الخوف الموهوم، وأنت فى حراسة الله ورعايته؟ ..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» أي هذا ضلال من ضلال المشركين، إذ يحسبون أن آلهتهم تلك تملك ضرّا أو نفعا.. إنهم فى ضلال مبين. فقد أضلهم الله وطمس على عقولهم، فلم يروا إلا ظلاما وضلالا:
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ.. أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ» ..
أي الله سبحانه وتعالى، هو وحده، الذي يملك الضرّ والنفع.. وهو سبحانه الذي أضلّ هؤلاء المشركين، وهو سبحانه الذي هدى المهتدين.
وأن آلهتهم تلك لا تملك من هذا الأمر شيئا، فلا سبيل لها إلى هداية عابديها الذين أضلهم الله، كما لا سبيل إليها إلى ضلال المؤمنين الذين يحقرونها ويستخفّون بها.. «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ» فيحمى بعزته أولياءه «ذى انتقام» «ينتقم لأوليائه ممّن يكيدون لهم؟ بلى.. إنه سبحانه عزيز بعز بعزّته من يلوذبه، ذو انتقام، ينتقم بقوته ممن يخرجون عن طاعته، ويؤذون أولياءه، وأهل ودّه..(12/1155)
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ.. قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ.. عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي أن هؤلاء المشركين الذين يتهدّدون النبىّ صلوات الله وسلامه عليه.. ويخوفونه بآلهتهم، وما يمكن أن يريدوه به من سوء، إذا هو أصرّ على إعراضه عنها، أو التعرض لها- هؤلاء المشركون إذا سئلوا عمن خلق السموات والأرض، ما كان لهم جواب إلّا أن يقولوا، خلقهن الله.. إذ كانت هذه الحقيقة من الجلاء والظهور، بحيث لا يستطيع مكابر أو معاند أن ينكرها، فهى من الأمور المسلّمة التي لا اختلاف عليها.
وقد كان مقتضى هذا التسليم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض- أن يقيم للمشركين منطقا سليما مع اعتقادهم فى الله، فلا يجعلوا لغيره شركة معه فى تصريف هذا الوجود، وفيما يجرى فيه.. ولكنهم- مع تسليمهم بهذا السلطان المطلق لله- يجعلون لآلهتهم شركة معه فى تدبير هذا الملك، وسلطانا مع سلطانه فى تصريفه..
وفى قوله تعالى: «قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟» ..
هذا هو السؤال المطلوب من المشركين أن يعطوا له جوابا.. هل هذه الآلهة التي يتهددون بها النبىّ تملك ضرّا أو نفعا؟ وهل لها إرادة مع إرادة الله، وسلطان مع سلطانه؟ وهل إذا أراد الله بالنبيّ ضرّا هل يمكن أن تردّه(12/1156)
عنه؟ وهل إذا أراد الله بالنبي خيرا ورحمة، هل تستطيع أن تمسك هذا الخير وتلك الرحمة عنه؟ إن يكن ذلك مما يقولون، فكيف يتفق هذا مع تسليمهم بأن الله خالق السموات والأرض؟ وهل من يخلق السموات والأرض يكون مقهورا من تلك الدّمى التي يعبدونها؟ أيتفق هذا مع ذاك؟.
وقوله تعالى: «قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» هو أمر للنبى بما يلقى به ضلال هؤلاء الضّالّين، وما يتهددون به من أوهام وأباطيل.. إن الله هو حسبه وكافيه من كل ضر يراد به، وهو حسبه وكافيه، من كل خير يرجوه..
وقوله تعالى: «عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي أن الله وحده، هو الذي يتوكل عليه المتوكلون، الذين يؤمنون به، ويضيفون وجودهم إليه، فيجدون فى ظله الأمن، والسلامة، والخير..
وفى الحديث عن الآلهة بضمير المؤنث «هنّ» تشنيع على هؤلاء المشركين، وتسخيف لعقولهم المريضة، التي تتخذ من هذه الدّمى آلهة تعبد من دون الله، ثم تقيم منها- بهذا الخيال السقيم- كائنات عاقلة، فيخاطبونها، ويلقون إليها بآمالهم وآلامهم، وهى- بين أيديهم- صمّاء لا تسمع، خرساء، لا تجيب!.
قوله تعالى:
«قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» ..
المكانة: المنزلة، والحال التي يكون عليها الإنسان..
وقوله تعالى: «اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» أي اعملوا على ما أنتم عليه من ضلال، ومن معتقد فاسد مع آلهتكم تلك..(12/1157)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
وقوله تعالى: «إِنِّي عامِلٌ» أي وأنا أعمل على ما أنا عليه، من إيمانى بالله، وولائى له وحده..
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» أي وسيأتى اليوم الذي ينكشف فيه الأمر بيننا، وسترون يومئذ من الذي سينزل به العذاب الذي يخزيه، ويفضح ما كان عليه من ضلال.. ثم ما يكون له وراء هذا من عذاب مقيم، يعيش فيه أبدا..
وعذاب الخزي هو ما يقع للمشركين فى الحياة الدنيا، يوم يرون بأعينهم نصر الله للمؤمنين، وخذلانه للكافرين، وتحطيم هذه الأصنام، ووطأها بالأقدام..
والعذاب المقيم، هو عذاب يوم القيامة، الذي يخلد فيه أهل الكفر والضلال..
الآيات: (41- 46) [سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 46]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)(12/1158)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ..
هو بيان لمهمة النبي، وأنه رسول من الله للناس، يبلغهم ما أنزل إليه من ربه.. فمن اهتدى بهذا الكتاب فإنما يهتدى لنفسه، ويعمل الخير لها، ومن ضلّ فإنما ضلاله واقع عليه، ومجزىّ به، وليس النبي وكيلا على أحد، يؤدّى عنه حسابه.
وفى تعدية الفعل «أنزلنا» بحرف الجر (على) - إشارة إلى علوّ المتنزل الذي نزل منه القرآن على رسول الله، وأنه من الله رب العالمين، القائم بسلطانه على هذا الوجوه..
وفى قوله تعالى: «للناس» - إشارة إلى أن هذا القرآن هو خير مسوق من الله سبحانه للناس جميعا، ورحمة منزلة منه سبحانه إليهم، وأنه إذا كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو الذي تلقّى هذه الرحمة من ربه- فإن الناس جميعا شركاء له فيها، ولكل واحد منهم نصيبه منها، سواء دعى إلى أخذ نصيبه أم لم يدع إلى ذلك.. وفى هذا ما يفتح(12/1159)
الطريق لهؤلاء المعاندين المستكبرين، إلى كتاب الله.. فكثير من هؤلاء المشركين كانوا يأنفون أن يتفضّل عليهم النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا القرآن الذي بين يديه.. وفى حسابهم أنه قرآنه، يعطى منه من يشاء، ويمنع من يشاء.. وفى قوله تعالى: «للناس» ما يعزل عن القرآن هذه المشاعر التي تحول بين المشركين وبين الاتصال به.. إنه ليس قرآن «محمد» وليس ملك «محمد» وإنما هو كلام الله إلى عباد الله، ورحمة الله لخلق الله.. وما محمد- صلوات الله وسلامه عليه- إلا حامل هذه الرحمة، وداع إليها، وآخذ بنصيبه الذي قدّره الله له منها.. وإنها لرحمة واسعة لا حدود لها، ولكل إنسان حظه الذي يستطيع أن تطوله يده منها..
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة، قد جاء فيها ذكر القرآن الكريم، الذي أنزله الله تعالى على نبيه- صلوات الله وسلامه عليه- هدى ورحمة للناس، وروحا وحياة للنفوس..
وفى هذه الآية بيان لمصير النفس الإنسانية، وأنها صائرة إلى الله، بما تحمل من هدى أو ضلال، وبما معها من نور القرآن، أو ظلام الشرك..
فقوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» أي يردها إليه، ويوفّيها حسابها، حين يجىء أجلها، وتستوفى حياتها المقدورة لها فى الدنيا..(12/1160)
وقوله تعالى: «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» أي ويتوفى الأنفس فى منامها..
فالجار والمجرور فى منامها متعلق بقوله تعالى: «يَتَوَفَّى» .. وعلى هذا يكون معنى الآية: «الله يتوفى الأنفس ويردها إليه حين يقبضها بالموت، أو بالنوم..
وقوله تعالى: «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو بيان للأنفس التي يردها الله سبحانه وتعالى إليه، حين يغشى النوم أصحابها.. فهذه النفوس، إن كانت قد استوفت أجلها فى الدنيا أمسكها الله عنده فلا تعود إلى الجسد مرة أخرى، وإن كان قد بقي لها فى الحياة أجل، أرسلها لتعود إلى الجسد مرة أخرى، حتى ينتهى أجلها المقدور لها فى الدنيا..
فالله سبحانه وتعالى يردّ الأنفس إليه حين الموت، وحين النوم، إلا أنه فى حال الموت يمسكها عنده إلى يوم القيامة، أما فى حال النوم، فإن كانت النفس قد استوفت أجلها فى الدنيا أمسكها الله عنده، وإن لم تكن قد استوفت أجلها، أرسلها لتعود إلى جسدها، حتى ينتهى أجلها فى الدنيا.
ومن هذا يرى المرء أنه يموت كل يوم، وأن نفسه التي تلبسه تردّ إلى الله عند النوم، ثم يبعث من جديد فى اليقظة حين تعود إليه نفسه التي فارقت بدنه..
وهكذا تتكرر عملية الموت والبعث كل يوم فى ذات الإنسان.. ومع هذا ينكر الضالون البعث بعد الموت، وهم يرون هذه الحقيقة فى أنفسهم.. فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا السفه سفه؟ «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ولكن أين من يتفكر؟ إنهم قلة قليلة فى هذا المحيط الصاخب المضطرب بالضالين السفهاء! [بين النفس. والروح.. والجسد] وهنا نود أن نقف قليلا بين يدى قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ(12/1161)
مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» .
فقد أشارت الآية الكريمة إلى أن فى الإنسان نفسا، وأن هذه النفس تردّ إلى الله، على حين يترك الجسد لمصيره فى التراب..
فالإنسان إذن نفس وجسد.. وهما طبيعتان مختلفان.. فالنفس من العالم العلوي، والجسد من عالم التراب، وأنهما إذ يجمع الله بينهما بقدرته، فيجعل منهما- سبحانه- كائنا سويّا هو الإنسان، فإنه- سبحانه. بقدرته كذلك يحفظ لكل منهما طبيعته، حتى إذا انتهى الأجل الذي قدره الله لاجتماعهما، افترقا، فلحق كل منهما بعالمه، الذي هو منه.. النفس إلى عالمها العلوىّ، والجسد إلى عالمه الترابىّ.
وقبل أن نتحدث عن ماهية النفس، وعن الآثار التي تتركها فى الجسد، أو يتركها الجسد فيها. حين اجتماعهما- نود أن نشير إلى كائن آخر، يعيش مع الجسد والنفس، هو الروح فقد أشار القرآن الكريم إلى الروح، فقال تعالى:
«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (85 الإسراء) وإذن فهناك:
الجسد، والروح، والنفس، وثلاثتها هى الإنسان.
فما الجسد؟ وما الروح؟ وما النفس؟
وليس ثمة خلاف فى أن الجسد، هو هذا الكيان من اللحم، والعظم، والدم، والذي هو المظهر المادي للإنسان..
أما الروح، وأما النفس فهما قوتان غيبيتان تسكنان إلى هذا الجسد، فيكون بهما معا هذا الإنسان الحي، السميع، البصير، العاقل المميز بين الخير والشر، والنافع والضار..(12/1162)
والسؤال هنا: هل الروح والنفس حقيقة واحدة، أم هما حقيقتان؟ وإذا كانتا حقيقتين، فهل هما من طبيعة واحدة أم من طبيعتين مختلفتين كالاختلاف الذي بينهما وبين الجسد؟
إن القرآن الكريم يحدثنا عن الروح، وعن النفس..
وفى حديث القرآن عن الروح. نجد أنها نفحة الحياة فى الإنسان، وأنها من روح الله، فيقول سبحانه فى خلق آدم: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (29 الحجر) ويقول سبحانه: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» (9: السجدة) ويقول سبحانه فى خلق عيسى عليه السلام: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (12: التحريم) .
فالرّوح هى مبعث الحياة فى الإنسان، وهى التي تخرج هذا الجسد الهامد إلى عالم الحياة والحركة..
والإنسان فى هذه الحدود، لا يخرج عن كونه حيوانا، ذا جسد حىّ، يتنفس، ويتحرك ويطلب الغذاء الذي يحفظ حياته..
فهل للحيوان روح كهذه الروح التي تلبس الإنسان، وتكسوه حياة وحركة؟
إننا إذا رجعنا إلى قوله تعالى عن الروح: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» - تجد أن الروح التي تلبس الكائن الحي- من إنسان أو حيوان- هى روح، وهى من أمر الله! ولكننا إذ ننظر فى قوله تعالى فى خلق آدم: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» وقوله سبحانه: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» - نجد مزيدا من؟؟؟ الإحسان والتكريم للإنسان، بإضافة روحه إلى الله سبحانه وتعالى..(12/1163)
وهذه الإضافة تضفى على روح الإنسان صفاء إلى صفاء، وقوة إلى قوة..
وإنه إذا كان لا حديث للعلم فى هذا الأمر الغيبىّ، فإن المشاهدة تدعونا إلى القول بأن الأرواح التي تلبس الكائنات الحية- بما فيها الإنسان- ليست على درجة واحدة من القوة التي تنبعث منها فى الكائن الحي، وفى الآثار التي تحدثها فيه..
ففى عالم الحيوان مثلا.. نجد من الحيوانات مالا تكاد تحسّ فيه الحياة، كالديدان مثلا، كما نجد حيوانات تكاد تعقل، كالقردة.. وبين هذه وتلك أنماط كثيرة من الحيوات التي تلبس عالم الحيوان..
وهذا يعنى أن اختلافا ما بين روح وروح إن لم يكن فى النوع ففى القدر، وفى الدرجة.
ومن جهة أخرى، فإننا نجد فى عالم البشر أناسا لا يبتعدون كثيرا عن عالم الحيوان، بينما نجد الذكاء والألمعية والعبقرية فى أناس آخرين.
وهؤلاء وأولئك جميعا يلبسون أرواحا من مورد واحد، هى نفخة الله سبحانه وتعالى فى الإنسان.. وهذا يعنى أن الاختلاف فى الأرواح البشرية ليس فى النوع، وإنما فى القدر والدرجة.. أيضا.. بمعنى أن الاختلاف بين إنسان وإنسان فى العقل، والذكاء، والبصيرة، هو اختلاف فى القدر الذي كان للجسد من عالم الروح، وفى الكمية- إن صح هذا التعبير- التي فاضت عليه من هذا العالم!! وهذا أيضا ما يشير إليه الفلاسفة فى حديثهم عن الروح، وأن كل جسد إنما تلبسه روح خاصة به، مقدرة بحسب استعداده الفطري، وقدرته على احتمال ما يفاض عليه منها..(12/1164)
وإذن فهذا الاختلاف بين الكائنات الحية ومنها الإنسان- هو أثر من آثار الروح التي لبسته، وأنه بقدر حظه من الروح- قدرا لا نوعا- يكون حظه من الترقي فى سلم الحياة.
وإذا كان لنا أن نشبه عالم الروح بمولد كهربائى عظيم، وكان لنا أن نشبه الأجسام بلمبات الكهرباء، على اختلاف قوتها، مما هو دون الشمعة، إلى آلاف الشمعات- كان لنا أن نتمثل الأجسام، أو اللمبات الكهربائية، وقد اتصلت بالمولد الكهربائى العظيم، فأخذ كل جسم أو كل لمبة بقدر قوته من النور الكهربى، أو من عالم الروح! ..
وعلى هذا نرى أن الكائن الحي، جسد وروح، وأن الإنسان كذلك جسد وروح، وإن كان حظه من عالم الروح- قدرا لا نوعا- أكبر من أي كائن حى آخر فى غير عالم الإنسان.
إذن فما النفس؟
أهي الروح الإنسانية، سميت بهذا الاسم، للتفرقة بين روح الإنسان، وروح الحيوان.. إذ كان للإنسان النصيب الأوفى من هذا النور العلوي المفاض على الأحياء؟ أم هى شىء مضاف إلى خلق الإنسان، به صار الإنسان إنسانا، بعد أن أصبح بالروح حيوانا؟
يحدث القرآن الكريم عن النفس، على أنها كائن له وجود ذاتى مستقل، وبمعنى آخر، إن القرآن يخاطب الإنسان فى ذات نفسه، باعتبار أن النفس هى القوة العاقلة المدركة فيه، فيقول سبحانه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» .. ويقول جل شأنه: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» (27- 30 الفجر) ويقول(12/1165)
سبحانه: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (53 يوسف) ويقول:
«بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» (18: يوسف) ويقول سبحانه: «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (1: الطلاق) ويقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً» (6: التحريم) .
فالنفس هنا، وفى مواضع أخرى كثيرة من القرآن، هى الإنسان العاقل، المكلف، وهى الإنسان الذي يتوقع منه الخير أو الشر، والهدى أو الضلال..
ثم هى الإنسان بجميع مشخصاته، جسدا وروحا! ..
ومرة أخرى.. ما هى النفس؟
والجواب الذي نعطيه عن هذا السؤال هو مستمد من القرآن الكريم، بعيدا عن مقولات الفلاسفة، وغير الفلاسفة ممن لهم حديث عن النفس «1» .
وعلى هذا نقول:
يشخّص القرآن الكريم النفس، ويجعلها الكائن الذي يمثل الإنسان أمام الله، بل وأمام المجتمع أيضا..
فالقتل الذي يصيب الإنسان هو قتل للنفس، كما يقول سبحانه: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (29: النساء) ويقول جل شأنه: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (32: المائدة) .
وفى مقام القصاص تحسب «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» (45: المائدة) .
__________
(1) من أراد النظر فى هذا الموضوع على الآراء المختلفة فى النفس أو الروح، أو العقل، فليرجع إلى كتابنا قضية الألوهية (الجزء الثاني) .. (الله والإنسان) .(12/1166)
وفى مقام التنويه بالإنسان، ودعوته ليلقى الجزاء الحسن، تخاطب النفس، وتدعى، فيقول سبحانه: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» (27- 30: الفجر) .
والنفس فى القرآن هى الإنسان المسئول المحاسب: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (7- 10:
الشمس) «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ»
(14- 15: القيامة) وإن بالفهم الذي يستريح إليه العقل فى شأن النفس، هو أنها شىء غير الروح، وغير العقل.. وأنها هى الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، إن صح هذا التعبير.. إنها تتخلق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق فى الإنسان ذاتية يعرف بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته..
النفس هى ذات الإنسان، أو هى مشخصات الإنسان التي تنبىء عن ذاته..
ولا نريد أن نذهب إلى أكثر من هذا.. وحسبنا أن نؤمن بأن الروح من أمر الله، فلا سبيل إلى الكشف عنها كما يقول سبحانه: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» وأن النفس، جهاز خفى عامل فى الإنسان.. هى الإنسان المعنوي- كما قلنا- ولهذا كانت موضع الخطاب من الله تعالى، كما أنها كانت موضع الحساب والثواب والعقاب..
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ» ؟.
هو بيان لضلالة من ضلالات المشركين، بعد إقرارهم بأن الله- هو الذي خلق السموات والأرض- فهم مع إقرارهم هذا- يتخذون من(12/1167)
الأصنام وسائل يتوسلون بها إلى مرضاة الله، ويرجون بها الشفاعة عنده، ويقولون لمن يحاجّهم فيها: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) فهم- مع اعترافهم بأن هذه الأصنام ليست الإله الخالق الرازق، المالك لما فى السموات والأرض- مع اعترافهم هذا- لا يوجهون وجوههم إلى الله مباشرة، بل يجعلون بينهم وبين الله من يتولى الاتصال بالله عنهم، والشفاعة لهم فيما يريدون من الله، من جلب خير، أو دفع ضرّ.. وهذا ضلال من وجوه:
فأولا: أن الإنسان- من حيث هو إنسان- مخلوق كريم عزيز بين مخلوقات الله.. قد أحسن الله خلقه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأقامه خليفة له فى الأرض..
وهذه منزلة عالية، ودرجة رفيعة، جدير بالإنسان أن يقيم وجوده فيها، ويطلب من الله الاستزادة منها.. وذلك بدوام الاتصال بالله، وطلب القرب منه، بالولاء المطلق لله، والإخلاص فى عبادته، والاجتهاد فى طاعته..
وفى تخلّى الإنسان عن هذا المقام، وإسلام زمامه لغيره، من دمى وأشباه دمىّ، لتقوده إلى الله- فى هذا نزول بالإنسان عن منزلته، واعتراف منه بأنه ليس أهلا لها..
وثانيا: أن الله- سبحانه- الذي كرم الإنسان، جعل طريقه إليه مفتوحا ليس عليه خزنة أو حجاب وذلك حتى يتحرر الإنسان من التبعية لأى مخلوق، تلك التبعية التي يسلم فيها وجوده العقلي والروحي لغيره، فيفقد بذلك ذاتيته، ويصبح كائنا مسلوب الإرادة، يتحرك بإرادة غيره، فيقاد، كما يقاد الحيوان.(12/1168)
وقد حرّرت الشريعة الإسلامية الإنسان تحريرا كاملا، وأطلقت كل قواه وملكاته من كل قيد ومن كل تبعية، حتى أن الولاء الذي يعطيه المؤمن للنبىّ ليس ولاء أعمى، بل المطلوب منه شرعا أن يكون ولاء مستندا إلى العقل، وإلى الاقتناع.. حتى ينبع هذا الولاء عن نفس راضية وقلب مطمئن.. ولهذا كانت دعوة الإسلام دعوة قائمة على مجرد البلاغ، والعرض لما بين يديها من هدى.. ثم إن للناس أن يعرضوا هذا المعروض عليهم، على عقولهم.. ثم إن لهم مع هذا إرادتهم المطلقة، فى قبول ما عرض عليهم، أو رفضه..
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) ويقول سبحانه لنبيه الكريم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) ويقول جلّ شأنه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (256 البقرة) وثالثا: هؤلاء المشركون، الذي يتعاملون مع تلك الأصنام، قد ضلوا ضلالا بعد ضلال.. فهم ضلوا أولا، لأنهم لم يوجهوا وجوههم إلى الله مباشرة، بل جعلوا بينهم وبين الله من يقودهم إليه، وضلوا ثانيا لأنهم أسلموا زمامهم لتلك الدّمى التي لا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر!! فكيف يكون لهذا الدّمى أن تتجه بهم إلى متجه، وهى تابعة فى أماكنها لا تملك تحولا من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ» ؟ أي أيتعاملون مع هذه المعبودات ويسلمون أمرهم إليها، ولو كانت لا تملك شيئا ولا تعقل أمرا؟ فإذا كان الإنسان على ضلال إذا أسلم نفسه لإنسان عاقل مثله، أو لمن هو أعقل منه، فإنه يكون على ضلال مبين، وسفه غليظ، إذا هو أسلم نفسه لحيوان أو حجر!!(12/1169)
قوله تعالى:
«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو تقرير لتلك الحقيقة المطلقة التي غفل عنها المشركون، وعمى عنها الضالون، وهى أن الشفاعة جميعها لله وحده، لا يملك أحد مع الله شيئا منها..
فهو سبحانه مالك السموات والأرض، وإليه يردّ كل ما يجرى فيهما، وما يقع للمخلوقات من نفع أو ضر..
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو دعوة إلى الناس أن يرجعوا إلى الله، وأن يسلموا أمرهم إليه وحده يوم الحساب والجزاء.. فهو- سبحانه- الذي يتولى حساب الناس وجزاءهم.. فمن السفه والجهل معا أن يكون هناك عمل يتجه به إلى غيره.. إنه عمل ضائع، لا يقام له وزن! بل هو وزر يحمله الإنسان معه، لأنه حجه عن الله، وقصّر به دون العمل لمرضاته..
والشفاعة هنا: هى ما يجلب به الخير، ويدفع به الضر.. أي أن كل ما هو مطلوب للإنسان من جلب خير أو دفع ضر، هو بين يدى الله، وهو سبحانه المتصرف فيه وحده.. فمن طلب فليطلب من الله وحده.. ومن طلب من غيره شيئا، فقد ضل سعيه وخاب رجاؤه..
قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» هو فضح لحال من أحوال المشركين، وكشف لضلالة من ضلالاتهم..
فهم إذا ذكر الله وحده، من غير أن تذكر معه آلهتهم- اشمأزت قلوبهم،(12/1170)
أي نفرت، وجزعت، وهلعت.. وإذا ذكرت آلهتهم، وما لها من شفاعة عند الله، فرحوا واستبشروا..
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» - إشارة إلى أن الإيمان بالآخرة، لا يكون إلا بعد الإيمان بالله.. فالإيمان بالآخرة، إيمان بها وبالله.. وقد يكون إيمان بالله وكفر بالآخرة، كما كان عليه إيمان المشركين..
فهم يعرفون الله، ويؤمنون بأن على هذا الوجود إلها واحدا.. ولكنهم يتخذون معه آلهة أخرى، هى- عندهم- دون الله جلالا وقدرا.. إنها قربان يتقربون بها إلى الله.. ثم هم لا يؤمنون بالآخرة، إذ يستبعدون أن يحيى الله الناس بعد أن يصيروا ترابا.. وهذا قصور فى فهمهم، لجلال الله وقدرته..
قوله تعالى:
«قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
هو دعوة للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- أن يعلن الناس بهذه الحقيقة، وهى أن الله سبحانه، هو فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق..
وأنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، أي ما غاب عنّا، وما ظهر لنا..
وهو سبحانه الذي يحكم بين عباده فيما اختلفوا فيه من الحق، فيحقّ- سبحانه- الحق ويبطل الباطل.. «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» ..(12/1171)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
وقد جاء هذا الخبر فى صورة النداء والدعاء، لبيان أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد بلّغ رسالة ربه، كما أمره ربه، وأنه أفرغ جهده كلّه فى الدعوة إلى الله.. ولم يبق بعد هذا إلا الحساب والجزاء.
الآيات: (47- 54) [سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 52]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» .(12/1172)
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها قد كانت دعاء من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى ربه أن يفصل بينه وبين قومه، فيما اختلفوا فيه عليه، وفى تكذيبهم إياه- فجاءت هذه الآية، وكأنها استجابة لدعوة الرسول.. فها هو ذا يوم الفصل، وها هم أولاء الذين ظلموا يساقون إلى جهنم، ويطلبون الشفعاء فلا يجدون شفيعا، ويستصرخون ولا صريخ لهم إلا زبانية جهنم، يدعّونهم إلى النار دعّا..
فلو أنه كان بين يدى أحدهم ما فى الأرض جميعا، ومثل ما فى الأرض مضافا إليه، لافتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ولوجد ذلك صفقة رابحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ» (91: آل عمران) ..
وقوله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» - إشارة إلى ما ينكشف للمشركين والضالين فى هذا اليوم، مما لم يكن يقع فى حسبانهم..
ففي هذا اليوم يرون أن ما كانوا يعبدون من دون الله، هو ضلال فى ضلال، ويرون أعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وجوها منكرة، تطلع عليهم بالويلات والحسرات.. وأكثر من هذا، فإنهم يرون هذا الهول الذي يلقاهم من جهنم، مما لم يقع فى خيال، أو يخطر على بال..
كما يرون أناسا كانوا يسخرون منهم ويستهزئون بهم قد لبسوا حلل النعيم، ونزلوا منازل الرحمة والرضوان، على حين يشهدون سادتهم وكبراءهم ممن كانوا ينزلونهم منازل الآلهة، وقد قطّعت لهم ثياب من نار، يصبّ من فوق رءوسهم الحميم.. يصهر به ما فى بطونهم والجلود.. ولهم مقاطع من جديد.. كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها ...(12/1173)
إن معارف الناس، وتصوراتهم وأخيلتهم فى هذه الدنيا، لا تكاد تلتقى مع شىء من أمور الآخرة، وإن كان المؤمنون بالله أكثر تصورا لها، وأقرب إدراكا لمجملها..
روى أن بعض الصالحين حين حضره الموت، فزع واضطرب، فسئل فى هذا، فقال: ذكرت قول الله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» فما أدرى ماذا يبدو لى من الله وأنا مقدم عليه!.
قوله تعالى:
«وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» - من عطف الخاص على العام.. فمما يبدو للظالمين- مما لم يكونوا يحتسبونه- هو سيئات ما كسبوا، حيث يبدو كسبهم الذي كسبوه، وعملهم الذي عملوه فى الدنيا، ضلالا فى ضلال، وسوءا إلى سوء. وخسرانا إلى خسران، مع أنهم كانوا يحسبون أن هذا الذي يعملون، هو الحق، وهو الخير.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» .. (103- 104: الكهف) وقوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
حاق بهم: أي نزل بهم، واشتمل عليهم.. وأصله من الحقّ..
ومعنى هذا، أن الحق الذي كانوا يستهزئون به قد جاء ليحاكمهم، وليقتصّ منهم لجنايتهم التي جنوها عليه، بالانتصار للباطل، ومحاربة أولياء الحق..(12/1174)
قوله تعالى:
«فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ.. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
خولناه نعمة: أي آتيناه نعمة، صار بها من أصحاب الوجاهة والرياسة..
وأصلها من الخيلاء والعجب.. ومنها «الخال» وهو الشامة السوداء التي تزين الوجه الحسن، وتزيده حسنا..
والفاء فى قوله تعالى: «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا» - هى فاء العطف، للتفريع على قوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ، أي فكان من استهزائهم بالحق أن الإنسان منهم إذا أصابه ضر دعا ربه.. ثم إذا كشف الله الضرّ عنه، وخوله نعمة من نعمه، تنكر لله، ولم يذكر أن هذه النعمة من عند الله، بل قال إنما أوتيت ما أوتيت عن علم منّى..
إن ذلك كان بحولي وحيلتى.. وهذا من ضلال العقل، وخداع النفس.. فلو أن هذا الجهول كان يملك أن يجلب لنفسه نفعا، لكان يملك أن يدفع عن نفسه كل ضر ينزل به، ولما كان له أن يدعو الله عند كل ضر يقع له.. فهل يظن هذا الجهول أن الله يملك الضر ولا يملك النفع؟ ولكنها سكرة النعمة تلبس الأحمق الجهول، فإذا هو فيها مارد جبار يخيل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا! ثم إن هذا الجبار، يشاك بشوكة أو يحتبس له بول، ليوم أو بعض يوم، فإذا هو ذليل مهين، يصرخ صراخ الأطفال، ويئنّ أنين الثّكلى! وقوله تعالى: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» .. الضمير فى أوتيته، يعود إلى المال الذي جمعه، فهو لا يرى النعمة إلا مالا، أما غير المال من نعم الله، فلا يلتفت إليه..(12/1175)
وقوله تعالى: «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» أي هذه النعمة، هى فتنة وابتلاء، فكما يبتلى الله بالشر، يبتلى كذلك بالخير، كما يقول سبحانه: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (35: الأنبياء) .
قوله تعالى:
«قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» .
أي قد قال مثل هذه القولة الضالة الآثمة أقوام كثيرون قبل هؤلاء المشركين.. قد قالها قارون، إذ قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» بل وقال أشنع منها، ذلك الذي حاجّ إبراهيم فى ربه: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» ! (258: البقرة) فماذا كان وراء هذا الضلال فى الرأى؟ لم يكن إلا الخيبة والخسران، فقد أهلك الله الضالين، وأخذهم البلاء من حيث لا يشعرون.. فما كان لهم من هذا الذي بين أيديهم ولىّ ولا نصير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا.. وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» .
وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الظالمين من قريش، وأنهم سيقع بهم ما وقع بالظالمين قبلهم «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62: الأحزاب) .
فالله سبحانه لا يبدل سنته مع هؤلاء الظالمين «وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» أي لن يعجزوا الله، ولن يفلتوا من عقابه، وهو القوىّ العزيز.(12/1176)
وفى الإشارة إلى مجتمع الجاهليين جميعا، وفيهم المؤمنون والمشركون- فى الإشارة إليهم بهؤلاء، بدلا من أن يقال من قومك، أو من المشركين أو نحو هذا- ما يدل على أن الظالمين معروفون لكل من ينظر إليهم، وأنهم بحيث يشار إليهم باليد، واحدا واحدا..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
أي ألم يكن لهؤلاء الضالين نظر فى تصريف الله وتدبيره؟ إنهم لو نظروا نظرا عاقلا مستهديا، لعلموا أن الله سبحانه «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ» أي يوسعه ويكثره لمن يشاء، «ويقدر» أي يقبضه ويقلله لمن يشاء، بحكمة الحكيم، وتدبير العليم..!
وهذا الاختلاف فى حظوظ الناس من الرزق، هو الذي يضبط ميزان الناس فى الحياة، ويجعل لحياتهم هذه الطعوم المختلفة، وتلك الألوان المتباينة، التي بغيرها لا تكون الحياة حياة، ولا الناس ناسا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118- 119 هود) .
فهذا الاختلاف بين الناس فى الرزق، هو الذي يدفع موكب الحياة، ويبعث الناس إلى الجدّ والتحصيل.. ولو كانوا على درجة واحدة، لماتت نوازع التنافس بينهم، ولخمدت روح الابتكار والتجديد، ولركدت الحياة الإنسانية كما تركد المياه فى المستنقعات! وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» - أي فى هذا التفاوت(12/1177)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
فى الرزق، والاختلاف فى حظوظ الناس منه- آيات وشواهد للمؤمنين بالله، يشهدون منها حكمة الخالق، وقدرته، وسلطانه، وعلمه..
الآيات: (53- 61) [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 61]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .(12/1178)
فى وسط هذا الظلام المتراكم من الكفر، ومن خلال هذا الدخان المتصاعد من معاقل الضلال، ومواقع الشرك- تشرق الأرض بنور ربها، وفى سنا هذا النور القدسي يؤذّن مؤذّن الحق، بين ظلام هذا الكفر المتراكم، ودخان هذا الضلال المتصاعد، داعيا هؤلاء الغرقى فى بحار الكفر والضلال:
«يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأى العين، مراكب النجاة تخفّ إليهم من كل جهة، وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها، ويشدوا أيديهم عليها، لتحملهم إلى شاطىء النجاة والسلامة..
ولكن ما أكثر الذين يرون الخير ولا يتجهون إليه، ويشهدون النور ولا يفتحون أعينهم عليه.. وفى ابن نوح مثل يشهد لهذا، فقد كان يرى بعينيه الطوفان يهجم عليه، ويكاد يبتلعه فيمن ابتلع من الضالين والغاوين، وأبوه يناديه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.. فيأبى إلا أن يركب رأسه، ويلقى بيده إلى التهلكة! وهؤلاء هم أبناء نوح، يناديهم ربّ العزّة هذا النداء الرحيم: «يا عبادى» .
ويضيفهم سبحانه وتعالى إليه إضافة رحمة ورعاية، وإحسان، تعلو على إضافة الأبناء إلى الآباء، حنانا ورحمة وإحسانا..
وهؤلاء الذين ينادون من ربهم هذا النداء الرحيم الكريم، ويضافون إلى عزته وجلاله إضافة الرحمة والإكرام- هم العصاة، الخارجون على حدود الله، المعتدون على حرماته، الجاحدون لنعمه..(12/1179)
إنهم الذين أسرفوا على أنفسهم، وجاروا عليها بهذه الأوزار التي حمّلوها إياها.. فيالطف الله، ويا لسعة كرمه.. وعظيم مننه، وجليل إحسانه!! وقوله تعالى: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» هو اليد البرة الرحيمة الحانية التي يربت الله بها على هؤلاء المذنبين العصاة، بمجرد أن يلتفتوا إلى هذا النداء الرحيم اللطيف: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .. إنها قريبة منكم، دانية لأيديكم.. فهيا أقبلوا عليها، واستظلوا بظلها، واقطفوا ما تشاءون من ثمرها..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» .. شحنة من النور تضىء ظلام هذه النفوس التي تنظر إلى الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الضباب المنعقد من اليأس حولها، وهى تذكر بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب- جهلا وضلالا- أن ذنوبها أكثر من أن تغفر، وأن جرائمها أكبر من أن يتجاوز لها عنها.. وكلّا.. فإن ذلك ظن سيىء بالله:
«إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» مهما تكن بشاعتها وشناعتها.. «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فما أعظم مغفرته، وما أوسع رحمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (156: الأعراف) !! فأى عذر لمذنب بعد هذا البلاغ المبين، إذا هو لم يسع إلى الله، ويغتسل فى بحر رحمته، من أدرانه، ويتطهر من ذنوبه؟
وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم، إذا هو لم يمدّ يده إلى ربّه، ليقيل عثرته، ويحمل عنه وزره؟
«يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ..(12/1180)
«لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.. «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» .. «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ..»
إنها ضيافة كريمة فى ساحة رب كريم..
وإنها نزل مهيأة، بكل أسباب الهناءة والرضوان، يستقبل فيها على طريق الحياة، أولئك الذين أضناهم السفر الطويل، وأكلت وجوههم لوافح الهجير..
فيجدون حيث ينزلون ظلا ظليلا، وطعاما هنيئا، وشرابا باردا.
فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه: ألا ما أعظم غباءك، وما أشأم حظك، وما أولاك بالذئاب تفترسك، وبالحيات تنهشك، فلا يرحمك راحم، ولا يبكيك باك.. من قريب أو صديق! قوله تعالى:
«وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ.. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» ..
إنه دعوة إلى رحاب الله، بعد أن فتحت الأبواب، ومدت موائد رحمته..
فلم يتبق إلا أن يمد المدعوون أيديهم إلى هذه الموائد، وأن ينالوا منها ما يشتهون..
ومن عظيم لطف لله بعباده، وسابغ برّه بهم، وسعة رحمته لهم، أن لقيهم، وهم على طريق الضلال، وبين مراعى الإثم والمعصية، وأراهم منه- سبحانه- ما بين يديه من رحمة ومغفرة، وأنهم مع ما هم فيه من محاربة له، وعصيان لأمره، واعتداء على حرماته- لا يزالون من عباده، الذين لا تغلق دونهم أبوابه، ولا تحجب عنهم رحمته- ذلك كله قبل أن يطلب- سبحانه وتعالى- إليهم أن يرجعوا إليه، وأن يلقوا الأسلحة التي يحاربونها بها.. إنهم(12/1181)
على ما هم عليه عباده، وأبوابه لن تغلق دونهم، ورحمته لن تحجب عنهم، ماداموا فى هذه الدنيا..
ألا خسىء من لا يستحى من ربه، فيظل قائما على حربه، على حين يبسط إليه ربه يده، ويظلله بربوبيته، ويمده بنعمه وفضله! فقوله تعالى: «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» - هو رحمة من رحمة الله، وإفساح لطريق النجاة، بالعودة إلى الله والمصالحة معه، فى أية لحظة من لحظات الحياة، قبل أن تدنو ساعة الموت، وينقطع العمل، وينتقل الإنسان إلى الدار الآخرة بما مات عليه فى الدنيا..
وعندئذ ينزل الإنسان منزله فى الآخرة، بآخر منزل كان عليه فى الدنيا..
«فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» (88- الواقعة) .
قوله تعالى:
«وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» .
أحسن ما أنزل إلى العباد من الله، هو كلمات الله، وهى القرآن الكريم.. فقد أنزل إلى العباد من الله نعم كثيرة، وخيرات موفورة، وأرزاق لا تحصى، ولكن أحسن ما أنزل إليهم من هذه النعم وتلك الخيرات، وهذه الأرزاق، هو هذا الكتاب، الذي به يعرف الإنسان قدر هذه النعم، وطعم هذه الخيرات.. فهو الميزان العدل الذي يقيم هذه النعم وتلك الخيرات على طريق الحق والإحسان، وبغير هذا الميزان تتحول هذه(12/1182)
النعم إلى نقم فى يد أصحابها، تفسد عليهم وجودهم، وتحرمهم الثمرة الطيبة المرجوّة منها.
وفى قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» ..
إشارة إلى المبادرة بالرّجوع إلى الله، والتخلّي الفوري عن مشاعر الإمهال والتسويف، من يوم إلى يوم، إذ لا يدرى المرء متى يحين حينه، ويأتيه أجله.. فقد يؤخّر المرء التوبة إلى غد، ثم لا يأتى الغد إلّا وهو فى عالم الموتى. وقد يؤخر التوبة من صبح يومه إلى مسائه، فلا يكون فى المساء بين الأحياء. فالمراد بإتيان العذاب هنا، هو وقوع الموت بالعصاة والمذنبين قبل التوبة.. فإتيان الموت لهم وهم على تلك الحال، إتيان بالعذاب الذي يبدأ دخولهم فيه منذ لحظة الموت.. وهنا تكون الحسرة والندامة، حيث لا تنفع حسرة، ولا نجدى ندامة! .. وهذا ما يشير إليه- قوله تعالى:
«أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .
فهذه مقولات ثلاث، للذين أدركهم الموت وهم على كفرهم وضلالهم..
وهى بدل من قوله تعالى: «أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ» .. أي واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تقولوا فى حسرة وندم هذه المقولات..
وكل مقولة من هذه المقولات الثلاث، يقولها الكافر الضال، فى مرحلة من مراحل الآخرة.. من الموت.. إلى البعث.. إلى الحساب والجزاء..(12/1183)
فعند الموت، يرى أهل الضلال مصيرهم المشئوم الذين هم صائرون إليه، فيعرف الضالّ منهم أنه كان من أمره على ضلال، فيقول: «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ» .
والتفريط، معناه: التقصير، وجنب الله: هو ما لله، وما ينبغى له من طاعة وولاء من عباده.. و «إن» هى المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة..
أي وإنى كنت لمن الخاسرين، إذ بصّرت فلم أبصر، وجاءنى الهدى، فلم هتد، وقد اهتدى الناس وضللت، وربح المؤمنون وخسرت..
والمقولة الثانية، وهى قوله: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» يقولها عند ما يبعث من قبره، ويساق إلى المحشر.. حيث يأخذ مكانا ضيقا بين المجرمين، على حين يرى أهل الإيمان والإحسان فى سعة، فى موكب كريم، تحفّ به البشريات من كل جانب..
والمقولة الثالثة.. يقولها حين يرى العذاب، ويساق إليه، فيقول:
«لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً 9 فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ..؟
و «لو» هنا للتمنّى: حيث يفزع أهل النار إلى هذه الأمانىّ الباطلة، قائلين: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» (37: فاطر) .
قوله تعالى:
«بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» هو جواب على سؤال، مقدّر، هو والسؤال ردّ على هذا الذي يتمناه الضالّ يوم القيامة، من العودة إلى الحياة الدنيا، ليؤمن بالله، ويكون من المهتدين..
والسؤال المقدّر هو: «ألم يأتك رسولى؟ ألم يسمعك الرسول كلامى؟(12/1184)
ألم يتل عليك آياتي؟ «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي.. فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» .. فما لك تطلب العودة إلى الدنيا مرة أخرى؟ وهل تكون فى هذه المرة على حال غير حالك الأولى؟ إنك لن تكون من المهتدين أبدا.. إنك من أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (28: الأنعام) .
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» .
ما أشأم هذا الإنسان الذي يدعى من ربّه بهذا النداء الكريم:
«يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .. ثم لا يستجيب لهذا النداء، ولا يحثّ الخطا إلى ربّه، ثم يظلّ جامدا فى مكانه، مسرفا على نفسه فى مواقع الضلال، حتى تطوى صفحته من هذه الدنيا، ثم إذا هو يساق إلى جهنّم، لتكون له مأوى، يذوق فيه العذاب طعوما وألوانا! وقوله تعالى: «ترى» بمعنى تبصر، فالرؤية رؤية بصرية، لا علمية وقوله تعالى: «وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» جملة من مبتدأ وخبر، وقعت حالا من الاسم الموصول «الذين» أي تبصرهم يوم القيامة، وهم على تلك الحال:
«وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» .
واسوداد الوجوه، كناية عن الكرب العظيم الذي أحاط بهؤلاء الكافرين، إذ كانت الوجوه هى الصفحة التي يبدو عليها ما يجرى فى كيان الإنسان، من مشاعر وعواطف وأحاسيس، سواء أكان فى حال نعيم، ومسرة،(12/1185)
ورضوان، أم كان فى حال بلاء، ونكد، وشقاء! وقوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» .. استفهام يراد به الخبر على جهة التقرير والتوكيد.. أي إن فى جهنم مأوى ومنزلا لكل متكّبر كافر بالله..
قوله تعالى:
«وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» المفازة: الطريق المخوف، الذي يجتازه المنتقل من مكان إلى مكان، وسمّى مفازة على سبيل التفاؤل، كما يقال للملدوغ. السليم.
ويذهب المفسّرون إلى أن «بمفازتهم» جار ومجرور متعلق بالفعل «ينجّى» على تقدير أن المفازة بمعنى الفوز، والباء للسببية.. أي بسبب فوزهم..
ويكون المعنى: وينجى الله الذين اتقوا بهذا الفوز الذي حصلوا عليه فى الآخرة..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن متعلق الجار والمجرور هو قوله تعالى:
«وينجى» ولكن وتبقى المفازة على معناها الذي صار حقيقة لغوية عليها، والباء للملابسة.. ويكون المعنى: وينجى الله الذين اتقوا وهم ملتبسون بهذه المفازة، سائرون فى هذا الطريق المحفوف بالمخاطر «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» حيث تحرسهم عناية الله، وتحفّ بهم ألطافه.. «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» على فائت فاتهم من أمر الدنيا..
ويجوز كذلك- والله أعلم- أن يتعلق الجار والمجرور بقوله تعالى:
«لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» ويكون المعنى: وينجى الله الذين اتقوا، لا يمسهم السوء وهم بمفازتهم التي يجتازونها إلى موقف الحساب والجزاء، ولا هم يحزنون(12/1186)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
على فائت، إذا هم رأوا ما أعدّ الله لهم من نعيم ورضوان، فى جنة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين..
الآيات: (62- 66) [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنّها تذكّر بالله، وتكشف عمّا له سبحانه وتعالى من كمال وجلال، ومن ملك وسلطان، وذلك بعد أن كانت الآية السابقة دعوة إلى الله، وتحذيرا للكافرين والضالين من عذاب الله، وما تكون عليه حالهم فى الآخرة، من الندم والحسرة، وسوء المصير..
ألا فليذكر هؤلاء الكافرون بالله، الذين لم يفتحوا آذانهم وعقولهم إلى ندائه الكريم الرحيم: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ(12/1187)
رَحْمَةِ اللَّهِ»
- ألا فليذكروا أن الله هو خالق كل شىء، وقائم على كل نفس بما كسبت، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.. فمن ولّى وجهه إلى غير الله، فقد خاب وخسر، وأورد نفسه موارد الهلاك.. وهذا ما يشير إليه:
قوله تعالى:
«لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
ومقاليد السموات والأرض: أزمّتها التي تقاد منها، كما يقاد الحيوان من عنقه، وهو موضع القلادة.. وهذا تشبيه وتمثيل، يراد به خضوع السموات والأرض لله، وانقيادهما لقدرته..
قوله تعالى:
«قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» .
هو تعقيب على هذا العرض الذي كشفت فيه الآيتان السابقتان عن بعض ما لله سبحانه من سلطان مطلق فى هذا الوجود، لا يملك أحد معه مثقال ذرّة منه..
وهذا التعقيب هو وإن كان تلقينا من الله سبحانه وتعالى لنبيه- صلوات الله وسلامه عليه- إلا أنه دعوة العقل، تلتقى مع أمر الله!.
فالعقل بمنطقه، لا يجد أمام هذا العرض لقدرة الله، وبين يدى تلك الدلائل الدالة على وحدانيته- لا يجد إلا الإذعان لله، والولاء له، وإخلاص العبادة له وحده، غير ملتفت إلى ما يدعو إليه أهل الجهالة والضلالة، من عبادة ما يعبدون من ضلالات..(12/1188)
والاستفهام إنكارى.. والأمر ليس أمرا على حقيقته، وإنما هو دعوة من دعوات الضالين للنبى بعبادة غير الله، وذلك بإنكارهم عليه أن يعبد الله.. ومفهوم المخالفة لهذا الإنكار، هو أن يعبد غير الله..
وفى قوله تعالى: «أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» توبيخ لهؤلاء الداعين إلى عبادة غير الله، وفضح للداء الذي أوقعهم فيما هم فيه من ضلال، وهو الجهل..
فلو أنهم كانوا على شىء من العلم، لما ركبوا هذا الطريق المظلم، وبين يديهم طريق مستقيم مضىء.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» هو تشنيع على الشرك، وعلى ما يحيق بالمشركين من غضب الله ونقمته، وأنه أمر إن وقع فيه أحد، فلا شفاعة له عند الله- حتى ولو فرض- وهو مستحيل- إن كان الذي يشرك بالله، من أقرب المقربين إلى الله، وهم أنبياء الله، أو كان من أكرم خلق الله على الله، وهو رسول الله! قوله تعالى:
«بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
هو تأمين على ما قررته الآية السابقة، وتوكيد لما حملت من إنكار على الكافرين دعوتهم النبىّ إلى عبادة غير الله.. فهم يدعون النبي إلى عبادة غير الله، والله سبحانه وتعالى يدعوه إلى عبادته.. وفى هذا إبطال لدعوة المشركين، وإهدار لها..
وفى الجمع بين العبادة والشكر، إشارة إلى أن هذه العبادة ليست عبادة قهر وقسر، بل هى عبادة حمد وشكر، وولاء، وحبّ لله سبحانه وتعالى، الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى..(12/1189)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قوله تعالى:
«وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» ..
أي أن هؤلاء الذين كفروا بالله، إنما كفروا به لأنهم لم يتعرفوا إليه، ولم يعرفوا بعض كمالاته، وصفاته..!
وقوله تعالى: «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» - جملة حالية، من لفظ الجلالة، أي أن هؤلاء الكافرين لم يقدروا الله حق قدره، والحال أن الأرض تكون فى قبضته يوم القيامة، فأنّى لهم المهرب من حسابه وعقابه؟.
وقوله تعالى: «وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» حال أخرى معطوف على قوله تعالى: «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. وطىّ السماء بيمين الله سبحانه وتعالى، هو استجابتها لقدرته، وخضوعها لسلطانه، يطويها وينشرها، كما شاء سبحانه.. ومثل هذا قوله تعالى: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» (104: الأنبياء) .
وقوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. هو ردّ المؤمنين على الكافرين، والضالين، الذين لم يقدروا الله حق قدره، فأشركوا به، وجعلوا ولاءهم لغيره.. والمؤمنون- وقد قدروا الله حق قدره- ينزّهون الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له شركاء، وينكرون على المشركين ما هم فيه من ضلال، وكفر بالله.
الآيات: (68- 75) [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 75]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)(12/1190)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» .
تحدّث هذه الآية والآيات التي بعدها إلى آخر السورة، عن مشاهد القيامة، وإرهاصاتها، وما يلقى الكافرون من بلاء وعذاب، وما يستقبل به المؤمنون من حفاوة وتكريم وترحيب، فى جنات النعيم..(12/1191)
والصور: هو البوق الذي ينفخ فيه، كنذير بإعلان حرب، أو وقوع غارة، ونحو هذا.. وأصله من الصّوار، وهو قرن الحيوان، وقد كان البوق يتخذ عادة من قرن ثور، أو وعل أو نحوهما.. والصوار أعلى الشيء، وجمعه صوار، ومؤنثه صارية..
والنفخ فى الصور من قبل الله سبحانه وتعالى، هو الأمر الذي يصدر منه سبحانه، إلى ما يشاء من عالم الخلق، فيستجيب له من وقع عليه الأمر، بلا تردد أو مهل.. ولهذا شبه الأمر بالنفخ فى الصور، حيث يفزع كل من سمع النفخة، فيخفّ مسرعا، متخليا عن كل شىء، ليتوقى هذا الخطر الداهم..
والصعق: حال من الفزع تعترى الكائن الحي، فتشلّ حركته، وتهدّ كيانه، أشبه بما يكون من صعقة الصاعقة، ومسة الكهرباء..
وقوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» هو إشارة إلى النفخة الأولى، وهى نفخة الموت.. ففى هذه النفخة يصعق، أي يموت، من فى السموات والأرض من عالم الأحياء..
وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» - هو استثناء لمن لا تقع عليهم هذه الصعقة، أي الذين لا يقضى بموتهم فيها، أو الذين لا تمسهم زلزلة منها..
والسؤال هنا هو: هل العالم العلوي مشترك مع العالم الإنسانى فى هذا الذي يجرى على الناس، من موت، وبعث، وحساب وجزاء؟.
وإذا لم يكن مشتركا مع العالم البشرى، فكيف يصعق من فى السموات؟
وما تأويل قوله تعالى: «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؟» .(12/1192)
والجواب على هذا- والله أعلم- أن القيامة وأهوالها، وما فيها من حساب وجنة، ونار، هى مما يقع على أبناء آدم وحدهم، على تلك الصورة التي جاءت بها الكتب السماوية، وأنذر بها رسل الله أقوامهم، الذين أرسلوا إليهم..
وقد تكون هناك أحوال للعوالم الأخرى، ولكن ليس من شأننا أن نبحث عنها، أو نشغل بها، إذ كان لا يعنينا من أمرها شىء، سواء أوقعت أو لم تقع، وسواء أوقعت على تلك الصورة، أو غيرها..
وإذن، فإن كل ما تحدث به القرآن الكريم مما يتصل بالموت، والبعث، والحساب، والجزاء، هو مما يتصل بعالمنا نحن، لا يتجاوزه إلى العوالم الأخرى..
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» - هو مقصور على أبناء آدم، وما يتصل بهم فى عالمهم الأرضىّ..
وقد تحدث القرآن الكريم عن أن لأبناء آدم صلة بالسماء، وأن النفس الإنسانية هى من العالم العلوي، وأنها حين تفارق الجسد لا تموت بموته، بل تلحق بعالمها العلوي، وتأخذ مكانها فيه..
فالموتى من بنى آدم، إذ تكون أجسامهم فى عالم التراب، تكون نفوسهم فى السماء، أو العالم العلوي.. وإنه حين ينفخ فى الصور نفخة الموت العام لأبناء آدم، يفزع ويصعق من فى السموات ومن فى الأرض.. أما من فى السموات، فهم الناس فى أرواحهم ونفوسهم تلك التي سبقت إلى العالم العلوي، وأما من فى الأرض، فهم الذين كانوا لا يزالون فى عالم الأحياء لم يموتوا بعد، فتدركهم النفخة، فيصعقون ويموتون.. وأما الصعقة التي تقع على الأرواح والنفوس، فهى صعقة فزع، وخوف من لقاء هذا الوعد، يوم الحساب والجزاء الذي كانت هذه الصعقة إرهاصا بقرب موعده..(12/1193)
ويكون قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» استثناء واقعا على نفوس الأخيار المصطفين من عباد الله، وأوّلهم رسله، وأنبياؤه وأولياؤه، حيث لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون..
وقوله تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» - هو إشارة إلى نفخة البعث، بعد نفخة الموت..
وقوله تعالى: «فإذا» - للمفاجأة.. أي أن هذا البعث يجىء على فجاءة، دون أن يعلم أحد موعده..
وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» - إشارة إلى أن البعث يقع للناس جميعا فى لحظة واحدة، حيث يولدون جميعا ميلادا كاملا، على صورة كاملة..
يجد فيها كل إنسان حواسّه ومدركاته، ووجوده كله.
قوله تعالى:
«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» وإشراق الأرض بنور ربها، هو تجلّى الله سبحانه وتعالى عليها في هذا اليوم، يوم القيامة، حيث يعرض الناس على ربهم للحساب والجزاء..
وقوله تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أي الكتاب الذي سجلت فيه أعمال الناس، حيث يرى الناس أعمالهم، ويأخذ كل إنسان كتابه من هذا الكتاب..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) وقوله تعالى:
«وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13: الإسراء) وقوله تعالى: «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» .. أي دعى النبيون ليحضروا(12/1194)
محاسبة أقوامهم، وليشهدوا على ما كان منهم، من إيمان أو كفر..
وفى هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (1: 7 الإسراء) .
ويقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) .
والشهداء: هم الذين يشهدون على الناس، من أنبياء وملائكة، وعلماء وهداة، ودعاة إلى الله، وكذلك ما فى كيان كل إنسان من أعضاء، تشهد عليه، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) وكما يقول سبحانه: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» (21 ق) .
والصورة تمثل محكمة عليا تقضى بين الناس، وتحدد لكل إنسان مصيره الذي هو صائر إليه.. والقائم على هذه المحكمة، هو أحكم الحاكمين رب العالمين..
والكتاب هو صحيفة الدعوى، والأنبياء والشهداء هم الشهود.. والمحامون، هم المحاكمون، والمحاسبون، كما يقول الله سبحانه: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» (111: النحل) .
ثم بعد هذا تصدر الأحكام من رب الأرباب: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
قوله تعالى:
«وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ» .
هو تعقيب على هذه المحاكمة، وأن كل نفس قد قضى لها أو عليها بالحق والعدل، وفّيت جزاء ما عملت من خير أو شر.(12/1195)
وقوله تعالى: «وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ» - احتراس من أن يقع فى الوهم أن هذه المحاكمة التي أحضر فيها الكتاب، واستدعى لها الشهود، قد جاءت على هذه الصورة لتكشف عن أعمال الناس، وكلّا، فإن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما يعملون، لا تخفى على الله منهم خافية.. ولكن ذلك ليرى الناس بأعينهم ما كان منهم، وليحاكموا أنفسهم، وليشهدوا عدل الله المطلق فيما أجرى عليهم من أحكام! قوله تعالى:
«وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً.. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا.. قالُوا بَلى.. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» .
وإذا قضى بين الناس بالحق، وعرف كل إنسان ما قضى به الله سبحانه وتعالى فيه، وامتاز أصحاب النار من أصحاب الجنة- عندئذ يساق الكافرون إلى جهنم زمرا، أي جماعات.. كل جماعة تنزل منزلها المعدّ لهم فى جهنم..
وكلما وصل فوج إلى جهنم فتحت أبوابها، فيلقاهم خزنتها سائلين فى لوم وتوبيخ: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟» فلا يجد الكافرون إلا أن يقولوا فى حسرة، وندم، وذلة:
«بَلى.. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» أي بلى قد جاءت رسل ربّنا، وتلوا علينا آياته، ولكن حقّ علينا قضاء الله فينا أن نكون من أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: «فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ» (31: الصافات) .
وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» .. إشارة إلى(12/1196)
أن هذه الأبواب مغلقة على من فيها، وأنها لا تفتح إلا عند ورود فوج من الأفواج المساقين إليها، وكلما دخل فوج أغلقت عليه أبوابها، فإذا جاء فوج جديد فتحت له، ثم أغلقت عليه.. وهكذا.. إنها سجن مطبق على من بداخله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» (8- 9 الهمزة) وفى إقامة الظاهر، مقام المضمر فى قولهم، «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» بدلا من أن يقولوا: ولكن حقت كلمة العذاب علينا- فى هذا إشارة إلى أنّهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر، بعد أن رأوا بأعينهم صحائف أعمالهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: َ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»
(130: الأنعام) .
قوله تعالى:
«قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» .
هو تعقيب على جواب الكافرين عن سؤال خزنة جهنم لهم، حين سألوهم هذا السؤال:
«أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» فكان جوابهم: بلى! وكان التعقيب على هذا الجواب:
«ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» ..
وفى قوله تعالى: «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» بدلا من أن يقال: ادخلوا جهنم كما هو الواقع فعلا- فى هذا إشارة إلى أن لأبواب قطعة من جهنم، وأن الذي يدخلها، إنما هو فى جهنم فعلا.
وقوله تعالى: «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» بيان للداء الذي كان منه(12/1197)
كفرهم، وهو الاستكبار، والاستعلاء، عن أن ينقادوا للحق، وأن يذعنوا للآيات البينات منه.
والمثوى: المنزل، والمقرّ الذي يستقر فيه الإنسان..
قوله تعالى:
«وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» .
عبّر عن السّير بالمتقين إلى الجنة، بالسّوق، كما عبّر به عن دفع الكافرين إلى جهنم، وذلك للمشاكلة بينهم فى الحال التي كانوا عليها فى موضع الحساب، وأنه لم يكن يدرى أحد منهم ما الله صانع به، حتى إذا حوسبوا جميعا، ولم يبرحوا الموقف بعد، انقسموا إلى فريقين، كل فريق يأخذ اتجاها لا يدرى ما هو.. فهذا يساق، وذاك يساق.. ولا يعلم أحد إلى أين المساق..
ثم ينكشف الحال، فإذا الكافرون إلى جهنم، وبين يدى أبوابها، وإذا المؤمنون المتقون إلى الجنّة، وعلى مشارف ظلالها.. وفى هذا مضاعفة للسرور الذي يلقاهم بهذا الفوز العظيم بعد أن ذهبت بهم الظنون.. كل مذهب.
وفى قوله تعالى: «وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» الواو هنا واو الحال، والجملة حال من فاعل جاءوها، على تقدير الحرف «قد» أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها، وهذا يعنى أنهم يجدون أبوابها مفتحة لهم، كما يقول سبحانه وتعالى: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» (50: ص) .
فهم لا يقفون عند أبواب الجنة، بل يمضون إلى حيث أراد الله لهم من نعيمه ورضوانه.. ويلقاهم عند هذه الأبواب خزنة الجنة وحرّاسها، وحجابها، رسلا من الله، لاستقبال ضيوفه، والترحيب بهم، قائلين لهم:(12/1198)
«سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ.. فَادْخُلُوها خالِدِينَ» أي لكم سلام من الله.. طبتم وطهرتم من كل دنس، فاهنئوا بهذا المقام الطيب، الذي لا يحلّ به إلا كل طيب.
وجواب إذا محذوف، دل عليه السياق، وتقديره: حتى إذا جاءوها وقد فتحت لهم أبوابها وتلقوا هذه التحية الطيبة من ملائكة الرحمن، ودخلوا الجنة- وجدوا ما لا يستطيع وصفه الواصفون من نعيم ورضوان..
قوله تعالى:
«وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» .
هو معطوف على جواب «إذا» المحذوف، أي حتى إذا دخلوا الجنة، بهرهم هذا النعيم الذي لم يكن يخطر لهم على بال، وقالوا بلسان الحمد والشكران: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء.
والوعد الذي صدقهم الله إياه، هو ما وعدهم على لسان رسله، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ» .. وهذا الوعد هو ما وعد الله به المؤمنين من جنات ونعيم فى الآخرة كما يقول سبحانه:
«وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (72: التوبة) وقوله تعالى: «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» .. الأرض هنا هى أرض الحياة الدنيا، وميراثها هو التمكين منها والانتفاع بها.. والمؤمنون أيّا كان حظهم من هذه الدنيا- هم الوارثون لهذه الدنيا، لأنهم هم الذين قطفوا أطيب ثمراتها، وهو الإيمان بالله، والعمل الصالح.. أما ما أخذه غيرهم من(12/1199)
أهل الكفر والضلال، فهو- وإن كثر- لا وزن له، ولا نفع لهم منه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» (55: النور) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (105 الأنبياء) .. فالمؤمنون بالله، هم ورثة هذه الأرض، وهم خلفاء الله عليها.. أما غيرهم فهمل لا حساب له..
وقوله تعالى: «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» أي ننزل من الجنة حيث نشاء، غير مضيّق علينا بحدود أو قيود فيها.. والجملة معطوفة على محذوف، أي الحمد لله الذي أورثنا الأرض فى الدنيا، وأورثنا الجنة فى الآخرة نقبوا منها حيث نشاء..
وقوله تعالى: «فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» .. هو تعقيب على ما لهج به أصحاب الجنة من حمد الله، ومن التحدث بما أفاض عليهم من نعم فى الدنيا والآخرة..
وهذا التعقيب، قد يكون من الملائكة، الذي شهدوا حمدهم وتسبيحهم، وقد يكون بلسان الحال، فهو منطق كل من يرى هذا النعيم، وما يساق إلى أهله منه، مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين..
قوله تعالى:
«وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
الخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه- وهو بعد هذا خطاب لكل من يشهد موقف القيامة.. ففى هذا اليوم يرى الناس الملائكة، وقد حفّوا بعرش الرحمن، يسبحون بحمد ربّهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:(12/1200)
«وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» (17: الحاقة) وقوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (22: الفجر) وهذه حال لا يمكن أن نتصورها فى عالمنا الحسّى، وعلينا أن نصدّق بوقوعها، على أية صورة تقع، دون أن نطلب الصورة التي تقع عليها، فهذا ما لا يمكن أن تبلغه مدركاتنا، أو تتمثله خواطرنا.
وقوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» .. أي وقضى بين الناس بالحق، فى هذا اليوم، فلم تظلم نفس مثقال ذرّة.
وقوله تعالى: «وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. هو قول الوجود كلّه، ومعهم أهل المحشر من أصحاب الجنة، وأصحاب النار، فقد كان القضاء قضاء عادلا عدلا مطلقا، فلم يؤخذ أحد بجريرة لم يقترفها، ولم يدن أحد بشهادة زور..(12/1201)
40- سورة غافر
وتسمّى سورة المؤمن نزولها: مكية.
عدد آياتها: خمس وثمانون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائة وتسع وتسعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كان فيما اشتملت عليه سورة «الزمر» قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ. أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .. ثم كان ختامها القضاء والفصل بين الناس، وإنزال الكافرين منازلهم من النار، وإنزال المؤمنين منازلهم من الجنة..
وبدء هذه السورة- غافر- يلقى الناس جميعا، بعد أن شهدوا الحساب والجزاء، ورأوا جزاء المحسنين، والمسيئين- يلقاهم بكتاب الله، الذي هو هداية كل ضال، ومنارة كل سالك إلى طريق النجاة، ثم يلقاهم مع كتاب الله بغفران الله ورحمته، وقبول توبة التائبين المنيبين إليه، وشدّة عقاب المحادّين له، المكذبين برسله.(12/1202)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
التفسير:
قوله تعالى: «حم» هذه أول سورة من سور الحواميم السّبع، وقد عدّها بعضهم ثمانى سور، وجعل الزّمر واحدة منهن، مع أنها لم تبدأ بالحاء والميم كما بدئن، وإنما بدئت بذكر الكتاب، والقرآن، كما بدئن، فكان ذلك قرينة على أنها واحدة منهن.
وأيّا كان، فإن هذا البدء بالحاء والميم لسبغ سور من القرآن، يجعل منهن وحدة واحدة، فى أسلوب النظم، وفى مضمونه.
وتسمى مجموعة هذه السور: «آل حم» أو «الحواميم» ويروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «آل حم ديباج القرآن» وقال ابن عباس: «إن لكل شىء لبابا ولباب القرآن آل حم..» ويروى عن ابن مسعود(12/1203)
أيضا: «إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت فى روضات أتانّق فيهن» .
قوله تعالى:
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي منزّل الكتاب، ومصدره، هو من الله العزيز العليم.. وكتاب يكون إلى الله نسبته، هو ما هو فى رفعة الشأن، وعلوّ المقام.. إنه كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته..
وفى وصف الله بالعزة والعلم، إشارة إلى بسطة سلطانه على الوجود، وتمكّنه من كل موجود، مع إحاطة علمه بكل شىء، فيعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
وفى الجمع بين العزة والعلم هنا، والجمع بين العزة والحكمة فى سورة الزمر- مراعاة للمقام هنا، وهناك..
ففى سورة «الزمر» ناسبت الحكمة دعوة النبي إلى التمسك بهذا الكتاب الحكيم، والاهتداء بهديه، وعبادة الله على ضوئه..
وهنا، ناسب العلم دعوة الناس إلى التوبة، والإقبال على الله بنية خالصة..
لأن الله يعلم ما تكن السرائر، وما تخفى الصدور..
قوله تعالى:
«غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» هو عرض لبعض صفات الله سبحانه وتعالى، إلى ما عرض فى الآية السابقة.. فمن صفاته سبحانه أنه «غافر الذنب» يغفر للمذنبين، الذين يدرءون بالحسنة، ذبوبهم، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود)(12/1204)
ومن صفاته سبحانه، أنه «قابل التوب» أي يقبل التائبين، ويتجاوز لهم عما كان منهم..
ومن صفاته سبحانه: أنه «شديد العقاب» .. أي أن عذابه للعاصين، والضالين، شديد، يلقى منه المعذبون الوبال والنكال..
فمع سعة رحمة الله، ومع سوابغ فضله وإحسانه، فإن عقابه شديد راصد..
فالرحمة والفضل والإحسان للمحسنين، والعذاب والنكال للضالين المكذبين..
وبهذا يعتدل ميزان العدل بين الناس.. فلا يسوى بين الأخيار والأشرار، بل ينزل كل من هؤلاء وهؤلاء منزله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» (28: ص) ومن صفاته سبحانه، أنه «ذو الطول» أي البأس والعزة والغلبة، فلا يفوته- سبحانه- مطلوب، ولا يدفع بأسه دافع.
ومن صفاته سبحانه: تفرده بالألوهة.. «لا إله إلا هو» لا إله غيره، ولا ربّ سواه..
ومن صفاته سبحانه: أن مصير كل شىء إليه.. منه البدء، وإليه المنتهى..
قوله تعالى:
«ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ» هذا الكتاب الذي نزل من الله العزيز العليم. هو نور من نور الله، وعلم من علم الله، وسلطان من سلطان الله، بحجته الساطعة، وآياته البينة- هذا الكتاب ما يجادل فيه أحد، إلا الذين كفروا.. فهم لظلام بصائرهم، وضلال عقولهم، ومرض قلوبهم، قد استغلق عليهم هذا الكتاب، فلم يهتدوا إلى ما من فيه(12/1205)
حق، فجعلوا يلقونه بالجدل، سخرية واستهزاء، لا طلبا لعلم، ولا التماسا لمعرفة.
وقوله تعالى: «فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ» - هو إحقار لشأن هؤلاء الكافرين المعاندين، ولما بين أيديهم من مال وسلطان.. والمراد بالذين كفروا هنا، المشركون.. وتقلبهم فى البلاد، هو تنقلهم فى تجاراتهم، إذ كانوا أصحاب تجارات، مع أهل الشام شمالا، ومع اليمن جنوبا.. فى رحلتى الشتاء والصيف..
قوله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» هو تهديد لهؤلاء المشركين بعذاب الله، الذي يقع بالضالين المكذبين.. فهم ليسوا أول من كذب بالله، فقد كذبت من قبلهم أقوام بعد أقوام.. كذبت قبلهم قوم نوح، وكذلك كذب الأحزاب من بعد قوم نوح.. «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» أي أرادت كل أمة من هذه الأمم الضالة، أن تلحق الأذى برسولها، أو أن تفتك به.. «وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» أي وأقبلوا بالباطل الذي معهم ليبطلوا به الحق الذي بين يدى النبي، ويقيموا لهذا الباطل حججا من السفه والضلال..فماذا كان مصيرهم؟ لقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
(40: العنكبوت) وقوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟» استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى هذا العذاب الشديد..
والأحزاب، هم جماعات الضالين المكذبين بالرسل، على اختلاف أزمانهم(12/1206)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وأوطانهم.. وسمّوا أحزابا، لأنهم تخزبوا على تكذيب رسلهم، واجتمعوا على الوقوف فى وجه دعوتهم، وسوق الأذى إليهم.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ.. أُولئِكَ الْأَحْزابُ» (12- 13: ص) قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ» حقت: أي وجبت، ولزمت وكلمة ربك: هى حكمه وقضاؤه، الذي قضى به على الكافرين، وهو أنهم أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى كثير من آيات الكتاب الكريم، مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140: النساء) وقوله سبحانه: «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً.»
(21- 22: النبأ) وقوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود)
الآيات: (7- 9) [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)(12/1207)
التفسير:
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت أهل الكفر والضلال، وربطت بينهم بتلك الجامعة التي تجمعهم على الباطل، لمحاربة الحق، والوقوف فى وجه دعاته، وأخذهم بالبأساء والضراء.. فهم أحزاب متناصرة على الشر، متساندة فى حجب الهدى عن أبصارهم..
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ.. الآية» عرض لجبهة الخير، وأرباب الهدى.. وأنهم أحزاب متناصرة على الحق، متعاونة على البر والتقوى، يأخذ بعضهم بيد بعضهم بيد بعض إلى ما يرضى الله، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه..
فالملائكة، وهم من عالم غير عالم البشر، تصلهم بالمؤمنين المتقين صلات وثيقة من المودة والألفة، وتجمعهم على طريق واحد، هو الطريق المتجه إلى الله..
وإذا كان الملائكة- وهم من عالم النور- أقرب إلى الله، وأدنى من رحمته ورضوانه- فإنهم يستغفرون ربهم للذين آمنوا، ويدعونه لهم، ويطلبون إليه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم الجنة مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، لينعموا جميعا بما ينعم به الملائكة،(12/1208)
وليكونوا رفقاء لهم فى الملأ الأعلى، يأنسون بهم، ويسعدون بصحبتهم..
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» - إشارة إلى أن الملائكة وهم أقرب المقربين إلى الله من خلقه، لا يقطعهم ذلك عن التسبيح بحمده، وهم فى أمن وعافية وسلام.. بل إنهم لأكثر خلق الله تسبيحا لله، وحمدا له، لأنه أعرف بجلاله وعظمته.
وفى قوله تعالى: «وَيُؤْمِنُونَ بِهِ» - إشارة إلى تلك الصلة الجامعة التي تصلهم بالمؤمنين، وهى الإيمان بالله.. ومن هنا كان دعاؤهم للمؤمنين، واستغفارهم له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (10: الحجرات) .. ويقول سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (71: التوبة) ..
وقد علّم الله المؤمنين أن يدعو بعضهم لبعض ويستغفر بعضهم لبعض، إذ يقول سبحانه على لسانهم كما علمهم: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (10: الحشر) .
وفى قوله تعالى: «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» هو من تسبيح الملائكة لله، ومن استمطارهم من واسع رحمته للمؤمنين.. فمن رحمة الله التي وسعت كل شىء، يطلب الملائكة الرحمة للمؤمنين، الذين تابوا واتبعوا سبيل الله بالإيمان به..
وفى قرن الرحمة بالعلم، إشارة إلى أن رحمة الله إنما تقع حيث علم الله موقعها من عباده..(12/1209)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» - إشارة إلى أنه لا يلحق بأهل الصلاح إلا الصالحون، وأنه لا نسب بينهم أوثق من هذا النسب، الذي يجمع بينهم فى جنات النعيم..
وقوله تعالى: «وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ» أي ادفع عنهم السيئات، وباعد بينهم وبينها، بالمغفرة، والمحو، حتى إذا حوسبوا لم يكن فى ميزان حسابهم ما يثقله من سيئات..
وقوله تعالى: «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» .. أي أن مغفرة السيئات والتجاوز عنها، إنما هو رحمة من رحمة الله الذي وسع كل شىء رحمة وعلما..
وقوله تعالى: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» - الإشارة إلى غفران السيئات والوقاية من شرها.. فمن وقى الشر فقد فاز فوزا عظيما، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) ..
الآيات: (10- 12) [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)(12/1210)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ» .
أي أنه حين يستغفر الملائكة ربّهم، ويطلبون إليه سبحانه، الرحمة للمؤمنين والتجاوز عن سيئاتهم، وإدخالهم الجنة هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم- إذ يفعل الملائكة كل هذا من أجل المؤمنين، فإنهم يلقون الكافرين بما يسوءهم، ويضاعف آلامهم، إذ ينادونهم بمالهم عند الله من مقت وطرد من رحمته، وأن مقت الله لهم أكبر من مقتهم هم لأنفسهم، حين دعوا إلى الإيمان، فلم يقبلوه، ولجّوا فيما هم فيه من كفر وضلال.. فهم بكفرهم، وبإعراضهم عن الإيمان قد مقتوا أنفسهم، وأبعدوها عن مواطن الخير، والله أشد مقتا، وإبعادا لهم من مواطن الخير..
قوله تعالى:
«قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» .
هو حكاية لمقولة من مقولات الكافرين، وهم فى النار، إذ يمنّون أنفسهم بالخروج من النار، وبالعودة إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا بالله، ويصلحوا ما أفسدوا من أمرهم..
وقوله تعالى: «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» - إشارة إلى الأدوار التي مرّ بها الإنسان،(12/1211)
وهى أربعة أدوار.. فقد كان ميّتا، قبل أن يخلق، ثم كان حيّا بعد أن خلق، ثم كان الموت، وكان البعث.. فهما موتان، وحياتان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ.. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. (28: البقرة) قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا.. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» .
الإشارة إلى هذا العذاب الذي يلقاه أهل الكفر والضلال فى جهنم، وأنه إنما كان بسبب كفرهم وعنادهم، وأنهم كانوا- فى دنياهم- «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ» أي إذا عرض عليهم الإيمان بإله واحد لا شريك له، كفروا، ولم يقبلوا هذا الإيمان.. «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ» أي إن جعل مع الله شركاء، قبلوا الإيمان على الصورة التي تجعل مع الله إلها مع هذه الآلهة التي يعبدونها.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (45: الزمر) .
وقوله تعالى: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» إشارة إلى أن الحكم المسلّط عليهم الآن، هو حكم الله، العلى الكبير، الذي لا يشاركه أحد فى علوّه، ومقامه، وسلطانه.. فإذا كان لآلهتهم التي أضافوها إلى الله، وأشركوها معه- إذا كان لهذه الآلهة شىء مع الله، فليطلبوا إليها هذا الذي يطلبون اليوم من الله.. وإنه لضلال فى منطقهم أن يشركوا آلهتهم مع الله فى الدنيا، ثم لا يشركوهم معه فى الآخرة، لينفذوهم من النار التي يساقون إليها..(12/1212)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
الآيات: (13- 20) [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 20]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
التفسير:
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» ..
هو لقاء مع الناس، بهذا العرض الكاشف لقدرة الله، وتفرّده بالخلق والأمر، بعد أن شهدوا صورا من مشاهد القيامة، وما يلقى المؤمنون من إحسان ورضوان، وما يلقى الكافرون من خزى وعذاب.. فمن كان من المؤمنين ازداد بهذا اللقاء إيمانا، وتمسكا بما هو فيه، من طاعة وهدى، ومن كان من أهل الكفر والضلال، فليطلب لنفسه النجاة والسلامة، وليعد إلى الله من(12/1213)
قريب.. فهذه هى الفرصة التي كان يتمناها أهل النار، ولا يجدون سبيلا إليها.
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» - إشارة إلى هذه الآيات التي كشفت عن أحوال الناس، وبينت لهم ما هم فيه من استقامة وعوج، فيعرف كلّ ما يأخذ وما يدع، مما هو خير له، وأصلح لشأنه..
وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» إشارة إلى ما يسوق الله سبحانه وتعالى إلى العباد من رزق، وأن خير هذا الرزق وأعظمه هو هذا الكتاب الكريم، الذي بين يدى هذا النبي الكريم..
وقوله تعالى: «وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» أي لا ينتفع بهذا الرزق، ولا يحصّل منه ثمرا طيبا إلا من يرجع إلى هذا الكتاب، ويعرض نفسه عليه، فيكون له فيه نظر واعتبار..
قوله تعالى:
«فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .
هو دعوة إلى المؤمنين أن يمضوا فى طريقهم الذي استقاموا فيه على عبادة الله، وعلى إخلاص العبودية له وحده، دون أن يلتفتوا إلى موقف هؤلاء الكافرين وإلى كراهيتهم لهذا الطريق أن يسلكه المؤمنون.
قوله تعالى:
«رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ» - خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هو، الله سبحانه وتعالى.. أي أن الله سبحانه وتعالى هو الكبير المتعال، ذو العرش والسلطان، المتفرد بهذا المقام العالي، والسلطان العظيم، لا يشاركه أحد، ولا ينازعه سلطان..
«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الروح، هو القرآن الكريم، وإلقاؤه: نزوله.. أي أن الله سبحانه هو الذي ينزل هذا القرآن(12/1214)
وحيا منه بأمره، على من يشاء من عباده، والمراد هنا، هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (52: الشورى) .
وقوله تعالى: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» أي لينذر الرسول الناس، «يَوْمَ التَّلاقِ» ، وهو يوم القيامة، الذي يكون فيه لقاء الله، للحساب والجزاء.
قوله تعالى:
«يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .
هو بيان ليوم التلاق، وهو يوم القيامة يوم هم بارزون» أي ظاهرون، ظاهرا وباطنا، قد انكشفت سرائرهم، وظهر مستورهم: «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» .. كما يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (18: الحاقة) .
والمراد ببروز الناس، وظهور حفاياهم فى هذا اليوم، هو ما يشهدون بأنفسهم مما انطوت عليه سرائرهم، وما أخفاه بعضهم عن بعض.. ففى هذا اليوم ينكشف كل مستور منهم، لهم، ولغيرهم، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (9: الطارق) .
أما علم الله سبحانه وتعالى، فهو علم كامل شامل، لا يحدّه زمان ولا مكان..
وقوله تعالى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» هو سؤال بلسان الحال، حيث يظهر سلطان الله عيانا لأهل الحشر، مؤمنهم وكافرهم.
وقوله تعالى: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» - هو جواب بلسان الحال أيضا..
حيث لا جواب غيره..(12/1215)
وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالوحدانية والقهر- إشارة إلى هاتين الصفتين اللتين يتجلى بهما الله سبحانه وتعالى فى هذا الموقف، حيث يتصاغر كل سلطان ويخفت كل صوت، ويذلّ كل جبار.، كما يقول سبحانه: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» (111: طه) .
قوله تعالى:
«الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ.. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
ومع تفرد الله سبحانه وتعالى فى هذا اليوم بالوحدانية المطلقة، والسلطان القاهر، فإنه سبحانه، لا يسلط سلطانه وقهره وجبروته على أحد من خلقه، بل إن عدله ليقوم إلى جانب قهره وجبروته، فلا يظلم أحدا، «لا ظلم اليوم» .. بل إن كل نفس بما كسبت رهينة.. «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .. لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه حساب أحد عن أحد، حتى يتصور أن يقع ظلم، أو خطأ فى حساب هذا الجمع العظيم من المحاسبين.: وهذا- والله أعلم- هو السر فى ذكر هذا القيد الوارد على نفى الظلم «لا ظلم اليوم» .. حيث هذه الحشود الكثيرة التي تحاسب فى هذا اليوم.. فإنه مع هذه الحشود من الأمم فى هذا اليوم، فإنها تحاسب حسابا سريعا، بلا معوّق.. إذ كان الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه كل شىء.. قبل الحساب، وأثناء الحساب، وبعد الحساب.
قوله تعالى:
«وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» .
هو خطاب للنبى الكريم بإنذار قومه، بما أوحى إليه عن يوم التلاق، وهو يوم الآزفة.. أي يوم الساعة الآزفة، أي القريبة.
وقوله تعالى: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» .(12/1216)
«إذ» ، ظرف.. بدل من يوم الآزفة.. والحناجر: جمع حنجرة، وهى الغلصمة فى أعلى الزور، والكاظم: المأخوذ من كظمه، أي من مخنقه.. يقال كظم القربة أي ربط فمها، ومنه كظم الغيظ: أي حبسه فى الصدر.
والمعنى: وأنذر الناس- أيها النبي- وحذرهم يوم القيامة وقد أزف، وهو يوم عظيم، تختنق فيه الأنفاس، وتضيق الصدور، وتجف القلوب وتضطرب، حتى لتبلغ القلوب الحناجر فى خفقها واضطرابها..
وقوله «كاظمين» حال من أصحاب القلوب.
وقوله تعالى: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» .. أي ليس للظالمين فى هذا اليوم العظيم، من صاحب أو صديق يعين، أو من شفيع تقبل شفاعته فيهم..
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ.. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .
خائنة الأعين: أي نظرة العين تكون عن خلسة، لا يراها الناس، ولا يعلم بها المنظور إليه.
وقوله تعالى: «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» هو تعليل لما فى الآية السابقة من وعيد للظالمين الذين أنذروا بيوم القيامة، وما فيه من أهوال، وأن الذي سيحاسبهم هناك هو الله سبحانه، الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون، لا تخفى عليهم منهم خافية، ولا يردّ عنهم بأسه أحد، ولا تقبل فيهم عنده شفاعة من أحد..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» أي أنه سبحانه- مع بأسه، وسلطانه(12/1217)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
لم يظلمهم، بل وفّاهم جزاء أعمالهم، ولم يظلموا مثقال ذرة، لأن الذي قضى بهذا الحكم فيهم، هو الله، والله لا يقضى إلا بالحق..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، لا يقضون بشىء، أي لا يحكمون بحق أو باطل..
لأن الذي يحكم، هو الذي يملك، وهم- أيّا كانوا- لا يملكون من الأمر شيئا «وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» (19: الانفطار) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» أي إن الله سبحانه، إذ يقضى فإنما يقضى عن علم..
وإذ كان السمع والبصر، هما المصدران لكل علم ومعرفة يحصّلها الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى هو «السميع» الذي إليه يرجع كل مسموع.. «البصير» الذي يردّ إليه كل ما يبصر.
الآيات: (21- 27) [سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 27]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)(12/1218)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» .
أي ما شأن هؤلاء المشركين، وكيف يقفون هذا الموقف العنادىّ الذي هم فيه مع النبي؟ ألم يعلموا ما أخذ الله به الظالمين قبلهم؟ وأ لم يسيروا فى الأرض، وينظروا كيف كانت عاقبة هؤلاء الظالمين، وكيف نزل بهم بلاء الله، وقد كانوا أقوى قوة من هؤلاء المشركين، وأكثر أثاثا ورئيا، وأعز سلطانا ونفرا؟
والآثار فى الأرض: التأثير فيها بالعمل فى وجوه العمران.. فيكون ذلك آثارا باقية بعدهم.. والواقي: المدافع، والحامى قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» «ذلك» - إشارة إلى هذا البلاء المهلك، الذي أخذ الله به الظالمين، وأنه بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم «بالبينات» أي بالآيات البينة المعجزة، فكذبوا بهذه الآيات، وكفروا بالله- فكان هذا الهلاك جزاء لهم على كفرهم..(12/1219)
وقوله تعالى: «إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» - إشارة إلى أن قوة هؤلاء الأقوياء، هى ضعف وخذلان، أمام قوة الله التي لا تدفع، وأن عذابه شديد لا يعدّ هذا العذاب الذي يسوقه الظالمون إلى ظالميهم، شيئا، بالنسبة إلى عذاب الله الذي يسوقه إليهم..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ» وهذا مثل من أمثلة الظالمين، الذين لو نظر هؤلاء المشركون إلى الوراء قليلا لرأوا صورتهم ممثلة فيهم.. فهم وفرعون على سواء فى الغطرسة، والكبر، والعناد..
والقرآن الكريم يجمع كثيرا فى قصصه، بين المشركين من قريش، وبين فرعون، لما بينهم وبينه من مشابه كثيرة، من كبر، وأنفة، وجاهلية مغرورة حمقاء..
والآيات البينات: هى المعجزات التي كانت مع موسى، من العصا، واليد..
والسلطان المبين: هو الاعجاز القاهر الذي بين يديه من هذه المعجزات..
هذا، «وقارون» وإن كان من قوم موسى، إلا أنه أضيف إلى فرعون، إذ كان على شاكلته، فى الاستعلاء، والطغيان..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» ..(12/1220)
أي أن فرعون وشيعته، حين استقبلوا هذه الآيات التي طلع بها موسى عليهم، لم يتوقفوا عندها، ولم ينظروا فيها، بل أسرعوا بهذا الاتهام الذي رموها به، فقالوا ساحر كذاب..
ثم إنه لما جمع فرعون السحرة، ليبطل بهم سحر موسى- كما زعم- والتقى موسى والسحرة، وأبطل كيدهم، فلم يملكوا إلا الإذعان للحق، والإيمان به- عندئذ لم يجد فرعون إلا أن يفزع إلى قوته وسلطانه، بعد أن سقطت حجته، وبطل اتهامه، فأقبل على من آمن بموسى من السحرة وغيرهم، يصبّ عليهم سياط النقمة والبلاء، فيقتل أبناءهم أمام أعينهم، ويستبيح حرماتهم باستحياء نسائهم، فلا يرعى لحرّة حرمة..
فقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا» إشارة إلى ظهور الحق عيانا لهم، بحيث لا تنفع معه المكابرة وقوله تعالى: «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» - إشارة إلى أن ما يكيد به الكافرون للمؤمنين، وما يأخذونهم به من ألوان البلاء والعذاب، هو من الأباطيل، التي لا يجد لها المؤمنون أثرا إلى جانب ما ملكوا من إيمان، هم معه فى عزة فى الدنيا، وسعادة وفوز برضوان الله فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان السحرة، بعد أن دخل الإيمان فى قلوبهم: «قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» (72- 73 طه) قوله تعالى:
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» .(12/1221)
فى الآية السابقة سلّط فرعون وهامان وقارون أعوانهم وجنودهم على المؤمنين، يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» .
أما موسى نفسه، فإن فرعون وحده، هو الذي سيتولى أمره، وذلك ليظهر للناس أنه القادر على ما عجزت عنه السحرة مجتمعين، وأنه إذا كان السحرة- وما معهم من سحر- قد خافوا موسى، وأسلموا له، فإن فرعون سيقتله قتلا، لا يخشى ما معه من سحر.. بل إنه لا يخشى ربه الذي يقول إنه رسول من عنده، وأن ربه هو الذي وضع بين يديه هذا الذي سحر الناس به! .. إنى سأقتله، فليلقنى بما معه من سحر، وليدع ربه ليخلصه من يدى.
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى» .. أي دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إننى أنا الذي سأتولى قتله..
والسؤال هنا: إن أحدا لم يعرض لفرعون، ولم يحل بينه وبين ما يريد فى موسى.. فما السر فى أن يقول هذا القول: «ذرونى» أي اتركوني؟
وهل أراد فرعون شيئا يفعله بموسى ثم عرض له أحد دونه؟ وهل يجرؤ أحد أن يعترض طريق فرعون إلى ما يريد؟.
ما السرّ إذن فى قوله هذا: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى» ؟.
الجواب- والله أعلم- أن هذا القول من فرعون يكشف عن خوف كان مستوليا عليه من موسى، ومن أن خطرا داهما يتهدده من جهته..
فلقد كان يعلم- بعد أن رأى ما رأى من المعجزات- أن موسى يستند إلى قوة لا قبل لأحد بها، وأنه لو أراد بموسى شرّا لما استطاع، ولأصابه(12/1222)
هو بلاء عظيم.. إنه كان على يقين بأن موسى على حق، ولكن الغطرسة، والكبر، وحب التسلط والسلطان- كل أولئك قد جعله يؤثر ما هو فيه من ضلال على هذا الحق الذي يدعى إليه..
فقول فرعون: «ذرونى أقتل موسى» - يشير إلى أن شيئا ما بداخله، يمسك به، وأن مشاعر خفية تلقاه بالتخويف والتحذير كلما هم أن يبطش بموسى، ويخلص من هذا الخطر الذي يتهدده منه ومن سحره.. وكأن فرعون بقوله:
«ذرونى أقتل موسى» إنما يتحدث إلى هذه المشاعر التي تغلّ يده، وتحول بينه وبين ما يشتهى من الانتقام من هذا العدو المخيف!.
وفى قوله: «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» ما يشير إلى هذا الخوف الذي يملأ كيان فرعون، أكثر مما يشير إلى الاستخفاف، وعدم المبالاة.
وفى قوله: «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» - ما يكشف عن وجه من وجوه المخاوف التي تعيش مع فرعون من جهة موسى.. ولهذا فإنه يريد أن يتحمل هذه المخاطرة، ويقدم على قتل موسى..
أيّا كان الثمن الذي يقدمه من أجل هذا.
قوله تعالى:
«وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ» .
هذا ما يلقى به موسى تهديد فرعون له بالقتل.. إنه يلوذ بحمى ربه من طغيان هذا الطاغية، فهو- سبحانه- القادر على أن يرد بأس هذا الجبار المتكبر، الذي لا يؤمن بالله، ولا يخشى حسابه وعقابه..(12/1223)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
وخطاب موسى فى قوله: «وربكم» - هو خطاب للمؤمنين، الذين يتهددهم فرعون كما يتهدده.. فهو بهذا يدعوهم إلى أن يعوذوا بالله من هذا الجبار- المتكبر، وأن يسلموا أمرهم إليه، وأن يصبروا على ما يلقون من أذى وضر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا» (128: الأعراف) .
الآيات: (28- 35) [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 35]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)(12/1224)
التفسير:
[مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟] ذكرنا فى سورة «يس» عند تفسير قوله تعالى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» - أن هذا الثالث يرجح- فى رأينا- أن يكون هو مؤمن آل فرعون، وأن موسى وهارون هما الاثنان المشار إليهما فى قوله تعالى: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما» ..
ونريد هنا أن نستشهد لذلك بما تحدث به هذه الآيات من أمر هذا العبد المؤمن من آل فرعون.. ففى الآيات دلالات كثيرة، تشير إلى أن هذا المؤمن، كان إلى جانب إيمانه، داعية يدعو إلى الله، معزّزا ومؤيدا الدعوة التي يدعو بها موسى وهرون..
ففى قوله تعالى:
«وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ.. وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» .
فى هذا ما يكشف عن وجه هذا المؤمن:
فهو- أولا- «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» .. أي من آل بيته، ومن الرؤوس(12/1225)
البارزة فى دولة فرعون.. فقد يكون أميرا، أو وزيرا، أو قائد جند..
ونحو هذا..
وهو- ثانيا- «يَكْتُمُ إِيمانَهُ» .. وكتمان الإيمان هنا، ليس عن ضعف أو خوف، حتى يحمل إيمانه على أنه كان مجرد إعجاب بموسى، وميل إلى الطريق الذي هو عليه، إذ لو كان غير منظور فيه إلى شىء آخر، لآمن كإيمان السحرة، ولما منعه بطش فرعون وجبروته أن يعلن هذا الإيمان، متحديا فرعون، مستخفّا بكل ما يلقى فى سبيل الحق، والجهر به.. وكلا.. فإن إيمان هذا المؤمن كان إيمانا راسخا وثيقا، قائما على اقتناع بلغ مبلغ اليقين القاطع.. وإنما كان كتمان هذا الإيمان عن سياسة حكيمة، وتدبير محكم..
كما سنرى..
فالرجل لم يكن يريد الإيمان لنفسه وحسب، بل إنه كان يريد أن يكون داعية لفرعون وقومه جميعا إلى الإيمان بالله.. ولو أنه أعلن إيمانه، وجاء إلى فرعون يدعوه إلى أن يؤمن كما آمن هو، لما استمع فرعون إلى كلمة منه، ولأخذته العزّة بالإثم، وأبى عليه كبره وعناده، أن ينقاد لداعية يدعوه إلى أي أمر، ولو فتح له أبواب السماء.. وهل أتى المكذبون برسل الله إلا من دعوة الرسل إلى متابعتهم، والإيمان بالإله الذي سبقوهم إلى الإيمان به؟ وهل كانت مقولة المكذبين برسل الله إلا ترجمة لهذه المشاعر، التي تملأ صدور المكذبين أنفة وكبرا أن يكونوا متابعين لغيرهم، مسبوقين غير سابقين؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هؤلاء المكذبين: «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» (24: المؤمنون) وقوله سبحانه: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (111: الشعراء) . وقوله جل شأنه على لسان فرعون: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» (47: المؤمنون) .(12/1226)
ثم ماذا لو أعلن الرجل المؤمن إيمانه، ثم جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان؟ أكان شأنه معه إلا كشأن موسى وهرون؟ بل إن موسى وهرون معهما من آيات الله المعجزة القاهرة ما يؤيد دعوتهما.. أما الرجل فلم يكن معه إلا منطق العقل، وحجة الكلمة.. وهل لفرعون عقل يقبل منطقا، أو أذن تصغى إلى حجة؟
لقد كان من تدبير الرجل المؤمن، وهو رجل سياسة وملك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه.. مجلس إبداء الرأى، وعرض النصيحة، فى معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها.. لا أكثر ولا أقلّ.. ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون أذنا تسمع، وعقلا يعقل.. وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأى الذي يخلص به من بين تلك الآراء.. إنه حينئذ يكون هو الذي يعطى الرأى ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!! ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- قد استطاع أن يعرض قضية الإيمان بالله، فى وضوح وجلاء، وأن يقدمها إلى فرعون فى جو هادىء، لا تعكر صفوء الأعاصير المحملة برجوم الردع والتحدّى..
وفى هذا يقول تعالى على لسان الرجل المؤمن:
«وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» .
إن فرعون وملأه يأتمرون بموسى ليقتلوه. وهم يعدّون التهمة التي يأخذونه بها. والتهمة عند فرعون، أن موسى يريد أن يبدّل دين القوم، وأن يفسد المجتمع، بما يثير فيه من فتنة وانقسام وفرقة، إزاء هذا الدين الجديد..
وهنا يبدى هذا الرجل المؤمن- وقد كتم إيمانه- يبدى رأيه، فيقول(12/1227)
وأية جناية جناها موسى؟ إنه يقول: ربّى الله.. هذا دينه الذي يدين به، ويدعو إليه، بلا قهر ولا قسر.. فهل هذه الدعوة تستوجب قتله وسفك دمه؟
لا أرى ذلك..!
ثم إن هذه القولة التي ينادى بها موسى، تستند إلى آيات بينات، قد رأيناها رأى العين، وقد بطل بها سحر الساحرين.. وهذا يعنى أنها من عند إله قوىّ فوق آلهتنا كلها.. فإذا آمن موسى بهذا الإله، وتلك حجته القاهرة بين يديه على قوة معبوده الذي يعبده- فهل نستحلّ لذلك دمه؟ «وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» الذي آمن به.. فهو يؤمن بإله له دليله عليه، ويدعو إلى عبادة إله وضع بين يديه الحجة التي تؤيد دعواه.. فكيف ندينه، وهو برىء؟
ثم ماذا لو تركناه وشأنه؟ إنه: «إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ» .. إنه يسير فى طريق اختاره لنفسه، فإن يهلك فلن يهلك إلا هو، وجنايته على نفسه وحده، لا تصيب أحدا غيره! ..
ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقا فيما يقول، وشواهد الصدق بادية فيما نرى.. فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا فى دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث.. فقد نجد فيها خيرا، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور.
وهل ثمة من بأس علينا إذا وجدنا خيرا فأخذنا بحظنا منه؟ أو رأينا هدى ونورا فاتجهنا نحو هذا الهدى والنور؟ «وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» .
إنه لا بأس إذن من أن ندع موسى، ولا نعرض لقتله وسفك دمه، سواء أخذنا بما يدعو به أو لم نأخذ.. فلندعه يمضى فى طريقه، فإن كان كاذبا مدّعيا فإنه لن يفلح أبدا.. فما كان الكذب مركبا إلا إلى البلاء وسوء المصير..
فكيف إذا كان يكذب على الله الذي يقول إنه رسول من عنده؟ «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» ..(12/1228)
ويمضى الرجل المؤمن فى عرض رأيه ومشورته، فيحذّر القوم من أن يقدموا على ما هم عازمون عليه، فى شأن موسى.. فقد يكون الرجل صادقا، ودلائل الصدق بادية فيما جاءهم به، وفيما حذرهم به من عذاب الله فى الآخرة.. فإن هم أنفذوا أمرهم فيه وقتلوه، أيتخلّى عنه ربه هذا الذي رأينا بعض قوته فيما جاءهم به موسى من عنده؟ فكيف تكون الحال إذا قتلناه.. وهذا ربه، وتلك قوته؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هذا المؤمن: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ.. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟» ونعم.. نحن أولو قوة قادرة، وملك عظيم، وسلطان ظاهر غالب.. هذا ما نحن فيه الآن..
ولكن أيكون لنا من كل هذا ما يدفع عنّا بأس هذا الإله القوى، ويحول بيننا وبين نقمته؟
هذا رأيى، وتلك نصيحتى للملك، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص، للملك، وللرعية..!!
وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته فى كتم إيمانه، أن يلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، فى غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ويطرق الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.. ثم تتحرك بعد ذلك شفاه، وتنطلق كلمات، تعلّق على هذا الحديث، بين آخذ به، ورادّ له.. ويدع فرعون القوم يجادل بعضهم بعضا، ويفنّد بعضهم مقولات بعض.. حتى إذا فرغوا مما عندهم: جاء(12/1229)
إليهم من عل، فى سلطانه، وما يحفّ به من جلال وهيبة، فيلقى إليهم بهذا الأمر الملكي:
«قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» .
إنه ليس لكم عندى فى هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» .. تلك هى كلمتى الأولى والأخيرة.. وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهبّ عليكم: «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» ! فهل تشكّون فى حمايتى، وحرصى على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟
وتؤذن هذه الكلمة بانفضاض مجلس المشورة، وما يكاد القوم يهمّون بالانصراف، حتى تمسك بهم نظرة من الرجل المؤمن، تريد أن تقول شيئا..
فيتلكأ بعضهم، ويهمّ آخرون، حتى إذا تكلم الرجل المؤمن، عاد المجلس إلى ما كان عليه..
وهنا يتابع الرجل المؤمن حديثه، ويصل ما انقطع منه، وكأنّ فرعون لم يقل شيئا، وكأن هذه الكلمة، ليست الكلمة الأخيرة فى هذا الأمر. وتخرج الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق..
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ.. يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا»(12/1230)
بهذا الإيمان الذي يملأ قلب المؤمن، يجد الرجل منطقا يتسع له مجال القول، وتتداعى إليه الأدلة والبراهين، وتنحلّ به عقد الخوف واللجلجة فى هذا المقام الرهيب!.
«يا قوم» بهذه الكلمة يمسك الرجل المؤمن جماعة المجلس حيث هم..
إنه يريد أن يقول شيئا، وإن قال فرعون كلمته، وأصدر حكمه! وما اعتاد القوم أن يسمعوا بعد حكم فرعون تعليقا ولا تعقيبا.. فماذا فى الأمر؟
ألا فليسمعوا.
«إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ» .. إن هذا الحكم الذي أصدره فرعون، وقال لهم فيهم: «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» هو حكم إن أخذوا به، لم يسلموا من عواقبه.. إن وراءه شرّا مستطيرا.. إنهم يدبرون ليقتلوا رسولا من رسل الله، وإن عندهم لخبرا عما حلّ بالأقوام الذين آذوا رسل الله من قبلهم.. فإن هم مضوا على ما هم فيه من إلحاق الأذى بموسى، فلن يسلموا من أن يحلّ بهم يوم كيوم هؤلاء الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود والدين من بعدهم. وإنه ليوم عسير، لقى فيهم المكذبون برسل الله الدمار والهلاك. ويلاحظ هنا أنّه سمّى يوم الأحزاب يوما، مع أنه أيام، إذ كان لكل قوم يومهم الذي لاقوا فيه هلاكهم، وذلك لأن جريمة القوم واحدة، والحكم الذي أخذوا به حكم واحد.. فكأنهم أدينوا فى يوم واحد، وإن تراحى الزمن بينهم، فى إيقاع الحكم الواقع على كل من هؤلاء الأقوام والدأب: الشأن، والحال..
هذا، ما أخذ به المكذبون برسل الله من عقاب فى الدنيا.. إنه الهلاك(12/1231)
الجماعى، والدّمار الشامل لكل ما عمّروا وجمعوا..
وهناك عذاب آخر أشدّ وأنكى، ينتظر هؤلاء المكذبين.. هو عذاب الآخرة..
«وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ..»
ويوم التّناد هو يوم القيامة، وهو اليوم الذي ينادى فيه الموتى من قبورهم، فإذا هم قيام ينظرون.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» (41- 42: ق) .
و «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» أي تلقون جهنم، فترتدون على أعقابكم، هلعا وفزعا.. ولكن لا عاصم لكم من أمر الله..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» . هو تعقيب على كلام الرجل المؤمن، وتصديق لما يقول.. نطق بذلك الحق، لسان الوجود كلّه..
ويمضى الرجل المؤمن يذكّر القوم، بنبىّ كريم، كان فيهم، هو يوسف عليه السلام.
«وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» ..
إن ليوسف عليه السلام شأنا، وذكرا، فى الحياة المصرية، وقد رأى القوم من آياته ما سمّوه من أجلها صدّيقا، فيقول له صاحب السجن:
«يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» (46: يوسف) .. ثم يرى منه فرعون والقوم معه(12/1232)
هذه المعجزة التي كشف بها عن حلم فرعون، والتي قرأ عليهم فيها من صحف الغيب ما سيطلع عليهم من أحداث.. ثم رأوا منه هذه الآيات المعجزة فى هذه التدبير المحكم الذي ساس به البلاد، وقاد به سفينتها إلى شاطىء الأمن والسلام، وهى فى متلاطم الأمواج العاتية، وقد كانت وشيكة أن يبتلعها اليمّ..
ذلك هو يوسف، وتلك هى آياته البينات التي رآها آباؤهم منه..
ومع هذا فقد كانوا فى شك منه.. بين مصدّق بدينه الذي يدعو إليه من عبادة الله الواحد القهار، وبين مكذّب متّهم له فيما عنده من علم، لا يتجاوز به فى تقديرهم أن يكون ساحرا عليما.. وهكذا يمضى القوم مع يوسف، حتى يهلك، دون أن يجتمعوا على رأى فيه.. فلما هلك يوسف، وأفلت من أيديهم هذا الخير الذي كان ينبغى أن ينالوه على يديه، تطلعوا إلى هذه الشمس الغاربة من أفقهم فى أسى وحسرة.. وانتظرا أن تطلع عليهم شمس أخرى فى صورة يوسف جديد.. فلما طال انتظارهم جيلا بعد جيل، استيأسوا وصرفوا أبصارهم عن ترقبه، وقالوا فى يأس وحسرة: «لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» ! وها هو ذا قد جاء الرسول، الذي كانوا يتطلعون إليه.. أفلا يرون فى موسى وجها كوجه يوسف، فيما يدعو إليه من عبادة إله واحد، وفيما بين يديه من آيات بينات؟ وأ يقفون من موسى موقف الشك والارتياب الذي وقفه آباؤهم من يوسف؟ ثم هل ينتظرون رسولا آخر بعد أن يمضى موسى؟.
ذلك هو الواقع الذي هم فيه الآن.. فماذا هم فاعلون؟ وإلى أىّ متجه يتجهون؟ أإلى الشك والارتياب؟ أم إلى التصديق والإيمان؟ ذلك لهم..
ولهم ما يشتهون!(12/1233)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ.. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا.. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» .. هو تعقيب على هذا الموقف الذي بين الرجل وبين القوم.. وهو حكم على فرعون وملائه أنهم لن يهتدوا، ولن يخرجوا عما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم فى ارتياب شديد مسرف، فأسلمهم الله سبحانه إلى ارتيابهم، وتركهم فى ظلمات يعمهون.. وإنهم ليجادلون فى آيات الله، وليس بين أيديهم سلطان من حقّ يجادلون به، وكل ما معهم هو باطل وضلال، يلقون به آيات الله..!
وقوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا» .. أي كبر مقتا وبغضا هذا الجدل بالباطل، عند الله سبحانه الذي يكره الباطل ويمقت المبطلين، وكذلك المؤمنون، يمقتون الباطل وأهله..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» .
أي بمثل هذا الطبع والختم على قلب المتكبرين والجبارين، من فرعون وقومه- يطبع الله على قلب كل متكبر جبار من أهل الشرك، الذين يلقون محمدا بالشك والارتياب والتكذيب! وهكذا ينفضّ المجلس، دون أن ينتهى القوم إلى رأى فى موسى، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، من هذا النذير الذي طلع عليهم به الرجل المؤمن.. الذي يكتم إيمانه!!
الآيات: (36- 46) [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 46]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)(12/1234)
التفسير:
وإذ ينفضّ المجلس الذي ضمّ فرعون وآله، ومنهم الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه- إذ ينفض المجلس على تلك الحال التي اضطرب فيها الرأى، ودارت برءوس القوم فيها عواصف البلبلة والحيرة- لم يجد فرعون طريقا يحفظ به ناموس سلطانه، ويستر به الحال التي استولت عليه من الرهبة والفزع إلا أن يلقى بهذا الأمر الطائش، يتخبط به كما يتخبط الغريق بين الأمواج..
«وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ(12/1235)
السَّماواتِ.. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى.. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً!» .
والأمر- كما ترى- هزل، ليس فيه شىء من الجدّ.. وإنما هو تكأة يتكىء بها فرعون على كرسىّ سلطانه الذي يكاد يسقط من فوقه! إذ كيف يبنى «هامان» صرحا يرتفع به إلى السماء؟ وفى كم من الزمن يتمّ بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعا، وكان محمولا على محمل الجدّ؟ وهل ينتظر فرعون بموسى هذا الزمن المتطاول حتى يتم بناء الصرح، ويصل به إلى أبواب السماء، ثم يطرقها، ويبحث عن إله موسى هناك؟ إنها مما حكات وتعلّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه فى قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون فى حينه بالامتثال والطاعة! وفى قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول.. فلقد أصدر حكمه على هذا الأمر الذي يريد التحقق منه، وهو أن موسى كاذب فيما يدعيه من أن له إلها فى عالم غير هذا العالم الأرضى الذي تفرد فيه فرعون بالألوهية! فما الداعي إلى التحقق من أمر واضح الكذب؟
وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» بيان للحال التي انتهى إليها أمر فرعون، وأنه مضى فى طريق الضلال إلى غايته.. فقد زين له بضلاله، واستكباره، سوء عمله هذا، فرآه حسنا، فمضى فيه، وصد عن سبيل الله، بما يحمل فى كيانه من أباطيل وضلالات. «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ» الذي يكيد به للمؤمنين «إلا فى تباب» أي فى فساد، وضياع..(12/1236)
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» لقد كشف الرجل المؤمن عن حاله، وأعلن ما كان يخفيه من إيمانه، وخرج عن سلطان فرعون، وانطلق يلقى الناس مواجهة بالدين الذي دان به، ويحاجّهم بمنطق الحق الذي استقام عليه..
وهذه المقولات التي يقولها الرجل المؤمن، هى خارج هذا المجلس الذي ضمه وفرعون والملأ من قبل.. إنه امتداد إلى خارج إلى هذا المجلس، حيث يلقاه الناس فى كل مجتمع وناد..
قوله تعالى:
«مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» هو مقولة من مقولات الرجل المؤمن، يعرض بها موازين الناس عند الإله.
الذي يدعوهم إليه.. إنه إله عادل، حكيم، عالم بكل شىء.. «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» .. إن عمله هذا مردود عليه، ومجزىّ به، مثقالا بمثقال «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» فالمحسن- من ذكر أو أنثى- لا يلقى جزاء الحسنة بمثلها وحسب، بل إنه يضاعف له الجزاء الحسن أضعافا مضاعفة، بلا حساب..
فالجنة التي يجزى بها أهل الإحسان، لا يقدّر لها ثمن، ولا يبلغها إحسان محسن، ولكنها فضل من فضل الله، وإحسان من إحسانه، إلى من أحسنوا واتقوا، «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وليس بين المحب والمحبوب حساب! وفى قوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» - إشارة إلى أن العمل الصالح لا يقبل، ولا يدخل فى الأعمال الصالحة- إلا مع الإيمان بالله.(12/1237)
قوله تعالى:
«وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» مناظرة بين موقف وموقف، ودعوة دعوة.. موقف الرجل المؤمن من قومه، وموقفهم منه..
إنه يدعوهم إلى الخلاص والنجاة من نقمة الله فى الدنيا، وعذابه فى الآخرة..
وهم يدعونه إلى نقمة الله فى الدنيا، وإلى عذاب النار فى الآخرة.. إنهم يدعونه ليكفر بالله الواحد الأحد، وأن يعبد مع الله آلهة أخرى لا يعلم لها حقيقة يطمئن إليها عقله، ويستسيغها منطقة.. وهو يدعوهم إلى إله يقوم على هذا الوجود، ويمسك كل ذرة منه، حفظا وعلما.. فهو سبحانه- «العزيز» الذي تذل لعزته الجبابرة.. «الغفار» الذي يغفر ذنوب المسيئين، ويقبل توبتهم، إذا هم رجعوا إليه، ووجهوا وجههم له..
فهل تستوى دعوة ودعوة؟ وهل يستوى الضلال والهدى؟
وقد جاء النظم القرآنى على غير النسق الذي يقتضيه النظم الكلامى، فى تقديرنا.. إذ بدأ الرجل المؤمن بما يدعوهم إليه: «أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ» وكان مقتضى النظم الكلامى أن يقول بعد هذا: وأدعوكم إلى العزيز الغفار، وتدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم.. ولكن جاء النظم القرآنى على تلك الصورة المعجزة، التي جمعت بين دعوتيهم فى نسق واحد هكذا: «تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ.. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» ثم كان من هذه الصورة المعجزة من النظم- أن بدئت وختمت بالدعوة التي يدعو بها المؤمن إلى الإيمان.. هكذا:
«أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ.. وأنا أدعوكم إلى العزيز «الغفار» .. ثم كان(12/1238)
منها- كذلك- أن سوّت بينه وبينهم، فقدّم نفسه أولا، ثم قدّمهم هم ثانيا..
هكذا:
«أدعوكم إلى النجاة.. وتدعوننى إلى النار..»
«تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ.. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» هذا ما ينكشف من هذا النظم للنظرة الأولى.. ووراء هذه النظرة نظرات ومعطيات.. لا حدود لها..
قوله تعالى:
«لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ» هو تعقيب من الرجل المؤمن، على هذا الموقف الذي بينه وبين قومه..
إن ما يدعونه إلى عبادته من آلهتهم: «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ» ..
إنه لا يسمع دعاء داع ولا يستجيب له، سواء أكان ذلك فى هذه الدنيا، أو فى الآخرة.. وأصل لا جرم من الجرم.. وهو بهذا التركيب، للنهى: أي لا تجرموا، مثل قوله تعالى: «لا مِساسَ» ومثل الحديث الشريف: «لا ضرر ولاضرار» .
وقوله تعالى: «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» - أي مرجع جميع المخلوقات إلى الله، فهو المالك لها وحده، يبسطها ويقبضها، وينشرها ويطويها.. وأن الناس جميعا سيرجعون إلى الله، للحساب والجزاء فى الآخرة.. «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ» .. حيث يلقون جزاء كفرهم، وضلالهم، وإسرافهم على أنفسهم..
هذا، ولم يذكر هنا جزاء المحسنين، وهو الفوز بالجنة ونعيمها.. وذلك(12/1239)
لأن الموقف موقف إنقاذ، وتخليص، لهؤلاء الهلكى من هذا الضلال الذي هم فيه.. فإذا خلصوا من النار، فذلك كسب عظيم لهم.. ثم يكون لهم بعد هذا أن يتطلعوا إلى المنزل الذي ينزلونه، بعد أن خلصوا بجلدهم من هذا البلاء المحيط بهم.. إن الذي تعلق به النار، لا يعنيه شىء أكثر من أن يتخلص من هذا الثوب الذي أمسكت به النار، وليس يعنيه فى شىء أن يفكر فى الثوب الذي يلبسه بعد أن ينزع هذا الثوب عنه، ويتركه وقودا للنار تأكله.. إن دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185 آل عمران) قوله تعالى:
«فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
أي ستعلمون علم اليقين ما أحدثكم به، وما أدعوكم إليه من الإيمان بالله الواحد الغفار، وما أحذركم به من عذابه يوم القيامة، إذا أنتم لم ترجعوا إلى الله، وتدعوا عبادة ما تعبدون من آلهة، ليس لها حول ولا طول، فى الدنيا ولا فى الآخرة.. إنكم ستذكرون هذا، وترونه عيانا، يوم القيامة، يوم لا ينفع تذكّر، ولا يغنى علم.
وقوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» هو خاتمة المطاف. فيما بينه وبين قومه، لقد دعاهم إلى الهدى، وأراهم طريق النجاة، فإن استجابوا له، واتبعوا سبيله نجوا معه، وإن هم أبوا أن ينزعوا عما هم فيه، تركهم وشأنهم، وأخذ هو طريقه الذي استقام عليه، مفوضا أمره إنى الله، مسلما له وجهه، مستعينا به وحده، فهو الذي يكفيه، ويحميه «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» يعلم من هم أولياؤه، ومنهم هم أعداؤه: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (40: الحج)(12/1240)
قوله تعالى:
«فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» الفاء للتعقيب، أي أنه عقب قوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» استجاب الله له، فوقاه وحفظه مما كانوا يدبرون له من كيد عظيم، بعد أن أعلن إيمانه، وتحدّى فرعون، وخرج عن سلطانه، منحازا إلى جبهة موسى..
وقوله تعالى: «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» أي نزل بفرعون وآله سوء العذاب، فقد وجب عليهم وهم فى الدنيا، هذا العذاب الذي سينزل بهم فى الآخرة.. فهو حكم معلّق فى أعناقهم، وهم فى هذه الدنيا قوله تعالى:
«النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» هو بيان لسوء العذاب الذي حاق بآل فرعون، وهو النار..
وقوله تعالى: «يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» - أي يعرضون على هذه النار فى الغدو، أي أول النهار، وفى العشى، أي آخر النهار.. وهذا العرض على النار هو فى حياتهم البرزخية، الواقعة بين الموت والبعث.. فهم فى هذه الفترة يفزّعون بالنار التي سيصيرون إليها يوم القيامة، فيردونها صبحا وعشيا، ليروا بأعينهم المنزل الذي سينزلونه يوم القيامة..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» أي فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى تلك النار التي كانوا يغدون عليها ويروحون..
وليست النار فحسب، بل الدرك الأسفل منها، حيث يلقون أشد وأنكى ما يلقى أهل النار من عذاب..(12/1241)
بقي هنا سؤال، وهو: هل كان مؤمن آل فرعون نبيا مرسلا من عند الله إلى فرعون؟
وليس بالمستبعد أن يكون نبيا لم يذكره القرآن فى عداد الأنبياء الذين ذكرهم الله، فكثير من الأنبياء لم يذكرهم الله سبحانه فى القرآن كما يقول سبحانه «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» (164: النساء) ولكن يرجّح عندنا أنه غير رسول، إذ لو كان نبيا ذا رسالة، لكان بين يديه حجة من الله على رسالته إلى من أرسل إليهم، ولم يذكر القرآن أن بين يديه تلك الحجة التي يحاجّ بها فرعون.. ومن جهة أخرى، فإنه كان يكتم إيمانه فى مرحلة من مراحل دعوته.. والنبي إنما يرى الناس نبوته ممثلة فى إيمانه بالدين الذي يدعو إليه، قبل أن يدعو أحدا إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» (11- 12 الزمر) ومؤمن آل فرعون، إن لم يكن نبيا رسولا، فهو داعية من دعاة الله إلى الحق، وهو صوت العقل، وحجته، التي تقوم إلى جانب المعجزة المادية وحجتها..
فلقد جاء موسى إلى فرعون بآيات مادية قاهرة، كان من شأنه أن يؤمن بها إيمان قهر وإذعان، إن لم يؤمن بها إيمان عقل ومنطق.. فلما لم يؤمن بها هذا الإيمان أو ذاك، جاءه من يدعوه بالعقل والمنطق، فلم يرض لعقله ومنطقه أن يلتقى بعقل أو منطق! ومن هنا قامت عليه الحجة من كل وجه، فكان كفره أغلظ الكفر، وكان عذابه أشد العذاب..(12/1242)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
وننظر فى رسالة موسى إلى فرعون، فنجد أن موسى هو صاحب الدعوة والقائم عليها، وأن هارون، كان وزيرا له، أي سندا ومعينا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً» (35: الفرقان) ويقول سبحانه: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» (15- 16 المزمل) ..
فموسى عليه السلام، رسول، وهارون- عليه السلام- نبى، يقوم ردءا لهذا الرسول وسندا.. ثم يقوم من وراء الرسول والنبي، الممثلين لدعوة السماء- ثالث، يمثّل دعوة الإنسان وما أودع الخالق فيه من فطرة، وعقل.. وبهذا تلتقى السماء بالأرض، ويرتفع من الأرض هذا الإنسان، الذي يمثّل كرامة الإنسان، ويحتفظ للإنسانية بمكانها فوق عالم الحيوان..! وهذا يعنى أن الإنسانية قادرة على أن تلد الهداة والمصلحين الذين يمكن أن ترى عقولهم نور الحق، وتستضىء به، وتسير على ضوئه، وتتعرف إلى الله الواحد الأحد، بمنقطع من دعوات السماء، ورسالات الرسل!.
وهنا نشير إلى ما ذكرناه من قبل فى سورة يس عند تفسير قوله تعالى:
«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ..
الآيات: (47- 53) [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 52]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)(12/1243)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ» ..
هو عرض لأهل النار جميعا، وما يقع بين التابعين والمتبوعين، من ملاحاة، ومخاصمة..
وفى هذا الموقف من مواقف الملاحاة، يسأل التابعون سادتهم ورؤساءهم الذين كانوا أصحاب الكلمة عليهم فى الدنيا- يسألونهم أن يخففوا عنهم شيئا من هذا العذاب الذي هم فيه.. فقد كان هؤلاء السادة مفزعهم فى الدنيا، يفزعون إليهم، ويحمون ضعفهم بقوتهم.. إنهم أقوى منهم قوة، وأقدر على احتمال الثقال من الأمور.. وهذه جهنم وأهوالها،.
فهل يجد الضعفاء فى قوة الأقوياء، معينا يحمل عنهم بعض ما حملوا؟.
«قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها.. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» ..
وهل لأحد بهذا البلاء يدان؟ إن قوة الأقوياء لا تقوم بحمل بعض ما ألقى عليها من عذاب، فهل هم فى حاجة إلى مزيد منه؟.(12/1244)
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» - إشارة إلى أن كلّا من التابعين والمتبوعين قد لقى الجزاء الذي يستحق.. فالذى حكم بينهم هو الله سبحانه وتعالى، وقضاؤه الفصل، وحكمه العدل.. وأنه إذا كان المتبوعون قد غرروا بأتباعهم، وساقوهم سوقا إلى الكفر، فإنهم قد نالوا ما يستحقون من عذاب فوق ما نال أتباعهم، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (13: العنكبوت) .
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ» .
وإذ ييأس أهل النار من أن يغنى بعضهم عن بعض شيئا، فإنهم يمدون أيديهم إلى خزنة جهنم، وإلى حراس هذا السجن الجهنمى المطبق عليهم، يسألونهم أن يدعوا ربهم، ويسألوه تخفيف العذاب عنهم، ولو يوما واحدا، ليجدوا نسمة من نسمة الحياة، تدخل إلى صدورهم المكظومة بلهيب السعير! ..
«قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا بَلى! قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .
ويلقى خزنة جهنم أصحاب النار بهذا السؤال، ردّا على طلبهم: «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ» ؟ أو لم يبعث الله فيكم رسلا؟ وألم يحمل إليكم الرسل بين أيديهم آيات بينات من عند الله، تكشف لكم الطريق إلى الحق والهدى؟ «قالوا بلى!» قد جاءنا رسل ربنا بالحق!.
وإذ يتلقى خزنة جهنم هذا الاعتراف من أفواههم، والإقرار على(12/1245)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين- يقولون لهم فى استهزاء وسخرية: لم لا تدعون أنتم؟ فادعوا إن كان ينفعكم الدعاء، ويستجاب لكم بما تدعون..
«فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» ..
قوله تعالى:
«إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» .
وإذ يلقى الكافرون الخذلان فى جهنم، فلم يقبل منهم قول، ولم يستجب لهم دعاء- فإن شأن رسل الله، والمؤمنين بالله، غير هذا.. إنهم أهل كرامة على الله فى الدنيا وفى الآخرة.. إنه سبحانه وليّهم فى الدنيا وفى الآخرة.. ففى الدنيا، يؤيدهم بنصره، وفى الآخرة، يؤمّنهم من فزع هذا اليوم، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه فى جنات لهم فيها نعيم مقيم..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» أي يوم القيامة، حيث يقوم على الناس من يؤدى شهادته عليهم، من رسل الله، ومن جوارحهم التي تقوم شاهدة عليهم..
الآيات: (53- 59) [سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 59]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)(12/1246)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» .
هو استكمال لقصة موسى، ولرسالته كرسول من عند الله.. فقد ذكرت الآيات السابقة رسالة موسى إلى فرعون وهامان وقارون، وهى جزء من رسالته إلى بنى إسرائيل، فلما انتهت قصة موسى مع فرعون، اقتضى المقام الإشارة إلى رسالة موسى، وهى أنها لبنى إسرائيل فى عمومها..
والهدى الذي آتاه الله موسى، هو التوراة، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (44: المائدة) .
وفى قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» - إشارة إلى أن بنى إسرائيل لم يرثوا هذا الهدى الذي تحمله التوراة، والذي حمله إليهم موسى فيها.
وإنما ورثوا الكتاب، أي هذه الكلمات المكتوبة فى كتاب..!(12/1247)
قوله تعالى:
«هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» .. أي أن هذا الكتاب، هو هدى وذكرى لمن يطلب الهدى، وينتفع به.. وفى هذا تعريض ببني إسرائيل، وأنهم لم يستقيموا على ما فى هذا الكتاب من هدى، ولم يذكروا ما فيه من وصايا وعظات..
وقوله تعالى:
«فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» .
الخطاب هو من الله سبحانه، لنبيه الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- ومناسبة هذا الخطاب هنا، هو ما جاء فى الآيات السابقة من موقف فرعون، ومكابرته، وعناده، وتحديه لآيات الله.. وهو نفس الموقف الذي يقفه المشركون من دعوة النبي، ومن آيات الله يتلوها عليهم، وإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليلقى من عنادهم واستكبارهم ما ينوء به كاهله، وتضيق به نفسه.. فكان هذا الخطاب الكريم له من ربه، مددا من أمداد السماء، يجد فى ظله أرواح الطمأنينة والرضا.
ويحمل إليه هذا الخطاب الكريم أكثر من دعوة..
فأولا: دعوته- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يصبر لحكم ربه، وينتظر ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فيما بينه وبين قومه.. وفى هذا إشارة إلى ما يلقى النبىّ من قومه من عنت وضيق، وأنه لا بد أن يقيم أمره على الصبر، حتى يستطيع أنه يمضى بدعوته إلى غايتها..
ثم إن مع هذه الدعوة إلى الصبر، وما يحمل النبىّ الكريم من أعبائه(12/1248)
الثقال- فقد حملت معها من ألطاف الله سبحانه، ما يشدّ عزم النبىّ، ويثبت خطوه على طريق الصبر الطويل، فهو على موعد مع نصر الله: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ووعد الله هو ما جاء فى قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» .
وثانيا: دعوة النبىّ إلى أن يستغفر ربه لذنبه.. «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» ..
وهنا سؤال: وهل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب؟ أو بمعنى آخر هل يتفق أن يكون نبيّا ويذنب؟
والجواب، أن النبي- أي نبى- تقع منه ذنوب، ومع هذا فإن تلك الذنوب لا تنزل من قدره عند ربه، ولا تدخل على نبوّته ضيما..
وإذا قلنا إن النبي تقع منه ذنوب، فذلك مما يقرره القرآن فى قوله:
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. فهذا صريح فى أن للنبىّ ذنوبا، يستغفر ربه لها، ويطلب منه مغفرتها له..
على أن الذي ينبغى أن يكون مفهوما فى هذا المقام، هو أن ذنوب الأنبياء من الصغائر، واللّمم، المعفوّ عنه بالنسبة لغير الأنبياء، ولكنها تعتبر ذنوبا فى مقام الأنبياء.. فالصغيرة من النبي كبيرة، وما لا يعد ذنبا عند بعض الناس هو ذنب عند آخرين.. فالذنب إنما يقاس بالنسبة لقدر من يقع منه.. فيكبر أو يصغر بحسب قدر مرتكبه..
والرسول الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- هو صفوة خلق الله، وأقربهم إليه، تحسب عليه ذنوب قد لا تعدّ ذنوبا على بعض الأنبياء.. فهم- صلوات الله وسلامه عليهم- درجات، وهم فى درجاتهم العالية فوق الناس جميعا.
وسؤال آخر.. ما الذنوب التي يستغفر لها النبي ربه، وقد غفر الله له سبحانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟(12/1249)
والجواب أن غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، هو وعد من الله سبحانه وتعالى، كما جاء فى قوله سبحانه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» . وهذا الوعد وإن يكن واقعا محققا من غير شك، فإن الأمر بالاستغفار للذنب، أمر مطلوب من النبي، وهو واقع محقق كذلك..
وإذن فغفران الذنوب للنبى- ما تقدم منها وما تأخر- مرتبط باستغفاره لذنوبه، واستغفاره لذنوبه واقع محقق منه، فيكون غفران ذنوبه واقعا محققا كذلك..! وإذن لا تعارض بين الوعد المحقق بغفران ذنوب النبي- ما تقدم منها وما تأخر- وبين أمره باستغفاره لذنوبه..
هذا، والإشارة إلى أن للنبى ذنوبا، مطلوبا منه الاستغفار لها- يشعر بأن الإنسان مهما بلغ من الكمال، فلن يتخلص من الجلد البشرى الذي يلبسه.. فهو إنسان قبل كل شىء، وكماله البشرى هو محصور فى هذا الحد لا يتجاوزه، فلا يكون من عالم الملائكة بحال أبدا، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول:
«كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» .. لم يستثن الرسول الكريم فى هذا أحدا من أبناء آدم.. والأنبياء من أولاد آدم بلا شك، وإن كانوا الصفوة المتخيرة من بين هؤلاء الأبناء، وإن كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- صفوة هؤلاء الصفوة!! ولنذكر هنا فى هذا المقام، أن ما يحسب من ذنوب للمصطفين من عباد الله، هو مما يعد من حسنات غيرهم، كما يقال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .
ثالثا: دعوته- صلى الله عليه وسلم- أن يسبح بحمد ربه بالعشيّ والإبكار، أي أول الليل، وبواكير النهار.. أي قبل أن تطلع الشمس.
وليس ذكر هذين الوقتين حصرا لتسبيح الرسول ربّه فيهما، فهو صلوات(12/1250)
الله وسلامه عليه- على ذكر دائم لربه، مسبحا، وحامدا، ومستغفرا.. وإنما خصّ هذان الوقتان بالذكر، لأنهما أثقل وقتين، يشق على النفس فيهما العمل، وتعرض فيهما الغفلة، حيث يستقبل الإنسان أول الليل بالخلود إلى الراحة، وإعطاء الجسد حاجته من الليل، وحيث يكون الإنسان فى أواخر الليل وأوائل النهار مستغرقا فى سكونه وراحته، فيثقل عليه أن ينخلع عن تلك الحال..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» (6: المزمل) .
ومن جهة أخرى، فإن حمد الله فى هذين الوقتين- وقد خلت النفس من شواغل الحياة ومن الاتصال بالعالم الخارجي- يجد فيهما القلب طمأنينته وسكينته فيتجه بوجوده كله إلى الله.
وهذا ما يعطى للذكر فى هذه الأوقات طعما لا يجده الذاكر فى غيرها، حيث تكثر الشواغل والمعوقات.. ومن هنا كان الليل خلوة العابدين، ومسبح المسبحين، وملتقى العاشقين..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» هو خطاب للمشركين، بعد خطاب النبي.. وهو تهديد وعيد لهم، وأنهم لن يبلغوا شيئا مما يريدون به النبي ودعوته من سوء.. إذ أن الله سبحانه وتعالى سيقضى بينهم وبين النبي، وسيكون هذا القضاء إدانة لهم، وخذلانا لجمعهم، على حين يكون نصرا للنبى، وللمؤمنين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية السابقة: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ..
وقوله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ»(12/1251)
«إن» هنا نافية، بمعنى «ما» والكبر الذي فى صدور المشركين: هو هذا الغرور الذي زينه الشيطان لهم، وأنهم على الحق، وأن الغلبة آخر الأمر لهم وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» (48: الأنفال) .. فهذا الكبر الذي يملأ صدورهم، ما هو إلا دخان من الباطل، وإنهم لن يبلغوا به ما يطمعهم فيه من آمال..
فالضمير فى «بالغيه» يعود إلى الكبر، بمعنى أنهم لن يبلغوا ما ينطوى عليه هذا الكبر من أمانىّ وآمال..!
وقوله تعالى: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» - دعوة إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، أن يلقى كبر هؤلاء المتكبرين، وتطاول هؤلاء المتطاولين المدلّين بجمعهم، المغرورين بقوتهم- أن يلقى ذلك منهم باللّجأ إلى الله، واللّياذ بقوته، فهو سبحانه «السميع» الذي يسمع للنبى ما يدعو به ويستجيب له، وهو «البصير» الذي يرى أين تنزل مواقع رحمته وإحسانه، وأين تقع صواعق نقمه وبلائه..
قوله تعالى:
«لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى، أن الآية السابقة، أشارت إلى ما يملأ صدور المشركين من كبر وغرور واستعلاء، وأنهم يحسبون بما ملكوا من كثرة فى المال والرجال- أنهم لن يغلبوا.. فجاء قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» - ليريهم أنهم، وإن كانوا- كما يرون فى(12/1252)
أنفسهم- أصحاب قوة وبأس، فإن قوتهم وبأسهم لا يغنيان عنهم من الله شيئا، ولا يردّان عنهم بأسه إذا جاءهم.. فأين هم من الناس؟ وأين الناس من السموات والأرض؟ إن كل ذلك من خلق الله، وفى قبضة الله.. فهل من خلق هذا الوجود، وقام بسلطانه عليه، يعجزه قهر هؤلاء المتكبرين، وإذلالهم والتنكيل بهم؟
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى جهل هؤلاء المشركين، وغيرهم من الضالين، بقدرة الله وسلطانه القائم على كل شىء.. وإنهم ما استعظموا ما هم فيه من قوة إلا عن جهل بقدرة الله، بل وعن جهل بقدرة مخلوقات الله، التي إذا وضعوا أنفسهم إزاءها كانوا أشبه بالذرّ أو النمل تحت سفح جبل شامخ..!
قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» هو تعقيب على قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. وذلك أنه إذا كان أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق التي تكشف لهم عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وقوة سلطانه القائم على هذا الوجود- فإن بعضا من الناس- وهم أقلهم- يعلم من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ما يملأ القلب هدى وإيمانا.. ومن هنا يختلف الناس، إيمانا وكفرا، وهدى وضلالا، وإحسانا وإساءة. وإنه كما لا يستوى الأعمى والبصير، كذلك لا يستوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كفروا وعملوا السيئات.. إن الاختلاف بينهما واضح لا يحتاج إلى بيان..(12/1253)
وقد جاء النظم القرآنى على نسق يخالف ما يجىء عليه النظم الكلامى..
فلم يلتزم القرآن الترتيب الذي يردّ الإعجاز على الصدور- كما يقول أهل البلاغة- إذ كان من مقتضى هذا أن يجىء النظم هكذا: وما يستوى الأعمى والبصير، ولا المسيء والمحسن.. ولكن جاء النظم القرآنى كما ترى.. فقدّم الأعمى على البصير، ثم عاد فقدم المحسن على المسيء فلم تقع بذلك المقابلة المطلوبة عند علماء البلاغة حيث يقتضى النظم عندهم، أن يقدّم المسيء على المحسن، ليقابل المسيء الأعمى، والمحسن البصير..
وهذا التدبير من النظم القرآنى يخفى وراءه أسرارا، ولطائف، هى من بعض الدلائل على إعجازه..
فمن بعض هذه الأسرار هنا، هو أن القرآن قد جمع بين البصير، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى لكأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الامتداد الطبيعي لهذا البصير.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» .. فهذا هو أصل القضية: الأعمى والبصير.. ثم مع البصير كان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنهما طبيعة واحدة.. إذ قلّ أن تكون بصيرة لا يتبعها إيمان وعمل صالح.. وهذا هو السر فى التعبير بالبصير دون المبصر..
أما الأعمى، فقد يكون أعمى عين، فهو من جهة النظر لا يستوى مع المبصر.. وقد يكون أعمى قلب، فلا يهتدى إلى هدى.. وهو من هذه الجهة لا يستوى مع صاحب البصيرة..
ولهذا لم يقترن المسيء بالأعمى، ولم يقابله مقابلة توافق، وتوازن.. إذ ليس مع كل عمى إساءة، وإنما تكون الإساءة مع عمى البصيرة.. ومن هنا(12/1254)
جاء النفي بعدم التسوية واقعا على المسيء: «وَلَا الْمُسِيءُ» وكأن القضية من وجهة نظر أخرى هى هكذا: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ» ..
وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» أي قليل منكم أيها الناس من يتذكر ويعقل هذه الأمثال.. وقليل تذكّر من يتذكر منكم، إذ النسيان غالب عليكم.
قوله تعالى:
«إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» وإذا كانت القضية قضية تفرقة بين المؤمنين ذوى البصائر، والكافرين الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم، وإذ كان هناك مؤمنون وكافرون- فقد حسن أن تعرض هذه الحقيقة التي هى المحكّ الذي يعرف به إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وتلك القضية، هى قضية البعث والحساب والجزاء.. فمن آمن باليوم الآخر. فهو المؤمن حقا، لأنه لا يؤمن من يؤمن باليوم الآخر إلا إذا كان مؤمنا بالله إيمانا خالصا، مبرّأ من كل شرك.. ومن كفر بالآخرة، فهو كافر بالله، أو مشرك به..
ومن هنا، جاء هذا الإعلان فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها» ليكون فى ذلك اختبار لإيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. فمن تقبّل هذه الحقيقة، وصدّقها، واستيقن بها، فهو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن كذب بها، أو شكّ فيها، فهو من الضالين المسيئين..
وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» هو بيان لما ينكشف عنه امتحان الناس بهذا الإعلان، وبتصديقهم به، أو تكذيبهم.. وقد كشف هذا الامتحان عن أن أكثر الناس لا يؤمنون، لأن أكثر الناس كذلك لا يعلمون ولا يتذكرون.. كما يقول تعالى فى الآية السابقة: «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ»(12/1255)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
الآيات: (60- 65) [سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 65]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» هو التفات بعين الرضا والرحمة والإحسان من الله سبحانه وتعالى، إلى عباده المؤمنين، الذين آمنوا به، واستيقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها..
فهؤلاء المؤمنون يدعوهم الله سبحانه إلى ساحة فضله وإحسانه، قائلا لهم:
«ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .. اسألوا تعطوا.. «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» وفى الدعاء رغب إلى الله، ووقوف بين يدى رحمته وإحسانه.. وفى(12/1256)
الاستجابة إظهار لما للعبد عند ربّه من احتفاء وتكريم، وأنه بموضع الرضا والقبول..
والدعاء، هو عباده المؤمنين، وهو ولاء، وتسبيح، وصلاة لله رب العالمين..
ومن هنا عرّف الدعاء بأنه مخّ العبادة.. لأنه مفزع العبد إلى ربه، وفيه يتجلى ضعف العبد وانكساره، وذلّه، أمام قدرة الله وعظمته وجلاله.. فهو- فى صميمه- عبادة خالصة، وابتهال خاشع، وولاء واستسلام..
ولكل إنسان دعاؤه الذي يدعو به ربه.. فمنهم من يطلب الدنيا، ويجعلها همّه فيما يدعو به ربه، ومنهم من يطلب الآخرة ويرجو بدعائه رحمة ربه، ومنهم من يقول: ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فيجمع بين الدنيا والآخرة..
وكثير من الناس، لا يذكرون الله بالدعاء إلا عند الشدة والضيق..
فهم فى غفلة عن ذكر ربهم، حتى إذا نزل بهم مكروه، أو أحاط بهم بلاء ضرعوا إلى الله، وأسلموا إليه أمرهم،. فإذا زايلتهم تلك الحال، مضوا إلى ما كانوا فيه من شغل عن الله، واشتغال بدنياهم، وتقلبهم فى لعبهم ولهوهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (12: يونس) هذا، وقد عرضنا موضوع الدعاء فى بحث خاص، ذكرنا فيه ماهيّة الدعاء، ومواقع الإجابة، ومواطنها، وهل يردّ الدعاء القضاء؟ وهل يجاب كل دعاء؟ ثم عرضنا بعضا من أدعية الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأدعية الصحابة، وغيرهم من صالحى المؤمنين.. وذلك فى كتابنا: «الدعاء المستجاب» ..
قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» الداخر: الذليل المهين..(12/1257)
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء عبادة، وولاء، وخضوع لله، واعتراف بجلاله وقدرته.. وأن الذين لا يدعون الله، ولا يوجهون وجوههم إليه، هم أهل كفر بالله، وضلال عنه.. إذ يمنعهم كبرهم واستعلاؤهم عن أن يذلّوا لله، ويمدوا أيديهم سائلين من فضله، طالبين من رحمته.. إنهم سيدخلون جهنم أذلاء، محقرين، بعد أن صرفوا وجوههم عن الله مستعلين مستكبرين.. إنه الهوان والإذلال، هو جزاء كل متكبر جبار.
وفى قوله تعالى: «عَنْ عِبادَتِي» بدلا من «دعائى» - إشارة إلى أن الدعاء من العبادة، بل إنه- كما قلنا- مخّ العبادة..
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد حملت دعوة إلى الناس أن يدعوا الله ربهم، وأن يوجّهوا وجوههم إليه.. كما توعدت الآية الذين يستكبرون عن عبادة الله ودعائه، بالإلقاء فى النار، فى ذلة وصغار..
فجاءت هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض مظاهر قدرة الله ورحمته وإحسانه إلى عباده، ليرى هؤلاء المستكبرون أين يقع استكبارهم من جلال الله وعظمته..
فقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» أي أن الله الذي يدعوكم إليه، ويستضيفكم إلى ساحة فضله وإحسانه، ثم تأبون أن تستجيبوا له أيها المستكبرون- الله الذي(12/1258)
لا تقدرونه حقّ قدره، هو: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» .. إنه سبحانه جعل لكم ذلك من غير طلب أو دعاء، فالله سبحانه يعطى من غير طلب، ويجود من غير سؤال.. وما الدعاء الذي تدعونه به، إلا عبادة وولاء لله رب العالمين..
وفى قوله تعالى: «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» إشارة إلى أن النهار وضوءه هو الذي يعطى العيون وظيفة الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لما كان للعين أن ترى شيئا، فالتقاء الضوء بالعين هو الذي يعطيها القدرة على الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لكان البصير والأعمى على سواء.. وإلى هذا يشير المعرى بقوله:
وبصير الأقوام فى مثل أعمى ... فهلمّوا فى حندس نتصادم
والحندس: الظلام الشديد..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» إشارة إلى موقف كثير من الناس من فضل الله ونعمه عليهم، حيث يلقونها بالجحود والكفران، فلا يشكرون لله، بل ولا يؤمنون به..
قوله تعالى:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» .
فى الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى، إلفات لهؤلاء الغافلين عنه، المشركين به، العاكفين على عبادة ما يعبدون من أوثان وغير أوثان، مما صنعت أيديهم، أو تصورت أوهامهم.. فالله سبحانه هو خالق كل شىء، وما يعبده هؤلاء المشركون من معبودات، هى مخلوقات لله، والمنطق(12/1259)
يقضى بداهة بألّا تكون عبادة إلا للخالق وحده سبحانه وتعالى، وأن عبادة غيره سبحانه، ضلال مبين.
وقوله تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» - استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين أن يولوا وجوههم إلى غير الله الواحد، الخالق لكل شىء.. والإفك: العدول عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.
قوله تعالى:
«كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .
أي بمثل هذا الإفك، والافتراء على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، يأفك ويفترى كل من يجحد بآيات الله، ولا يعرف ما فيها من دلائل الكمال والجلال لذات الله سبحانه وتعالى.. إن آفة الضالين والمشركين، هى جهلهم بآيات الله، وعدم وقوفهم عليها، الأمر الذي ينتهى بهم إلى إنكارها، ثم إلى إنكار الله..
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
وهذه آية من آيات الله.. فهل لأهل الضلال والإفك أن ينظروا فيها، وأن يخرجوا من هذا الظلام الذي هم فيه، وأن يصافحوا بأبصارهم هذا النور المشّع من آيات الله، ليروا على ضوئه الحق الذي ضلوا عن طريقه..(12/1260)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
وكأنّ سائلا سأل: وما الله الذي بآياته يجحدون؟ فكان الجواب:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» الذي أقامكم على هذه الأرض، وجعلها لكم مستقرا ومقاما، وجعل فوقكم السماء سقفا محفوظا، تمسكه قدرته.. فإذا نظرتم فى أنفسكم رأيتم كيف أخرجكم الله فى تلك الصورة الكريمة من الخلق، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ثم ساق لكم من الرزق ما يقيم حياتكم، ويحفظ وجودكم.. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» إن كنتم تريدون التعرف إليه، والإيمان به.. «فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
أي علا، وعظم. ربكم هذا، إنه رب العالمين..
قوله تعالى:
«هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
أي ذلكم الله ربكم «هو الحي» حياة أبدية سرمدية.. وكل شىء هالك إلا وجهه.. «لا إله إلا هو» وإذ تفرد سبحانه بالحياة الدائمة السرمدية، فهو المتفرد كذلك بالألوهية.. وإذ تفرد سبحانه بالألوهية، فمن حقه أن يتفرد وحده بالعبودية له من جميع خلقه «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا تشركوا معه معبودا آخر، واجعلوا الحمد له، مفتتح عبادتكم ومختتمها.. فهو- سبحانه- المستحق للحمد، أولا وآخرا..
الآيات: (66- 68) [سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)(12/1261)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .
هذا هو موقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من آيات ربه، تلك الآيات التي تلقاها وحيا من ربه، ثم بلغها- كما أمره ربه- إلى الناس، فاهتدى بها من اهتدى، وكفر بها من كفر!.
والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- يمثل النموذج الأمثل والأكمل فى الأخذ بآيات ربه، والامتثال لما تأمر به، واجتناب ما تنهى عنه..
فهو صلوات الله وسلامه عليه، قد نهى من ربه أن يعبد ما يعبد المشركون من دون الله.. وقد اجتنب ما نهى عنه..
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قد أمر أن يعبد الله وحده، ويسلم وجوده لله رب العالمين، فامتثل ما أمر به..
هذه هى سبيل النبي.. فمن أراد أن يكون مع النبي، فهذه سبيله: أن يجتنب عبادة ما يعبد المشركون، وأن يخلص العبادة لله وحده..(12/1262)
وهنا سؤال:
كيف ينهى النبىّ عن عبادة ما يعبد المشركون، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- لم يسجد لصنم، ولم يوجّه وجهه إلى غير الله، قبل أن تأتيه الرسالة، إذ كان له من فطرته السليمة ما عصمه به الله من أن يشتهى هذا الطعام الخبيث، الذي كان يقتات منه قومه..؟
والجواب على هذا من وجهين:
فأولا: ليس النهى عن الشيء بالذي يلزم منه أن يكون الموجّه إليه النهى مواقعا له، أو متلبسا به.. بل يصح أن يكون النهى واقعا على ذات الشيء المنهّى عنه وحده، أشبه بلافتة تشير إلى الخطر الكامن فيه، وتنبه إلى الحذر منه.. فإذا نهى النبي عن الشرك، فإنما ينهى عن أمر، ينبغى عليه أن يحذره ويتوقاء أبدا، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) وثانيا: أن هذا النهى- وإن كان موجها إلى النبىّ- هو فى حقيقته موجه إلى كلّ مدعوّ إلى الإيمان بالله.. فمن أراد أن يدخل فى الإيمان، فلينزع ثوب الشرك أولا، ولينفض يديه، وبخل نفسه من كل ما يصله بتلك المعبودات التي تعبد من دون الله.. ثم ليدخل بعد هذا إلى ساحة الإيمان نفيّا، طاهرا من الشرك ورجسه..
وفى قوله تعالى: «لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي» .. إشارة إلى أن هذا الذي تلقاه النبىّ من نهى عن الشرك، وأمر بالإسلام لربه، إنما كان بعد بعثته، واصطفائه لرسالة ربه، وتلقيه ما ينزل عليه من آياته وكلماته.. فهذا النهى وذلك الأمر، إنما هو من محامل الرسالة التي أرسل بها من ربه، وأمر(12/1263)
بتبليغها، وإلّا فإنه قبل أن يتلقى هذه الرسالة، لم يكن منهيّا عن شىء أو مأمورا بشىء.. وإنما كان يأخذ الأمور بما تهديه إليه فطرته، ويدعوه إليه عقله..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
هو بيان لما لربّ العالمين الذي دعى النبي والمؤمنون معه إلى الإسلام له- من قدرة، وعلم، وحكمة، يراها ذوو الأبصار فى هذا الإنسان، وفى مادة خلقه، وكيف تنقّل من طور إلى طور، حتى كان هذا الكائن العجيب، الذي يحارب الله، ويكفر به!! فالمادة الأولى للإنسان- أي إنسان- هى هذا التراب.. إذ كان غذاء أبويه من نبات الأرض المتخلّق من التراب، وكانت النطفة متخلقة من هذا الغذاء.. وهذه هى جرثومة الحياة للإنسان.. ثم تنتقل هذه النطفة فى الرّحم، فتكون علقة، فمضغة، فعظاما، فلحما يكسو هذه العظام.. حتى إذا اكتمل الجنين فى بطن أمه، ولد طفلا، هو الصورة المصغرة لهذا الإنسان الذي سيكونه يوم يكبر، ويبلغ أشدّه..
هذه هى مراحل الحياة الإنسانية.. من التراب: إلى الإنسان.. ثم إلى التراب..!
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» عطف وجود ذى خصائص مميزة للإنسان على وجود آخر، له خصائصه ومميزاته.. فالإنسان فى بطن أمه،(12/1264)
يعيش فى عالم، ثم ولد فكان فى عالم آخر، يختلف عن عالمه الذي كان فيه..
فكأن هذا الميلاد إخراج جديد له من وجود إلى وجود، ولهذا جاء التعبير القرآنى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» بالعطف بثم التي تفيد التراخي، ثم بفعل الإخراج الذي يدل على المغايرة، بين ما كان قبل هذا الإخراج، وبعده..
وقوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» - ثم هنا زائدة، والغرض منها الدلالة على أن هنا زمنا ممتدا بين خروج الإنسان من بطن أمه طفلا، ثم بلوغه أشده..
فقوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» هو تعليل لخروج الإنسان من بطن أمه إذ لولا هذا الخروج، لما بلغ الإنسان هذه الغاية.. وكأنّ النظم هو:
ثم يخرجكم طفلا لتبلغوا أشدكم ولتكونوا شيوخا» .. وبين بلوغ الإنسان أشده، وبين شيخوخته مسافة زمنية، يملأ فراغها حرف العطف «ثم» ..
وقوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» احتراس، يراد به تقييد هذا الإطلاق فى قوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» أي ومنكم من يتوفى من قبل أن يبلغ أشده، أو من قبل أن يكون شيخا..
وقوله تعالى: «وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» بتقدير محذوف يدل عليه ما قبله: أي ومنكم من يمدّ فى أجله، لتبلغوا الأجل المكتوب لكم..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي أن من قدرة الله سبحانه ومن تدبيره فى خلقه، أنه «يحيى» أي(12/1265)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
يخلق الأحياء، ويمسك عليهم الحياة «ويميت» أي يميت الأحياء، التي ألبسها ثوب الحياة..
وعمليات الإحياء والإماتة، ليست بالأمر الذي يتكلف له الله- سبحانه- جهدا، أو يبذل فيه عملا.. إذ أن كل شىء فى هذا الوجود خاضع لسلطانه، مستجيب لقدرته. منفذ لمشيئته، من غير تأبّ أو انحراف.. «فَإِذا قَضى أَمْراً.. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي أنه سبحانه إذا شاء أمرا، كان هذا الأمر، وجاء كما شاءت مشيئته..
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم)
الآيات: (69- 77) [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)(12/1266)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ» ..
بعد هذا الاستعراض الرائع لقدرة الله، وآثاره فى خلقه، لا يزال هناك كثير من أهل الضلال، يقفون من هذه الآيات موقف العناد والتكذيب..
فإلى أين يصرفون عن هذا الحق الذي بين أيديهم؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ..
وفى تعدية الفعل «يجادلون» بحرف الجر «فى» إشارة إلى أنهم يجادلون بغير علم، لجاجة وسفها وتطاولا.. ولهذا ضمن الفعل معنى الخوض.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .
هو بيان يكشف عن الذين يجادلون فى آيات الله.. إنهم هم هؤلاء الذين كذبوا بهذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهم هؤلاء الذين كذبوا من قبلهم بما أرسل الله به الرسل من آيات ومعجزات.. فهؤلاء الذين يجادلون فى القرآن الكريم، هم وأولئك الذين سبقوهم من المكذبين، الذين جادلوا فى آيات الله التي جاءهم بها رسل الله- هؤلاء وأولئك جميعا سوف يعلمون ما ينتظرهم من بأس الله وعذابه، وسوف يرون ما أنذرهم به رسلهم من عذاب، فلم تغنهم النذر!.(12/1267)
قوله تعالى:
«إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» .
«إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي فسوف يعلمون الحق الذي أنكروه، حين يساقون إلى جهنم يسحبون على وجوههم، والأغلال فى أعناقهم، والسلاسل فى أيديهم وأرجلهم..
وقوله تعالى: «فِي الْحَمِيمِ» متعلق بقوله تعالى: «يُسْحَبُونَ» أي يسحبون بالأغلال التي فى أعناقهم، فى الحميم.. والحميم هو ما يغلى من السوائل..
وقوله تعالى: «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» أي يربطون على النار، لتشوى عليها أجسامهم، بعد أن غرقت فى هذا الحميم..
قوله تعالى:
«ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً.. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ» .
فى قوله تعالى: «قِيلَ لَهُمْ» بدلا من: يقال لهم، حيث نسق النظم الذي جاء معلّقا الأمر بالمستقبل، فى الأفعال «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .. «ويُسْحَبُونَ» «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» - فى هذا حكاية لما يقال لأصحاب النار يومئذ، وكأنه قيل بالفعل، وذلك لتقرير وقوعه وتوكيده، ثم ليسمع هؤلاء المشركون ما قيل لمن سبقوهم من أهل الضلال، فهذا خبر من أخبارهم، وأنهم إنما يسألون عن معبوداتهم الذين عبدوهم من دون الله، فيلتفتون فلا يجدون لهم ظلّا.. فيقولون: لقد ضلوا عنا، أي تاهوا فى هذا المزدحم.. ثم إذ يتبين(12/1268)
لهم أن ما كانوا يدعونه من دون الله، باطل، وضلال، يقولون: «لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً» أي شيئا يعتدّ به، ويستند عليه.. تلك هى حال المشركين الذين سبقوا هؤلاء المكذبين من قريش، وهذا ما سئلوا عنه، وذلك هو جوابهم.. فماذا يكون جواب هؤلاء المكذبين المشركين من قريش حين يسألون هذا السؤال؟ أيجدون ما يقولون غير هذا القول؟
وهل يرون لمعبوداتهم وجها يوم الحساب؟ وإذا رأوا لهم وجها فهل يغنون عنهم من عذاب الله من شىء؟.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ» أي كما أضل الله المكذبين برسل الله، كذلك يضل الله هؤلاء المشركين الذين يكذبون رسول الله..
لأنهم جميعا ظالمون كافرون، إذ خرجوا عن سنن العدل والإنصاف بإنكارهم الصبح المبين، وتكذيبهم الحق الواضح..
قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ» ..
أي ذلكم الذي أنتم فيه من بلاء وعذاب فى الآخرة، هو بسبب ما كنتم عليه فى الدنيا، من غرور، بما ملكتم فيها، وزهو وعجب بما بين أيديكم من زخرفها ومتاعها، فصرفكم ذلك عن أن تنظروا إلى ما وراء يومكم الذي أنتم فيه، فقطعتم حياتكم فى فرح ومرح، ولهو وعبث..
وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ الْحَقِّ» إشارة إلى أن الفرح المذموم، هو الفرح الذي ينبع من استرضاء عواطف خسيسة، وإشباع شهوات بهيمية، كما يقول الله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا(12/1269)
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ»
(81: التوبة) ..
أما الفرح الذي يقع فى نفس الإنسان، ويهزّ مشاعره، من انتصار حق، أو استعلاء على شهوة، فهو فرح محمود، بل ومطلوب، كما يقول الله تعالى:
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» (4- 5: الروم) .
والمرح: الفرح الشديد، الذي يصحبه عبث ولهو..
قوله تعالى:
«ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» - هو دعوة إلى أهل الكفر والضلال، أن ينزلوا منازلهم التي أعدت لهم فى الآخرة.. فلكل جماعة بابها الذي تدخل منه إلى منزلها المعدّ لها فى جهنم، كما يقول الله سبحانه: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (44: الحجر) ودخول الأبواب- كما قلنا من قبل- هو دخول فى جهنم ذاتها، إذ كانت تلك الأبواب قطعة من جهنم، مطبقة على أهلها..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» ..
هو دعوة إلى النبي الكريم بالصبر على ما يلقى من عنت قومه، وتكذيبهم له، والتربص لدعوته، وللمؤمنين بها.. وفى الدعوة إلى الصبر، مع كل موقف، وفى أعقاب كل مواجهة بين النبي وقومه- فى هذا ما يشير إلى ما كان يلقى النبىّ من أذى وما يحتمل من ضرّ، وأنه ليس له إلا أن يصبر(12/1270)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
ويحتمل، حتى يحكم الله بينه وبين قومه.. «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وهو أن الله سينصره، ويعزّ المؤمنين الذين آمنوا به، ويمكّن لهم فى الأرض، وأنه- سبحانه- سيخزى الضالين المكذبين، ويوقع بهم البلاء فى الدنيا، والعذاب الشديد فى الآخرة..
وقوله تعالى: «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» أي أن هؤلاء الضالين المكذبين، لن يفلتوا من قضاء الله فيهم، ومما يتوعدهم الله به من عذاب. سواء أرأيت هذا أيها النبي، فى الدنيا، أو متّ قبل أن ترى قضاء الله فيهم، فإنهم راجعون إلينا فى الآخرة، وما فاتك أن تراه من قضاء الله فيهم فى الدنيا، سترى أضعافه فيهم الآخرة..
الآيات: (78- 84) [سورة غافر (40) : الآيات 78 الى 85]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)(12/1271)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» .
كانت الآية السابقة دعوة للنبى الكريم، من ربه سبحانه وتعالى، أن يصبر على أذى المشركين له، وأن ينتظر وعد الله وحكمه.. فإن وعد الله لآت لا شك فيه، ولكنّ لهذا الوعد أجلا موقوتا عند الله، لا يجىء إلا فى وقته الموقوت له..
وفى هذه الآية ردّ على تحديات المشركين بإنزال العذاب الذين أوعدوا به.. فقد كانوا يقولون، فيما حكاه القرآن الكريم عنهم: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) .
كما أن فى هذه الآية دفعا لما يساور بعض نفوس المؤمنين من قلق، حتى إنهم ليقولون تحت وطأة البلاء الواقع عليهم من المشركين: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ففى هذه الآية، يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، بأنه سبحانه، قد أرسل رسلا كثيرين من قبله، منهم من قص عليه أخبارهم، ومنهم من لم(12/1272)
يقصصهم عليه.. وأن هؤلاء الرسل جميعا لم يأت أحد منهم بآية من تلك الآيات المعجزة أو المهلكة التي أخذت أقوامهم إلا بإذن الله، فهو سبحانه الذي أمدهم بهذه الآيات.. وأن هذه الآيات لم تأت من عند الله بطلب من الرسل، أو استجابة لتحدّى أقوامهم، وإنما هى بتقدير العزيز الحكيم..
وقوله تعالى: «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» .
أمر الله: هو وعده.. ومجيئه: هو وقوعه فى وقته الموقوت له.. أي إذا جاء الوقت الموقوت لقضاء الله، «قضى بالحق» أي حكم بالحق، بين الرسول وقومه المكذبين به.. وفى هذا القضاء بالحق تقع الواقعة بالمبطلين، وينزل بهم بلاء الله، على حين ينجّى الله الرسول والذين آمنوا معه..
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة تهددت المشركين بوقوع ما توعدهم الله به، إن عاجلا، أو آجلا، إذا هم ظلوا على ما هم عليه من ضلال وعناد.. فجاءت هذه الآية، تفتح طريقا لهؤلاء المشركين إلى الهدى، إن كان بهم متجه إليه، بعد أن سمعوا هذا التهديد..
ففى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ» تذكير لهم بنعم الله فيهم، وإحسانه إليهم، وأنه سبحانه- لا أصنامهم- هو الذي سخر لهم هذه الأنعام، ليركبوا منها، ما يركبون، ويأكلوا منها ما يأكلون..
«ومن» هنا تبعيض، أي لتركبوا بعض هذه الأنعام، وتأكلوا بعضها..(12/1273)
ويجوز أن تكون «من» للتعدية، أي ليكون من هذه الأنعام ركوبكم، ويكون منها أكلكم.. بمعنى أن هذه الأنعام مادة صالحة للركوب، كما هى مادة صالحة للأكل.. كالإبل مثلا..
وقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ» إشارة إلى فوائد أخرى لهذه الأنعام غير الركوب، وغير الأكل، فيما ينتفع به من أصوافها وأوبارها، وجلودها، وفيما يحقق به الإنسان من اقتنائها، وتربيتها وتثميرها من آمال وغايات ورغائب فى صدره، فيقتنى من ثمنها ما يشاء من أثاث ومتاع.. وفى تعدية الفعل «تبلغوا» بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنها المطية إلى تحقيق هذه المطالب..
وقوله تعالى: «وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» إشارة أخرى إلى ما ينتفع به من هذه الأنعام، وهى حمل الأثقال، كما يقول سبحانه: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.» وقد قرنت بها الفلك، التي هى نعمة أخرى فى حمل الأثقال والناس إلى أماكن بعيدة فوق ظهر الماء، الذي لا سبيل إلى اجتيازه بالإبل، أو الخيل، ونحوها من دواب الركوب.. فهذه للبر، وتلك للبحر.. وهكذا تتم النعمة! قوله تعالى:
َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ»
أي ويريكم الله من هذه النعم آياته الدالة على قدرته، وفضله وإحسانه..
فأىّ آية من هذه الآيات ترون أنها ليست من عند الله، وأنها ليست ذات فضل عظيم عليكم.؟(12/1274)
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو تهديد للمشركين، بعد هذا العرض الذي رأوا فيه آيات الله، وما أمدهم الله به من نعم.. فكما أن لله سبحانه وتعالى نعمه وفضله وإحسانه، كذلك له- سبحانه- نقمه، وسطوانه، بالمكذبين الجاحدين.. ولو أنه كان لهؤلاء المشركين عيون تبصر، وعقول تعقل، لرأوا ما أنزل الله سبحانه وتعالى من بلاء ونقم بالمكذبين الضالين قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم مالا وولدا، وأشد منهم قوة وبأسا، وأعظم منهم آثارا وعمرانا فى الأرض.. فلما أخذهم الله ببأسه لم يغن عنهم شىء مما كان فى أيديهم، من مال، ورجال، وما أقاموا من دور وقصور وحصون..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» الفاء فى «فلما» للسببية، ولمّا، بمعنى حين.. أي فإنه حين جاءتهم رسلهم بالبينات، استخفوا بهم وبما معهم، واغتروا بما فى أيديهم من أباطيل، وفرحوا بها، واطمأنوا إليها.. فأحاطت بهم خطيئتهم، ووقع بهم البلاء، جزاء لاستهزائهم بهذه الآيات البينات..
وفى قوله تعالى: «فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» إشارة إلى قوله تعالى:
«ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ» ..
فهم قد فرحوا بهذا الباطل الذي بأيديهم، وعدوه كل حظهم من الحياة..(12/1275)
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ» البأس: العذاب، والبلاء الواقع بالمكذبين.
أي وحين رأى هؤلاء المكذبون برسل الله نذر العذاب تطلع عليهم آمنوا بالله، وقالوا: آمنا بالله وحده، لا شريك، وكفرنا بتلك المعبودات التي كنا بسبب عبادتها مشركين بالله.. فالباء فى «به» للسببية.
قوله تعالى:
«فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» ..
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفى هذا الختام عرض لموقف الضالين جميعا، حين يرون بأس الله يحيط بهم.. إنهم إذ ذاك يقولون: آمنا بالله ولكن لا يقبل منهم هذا الإيمان، وقد حل بهم البلاء. فتلك هى سنة الله.. إنه لا ينفع إيمان فى غير وقته، وإنما لذى ينفع هو حين يكون الإنسان فى سعة من أمره، وفى قدرة على امتلاك الأمر فيما يختار من إيمان أو كفر..
أما هذا الإيمان الذي يقع تحت حكم الاضطرار والقهر، فهو إيمان باطل، لا إرادة للإنسان فيه.. ومن ثمّ فلا يحسب له، ولا يعدّ من كسبه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» .. (158: الأنعام)(12/1276)
41- سورة فصلت
وتسمى: «السجدة» نزولها: مكية.. بلا خلاف.
عدد آياتها: أربع وخمسون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة وست وتسعون.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون.
مناسبتها لما قبلها
كان مما ختمت به سورة غافر، قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» .. ثم جاءت الآيات بعد هذا لتذكّر بآيات الله الممثلة فى نعمه التي أنعم الله بها على عباده من الأنعام.. وتلتها آيات أخرى، تذكر بآيات الله فيما أخذ به الظالمين المكذبين من نقم، وقد كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من هؤلاء المشركين، فما أغنى عنهم ذلك من بأس الله من شىء، وأنهم حين رأوا بأس الله فزعوا إلى الإيمان، ولكن بعد فوات الأوان، فلم يكن ينفعهم إيمانهم هذا..
ثم جاءت سورة فصلت، لتصل هذا الحديث، الذي يذكّر بآيات الله، وينذر المكذبين الضالين بعذاب شديد، فتبدأ السورة بذكر القرآن الكريم وما يحمل من آيات بينات، فصّلت بلسان عربى مبين.. فإذا كان المشركون قد عموا عن أن ينظروا فى هذه النعم التي بين أيديهم، والتي تتمثل فى الأنعام، التي منها ركوبهم، ومنها يأكلون، ثم عموا كذلك عن أن يروا ديار القوم(12/1277)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
الظالمين، وما نزل بها من نقم، الله وأنها قد أصبحت ترابا يمشون عليه، وقد اختلط فيه الآدميون بالحيوان، والنبات، والأثاث- إذا كان المشركون قد عميت أبصارهم عن أن ترى هذه الآيات، أو تلك، فليسمعوا بآذانهم هذه الآيات، التي هى كلمات الله إليهم، تدعوهم إليه بلسان عربى مبين، وتكشف لهم معالم الطريق إلى الهدى ودين الحق..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
التفسير:
«حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «حم» مبتدأ، وخبره «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. أي أن «حم» هذه، تنزيل من الرحمن الرحيم، أي هى من كلمات الله وآياته.. وفى هذا ردّ على(12/1278)
من يقول إن الحروف التي بدئت بها أوائل السور ليست من القرآن، وإنما هى إضافات ألحقت ببعض السور فى الدور المكي من نزول القرآن، وقد وضعت على رأس هذه السور، لتدلّ على عدد آياتها، محسوبة بحساب «الجمل» للحروف، الذي كان معروفا للعرب.. فقد كان من تدبير النبي- كما يزعمون فى هذا الدور من نزول القرآن أن يضبط عدد آيات السورة، ويقيّدها بهذه الحروف التي توضع على رأسها، حتى لا تختلط بغيرها، وذلك أن عملية كتابة الوحى لم تكن قد انتظمت، ورتب لها كتابها، وأدواتها فى هذا الدور المبكّر من نزول القرآن..
وهذا الزعم، باطل من وجوه:
فأولا: أنه إن أخذ به، لا يحقق الغاية التي قيل إنه جاء من أجلها، وهو ضبط عدد آيات السورة.. وذلك أنه ليس كل سور القرآن المكي بدئت هذا البدء بالحروف المقطعة، حتى يمكن حصر كل سورة فى العدد الذي تدل عليه هذه الحروف القائمة على رأس كل سورة.. وعلى هذا يمكن إذا سقطت آية أو آيات من السورة التي ضبط عددها أن يستجلب لها ما سقط منها من سورة أخرى من السور التي لم يضبط عددها.. وإذن يكون هذا التدبير، غير محقق للغرض الذي قصد منه..
وثانيا: لو صحّ هذا الزعم بأن تلك الحروف كانت لضبط عدد آيات السور فى القرآن المكي- لكان من تمام التدبير أن يشمل ذلك القرآن المكي كله، بل كان أولى به، تلك السور التي كانت أول القرآن نزولا، وهذا غير وارد فى القرآن..
وثالثا: إذا صح هذا الزعم أيضا، بالنسبة للقرآن المكي الذي قيل(12/1279)
إن عملية كتابة القرآن فيه لم تكن مستكملة، ولا متوفرة الكتاب، ولا أدوات الكتابة- فإنه لا يصح فى القرآن المدني، وفيه كثير من السور بدئت بالحروف المقطعة، كسورة البقرة، وآل عمران.. مثلا.
قوله تعالى:
«كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
هو بدل من قوله تعالى: «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بدل كل من كل.. أي هذا الذي نزل من الرحمن الرحيم، هو كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون..
وفى قوله تعالى: «مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إشارة إلى أن منزل هذا القرآن هو الله سبحانه وتعالى، تجلى به سبحانه على العباد، رحمة لهم، وإحسانا إليهم..
وفى قوله تعالى: «كتاب» - إشارة إلى أن هذه الرحمة المنزلة من عند الله كتاب، يقرأ، ويدرس، وتتلقّى منه الحكمة والمعرفة، فهو من حظ العقول والقلوب والأرواح، وليس متاعا كالأنعام ونحوها، مما هو من حظ الأبدان، والجوارح، والبطون!.
وفى قوله تعالى: «فُصِّلَتْ آياتُهُ» - إشارة ثالثة، إلى أن هذا الكتاب ليس ذا موضوع واحد، شأن الكتب المعروفة، فهو ليس كتاب فلك، أو حساب، أو قصص، أو تاريخ، أو نحو هذا مما هو موضوع كل كتاب.. وإنما هو كتاب الوجود كله، يحمل بين دفتيه كل علم، وكل فن، حيث هو جامعة العلوم والمعارف كلها، لمن آتاه الله عقلا مبصرا، وبصيرة مشرقة، وقلبا سليما، وروحا صافية.. ففى هذا الكتاب قطوف دانية من(12/1280)
كل علم، وثمار شهية طيبة، مختلفة الألوان والطعوم من كل فن.. وفيه يقول الله تعالى «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (9: الإسراء) .
ويقول الرسول الكريم: «القرآن مأدبة الله.. فتعلموا من مأدبته» ..
إنه مأدبة سماوية، لا ينفد عطاؤها، ولا ينقص ما عليها، مهما كثرت الأيدى المتناولة منها..
وقوله تعالى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» - حال من الكتاب، وهى حال واصفة لهذا الكتاب، وهو أنه قرآن عربى، أي يقرأ بلسان عربى..
وفى هذا امتنان من الله سبحانه وتعالى على الأمة العربية، وتنويه بها، ورحمة من الله اختصّت بها، إذ كانت هذه المأدبة ممدودة للعرب فى ساحتهم، وكانوا هم أهلها، والداعين إليها..
وفى قوله تعالى: «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» - حثّ للأمة العربية، أصحاب هذه المأدبة، أن يأخذوا نصيبهم الأوفى منها، وإنه لا سبيل إلى الإفادة من خيرها الممدود، إلا بالعلم، فمن كان على علم ومعرفة، كان حظه من هذا القرآن أوفى وأعظم.. ومن حرم العلم والمعرفة، فلا نصيب له منه..
قوله تعالى:
«بَشِيراً وَنَذِيراً» ..
حال أخرى، من هذا الكتاب، تكشف عن موضوعه، بعد أن كشفت الحال الأولى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» عن صفته.. فهو بشير، ونذير، بشير لأهل الإيمان والتقوى، بالفوز برضوان الله، والخلود فى جنات النعيم،(12/1281)
ونذير للكافرين والضالين والمكذبين، نذير لهم بسخط الله، والخلود فى نار الجحيم..
وقوله تعالى:
«فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» ..
بيان لما تكشّفت عنه الحال من أمر هؤلاء الذين أنزل الله سبحانه عليهم هذه الرحمة، ومدّ مائدتها بين أيديهم.. «فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ» عنها، وأبى أن يمد يده إليها.. «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إذ قد أصموا آذانهم عن دعوة الداعي، فلم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من خير، وما يمدّ لهم من إحسان..
قوله تعالى:
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» .
الأكنّة: جمع كن، وهو ما يستكنّ فيه ويستتر عن الأعين، والوقر: الصمم.
ومن ضلال هؤلاء الضالين المعرضين عن دعوة الخير التي يدعوهم هذا القرآن إليها، على لسان النبي الكريم- أنهم أحكموا إغلاق الطرق والنوافذ، بينهم وبين هذا الرسول، فلم يدعوا منفذا تنفذ منه كلماته إليهم..
ولقد أحكموا إغلاق قلوبهم حتى إذا سمعت آذانهم شيئا من هذا القرآن- عرضا من غير قصد- لم تنفذ إلى قلوبهم، التي هى موطن الوعى(12/1282)
والإدراك، ثم- زيادة فى الاحتياط، وحراسة لآذانهم من أن يقع فيها شىء من القرآن عفوا- جعلوا بينهم وبين النبي حجابا، بالبعد عنه، واجتناب أىّ مكان يكون فيه، حتى يأمنوا أن تطرق كلمة من كلماته أسماعهم..!
وقد يبدو- فى ظاهر الأمر- أن النظم الذي جاء عليه القرآن فى ترتيب هذه المغالق- أنه قد جاء بها على غير الترتيب الطبيعي، الذي يألفه الناس، فى التدبير لما يحرصون عليه، ويعملون على صيانته وحراسته، من الآفات، والعوارض التي تعرض له.. حيث يتجه الإنسان أول ما يتجه إلى إقامة سور حول بيته، ثم يتخير فى داخل هذا السور المكان الذي يقيم فيه البيت، ثم يتخير من هذا البيت المكان الأمين الذي يحفظ فيه الغالي الثمين، مما يحرص عليه من مال ومتاع..! هكذا يبدو وجه التدبير فى مثل هذه الحال..
ولكن القرآن الكريم، بدأ- كما نرى- من حيث انتهى التدبير البشرى.. فتحدث عن القوم بأنهم أحكموا إغلاق ما بداخلهم، قبل أن يحكموا إغلاق المنافذ الخارجية التي يمكن الوصول منها إلى هذا الذي فى الداخل:
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» فما سر هذا؟
السر فى هذا- والله أعلم- هو أن القوم لم يكونوا مع القرآن الكريم فى سعة من أمرهم، وفى فسحة من الوقت للاختيار، والتدبير..
فلقد كان لهم مع القرآن الكريم لقاء من قبل أن يحكموا أمرهم معه، ويلقوه بالتدبير الذي يرونه.. وكانت الكلمات التي سمعوها من القرآن الكريم ذات قوة نفاذة هزت قلوبهم من أقطارها، وكادت تستولى(12/1283)
عليهم، وقد وقع كثير منهم تحت سلطانها القوىّ الآسر، وأحس الهزيمة تكاد تنزل به، وتحطم صخرة كبره وعناده.. فكان همه حينئذ أن يمسك قلبه، وأن يدفع عنه هذا الخطر الذي يتهدده.. إن المعركة هنا بينهم وبين النبي، وما دخل على قلوبهم من كلمات الله التي سمعوها منه.. وإذن فلتغلق هذه القلوب، ولتقم عليها حراسة قوية منهم.. «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» .. فهذه قلوبنا التي رميتها بما رميتها به من سهام، قد وضعناها فى أكنّة من إرادتنا المتحدية، بما أصابها من جراح.. وإن الزمن لكفيل بأن تلتئم معه جراحها!.
هذا أول ما ينبغى أن يكون من القوم، فى دفع هذا الخطر الذي دهمهم.. وهذا هو أول ما يكون ممن يدهمه خطر يتهدد وجوده أو يتهدد الشيء الذي يحرص عليه.. إن همه الأول هو الدفاع عن هذا الذي يتهدده الخطر منه، سواء أكانت حياته، أو كان متاعه! حتى إذا استشعر النجاة من هذا الخطر، كان له بعد ذلك أن ينظر فى المنافذ الأخرى التي يهبّ عليه الخطر منها، فيبدأ بالقريب منها أولا، ثم بالذي يليه، وهكذا..
ومن هنا كان نظرهم بعد هذا إلى أقرب شىء يجىء منه الخطر إلى قلوبهم، وهى آذانهم، فأحكموا إغلاقها، ووضعوا عليها سدّا يحول بين الكلمات، وبين النفاذ منها إلى القلوب: «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ» .. ثم كان التدبير بعد هذا، أن يبعدوا بأنفسهم- وما معهم من آذان وقلوب- عن مواطن الخطر جملة.. «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» .. فذلك هو الذي يقطع كل صلة بينهم وبين موطن الخطر..!(12/1284)
وقد جاء النظم القرآنى: «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» بزيادة حرف الجر «من» ولم يجىء: «وبيننا وبينك حجاب» وذلك للمبالغة فى أن ما بينهم وبين النبي قد سدّ بحجاب كامل، ملأ المسافة التي بينهم وبين النبي، فكل ما بينهم وبين النبي حجاب غليظ كثيف.. ولو جاء النظم القرآنى:
«وبيننا وبينك حجاب» لما أدّى هذا المعنى، ولكان مفهوم الحجاب هنا أنه مجرد ستر بينهم وبين النبي!.
واقرأ الآية مرة أخرى، وانظر إليها نظرة مجدّدة، على ضوء هذا الفهم الذي فهمناها عليه.. وإنك لتجد لتلك الآية فى هذا الترتيب إعجازا من إعجاز القرآن الكريم، وآية من الآيات التي تشهد له، بأنه من تنزيل من حكيم حميد..
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ.. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ! فسبحان من هذا كلامه، وتلك آياته!.
وقوله تعالى: «فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» ..
لقد أمن القوم، أو هكذا خيّل إليهم أنهم قد أمنوا.. إذ قد فرّوا من وجه هذا النهار، ودفنوا رءوسهم فى الرمال!.
«فاعمل» ما تشاء، واقرأ من قرآنك ما تقرأ.. فلن تجد لما تقرأ أذنا تسمع، أو قلبا يقع فيه شىء مما تقرأ «إننا عاملون» .. ولقد عملنا ما ترى، من إقامة هذه الحواجز بيننا وبينك.. فافعل ما شئت!.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» .(12/1285)
وماذا يعمل النبي؟ إنه لا يملك شيئا لرفع هذه الحواجز التي أقاموها على أنفسهم، وإنه لن يستطيع أن يخرجهم من أجحارهم تلك التي دفنوا أنفسهم أحياء فيها..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» - إشارة إلى خطأ ما يظنه المشركون فى النبي، وأنه إنما يستعلى عليهم بما فى يديه من هدى، وما يتلوه عليهم من آيات ربه.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- بشر مثلهم قبل كل شىء، وأن هذا الذي آتاه الله من فضله لن يخرجه عن بشريته.. إن الإنسان هو إنسان قبل كل شىء، وما يؤتاه من الله سبحانه، من بسطة فى فى الجسم، أو سعة فى الرزق، أو روعة فى الجمال والحسن، أو نفاذ فى البصيرة والإدراك- لن يخرجه ذلك عن أن يكون إنسانا.. وفى هذا عزاء للناس الذين لم يكن لهم حظ موفور، من هذا الذي مع غيرهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها، إذ أنهم- لو عقلوا- لعلموا أنهم شركاء فى هذا الذي يرون أنفسهم أنهم حرموا منه وهو البشرية.. إنه ملك الإنسانية كلها، يضاف إلى رصيدها، مما هو مرغوب فيه عندها.. كما أن ما فى بعض الناس من نقص وعيب، هو مما يحسب على الإنسانية كلها، ومما تخفّ به موازينها..
وإذن، فإن الذي ينبغى أن يأخذ به الإنسان نفسه، ليكون عضوا فى هذه الشركة العامة، هو أن يدخل فيها برصيد طيب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى يأخذ بمقدار ما يعطى.. وإلا كان معتديا ظالما..
والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- هو بشر مثلهم، وقد أكرمه الله بهذا الرزق السماوي العظيم، الذي بين يديه من كتاب الله، والذي يدعو إليه الناس جميعا، ليشاركوه فيه، وليأخذوا ما استطاعوا حمله منه.. وإن الشقي من حرم نفسه من هذا الغذاء الذي هو حياة الأرواح، وغذاء العقول والقلوب.(12/1286)
وقوله تعالى: «يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو صفة أخرى للنبى، إلى جانب صفته البشرية، وهو أنه رسول يوحى إليه من ربه، وأن موضوع هذا الوحى، هو تقرير وحدانية الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن كل محامل الوحى هو تقرير هذه الحقيقة، وتأكيدها، والعمل فى ظلها..
وقوله تعالى: «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» هو تعقيب على هذه الحقيقة التي جاءت بها رسالة الرسول، ونزلت بها آيات الله، وحيا إليه من ربه.. «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» أي اتجهوا إلى إلهكم الواحد دون أن تلتفتوا إلى وراء، أو يمين، أو شمال، نحو ما تعبدون من آلهة.. بل اجعلوا وجوهكم إلى الله وحده، واسعوا إليه فى استقامة وجدّ «واستغفروه» لما كان منكم من ضلال عنه، وشرك به.
وقوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» وعيد للمشركين الذين يمسكون بشركهم، ولا يتحولون عنه إلى الإيمان بالله وحده.. وهو معطوف على محذوف، تقديره: فإن استقمتم واستغفرتم ربكم، غفر لكم ونجاكم من عذابه، والويل للمشركين الذين لا يتحولون عن شركهم.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» هو وصف لهؤلاء المشركين، الذين تهددهم الله سبحانه وتعالى بالويل، وسوء المصير..
وفى اختيار عدم إتيان المشركين الزكاة، وجعلها الصفة البارزة فيهم- ما يسأل عنه، وهو: كيف تكون الزكاة المعلم الأول للإيمان بالله، حتى(12/1287)
يكون عدم أدائها المعلم البارز من معالم المشركين؟ ثم كيف يكون هذا شأن الزكاة فى هذه المرحلة من الدعوة، التي لم تكن الزكاة قد فرضت فيها على المسلمين، إذ أن السورة مكية، والآية مكية كذلك، والزكاة إنما فرضت فى المدينة! فكيف هذا؟
والجواب- والله أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالزكاة، هو الزكاة المفروضة، وإنما المراد بها الإنفاق فى سبيل الله، وفى وجوه الخير ابتغاء وجه الله.. فكل ما ينفق فى سبيل الله وابتغاء وجه الله، هو زكاة، وطهرة للمنفق..
وثانيا: أن الزكاة بهذا المعنى لم تجىء صفة أصلية، وإنما جاءت حالا من أحوال الذين لا يؤمنون بالآخرة.. «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .. فهذه الحال- وهى عدم إيمان المشركين بالآخرة- هى التي جعلتهم لا يؤتون الزكاة.. فلو أنهم كانوا يؤمنون بالآخرة، لأعدوا لها عدتها ولسخت أيديهم بالإنفاق فى وجوه الخير، ليكون لهم من ذلك زادا ما يتزودون به لهذا اليوم..
وثالثا: أن الإتيان للزكاة، يشمل الإتيان لكل طيب، ولكل ما يتطهر به الإنسان، ويزكو، ولا طهر ولا زكاة، مع الشرك.. فيكون من المعاني التي يشير إليها قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» أي الذين لا يؤمنون بالله..
ويكون «الإتيان» هنا بمعنى التسليم، وإعطاء الولاء لله ولرسول الله.. ويروى عن ابن عباس فى هذا: «أنهم لا يقولون: لا إله إلا الله» .
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ»(12/1288)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
هو فى مقابل قوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» . فإذا كان الويل للمشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فإن الثواب العظيم، والجزاء الكريم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون.. أي جزاء حسن، متصل لا ينقطع أبدا حيث جنات النعيم، هم، فيها خالدون.
الآيات: (9- 12) [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» .
بعد أن تهددت الآيات السابقة المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم(12/1289)
الآخر- جاءت هذه الآيات لتلقاهم بما لله سبحانه وتعالى من علم وقدرة وسلطان، حتى يكون لهم من ذلك ما يفتح مغالق عقولهم، فينظروا إلى جلال الله، ثم لينظروا إلى آلهتهم على سنا هذا الجلال، ثم ليحكموا عليها، ماذا تكون هذه الدّمى إزاء ربّ الأرباب، خالق الأرض والسموات! وفى قوله تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ..
الآية» ..
تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكفرون بالله، ويعبدون هذى الدّمى الجاثمة على التراب! والاستفهام إنكارى.. أي ما كان لكم أن تكفروا يمن هذه قدرته، وتلك آثاره..
وفى قوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» قلنا فى أكثر من موضع فى تفسيرنا للآيات التي تشير إلى زمن محدّد لما خلق الله من مخلوقات، مثل قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» (54: الأعراف) - قلنا إن هذا الزّمن إنما هو منظور فيه إلى طبيعة المخلوق لا إلى قدرة الخالق.. وإلى أن هذا الزمن، هو الذي قدّره الخالق سبحانه وتعالى لينضج فيه المخلوق، ويستوفى فيه تمام خلقه، كالجنين فى الرحم، حيث يتم تكوينه فى تسعة أشهر، فى عالم الإنسان، وفى زمن أقل أو أكثر فى العوالم الأخرى من الأحياء.. فالزمن جزء من وجود كلّ موجود، وفى تطوره من حال إلى حال.. سواء فى هذا، الحيوان، والنبات، والجماد..
فقوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها(12/1290)
وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ»
.. إشارة إلى الزمن الذي نضجت فيه الأرض، وتمّ تكوينها، وتهيأت لاستقبال الحياة فيها..
والأيام هنا هى أيام الله.. أي الأيام التي يحويها فلك هذا الوجود، فكل فلك له زمن معلوم، تتم فيه دورته، وتلك الدورة هى يوم، كيوم عالمنا الأرضى.. ففى يومين من أيام الله.. ولا يعلم قدر هذا اليوم إلا الله- ثمّ تكوين جرم الأرض، فكانت أشبه بالعلقة فى رحم الأم..
ثم بعد ذلك بدأت تظهر عليها الجبال، وتجرى فيها الأنهار، وتتحدد عليها كميات الهواء، والحرارة، إلى أن أصبحت صالحة لأن تلد الكائنات الحيّة، وأن تمدّها بالغذاء الذي يحفظ عليها حياتها.. وذلك فى مدى يومين آخرين من أيام الله.. فكانت حضانة الأرض فى كيان الكون أربعة أيام، من أيام الله، قبل أن تتهيأ لاستقبال الحياة، وظهور الكائنات الحية على ظهرها..
وقوله تعالى: «وَبارَكَ فِيها» إشارة إلى توالد الأحياء على الأرض، وتكاثرها بما توالد فيها من عوالم النبات والحيوان والإنسان» .. فهذا من بركة الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض! وقوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» .. أي وقدّر على هذه الأرض الأقوات التي تضمن الحياة لهذه المواليد المتكاثرة فيها.. وذلك بما أودع فيها من هواء، وماء، وطعام..
وقوله تعالى: «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» هو حال من الأقوات، أي أن هذه الأقوات مقدّرة بقدر معلوم، وموزونة بميزان دقيق.. فالهواء مثلا، لو زادت نسبة الأوكسجين فيه عن قدر معلوم لاحترق الأحياء، ولو نقصت تلك النسبة عن قدر معلوم كذلك لاختنق الناس والحيوان والنبات.. وهكذا كلّ ما فى هذه(12/1291)
الأرض، وما عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» (19: الحجر) والسائلون هنا، هم أصناف الأحياء، الذين يسألون، أي يطلبون ما يمسك عليهم حياتهم.. فكل حىّ يسأل، ويطلب ما تطلبه حياته، سواء أكان هذا إنسانا أو حيوانا أو نباتا.
وفى التعبير بالسائلين، إشارة إلى أن هذه المخلوقات- ومنها الإنسان- إنما تقف جميعها سائلة من فضل الله وإحسانه، الذي بثّه فى هذه الأرض..
هذا، وقد رأى بعض المفسرين أن مدة خلق الأرض هى ستة أيام، أخذا بما ذكر فى هذه الآية، من اليومين، والأربعة الأيام.. ولما كانت مدة خلق السموات يومين، فتكون مدة خلق السموات والأرض، هى ثمانية أيام.. والقرآن الكريم صريح الدلالة فى أن خلق السموات والأرض كان فى ستة أيام، وذلك بما نطق به فى أكثر من موضع منه..
ولا يمكن أن يقع هذا الاختلاف فى كتاب الله.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» ..
والذي ينظر فى قوله تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» - الذي ينظر فى هاتين الآيتين، يرى أن مدة خلق الأرض هى أربعة الأيام، وهى التي ذكرت فى الآية الثانية، ويدخل فيهما اليومان اللذان ذكرا فى الآية الأولى.. ولهذا عطف قوله تعالى: «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ» على قوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ» .. أي خلقها وجعل فيها رواسى من فوقها(12/1292)
وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها فى أربعة أيام.. منهما يومان كان فيهما خلق جرم الأرض.. أما ذكر اليومين فللدلالة على أن الخلق غير الجعل..
فخلق الأرض، كان له زمن تمّ فيه هذا الخلق.. ثم كان لتلك الإضافات التي دخلت على الأرض بعد خلقها، زمن آخر، ومجموع هذا وذاك هو أربعة أيام من أيام الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» (15: الأحقاف) وقوله فى آية أخرى: «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» (14: لقمان) .
قوله تعالى:
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» .
استوى إلى السماء، أي نظر إلى السماء، نظر تمكن واستعلاء..
وهى دخان: أي بخار.
أي أنه بعد أن تمّ خلق الأرض، وتهيأت لاستقبال الحياة، بعد هذا نظر سبحانه وتعالى إلى السماء، نظرة تمكن واستعلاء، وكانت دخانا، أي بخارا غير متماسك، «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» - أي دعا الأرض والسماء أن يأتياه، أي يستجيبا له، ويخضعا لمشيئته، ويستقيما على ما أراد منهما، إما طائعتين أو مكروهتين أي أن تأتيا إما مستسلمتين بلا إرادة، أو مكرهتين، فتكون إرادتهما تبعا لإرادة الله سبحانه وتعالى: «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» أي مستسلمين، دون أن نخرج على النظام الذي أقمتنا عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:(12/1293)
«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» (72: الأحزاب) .. فقد خيرت السموات والأرض فى أن تأتيا طوعا أو كرها، فاختارتا أن تأتيا طائعتين، وذلك معناه، إباؤهنّ قبول الأمانة التي عرضت عليهن، وتلك الأمانة هى أن يوكل إليهن تصريف شئونهن بإرادتهن.. فأبين ذلك، وأسلمن الأمر كله لله..
أما الإنسان، فهو وحده الذي حمل الأمانة، وهو الذي يأتى ما أراد الله منه سواء أكان طائعا أو عاصيا، لأن إرادة الله تعلو إرادته، وكل ما يفعله الإنسان وإن كان بإرادته، هو من إرادة الله له، ومشيئته فيه..
فهو مكره فى صورة مريد!.
قوله تعالى:
«فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» .
أي فدبّر أمرهن وقضى فيهن بما شاءت إرادته، فكنّ سبع سموات..
والضمير فى «قضاهن» هو للسبع السموات، وقد قدم الضمير هنا للدلالة على أن التدبير والقضاء قد وقع عليهن بعد أن خلقن، وكنّ سموات سبعا.. فالضمير يعود إلى وجود قائم، وإن لم يجر له ذكر، وذلك أدل على وجوده وتحققه.. وسبع سموات بدل من هذا الضمير، كما تقول:
أكرمته عليا، وأكلته عنبا..
وقوله تعالى: «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» أي أوحى، وأنزل فى كل سماء ما أمرها به، وما قدره لها من نظام تجرى عليه.(12/1294)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
وقوله تعالى: «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً» .. السماء الدنيا، هى السماء التي تعلو هذه الأرض، وهى السماء الأولى، وفوقها بقية السموات..
والمصابيح، هى الشمس، والقمر، والنجوم، التي تظهر ليلا، فتبدو وكأنها معالم زينة فى هذا السقف المطلّ على العالم الأرضى..
وقوله تعالى: «وَحِفْظاً» معطوف على محذوف، هو مفعول لأجله، وتقديره «زينة» أي زينا السماء الدنيا بمصابيح للزينة والحفظ، أو زينة، وحفظا..
والحفظ، هو ما تقوم به النجوم من حراسة السماء من الشياطين، إذا أرادوا التسمع لما فى الملأ الأعلى، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» (5: الملك) وقوله تعالى: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي هذا النظام الذي قام عليه الوجود فى أرضه وسماواته، هو من تدبير «العزيز» ، أي ذى العزة والقوة «العليم» الذي يحيط علمه بكل شىء.. فلا يقضى بأمر إلا عن علم كاشف لكل أمر..
الآيات: (13- 18) [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)(12/1295)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» .
أي فإن أعرض هؤلاء المشركون، بعد أن عرضت عليهم هذه الآيات، ونصبت لهم تلك المعالم الدالة على قدرة الله، وعلى تفرده- سبحانه- بالملك والسلطان- إن أعرضوا فقل لهم منذرا: إنى أتوعدكم بعذاب الله، وأن يحلّ بكم ما حل بعاد وثمود من قبلكم، وقد رماهم الله بالصواعق فأهلكوا، فلم تبق منهم باقية.
روى أن قريشا- وقد ضاقت بالنبي، وبدعوته- جاءت إلى النبي تعده وتمنّيه، وتعرض عليه ما قدّرت أنه يطلبه من هذه الدعوة القائم عليها، من مال وسلطان، فانتدبت لذلك عتبة بن ربيعة، فجاء عتبة إلى النبي، يقول له: إنك قد أحدثت فى قومك ما ترى من فرقة وشقاق، فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ما تشاء حتى تكون أكثر(12/1296)
رجال قريش مالا، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كنت تريد وتريد.. فلك عندنا ما تريد، على أن تدع آلهتنا، ولا تعرض لها بذكر! فقال له النبي صلوات الله وسلامه عليه: وقد قلت، فاسمع منّى، فقال هات:
فقرأ عليه النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ... حتى إذا بلغ النبي قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فزع عتبة واضطرب، وقام فوضع يده على فم الرسول الكريم، خوفا من أن يقع هذا النذير به وبقومه..!
إن القوم كانوا يعرفون صدق النبي، ولكنهم كانوا يكابرون ويعاندون، ويأبى عليهم كبرهم وعنادهم أن يذعنوا للحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (33: الأنعام) .
قوله تعالى:
«إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» .
«إذ» ظرف، هو قيد للوقت الذي وقعت فيه الواقعة بعاد وثمود..
فالصواعق التي رموا بها إنما كانت بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم، وأعرضوا عنهم..(12/1297)
وقوله تعالى: «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» أي جاءوهم من كل ناحية، والتقوا بهم بكل سبيل..
وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» أي أن رسلهم التقوا بهم من كل وجه بهذه الدعوة، يعرضونها عليهم، ويقيمون لهم الحجج عليها، وهى ألا يعبدوا إلا الله..
وقوله تعالى: «قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» ..
هو بيان لما استقبل به القوم دعوة الرسل، وهو أنهم ردوهم، وكذبوهم، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تتفضلوا علينا، ولو شاء ربنا أن يبعث رسلا لبعث ملائكة من عنده، فهم أولى بهذا الأمر منكم، وهم أهل لأن نقبل منهم، وتصدق أنهم رسل من عند الله، وإذن فنحن بما أرسلتم به كافرون.. لا نقبل منكم ما جئتم به، ولا نصدقه..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» ..
هو بيان كاشف لما كان عليه القوم من ضلال، حتى عمّيت عليهم السبل إلى الله، واستبد بهم منطق سفيه..
فهؤلاء عاد.. استكبروا فى الأرض، وتطاولوا على العباد، بغير الحق، إذ لم يكونوا أهلا لما رأوا فى أنفسهم من هذا الرأى الفاسد، وهم(12/1298)
غارقون فى هذا الضلال.. لقد غرتهم هذه القوة الجسدية الحيوانية التي وجدوها فى كيانهم، فطاروا بها فرحا وزهوا، وقالوا: من أشد منا قوة؟
إنها القوة الجسدية وحدها، هى التي يملكونها..فماذا عندهم من تلك القوة؟
أو لم يروا أنهم مخلوقون من هذا التراب؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، إن كانوا لا يرون فى مخلوقات الله، من هو أشد منهم قوة؟ إنهم لو نظروا لوجدوا أن قوتهم تلك لا وزن لها بين تلك القوى الهائلة التي يرونها فى مخلوقات الله.. فكيف بقوة الله سبحانه وتعالى؟
وفى قوله تعالى: «وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» .. ويصح أن يكون معطوفا على محذوف هو جواب لهذا الاستفهام الإنكارى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» ؟ أي لم يروا هذا ولم ينظروا فيه «وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» ..
قوله تعالى:
«فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» .
هذا مصير عاد، وتلك عاقبة تكذيبهم لرسلهم وكفرهم بآيات الله» لقد أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم ريحا صرصرا، أي شديدة عاتبة، ذات صرير وزئير.. «فى أيام نحسات» أي فى أيام طلعت عليهم بالشؤم، والبلاء، على حين طلعت على غيرهم بالعافية والخير.. وذلك «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» حين يعصف بهم هذا البلاء، وتقهرهم الريح، التي كانت تهب عليهم نسيما عليلا، وتصفعهم هذه الصفعة(12/1299)
التي تذل كبرياءهم وتفضح قوتهم، وهى خلق ضعيف ليّن، من خلق الله! ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (5- 8: الحاقة) ..
«وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى» أي والعذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة أشد خزيا لهم، وأوقع نكاية بهم من هذا العذاب الدنيوي.. إن هذا العذاب الدنيوي ما هو إلا جرعة يتجرعونها قبل أن يعبوا عبّا من عذاب يوم القيامة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» بقوتهم تلك التي طغووا بها، ولا بأية قوة أخرى يستنصرون بها..
«وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وهذه ثمود.. هداهم الله، أي دعاهم إلى الهدى، ونصب لهم معالمه بما بعث فيهم من رسول كريم، يحمل بين يديه أقباس الهدى والنور، فأغمضوا أعينهم، واستحبوا العمى على الهدى، ومضوا فى ظلمات يتخبطون..
«فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» أي رماهم الله بصاعقة من عذاب، أذلّهم بها، وجعلهم عبرة ومثلا للظالمين المكذبين، جزاء ما كسبوا من سيئات، وما لجوا فيه من ضلال..
قوله تعالى:
«وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» .(12/1300)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
أي أنه حين أخذ العذاب هؤلاء المكذبين الضالين، نجى الله الذين آمنوا، وكانوا يتقون الله، ويخشون بأسه، فلم يصبهم من هذا المكروه شىء، بل سلموا من كل سوء.
الآيات: (19- 24) [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» .
الواو للاستئناف، وانتقال من حال إلى حال.. فالحال الماضية هى حال عاد وثمود.. وهذه حال أعداء الله جميعا فى الآخرة..(12/1301)
وسمّى الكافرون والمشركون أعداء الله، لأنهم حرب على الله بحربهم أولياءه، ورسله، والحقّ الذي جاءوهم به..
وفى وصفهم بالأعداء تهديد لهم ووعيد من الله سبحانه الذي يقف منه هؤلاء موقف الأعداء المحاربين.. فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وسيرون ما يطلع عليهم من هذه الحرب، من خزى وهوان، وما ينتهى إليه أمرهم من هلاك ودمار، ثم من عذاب أليم فى جهنم خالدين فيها..
فقوله تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ..
عرض لما يلقى أعداء الله من عذاب الله يوم البعث، يوم يحشرون إلى النار حشرا، ويساقون إليها سوق الأنعام «فَهُمْ يُوزَعُونَ» أي يزجرون، فلا يشرد منهم شارد إلا زجر زجرا عنيفا، ليأخذ مكانه بين هذا القطيع المتدافع، الذي يركب بعضه بعضا..
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
«حتى» غاية إلى ما يحشر إليه أعداء الله، وهى النار.. أي أنهم يساقون هذا السوق العنيف إلى النار، حتى إذا ما جاءوها، وبلغوا مشارفها، نصبت لهم موازين الحساب، وعرضت عليهم أعمالهم فى كتاب يلقاه كل واحد منهم منشورا.. ثم قام من كيان كل منهم شهود يشهدون عليه بما كان منه من منكر وضلال.. وكلّ شىء فيهم ينطق شاهدا عليهم إلا ألسنتهم التي لم تنطق فى دنياهم غير الكفر والشرك.. فهذه الألسنة تخرس عن أن تقول شيئا، كما يقول تعالى «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (65. يس) .(12/1302)
فالأيدى، والأرجل، تتكلم، ولا تقول اليوم إلا حقّا.. والأيدى إنما تشهد بما أخذ بها أصحابها من حقوق وما سلبوا من أموال، وما أوقعوا بها من أذى فى عباد الله.. والأرجل تشهد بما كان منهم من سعى إلى كل مأثم ومشى إلى كل باطل..
وفى قوله تعالى: «شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. بيان لشهود آخرين، غير الأيدى والأرجل، يقومون من كيان الإنسان نفسه، ليؤدوا شهادة الحق عليه.. فهناك السّمع، وهو يشهد بما سمع من آيات الله، فلم يجد لها عند صاحبه مجيبا، وما سمع من منكر القول وضلال الحديث، فوجد السامع المستجيب! وهناك البصر.. الذي رأى ما رأى من آيات الله الكونية، فلم يجد عند صاحبه الوعاء السليم الذي يحفظ فيه ما رأى، بل إنه كان يرى ما يرى، فيلقى بما رأى فى إناء مخروق لا يمسك شيئا، ولا يحتفظ بشىء.. على حين كان هذا البصر إذا علق بشىء من الباطل، وجد من صاحبه المشاعر التي تجسد هذا الباطل، وتقيمه تمثالا يعبده من دون الله! ثم هناك «الجلد» وهو هذا الثوب الذي يكسو الإنسان، ويحوى كيانه كله، وهو موضع الإحساس فيه، ويمثل حاسة اللمس، إلى جوانب الحواس الأخرى، من السّمع، والبصر، والذوق، والشم، التي يحويها كلها الوعاء الجلدى..
وقد فسر بعض العلماء «الجلد» بالفرج، وهو تأويل بعيد، لا تساعد عليه اللغة، وإن كانت الفروج من الجوارح التي تهدد الناس بأقدح الأخطار وأشنعها.. فكان حمل الجلود عليها منظورا فيه إلى إقامة أفصح الشهود(12/1303)
وأكثرهم دلالة على جرم المجرمين.. وهذا ما نرى أن القرآن الكريم لم يقصد إليه هنا، وإلّا لأنطق القلوب التي هى موطن الفساد، وقائدى الضلال عند أهل الفساد والضلال والكفر! كذلك فسّر بعض العلماء المحدثين «الجلد» ببصمات الأصابع، حيث لكل إنسان بصمة أصابعه التي لا يشاركه فيها إنسان غيره!! وهذا التأويل محمول فيه الجلد على أنه الذي يكشف عن شخصية الإنسان، وينادى عليه أن هذا هو فلان «المجرم» فخذوه.. وهذا المعنى أيضا غير وارد فيما سيقت الآية الكريمة له، وهو أن الله سبحانه وتعالى أقام على الكافرين والمشركين والضلّال شهودا عليهم من الجوارح التي كانت فى الدنيا من القوى المسخرة لهم، والتي كانت نعما من نعم الله الجليلة عندهم، لو أنهم أحسنوا الانتفاع بها.. ولكنهم وجّهوها غير وجهتها التي خلقها الله لها.. وكان ذلك عدوانا على هذه الجوارح ذاتها، بتكليفها ما لو كانت لها إرادة لأبت أن تفعله..
فلما جاء يوم الحساب، ولم يكن للإنسان سلطان عليها فى هذا اليوم، لأن إرادته قد تعطلت- تمثلت هذه الجوارح شخوصا، تقف من صاحبها موقف الخصومة، وتنطق بما ارتكب بها صاحبها من منكرات، ليقتص لها الله سبحانه من صاحبها، المعتدى عليها..
والجلود هنا هى- كما قلنا- الثوب الذي يكسو الكيان الإنسانى كله، ويحوى فى داخله هذا الهيكل البشرىّ، وما حوى من مشاعر، وأحاسيس ووجدانات.. فشهادة الجلد، شهادة شاملة لكل ما شهدت به هذه الجوارح من الألسنة، والأيدى، والأرجل، تستدرك ما فات هذه الجوارح أن تشهد عليه، مما لم يكن داخلا فى نطاق وظيفتها.. ولهذا فإنهم- أي أهل الضلال- يتجهون إلى جلودهم وحدها بالاستنكار عليها أن تؤدّى هذه(12/1304)
الشهادة التي تدينهم وتدين جلودهم معهم..
«وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
والجلود قد أنطقها الله سبحانه الذي أنطق كل شىء.. فكل شىء ناطق لله سبحانه وتعالى، كما أن كل شىء مسبح بحمده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (44: الإسراء) .. فليس المراد بالنطق، هنا، نطق اللسان، وإنما المراد هو إفصاح الموجود عن وجوده، والإبانة عن ولائه لخالقه، بأية صورة من الصور، ومن هذه الصور انتظام الموجود فى نظام الوجود، وجريانه على ما أقيم عليه..
وقوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» .. يجوز أن يكون هذا من قول الله سبحانه وتعالى لهم، تعقيبا على مقول الجلود لهم، وتقريرا لهذا القول.
ويجوز أن يكون ذلك من مقول الجلود، ويكون ذلك من شهادتها على أصحابها، الذين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، بل غفلوا عنها، فلم يؤمنوا بأن لهم خالفا واحدا هو الذي خلقهم، وخلق كل شىء.. إذ لو عرفوا هذه الحقيقة، لآمنوا بالله وحده، ولما عبدوا هذه الآلهة التي عبدوها من دونه، ولما صاروا إلى هذا المصير المشئوم الذي ألقى بهم فى جهنم..
والمراد بالخلق أول مرة، هو الخلق الذي كان عليه الإنسان، قبل الموت، وهو ميلاده فى الحياة الدنيا.. وفى هذه إشارة إلى خلق آخر، وهو البعث..
فالبعث، وهو نشر الموتى من القبور، هو خلق جديد، كما يبدو للأنظار وخاصة أنظار الذين ينكرون البعث، ويظنون أن الموت هو رحلة فى محيط الفناء الأبدىّ، ولهذا كانوا يقولون فى أسلوب إنكارى ما حكاه القرآن(12/1305)
عنهم فى قوله تعالى: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» (5: الرعد) ..
وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. إشارة إلى هذا الخلق الآخر، وهو البعث بعد الموت..
قوله تعالى:
«وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» .. يجوز أن يكون هذا من قول الله سبحانه وتعالى، كما يجوز أن يكون من قول الجلود لأصحابها، على نحو ما أشرنا إليه فى قوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
وقوله تعالى: «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» ..
هو فى تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، أي لشهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم وهو تعليل لنفى استتارهم، أي ما كنتم تستترون عن الله بأفعالكم المنكرة حتى استدعى هؤلاء الشهود منكم ليشهدوا عليكم، «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» فأراكم الله سبحانه وتعالى من هؤلاء الشهود بعض مظاهر علمه وقدرته وأن له سبحانه وتعالى جنودا فى كلّ ذرّة فيكم، هى ألسنة تنطق بكل ما تعملون من صغيرة وكبيرة..
وفى قوله تعالى: «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» ..
هو إشارة إلى سوء ظنهم بالله، وأنهم كانوا يظنون أن الله سبحانه لو كان يعلم ما يعملون فى جهر، فإنه لا يعلم ما يسرّون من أقوال، وأعمال.. ولهذا استتروا وهم يأتون المنكرات من أعمالهم وأقوالهم، ظنّا منهم بأن الله سبحانه(12/1306)
لا يرى. ولا يسمع ما كان منهم فى خفاء وستر.
ولهذا أراهم الله سبحانه كذب هذا الظن وبطلانه، فأنطق سبحانه وتعالى جلودهم التي لا يبدو منها أي عمل، فكانت ألسنة فصيحة، تنطق بكل ما كان منهم من مشاعر وأحاسيس، وخلجات..
فإنطاق الجلود هنا، هو فى مواجهة هؤلاء الذين يظنون بالله سبحانه وتعالى هذا الظنّ، الذي يقوم عندهم بأن الله يعلم جهرهم ولا يعلم سرّهم، وهذا ما يشير إليه سبحانه فى موضع آخر: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (13: الملك) .. ولهذا لم يجر ذكر للألسنة هنا، وهى من الجوارح التي تشهد على أصحابها، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) ..
إذ كانوا- حسب ظنهم هذا- يظنون أن الله يعلم ما ينطقون به.. وهو ظنّ لا يبلغ مرتبة اليقين عندهم..
هذا، ويجوز أن يكون المعنى، وما كنتم لتستتروا لو أنكم علمتم أن معكم شهودا يشهدون عليكم، وهى أقرب شىء إليكم، بحيث لا يفوتها همسة خاطر، أو قشعريرة جلد، أو ذوق لسان، أو حركة يد أو رجل..
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، فلذلك اجتراؤكم على اقتراف المنكرات سرّا، وما دريتم أن لله جنودا قائمين عليكم يسكنون بين العظم والجلد منكم! قوله تعالى:
«وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..(12/1307)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
أي هذا الظن الذي ظننتموه بربكم من أنه قد يعلم ما تبدون، ولا يعلم ما تكتمون.. هذا الظنّ هو الذي أفسد عليكم معتقدكم فى ربّكم، فلم تروه سبحانه إلا على ما ترون به بعض أصحاب الجاه والسلطان، ممن لهم جنود وعيون، يرون القليل، ولا يرون الكثير.. فكان إيمانكم بالله هو هذا الإيمان الفاتر الفاسد، الذي لا يفرده بالألوهية المطلقة، والعلم المطلق.
قوله تعالى:
«فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» أي فإن يصبر هؤلاء المشركون على هذا البلاء الذي هم فيه من ظنهم بالله هذا الظنّ السيّء، فالنّار هى موعدهم، وهى مأواهم الذي يأوون إليه..
وإن يستعتبوا أي يطلبوا العتبى فى طلب الصفح وإصلاح ما أفسدوا، فلن يعتبوا، ولن يقبل منهم تصحيح معتقدهم، بعد أن فات الوقت، وأفلتت الفرصة من أيديهم وهم فى الدنيا. أما اليوم- يوم الحساب- فلا يقبل عمل، ولا تنفع معذرة! كما يقول الله سبحانه: «لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 7: التحريم
الآيات: (25- 29) [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 29]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)(12/1308)
التفسير:
«قوله تعالى:
«وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» .
قيضنا: أي هيأنا، ويسرنا، وسلطنا..
قرناء: جمع قرين، وهو الصاحب الملازم، كأنه وصاحبه فى مقود واحد أي أن الله سبحانه وتعالى، جمع هؤلاء الضالين، بأهل الضلال، فالتقوا بهم على طريق الضلالة، فلم يجدوا منهم ناصحا، بل وجدوهم دعاة سوء يدعونهم إلى المنكر، ويزينونه لهم، ويغرونهم به.: وهذا من خذلان الله.. نعوذ بالله منه.. إذ لو أراد الله سبحانه بهم خيرا لجمعهم بأهل الاستقامة والصلاح، فانتفعوا باستقامتهم وصلاحههم، وأفادوا من هديهم وإيمانهم.
وقوله تعالى: «فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» أي أن هؤلاء القرناء قد زيّنوا، وحبّبوا إلى هؤلاء الضالين الوافدين عليهم «ما بين أيديهم» أي ما هم فيه من ضلال «وما خلفهم» أي ما كان عليه آباؤهم من منكرات وضلالات ورثوها عنهم حتى لقد كادت تكون طبيعة لازمة لهم.(12/1309)
وقوله تعالى: «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» أي وجب ولزم أن يحلّ بهم ما قضى الله سبحانه وتعالى به فيهم من قوله تعالى: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فهو حكم عام على أصحاب النار، أنهم أصحاب النار قبل أن يخلقوا.
وقوله تعالى: «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» متعلق بمحذوف هو حال من هؤلاء الضالين.. أي حالة كونهم داخلين فى أمم الضالين الذين خلوا ومضوا من قبل، من الجنّ والإنس.. ويجوز أن يكون «فى» بمعنى مع، أي حق عليهم العذاب مع أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية- إشارة إلى أنهم وأهل النار جميعا مظروفون فى ظرف واحد يحتويهم جميعا..
وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» - الضمير فى «إنهم» يعود إلى هؤلاء الضالين، بمعنى أن الله سبحانه قد أضلهم، وقيض لهم هؤلاء القرناء الضالين، لأنهم كانوا خاسرين، أي لا يقبلون إيمانا، ولا يطلبون هدى.. ويجوز أن يكون الضمير للضالين جميعا.. من سابقين ولاحقين، من جن وإنس.
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» ..
أي أن هؤلاء الضالين من المشركين، وقد اجتمع بعضهم إلى بعض، وتلاقوا على طريق الضلال- تشكل منهم هذا الكيد الذي أجمعوا أمرهم عليه، ليكيدوا به للنبى الكريم، وللقرآن الذي يتلوه عليهم، وهو أن(12/1310)
يشوّشوا على النبي وهو يتلو القرآن، ويكثروا من اللفظ، واللغط، حتى لا تنفذ كلماته إلى الآذان، ولا تصل إليها إلا مختلطة مضطربة.. وقد ظنوا أنهم بهذا العبث الصبيانى يسدون منافذ الضوء من تلك الشمس الساطعة إذا هم مدّوا أيديهم إليها، وحجبوها عن عيونهم..!
قوله تعالى:
«فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
هو تهديد، ووعيد لهؤلاء الذين يكبدون لآيات الله، ويلقونها هازئين ساخرين.. وفى إقامة الظاهر مقام المضمر فى قوله تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من قوله تعالى: «فَلَنُذِيقَنَّ» - إشارة إلى سوقهم مع جريمتهم، وهى الكفر، إلى جهنم، وفى هذا مضاعفة لآلامهم، حيث يرون وجه جريمتهم يصحبهم فى كل مكان.. إنهم أشبه بالقاتل الذي يحمل جثة قتيله وهو مسوق إلى ساحة الإعدام..
وقوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» - إشارة إلى أن أعمالهم سيئة كلها، وأنها درجات متفاوتة فى السوء، وأن الكبائر منها تجمع الصغائر فى كيانها، وأن الكفر وهو رأس الخطايا كلها هو الذي يدانون به، ويلقون أشد العذاب عليه، فإنه ليس بعد الكفر ذنب، ولا وراء عذاب الكافر عذاب.. ولهذا سيقوا إلى جهنم بجريمة الكفر، «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً» !.(12/1311)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
قوله تعالى:
«ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» .
والكافرون هم أعداء الله، بل هم أعدى أعدائه، وليس لهم جزاء عند الله إلا النار، حيث تكون دار خلود لهم، لا يخرجون منها..
إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسله، ويكفرون بربهم..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» .
هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة لأهل الضلالة جميعا، من تابعين ومتبوعين.. وفى هذا المشهد، حيث النار وقد احتوتهم جميعا، وأوصدت عليهم أبوابها- لا يرى التابعون سبيلا للانتقام من الذين اتبعوهم، إلا أن يدعوا الله سبحانه أن يريهم إياهم، ويجمعهم بهم، ويمكنهم منهم، ليجعلوهم تحت أقدامهم! وفى هذا شفاء لما فى صدورهم من موجدة ونقمة عليهم.. وإن كان ذلك لا يخفف عنهم من العذاب شيئا!.
الآيات: (30- 35) [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 35]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)(12/1312)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» .
هو عرض للوجه الآخر، من وجوه الإنسانية، وهو وجه المؤمنين بالله، المستقيمين على طريق الهدى، بعد أن عرضت الآيات السابقة أهل الضلالة والكفر، وما أعد الله لهم من عذاب أليم.
فالذين قالوا ربنا الله، وحده، لا شريك له، ولا نعبد إلها غيره، ولا نتخذ معه شركاء، ثم إنهم مع إيمانهم هذا، قد عملوا بمقتضى هذا الإيمان فاستقاموا على ما يدعو إليه الإيمان بالله، من امتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه- هؤلاء المؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالرحمات والبركات من ربهم، فيلقونهم عند كل مطلع من مطالع القيامة، وعند كل شدة من شدائدها، بما يملأ قلوبهم أمنا وسكينة ورضا، قائلين لهم:
ألّا تخافوا مما أنتم مقدمون عليه من حساب وجزاء، ولا تحزنوا على فائت فاتكم فى الدنيا، فقد أخذتم خير ما فيها، وهو الإيمان بالله، والعمل(12/1313)
الصالح الذي تقبله الله منكم، وأعد لكم الجزاء الطيب عليه، وهو الجنة التي وعدكم.. والله منجز وعده..
قوله تعالى:
ى: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» .
وإنه لكى يأنس المؤمنون بالملائكة الذين يلقونهم لأول مرة، يكشف لهم الملائكة عن تلك العلاقة التي كانت بينهم فى الدنيا، إذ كان الملائكة- من غير أن يشعر المؤمنون- أولياء لهم، تجمع بينهم جامعة الولاء لله، والطاعة له.. فهم والملائكة كانوا إخوانا فى الله، ومن هنا كانوا يستغفرون للمؤمنين، كما يقول الله سبحانه: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (7: غافر) .
ثم إن الملائكة كانوا فى الدنيا جندا من جنود الله، يقاتلون فى سبيل الله مع المقاتلين فى سبيله من المؤمنين، كما يقول سبحانه: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (12: الأنفال) ..
قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» .
الضمير فى «فيها» للجنة التي جاء ذكرها فى قوله تعالى: «وَأَبْشِرُوا(12/1314)
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»
.. أي أبشروا بهذه الجنة التي لكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، أي ما تتمنون، مما يطوف بخيالكم، ويقع فى عالم الأمانى، فكل ما تتمنونه تجدونه حاضرا بين أيديكم..
وإنه ليس أهنأ للإنسان، ولا أسعد لقلبه، من أن يجد كل ما يتمناه حاضرا بين يديه، فتلك هى السعادة المطلقة، الخالية من كل شائبة من شوائب الحرمان، الكلّى أو الجزئى..
قوله تعالى:
«نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» أي منزلا من غفور رحيم، قد أعده الله لكم وقد غفر لكم ذنوبكم، وأنزلكم منزل رحمته.. ومن نزل هذا المنزل فهو فى ضيافة رب كريم، ينال من فضل الله ما يشاء..
وفى هاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه- إشارة إلى أن المغفرة والرحمة، هما اللتان أنزلتا المؤمنين هذا المنزل الكريم.. أما الإيمان والأعمال الصالحة، فهى وسائل يتوسل بها المؤمنون إلى مرضاة الله.. وفى الحديث «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
«ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .. فاللهم تغمدنا برحمتك يا أرحم الراحمين..
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
الاستفهام هنا مراد به الخبر، أي أنه لا أحد أحسن فى الناس قولا ممن دعا إلى الله، وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين..(12/1315)
والآية تنويه بالمؤمنين، الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. فقولهم ربنا الله، هو أحسن قول نطق به لسان..
والمراد بالدعاء إلى الله، الانجاه إلى الله، بأن يدعو الإنسان نفسه إلى ربه، وأن يخلص بها من مواقف الضلال، ومجتمع الضلالة، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (99: الصافات) .
وفى عطف العمل الصالح، على الدعاء إلى الله: «دعا إلى الله وعمل صالحا» إشارة إلى أن الدعاء إلى الله، وهو الإيمان به، لا يؤتى ثمره الطيب، إلا بالعمل الصالح.. فإذا اجتمع الإيمان بالله، والعمل الصالح، فقد أمسك المؤمن بالخير من طرفيه، واستمسك بالعروة الوثقى من صميمها، وفى هذا يقول الرسول الكريم لمن جاءه يسأله عن طريق النجاة: «قل ربى الله.. ثم استقم» ..
وفى قوله تعالى: «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن ثمرة الإيمان بالله والعمل الصالح، إنما تظهر آثارها فى المجتمع الإنسانى، وفى العطاء والأخذ بين الناس.. فالإيمان والعمل الصالح إذا أمسك بهما إنسان ثم عاش بهما فى نفسه، منعزلا عن الناس، منقطعا عن الحياة، فذلك إنسان قد عطل الخير الكثير الذي معه، وأمسك به عن أن ينمو ويزدهر فى مزرعة الحياة، وخير منه ذلك الإنسان الذي يعيش بإيمانه وبعمله الصالح مع الناس، فيتبادل معهم الخير، الذي يخصب وينمو بهذا التبادل! وهذا ما تشير إليه الآية التالية:(12/1316)
قوله تعالى:
«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» .
فهذه الآية تشير إلى التطبيق العملي للإيمان والعمل الصالح، حيث يحتسب الإنسان نفسه واحدا من جماعة المسلمين، فيعيش معهم، ويلقاهم بإيمانه وبعمله الصالح، فلا يجزى السيئة بالسيئة، بل يلقى السيئة بالحسنة..
إذ لا تستوى الحسنة ولا السيئة.. ومن شأن المؤمن أن يأخذ بالأحسن دائما..
وقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي ردّ السيئة بالتي هى أحسن، وهى الإحسان فى مقابل الإساءة.. فإن من حقّ الإنسان إذا أسىء إليه أن يردّ السّيئة بالسيئة، كما يقول الله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ثم يعقب ذلك بقوله: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» .. فردّ السيئة بمثلها، ليس حسنا ولا سيّئا، والعفو عن السيئة حسن، وأحسن من هذا الحسن أن تردّ السيئة بالحسنة.. فهذه درجات ثلاث، والمؤمن بالخيار فيها.. وخير المؤمنين من أخذ بالدرجة الثالثة، وهى دفع السيئة بالحسنة..
وقوله تعالى: «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» بيان للأثر الطيب، الذي يجىء من هذا العمل الطيب، وهو دفع السيئة بالحسنة، وهو أنه بالإحسان إلى المسيء، تنطفىء نار الفتنة التي كان يمكن أن تشتعل من احتكاك السيئة بالسيئة.. ثم إن هذا المسيء الذي كان يتوقع الإساءة ممن أساء إليه- حين يرى أن اليد التي مدّها بالإساءة قد عادت إليه ملأى بالإحسان ممن أساء إليه، يستخزى من نفسه وتخفّ موازينه حين ينظر إلى فعله، وفعل المحسن إليه، فيذلّ، وينقاد.. إن لم يكن عاجلا فآجلا.(12/1317)
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل مؤمن بالله ورسوله.. وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه المثل الكامل فى امتثال هذا الأمر الإلهى، وتطبيقه على أكمل صورة وأنمها، وحياة الرسول كلها مليئة بالشواهد لهذا.. فعلى كل خطوة من خطواته الشريفة على طريق دعوته، يقوم شاهد يحدّث بإحسان الرسول الكريم إلى من يسيئون إليه، ويؤذونه وحسبنا أن نذكر هنا موقفه فى أحد، وقد أثخنه المشركون جراحا، فما زاد صلوات الله وسلامه عليه، على أن قال: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» ..
ثم بحسبنا أن نذكر موقفه يوم الفتح، وقد أصبح المشركون فى قبضته، وفيهم كثيرون ممن آذوه بالقول وبالعمل، بل إن فيهم «وحشيّا» قاتل عمّه حمزة..
وقد لقى الرسول الكريم هؤلاء المشركين جميعا بالصفح الجميل، وقال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
قوله تعالى:
«وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» .
فى الآية الكريمة إشارة إلى أن هذا العمل، وهو دفع السيئة بالحسنة، ليس بالأمر الهيّن الذي تستطيع كل النفوس احتماله، وإنما هو من صنيع النفوس الكبيرة، التي آتاها الله قوة على الصبر والاحتمال، فلا يعكّر صفوها هذا المكروه الذي ورد عليها..
ما يضير البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه غلام بحجر!
وفى قوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها» .. إشارة إلى هذه الدرجة من العظمة الإنسانية، وإلى أن متنزلها من عل، وأنها هبة من هبات الله سبحانه، وعطاء من عطاياه. «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» من فضل الله وإحسانه..(12/1318)
وهنا سؤال: إذا كان المؤمن فى مجتمع المؤمنين مطالبا بأن يدفع السيئة بالحسنة، حتى ينال درجة الكمال والإحسان.. فهل يتوقع أن يرى- فى مجتمع المؤمنين، من يأتى بالسيئة ابتداء، فيسىء إلى من لم يسىء إليه؟
والجواب على هذا، من وجهين:
أولا: أن القرآن الكريم حين دعا إلى دفع السيئة بالحسنة، إنما خاطب بذلك مؤمنا فى جماعة المسلمين، وليس فى جماعة المؤمنين، وذلك فى قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. فالمسلمون أعمّ من المؤمنين، وقد يكون الإسلام باللسان دون القلب، وقد يكون باللسان والقلب وليس معه عمل، أما الايمان، فهو قول باللسان، واستيقان بالقلب، وتصديق بالعمل.. وعلى هذا يكون كل مؤمن مسلما، وليس كلّ مسلم مؤمنا..
فقوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» - وإن كان دعوة عامة للمسلمين جميعا، إلّا أنه منظور فيه إلى القمة العالية فيهم، وهم الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» .
وثانيا: أن المؤمنين ليسوا درجة واحدة فى مقام الكمال والإحسان..
ففى بعضهم من يسىء ابتداء، وفى بعضهم الآخر من يردّ الإساءة بالإساءة، وفيهم من يردّ الإساءة بالعفو، وفيهم من يردّ الإساءة بالإحسان، وهذا أعلى درجات الإيمان..(12/1319)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
الآيات: (36- 43) [سورة فصلت (41) : الآيات 36 الى 43]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
النزغ: المسّ والنخس، ويراد به ما يكون من لمّة يدخل بها الشيطان على الإنسان ليعد به عن سواء السبيل..(12/1320)
ومناسبة الآية لما قبلها أن الآية السابقة دعت إلى دفع السيئة بالحسنة، وإنه لن يقوم بالوفاء بهذه الدعوة إلّا من كان على درجة عالية من وثاقة الإيمان وقوة العزيمة.. وللشيطان هنا مداخل يدخل بها على من يجمع أمره على دفع السيئة بالحسنة، فيكون له نخسات ينخس بها فى صدر المؤمن، كى يخرج به عن هذا الموقف الكريم.. وهنا لا يكون للمؤمن- كى يردّ كيد الشيطان ويخزيه- إلا أن يستعين بالله منه.. فالاستعاذة بالله من الشيطان خزى للشيطان، ودحر له، إذ يرى المؤمن وقد دخل فى هذا الحمى الذي لا ينال، فيرتدّ مذموما مدحورا.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. أي وإن من آيات الله السميع العليم، الليل والنهار والشمس والقمر..
فهذه العوالم، هى بعض الآيات التي تشهد بجلال الله، وقدرته، وأن المستعيذ بالله إنما يستعيذ بمالك الملك، ربّ الأرباب، فلا يصل إليه أذّى، ولا يناله مكروه..
و «من» هنا للتبعيض.. أي ومن بعض آيات الله الليل والنهار والشمس والقمر.. وهناك آيات كثيرة لا تحصى، وإنما خصت هذه الآيات بالذكر لأنها تجمع الناس جميعا تحت لوائها، وكل إنسان داخل تحت سلطانها طوعا أو كرها..
وقوله تعالى: «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» نهى عن عبادة هذين(12/1321)
الكوكبين- الشمس والقمر- واختصاصهما بالذكر لأنهما أظهر الكواكب وأكثرها أثرا فى العالم الأرضى..
فهما بهذا السلطان، قد فتنا كثيرا من الناس، حتى لقد اتخذهما بعض الشعوب آلهة يعبدونها من دون الله، فى صور وأشكال شتّى من المراسم والطقوس.
وقوله تعالى: «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» أمر بعبادة الإله المستحق للعبادة، وهو الخالق، لا المخلوق.. فالشمس والقمر مما خلق الله، وعبادتهما ضلال..
وفى عود الضمير على الشمس والقمر جمعا للمؤنث العاقل فى قوله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَهُنَّ» - فى هذا أكثر من إشارة:
فأولا: الإشارة ضمنا إلى النهى عن عبادة الليل والنهار، لأن النهى عن عبادة الشمس والقمر، يتضمن- من باب أولى- النهى عن عبادة الليل والنهار، إذ كان الليل والنهار من مواليد الشمس، فهذا أشبه بالمخلوقين التابعين لهما، فإذا وقع النهى على عبادتهما، شمل ذلك النهى عن عبادة توابعهما، ولهذا جاء الضمير جمعا: «الَّذِي خَلَقَهُنَّ» .
وثانيا: الإشارة إلى أن هذه المخلوقات الليل والنهار والشمس والقمر، وإن بدت جمادا صامتا فى نظر الإنسان، فإنها عند الله سبحانه وتعالى تسمع، وتبصر، وتعقل، وتتلقى أمر الله سبحانه وتستجيب له فى ولاء مطلق.. ولهذا جاء الضمير للعقلاء.
وثالثا: الإشارة إلى أن هذه العوالم من ليل ونهار، وشمس، وقمر، وإن بدت ذات سلطان قائم على الناس، إلا أنها إلى جانب قدرة الله مستسلمة(12/1322)
لا تملك من أمرها شيئا.. ولهذا لبست ثوب الأنوثة، الذي يدل غالبا على الضعف، وخاصة عند الجاهلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، فى موضع آخر: «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» (18: الزخرف) وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» - إشارة إلى أن إخلاص العبادة لله وحده، هو الذي يعتبر عبادة مقبولة.. أما أن يعبد الله فى صورة هذه المخلوقات، أو أن تعبد معه هذه المخلوقات تقربا بها إليه، فهذا ليس من عبادة الله فى شىء.
قوله تعالى:
«فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» أي إن استكبر هؤلاء المشركون عن عبادة الله، وأبوا أن يعطوا ولاءهم خالصا مطلقا له، فالله سبحانه وتعالى فى غنى عنهم، وإن استكبارهم هذا سيوقعهم تحت غضب الله، الذي لا يرجون له وقارا، ولا يخشون له بأسا.. وهذا ضلال مبين منهم، باستخفافهم بقدرة الله وبأس الله.. فالملائكة الذين هم أقرب خلق الله إليه سبحانه- وهم الملائكة المقربون- لم يكن لهم من هذا القرب ما يخليهم من خوف الله وخشيته لحظة واحدة، بل لقد كان خوفهم من الله وخشيتهم لله على قدر قربهم منه.. فكلما ازدادوا قربا من الله ازدادوا خوفا وخشية، لأنهم يرون من جلال الله، ويشهدون من عظمته وقدرته مالا يشهده غيرهم.. وإنه على قدر المعرفة والشهود، تكون الخشية ويكون الولاء، ولهذا فهم يسبحون الليل والنهار، فى صورة متصلة دائمة، «لا يسأمون» من هذا التسبيح، ولا يملّون، بل يزدادون مع دوام التسبيح نشاطا وقوة، لما يجدون من(12/1323)
لذة ورضا بهذا الذكر المتصل الذي لا ينقطع به أنسهم وحبورهم فى مناجاة ربهم..
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» أي ومن آيات الله الدّالة على بسطة سلطانه، وكمال قدرته، ما تراه العين من هذه الحياة التي تلبس الأرض الميتة.. فبينما تقع العين على عالم فسيح من الأرض الجديب، والأصقاع الموات الهامدة، إذا هى- وقد أصابها الغيث، وجرى على وجهها الماء- حياة تموج فى أعصابها، ودماء تتدفق فى شرايينها، وإذا هى جنّات وزروع ونخيل وأعناب.
وقوله تعالى: «تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» - إشارة إلى ضراعة الأرض، فى جدبها، ومواتها، وما تكون عليه من شحوب الفقر والمسغبة. إنها أشبه بالكائن الحىّ حين تنقطع عنه موارد حياته، فيضرع ويخشع، ويذل..!
وقوله تعالى: «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» - إشارة إلى تلك التفاعلات العجيبة، التي يحدثها التقاء الماء بالأرض الميتة.. فهذا الاهتزاز هو فرحة الحياة التي تسرى فى هذا الجسد الهامد، وهذا الرباء والنماء هو من فعل تلك الحرارة التي تملأ كيان هذا الجسد المنكمش المقرور..
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى.. إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - هو تعقيب على هذه الحقيقة التي يشهدها الناس من أمر الأرض الميتة، وما يلبسها من حياة دافقة، وشباب ناضر.. وإن هذه المقدرة التي أحيت تلك الأرض الميتة، لا يعجزها أن تعيد الأجسام الميتة الهامدة إلى الحياة مرة أخرى.. فهذا(12/1324)
من ذاك سواء بسواء: فالله سبحانه الذي «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» بقدرته..
«إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» هو تهديد لأولئك الذين أشار إليهم سبحانه فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .. وقد هدّدوا من قبل بعذاب الله، فى قوله سبحانه: «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» .. ثم ها هم أولاء يتهددهم عذاب الله مرة أخرى بعد أن تليت عليهم آيات الله، وفيها معارض كثيرة لقدرة الله سبحانه، وما تملك هذه القدرة من اقتدار على البعث الذي ينكرونه، ولا يعملون له حسابا..
«إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» أي الذين يستخفون بها، ويسخرون منها ويتعابثون عند الاستماع إليها- هؤلاء: «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» بل إن علم الله سبحانه محيط بكل ما يسرون وما يعلنون، لا تخفى على الله منهم خافية.. ثم إنهم لمحاسبون، ومجزيون بأسوأ ما كانوا يعملون..
«أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ» - أي أفهذا العذاب وهذا البلاء، الذي يلقاه هؤلاء المجرمون- خير، أم جنات الخلد التي وعد المتقون؟ لا يستويان أبدا؟
وفى النظم الذي جاء عليه القرآن هنا من الاختلاف بين المتعادلين، ما يجعل هذا النظم على إيجازه يتسع للكثير من المعاني، حيث يرى فى المعادل(12/1325)
الأول، أن الذين يلقون فى النار لم يلقوا فيها إلا بعد أن قطعوا طريقا طويلا مضنيا إليها، تطلع عليهم فيه المخاوف من كل جانب.. على حين يرى فى المعادل الآخر، أن من يأتى آمنا يوم القيامة قد انتهى به هذا الأمن إلى أمن دائم، وهو الجنة التي طابت لأهلها مستقرا ومقاما: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (103: الأنبياء) .. «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (12: الحديد) .
وقوله تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - هو تهديد بعد تهديد لهؤلاء المشركين، الذين لا يريدون أن يتحولوا أبدا عن هذا الموقف الضال من آيات الله، ومن رسول الله.. فليعملوا ما شاءوا.. إن الله بما يعملون بصير.. وإنهم لمحاسبون على ما يعملون، ومجزيّون بأسوأ الذي كانوا يعملون.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» الذكر: هو القرآن الكريم: وسمى ذكرا، لأنه يذكّر بالله، ويكشف طريق الهدى إليه.
وخبر «إن» محذوف، وفى حذفه إشارة إلى أن يفسح المكان لكل وارد من واردات العذاب، والبلاء، ولكل صورة من صور الانتقام والنكال فيمكن أن يقال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» سيحشرون على وجوههم إلى جهنم.. لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق- ويمكن أن يقال هنا، كلّ ما جاء فى القرآن من صور العذاب والنكال لأهل الكفر، والإلحاد..(12/1326)
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ» جملة حالية، تكشف عن هذا القرآن الذي يكفر به الكافرون، ويلحدون فى آياته.. أي أنهم يكفرون بهذا القرآن مع أنه كتاب عزيز، أي منيع: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» وكيف يلم به الباطل من أية جهة، وهو «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» ؟ فالحكيم لا يدخل على عمل من أعماله دخل أو فساد، فكيف بأحكم الحاكمين رب العالمين؟ والحميد المستحق لأن يحمد ويمجد، لا يكون حمده وتمجيده إلا لما هو قائم على الحكمة والسداد.. فكيف بمن هو المحمود وحده، حمدا مطلقا فى السراء والضراء؟
قوله تعالى:
«ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» أي أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول الله إلى عباد الله، تحمل دعوة الحق إليهم، أن يؤمنوا بالله وحده، وألا يشركوا به شيئا..
فهذا هو مجمل رسالة رسل الله جميعا، وهو مجمل رسالتك، وعنوانها، وصميمها.. فالقول هنا بمعنى الوحى: أي ما يوحى إليك إلا ما أوحى إلى الرسل من قبلك، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (163- 164: النساء) ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» أي ما يقال ذلك من هؤلاء المشركين من قومك، من تكذيب لك(12/1327)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
واتهام بالسحر والجنون إلا مثل ما كان يقال للرسل من قبلك من أقوامهم..
وفى هذا عزاء للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. ودعوة له إلى الصبر على ما يكره من قومه، كما صبر الرسل على ما رماهم به أقوامهم من سوء..
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» - هو تعقيب على هذا الخبر، وهو أن الرسول ليس بدعا من الرسل، وأنه إنما يدعو بما دعا به رسل الله من قبله، من الإيمان بالله وحده، من غير شريك له.. وفى هذا التعقيب دعوة إلى المشركين إلى الإيمان بالله، وأنهم إذا آمنوا، وتابوا إلى الله، ونفضوا أيديهم مما يعبدون من آلهة، وما يفعلون من منكرات، تقبل الله توبتهم، وغفر لهم ما كان منهم.. وفى هذا التعقيب مع هذه الدعوة إلى الإيمان، والإغراء بالمغفرة تهديد بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد، لمن لم يستجب لدعوة الإيمان، ولم يرجع إلى الله منيبا، تائبا..
ويجوز أن يكون قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» هو مقول القول لله سبحانه وتعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» أي ما يقال لك إلا هذا القول، وهو: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» وهو ما قيل لكل رسول من قبل.. فهذا هو الإله الذي يدعو إلى الإيمان به كل رسول من رسل الله.. إنه ذو مغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وذو عقاب أليم لمن صد عن سبيل الله، وكفر به، وسعى فى الأرض فسادا..
الآيات: (44- 46) [سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)(12/1328)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت القرآن الكريم، ونوهت به، وأشارت إلى علو متنزله، وأنه عزيز من عزيز حكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتوعدت الذين كفروا به، وألحدوا فيه، فناسب ذلك أن يذكر عن المشركين الذين كفروا بهذا الذكر بعض إلحادهم فيه، وتعلّاتهم عليه، مما كان سببا فى صدهم عنه، ومجافاتهم له..
فمن ضلالاتهم أنهم كانوا ينكرون أن يكون الرسول الذي يرسل من عند الله إليهم رجلا منهم، يتكلم باللسان الذي يتكلمون به.. إن ذلك ممكن أن يدعيه كل واحد منهم، فما يحدثهم به الرسول على أنه كلام الله هو من جنس ما يتكلمون به..
فهل كلام الله من جنس كلامهم؟ أهذا مما يعقل؟ وما الدليل على أن هذا كلام الله؟ ثم ما الدليل على أن هذا الإنسان هو رسول الله؟ وما الجديد الذي جاءهم به؟ إن بضاعته كلها كلام من كلامهم! فإذا كان(12/1329)
ثمة كلام من الله إليهم، فليكن بلسان غير لسانهم حتى يكون ذلك شاهد صدق على أن ما يحدثهم به محمد ليس من كلامه هو، بل من كلام الله.. فهذا أقرب إلى التصديق!! هكذا كان شعورهم نحو القرآن الكريم أول الأمر.. ما إن سمعوه كلاما عربيا مما يتكلمون به، حتى قامت تلك التهم عندهم له، وللرسول الذي جاء به.. ولهذا جاءهم القرآن الكريم بما يكشف عن فساد منطقهم هذا، وذلك فى قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» (199: الشعراء) أي أنه لو جاءهم أعجمى لا يتكلم العربية أبدا، فجعله الله سبحانه وتعالى رسولا إليهم، يتلو عليهم هذا القرآن بلسان عربى مبين لكان موقفهم معه كموقفهم مع النبي العربي، ولقالوا فيه مقالا، ولما كان نطقه باللسان العربي- وهو الأعجمى- شاهدا يشهد له عندهم بأنه رسول الله.. ففى مجال المماحكة والجدل متسع لأهل الزيغ والضلال!.
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الضالين، لو استمعوا إلى آيات الله، وعقلوها، ووزنوا كلامهم على ميزانها لوجدوا أن كلامهم بالنسبة إليها أشبه بلكنة الأعاجم ورطاناتهم..
إن الشبهة قائمة عندهم، لا تزول، لو جاءهم القرآن باللسان الأعجمى، كما أنها قائمة عندهم كذلك لو كان الرسول إليهم ملكا لا بشرا.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» (9: الأنعام) ..
فلو جاءهم القرآن الكريم بلسان أعجمى لكانت علّتهم عليه، أنه ليس بلسانهم، وأنهم لا يفهمون هذه الرطانة، ولقالوا: «لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» أي هلا وضحت آياته، واستبانت مغالق كلماته، حتى نعلم منطوقها(12/1330)
ومفهومها؟ وإن لهم فى هذا القول لمنطقا لو كانوا يطلبون الحق أو يبتغون الهدى.. وقد ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» ؟ أي كيف يتفق أن يكون اللسان الأعجمى مفصحا مبينا عند من لا يحسن إلا العربية؟
فإما أن يكون الكلام بغير العربية التي لا يحسنونها، أو بالعربية التي هى لسانهم.. أما أن يكون الكلام غير عربى، ثم ينطق بما يفهمه العربي فهذا ما لا تحتمله طبيعة اللغة، أي لغة..!
وقوله تعالى: «أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» استفهام إنكارى لهذا المقترح الذي يقترحونه على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو أن يكون اللسان الذي يخاطبهم به لسانا أعجميا عربيا معا!. أي بلغة غير لغتهم، ثم تكون تلك اللغة مفهومة لهم!! قوله تعالى: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ» أي هذا القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا، يجدون فى آياته وكلماته ما يهديهم إلى الحق والخير، وما يذهب بما فى عقولهم وقلوبهم من زيغ وضلال..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» أي أن الذين لا يقبلون الإيمان، ولا تستجيب طبيعتهم له- هؤلاء لا حظ لهم من القرآن، إلا الصمم فى آذانهم، وإلا العمى فى أعينهم، فلا يسمعون ما يتلى عليهم منه، ولا تستضىء أبصارهم بما فيه من هدى..
فقوله تعالى: «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» متعلق بمحذوف، هو خبر الذين لا يؤمنون.. أي والذين لا يؤمنون يقع فى آذانهم صمم عند سماع القرآن..
وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» أي ويرد عليهم من القرآن عمى يصيبهم فى أبصارهم وبصائرهم..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» ..
الإشارة هنا إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون.. وفى الإشارة إليهم مناداة(12/1331)
عليهم بما يسوءهم، وإعلامهم بهذا الحكم على مشهد من الناس..
وقوله تعالى: «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» - إشارة إلى أن هؤلاء الذين لا يؤمنون، لا تتقبل طبيعتهم الإيمان ولا تستجيب له.. إذا تلى عليهم القرآن لم يقع لآذانهم التي أصموها عنه إلا كما يقع الصوت الوارد من مكان بعيد، خافتا ضعيفا، غير واضح الدلالة، فلا يتبين السامع شيئا لما سمع.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .
هو عزاء للنبى، وتسرية لهمومه التي يعالجها، من خلاف قومه عليه، وإعراضهم عما يتلو عليهم من آيات ربهم.. فهذه ليست حال هؤلاء القوم وحدهم، بل هى حال كثيرين من أهل الضلال، فى كل أمة وكل جيل مع رسل الله وآيات الله.. وأقرب مثل لهذا مالقى موسى من قومه هؤلاء الذين يراهم المشركون بينهم من اليهود..
فلقد آتى الله موسى الكتاب، أي التوراة، فيها هدى ونور، «فَاخْتُلِفَ فِيهِ» أي فاختلف القوم فى هذا الكتاب، ولم يستقيموا على طريق واحد معه، بل تفرقت بهم السبل، فسلك كل فريق شعبة من شعب الضلال، وإذا هم ثلاث وتسعون فرقة، كما جاء فى الحديث الشريف..
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» (4: البينة) ويقول سبحانه: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران) ..
وإذن فلا يحزن الرسول الكريم إذا رأى خلاف قومه على هذا الكتاب الذي بين يديه، فكان منهم المؤمنون، وكان منهم الكافرون فتلك هى سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى(12/1332)
الْهُدى»
(35: الأنعام) .. ثم لا يحزن النبي إذا وقع الخلاف بين المؤمنين، فكانوا فرقا فيما بعد..
فتلك هى سنة الله فى خلقه..
قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» تلك الكلمة هى ما وعد الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما يقول الله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (33: الأنفال) .
وقوله تعالى: «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أي لولا هذه الكلمة لأخذهم الله بعاجل عذابه، ولأوقع بالظالمين المكذبين بأسه الذي حلّ بالمكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» أي أن هؤلاء المشركين فى شك وارتياب من أمر هذا القرآن، فلم تقع آياته وكلماته موقع اليقين منهم، لأنهم لم يفتحوا آذانهم له، ولم يوجهوا عقولهم وقلوبهم إليه، فلم يستمعوا إليه إلا بآذان صماء، ولم يلقوه إلا بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فكان حكمهم عليه هذا الحكم الفاسد، الذي ملأ قلوبهم شكا وارتيابا..
قوله تعالى:
«مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
هو عزاء بعد عزاء من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، ودعوة إليه من ربه سبحانه أن يتخفف من هذا الحزن الذي يجده فى نفسه من خلاف قومه عليه، ومن تهافتهم على موارد الهلاك وهو يمسك بحجزهم، ويشدهم إليه، ليأخذ بهم إلى طريق النجاة، وهم يتفلتون منه، ويلقون بأنفسهم بالنار، ويتساقطون فيها تساقط الفراش.. فلا على النبي من بأس، إذا هو بلّغ دعوته فلم يستجب لها هؤلاء المشركون.. «مَنْ عَمِلَ صالِحاً(12/1333)
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها»
- فإنهم لو آمنوا وعملوا الصالحات فإنما ذلك لخيرهم، وسعادتهم، وإن هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم فذلك لشؤمهم وشقائهم.. فكل إنسان مجزى بما عمل «لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» .
وقوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي أنه سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، كما يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (40: النساء) كما أنه سبحانه لا يأخذ المطيع بذنب العاصي.. «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (52: الأنعام) .
وفى التعبير بصيغة المبالغة فى قوله تعالى: «بظلام» - إشارة إلى أمور..
أولا: أن كثرة الناس هلكى، وقليل منهم هم الناجون.. هكذا قضت مشيئة الله فى عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .. فلو نظر ناظر إلى كثرة الواردين على جهنم، لداخله شعور بأن هؤلاء الناس واقعون تحت سلطان مستبدّ قاهر- فجاء قوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ» ليدفع ذلك الشعور الخاطئ..
وثانيا: أن العذاب الواقع بأهل الضلال، عذاب شديد، لم يقع فى تصور إنسان، فإذا اطلع مطلع على ما يلقى أهل النار من بلاء، خيل إليه أن لا ذنب يستحق هذه العقوبة التي لا يعرفها أحد.. فجاء قوله تعالى «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ» ليدفع هذا التصور الخاطئ كذلك..
وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى يملك التصرف المطلق فى عباده، وأنه قادر على أن يضاعف عقاب المذنبين أضعافا كثيرة، وأن يجزى السيئة بعشر أمثالها، كما يجزى الحسنة بعشر أمثالها، ولو فعل ذلك لما كان ظالما، ولا ظلاما، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فإن(12/1334)
الظالم، أو الظلّام، هو من يعتدى على حقوق الغير، والله سبحانه إنما يتصرف فيما يملك، وليس لأحد ملك معه..
ورابعا: تقرر فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم أن الله لا يظلم مثقال ذرة.
كما فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها» (40: النساء) وكما يقول جلّ شأنه: «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (160 الأنعام) ..
فالظلم منفىّ قطعا عن الله سبحانه وتعالى، لأن الذي يظلم إنما يكون فى حاجة إلى مزيد مما هو فى يد غيره.. والله سبحانه وتعالى مالك كل شىء، وبيده كل شىء.. فإلى من يتجه بالظلم وكل شىء ملكه وصنعة يده؟ ..
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..(12/1335)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة. داود.. ما خطيئته؟ 1065. سليمان والشمس.. والجسد الملقى على كرسيه 1079. بين النفس.. والروح.. والجسد 1161. مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟ 1125 ثم الجزءان: الثالث والعشرون والرابع والعشرون، ويليه الجزءان:
الخامس والعشرون والسادس والعشرون.. إن شاء الله، والله الموفق والمعين.(12/1336)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
[الجزء الثالث عشر]
[تتمة سورة القمر]
الآيات: (47- 54) [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 54]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» .(13/3)
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد توعدت المشركين بقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» وهؤلاء المشركون لا يصدقون بيوم القيامة، ولا يؤمنون بالبعث، وكانوا يسألون النبيّ عن يوم البعث سؤال المنكر بقولهم: متى هو؟ ..
فكانت هذه الآية جوابا عن سؤال يدور فى رءوسهم، منكرا هذا اليوم..
وقد جاء الجواب على سبيل القصر، وجعل علم السّاعة من أمر الله وحده، لا يعلمها إلا هو، كما يقول الله تعالى: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» (87: الأعراف) ..
فقوله تعالى: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» حكم قاطع بأن علم الساعة، وتحديد وقتها، هو من أمر الله وحده، لا يعلمها إلا هو..
وقوله تعالى: «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» هو توكيد لعلم الله الشامل الذي يقع فى محيطه كلّ شىء فى هذا الوجود، لا علم الساعة وحده..
فهذه الثمرات التي تخرجها الأرض، هى فى علم الله.. ثمرة ثمرة، بل قبل أن تكون ثمرة.. فهو سبحانه الذي أخرج نبتها من الأرض، وهو سبحانه الذي أطلع من النّبتة هذا الزّهر، وهو سبحانه الذي أخرج من هذا الزهر، الثمر، وأنضجه..
والأكمام جمع كمّ، وهو كأس الزهرة قبل أن تتفتح..
هذا فى عالم النبات، وكذلك الشأن فى عالم الحيوان والإنسان.. فما حملت أنثى حملا، ولا وضعته، إلا والله سبحانه وتعالى عالم بما تحمل كل أنثى، وما تضع من حمل، كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «اللَّهُ(13/4)
يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ.. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ»
(8: الرعد) .
وعلم الله بما تحمل كل أنثى وما تضع من حمل، لا يمنع من أن يعلم الناس من هذا العلم، ما يقع لحواسهم، من حمل الحوامل من إنسان وحيوان..
فعلم الله سبحانه علم قديم، واقع قبل أن يقع الحمل وبعده، وهو علم شامل لكل ذات حمل، ووضع.. على خلاف علم العلماء، فإنه علم حادث بعد أن يقع الحمل، ثم هو علم محدود، لا يقع إلا على ما يكون تحت حواسهم، وهو قليل قليل إلى ما يقع لحواسهم، مما فى عالم البحار، والطير، والوحش، والهوامّ والحشرات.. وغيرها كثير كثير.. فالعلم الشامل الكامل، هو علم الله وحده.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» أي ويوم القيامة ينادى الحقّ سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين الضالين: أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى؟ فيخرسون عن الجواب، ويقوم شركاؤهم الذين عبدوهم من دون الله، فينطقون عنهم قائلين: «آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» أي تبرأنا إليك يا الله منهم، من قبل أي فى الدنيا، وليس الآن منّا من شهيد يشهد معهم موقفهم هذا، ويقف إلى جوارهم.. وهذا هو بعض السر فى التعبير بالفعل الماضي:
«قالُوا» بدلا من يقولون، الذي يعبّر به عما يتوقّع..
يقال: آذنه بكذا.. أي أعلمه وأخبره.
قوله تعالى:
«وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» .
أي وغاب عنهم، أي عن هؤلاء العابدين الضالين، ما كانوا يعبدون(13/5)
من دون الله، حيث يتلفتون فلا يجدون لهم أثرا فى هذا اليوم الذي يرجونهم له.. وأيقنوا أن لا محيص لهم، ولا نجاة من العذاب الواقع بهم، وقد تخلى عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله..
والظّنّ هنا بمعنى العلم واليقين.
والمحيص: المفرّ، والخلاص من هذا المأزق.
قوله تعالى:
«لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ» .
تشرح هذه الآية والآيات التي بعدها، النفس الإنسانية، وتكشف عن داء الطمع والشّره، وحب الاستكثار من المال والمتاع، المتمكن منها، دون أن يقف بها الأمر عند حدّ القناعة، أو الشبع.. بل إنها كلّما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع، ازدادت جوعا وطلبا..
كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه ... يصبح ظمآن وفى البحر فمه
- «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» أي لا يمل من طلب الخير لنفسه، من مال ومتاع، وولد، وجاه وسلطان.. إلى غير ذلك مما يطلبه الناس، ويتنافسون فيه..
وسميت هذه المطالب خيرا، لأنها فى أصلها من نعم الله، وهى فى ذاتها خير، ولكنها حين تصبح غاية لا وسيلة، تكون فتنة وبلاء.
والمراد بدعاء الخير، هو طلبه واستدعاؤه، والسّعى الجادّ لتحصيله، لأنّ هذه الأشياء إنما يطلبها الإنسان، لأنها غائبة عنه، فهو يستدعيها إليه، ويهتف بها من أعماقه أن تجيبه، وتدنو منه.(13/6)
- «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ» أي وإن ألمّ به الشرّ- مجرد إلمام، مع هذه النعم الكثيرة التي بين يديه- جأر بالشكوى، وعلا صياحه بالسخط والضيق، وكاد يؤدّى به ذلك إلى إعلان الحرب على ربه! لأنه يائس من رحمة الله، سيىء الظن بفضل الله وإحسانه..
فهذا موقف من لا يؤمن بالله، ولا يحسن الظن به، ولا يعلّق الأمل والرجاء فيه.. إنه يقيس الأمور ويقدّرها، حسب مجرياتها بالنسبة له، وحسب الأسباب التي بين يديه منها، غير ناظر إلى قدرة الله، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته..
أما للؤمن الذي يعمر الإيمان بالله قلبه، فإنه إذ يسعى سعيه فى الحياة، يتقبّل فى رضى واستسلام، كلّ ما يقع له من خير أو شر.. فهو مع الخير قانع، راض، شاكر، ومع الضّر صابر، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب، لا يبيت فى كل شدة إلا مع أمل، فى رحمة من ربه تكشف هذا الضرّ الذي نزل به.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (87: يوسف) .
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» .
أي أن هذا الإنسان الذي مسه الضر، فبات يائسا قانطا من رحمة الله- إذا أذاقه الله سبحانه رحمة منه، وكشف عنه الضر الذي مسه، لم يجعل هذا إلى الله سبحانه، ولم يضفه إلى فضله وإلى فضله وإحسانه، بل يزيّن(13/7)
له ضلاله وغروره، أن هذا الخير الذي أصابه بعد الضرّ- هو من عمله، وحسن تدبيره، فيقول: «هذا لِي» أي هذا من كسبى، وحسن تدبيرى، فهو لى، وليس لله فيه شىء، فلا يكون منه حمد لله، ولا ذكر لفضله وإحسانه.. ثم يمضى فى غروره وضلاله، فيدخل على نفسه الشكّ فى أمر البعث والحساب والجزاء، كى يطلق العنان لشهواته ونزواته، غير عامل أي حساب ليوم الحساب: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» !.
ثم إذا به بعد أن ألقى بذور الشك فى يوم القيامة، وغرسها فى مشاعره، يعود فيروى هذه البذور بالآمال الكاذبة، والأمانىّ الباطلة، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على سوقها، ثم أزهرت وأثمرت.. فيحدّث نفسه بهذا الحديث الكاذب: «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» ! هكذا ينتقل به الضلال، من وهم إلى وهم، ومن خداع إلى خداع، حتى يرد موارد الهلاك!.
«وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» !.
إنه مجرد ظنّ! يحتمل أن تقوم الساعة، أو لا تقوم!.
وماذا لو قامت الساعة!.
إنه لا خوف عليه منها! وماذا يخيفه؟ إن له عند الله فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- مثل ما كان له فى الدنيا أو أكثر!! ..
وهكذا يزين الضلال لأهله! وقد أبطل الله سبحانه هذه الأمانى الباطلة، وردّها على أهلها حسرة وندامة،(13/8)
فقال سبحانه: «فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» .. فهذا ما يلقاه الكافرون فى هذا اليوم.. إنهم سيلقون أعمالهم السيئة حاضرة بين أيديهم، وسيحاسبون عليها، ثم يقضى عليهم بالعذاب الغليظ، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، خالدين فيه أبدا.
قوله تعالى:
«وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» .
وهذه صورة من صور الإنسان، ومكره بنعم ربه.. وكفره بإحسانه إليه..
فهذا الإنسان- وله فى الإنسانية أشباه كثيرون- إذا أنعم الله عليه نعمة منه، شغل بالحياة مع هذه النعمة عن الله، ونسى ما لله من حقوق عليه، بل ربما ذهب إلى أبعد من هذا، فاتخذ من هذه النعمة سلاحا يحارب به الله سبحانه، ليفسد فى الأرض، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل..
فإذا مسّ هذا الإنسان ضرّ، عاد إلى الله، يدعوه لجنبه أو قاعدا أو قائما، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق، لئن أنجاه الله من هذا البلاء، وكشف عنه هذا الضرّ، ليكونن من المؤمنين الشاكرين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» أي يستكثر من الدعاء والتضرع إلى الله، والإنابة إليه..
إنه لا يذكر الله ولا يعرفه إلّا فى الشدّة.. أما فى الرخاء. فهو معرض عن الله، أو محارب لله..
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» .(13/9)
هو رد على تلك الأمانى الباطلة، التي يعيش فيها أهل الغواية والضلال، ممن يقيمون أمرهم فى الإيمان باليوم الآخر- على حرف.. فيقولون إن كانت هناك آخرة- ولا نظن- فإن لنا عند الله هناك ما كان لنا فى الدنيا، من مال وجاه وسلطان.. وإن لم تكن آخرة- وهو ما نظن- فقد أخذنا أمرنا على هذا، فلا يضيرنا أنه لم يجىء هذا اليوم، فليس لنا شىء فيه، ولا متعلّق لنا به.
وهنا فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى للمشركين عن موقفهم من رسول الله، ومن كتاب الله الذي بين يديه.. فهم فى شك من رسول الله، وفى حيرة من أمرهم فيه، بين التصديق والتكذيب، أشبه بهذه الظنون التي تدور فى رءوس المشركين عن يوم البعث، وقد جاءهم القرآن، وهم على هذا الشعور، يحاسبهم به، ويسفّه منطقهم فيه.
فهم قد وقفوا من الرسول موقف الشك والارتياب، بين التصديق والتكذيب، كما كان ذلك شأنهم مع اليوم الآخر.. فليكن هذا.!
ولكن لماذا يرجّحون جانب التكذيب على جانب التصديق؟ هذا هو الذي لا يقبله منطق! فهل يقبلون مثلا إذا جاءهم من يخبرهم أنه رأى جيشا مغيرا وراء هذا الجبل، يريد الهجوم عليهم- هل يقبلون أن يقيموا أمرهم على الشك، فى هذا الخبر، ولو كان كاذبا من كاذب؟ وهل يقبلون أن يخلو شعورهم من كل حذر وحيطة؟ إن منطق الحياة يدعوهم إلى الأخذ بالأحوط، وإلى أن يعدّوا العدّة كاملة للقاء هذا العدو.. فإن كان هناك عدو، كانوا قد أعدوا العدة للقائه، فلم يبغتهم بخيله ورجله.. وإن لم يكن هناك عدوّ، فلا خسران عليهم فيما فعلوا..
وهنا، إنسان يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يحمل إليهم كتابا من ربهم(13/10)
يدعوهم فيه إلى الإيمان بالله، واليوم الآخر، وينذرهم عذاب يوم عظيم، هو يوم القيامة..
وهذا الرسول، إما أن يكون صادقا، أو كاذبا.
فإن هم أقاموا أمرهم معه على أنه صادق، وآمنوا بالله وباليوم الآخر، وأعدّوا العدة للقاء هذا اليوم، فإن كان صادقا حقّا فقد نجوا، وخلصوا بأنفسهم من عذاب هذا اليوم.. وإن كان كاذبا، فما خسروا شيئا.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه، على لسان مؤمن آل فرعون: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (28: غافر) .
وفى هذا المعنى يقول أبو العلاء المعرى.
قال المنجّم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر ... أو صحّ قولى فالخسار عليكما
وقوله تعالى: «مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» .
الاسم الموصول «مِنْ» مفعول به لقوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ» أي أعلمتم من أضل منكم، إن كان هذا الرسول من عند الله، ثم كفرتم به؟ ويكون قوله تعالى: «إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» جملة اعتراضية شرطية، وجواب الشرط محذوف، دلّ عليه السياق.
وقد جىء بهم مع ضمير الغائب بدلا من ضمير المخاطب فى قوله تعالى: «مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ليروا بأعينهم العبرة فى هذا الذي يعرض عليهم من أهل الشقاق، وهو صورة منتزعة منهم.. وفى هذا ما يدعوهم إلى أن ينظروا فى وجه هذا الغريب. وأن يطيلوا النظر إليه، والحال أنهم إنما ينظرون إلى أنفسهم فى شخصه.(13/11)
ولو جاء النظم هكذا: قل أرأيتم من أضل منكم إن كان هذا الرسول من عند الله، ثم كفرتم به- لنفروا نفار الحمر الوحشية، ولما استقبلوا هذه الدعوة التي يدعون إليها، إلا بالصد والإعراض، أو بالسب والشمّ، فيفوت بذلك الغرض المقصود من الإمساك بهم فى هذا الموقف، لينظروا فى تلك المرآة، التي يرون شخوصهم مائلة فيها! قوله تعالى:
«سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ..»
أي أن هؤلاء المشركين، الذين شكّوا فى رسول الله، وفى آيات الله التي بين يديه- سيريهم الله آياته فى الآفاق البعيدة عنهم، وفى ذات أنفسهم، وستكشف لهم هذه الآيات التي يرونها، أن هذا الرسول حق، وأن الكتاب الذي بين يديه حقّ.
والآيات التي رآها المشركون فى الآفاق وفى أنفسهم كثيرة.. منها هذا المجتمع الجديد الذي قام لدعوة الإسلام فى المدينة، واجتمع فيه المهاجرون والأنصار.. ومنها ازدياد قوة الإسلام، وشوكة المسلمين، يوما بعد يوم.. ومنها انتصار المسلمين يوم بدر وهم قلة، وانتصارهم يوم الخندق بغير حرب.. ومنها جلاء اليهود عن المدينة، وإنزالهم من صياصيهم.. ومنها فتح خيبر.. ثم منها فتح مكة.. ففى هذه الآيات رأى كثير من المشركين أن هذا الدين هو دين الله، وأن الرسول رسول الله، وأن الكتاب كتاب الله، فجاءوا من كل فج يطلبون الإسلام، ويدخلون فى دين الله أفواجا.
وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(13/12)
هو دعوة للنبىّ الكريم أن يصبر على أذى قومه، وعلى موقفهم المتعنت منه وحسبه فى هذا أن الله شهيد على ما يعملون، وسيجزيهم عليه..
قوله تعالى:
«أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» .
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفيها كشف عن الداء الذي يخامر المشركين، ويفسد عليهم رأيهم فى رسول الله، وفيما يدعوهم إليه، وهذا الداء هو إنكارهم للبعث، واستبعادهم إعادة الأجساد بعد أن تصير عظاما ورفاتا..
وفى قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» إخبار من الله سبحانه وتعالى بما فى نفوس هؤلاء المشركين من أمر البعث من شك وريبة فهم لهذا فى شك من لقاء ربّهم، ومن محاسبتهم ومجازاتهم على ما يعملون فى دنياهم..
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» .. تهديد لهؤلاء المشركين بما يلقاهم من شكّهم فى لقاء ربّهم يوم القيامة، حيث يرون أعمالهم، وقد أحصاها الله عليهم، وحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة منها.. فالله سبحانه وتعالى محيط بكل شىء علما.(13/13)
42- سورة الشورى
نزولها: مكية.. بإجماع.
عدد آياتها: ثلاث وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وست وستون كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمان وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
تكاد سور الحواميم تكون سورة واحدة فى نظمها وفى مضمونها..
فهى جميعها مكية النزول، وقد خلت من القصص، ومن التشريع، وجاءت مساقاتها كلّها فى مواجهة المشركين بشركهم وضلالهم، وتكذيبهم لرسول الله، وشكّهم فى البعث، وفى لقاء ربهم.. ولقد لقيهم القرآن الكريم فى هذه السّور بكل طريق، ودخل على مشاعرهم وتصوراتهم من كل باب، فلم يدع خاطرة تدور فى رءوسهم من خواطر الشكّ والارتياب إلّا كشف لهم عنها، وأراهم باطلها وضلالها.. ثم نصب لهم معالم الهدى، ودعاهم إلى أخذ الطريق القاصد إليه.. وإلا فالنار موعدهم..
وهذه السورة- سورة الشورى- تتصل بسورة فصلت التي سبقتها اتصالا وثيقا، فتعيد على أسماع المشركين عرض تلك القضايا التي عرضتها السورة السابقة من شركهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله، وارتيابهم فى البعث، والحساب والجزاء.. وفى هذا العرض المتجدّد، يرى المشركون تلك القضايا، وقد طلعت عليهم بمعاول جديدة، تهدم تلك الجدر المتداعية من بناء معتقداتهم الفاسدة، حتى لتكاد تسقط عليهم، وتدفنهم تحت أنقاضها..(13/14)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 12) [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)(13/15)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم عسق.»
هذه أحرف خمسة بدأت بها السورة الكريمة.. وذلك العدد هو غاية ما بدىء به من حروف مقطعة، على حين قد بدئت بعض السور بحرف واحد مثل «ص» و «ق» و «ن» كما بدئت بعض السور بحرفين مثل: «طه» و «طس» و «يس» و «حم» وبعضها بثلاثة أحرف مثل: «الم» و «الر» و «طسم» وبعضها بأربعة أحرف مثل «المص» و «المر» ..
ومما يلفت النظر فى هذا، أن الكلمة العربية قد تبنى على حرف واحد، مثل «ق» فعل أمر من «وقى» أو حرفين مثل «قل» فعل أمر من قال، أو ثلاثة أحرف.. مثل «قرأ وسجد» أو أربعة أحرف مثل «بعثر» وزلزل أو خمسة أحرف مثل «تلعثم» ..
وعلى هذا يمكن أن ينظر إلى هذه الحروف المقطّعة على أنها أفعال، أو أسماء، ذات دلالات خاصة، يعرفها النبىّ ويرى فى أضوائها ما لا يراه غيره وقد يشاركه فى هذه الرؤية بعض المؤمنين الراسخين فى العلم منهم..
وفى هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار والمعارف، التي تحويها هذه الأحرف فى كيانها.. فهى أشبه بصناديق مغلقة على كنوز من الأسرار والمعارف، يأخذ منها النبىّ ما شاء، على حين لا تأذن بشىء منها إلا لذوى البصائر من عباد الله الصالحين المقرّبين، ثم تظل مغلقة على أسرارها دون من ليسوا من أهلها..
وعلى هذا الفهم، نستطيع أن نردّ الإشارة فى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. إلى هذه الأحرف، وأن(13/16)
الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه الكريم بهذه الأحرف التي تحمل فى كيانها دلالات يعرف النبىّ تأويلها، بما آتاه الله من علم، شأنه فى هذا شأن الأنبياء من قبله، الذين أوحى الله سبحانه وتعالى إليهم بمثل ما أوحى إليه به من هذه الأحرف، التي هى رموز إلى أمور يعرفون هم تأويلها، ويشاركهم بنسب مختلفة فى المعرفة بعض أتباعهم وحواريهم، من الراسخين فى العلم.
فالمراد- والله أعلم- بما يوحى به الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ هنا، هو بعض ما يوحى إليه، لا كلّه، وهو تلك الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السور، لا كلّ ما أوحى به إليه.
وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» .. إشارة إلى أن هذا الوحى الذي تلقى به النبىّ صلوات الله وسلامه عليه هذه الأحرف، لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه، فيتلقّى منه ما أذن الله بوحيه إليه من آياته وكلماته.
وإنما كان كلاما من ربّه، على تلك الصفة التي أشار إليها سبحانه فى قوله:
«وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً» .. أي إلهاما منه سبحانه، حيث يجد الرسول كلمات ربّه قائمة فى صدره، مستولية على كيانه كلّه.. وهذا ما يشير إليه الرسول فى قوله: «إن روح القدس نفخ فى روعى» ..
ومن هنا كان لهذه الأحرف هذا المقام الكريم، فى كتاب الله الكريم، فكانت تلك الأحرف على رأس السّور التي نزلت معها..
هذا، وسنزيد الأمر بيانا فى آخر السورة، عند تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» .(13/17)
قوله تعالى:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .. إشارة إلى ما لقدرة الله سبحانه وتعالى، من سلطان قاهر، يخضع له كل موجود فى هذا الوجود.. فهو- سبحانه- الخالق المالك المدبّر لكل ما فى السموات وما فى الأرض.. وهو «الْعَلِيُّ» الذي يعلو بسلطانه على كل سلطان..
العظيم الذي تذل لعظمته كل عظمة، وكل عظيم..
قوله تعالى:
«تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
أي إنه لجلال الله سبحانه ولعظمته ورهبوته، تكاد السماوات يتفطرن من «فَوْقِهِنَّ» أي يتشققن ويسقطن من علوّهن، فيقع بعضهن على بعض.
فالضمير فى «فَوْقِهِنَّ» يعود إلى السموات.. أي أنها تكاد تسقط من عليائها، هيبة وجلالا لله سبحانه.. وان الانفطار، وهو التشقق، هو من الخشية والجلال لهذا القرآن الموحى به إلى النبي، والذي لا يتأثر به هؤلاء المشركون، أصحاب القلوب القاسية.. وأن التشقق الذي يكاد يفتت السماوات، لا يقع- وحسب- من الجهة المواجهة للأرض، لما نزل عليها من كلام الله، بل يبلغ أقطارها العليا، وينفذ إلى أعلى سماء فيها..
وقوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» أي أن الملائكة وهم من عالم السماء. - عالم النور والطهر-. يسبحون بحمد ربّهم، ويتقربون إليه، ويبتغون مرضاته، بالعبادة والتسبيح: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» ..
«وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» .(13/18)
وقوله تعالى: «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» .. أي أن من عبادة الملائكة وتسبيحهم لله، استغفارهم لمن فى الأرض.. إذ كان أهل الأرض متلبسين بالخطايا والذنوب.. فهم النقطة السوداء فى هذا الوجود النورانى، المشّع ولاء وخضوعا لله رب العالمين..
والمراد بمن فى الأرض هم المؤمنون، كما يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (5: الشورى) وكما يقول سبحانه: (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (7: غافر) وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .. أي أنه سبحانه يقبل استغفار الملائكة لمن يستغفرون لهم من المؤمنين، فيغفر الله سبحانه وتعالى لهم، فهو سبحانه «الْغَفُورُ» أي كثير المغفرة «الرَّحِيمُ» ، أي واسع الرحمة، تسع رحمته كل شىء.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ..
هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» - أي أنه سبحانه يغفر للذين تابوا وآمنوا، وأما الذين أشركوا بالله، واتخذوا من دونه أولياء، ولم يدخلوا فى دين الله، ولم يتوبوا إليه- فالله «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» أي ممسك بهم، قائم عليهم، متول حسابهم وجزاءهم.. وليس النبي بمسئول عنهم بعد أن بلغهم رسالة ربه.. «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) .(13/19)
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ.. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» .
فى هذه الآية إشارة إلى أن هناك وحيا من نوع آخر، غير الوحى الأول الذي جاء فى مطلع السورة فى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
وقد قلنا- حسب فهمنا- إن الوحى الذي أشار إليه قوله تعالى:
«كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هو وحي من الله بدون وساطة ملك، وأنه المشار إليه فى قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» فهذا الوحى، وحي من الله بدون وساطة.. وقلنا إن هذا الوحى من الله سبحانه، هو واقع على الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم.. أما الوحى بوساطة الملك فقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا» .. وهذا يشمل القرآن الكريم كلّه، عدا تلك الحروف المقطعة.. ولهذا وصف بأنه قرآن عربى، أي يقرأ ويفهم عند من يحسن العربية ويفهم لغتها.. ولهذا أيضا اتبع بالعلة التي من أجلها كان وحي هذا القرآن، وهى التبليغ والإنذار: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى» أي أهل مكة «وَمَنْ حَوْلَها» أي ومن حولها من أهل القرى والخيام..
ووصف مكة بأنها أم القرى، إشارة إلى أنها ستكون قبلة المسلمين فى صلاتهم، ومجتمعهم فى حجّهم..(13/20)
وقوله تعالى: «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» .. أي وتنذر الناس بلقاء ربهم «يَوْمَ الْجَمْعِ» أي يوم القيامة، حيث يبعث الله الناس من قبورهم، ويحشرون إلى ربهم، فيجتمعون جميعا، لا يغيب فرد واحد منهم.
وقوله تعالى: «لا رَيْبَ فِيهِ» الجملة حال من يوم الجمع، أي أن هذا اليوم آت لا شك فيه..
وقوله تعالى: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» أي أن هذا الجمع الذي يضم الناس جميعا، سينقسم هناك إلى فريقين: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فلينظر الإنسان إلى نفسه، وإلى أىّ فريق من الفريقين ينتسب.. فإن كان من المؤمنين المصدّقين بالله وبرسوله، وباليوم الآخر- فهو من فريق أهل الجنة، وإن كان من المكذبين الضالين، فهو فى الفريق المدعوّ إلى السعير..
قوله تعالى:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .
أي أن الله سبحانه وتعالى، قد قضى فى عباده أن يكون فريق منهم فى الجنة، وفريق فى السعير، كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. هكذا كانت مشيئة الله فى عباده..
ولو شاء الله سبحانه لجعل الناس أمة واحدة، ولأدخلهم يوم القيامة مدخلا واحدا..
وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» أي أنّ من أراد الله سبحانه بهم خيرا، هداهم إلى الإيمان، وأدخلهم فى رحمته،(13/21)
وأنزلهم منازل جناته ورضوانه.. فضلا منه وإحسانا، وكرما.. جعلنا الله منهم..
وقوله تعالى: «وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .. اختلف فيه النظم، فجاء على غير ما يقتضيه ظاهر المقام، الذي يقضى بأن يكون المعادل لقوله تعالى: «وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» - هو: «ويحرم من يشاء منها» ..
فما سرّ هذا؟
السرّ- والله أعلم- هو أن الله سبحانه، هو صاحب المشيئة المطلقة التي لا معقب لها، وهو سبحانه بهذه المشيئة يفعل ما يشاء فى خلقه، فيعذّب من يشاء، ويرحم من يشاء.. «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) ..
تلك هى مشيئة الله المطلقة الغالبة «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (68: القصص) ..
ومع هذه المشيئة الغالبة المطلقة لله سبحانه، فقد جعل جلّ شأنه للإنسان- فضلا منه وكرما- مشيئة، تقود فطرته، لتلقى مع مشيئة الله، وتجرى فى محيطها العام المتدفق..
ولكن الإنسان- وبمشيئة الله الغالبة- أفسد فطرته، فجمعت به إرادته عن أن يستقيم على سواء السبيل، فكان بهذا ظالما، جائرا عن قصد السبيل القويم.. فالظالم هو الوصف الذي يرد على كل إنسان عاقل رشيد مريد، إذا هو كان فى موقع انحرف فيه عن طريق الحق الذي قام عليه الوجود كلّه..(13/22)
وهذا الانحراف، هو بمشيئة لله سابقة غالبة، ولكنّ للإنسان كسبا فى هذا الانحراف، ومشيئة متلبسة به..
فالأمر فى ظاهره، هو: أن هذا الظلم والانحراف من كسب الإنسان، وهو فى باطنه بمشيئة غالبة لله، وقدر سابق! ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) ..
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
أي أن هؤلاء الظالمين، قد اتخذوا من دون الله أولياء يرجون نصرهم..
ويبتغون العزّة عندهم.. «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده، لا يملك معه أحد نصرا، ولا عزّا.. «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً» (44: الكهف) .
وقوله تعالى: «وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى» إشارة إلى البعث، وأنه حقيقة مقررة، وأن إنكار المنكرين لا ينفعهم من لقاء هذا اليوم، ولا يصرفه عنهم، بل إنهم مبعوثون، ومحاسبون حسابا عسيرا.. «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» (8: هود) .
وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تأكيد للبعث، وأن إحياء الموتى واقع فى قدرة الله التي لا يعجزها شىء.
قوله تعالى:
«وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .(13/23)
هو معطوف على قوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. الذي هو من صفات الله سبحانه وتعالى، الذي يحيى الموتى، وبقدر على كل شىء، وإليه مردّ الحكم فيما اختلفتم فيه.. فهو سبحانه الذي يقضى فى هذا الاختلاف الذي خرجتم به أيها الظالمون عن دعوة الحقّ، وعن طريق الإيمان.
وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. أي قل لهم أيها النبي: ذلكم المتصف بتلك الصفات، هو ربى الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، الذي عليه توكلت، فجعلت ولائى له، ومعتمدى عليه، والذي إليه أرجع فى كلّ أمورى، وأتوب إليه من كل ذنب.
قوله تعالى:
«فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .
هو من عطف البيان على قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي» .. أي ربى الذي عليه توكلت وإليه أنيب، هو «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ، أي خالقهما، وموجدهما ابتداء، على غير مثال سبق.. ومنه الفطرة، وهى أصل الخلقة.
ويمكن أن يكون هذا وما بعده من قول الرسول الكريم، استكمالا لقوله: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. ويمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، تعقيبا على إقرار الرسول بوحدانية ربّه، وتوكّله عليه.. أي أن هذا الرّبّ الذي اتّخذه الرسول ربّا له، وتوكّل عليه، وأناب إليه- هو فاطر السماوات والأرض.
وقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً» أي هذا الربّ الذي خلق السموات والأرض، هو الذي خلقكم، وهو الذي «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» أي جعل لكم من جنسكم، ومن طبيعتكم أزواجا(13/24)
لتسكنوا إليها، وتألفوا الحياة معها، كما أنه سبحانه قد جعل لكم من الأنعام أزواجا، ذكرا وأنثى لتتوالد، وتتكاثر، وتنتشر بينكم، وتتسع لحاجتكم منها، ركوبا، وحملا، وطعاما.
وقوله تعالى: «يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ» .
الذّرء: إظهار عوالم المخلوقات، التي كانت مكنونة فى علم الله سبحانه وتعالى- ومنه الدّرأة، وهى بياض الشيب، لأنه ظهر بعد خفاء.
ومعنى الآية الكريمة، أن الله سبحانه بهذا التزاوج بين الرجل والمرأة، كثرّ نسل الإنسان، وأظهر به ما قدّر من مخلوقات بشرية، من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات.
والضمير فى «فِيهِ» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى: «أَزْواجاً» أي تزاوجا بين الذكر والأنثى، فى عالم الأحياء، من إنسان وحيوان.. فكأن هذا التزاوج هو الظرف، أو الوعاء الذي تتشكل فيه عوالم الأحياء، أي يكثّركم فى هذا التزاوج..
وقوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .
هو مبالغة فى نفى المثلية عن الله سبحانه وتعالى، وذلك ينفى المثلية عن مثله- تعالى الله سبحانه أن يكون له مثل.. فإذا انتفت المثلية عن المثل، وهذا المثل- أيا كان- لا يساوى من يماثله- فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل- أولى- بمعنى أنه ليس كمثل مثل الله شىء فى هذا الوجود، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل الله ذاته؟ ذلك مستحيل بعد مستحيل..
قوله تعالى:
«لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .(13/25)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
المقاليد: جمع مقلد، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه القلادة، لأنها تحيط بالعنق.
أي أن الله سبحانه وتعالى، له السلطان القائم على السموات والأرض، وبيده سبحانه تصريفهما، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
الآيات: (13- 16) [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 16]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا(13/26)
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» .
أي ومن نعم الله سبحانه وتعالى، الذي خلقكم وجعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من الأنعام أزواجا- أنه شرع لكم دينا هو دينه الذي ارتضاه، وهو الدين الذي وصّى به نوحا، وهو الذي جاءكم به نبيكم محمّد، وحيا من ربه، وهو ما وصى به الله سبحانه الأنبياء، إبراهيم وموسى، وعيسى، عليهم السلام.
وقوله تعالى: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» هو بيان لما وصى الله سبحانه به أنبياءه عليهم السلام، وهو أن يقيموا الدين، وأن يبلّغوه أقوامهم، وأن يكونوا جميعا على هذا الدين، دين الله الذي ارتضاه لهم جميعا، والّا يتفرقوا فيه، فيكون لكل نبى، ولكل قوم دين.. إن دين الله واحد، هو الإسلام، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وكما يقول سبحانه: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153: الأنعام) .. وكما يقول جل شأنه فيما أخذه من ميثاق على الأنبياء جميعا: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . (81: آل عمران) وكما يقول النبي الكريم: «الأنبياء أبناء علّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد» .
وهذه الوصاة للأنبياء، هى وصاة ملزمة لأقوامهم باتباع دين الله هذا، وهو الإسلام الذي كمل به الدّين، والذي أدركوه وبين أيديهم بعض منه..
ومطلوب من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن يؤمنوا بهذا الدين كلّه، وألا يتفرقوا فيه، فيذهب كل فريق ببعض منه، فيكون لكل جماعة دين من دين الله الواحد.(13/27)
وهنا سؤال، وهو: لماذا اختلف النظم فى هذا المقطع من الآية الكريمة، فلم يجر على نسق واحد؟ فقال تعالى: «ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» ثم قال سبحانه:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» ولم يجىء النظم هكذا: «وما وصّيناك به» بل جاء هكذا: «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ..
فما سر هذا؟
الجواب: - والله أعلم- من وجوه: فأولا أن ما أوحى الله به سبحانه وتعالى إلى النبي من آياته وكلماته، لم يكن مجرّد وصاة.. بل إنه يحمل مع هذه الوصاة المعجزة التي تدلّ على أنه كلام الله، على حين أن ما كان يوحى إلى الأنبياء من وصايا لم يكن كلاما يحمل فى طياته معجزة متحدية.. وهذا هو بعض السر فى كلمة «أَوْحَيْنا» المقابلة لكلمة «وَصَّيْنا» .. إذ أن الوحى فيه إشارات، ولطائف، لا تنكشف إلا لذوى البصائر والأفهام، على خلاف الوصاة فإنها تجىء صريحة واضحة الدّلالة، تعطى كلماتها كلّ ما فيها مرة واحدة.
وثانيا: أن هذا الوحى يحتاج إلى عقل بتدبّر هذه الكلمات الموحى بها، وهذا يعنى أن المبلّغ إليهم هذا الوحى، ينبغى أن يتدبروه ويعقلوه، وأن يستخلصوا منه مواقع العبر والعظات، وأن يأخذوا منه الأدلة والبراهين على ما يدعوهم إليه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والتصديق برسوله، وملائكته وكتبه ورسله..
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أن المبلّغين برسالات الرسل السابقين لم يكونوا مطالبين باستخلاص الدليل والبرهان على صدق الرسول، وعلى صدق ما جاءهم به من وصايا، إذ كان مع الرسول آية صدقه التي بين يديه من المعجزة أو المعجزات المادية، التي يمكّن الله سبحانه وتعالى له منها..(13/28)
وثالثا: فى الوحى بالشيء رفق ولطف بالموحى إليه، ومخاطبته بالإشارة دون العبارة.. وهذا يعنى أن الذين يخاطبون بهذا الوحى هم فى درجة من الفطنة والذكاء وكمال العقل، بحيث لا يؤخذون بالزجر والقهر، وإنما يقادون بالحكمة، والمنطق، وهذا ما يتفق والرسالة الإسلامية، التي كمل بها دين الله، والتي من شأنها أن تلتقى بأوفر الناس حظّا من الكمال الإنسانى..
وسؤال آخر..
وهو: لماذا لم يجىء ذكر الأنبياء على نسق فى الترتيب الزمنى، فجاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد نوح، وقبل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟ ..
ثم لماذا وقد سبق ذكره- صلوات الله وسلامه عليه- إبراهيم وموسى وعيسى-لماذا لم يسبق نوحا أيضا؟
والجواب- والله أعلم- من وجوه كذلك:
فأولا: قدّم النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، على إبراهيم وموسى وعيسى، لأن رسالته هى مجمع رسالات الأنبياء عليهم السلام، وكتابه الذي أنزل عليه هو المهيمن على الكتب السماوية.. إذ قد جمعت الرسالة الإسلامية ما تفرق فى الرسالات السابقة، فكان الإسلام هو الدين كلّه، دين الله الذي كان لكل نبى نصيب منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (33: التوبة) وقوله سبحانه: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ(13/29)
مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً»
(68: المائدة) وقوله تبارك وتعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (85: آل عمران) .
وهذا يعنى أن من آمن بالرسالات السابقة، وأقامها على وجهها، لا بد أن يسلمه ذلك إلى الإيمان بالإسلام، لأنها من الإسلام، مادة وروحا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) .
وثانيا: قدم نوح- عليه السّلام- لأنه أول الأنبياء أصحاب الرسالات، وقد كانت له دعوة إلى الله، وكان له قوم يدعوهم إلى الله، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكر القرآن.. وبهذا تعتبر رسالته مفتتح الرسالات إلى دين الله، وهو الإسلام.. فكان تقديمه لازما لهذا الاعتبار..
وثالثا: أن تقديم نوح لم يكن إلا لمجرد الإشارة إلى أن دعوة الإسلام دعوة قديمة قدم الإنسانية، يوم بلغت الإنسانية مبلغ الخطاب والتكليف، ولم يكن لنوح حين جاء الإسلام، قوم أو كتاب، حتى يكون لتقديم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- على دعوة نوح حجة على قومه، وهيمنة على كتابه، على خلاف من هم من أتباع إبراهيم وموسى وعيسى، فقد كانوا بمشهد من عصر النبوة، وبمسمع من دعوة النبي، وهم لهذا مطالبون باتباع هذا النبي والإيمان به، وبكتابه المهيمن على ما فى صحف إبراهيم، وعلى التوراة والإنجيل.. فقد كان اليهود أتباع موسى، وكتابه التوراة، وكان النصارى أتباع عيسى، وكتابه الإنجيل، وكان المشركون على دين(13/30)
إبراهيم، وإن كانوا جميعا قد تنكّبوا الطريق السّوىّ للدين الذي يدينون به..
وقوله تعالى: «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» - هو نحس للمشركين وتبكيت لهم، وازدراء لغرورهم الذي أراهم فى أنفسهم هذا الذي باعد بينهم وبين كتاب الله، ورسول الله، فأنفوا أن يستجيبوا لبشر مثلهم، وأن يتناولوا من يده الدواء الذي يشفى عللهم، ويذهب بأسقامهم..
لقد كبر عليهم هذا، ورأوه مما ينزل بقدرهم وينال من مكانتهم.. وإنه لعجيب غاية العجب، أن يكون هذا موقفهم من كتاب هو المهيمن على الكتب السماوية كلها، ومن رسول هو خاتم الرسل، ورسالته خاتم رسالات السماء، ومن دين هو مجتمع دين الله؟ «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» .. فهذا هو الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لهم. واصطفى لحمله إليهم صفوة أنبيائه، وخاتم رسله.. فكيف يستقبلون هذه المنّة العظيمة بهذا الكبر الأحمق، وهذا الغرور السفيه؟.
وقوله تعالى: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» ..
هو تعقيب على موقف هؤلاء المشركين من دعوة الله سبحانه وتعالى، التي يدعو بها رسوله الناس إلى الله.. إذ ليس كلّ مدعوّ مستجيبا لهذه الدعوة، ولكن الله سبحانه وتعالى يختار من بين المدعوين من يدخلهم فى ضيافتهم، ويأخذ بيدهم إلى رحاب كرمه وإحسانه، فيستجيبون للداعى مسرعين، فى غير تردّد أو إبطاء، وهناك آخرون من بين المترددين والمبطئين سوف يلحقون بهؤلاء السابقين، ويدخلون فى ضيافة الله سبحانه، إذا هم نزعوا أقدامهم من هذا الموقف المتردد الذي هم فيه، وأخذوا طريقهم(13/31)
إلى الله.. إن الله سبحانه- سيهديهم إليه، وبيسر لهم سبل الوصول إلى رحاب فضله وإحسانه.. «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» .. وهكذا تختلف منازل الناس عند الله.. فأناس يجتبيهم ويختارهم، ويحملهم حملا على مطايا الفضل ومراكب الإحسان.. وأناس ينتظر بهم حتى يكون منهم سعى إليه، واتجاه إلى مواقع رحمته.. وعندئذ تلقاهم عناية الله على أول الطريق، فتقودهم إليه، وتنزلهم منازل رضوانه.. وأناس قعدوا حيث هم فأركسوا فى ضلالهم.. إنهم لم يكونوا من أهل الاجتباء، فتخف بهم مراكب اللّجا إلى الله، ولم يكونوا من ذوى القدرة على السباحة والعوم، الذين تمسك أيديهم بحبل الله، فيسلمهم ذلك الحبل إليه.. بل كانوا من غير هؤلاء وأولئك، ممن لم يرد الله لهم النجاة، فكانوا من المغرقين.
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» .
قوله تعالى:
«وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .
أي أن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- كانوا على حال واحدة من الكفر والضلال، قبل مبعث الرسل إليهم، فلما بعث الله فيهم الرسولين الكريمين- موسى وعيسى- وجاءهم العلم على يديهما، وبيّنا لهم الهدى من الضلال- تفرقوا شيعا، فكانوا يهود ونصارى، وما كان اليهود: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، وكان النصارى: مؤمنين وكافرين ومشركين.. وهكذا تنازع القوم أمرهم، وفرقوا دينهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ.. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (159: الأنعام) .(13/32)
وقوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» ..
أي ولولا ما سبق من قضاء الله، فى أن يؤخر حساب هؤلاء المختلفين من أهل الكتاب، إلى أجل مسمّى، موقوت لهم، وهو يوم القيامة- لولا هذا الذي سبق من قضاء الله «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» ، أي لفصل بينهم، وأخذ كل منهم بما يستحق من جزاء فى هذه الدنيا، فنجّى الذين آمنوا، ووقع بأس الله بالقوم الظالمين.
وقوله تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» - الضمير فى «مِنْهُ» يعود إلى «الدِّينِ» فى قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» وهو دين الإسلام، الذي يدعو إليه رسول الله بالكتاب الذي أنزل إليه من ربه..
والذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا الدعوة الإسلامية، فهؤلاء الذين يدينون باليهودية والنصرانية، هم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين أورثوهم- مع هذا الكتاب الذي فى أيديهم- فرقة فيه، واختلافا عليه، وهم لما ورثوا من فرقة وخلاف فى دينهم- فى شك وارتياب من هذا الدين الإسلامى الذي يدعون إليه، إذ كان دينهم الذي هو من هذا الدين، قد تغيرت معالمه، وطمست وجوهه، فلما التقى بدين الله الذي يردّ أصل دينهم إليه- لم يجدوه ملتئما معه، ولا آخذا سبيله، فكان ذلك الشك المريب منهم فى دين الله! قوله تعالى:
«فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ(13/33)
اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .
«الفاء» فى قوله تعالى: «فَلِذلِكَ» - للسببية، والإشارة إلى هذا الخلاف الذي وقع بين أهل الكتاب فى دينهم، والذي أدى بهم إلى الشك والارتياب فى النبي وفيما يدعو إليه من دين الله..
أي فلأجل هذا فلا تلتفت إلى أهل الكتاب، ولا تقف طويلا معهم، إذ كانوا وتلك حالهم من الشك والارتياب.. «فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» أي فقم بدعوتك، واصدع بما تؤمر، مستقيما عليه، غير ناظر إلى ما يجىء إليك من القوم من جدل ومراء.. «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» فإن ما يجادلون به، هو أهواء وضلالات.. «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي قل آمنت بهذا الكتاب، وبما أنزل الله من كتاب سماوى سابق لهذا الكتاب الذي بين يدىّ.
كما يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (84: آل عمران) .
وتنكير الكتاب فى قوله تعالى: «مِنْ كِتابٍ» وجرّه بمن الدالة على الاستغراق- للإشارة إلى أن النبي مؤمن بكل كتاب نزل من عند الله.
قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» أي أمرت لأدعوكم إلى دين الله، بالعدل والإحسان، لا أكرهكم عليه، ولا أجادلكم إلا بالتي هى أحسن.
وقوله تعالى: «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» أي أن الرب الذي أدعوكم إليه ليس ربىّ وحدى، حتى يكون لى مصلحة خاصة فى دعوتكم إليه، فهو سبحانه ربكم كما هو ربى.. وفى هذا تعريض باليهود الذين يجعلون الله سبحانه وتعالى ربّا لهم وحدهم، يؤثرهم بما عنده من خير وإحسان، فيسمونه ربّ إسرائيل،(13/34)
ويسمونه رب الجنود، ويجعلونه قائدا لجيشهم فى الحرب، كما تصرح بذلك التوراة التي فى أيديهم، فى أكثر من موضع منها..
وقوله تعالى: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» أي أن ما نعمله من خير أو شر، هو لنا وحدنا، ومجزيّون به، على الخير خيرا والسوء سوءا.. وكذلك ما تعملونه أنتم، هو لكم، تجزون به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.. «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) .
وقوله تعالى: «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» أي لا جدل بينا وبينكم حتى تحاجونا ونحاجّكم.. «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» .
وقوله تعالى: «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يقضى فيما بيننا وبينكم من خلاف، يوم يجمع بيننا جميعا، يوم القيامة، فيقضى بالحق، ويجزى كلّا بما هو أهل له.. «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» والمرجع..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» .
«الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» أي يجادلون فى دينه، وفى كتابه الذي أنزله على رسوله.. «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» أي يجادلون فى دينه من بعد أن استجاب له الناس، وآمنوا به، واطمأنوا إلى دين.. فهذا الجدل وإن كان قد يقبل من غير المؤمنين بالله، فإنه غير مقبول من المؤمنين به، المستجيبين له من أهل الكتاب إذ لا يتفق إيمان بالله، وجدل فيه.
واليهود هم المقصودون بهذا الحديث، وهم الذين وقع عليهم غضب الله فى الدنيا، والعذاب الشديد فى الآخرة.. فهم مؤمنون بالله، ولكن إيمانهم هذا مشوب بالباطل والضلال، بما بدلوا وحرفوا فى دين الله..(13/35)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
ولقد كانوا يعرفون صدق النبي، ويعرفون صدق الدين الذي جاء به،.
ولكنهم جحدوا هذا، حسدا وبغيا، فأوردوا أنفسهم موارد الهلاك، وماتوا ظمأ دون أن يردوا الماء الحاضر بين أيديهم.. وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (89- 90 البقرة) .
وفى إسناد الفعل: «اسْتُجِيبَ لَهُ» إلى غير فاعله، ولم يسند إلى الفاعل هكذا: «من بعد ما استجابوا» - إشارة إلى أن استجابتهم لم تكن استجابة خالصة من الشك والارتياب، ولهذا لم يسند فعل الاستجابة إليهم.
وقوله تعالى: «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي هذا الجدل الذي يجادل به أهل الكتاب من اليهود، وهذه الحجج التي يوردونها للاحتجاج على الرسول بها- هى حجج داحضة، أي باطلة، توقع الممسك بها فى مزالق الكفر والضلال.. والدّحض من الأرض: الزلق، الذي تزلّ به الأقدام.. وعليهم غضب فى الدنيا، ولهم عذاب شديد فى الآخرة
الآيات: (17- 20) [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)(13/36)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية التي قبلها توعّدت الذين يجادلون فى الله وفى آيات الله، من بعد ما استجابوا له، وآمنوا به- توعدتهم ببطلان حجتهم عند الله، وبحلول غضبه سبحانه عليهم فى الدنيا، وعذابه الشديد لهم فى الآخرة- فكان قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» - كان ذلك بيانا لمضمون ما تقرر فى الآية السابقة، وأن الذين يحاجون فى الله وفى الكتاب الذي أنزله من بعد ما استجيب لله منهم- حجتهم واهية باطلة، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، لأن الله سبحانه هو الذي أنزل هذا الكتاب بالحق، وأقامه فى الأرض ميزان عدل وحق بين الناس.. وبهذا الميزان- ميزان الحق والعدل- ستوزن أعمال الناس يوم القيامة «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» (6- 9: القارعة) .
وقوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» استفهام يراد به التقرير، والإنذار بقرب الساعة، وأن المؤمنين بها، على رجاء اللقاء بيومها..(13/37)
قوله تعالى:
«يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» .
أي أن الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله، يستعجلون الساعة، استعجال التكذيب والتحدّى، ويقولون: «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» ؟
أي متى هذا اليوم؟.
وفى تعدية الفعل «يَسْتَعْجِلُ» بحرف الجر «الباء» وهو فعل متعد بنفسه، إذ يقال مثلا: يستعجل الذين لا يؤمنون بالآخرة الآخرة- والله يقول: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (1- النحل) - إشارة إلى تضمين الفعل معنى المطالبة بها للتعجيز.. أي يطالب بالآخرة، ويستعجلون يومها، أولئك الذين لا يؤمنون بها..
واستعجال الذين لا يؤمنون بالآخرة ليوم القيامة، لأنهم يستعبدون وقوعه، كما أنهم لا يدرون ما يأتيهم منه من أهوال إذا وقع.. «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» (13- 14: الذاريات) ..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» - هو بيان لموقف المؤمنين من يوم القيامة، وهو موقف الخائف المشفق، لأنه يوم الحساب والجزاء، ويوم الأهوال والشدائد: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»
(2: الحج) .
وفى النظم القرآنى ما يبدو فى ظاهره، أنه جاء على غير الترتيب الذي(13/38)
يقع فى نفس المؤمن، من مشاهد القيامة.. فالظاهر أن يؤمن المؤمن أولا بأن الساعة حق، ثم تكون خشيته، ويكون إشفاقه من لقائها.. ولكن النظم القرآنى قدم الخشية للقيامة، والإشفاق منها، على العلم بها وبأنها حق.. هذا ما يبدو فى ظاهر الأمر..
والذي ينظر فى النظم القرآنى، يرى أن الإشفاق قد تقدمه الإيمان، فالذين يشفقون من الساعة هم الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر.. كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها» .. إذ لا يكون المؤمن مؤمنا بالله إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر.. أما العلم فهو مادة من المعرفة التي يؤيدها الدليل، ويدعمها البرهان، حيث يجىء إلى الإيمان الغيبى، فيؤكده، ويثبت دعائمه فى القلب..
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» - هو حكم على الذين يشكّون فى الساعة، ويكذبون بها، ويمارون ويجادلون فيها- حكم عليهم بالضلال البعيد عن الحق: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟» (32: يونس) وماذا بعد الضلال إلا البلاء وسوء المصير؟.
قوله تعالى:
«اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» يشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من لطف بعباده، ورحمة بهم، إذ بعث فيهم رسوله، وأنزل إليهم كتابه هدّى ورحمة..(13/39)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
وقوله تعالى: «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» - إشارة إلى أن هذا الرزق الذي يسوقه الله سبحانه من لطفه ورحمته، هو رزق الإيمان، والهدى، ففى هذا الرزق تزكية النفوس وطهارتها بالإيمان وتقبلها للهدى، واتصالها بالملأ الأعلى، واستعدادها لدخول هذا الملأ، فى جنات النعيم..
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» - إشارة إلى أنه سبحانه هو صاحب السلطان، المتصرف فى ملكه كما يشاء، لا ينازعه أحد فيما يسوق من لطفه ورحمته إلى من يشاء من عباده.
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» .
أي هذا رزق الله- من هدى ونور- ممدود مبسوط.. فمن كان يريد الهدى والإيمان، ويعمل للآخرة، ويغرس فى مغارس الإحسان، يزد له الله سبحانه وتعالى فيما غرس، ويبارك عليه، ويضاعف له الجزاء أضعافا مضاعفة..
ومن أعرض عن الآخرة، وعمل للدنيا، وغرس فى مغارسها، أخذ ثمر ما غرس فى دنياه، واستوفى نصيبه منه، حتى إذا جاء إلى الآخرة، جاءها ولا نصيب له فى خيرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ، لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» ! (18- الإسراء)
الآيات: (21- 26) [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 26]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)(13/40)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
هو إضراب على موقف المشركين من قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» .
ففى هذا دعوة للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه الله لهم، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة، فقد أضرب الله سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم، ثم كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة(13/41)
لهذه الدعوة، وهى أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم، وسادتهم، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم، ونضيح ضلالانهم، لم يأذن بها الله، ولم يرسل بها رسولا من عنده..
وفى إطلاق الشركاء على زعماء الباطل، ودعاة الضلال، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة، ويسبحون فى ضلالها، مع أتباعهم.. فهم جميعا- أتباعا ومتبوعين- على سواء فى هذا الضلال..
وقوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» - كلمة الفصل، هى الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» (17: النبأ) ولولا هذه الكلمة لقضى بينهم فى الدنيا، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم..
وقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي، فإنه ينتظرهم عذاب أليم فى الآخرة..
قوله تعالى:
«تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» هو انتقال بهؤلاء المشركين الظالمين من موقفهم فى هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، حيث يرون العذاب، فيقع فى نفوسهم أنهم صائرون إليه، وأن ما أنذروا به فى الدنيا قد وقع.. فقد كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يؤمنون بالعذاب..
وها هو ذا يوم البعث.. ومن ورائه العذاب المرصود لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف)(13/42)
وقوله تعالى: «وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ» الضمير للعذاب الذي جاء ذكره فى الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ... وفى عدم ذكره، والإشارة إليه بضميره- إشارة إلى أنه شىء مهول، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه، أما ما غاب عن أعينهم منه، فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه، وهو مما لا يحدّه وصف، من هول وبلاء..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات فى هذا اليوم، من نعيم فى روضات الجنّات، التي عرضها السموات والأرض «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» من عطائه الممدود، بلا حساب.
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» - الإشارة هنا، إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم، وما يتلقون من فضله وإحسانه.. فذلك هو الفضل الكبير حقا، الذي يعدل القليل منه كلّ ما فى الدنيا من مال ومتاع.. والله ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى:
«ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» الإشارة بذلك، بدل من الإشارة فى قوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» أي ذلك الفضل الكبير، هو ذلك الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من آيات ربّه، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ الله لهم من نعيم فى الآخرة، وحيث يرون بأعينهم مقامهم فى الدار الآخرة، ويبشرهم به يوم البعث، حيث(13/43)
يقومون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12: الحديد) قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» .
أي أن هذا الخير الكثير الذي يحمله النبىّ إلى المؤمنين، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم، من فضل وإحسان يلقونه فى الآخرة «فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» - هذا كله لا يطلب النبي منهم عليه أجرا، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم، وما ينبغى أن يكون بينه- صلوات الله وسلامه عليه- وبينهم من رحمة ومودة،. وها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة فى الدنيا، ونعيما ورضوانا فى الآخرة..
ثم هاهم أولاء يلقونه- صلوات الله وسلامه عليه- بالقطيعة، ويرمونه بالعداوة، غير مراعين للقرابة حقّا، أو حافظين لها عهدا، أو مبقين على شىء من الإنصاف معه.. فلو أنهم أنصفوا القرابة، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه، من قطيعة النبي، والكيد له، والتربص به.. لأنه صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن قاطعا لهم، أو متوجها بكيد إليهم، أو متربصا بسوء بهم، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة بالخير والمعروف، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف..
وكان من شريعة الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه مع من يستجيبون لدعوته، ويطعمون(13/44)
من مائدته، لا أن يزعجوه ويزعجوا ضيف الله الذين دعاهم إليه!.
هذا وجه من وجوه تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة..
ووجه آخر.. وهو أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من رحمة الله، وفضله وإحسانه، وإنما ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه- هو مودة فى سبيل القربى، إذ آثرهم على غيرهم، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور الذي معه.. فهو منهم، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه..
وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (128: التوبة) ..
وقد بدأ النبىّ رسالته، وما تحمل من هدى وخير، بدعوة قومه إليها، فكانوا أول من استفتح بهم النبي الكريم دعوته، كما أمره الله سبحانه بذلك فى قوله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (214: الشعراء) .
هذا، ومن بعض التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة فى القربى، هى مودة آل البيت رضى الله عنهم، وهى الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من المؤمنين.. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لى، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي. فهو الأجر الذي أسألكم إياه، على ما أقدم إليكم من خير، وما أحمل لكم من هدى..
وهذا التأويل بعيد.. وذلك من وجوه:
فأولا: أن مودة المؤمنين بعضهم لبعض، هى من دين المؤمنين، فالمؤمنون(13/45)
كما يقول الله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .. وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغى أن يكونوا متوادين.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم، أقربهم إلى رسول الله.. فآل بيت رسول الله داخلون فى هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين، من باب أولى.. «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» ! فحبّ آل بيت رسول الله ومودتهم، من إيمان كل مؤمن، فلا يحتاج هذا إلى ذكر خاص..
وثانيا: الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ينبغى أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذى قربى منه..
وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا فى هذا المعنى المحدود، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما فى هذه الدنيا من مال ومتاع.
فالأجر الذي يطلبه النبىّ إنما يطلبه من الله، كما يقول سبحانه على لسان أنبيائه.
«وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» .
(109، 127، 145، 164 180: الشعراء) وثالثا: هذه الآية مكية، وكان من آل بيت رسول الله كثيرون ممن لم يدخلوا فى الإسلام، كعميه أبى طالب، والعباس، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى، بالغا، ويكيد له كيدا عظيما، كأبى لهب، فلم يكن من المقبول- والأمر هكذا- أن تجىء دعوة السماء بمودة آل البيت الذين لم تتضح معالمهم فى الإسلام بعد.. وأولى من هذا أن تكون الدعوة بالمودة عامة، بين النبي وقومه جميعا، وخاصة المشركين منهم، ويكون معناها الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبىّ، وكيدهم له، وتركه وشأنه، مراعاة لتلك القرابة التي بينه وبينهم.. إذ لم يكن منه مساءة لهم، بل كان ودودا لهم، رحيما بهم، يريد لهم الخير، ويؤثرهم به..
ورابعا: أن الخطاب عام موجه إلى المشركين بصفة خاصة، الذين(13/46)
يحاجهم القرآن، ويتهددهم بالنار، ويعرض لهم فى مقابلها الجنة، وما يلقى المؤمنون فيها.. «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»
..
أي لا أسالكم أجرا على هذا الخير الذي تنالونه من هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والتي إن استجبتم لها بلغتم منازل الرضوان، ونزلتم حيث ينزل عباد الله المكرمون فى جنات النعيم.. وذلك كله فى غير مقابل منّى، إلا أن ترعوا ما بينى وبينكم من قرابة، هى التي جعلتنى أبدأ بكم، وأوثركم على غيركم، وهذا من شأنه أن يحملكم على رعاية هذه القرابة، فلا تكونوا أنتم أول كافر بي، ثم لا تكونوا أنتم أول من يسعى بالضر والأذى إلىّ..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» ..
هو دعوة إلى المشركين الذين يقفون هذا الموقف العدائى من النبي، أن يأخذوا جانب الخير الذي يدعوهم إليه، وأن يتقبلوا منه هذه المودة التي يؤثرهم بها.. فمن استجاب منهم لهذه الدعوة، وآثر الإحسان على السوء، والإيمان على الكفر، فإنه سيلقى جزاء إحسانه إحسانا مضاعفا من الله..
وفى قوله تعالى: «يَقْتَرِفْ» وفى استعمال هذا الفعل فى مقام الإحسان، على أنه يستعمل غالبا فى مجال الشرّ والمساءة «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» (113: الأنعام) فى هذا إشارة إلى أن اليد(13/47)
التي تعمل السوء، تستطيع أن تفعل الإحسان، وأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر، هو نفسه يمكن أن يسلك طريق الخير.. وإذن فإنه لا حجاز بين المشركين وبين الإيمان، وأنهم إذا كانوا يلبسون رداء الشرك الآن، فإنهم قادرون على أن ينزعوا هذا الثوب، وأن يتزبّوا بزىّ الإيمان.. فى لحظة واحدة.
وهذا ما يشير إليه التعقيب على هذا بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» فهذه مغفرة الله الواسعة، مبسوطة لمن يجيئون إليه، تائبين من ضلالهم، متبرئين من شركهم، حيث تشملهم الرحمة والمغفرة.. وحيث يشكر الله لهم ما صنعوا بأنفسهم من إحسان.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» وإنه ليس أخسر صفقة، ولا أضلّ سبيلا، ممن يرى- وهو المذنب الغارق فى الذنوب- يد المغفرة مبسوطة له، ويد الإحسان ممدودة إليه، ثم يحمد حيث هو، متلطخا بآثامه، غارقا فى ضلاله.
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
هو إضراب على موقف المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول- إلى المحاسنة والمودة، إن لم يكن لأنه رسول الله، فلأنه منهم، وهم قومه، وأولى الناس به- ولكنهم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب، بعد أن رفضوا الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء، هدى ونورا.
فهاهم أولاء ماضون فى كيدهم للنبىّ، وعدوانهم عليه، واتهامهم له بالكذب: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة فى القربى.(13/48)
إنه اتهام صريح للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه، بدعوة الله..
وقوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» .. هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى، ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير.. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد ختم عليه فى قلبه- صلوات الله وسلامه عليه- فاحتواه كله، وغربت شمسه فيه، فلم يخرج منه شىء لهؤلاء المشركين، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» (86- 87: الإسراء) .. والله سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد فى هؤلاء المشركين ويقطع دابرهم، فلا ترى منهم أحدا، فبكلمة من كلمات الله، يمحو سبحانه هذا الباطل، ويقضى على أهله، ويحقّ الحق، ويثبت دعائمه.
وقوله تعالى: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه فى هؤلاء المشركين، فإنما يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور، فيهلك الضالين الظالمين، وينجّى المؤمنين المتقين.
والمشيئة هنا فى قوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» مشيئة غير واقعة، لأنها معلقة بشرط غير واقع.. فالله سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» وقوله سبحانه: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» (112: الأنعام) . وقوله جل شأنه: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» (118: هود) .(13/49)
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» هو بيان شارح لقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» فهذه الآية- كما قلنا- دعوة للمشركين الذين اقترفوا السيئات، أن يعودوا إلى أنفسهم، ويقيموها على طريق الهدى، ويقترفوا الحسنات، كما اقترفوا السيئات.. ثم كان أن تهدّدهم الله بما يقولون من منكر القول فى رسول الله، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع فى ظلام ليلهم إليهم، فقال تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم الله بزواله عنهم، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة، وبيان شارح لها، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع فى ثنايا هذه الدعوة..
ففى قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» دعوة إلى التوبة، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات.. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم.. إنها إلى الله وحده.. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى الله، ويتوجهون بتوبتهم إليه، وعندئذ يجدون الله سبحانه هو الذي يتلقاها منهم.
وفى هذا إغراء باللّجأ إلى الله، وإطلاق الإنسان من أىّ ولاء لغير الله.. وذلك(13/50)
فى أول الطريق إلى الله.. فإذا آمن بالله، آمن برسول الله، وجعل ولاءه لله ولرسوله، وللمؤمنين.
وفى تعدية الفعل (يقبل) بحرف الجر «عن» مع أنه يتعدى بمن، فيقال قبل فلان من فلان كذا، ولم يقبل منه كذا- فى هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل، بمعنى أن الله سبحانه هو الذي يحمل التوبة عن عباده التائبين، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب، مثقلة بالأوزار، فإن التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها الله عنهم.
وقوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده، ويتلقاها بما تحمل من أوزار وسيئات، فإنه سبحانه، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها، ويغفرها لأصحابها.. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر..
وفى الآية الكريمة دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة الله، ومغفرته، وأن يوجهوا وجوههم إليه تائبين من ذنوبهم، نادمين على ما فرط منهم، فالله سبحانه وتعالى يلقاهم بالرحمة والمغفرة..
ففى الصحيح، من رواية عبد الله بن مسعود، رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم، كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك» !! (أخطأ من شدة الفرح) .(13/51)
هذا، وليست التوبة، كلمة يلفظ بها اللسان، وإنما هى نية منعقدة على الندم على ما وقع من ذنوب، وعلى العزم على تجنب المعصية.
روى عن جابر بن عبد الله، أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر (أي تكبيرة الإحرام للصلاة) - فلما فرغ من صلاته، قال له علىّ كرم الله وجهه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال:
يا أمير المؤمنين.. وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، ولتضييع الفرائض، الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته» .
قوله تعالى:
«وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» - أي وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين، ويقبلهم.. فمعنى الاستجابة هنا القبول، ولهذا عدّى الفعل «يستجيب» لتضمنه معنى القبول.. أما الكافرون فلا يقبل عليهم الله سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد.. ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» أي أنهم يستجيبون لله، ويقبلون عليه تائبين.. وفى هذا إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا- هى دعودة من الله سبحانه وتعالى إلى العصاة، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا، وما عليهم إلا أن يستجيبوا لله، ويقبلوا هذا العطاء العظيم، من الرب الكريم.(13/52)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
الآيات: (27- 35) [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» .
[الناس: بين الغنى والفقر] ما معنى بسط الرزق هنا؟ ولماذا يقع البغي من الناس مع بسط الرزق لهم؟
بسط الرزق معناه فى اللغة، سعته وكثرته، من مال ومتاع.
والمراد ببسط الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج، بل كل إنسان مكفول له الرزق الواسع، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره..(13/53)
ويبدو فى ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد- يبدوا أنه مجتمع سعيد، يعيش فى رفه ورغد، ويحيا فى سلام وأمن.. إذ ماذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسدّ مطالبه وتقضى حوائجه؟ ..
ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى- إذا كان له وجود- تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كلّ حاجة الإنسان فى أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحبّ التملك والسلطان.. والإنسان فى سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسدّ جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه..
فهو لا يرضيه أبدا أن يكون فى مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو فى سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع.
وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هى موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتصّ البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس فى أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء..
لا لشىء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. وفى هذا يقول الشاعر العربي الجاهلى، الذي يضرب المثل بقبيلة «بِكْرٌ» حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت.. يقول:(13/54)
إن الذئاب قد اخضرّت براثنها ... والناس كلّهم بكر إذا شبعوا
فكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم، فوسّع على بعض، وضيّق على بعض، حتى يعمر الكون، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، وحتى يشغلوا بمطالب العيش، وحتى يكون فى هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على بعض إلى السعى والعمل فى وجوه الأرض.. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى فى طلب الرزق، لكان شغلهم كله، هو البغي والعدوان.. فالذين بسط الله سبحانه وتعالى لهم الرزق، هم غالبا مثار بغى وعدوان، وقليل منهم من يشكر الله، ويذكر فضله، فيرعى حق الله فيما خوّله من نعم، وبسط له من رزق. وهذا مشاهد فى الدول الاستعمارية الآن.. إنها مصدر إزعاج لأمن الإنسانية وسلامتها..
وقد ضرب الله سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم، بقارون، فقال تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (76: القصص) ! كما ضرب سبحانه وتعالى مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود- عليه السلام- فقال تعالى على لسان أحدهما: «إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» (23: ص) وفى قوله تعالى: «وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ» (62: العنكبوت) .
وقوله تعالى: «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده، لأنه خبير عليم بهم، بصير مقدّر لما هو أصلح لهم.. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا فى الأرض، ولما صلح لهم أمر فيها..(13/55)
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» ..
والغيث- وهو رزق من رزق الله- إنما ينزل بقدر، وحساب، حسب تقدير حكمة الله.. فهذا الغيث ينزل فى مواقع دون مواقع، فيكون حيث نزل الغيث، الخصب والنماء والخير الكثير. ويكون حيث لا غيث، الجدب والقحط.. وهكذا يكون الغنى والفقر، والرخاء والشدة.. وبهذا يعتدل ميزان الناس فى الحياة، ويتوازن موقفهم على جانبى الرجاء واليأس، والأمن والخوف فلا يكونون على حال واحدة أبدا، إذ لو كانوا على هذه الحال أو تلك، لا يتحولون عنها لملوا هذه الحياة، ولسئموا المقام فيها، ولجمدت مشاعرهم عليها.
وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» أي ينزل الغيث على عباده بعد أن يئسوا، وظنوا أن لا غياث لهم مما هم فيه، من جدب يسوقهم إلى التهلكة..
فإذا أصابهم الغيث بعد هذا الكرب العظيم، زغردت فى صدورهم بلابل البهجة والمسرة، وأقبلت عليهم الحياة بمواكب الأعراس، تزف إليهم بشائر الرزق والرحمة.. «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ»
أي ببثها هنا وهناك، فيكون فيها الحياة للأرض، والغذاء والرّى للإنسان، والحيوان، والنبات..
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» أي أن الله سبحانه هو «الْوَلِيُّ» أي الناصر والمعين، لا ناصر لكم غيره، ولا معين لكم سواه، حين تمدون أيديكم إلى من ينصر، وترفعون أبصاركم إلى من يعين.. وهو سبحانه «الْحَمِيدُ» أي المستحق للحمد وحده، على ما أنعم من نعم، وما أفاض من خير.
وفى الحديث الشريف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لوفد(13/56)
«فزارة» وقد شكوا إليه الجدب: «إن الله عز وجل ليضحك من شعفكم وأزلكم «1» وقرب غياثكم» فقال أعرابى منهم: أو يضحك ربنا عز وجل؟
قال: «نعم» فقال الأعرابىّ: لا نعدم من ربّ يضحك خيرا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» .
أي ومن آثار قدرة الله ورحمته، أنه خلق السموات والأرض، وخلق ما بث ونشر فيهما من مخلوقات.. وهو سبحانه قادر على جمع هذه المخلوقات المنتشرة فى عوالم الوجود، فى السموات وفى الأرض.. ثم إذا شاء سبحانه، جمعهم جميعا من أقطار السموات والأرض، وهم أحياء، ثم بعد أن يموتوا ويبعثوا..
وفى الآية إشارة إلى أن فى العوالم الأخرى- غير عالم الأرض- مخلوقات حية، على صور وأشكال لا يعلمها إلا الله، وأنها تموت وتحيا.. وهى فى سلطان الله سبحانه.. يبسطها ويقبضها، ويميتها ويحييها.. وليس ما على هذه الأرض من صور الحياة إلا صورة من صور لا حصر لها، من صور الحياة، فى هذا الوجود العظيم.
قوله تعالى:
«وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» .
__________
(1) الشعف: اللهفة، والحرقة من التطلع إلى الشيء الذي تريده النفس. -
والأزل، الشدة.(13/57)
أي أن الله سبحانه وتعالى لا يسوق لعباده إلا الخير، وهذا شأنه سبحانه وتعالى فيما خلق من مخلوقات فى هذا الوجود.. ولكنّ الناس لهم إرادة عاملة، ولهم كسب هو ثمرة هذه الإرادة.. وهم بهذه الإرادة يحسنون ويسيئون، ويستقيمون على طريق الحق، ويركبون طرق الضلال.. فما كان منهم من إحسان، قابلهم معه إحسان من الله إليهم، وما كان منهم من إساءة ردّت إليهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (79: النساء) .
أما قوله تعالى فى سورة النساء: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..» (78: النساء) فهذا ردّ على المشركين، الذين كانوا يتطيرون بالنبيّ.. ولهذا جاء قوله تعالى:
بعد ذلك: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» ليروا فى هذا أن ما أصابهم من سوء لم يكن من النبىّ، الذي لا يملك دفع سوء عن نفسه، كما لا يستطيع سوقه إلى أحد، وإنما الذي يملك هذا وذاك هو الله وحده.. وأن ما أصابهم أو يصيبهم من سوء، هو من عند أنفسهم ابتداء، وأنه من عند الله ابتداء وانتهاء!! وقوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، يعفو عن كثير من السيئات، ويتجاوز عن كثير من الذنوب، إذ لو أخذ سبحانه الناس بذنوبهم لأهلكهم جميعا، كما يقول سبحانه:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (61: النحل) . وكما يقول «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) .
قوله تعالى:
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .(13/58)
أي أن الله سبحانه وتعالى إذ يعفو عن كثير من الذنوب، ولم يعجّل بجزاء أهلها عليها- فليس ذلك لما يكون للمذنبين من جاء أو سلطان، فسلطان الله فوق كل سلطان، وقوته فوق كلّ قوة، وليس لأحد عاصم يعصمه من بأس الله، أو يدفع عنه عذابه، فى الدنيا أو فى الآخرة، ولكنّ الله سبحانه يمهل الظالمين، ويمدّ لهم فى الضلالة، ليزدادوا إثما.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» .. (75: مريم) ويقول سبحانه: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (178: آل عمران) .
روى عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر، رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا ما يحبّ فإنما هو استدراج «1» » ثم تلا قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (44: 45 الأنعام) .
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .
أي ومن الآيات الدالة على قدرة الله، وعلى بسطة سلطانه، وعلى فضله وإحسانه على عباده، هذه «الْجَوارِ» أي السفن الجارية على الماء، كالجبال فى ضخامتها، وارتفاعها فوق سطح الماء.. فهى المعالم الوحيدة القائمة فوق وجه الماء، كما تقوم الجبال على اليابسة..
فهذه الجواري، إنما تجرى بقدرة الله سبحانه وتعالى، بهذه الرياح
__________
(1) استدراج الله تعالى العبد، أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة وأنساه الاستغفار أو أن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته.(13/59)
المسخرة، التي تجريها وتدفعها فوق الماء.. ولو شاء الله سبحانه لأمسك هذه الريح، فسكنت وسكن مع سكونها جريان هذه الفلك، فتظل رواكد على سطح الماء.. لا تتحرك..
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. أي إن فى هذه السفن الجارية على الماء لآيات، لا آية واحدة، لكل صبار، أي كثير الصبر، يجد من صبره ما يعينه على الوقوف الطويل، الدارس، المتوسم، فى آيات الله، فيرى فى كل معلم من معالم هذا الوجود آيات من قدرة الله، وشواهد من إبداعه، وحكمته، وتدبيره.. وهذا هو بعض السرّ فى جمع الآيات، إذ لا يمكن أن يرى فى هذه الفلك وجريها على الماء، تلك الآيات منها، إلا الدارس، المتأمل، الذي يعينه صبره على الوقوف الطويل، والنظر المتفحص.. أما من ينظر نظرا عابرا فى معالم هذا الوجود، فإنه لا يرى إلا صورا وأشباحا.. إنه نظر جامد، أشبه بالمرءاة تظهر عليها صور الأشياء، ثم لا تمسك منها بشىء.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أصحاب هذا النظر البارد الفاتر، الساهم: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) .. وفى قوله تعالى: «شَكُورٍ» إشارة أخرى إلى أنّ هذه الآيات التي يراها المتأملون الدارسون، لا تكون آيات وشواهد إلا إذا صادفت قلبا مؤمنا، يردّ هذه الآيات التي تكشفت له، إلى قدرة الله، وتدبيره، وحكمته، فيفيض قلبه تسبيحا بحمد الله وشكرا له.. أما من يرى هذه الآيات بعين لا تكتحل بنور الإيمان، فإن هذه الآيات لا تحيا فى وجدانه، ولا تعيش فى مشاعره، فلا ينفعل بها، ولا يهتز لروعتها وجلالها، الذي يرى فيه المؤمنون بعض جلال الله، وروعة حكمته!(13/60)
قوله تعالى:
«أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «يُسْكِنِ الرِّيحَ» أي إن يشأ الله سبحانه يسكن الريح فلا تتحرك، وتظل السفن رواكد على ظهر الماء، أو إن يشأ «يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا» .
ويوبقهن: أي يهلكهن، والضمير يعود إلى الجواري وهى السفن..
وأصله من الإباق، وهو الفرار والهروب، يقال أبق العبد، أي هرب، وأفلت من سلطان صاحبه.. ومعنى هذا أن هذه السفن وهى تجرى على سطح الماء، لا ممسك لها إلا الله سبحانه، وأنه سبحانه لو شاء لأفلت زمامها من يد أصحابها، بأن يرسل عليها ريحا عاصفة، يضطرب لها البحر، ويفور، فتغرق، أو لا يستطيع أحد أن يمسك زمامها ولا يدرى أحد أين وجهتها.. وفى هذا الهلاك لراكبيها..
وفى قوله تعالى: «بِما كَسَبُوا» إشارة إلى أن ما يحدث لهذه الجواري من غرق، أوتيه، إنما هو بما كسب أصحابها من سيئات، كما يقول سبحانه فى آية سابقة: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» . (30)
وقوله تعالى: «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» - معطوف على قوله تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا» أي وإن يشأ الله يعف عن كثير من سيئات المسيئين، فلا يعجل لهم الجزاء فى الدنيا، فتمضى سفنهم فى ريح رخاء حتى تبلغ مأمنها.. ثم يكون الحساب والجزاء فى يوم الحساب والجزاء..
ويجوز أن يكون المعنى: ويعفو عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين(13/61)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
الذين أخذوا ببعض ذنوبهم، لا كلّها، لأن ذنوبهم أكثر من أن تستوفى منهم بأى عذاب ينزل بهم فى هذه الدنيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (45: فاطر) .
قوله تعالى:
«وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» ..
هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» أي ويعف عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين فى الدنيا فلا يعجل لهم العذاب، وذلك ليعذبهم فى الآخرة، وليعلم الذين يجادلون فى آيات الله، ويكذبون بالبعث والجزاء- ليعلموا يومئذ ما لهم من محيص، أي ما لهم من مفر، ولا ملجأ..
الآيات: (36- 43) [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 43]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)(13/62)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .
فى الآية الكريمة تهوين من شأن الدنيا، واستخفاف بمتاعها، إلى جانب ما فى الحياة الآخرة من جزاء كريم، ونعيم خالد لا يفنى.
فقوله تعالى: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» - هو حكم على هذه الحياة الدنيا، بأن كل ما يناله الإنسان منها من مال أو جاه أو سلطان- هو متاع، أي زاد لا يلبث أن ينفد، أو ثوب لا بد أن يبلى..
فكل ما فى الحياة الدنيا إلى نفاد، وزوال.. وإن كثر وعظم..
وقوله تعالى: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى» أي والذي يبقى ولا ينفد، هو ما تقبّله الله من أعمال صالحة، حيث يكون ثوابها عند الله نعيما لا يفنى، ورزقا لا ينفد..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - أي أن هذا الذي عند الله من جزاء حسن، هو للذين آمنوا، وتوكلوا على ربهم، وأسلموا أمرهم له.. وهو كأنه جواب عن سؤال تقديره: لمن هذا الذي عند الله فكان الجواب: للذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون.(13/63)
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - أي هذا الذي عند الله من خير، هو للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون.
وكبائر الإثم، هى كبائر الذنوب، كالقتل، والربا، وشرب الخمر، والزنا، ونحوها.. والفواحش: هى المنكرات، من قول، أو فعل.. وصورتها البالغة فى الفحش، تتمثل فى الزنا، ولهذا غلب على الزنا، الوصف بالفاحشة.
وفى قصر التجنب على كبائر الإثم، وكبائر الفواحش- إشارة إلى أن الصغائر معفوّ عنها، فضلا من الله وإحسانا، كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» (32: النجم) .
فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وليس من طبيعة الإنسان أن يتجنب الخطأ تجنبا مطلقا، ولكن الذي تحتمله الطبيعة البشرية هو أن يكون منه الإحسان إلى جانب الإساءة، وأن يتجنب الكبائر، إذ كان وجهها القبيح ظاهرا ظهورا بينا.. أما الصغائر، فإنها كثيرا ما تعرض للإنسان، وكثيرا ما يختلط عليه أمرها.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «فقاربوا وسدّدوا» أي اجتهدوا فى أن تكونوا أقرب شىء إلى الاستقامة والسداد.
وقوله تعالى: «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» هو صفة أخرى من صفات(13/64)
الذين آمنوا.. وهى أنهم إذا ما استغضبوا، وغضبوا، غفروا لمن كان منه المساءة التي أغضبتهم.
وفى قرن المغفرة بالغضب، إشارة إلى أن المغفرة التي تكون والإنسان فى حال الاستثارة والغضب، هى المحمودة فى باب المغفرة، لأنها تجىء عن مجاهدة ومغالبة للنفس، إذ يقهر فيها الإنسان شهوة الانتقام، وبلوى فيها زمام هواه إلى حيث الصفح والمغفرة: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (35: فصلت) .
وقرن المغفرة بالغضب، أبلغ من قرنها بالإساءة.. فقد يساء إلى الإنسان، ولا يغضب، ولا تتحرك فى نفسه داعية الانتقام، فتكون مغفرته حينئذ مغفرة لم يتكلف لها الإنسان مجاهدة، ولم يحمل فى سبيلها مئونة..
وفى ذكر المغفرة هنا، إغراء بها، إذ كانت فى معرض مغفرة الله سبحانه وتعالى لما يقع من الإنسان من اللمم، ومن صغائر الذنوب.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فهؤلاء المؤمنون، من صفاتهم أن يستجيبوا لربهم، أي يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه.. ومن امتثالهم لأمر، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. وإقامة الصلاة، هى الركن الأول من أركان الدين بعد الإيمان بالله. وإيتاء الزكاة، هو الركن الثاني بعد إقامة الصلاة..
وفى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» - إشارة إلى أن من صفات(13/65)
المؤمنين أن يكونوا على كلمة سواء فيما بينهم من شئون.. فتكون طريقهم واحدة، ووجهتهم واحدة، ويدهم واحدة، وموقفهم واحدا، فلا يذهب كل واحد منهم مذهبا، ولا تركب كل جماعة طريقا.. فهذا من شأنه أن يوهن قوة الجماعة الإسلامية، ويفتّ فى عضدها، ويوقع الشحناء بين جماعاتها وأفرادها..
هذا، ولم تجىء الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامى، دعوة قاهرة ملزمة، من غير أن يقوم إلى جانبها الوجود الذاتي للإنسان، والهاتف الشعورى المنبعث من ذاته، إلى هذه الوحدة، بل قام مع هذه الدعوة، بل أمام هذه الدعوة، دعوة إلى الشورى بين الجماعة الإسلامية، فى الأمر الذي يعرض لها، ويتطلب وحدة جماعتها.. فهذا الأمر يتلقاه المسلمون جميعا، ويتدارسونه فيما بينهم، ويقلّبون الرأى فيه، وفى هذا العرض للأمر، ما يكشف لهم عن وجه الرأى فيه، وما يأخذون أو يدعون منه.. وعندئذ يكون رأيهم قائما على وجهة واحدة، هى الوجهة التي رضيها الجميع، ونسجوا رايتها من تلك الخيوط التي اجتمعت من آرائهم، فكان لكل إنسان مكانه من هذه الراية التي يسير تحت ظلها.. وبهذا تكون مسيرة المسلمين تحت هذه الراية، مسيرة ينتظمها شعور واحد، ويحكمها رأى واحد، وتحتويها عزيمة واحدة، فيكون منهم بهذا نسيج واحد متلاحم، أشبه بنسيج هذه الراية التي تشكلت من مجتمع آرائهم.
وهذا هو بعض السر فى أن جاء النظم القرآنى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» بدلا من أن يجىء مثلا هكذا: وكانوا أمة واحدة، أو مجتمعا واحدا.. ذلك أنه لن تكون الأمة أمة واحدة، ولن يكون المجتمع مجتمعا واحدا، إلا إذا توحدت المشاعر، ولن تتوحد المشاعر، إلا إذا تلاقت الآراء وتوحدت، ولن تتلاقى الآراء وتتوحد، إلا مع عرضها، وتنخّلها، وذلك لا يكون إلا بالتشاور بينهم،(13/66)
وعرض رأى كل ذى رأى، فى صراحة مطلقة، وحرية كاملة..
[الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا] ولا بد هنا من وقفة مع هذا المبدأ العظيم، الذي قرره الإسلام، ليكون مادة أولى، من مواد هذا الدستور السماوي الذي يحكم الجماعة الإسلامية، ويدين به الفرد والجماعة على السواء.. ذلك هو مبدأ الشورى.
فالشورى شريعة من شرائع الرسالة الإسلامية، حيث ينعقد بها الإجماع، الذي هو أصل من أصول التشريع الأربعة، المعتمدة فى الإسلام، وهى الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع.. حيث لا يكون الإجماع على أمر إلا بعد تمحيصه وتقليب وجوه الرأى فيه، وتقديم الحجج والأدلة بين يدى كل رأى، حتى ينتهى الأمر الذي يجمع عليه بالتقاء آراء ذوى الرأى فيه من المسلمين، وهم الذين أطلق عليهم أهل الحل والعقد..
وليس المراد بأهل الحلّ والعقد طبقة خاصة من الناس، أو طائفة معينة من طوائفهم، بل هم فى كيان المجتمع الإسلامى كله، فى كل زمان ومكان، لا يختص بهم موطن، ولا يحصرهم زمن.. فحيث كان المسلمون فهم جميعا المجتمع الإسلامى، وفيهم أهل الحل والعقد.. أي أصحاب الرأى والنظر.. فكل ذى رأى ونظر، هو من أهل الحل والعقد، وله أن يأخذ مكانه فى الأمر الذي يعرض للمسلمين، وأن يدلى برأيه، وبحجته التي تدعم هذا الرأى، كما أن له أن ينظر فى رأى غيره، وأن يقول رأيه فيه، معدّلا أو مجرّحا.. كل ذلك بالحجة القائمة على الحق والعدل، لا الهوى وحبّ الغلب..
والرأى الذي ينتهى إليه المسلمون، أو أولو الحل والعقد فيهم، هو ملزم لجماعتهم، لا يجوز لأحد منهم الخروج عليه.. وليس فى هذا الإلزام جور على ذاتية الفرد، أو عدوان على حقه فى النظر فى الأمور، ووزنها بميزان إدراكه(13/67)
وتقديره، بل إن هذا الإلزام هو حماية للشخص من أن يتّبع هواه، أو أن يذهب مذهبا غير مأمون العاقبة، لو أنه أخذ برأيه، وترك رأى الجماعة، إذ كان رأيها هو الرأى الذي تلاقت عنده الآراء، ونخلته العقول..
وإذا كان الإجماع هو الوجه البارز من وجوه الشورى، فإن للشورى وجوها أخرى.. إذ ليس كل أمر يعرض للجماعة الإسلامية، ينتهى بالتشاور فيه، إلى إجماع فى الرأى، على نحو الإجماع المعروف فى الشريعة..
بل قد يقع الخلاف فى الرأى على أمر من الأمور، ثم يرجح جانب فيه على جانب، فيؤخذ بالجانب الراجح، ويترك الجانب المرجوح..!
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو صور الشورى، وأشكالها، وإنما الذي يعنينا، وله المقام الأول، هو مبدأ الشورى ذاتها، من حيث اعتبارها حقيقة من حقائق الإسلام، وحكما من أحكامه العاملة التي يأخذ المسلم نفسه بها، ويقيم حياته عليها..
ففى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» خبر يراد به الأمر، من حيث اقترن بركنين من أركان الدين، وتوسطهما، وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، المأمور بهما شرعا.. فكان حكم الشورى حكمهما، من حيث الوجوب والإلزام..
وفى مجىء الشورى بعد إقامة الصلاة، وقبل إيتاء الزكاة، إشارة إلى أمور:
أولا: أن الصلاة أقوال وأفعال، والشورى كذلك أقوال تعقبها أفعال..
أما الزكاة فهى أفعال خالصة.. فناسب أن تقترن الشورى بالصلاة لمشاكلتها فى صورتها، وأن تتقدم من أجل هذا على الزكاة.(13/68)
وثانيا: أن الصلاة يؤديها المؤمن منفردا، أو فى جماعة.. وهو فى حال انفراده يؤديها على الصورة التي يراها، من حيث الطول والقصر فى أفعالها، قياما، وركوعا، وسجودا.. أما فى حال أدائها فى جماعة، فإنه ليس له هذا الخيار، بعد أن يأخذ مكانه فى الجماعة، وينتظم فى عقدها، فهو والجماعة من وراء الإمام، الذي يجب أن يلزموا متابعته فى كل حركاته وسكناته..
والشورى، صورة مقاربة للصلاة من هذا الوجه الذي صورناها به..
فإذا كان الإنسان خاليا مع رأيه إزاء أمر من الأمور العارضة له، كان له أن يتصرف فى هذا الأمر على الوجه الذي يراه بعقله، ويؤديه إليه اجتهاده.. أما إذا دخل مع جماعة المسلمين فى أمر عام، وأخذ مكانه بينهم وانتظم رأيه مع آرائهم على طريق سواء، لم يكن له أن يخرج عن هذا الرأى الذي انتظمت وراءه آراؤهم، والذي يتمثل لهم حينئذ فى صورة الإمام الذي يأتمون به فى الصلاة.. فكما لا يخرج المأموم فى الصلاة عن متابعة الإمام، ولا يجوز له أن يستجيب لإرادته فى أن بطيل أو يقصّر، فى قيام، أو ركوع، أو سجود- كذلك لا يجوز أن يخرج المؤمن عن الرأى الذي اجتمع عليه المسلمون بعد تشاورهم فيه، وإن كان على خلاف ما يرى. فالرأى الذي أجمع عليه المسلمون هنا هو من رأى الإسلام، والسبيل التي يسلكها المسلمون- متابعة لهذا الرأى- هى سبيل الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) .
وثالثا: أن الصلاة فريضة عامة، تجب على كل مسلم ومسلمة وجوب عين،(13/69)
- وكذلك التشاور بين المسلمين، أمر ملزم لهم جميعا، وحقّ يؤديه كل مسلم ومسلمة للجماعة الإسلامية، وإنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أخذ مكانه بين الجماعة الإسلامية وإبداء الرأى الذي يراه، فى أي أمر يعرض لهم، كما أنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أن يأخذ مكانه فى صلاة الجماعة بين الصفوف المنتظمة فى الصلاة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» .. ففى تنكير الشورى دليل على إطلاقها وعمومها.. وأنها ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها.. فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى، كما هو أهل للصلاة فى جماعة..
ورابعا: أن الصلاة يجب أن يسبقها من المسلم قبل الدخول فيها إعداد لها، وذلك بالتطهر، والوضوء.. وكذلك الشورى، يجب أن تسبقها طهارة النفس من الهوى، وخلوها من الدخل.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف «الدين النصيحة» قيل لمن يا رسول الله؟: قال: «لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» ..
ولن تكون النصيحة نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم، وعن نية خالصة من الغش والنفاق..
وخامسا: أن للصلاة وقتا، فإذا جاء وقتها أذّن المؤذن بها، ودعا المسلمين إليها.. وكذلك للشورى وقتها.. فإذا حزب المسلمين أمر، تنادوا به، واجتمعوا له، وتشاوروا فيه..
ذلك هو بعض السر فى قرن المشورة بإقامة الصلاة.. ووراء ذلك أسرار وأسرار لا تنتهى..
أما وصلها بالزكاة من طرفها الآخر، فإنه يشير كذلك إلى أمور.. منها:(13/70)
أولا: أن القرآن الكريم لم يعبّر فى هذا المقام عن الزكاة بلفظ الزكاة، بل جاء بها فى هذا النظم الكريم: «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» فجعلها إنفاقا من رزق، وهذا الرزق من الله سبحانه وتعالى.. وكذلك «الشورى» هى إنفاق من رزق، هو مما وهب الله من عقل، ومما رزق أهل العقل من علم ومعرفة.. وهذا يعنى أن إبداء الرأى من ذوى الرأى، أمر واجب عليهم، وهو الزكاة المطلوبة منهم فى هذا المقام، لما آتاهم الله من فضله، من علم، وحكمة، وحسن تدبير..
فمن رأى فى أمر من أمور المسلمين خللا، وكان عنده من الرأى والتدبير حا يصلح به هذا الخلل ثم أمسك رأيه، وحبس نصحه، كان آثما..
شأنه فى هذا شأن من كان ذا مال وسعة، ثم لم ينفق من ماله فى سبيل الله، وفى سدّ حاجات ذوى الحاجة من المؤمنين..
وثانيا: لم يقيد النص القرآنى هنا الإنفاق بالشيء الذي ينفق منه، من مال أو نحوه، بل جعله، إنفاقا مطلقا، يشمل كل ما يرزقه الله الإنسان من خير.. فسمّاه سبحانه رزقا، ليشمل المال وغير المال، من رأى، وعلم، وفنّ..
خلا يستبد المؤمن وحده، برزق رزقه الله إياه، وفيه فضل وسعة لغيره من المسلمين..
وثالثا: كذلك لم يقيد النص القرآنى ما ينفق من هذا الرزق بحدّ محدود، كالزكاة، بل جعله إنفاقا مطلقا.. لأنه فى مقام «الشورى» لا يكون الإنفاق بقدر محدود مما يملك الإنسان من علم، ومما عنده من معرفة، بل إنه مطلوب منه فى تلك الحال أن ينفق كل ما لديه، وأن يبذل كل ما عنده، غير ممسك بشىء من رأيه، أو محتجز شيئا من جهده، واجتهاده..(13/71)
ونقرأ الآية الكريمة:
«وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .
وننظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» وفى مقام هذا المقطع من الآية، بين ما سبقها، وما جاء بعدها من كلمات الله، فنرى كيف احتفاء الإسلام بالشورى، وكيف أنه أفسح لها مكانا بين فريضتين من فرائضه، هما الصلاة والزكاة، اللتان آخى بينهما فى كل موضع جاء فيه ذكرهما فى القرآن الكريم.. كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (3: البقرة) ويقول جلّ شأنه:
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» (43: البقرة) ويقول سبحانه: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» (55: مريم) ويقول عزّ من قائل: «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (31: مريم) ..
ويقول تبارك اسمه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» (1- 4: المؤمنون) ..
والفصل بين الصلاة والزكاة بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» - ليس فصلا، لأن الإعراض عن اللغو هنا، هو من تمام الصلاة التي يحفها الخشوع والخشية.. أما الفصل بين الصلاة والزكاة بالشورى، فهو لما للشورى من منزلة فى ذاتها، وأنها جديرة بأن تكون فى هذا المقام، وأن تتوسط أعظم فريضتين من فرائض الإسلام، وأهم ركنين من أركانه، بعد الإيمان بالله.
والسؤال هنا: لماذا كانت الشورى بهذه المنزلة من الإسلام؟ ولماذا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية بهذا القدر، وتنوّه بها إلى هذا الحدّ؟(13/72)
ولقد أشرنا من قبل إلى ما للشورى من آثار فى بناء المجتمع، وفى حياطة هذا البناء، وفى دفع العوارض التي تعرض له، وتهدّد وجوده..
ونريد هنا أن ننظر إلى المجتمع الإسلامى، الذي يقوم أمره على الشورى، وما للشورى من آثار مادية، ونفسية، وروحية، وعقلية. فى حياطته، ودعم بنائه.
فالمسلمون مطالبون.. ديانة.. كما هم مطالبون سياسة وتدبيرا.. أن يقيموا أمرهم كله على الشورى.. وهذا من شأنه أن يجعلهم دائما فى تواصل وفى تواص بالنصح، ومشاركة فى السراء والضرّاء، حيث يجد المرء أنه مطالب بأن يكشف لأخيه عن المشكلات التي تعرض له، فيجد من صاحبه الرأى والنصيحة يبذلها له فى إخلاص، بل ويسعى معه فى دفع الضرّ عنه، ما استطاع، حسبة لله، وأداء لحق وجب عليه..
فإذا كان الأمر العارض من البلايا العامة، التي تمسّ المجتمع، أو طائفة من المجتمع، تنادى لها المسلمون جميعا، وتداعوا عليها بالرأى، والعمل معا، وحمل كلّ منهم همها، وشارك فيها بكل ما وسعه من جهد.. هذا ما يقضى به الدّين، إلى جانب ما تقضى به ضرورات أخرى كثيرة..
وآثار هذه المشاركة كثيرة عميقة..
فأولا: أنها توحّد مشاعر المجتمع الإسلامى وتشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض.. وتجعل منهم جسدا واحدا، فلا يشعر أحدهم أنه بمنجاة من الخطر الذي يهدّد أي عضو من أعضاء الجماعة.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله تعالى: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» ..(13/73)
وثانيا: فى عرض مشكلات المجتمع على الجماعة، وطلب الرأى والنصيحة من أفرادها- تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية معها، وإفساح مكان له فيها.. وهذا من شأنه أن يهيىء للفرد فرصا طيبة، يبرز فيها وجوده، ويربّى فيها ملكاته، وينمى قواه المدركة، حتى يكون أهلا لأن يأخذ مكانه منها، وهذا بدوره، داعية قوية تدعوه إلى طلب العلم والمعرفة، وإلى لقاء الجماعة بما حصل من علم، وما وعى من معرفة..
وثالثا: فى عرض الآراء، وفى تقليب وجوهها، تصحيح لكثير من الآراء الخاطئة، وبالتالى تصحيح للمشاعر التي تتوالد عن هذه الآراء، والتي لو شارك المرء الجماعة فى عمل من الأعمال، وهو بهذه الآراء، وتلك المشاعر، لكان آلة متحركة بغير وعى، عاملة بغير شعور، إن لم يكن جسدا غريبا، يعوق مسيرة الجماعة، ويقلل من جهدها.. ولهذا كانت دعوة الله سبحانه إلى النبىّ الكريم، بأن يقيم أمره فى المسلمين على الشورى، فيقول سبحانه:
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» (159: آل عمران) .. والرسول صلوات الله وسلامه عليه- بما أراه ربه- فى غنى عن المشورة، وعن أخذ الرأى من أحد، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- كما وصفه الحق جلّ وعلا: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (3: النجم) .. ولكن هكذا أقام الله سبحانه أن النبىّ مع الجماعة الإسلامية على المشورة، حتى تصحح الآراء الخاطئة على ضوء المشورة، وحتى يشترك الجميع مع النبىّ فى إقامة الرأى، وفى حمل تبعة العمل، وتحمل المسئولية فيما ينجم عنه.. وقد رأينا النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- بين يدى غزوة «بدر» يدعو الناس إليه قائلا: «أيها الناس.. أشيروا علىّ» .. وذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه، حين خرج(13/74)
بالمسلمين من المدينة للقاء عير أبى سفيان، لم يكن مخرجه لحرب قريش..
فلما أفلتت العير، جاءت قريش لتستنقذ العير أولا، ثم لتحارب النبي ثانيا..
فلما خلصت لها العير اتجهت إلى الحرب.. فكان هذا موقفا جديدا بالنسبة للنبى والمسلمين، ولم ير صلوات الله وسلامه عليه أن يلزم المسلمين رأيا فيه، فطلب رأيهم فى الحرب ولقاء قريش، أو العودة إلى المدينة.. فكان الرأى الذي أجمع عليه المسلمون، هو الحرب، ولقاء العدوّ.. وقد كانت الحرب، وكان النصر! هذه هى بعض ملامح الشورى، فى الإسلام. وهى.. كما ترى..
وثيقة من أروع الوثائق، ودستور من أقوم الدساتير فى بناء المجتمع. وفى وصل مشاعر أفراده بعضها ببعض، وفى صبّ آراء أفراده فى مجرى واحد يفيض بالخير والبركة عليهم جميعا..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ» .
هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فإن من صفاتهم- إلى جانب ما ذكر لهم من صفات- أنهم لا يقبلون الظلم، ولا ينزلون على حكم الظالمين، بل إنهم حرب على الظلم وأهله، يبذلون فى سبيل ذلك كل جهدهم وما ملكت أيديهم حتى إنهم ليقدّمون أنفسهم، ويبيعونها بيع السماح من أجل إقرار الحق، وإعلاء كلمته، والضرب على يد الباطل، وتنكيس رايته.. وليس الجهاد فى سبيل الله، والاستشهاد فى ميدان الجهاد، إلا صورة من صور دفع الظلم فى أبشع صوره وردّ البغي فى أقبح وجوهه.. لأن حرب الشرك والكفر هى(13/75)
حرب على الظالمين والباغين، الذين يسعون فى الأرض فسادا، ويبغون فى الأرض بغير الحق..
وسواء أكان البغي الذي يصيب المؤمن بغيا واقعا عليه هو فى ذات نفسه، أو واقعا على الجماعة الإسلامية، فإن المؤمن مطالب- ديانة، إن لم يكن حمية وأنفة- أن يدفع هذا البغي، ويرد ذلك العدوان.. فالبغى منكر غليظ، والمؤمن حرب على المنكر، أيّا كان، وبأى سلاح يقدر عليه، وفى الحديث الشريف:
«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان» .. فأدنى منازل الحرب للظلم، هو إنكاره بالقلب، وازدراؤه وازدراء أهله.. وهذه منزلة لا يصير إليها المؤمن إلا إذا أعجزته القدرة عن الجهر باللسان، والتشنيع على الظلم والظالمين، كما أنه لا يقف المؤمن عند حدّ الحرب باللسان، إلا إذا لم يملك القوة المادية التي يضرب بها فى وجه البغي والباغين..
وفى قوله تعالى: «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» .. وفى الإتيان بضمير الفصل «هم» - إشارة إلى أن من وقع عليهم البغي يجب أن يكونوا هم أول المتصدين له، العاملين على دفعه، لا ينتظرون حتى يتولى عنهم غيرهم الأخذ بحقهم، والانتصاف لهم ممن ظلمهم، وإن كان هذا لا يمنع المؤمنين جميعا أن يساندوهم ويشدوا ظهرهم..
وفى إسناد دفع الظلم، ورد البغي، إلى من وقع عليه ظلم وبغى- هو إعلان لإنكار هذا المنكر، ممن وقع عليه، وإلا كان سكوته عليه، هو رضا به، وتقبلا له، الأمر الذي لا يقيم حجة لغيره أن ينتصر له، ويقف فى المعركة معه..
وفى التعبير عن التصدّى للعدوان، ودفع البغي بقوله تعالى: «يَنْتَصِرُونَ»(13/76)
بدلا من التعبير بلفظ مثل: يدفعون، أو يردّون، أو نحو هذا- تحريض لمن وقع عليه البغي أن يتحرك لرد هذا العدوان- لأنه، إن فعل- فسيكون على موعد مع النصر، الذي وعده الله سبحانه وتعالى إياه فى قوله جل شأنه:
«ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (60: الحج) قوله تعالى:
«وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» .
هو تحريك لمشاعر أولئك الذين بغى عليهم أهل البغي أن يأخذوا بحقهم، وأنه إذا كان العفو سنّة كريمة، وعملا مبرورا، فإنه لا يكون كذلك حتى يجىء عن قدرة على من بغى، فيكون العفو هنا، عن فضل وإحسان، ممن بغى عليه، الأمر الذي يرى منه الباغي أن هناك يدا قادرة على أن تقطع هذه اليد التي بغت، فلا يتمادى بعد هذا فى بغيه، بل ينزجر ويندحر، ولا يطل برأسه من جحره بعد هذا أبدا..
ففى وصف البغي بالسيئة، إشارة إلى أنه من المنكر الذي ينبغى على المؤمن محاربته..
وفى وصف ردّ العدوان ودفع البغي بالسيئة، إشارة إلى أن من أساء، لا ينبغى أن يتحرج المؤمن من الإساءة إليه، وإلحاق الضرر به، كما أساء هو إلى غيره. وساق إليه الضرّ والأذى.. فالسيئة هنا، إنما هى سيئة بالإضافة إلى من بدأ بالإساءة.. فما هى إلا عمله قد ردّ إليه.. وفى قوله تعالى: «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» إشارة إلى أن الجزاء، هو من جنس العمل..
وقوله تعالى: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» - إشارة إلى الأخذ(13/77)
بما هو أولى من جزاء السيئة بسيئة مثلها، وهو العفو عن المسيء، وذلك بعد القدرة عليه، ووقوعه ليد من بغى عليه.. فإن العفو مع القدرة- كما قلنا- هو عقوبة للمعتدى، ووقعها على النفوس الحية أقسى وأمر من كل عقوبة..
وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ» - إشارة إلى أن لمن أراد أن يأخذ بالعفو أن يسلك الطريق الذي يراه فى هذا المقام، فله أن يعفو عفوا عامّا، وأن يعفو عن بعض، ويأخذ ببعض، حسب ما يرى من المعفوّ عنه، ومن الظروف والأحوال المحيطة به..
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» - إشارة إلى المنتصر بعد ظلمه، ألا يتجاوز حدود الأخذ بحقه ممن ظلمه، وإلا كان ظالما، وانتقل بذلك من مبغىّ عليه إلى باغ، ومن مظلوم إلى ظالم، وقد كان الله سبحانه نصيرا له، فأصبح مخذولا من الله، مذموما: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» .
قوله تعالى:
«وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
هو عرض شارح لقوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» .. وهو تحريك أيضا لمشاعر الثورة على البغي، ودفع لما يجد أهل السلامة والصلاح فى صدورهم من حرج فى أن ينالوا أحدا بسوء، حتى ولو كان مسيئا.. وهذا خروج على سنن العدل، ومجافاة لطبيعة الحياة، وإطلاق لأيدى السفهاء أن يعيثوا فى الأرض فسادا، وأن يبتلى بهم الأنقياء والأبرار ابتلاء عظيما.. ولهذا جاء الإسلام يقرر هذه الحقيقة، ويعطى أهله حق الدفاع عن أنفسهم، بلا بغى أو عدوان،(13/78)
حتى يكون لهم من ذلك وقاية من آفات ذوى الشر والعدوان..
ولقد كانت دعوة المسيح- عليه السلام- إلى اليهود، أن «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك رداءك، فاخلع له ثوبك أيضا» - كانت تلك الدعوة بلاء من الله لليهود، ونقمة منه سبحانه، بعد أن بغوا وأفسدوا فى الأرض.. وكانت تلك الجرعات المرة القاسية التي قدمها السيد المسيح لهم- هى من بقايا الكئوس المرة القاسية، التي تجرعها الناس من سموم كيدهم، ومكرهم!.
فليس ثمة من سبيل ولا لوم، على من انتصر من بعد ظلمه، فانتصف ممن ظلمه. وأخذ بحقه منه.. وإنما السبيل واللوم على من بدأ بالظلم، وبغى على الناس.. أو على من انتصر من بعد ظلمه، فجاوز الحد، وانتهى به ذلك إلى أن يكون من الظالمين الباغين.. فهؤلاء لهم عذاب أليم، هو قصاص من العدل الإلهى، ينتصف فيه سبحانه للمظلوم من ظالمه..
قوله تعالى:
«وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» .
الواو للقسم، واللام واقعة فى جواب القسم.. والإشارة إلى الصبر والمغفرة.
أي إن الصبر والمغفرة من عزم الأمور.
وعزم الأمور، هو موجبها، ولازمها، الذي هو ملاكها، الذي تقوم عليه، بحيث لا يتم لها وضع صحيح إلّا به.. فلكل أمر عزيمة، هى السبب أو الأسباب الموصلة إليه.. وفى الحديث: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه» .. وهى فرائضه، وما أوجبه الله سبحانه على عباده.
وفى إسناد عزم الأمور إلى الفاعل، أي فاعل الصبر والمغفرة، بدلا من إسناده إلى ذات الصبر والمغفرة- إشارة إلى أن المعوّل عليه فى إعطاء القيمة للصبر(13/79)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
والمغفرة هو الفاعل لها، وأنه بقدر صبره ومغفرته يتحقق للصبر والمغفرة، الصفة المناسبة التي تكون له منهما.. ومن حكم العرب: «خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله» ..
والآية الكريمة تعقيب على هذه القضية العامة، التي تنتظم الناس جميعا، فهم بين ظالمين معتدين، ومتتصفين من الظالمين المعتدين.. وهذا يعنى أنهم فى حرب متصلة لا تنقطع أبدا.. يوقد الظالمون المعتدون نارها، ويزيدها المظلومون المعتدى عليهم ضراما، بالاشتباك فى صراع مع من ظلمهم واعتدى عليهم..
وهذه فتنة وابتلاء للناس.. وأنه إذا كان من حقّ المظلومين أن ينتصفوا من ظالميهم، فإن عليهم أن يذكروا أنهم فى وجه فتنة وابتلاء، وأنه من الحكمة أن يعالجوا الأمر برفق، وأن يأتوا إليه لإطفاء ناره، لا لتأججها.. وهذا أمر متروك لتقدير الإنسان، على ألا يخرج به الحال أبدا إلى الظلم والبغي.
فإن شاء صبر، وعفا، وإن شاء انتصف وانتصر..
الآيات: (44- 50) [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 50]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)(13/80)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، عرضت قضية الظلم، وما يقع من بغى الناس بعضهم على بعض، وتوعدت الظالمين الباغين بالعذاب الأليم.. وهنا فى هذه الآية، إشارة إلى أن المصدر الأول للظلم والبغي، إنما يأتى من جهة الكفر بالله، والضلال عن سبيله، وأن الكافرين الظالمين هم الذين لا يجدون لله وقارا، ولا يخشون له بأسا، فهم لذلك يطلقون العنان لقوى الشر الكامنة فيهم، فيعتدون على حرمات الله، وعلى عباد الله، فى غير تحرج أو تأثم..
فهؤلاء الظالمون المعتدون، هم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ» أي ليس له نصير ينصره من بعد ضلاله وخذلان الله له..
وقوله تعالى: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» هو عرض للظالمين فى موقف الحساب والجزاء، وأنهم فى هذا الموقف(13/81)
فى كرب وبلاء، يتنادون بالويل والثبور، وينظر بعضهم إلى بعض فى يأس قاتل، متسائلين: «هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» ؟ أي هل هناك من سبيل إلى الخروج مما نحن فيه، والعودة إلى الحياة الدنيا، لنصلح ما أفسدنا، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل؟ وهيهات هيهات!! قوله تعالى:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» أي وفى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- يرى الرائي، الظالمين وهم يعرضون على النار، ويقفون بين يديها- يراهم خاشعين فى مهانة وذلة وضراعة.. «يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي لا يستطيعون أن يفتحوا أبصارهم على هذا الهول الذي يغفر لهم فاه، بل إن أبصارهم ليصعقها هذا الهول، فترتدّ عنه، ويدعوها الخوف منه، ومحاذرة الوقوع ليده، أن تنظر لترى أين موقعها منه، فلا تكاد تلمحه حتى ترتد عنه.. وهكذا تظل أبصارهم مشدودة إلى هذا الهول، تتحسسه، فى مخالسة، كما يتحسس الأعمى حية التفت بعنقه.!
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» أي أن المؤمنين حين يرون هذا الموقف الذي يكون عليه الظالمون يوم القيامة.. ينظرون إلى أنفسهم، فيحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء، ويقولون فيما يقولون: «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» أي أنه ليس خسرانا هذا الخسران الذي يفوت الإنسان من حظوظ الحياة الدنيا، فى نفسه، وأهله، وماله.. وإنما الخسران حقّا هو هذا الخسران الذي يلقاه الظالمون(13/82)
فى هذا اليوم، حيث قد صفرت أيديهم من كل شىء، وتقطعت بينهم وبين أهليهم الأسباب، فلا يلقاهم أحد من أولادهم وأهليهم إلا معرضا عنهم، مشغولا بنفسه وبما يعانيه- إن كان من أهل النار- أو مشتغلا عنهم بنعيم الجنة، ومنازعة أهلها طيّب الأحاديث، وكئوس النعيم- إن كان من أهل الجنة..
وفى التعبير بالماضي عن حديث المؤمنين فى هذا اليوم، إشارة إلى أن هذا الحديث، واقع من نفوس المؤمنين موقع اليقين وهم فى هذه الدنيا.. فهم يؤمنون بأن هذا هو الذي لا بد أن يكون يوم القيامة..
قوله تعالى:
«وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» - هو من قول المؤمنين فى الآخرة، وهو قولهم فى الدنيا، وإيمانهم به.. فالمؤمنون على يقين بأن الظالمين لا نصير لهم، ولا مدافع عنهم فى هذا اليوم، فإنهم ممن أضلهم الله، وسلك بهم مسالك الطريق إلى جهنم، فليس لهم سبيل إلى طريق آخر إلى غير هذا المورد الذي هم مساقون إليه..
قوله تعالى:
«اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ.. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» هو دعوة إلى الظالمين، المنحرفين عن طريق الهدى، أن يستجيبوا لربهم، وأن يقبلوا على ما دعاهم إليه من الإيمان به على لسان رسوله، وذلك «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» أي لا مرد لهم فيه إلى الحياة الدنيا، وليس لهم فيه من ملجأ يفرون إليه من هذا العذاب المحيط بهم فيه، وليس لهم فى هذا اليوم من يقوم فيهم مقام المنكر عليهم، ما هم فيه من ضلال، فقد انتهت رسالة(13/83)
الرسل. فلا وعد ولا وعيد، ولا بشير ولا نذير..
قوله تعالى:
«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» أي فإن أعرض هؤلاء الظالمون المدعوون إلى الاستجابة لله، عن قبول هذه الدعوة: «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» أي فإنك أيها النبي لست مرسلا إليهم لتقوم على حفظهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم: «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» أي ما عليك إلا أن تبلغهم رسالة ربك، وتدعوهم إليه، وتحذرهم بأسه وعقابه، وتبشرهم برحمته ورضوانه.. فإن هم استجابوا لله، بعد أن تبين لهم الرشد من الغى، فقد رشدوا ونجوا، وإن أبوا أن يستجيبوا لله، فليس لك أن تتولى حفظهم، وتأخذ بهم قسرا إلى طريق النجاة.. فإنه «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. وإنّ على كل إنسان أن يتولى حفظ نفسه، ووقايتها، وإقامتها على الطريق الذي يختاره لها.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» (4: الطارق) أي ما كل نفس إلا قائم عليها حافظ، مطلوب منه أن يتولى حفظها، وهو هذا العقل الذي أودعه الله فيها، فإذا لم يوقظ الإنسان هذا الحارس، وينبهه إلى أداء وظيفته، ثم دخل عليه من يستبدّ به، ويستولى عليه، ويورده موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه..
قوله تعالى: «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» .
مناسبة هذا لما قبله، هى أن ما سبق من قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما(13/84)
أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ»
- يشير ضمنا إلى ما فى بعض النفوس من فساد، لا تجد معه مساغا لطعم الخير، ولا اشتهاء له، وأن ذلك طبيعة غالبة فى الإنسان، كذلك من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته رحمة من عند الله، وأصابه خير- كسعة فى الرزق، أو نماء فى الثمر، والولد- لبسته الفرحة، وإن مسه ضر بما قدمت يداه نسى ما ألبسه الله تعالى إياه من نعم، ولم يعد يذكر لله إلا هذا الضرّ الذي أصابه بما صنعت يداه..
وفى إفراد الإنسان فى قوله تعالى: «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» - إشارة إلى كل فرد من أفراد هذا الجنس البشرى- فأل هنا للجنس- إذ أن كل إنسان أيا كان- مؤمنا كان أو كافرا- يفرح بالخير إذا أصابه، ويهشّ له، وتطيب نفسه به..
أما عود الضمير جمعا على الإنسان فى قوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» فذلك لأنه ليس كل إنسان فى حيّز هذا الشرط وجوابه، فيكفر بالله، أو يسىء الظن به فى حال الضر، بل إن الواقعين فى حيز هذا الشرط وجوابه، هم الذين لا يؤمنون بالله مطلقا، أو لا يؤمنون به إيمانا وثيقا، مثل أولئك الذين يعبدون الله على حرف، كما يقول الله تعالى فيهم:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11: الحج) فكثير من الناس يقفون هذا الموقف من ربهم..
إن أصابهم خير، رضوا به واطمأنوا إليه، وإن أصابهم شر بما قدمت أيديهم، أنكروا من الله ما كانوا يعرفون.. وقليل من الناس، وهم المؤمنون بالله حقّا- لا تختلف حالهم مع الله أبدا.. فهم على إيمان به، وحمد له، فى السراء(13/85)
والضراء على السواء.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (177: البقرة) ..
وجواب الشرط هنا هو قوله تعالى: «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» أي وإن يصبهم شر بما قدمت أيديهم، فهم جميعا هذا الإنسان الكافر الجحود.. وقد جىء بالجواب جملة اسمية، للإشارة إلى أن هذا الحكم ليس حدثا عارضا فى مجرى حياة الإنسان، بل إن ذلك جبلّة وطبيعة فيه، وأنه إذا كان ثوب النعمة الذي لبسه حينا من الزمن قد ستر منه هذه الطبيعة- فإن الضر الذي أصابه ونزع عنه هذا الثوب- قد كشف عنه ما كان مستورا منه، فظهر على حقيقته، وهو الكفران والجحود! ..
وفى قوله تعالى: «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» - إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان من ضرّ هو من صنع يده.. كما يقول الله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (79: النساء) .. وأنّ تبدّل أحوال الناس من نعمة وعافية إلى سوء وبلاء، هو بما كسبت أيديهم..
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) ..
قوله تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» .(13/86)
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة أشارت إلى ما يصيب الناس من خير وشر، وقد أضافت الخير إلى الله سبحانه، وأضافت الضرّ إلى كسب الناس، وحتى لا يقع فى وهم الناس- وخاصة من لا يعرفون الله ولا يقدرونه حقّ قدره- أن ما يصيب الناس من ضرّ هو مسوق إليهم من عند غير الله- حتى لا يقع هذا الوهم، جاء قوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ليدفع هذا الوهم، وليقرر أن كل ما فى السموات وما فى الأرض، وما يجرى فيهما من أمور- هو من عند الله: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (78: النساء) ..
فالله سبحانه يخلق ما يشاء، ويهب ما يشاء لمن يشاء.. فيعطى ويمنع، ويثيب ويعاقب..
«يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» ..
فهذا بعض تصريف الله فيما تتعلق به نفوس الناس، من حبّ الولد..
فبعض الناس يهبهم الله إناثا، وبعضهم يهبهم ذكورا، وبعضهم يهبه الذكور والإناث معا: «يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» أي يجعلهم أزواجا، ذكرا وأنثى، لا أن يتزوج بعضهم بعضا، وقد جاء النص القرآنى: «ذُكْراناً وَإِناثاً» للإشارة إلى ما يقع فى نسبة الذكور والإناث من اختلاف، عند من يرزقون الذكور والإناث.. فقد يرزق الإنسان ذكرا وأنثى، أو ذكرا وعددا من الإناث، أو عددا من الذكور وأنثى، أو أعدادا متساوية من الذكور والإناث..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» - إشارة إلى الصنف الرابع(13/87)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
الذي تكمل به الصورة، التي يكون عليها حال الناس جميعا فى هذا الرزق المقسوم من الولد..
فالناس فى هذا الرزق أربعة أصناف، لا يتجاوزونها..
بعضهم يرزق الإناث، ولا ذكور، وبعضهم يرزق الذكور، ولا إناث..
وبعضهم يرزق الذكور والإناث، وبعضهم عقيم، لا يرزق ذكورا ولا إناثا..
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» تعقيب على هذا الرزق الذي بين يديه سبحانه، والذي يهب منه ما يشاء لمن يشاء.. فهو العليم، بما يهب، ولمن يهب، وهو القدير على ما يشاء من عطاء ومنع.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) ..
الآيات: (51- 53) [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)(13/88)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» ..
[مفهوم جديد.. للحروف فى أوائل السور] بهذه الآية، والآيتين التي بعدها، تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يتم التلاقي بين بدئها وختامها.. فقد بدئت السورة بقوله تعالى:
«حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وختمت ببيان الصور التي يتم بها الاتصال بين الله ورسله، والتي يتلقّون بها كلماته وآياته.. وأن هذه الصور لا تخرج عن أحوال ثلاث..
الصورة الأولى: أن يكون ذلك الاتصال بين الله ورسله «وَحْياً» أي رمزا وإشارة، بحيث لا يعرف دلالة ما يوحى الله سبحانه به إلى الرسول- إلا الرسول وحده..
والصورة الثانية: أن يكون الاتصال بأن يكلم الله الرسول بكلماته التي يريد سبحانه إلقاءها إليه، وذلك من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم، سبحانه وتعالى، حيث لا يمكن أن تقع هذه الرؤية لأبصارنا المحدودة الكاملة، التي لا تتعامل إلا مع ما هو محدود، والله سبحانه وتعالى منزّه عن التجسد، والحدّ.. ولهذا كان قول الله لموسى حين قال:
«رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» .. «قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (143 الأعراف) .(13/89)
الصورة الثالثة: أن يكون ذلك بوساطة رسول من عالم الرّوح، يرسله الله سبحانه وتعالى، حاملا آياته وكلماته التي أذن بها له- إلى الرسول البشرى، فيتلقاها النّبى من رسول السماء.
وقد أشرنا فى أول هذه السورة، عند تفسير قوله تعالى: «حم عسق» .. إلى أن هذه الأحرف المقطعة، هى صورة من صور الوحى، وهى الصورة الأولى التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً» فهى- أي هذه الأحرف- من هذا الوحى الرمزى، الذي هو سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين رسوله صلوات الله وسلامه عليه..! وهذا يعنى أن هذه الأحرف معروفة الدّلالة لرسول الله، وإلا لما كان لوحيها إليه حكمة.. وهذا بدوره يدعونا إلى القول بأن الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السّور القرآنية- يجرى عليها هذا المفهوم الذي فهمنا عليه هذه الأحرف المقطعة هنا فى تلك السورة.
والسؤال هنا، هو:
إذا كانت هذه الأحرف وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم، لا يعرف دلالتها إلا الرسول، فلماذا كانت قرآنا، يتلى، ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
وقبل أن نجيب على هذا نسأل: أكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، يعرف دلالة هذه الحروف؟
والجواب على هذا بالإيجاب، وذلك من وجهين:
فأولا: فى قوله تعالى فى أول السورة: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وقد عاد اسم الإشارة(13/90)
إلى هذه الأحرف، وإلى أنها صورة من صور الوحى، التي يتصل فيها النبىّ بربّه جلّ وعلا.
وثانيا: فى قوله تعالى: فى ختام السورة: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ... الآية» .. إشارة إلى أن هذا الوحى هو مما كلم الله به نبيه.. والكلام لا يكون كلاما حتى تكون له دلالة مفهومة عند من يلقى إليه هذا الكلام.. لأن الكلام نقد متداول بين معط وآخذ، ولن تنم عملية المبادلة حتى يكون لهذا النقد قيمة معترف بها بين الطرفين، أو الأطراف المتعاملة به.. وقيمة اللغة هى فى دلالتها، وفى تحديد مفهومها بين المتخاطبين بها..
فكلام الله سبحانه وتعالى لرسله، سواء كان وحيا، أو من وراء حجاب، أو عن طريق رسول سماوى ينقله إلى الرسول البشرى- هذا الكلام الإلهى لا بدّ أن يكون واضح الدلالة، بيّن المفهوم عند الرسول المتلقى لهذا الكلام، قبل كل شىء.. ثم لا يمنع ذلك من أن يكون للناس- وخاصة قوم الرسول- مشاركة فى هذا الفهم، على اختلاف فى درجات هذا الفهم.
من الألف إلى الياء.. على حين تبقى للرسول درجة خاصة من الفهم لا يشاركه فيها غيره! ونعود إلى الاجابة على سؤالنا آنفا، وهو: إذا كانت هذه الأحرف المقطعة، وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم- فلماذا كانت قرآنا يتلى ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
والجواب على هذا.. والله أعلم.. هو:
أولا: أن اختصاص الرسول الكريم، بفهم خاص، لبعض كلمات وآيات(13/91)
من كلمات الله وآياته، التي يتلقاها وحيا من ربه- ليس هذا الفهم الخاص بالذي يعزل هذه الآيات أو الكلمات عن آيات القرآن وكلماته.. إذ أن هناك آيات وكلمات، تختلف مفاهيم أهل اللغة فيها، وفى تحديد دلالتها، وهى من المتشابه الذي أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ.. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (7: آل عمران) - ومع ذلك فهى قرآن يقرأ ويتعبد به.
وثانيا: حكمة هذه الحروف المقطعة- وهى المتشابه- أنها دعوة إلى الايمان بالغيب، والتسليم بالتعبد بهذه الأحرف، دون أن يكون للعقل سلطان معها، بعد أن استوفى العقل حقّه، وأعمل كلّ سلطانه مع المحكم من الآيات، واستبان له- بما لا يدع مجالا للشك- أنها من عند الله.. فكان حمله على الإيمان بما لا مفهوم له عنده من كلمات الله، وإحالة ما لم يفهمه على ما فهم- كان ذلك دعوة مجددة له إلى الإيمان القائم على الولاء والتسليم المطلقين..
فذلك هو الإيمان فى صميمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» .. وهذا ما نجده فى بعض أعمال الحج التي يقف العقل أمامها دون أن يجد لها مفهوما يلتقى مع منطقه..
كالطواف، والسعى، ورمى الجمرات، ولمس الحجر الأسود أو تقبيله.. وهذه كلها، وكثير غيرها من أعمال الحجّ، هى من الإيمان القائم على التسليم المطلق لأمر الله، وبمعزل عن سلطان العقل، بعد أن امتلأ القلب إيمانا ويقينا بما تلقى من العقل من إشارات مضيئة من الحجج والبراهين، أضاءت له معالم الطريق الى(13/92)
الله، وإقامته مقاما آمنا مطمئنا على الإيمان به «1» .
وثالثا: فى اختصاص الرسول صلوات الله وسلامه عليه بهذا العلم الذي تحمله إليه هذه الأحرف المقطعة، وغيرها من الآيات المتشابهة.. فى هذا- فوق أنه مزيد فضل وإحسان من الله سبحانه لنبيه الكريم- هو تثبيت للنبىّ، فى مقام الدعوة إلى الله، وفى الصبر على ما يكابد من آلام فى سبيل هذه الدعوة، وما يلقى من ضرّ فيما يسوق إليه المشركون والمعاندون من كيد..
ففى هذه الأحرف، يرى الرسول- فيما أراه الله منها، من أنباء الغيب- الطريق الذي تسير فيه دعوته، وما يلقى على هذا الطريق من مواقع الهزيمة والنصر، وما ينتهى إليه هذا الطريق من إعزاز لدين الله، وانتصار لجند الله، وإعلاء لكلمة الله.. وفى هذا ما يعين الرسول الكريم على احتمال الخطوب والأهوال، حيث يجد النصر قريبا منه، يلوح له برايات الأمان، وينتظر سفينته التي تزأر من حولها الأمواج، وقد أعدلها مرفأ الأمن والسلام..
هذا، ويلاحظ أن هذه الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم- قد انتظمها جميعا أمران:
الأمر الأول: أنها جاءت على رأس هذه السور.. وهذا يعنى أنها مفاتح لها، يفتح بها هذا الخير الذي تحمله كل سورة فى آياتها وكلماتها من مواعظ، وأحكام..
ثم يعنى- من جهة أخرى- أنها ذات منزلة خاصة، إذ كانت وحيا مباشرا من الله سبحانه، على خلاف ما تلقى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من آيات ربه وكلماته، بواسطة الرسول السماوي، جبريل عليه السلام.
الأمر الثاني، الذي انتظم هذه الأحرف، أنه قد أعقبها، واتصل بها،
__________
(1) وقد عرضنا لهذا فى مبحث خاص. (انظر تفسير سورة الحج)(13/93)
ذكر القرآن، تنويها به، أو بيانا لما يحمل من هدى ونور، أو إشارة إلى منّة من منن الله على عباده المتقين. أو قسما بجلاله وعظمته، أو تشريفا للأدوات التي تخدم هذا الكتاب، وتعمل فى كتابته.
وما ورد من الحروف المقطعة فى أوائل السور، هو قوله تعالى:
«الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» . (البقرة) - «الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» ..
(آل عمران) - «المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (الأعراف) .. «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» (يونس) .. «الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود) .
«الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (يوسف) «المر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» (الرعد) «الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» (إبراهيم) «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» (الحجر) .. «كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (مريم) .. «طه» ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (طه) - «طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (الشعراء) .. «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» (النمل) «طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (القصص) «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (العنكبوت) «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» (الروم) .
«الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» (لقمان) .. «يس.. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» (يس) ..
«ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (ص) .. «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (غافر) .. «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(13/94)
(فصلت) .. «حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الشورى) .. «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» (الزخرف، والدخان) «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (الجاثية، والأحقاف) ..
«ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» (ق) .. «ن.. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» (ن) .
هذا ويلاحظ عند النظر فى هذه المفاتح.. أمور.. منها:
أولا: اشتراك بعض السور فى صورة الحروف التي بدئت بها، مثل «الم» فقد بدئت بها «البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان» ..
و «الر» التي بدئت بها سور: «يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر» ، و «طسم» وقد بدئت بها سورتا «الشعراء والقصص» و «حم» التي كانت بدءا لست سور، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية.
والأحقاف.
والسؤال هنا هو: إذا كانت هذه المفاتح، تحمل دلالات خاصة، هى سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين الرسول الكريم، على هذا التأويل الذي تأولناها عليه- فكيف يتفق أن تتكرر هذه المفاتح؟ وما داعية تكرارها إذا كان السر الذي تحمله، هو فى أىّ منها؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو، أن هذا التكرار فى صورة الحروف، لا يعنى أن تكون محامل الأسرار فيها متماثلة من كل وجه..
وقد قلنا إن هذه الحروف، هى إشارات موحية، وإيماءات دالة.. وعلى هذا، فإنه ليس من الحتم اللازم أن تتحد الإشارتان أو الإشارات فى الصورة، ثم لا يكون اختلاف فى المحتوى والمضمون.. فالكلمة مثلا تختلف دلالتها باختلاف الحال المتلبس بها، والحركة بالعين أو اليد، قد تقع على صورة واحدة ولكن مفهومها يختلف، حسب تأويل المتلقى لها.. والأحلام مثلا، تتفق فى(13/95)
صورتها ويختلف تأويلها.. حسب الأشخاص، وحسب الأحوال الشخص الواحد..
هذه صورة تقربنا من فهم ما نقول به، من أن الاتفاق فى صورة الحروف المكرّرة، لا يعنى الاتفاق فى دلالتها.. بل إن لكل صورة منها دلالة خاصة.. مع العلم بأن الله سبحانه قد وصف هذه الكلمات بأنها وحي، وأنها مما كلم الله به رسله، وقد قلنا إن الكلام لا يكون كلاما إلا إذا كان ذا دلالة مفهومة بين المتكلم، والمتلقى لهذا الكلام.. فكيف بكلام الله سبحانه وتعالى، وما يبلغه من موقع الفهم عند من يكرمه الله، وبكلمة بكلماته..؟
وسؤال آخر.. وهو إذا كان لكل صورة من صور هذه الحروف المكررة تأويلا خاصا، ودلالة خاصة.. أفما كان من الأولى- وفى اللغة متسع لهذا- أن يكون لكلّ دلالة صورة من اللفظ خاصة بها؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذا الاشتراك فى اللفظ والاختلاف فى المعنى، هو من مظاهر اللغة العربية التي نزل القرآن بلسانها، بمعنى أن الكلمة الواحدة قد تحمل دلالتين أو أكثر، مثل كلمة العين، التي تدل على عين الماء، والعين المبصرة.
وهذا الاشتراك ليس عن قصور فى مادة اللغة، وإنما هو من بلاغة هذه اللغة وذكاء أهلها.. حيث يفرّقون فى اللفظ المشترك بين المعنى الذي تقتضيه داعية الحال، وبين المعنى الذي لا مقتضى له فى تلك الحال، كما أنهم إذ يأخذون بالمعنى المراد للفظ المشترك فى الحال الداعية له، لا يقطعونه عن المعنى أو المعاني الأخرى التي يحملها فى كيانه..
فإذا جاء القرآن الكريم مستعملا اللفظ المشترك فى تلك الحروف المقطعة- كان جاريا فى هذا على أسلوب اللغة التي نزل بها، وأنه كما جاء باللفظ المشترك(13/96)
فى الوحى الموحى به بوساطة الملك السماوي، جاء كذلك فى الوحى الموحى به من عند الله سبحانه وتعالى، بغير واسطة.. والله أعلم.
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» .
الإشارة هنا إلى قوله تعالى: «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ..»
أي وكما أرسل الله رسولا علويّا يوحى بإذنه ما يشاء إلى أنبيائه، كذلك أرسل هذا الرسول، إلى النبىّ الكريم، يحمل إليه من آيات ربه وكلماته، ما أذن الله سبحانه وتعالى به من وحي.. وفى هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الوحى، والتي كانت هى الصورة الغالبة على تلقّى رسول الله ما يتلّقى من وحي ربه..
أما الصورة الأخرى التي كان يتلقى فيها النبي كلمات ربه، فهى ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى أول هذه السورة بقوله: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. فالإشارة هنا، إلى هذه الأحرف المقطعة التي تلقاها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحيا من ربه، دون وساطة رسول سماوى.. على ما ذهبنا إليه من تأويل لهذه الآية، والذي نرجو أن يكون على منهج الحق والصواب.
والروح فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» يحتمل دلالتين: أولاهما: الدلالة على رسول الوحى، وهو جبريل عليه السلام، فهو روح من عند الله.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» (193- 194 الشعراء)(13/97)
وثانيتهما: الدلالة على القرآن الكريم، فهو كلام الله.. وكلامه سبحانه وتعالى روح منه. كما يقول سبحانه وتعالى عن مريم: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (12: التحريم) .. ثم يقول سبحانه عن هذه النفخة: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (171: النساء) فالنفخة التي تلقتها مريم من روح الله، هى الكلمة التي ألقاها الله سبحانه وتعالى إليها..
وهذا يعنى أن القرآن روح، من روح الله، وأن الذي حمله إلى الرسول روح من روح الله كذلك.. فهو روح، يحمله روح.. وهذا يعنى من جهة أخرى، أن القرآن الكريم حياة وروح تلبس النفوس المستعدة لاستقبالها، كما تلبس الحياة والأرواح الأجساد، بعد أن يتم تكوينها، وتصبح مهيأة لاستقبالها.. وكما أن كل جسد يلبس من الأرواح بقدر ما هو مستعدّ له، كذلك النفوس، يفاض عليها من روح القرآن، على قدر ما هى مستعدة له، ومهيأة لقبوله..
وقوله تعالى: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» - هو بيان لحال النبي قبل أن يتلقى رسالة السماء، وما تحمل إليه من كلمات ربه.. وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن قبل هذا التلقي يدرى شيئا عن هذا الكتاب، أي القرآن الذي تلقاه من ربه.. كما يقول الله سبحانه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» (3: يوسف) وفى قوله تعالى: «وَلَا الْإِيمانُ» - ما يسأل عنه، وهو: ما الإيمان الذي كان لا يعرفه النبي قبل النبوة؟ وعلى أي دين كان يدين؟
ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان على دين الفطرة(13/98)
وهو دين إبراهيم عليه السلام.. فقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- مؤمنا بإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد بالخلق والأمر.. أما ما لم يكن يعرفه النبي من الإيمان، فهو ما يتصل بالشريعة التي تتصل بهذا الإيمان، والتي جاء القرآن الكريم مبيّنا لها.. فالإيمان: قول، وعمل.. عقيدة، وشريعة..
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعرف الجانب العقيدى، ويتعبد لله عليه، قبل البعثة.. أما الجانب التشريعي، فلم يكن يعلم منه شيئا إلى أن تلقاه وحيا من ربه، فى أحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفيما أحل الله، أو حرم..
فنفى علم النبي بالإيمان قبل الوحى، ليس على إطلاقه، وإنما هو نفى لتمام العلم بالإيمان كله، عقيدة وشريعة..
قوله تعالى: «وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» ..
الضمير فى جعلناه، يعود إلى الروح الموحى به من أمر الله، أو إلى الكتاب..
وفى قوله تعالى: «جَعَلْناهُ نُوراً» - إشارة إلى ما يحمل القرآن من هدى ونور، يكشف معالم الطريق إلى الله..
وفى قوله تعالى: «نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» - إشارة أخرى إلى أن هذا النور، لا يهتدى به إلا من شاء الله سبحانه وتعالى له الهداية من عباده، فهو رزق من رزق الله، «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» - إشارة ثالثة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو نور من هذا النور، وأنه معلم من معالم الحق، يهدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وذلك فى سنته القولية والعملية.. وهذا يعنى أن السنة المطهرة- قولية وعملية- هى من هذا النور السماوي.(13/99)
وقوله تعالى: «صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» هو بدل من «صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» - أي أن هذا الصراط المستقيم الذي يهدى إليه الرسول من شاء الله سبحانه وتعالى لهم الهداية من عباده- هذا الصراط، هو صراط الله، ودينه القويم، الذي رضيه لعباده، كما يقول سبحانه:
«وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153 الأنعام) وقوله تعالى: «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» تعقيب على ما تقرر فى قوله تعالى: «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وهو أنه سبحانه- بما له من سلطان مطلق فى هذا الوجود كله، فى أرضه وسمائه- يردّ إليه كل أمر، ويرجع إليه كل شىء.. فلا يقع أمر إلا يإذنه، وعلمه وتقديره. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..(13/100)
43- سورة الزخرف
نزولها: مكية.. إجماعا.
عدد آياتها: تسع وثمانون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وثلاث وثلاثون.. كلمة.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وأربعمائة.. حرف:
مناسبة السورة لما قبلها
جاء فى أول سورة الشورى: «حم، عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وقد قلنا فى تأويل هذه الآية: إن الوحى المشار إليه هنا، هو الوحى بتلك الحروف المقطعة، التي هى من كلام الله سبحانه وتعالى، لنبيه الكريم، من غير وساطة ملك، وإن هذا الوحى هو أشبه بالرمز والإشارة، بحيث لا يفهم ماوراء الرمز والإشارة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم..
ثم جاء قوله تعالى: فى أول سورة الزخرف هذه: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» فكان فى هذا إشارة إلى ما يوحى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- من آيات الله وكلماته، عن طريق الرسول السماوي، جبريل عليه السلام، مع ما تلقاه وحيا مباشرا من ربه..
وهذا الوحى به عن هذا الطريق، - طريق الرسول السماوي- هو الذي يشارك أهل اللسان العربي، النبىّ- صلى الله عليه وسلم- فى فهم دلالات ألفاظه، ومعانى آياته، لأنه بلسانهم الذي يتكلمون به، وبألفاظهم التي يتعاملون بها.. فليس إذن كلّ القرآن من هذا الوحى(13/101)
الرمزى، الذي اختصّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بفهمه والعمل به، دون أن يطالب غيره من المؤمنين بالبحث عن دلالته، وإن كانوا مطالبين بالتعبد بتلاوته.
ومن جهة أخرى، فإنه قد جاء فى ختام سورة الشورى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» ..
ثم كان قوله تعالى فى مفتتح سورة الزخرف: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» - بيانا لهذا النور، الذي يهدى إلى صراط الله، وهو أنه قرآن كريم، بلسان عربى مبين، وأنه بهذا اللسان هو نعمة جليلة أنعم الله بها على العرب، الذين كان معهم وحدهم مفاتح الطريق إلى هذا النور، وكان إليهم قيادة الناس جميعا إلى الهدى.. ثم كان قوله تعالى بعد ذلك: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» - تهديدا لهؤلاء الذين جعل الله إلى أيديهم مفاتح هذا النور أن يصرف عنهم هذا العطاء الجزيل، إذا هم لم يقبلوه، ويحسنوا الانتفاع به.. وبهذا، وبكثير غيره مما سنراه عند وقوفنا بين يدى هذه السورة، نجد التآخى بين السورتين، ذلك التآخى الموصول بين آيات القرآن كلها، وسوره.. آية آية، وسورة سورة..(13/102)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» .
ورد هذا المقطع: «حم» بدءا لست سور من القرآن الكريم، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وهذا الاتفاق فى اللفظ- كما قلنا- لا يلزم منه الاتفاق فى المحتوى والمضمون، الذي ينكشف للنبى منها.. فهذه الأحرف، هى رمز وإشارة إلى معان وأمور يعرفها النبي، على حين تظل هذه المعاني وتلك الأمور، غيبا لا يعلمه إلا هو، والراسخون فى العلم من أمته.
وقوله تعالى: «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» .. معطوف على قوله تعالى: «حم» المقسم به.. وبين المتعاطفين، اختلاف، واتفاق.. فهما مختلفان: لأن(13/103)
أحدهما رمز وإشارة، وهو «حم» والآخر، كلام بيّن القصد، واضح الدلالة، وهو «الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. وهما متفقان لأنهما- الخفي والجلى- كلاهما من عند الله، ومن كلام الله..
هذا، وأوثر أن أفهم قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» (38- 43:
الحاقة) - أوثر أن أفهم القسم بما يبصرون وما لا يبصرون، على أن ما يبصرون، هو ما تتضح لهم دلالته من ألفاظ القرآن، وما لا يبصرون، هو ما لا يرون له دلالة أصلا، وهى تلك الحروف المقطعة، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهما معا، كما جاء القسم فى قوله تعالى: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» وفى أمثالها.. فهو قسم بالخفّى والظاهر من آيات الله.. ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع أن يشمل القسم، ما يبصرون وما لا يبصرون، من آيات الله القرآنية والكونية.. على السواء..
ومما يستأنس به فى هذا المقام، أنه قد جاء بعد هذا القسم، نفى صفة الكهانة عن الرسول الكريم، وأن ما يقوله من ألفاظ لا يفهمون دلالتها- كهذه الحروف المقطعة- ليس هو من قبيل كلام الكهان الذي يجىء كله رموزا، وطلاسم، وإنما هو قول رسول كريم، تلقاه وحيا منزلا من رب العالمين.
قوله تعالى:
«إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
أي أن الله سبحانه، وتعالى قد أكرم هذه الأمة العربية، ببركة هذا(13/104)
النبىّ الذي هو صفوة خلق الله، فجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجعل لغتها هى اللغة التي تحمل دين الله كاملا، وهو الإسلام، فجاء القرآن الكريم بلغة العرب، ليكون لهم حظّهم الكامل منه، وليكونوا هم أول من يقطف من كرمه، ويطعم من ثمره..
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» - إشارة إلى الحكمة من جعل القرآن الكريم قرآنا عربيا، وهى لكى يتمكن العرب من الاتصال به، وإدراك معانيه، وعقلها، حتى يفيدوا منه، وينتفعوا بما فيه من خير.. وهذا يعنى أن العقل هو الوسيلة التي يتوسل بها إلى الإفادة من القرآن، وأن من يجىء إليه متخليا عن عقله، غير متدبر لآياته، لا ينال من خيره شيئا..
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» .
هو وصف للقرآن الكريم، وأنه مودع فى أم الكتاب عند الله، وحسبه بهذا علوّا وشرفا، وإنه علىّ فى ذاته، حكيم فى أحكامه، ومن شأن من يتصل به أن يستعلى بإنسانيته عن مستوى أهل الجهالة والضلال، وأن يتزيّا بزىّ الحكمة، التي هى العقل المتحرر من الأوهام والخرافات، المستنير بنور العلم والمعرفة..
وقد وصف القرآن الكريم هنا بصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى، هما، العلىّ والحكيم.. لأن القرآن كلام الله، من صفات الله..
فكل ما لله سبحانه وتعالى من صفات الكمال، هو لكل صفة من صفاته..(13/105)
هذا هو القرآن الذي يدعى العرب إلى تعقله، وتدبره، والحياة معه بعقولهم وقلوبهم..فماذا كان منهم إزاء هذه الدعوة؟ لقد تلبّثوا كثيرا، ووقفوا طويلا على حال من التردد بين الإقدام والإحجام، حتى إذا تبخرت سحب الضلال المتكاثفة حولهم، تحت أشعة هذه الشمس الطالعة فى سمائهم- صحوا صحوة مشرقة، اهتزت لها أنفسهم من أقطارها، فاندفعوا وراء راية القرآن، اندفاع السيل الهادر، وقد اكتسح بقوته ما بين يديه من حواجز ومعوقات.
قوله تعالى:
«أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» .
هو استفهام يحمل التهديد لهؤلاء المشركين من العرب، الذين لم يلتفتوا إلى هذا القرآن الذي بين أيديهم، ولم يمدّوا أيديهم إلى تناول قطوفه الدانية-فماذا يظنون؟ أيحسبون أن هذا الخير سيظل محبوسا على قوم لم يربدوه، وهناك نفوس كثيرة تشتهيه، وتنتظر حظها منه؟ إنهم إن لم يبادروا إلى هذا الخير، ويمسكوا به، فإنه يوشك أن يتحول عنهم، وإذا هم إن طلبوه وجدوا غيرهم قد سبقهم إليه، وأخذ مقام الصدارة التي كان من شأنها أن تكون لهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) والذكر: هو القرآن الكريم..
وضرب الذكر عنهم صفحا: صرفه عنهم.. أي تحوّل القرآن الكريم عنهم، وتنحيته جانبا.. وصفحة الوجه، وصفحة السيف: جانبه، وكذلك الصفحة من كل شىء.. وفى التعبير عن صرف القرآن عن المشركين، وتحوله عنهم- فى التعبير عن هذا بضربه عنهم- إشارة إلى أن القرآن الكريم متجه(13/106)
إليهم، راغب فى الاتصال بهم، والحياة معهم، وأنه لا يتحول عنهم إلا مكرها..
وهذا يعنى أن هذه النعمة لا تتحول أبدا عن الأمة العربية لأن القرآن لا يضرب أبدا، لمقامه العظيم عند الله، ولأنه صفة من صفاته جل وعلا، وأنه إذا كان هؤلاء المشركون قد استقبلوا القرآن الكريم هذا الاستقبال العدائى، فإنه سيجد منهم آخر الأمر، الأمة التي تحتفى به أعظم احتفاء، وتنزله من نفسها أكرم منزل..
وهذا هو بعض السر فى التعبير بضرب الذكر عنهم صفحا، أي جانبا.. بمعنى أنه لا ينصرف عنهم انصرافا كاملا، بل ينصرف عنهم بجانب منه، أشبه بالمغاضب، الذي يريد العتبى ممن أغضبه، وينتظر مصالحته..! وقد صالح العرب القرآن، وأعتبوه، وأدّبوا المتطاولين عليه، وقتلوا من أجل ذلك أبناءهم، وآباءهم، وإخوانهم، وباعوا أنفسهم بيع السماح لله، فى سبيل نصرة دين الله الذي جاء به..
وفى الاستفهام بقوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً» إنذار وتنبيه، يشعر بالحرص على هداية هؤلاء المشركين، مع أنّ إسرافهم فى الضلال والعناد، كان يقضى بأن يصرف القرآن عنهم، من غير إنذار، أو إعذار! قوله تعالى:
«وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو عزاء للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وتسلية له مما يلقى من تأتى قومه عليه، وسخريتهم منه، واستهزائهم به.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- ليس بدعا من الرسل فى هذا الذي يناله من قومه من أذى.. فهذا شأن أنبياء الله ورسله جميعا مع أقوامهم: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
«وَكَمْ» هنا خبرية، يراد بها التكثير.. أي ما أكثر ما أرسلنا من نبى فى الأولين، أي السابقين.. فكانت حالهم أنهم لا يلقون النبي المرسل إليهم إلا بالاستهزاء، والتحدّى، والأذى..(13/107)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
قوله تعالى:
«فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» .
هو تهديد، ووعيد للمشركين، فقد أهلك الله المكذبين بالرسل من قبلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة وبطشا.. فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين من قبلهم؟ أم أنهم أخذوا على الله عهدا أن يكونوا بمنجاة من عذاب الله؟.
وقوله تعالى: «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» - أي مضى المثل الذي يرى فيه المشركون العبرة والعظة، وهو ما حدثهم به القرآن الكريم من مصارع القوم الظالمين، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط..! كما يقول الله سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ.. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت)
الآيات: (9- 19) [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 19]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)(13/108)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» أي أن هؤلاء المشركين يختانون أنفسهم، ويخادعون عقولهم، فهم- مع علمهم بأن الله سبحانه هو خالق هذا الوجود، والقائم عليه- لا يقيمون أنفسهم على هذا العلم، ولا يأخذون به، بل يتبعون أهواءهم، ويتجهون مع الريح التي تهبّ عليهم من أهوائهم.. فلو سألهم سائل: «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» لقالوا فى غير تردد: خلقهن الله.. ثم إنهم من جهة أخرى لا يعطون الخالق ما ينبغى له من صفات الكمال والجلال، والتفرد بالخلق والأمر، بل يجعلون له أندادا وأعوانا، وينسبون إليه بنين وبنات.. بغير علم..
وفى قوله تعالى: «الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه الإقرار الصحيح منهم، بعد أن أقروا بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض..
فإن الذي خلق السموات والأرض، ينبغى أن يكون عزيزا متفردا بالعزة، فلا يحتاج إلى معين من صاحبة أو ولد، ولا يدخل على عزته ضيم بمشاركة شريك..
كما ينبغى أن يكون عليما محيطا علمه بكل شىء.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟» (14: الملك)(13/109)
فقوله تعالى: «خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» - هو- وإن لم يكن مما نطق به القوم مقالا، فقد نطقوا به حالا والتزاما.. فإن إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، يقضى بأن يكون لله العزة المطلقة، والعلم الشامل.
قوله تعالى:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» هو إلفات لهؤلاء المشركين، وهم فى موقف الاعتراف الملجئ لهم، إلى القول بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض- إلفات لهم إلى أن الله الذي خلق السموات والأرض، هو الله الذي جعل لهم هذه الأرض مهدا، أي موطنا ممهدا، كأنه المهد الذي يهيأ للوليد ساعة يولد، حيث يقوم على هذا المهد من يرعى هذا الوليد، ويسهر على راحته. فهذه الأرض هى المهد الذي يحتوى الناس، والذي تحفه عناية الله ورعايته، بما يمدهم به- سبحانه- من نعمه، وما يفيض عليهم من فضله، وأنه لولا هذه الأمداد لم يكن للناس حياة..
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» - إشارة إلى بعض هذه النعم التي أنعم الله سبحانه بها على الناس، وهم فى هذا المهاد الممهّد..
فمن هذه النعم، تلك السبل، وهذه المسالك التي فى البر وفى البحر، والتي بها يعرفون وجوه الأرض، وينتقلون من مكان إلى مكان دون أن يضلوا..
فهم يضربون فى كل وجه من وجوه الأرض، ثم يعودون إلى مواطنهم، كما تعود الطير آخر النهار إلى أعشاشها..
قوله تعالى:
«وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ» .
أي ومن نعم الله العزيز العليم، هذا الماء الذي ينزله من السماء بقدر(13/110)
وحساب، حسب علمه وحكمته.. وهذا الماء المنزل من السماء، هو الذي يبعث الحياة فى كل حى، ويمسك الحياة على كل حى..
وفى قوله تعالى: «فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» إشارة إلى أن هذه البلاد العامرة، بما تزخر به من عوالم الحياة من نبات، وحيوان، وإنسان- هذه البلاد، قد كانت مواتا، لا أثر للحياة فيها، شأنها فى هذا شأن المقابر.. فلما نزل هذا الماء بقدرة القادر وتقديره، دبّت الحياة فى الأرض الموات، وقامت المدن والقرى، وهذا هو بعض السر فى قوله تعالى: «فَأَنْشَرْنا» الذي يشير إلى أن هذه البلاد العامرة نشرت من عالم الموات، وأنها كانت مطوية فى التراب فنشرها الله، وأخرج منها هذه الحياة الدافقة..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ تُخْرَجُونَ» - إشارة إلى أن بعث الموتى من القبور، هو صورة من هذا النشور، الذي نشرت به الحياة فى الأرض الموات..
وفى وصف البلدة بأنها ميتة، إشارة إلى أن هذا الموت يحوى فى كيانه حياة، ولكنها حياة ميتة، وستظل هكذا ميتة إلى أن يأذن الله لها بالحياة والنشور، بما ينزل من السماء من ماء فتحيا به الأرض بعد موتها.. وفى إفراد البلدة، وتنكيرها- إشارة إلى الوقوف بالنظر عند بلدة واحدة من تلك البلاد القائمة، حتى تستخلص منها العبرة والعظة، من غير أن يتشتت النظر ويتوزع فى كل بلد.. فإذا وقعت للإنسان العبرة والعظة فى البلد الواحد، كانت كل بلدة بعد هذا، هى هذا البلد.. فهى أولا بلدة، ثم هى بعد ذلك بلاد كثيرة، تشمل ما وقع عليه النظر وما لم يقع!.
قوله تعالى:
«وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ(13/111)
ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» .
أي ومن نعم الله العزيز العليم، كذلك، أنه خلق الأزواج كلها، من جميع ما على الأرض من مخلوقات، من عوالم النبات، والحيوان، والإنسان- فهذه المخلوقات كلها متزاوجة من ذكر وأنثى، وهى بهذا التزاوج تتوالد فتتكاثر، كما يتوالد ويتكاثر الإنسان.. وبهذا يعتدل ميزان الحياة بين الأحياء، ويكون تكاثر النبات والحيوان فى البر والبحر مكافئا لتوالد الإنسان وتناسله، وبهذا يجد الإنسان كفايته مما على الأرض.
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» - إشارة إلى ما سخر الله سبحانه للإنسان من أدوات الركوب، فى البر والبحر، والتي بها ينتقل الإنسان من مكان إلى مكان لم يكن ليبلغه مشيا على رجليه إلا بشق النفس.
وقوله تعالى: «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» .
الضمير فى ظهوره يعود إلى الاسم الموصول «ما» أي لتستووا على ظهور ما جعل الله لكم من الفلك والأنعام من أدوات حمل وركوب.
والاستواء على الظهور، هو التمكن منها، والاقتدار عليها، واقتيادها من زمامها إلى الوجهة التي يريدها الإنسان..
ففى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» - إشارة إلى أن هذا الجعل يحمل معه تذليل هذه المخلوقات وتسخيرها للإنسان، وأنه لولا هذا لما كان للإنسان أن ينتفع بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:(13/112)
«وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» (32: إبراهيم) أي ذللها لتجرى بسلطانه لا بسلطانكم عليها.. كما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» أي ما كنا قادرين على قيادة هذه المخلوقات، التي هى أقوى قوة منا، لولا أن سخرها الله سبحانه وتعالى لنا، وملّكنا أمرها، والتصرف فيها..
فاللام فى قوله تعالى: «لِتَسْتَوُوا» هى لام التعليل الكاشفة عن العلة التي من أجلها سخر الله هذه المخلوقات.. فقد سخرها سبحانه ليستوى الإنسان على ظهورها، ويملك تصريفها حيث يشاء..
وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» - إشارة إلى أن ذكر هذه النعمة، إنما يكون على أتمه وأكمله، حين يكون الإنسان متلبسا بها، معايشا لها، مستظلا بظلها، طاعما من ثمرها..
عندئذ يكون إحساسه بهذه النعمة كاملا، ويكون ذكر المنعم بها قائما على شعور مدرك، يقدّر هذه النعمة، ومالها من أثر بالغ فى الحال التي هو فيها مع هذه النعمة، فيجد لذلك قلبا منشرحا، ولسانا رطبا طلقا، يسبح بحمد الله، ويشكر له.. ولهذا جاء العطف بالحرف «ثم» الذي يفيد التراخي، والذي يشير إلى أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله، والنعمة غائبة عنه، فإنه لا ينبغى أن يغفل والنعمة حاضرة بين يديه، يعيش فيها وينعم بها..
قوله تعالى:
«وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» .
معطوف على قوله تعالى: «وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» .. فهو من مقول القول.. أي وتقولوا.. إنا إلى ربنا لمنقلبون.. أي راجعون إليه، بعد رحلتنا فى هذه الحياة الدنيا..(13/113)
وذكر الرجوع إلى الله فى هذا المقام، هو أنسب الأوقات الداعية إليه، حيث المشابهة قوية بين هذه الرحلة التي يقطعها الإنسان على ظهر السفينة أو الدابة، ثم يعود بعدها إلى مستقره، الذي خرج منه. فكذلك الحياة الدنيا، هى رحلة بدأها الإنسان من يوم أن كان له وجود فيها، هذا الوجود الذي خرج من عالم قائم وراء هذه الدنيا، ثم لا يلبث أن يعود من حيث بدأ إلى هذا العالم الذي خرج منه. «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
(8: العلق) قوله تعالى:
«وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ» .
هو معطوف على محذوف، هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ماذا كان من أمر المشركين إزاء هذه النعم التي بين أيديهم؟ وهل قالوا ما هو مطلوب منهم وهذا المقام، من ذكر الله، والتسبيح بحمده، حين استووا على ظهور هذه الأدوات المسخرة لهم؟ وكان الجواب: إنهم لم يقولوا هذا، بل استقبلوا تلك النعم بالجحود والكفران.. فلقد جعل سبحانه وتعالى لهم من الفلك والأنعام ما يركبون، وجعلوا هم له من عباده جزءا، بأن أشركوا به، وأضافوا إليه معبودات أخرى يعبدونها معه، ونسبوا إليه الولد.. وهذا ضلال عظيم، وكفران مبين، إذ كيف يكون المخلوق بعضا من الخالق؟ وكيف يكون الله أبعاضا، وأجزاء فالولد بضعة من أبيه، وفلذة من أفلاذه!.
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟» .
استفهام إنكارى، يكشف عن ضلال المشركين، وفساد منطقهم..
فإنهم- وفد أراهم ضلالهم المبين أن ينسبوا الولد إلى الله- استغواهم الغى،(13/114)
فنزلوا بقدر الله سبحانه عن أن يكون مساويا لهم، فجعلوا لله البنات، وجعلوا لهم هم البنين وقالوا إن الملائكة بنات الله، ولم يروا أن يكون هؤلاء الملائكة ذكورا.. وهذا منطق سقيم إذ كيف يكون الذكور والإناث من خلق الله، ثم يكون لهم هم أن يختاروا ما يشتهون منها، ويدعون لله ما لا يشتهون؟ «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (153: 154 الصافات) .
«لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4: الزمر) .
قوله تعالى:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» هو تسفيه للمشركين، ولقسمنهم تلك الجائرة. إنهم لا يرضون أن يكون البنات ممن يولد لهم فإذا ولد لأحدهم أنثى امتلأت نفسه غمّا وكمدا.. فكيف ينسب إلى الله من هو- حسب تقديرهم هدا- مصدر همّ وغم؟ أهذا أدب مع الله، عند من يعترف بوجود لله؟ إنهم لو أنكروا الله أصلا، ولم يعترفوا بوجوده، لكان لذلك منطق عندهم أما أنهم يعترفون بالله، ثم ينزلونه من أنفسهم هذه المنزلة التي لا يرضونها لأنفسهم، فذلك هو الضلال المبين، الذي لا يمكن أن يقام له منطق، حتى من الضلال نفسه! وفى قوله تعالى: «بُشِّرَ أَحَدُهُمْ» إشارة إلى أن «بِالْأُنْثى» نعمة من نعم الله، وأن ورودها على لإنسان من البشريات المسعدة، التي من شأنها أن تشرح الصدر، وتسر القلب. ولكن القوم لجهلهم وضلالهم، يضيقون بهذه النعمة، ويشقون بلقائها.
وقوله تعالى: «بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» - إشارة إلى ما نسبه المشركون(13/115)
إلى الله من ولد، حين جعلوا الملائكة بنات الله، وأن هذه النسبة من شأنها أن تجعل تماثلا بين الله، وبين خلقه. إذ كان الوالد والأولاد على صورة متشابهة أو متقاربة، أو متماثلة.. جنسا، وهيئة، ولونا، وشكلا..
قوله تعالى:
«أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» .
ينشأ: يربى، ويشبّ، ويكبر..
والحلية: الزينة، وما يتحلّى به من حلى، وثياب.. وهذا من شأن النساء غالبا..
والآية تنكر على المشركين- فى أسلوب استفهامى- أن يجعلوا لله سبحانه الجانب الضعيف، من المخلوقات وهو جانب الأنوثة، على حين يجعلون لأنفسهم الجانب القوى، وهو جانب الذكورة..
إذ المعروف فى عالم الأحياء، أن الذكر أقوى من الأنثى، وأشدّ بأسا، فى مجال الصراع والخصام..
والمراد بالإبانة فى قوله تعالى: «وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» الكشف والتجلية والإفصاح عن القوة، حين تدعو دواعيها، وتعرض فى مجال الامتحان.
والآية معطوفة على قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ» ..
أي أم اتخذ ممن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين، وترك لكم أن تتخذوا من تجعلون منهم فرسان قتال وأبطال حروب؟.(13/116)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قوله تعالى:
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ» . وهو بيان شارح للعباد الذين جعلهم المشركون جزءا من الله، فهذا الجزء هو الملائكة، وقد جعلوا هؤلاء الملائكة إناثا..
فالمشركون يعملهم هذا، قد اقترفوا جرما غليظا، يضم فى كيانه ثلاث جرائم:
نسبة الولد إلى الله، وجعل أولاد الله إناثا، ووصف الملائكة بأنهم إناث..
وكل هذا زور وبهتان.. لا منطق له من العقل، ولا مستند له من الكتاب.
وقوله تعالى: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟» إنكار لهذا القول الذي يقوله المشركون فى الملائكة، إذ قالوه بغير علم.. إنهم لم يشهدوا خلقهم حتى يعلموا من أمرهم شيئا يقولونه فيهم..
وقوله تعالى: «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ!» تهديد ووعيد للمشركين وأنهم سيحاسبون على هذا القول الذي يقولونه فى الملائكة، والذي سيكتب على أنه شهادة منهم فى هذا الأمر.. وإذ كانت تلك الشهادة زورا، فإنهم سيماقبون عليها عقاب شاهد الزور!
الآيات: (20- 25) [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)(13/117)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» ..
هو معطوف على جرائم المشركين التي عرضتها الآيات السابقة.. وجريمتهم هنا أنهم يذهبون مذهب السفسطة، والمماحكة، فيعترفون بأن الله سبحانه مشيئة عامة غالبة.. وهذا حق، ولكنه حق أرادوا به باطلا، فجعلوا عبادتهم الملائكة مشيئة لله فيهم، وأن الله لو شاء لهم أن يعبدوا غيرها لعبدوه.. فهم- والحال كذلك- قائمون على أمر الله، غير خارجين على مشيئته.. وهذا مكر سيىء منهم، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله..
ونعم إن لله سبحانه وتعالى كلّ شىء.. وإنهم لن يملكوا مع الله نفسا يتنفسونه إلا بأمره ومشيئته.. ولكن أين مشيئتهم هم؟ أليست لهم مشيئة عاملة، يأخذون بها الأمور أو يدعونها؟ إنهم لو عطلوا مشيئتهم فى كل أمر لكان لهم أن يقولوا هذا القول.. ولكنهم إذا حضرهم الطعام مدوا أيديهم إليه، وأخذوا منه ما يسد جوعهم، فإذا شبعوا رفعوا أيديهم عنه.. فلم يمدّون أيديهم إلى الطعام، ولا يقولون لو شاء الله أن نأكل لأكلنا؟ هذه أقرب(13/118)
صورة من صور مشيئتهم، إلى ما لا يحصى من السور التي تتحرك فيها تلك المشيئة، فى أقوالهم وأفعالهم.. فكيف يجعلون أفعالهم الضالة وأقوالهم المنكرة من مشيئة لله، ولا يجعلون لمشيئتهم وجودا هنا، مع أنها موجودة فى كل حال معهم؟ إن ذلك- كما قلنا- مكر بالله، وتبرير لكل جناية يجنونها على الناس أو على أنفسهم..
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الغواة الضالين لو جروا على منطقهم الذي يجعلون به لله سبحانه وتعالى مشيئة عامة شاملة، لكان مؤدّى هذا أن بعبدوا الله وحده، وأن يتبرءوا من كل شريك له، إذ كان سبحانه، صاحب السلطان المطلق، والمشيئة النافذة.. وإنه لضلال سفيه أن يعبد المرء من لا سلطان له ولا مشيئة، ويدع صاحب السلطان، ورب المشيئة! ولكن هكذا يزيّن الضلال لأهله سوء أعمالهم، فيرونها حسنة.. وفى هذا يقول الله سبحانه على لسان أهل الضلال: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» (148: الأنعام) ويقول سبحانه على لسانهم كذلك:
«أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟» (47: يس) .
وقوله تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» .. الإشارة بذلك إلى هذا القول الذي يقولونه باطلا وزورا، ويضيفون فيه عبادتهم الملائكة إلى مشيئة الله..
فهذا الذي يقولونه لا علم لهم به.. لأنهم لا يعلمون ما هى مشيئة الله، ولا يقدرونها قدرها، فهم إذا أساءوا، ووضعوا موضع المساءلة والحساب قالوا هذا من مشيئة الله فينا، وإذا كانوا فى عافية من أمرهم، لم يلتفتوا إلى هذه المشيئة، ولم يضيفوا إليها شيئا مما هم فيه، بل جعلوه من كسب أيديهم، كما قال قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (78: القصص) .. وكما يقول(13/119)
الضالون فيما ذكره الله تعالى على لسان كل ضال: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي» (9- 10: هود) وقوله تعالى: «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» توكيد لجهل القوم وضلالهم، وسفاهة منطقهم فيما يقولون عن مشيئة الله.. فهو قول لا مستند له من علم، أو عقل، وإنما هو قائم على الوهم والتخمين.. «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» أي ما هم إلا يخرصون، أي يرجمون بالغيب.. وإن من يبنى معتقده، ويقيم دينه على مثل هذه الأوهام والظنون، لا يصل إلى حق أبدا، والله سبحانه وتعالى يقول:
«قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» (10- 11: الذاريات) .
قوله تعالى:
«أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» أي ليس عندهم بما يقولون علم ذاتىّ، اهتدوا إليه بعقولهم، ولا علم من كتاب آتاهم الله إياه، قبل هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول رب العالمين..
فالمراد بالاستفهام هنا، النفي..
قوله تعالى:
«بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» أي إنه ليس لهم علم من ذات أنفسهم، ولا من كتاب جاءهم قبل هذا الكتاب، وإنما كل ما عندهم، هو ضلال ورثوه عن آبائهم، وقالوا لمن يسألهم عن دينهم الذي يدينون به، ويعبدون عليه الملائكة من دون الله، على اعتبار أنهم، بنات الله- قالوا: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» أي على دين.. فالأمة(13/120)
فى اللغة تجىء بمعنى الدين، حيث تجتمع الجماعة عليه، وتكون أمة تنتسب إليه، كما تنتسب بقومينها، فكما يقال الأمة العربية، يقال كذلك الأمة الإسلامية..
يقول النابغة الذبياني:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع؟
أي وهل يحلفنّ كاذبا متأثما من كان ذا دين؟
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» - إشارة إلى ما بلغ بهم استسلامهم لموروثات آبائهم من ثقة، فيما ورثوه عنهم، فتلقوه فى اطمئنان، دون أن ينظروا فيه بعقولهم، وأن يكشفوا عما فيه من حق أو باطل.. وإن هذا لا يكون إلا من سفيه أحمق، يعطل عقله، ويزهد فيه، ويسترخصه، فلا يعيش إلا من هذا الغذاء الذي هو فضلة مما ترك الآكلون، وقد تعفّن وفسد!! فهل هذا شأنهم مع ما ورثوا عن آبائهم من أموال ومتاع؟ ألم يقلّبوا هذه الأموال والأمتعة بين أيديهم؟ ألم يطرحوا منها ما هو غير صالح؟ ألم يأخذوا الصالح منها، ويعملوا على الإفادة منه؟ فما بالهم مع ما تلقوا عن آبائهم من عادات ومعتقدات هى مما يتصل بعقولهم، - ما بالهم قد قبلوه على علاته، وأخذوه دون نظر فيه:
«أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟ (170: البقرة) قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» .
أي ليس هذا شأن هؤلاء المشركين وحدهم، بل هو شأن أهل الضلال جميعا فى الأمم السابقة، ما جاءهم من نذير إلا تلقوه بهذا القول الضالّ المضلّ:
«إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» ! وهكذا يقيم الضلال له مجرّى آسنا، يتوارد عليه من منبعه إلى مصبّه(13/121)
أصحاب العقول السقيمة، والنفوس الخبيثة، كما يسقط خسيس الطير على الجيف.
واختصاص المترفين بالذكر هنا، لأنهم هم الذين يقومون دائما فى وجه كل دعوة تخرج بالنّاس عما هم فيه من حال إلى حال، فإن هذا التحول يؤذن أهل الترف والغنى بأن يخرجوا عما هم فيه.. ومن هنا كان أكثر الناس حربا وأشدهم عداوة لدعوات الإصلاح، هم أصحاب المال، والجاه والسلطان، حيث لا يريدون تحوّلا عن حالهم التي هم فيها.
قوله تعالى:
«قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» .
أي أنه إذا جاء الرسول، يحاجّ هؤلاء المترفين، ويردّ عليهم قولهم هذا الذي يقولونه عن موروثاتهم من آبائهم، فقال لهم: «أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟» أي أنظلّون ممسكين بهذا الذي ورثتموه عن آبائكم، ولو دعوتكم إلى ما هو خير منه طريقا، وأهدى سبيلا؟ - فلا يتلقى الرسول منهم إلّا إصرارا على ما هم فيه، وإلّا كفرا وتكذيبا بما يدعوهم إليه..
وفى مخاطبة الرسول لهم فردا، وردّهم على الرسل جمعا- فى هذا إشارة إلى أن هذا هو الجواب الذي تلقاه الرسل جميعا من المترفين من أقوامهم.
قوله تعالى:
«فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» .
هو إنذار لهؤلاء المشركين، وتهديد لهم بأن يلقوا ما لقى المكذبون قبلهم من نقمة الله، ومن عذابه فى الدنيا والآخرة.. وفى هذا وعد كريم للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بالنصر والتأييد.(13/122)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
الآيات: (26- 35) [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه قد ذكر فى الآيات السابقة ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسلهم، وكفر بما أرسلوا(13/123)
به إليهم.. فناسب أن يجىء ذكر إبراهيم- أبى الأنبياء- وموقفه هو من قومه، بعد أن كذبوه، وأنكروا عليه ما يدعوهم إليه من عبادة الله رب العالمين..
فإبراهيم عليه السلام، يتبرأ من دين أبيه وقومه، كما تبرءوا هم من الدّين الذي يدعوهم إليه.. «إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» ..
وقوله تعالى:
«إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» .
إلا هنا بمعنى لكن.. أي لكن الذي «فَطَرَنِي» أي خلقنى ابتداء، هو الذي سيهدين إلى الحقّ، ويقيمنى على طريق الهدى..
ويجوز أن تكون «إِلَّا» دالة على الاستثناء، وفى هذا إشارة إلى أن هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، لم تكن عندهم إلا أربابا مع الله..
فهم كانوا يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله. ولهذا صحّ عندهم أن يدخل الله سبحانه وتعالى فى معبوداتهم التي يتبرأ إبراهيم من عبادتها. ثم يجىء الاستثناء منها لله، سبحانه، الذي هو المعبود الحقّ الذي يعبده إبراهيم، ويطلب الهداية منه..
قوله تعالى:
«جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .
الضمير فى جعلها يعود إلى مضمون قوله: «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» .. فمضمون هذا القول هو الإيمان بالله وحده، والإقرار بتفرده سبحانه بالخلق والأمر.. لا شريك له.. ومضمون هذا المضمون، كلمة واحدة هى «التوحيد» فالكلمة التي جعلها إبراهيم ميراثا منه لذريته من بعده(13/124)
هى كلمة التوحيد، وهى الإسلام، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (132: البقرة) وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. أي لعلّ ذرية إبراهيم يرجعون إلى هذا الميراث الذي تركه فيهم، ويذكرون ما وصّاهم به من الإيمان بالله وحده، والا يموتوا الا وهم مسلمون..
وإذ كان مشركو العرب، من ذرّيّة إبراهيم- عليه السلام- فإن لهم ميراثهم من كلمته تلك، وإنهم إذا كانوا قد وجدوا آباءهم على دين غير دين أبيهم الأكبر إبراهيم- فإن أباهم هذا قد ترك فيهم ميراثا خيرا من هذا الميراث، ودينا أقوم من هذا الدين الذين تلقوه عن آبائهم.. إن آباءهم قد ضيّعوا هذا الميراث، فليمدّوا هم أيديهم لتلقيه، والانتفاع به..
«بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ» .
«بَلْ» إضراب عن كلام محذوف، دلّ عليه قوله تعالى: «وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. وهنا كلام كثير يقتضيه المقام، فكان سؤال، وهو: هل رجع عقب إبراهيم إلى كلمته تلك؟ وهل أقاموا دينهم عليها؟ وكان جواب: «كلا» لم يرجعوا إلى كلمته، ولم يستقيموا على دينه..
ثم كان سؤال، وهو: «ماذا فعل الله بهم؟» وكان جواب هو: كلا..
«بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين» أي أن الله سبحانه وتعالى قد ترك هؤلاء المشركين كما ترك آباءهم من قبل، فلم يبعث فيهم رسولا، فعاشوا كما تشاء لهم أهواؤهم، مطلقين من كلّ قيد، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، غير منذرين، أو مبشّرين.. وقد ظلّوا هكذا، معفين من التكاليف(13/125)
الشرعية حتى جاءهم الحق، وهو القرآن الكريم، وجاءهم رسول مبين..
هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الإعفاء من التكاليف للشرعية، هو دليل مرض، وليس علامة صحة.. فهو يشير إلى أنّ الذين اعفوا من هذه التكاليف ليسوا أهلا للتكاليف.. شأنهم فى هذا شأن أصحاب الأعذار من الأطفال، والمرضى، والبلهاء والمجانين..
وفى دعوة هؤلاء المشركين إلى دين الله، وإلى حمل ما يدعون إليه من التكاليف الشرعية، إشارة إلى أنهم أهل لهذه الدعوة، وأنهم قد بلغوا مبلغ الرجال القادرين على حمل المسئوليات، وتلقى الجزاء عليها ثوابا، وعقابا..
قوله تعالى:
«وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» .
أي أنه حين جاءهم الحقّ، وهو القرآن الكريم، لم ينظروا فيه، ولم يقفوا عنده، بل بادروا بالإعراض عنه، والتكذيب له، وتحديد موقفهم منه، وهو الكفر بكل ما جاء فيه..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» .
أي وقالوا تعليلا لتكذيبهم بالقرآن، وبأنه سحر.. «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ؟ أي لو كان هذا القرآن من عند الله، فلم لم يكن المبعوث به إليهم من السّماء، سيّدا من ساداتهم فى مكة أو الطائف؟ ولم يقع الاختيار على رجل نشأ فيهم يتيما فقيرا، لم يكن له فيهم رياسة فى سلم أو حرب؟.(13/126)
وقوله تعالى:
«أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .
هو رد على هذا المنطق السقيم السفيه، الذي تجرى عليه مقابيس الأمور عند هؤلاء المشركين، وأنهم لا يفرّقون بين مطالب الجسد وحاجة الروح، ولا ما هو من غذاء الأجسام، وغذاء العقول..! فالإنسان العظيم عندهم هو من جمع ما جمع من مال، وما استكثر من عتاد ورجال، وإن كان لا حظّ له من عقل سليم، أو خلق قويم.
وقوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» . إنكار على المشركين ما أنكروه على النبىّ أن يكون موضع هذا الإحسان العظيم، وحامل هذا النور القدسىّ السماوي.. إنهم ليسوا هم الذين يقسمون هذه الرحمة، بل هى بيد الله سبحانه وتعالى، يضعها حيث يشاء، وتختصّ بها من عباده من يشاء.
وهذه هى حظوظهم التي بين أيديهم من الدنيا.. هى بيد الله.. يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. فليست حظوظهم منها على سواء.. فكل له منها ما قسم الله له.. فبعضهم غنىّ واسع الغنى كثير المال، وبعضهم فقير، لا يملك شيئا، وبعضهم كثير المال لا ولد له، وبعضهم كثير الأولاد ولا مال له، وبعضهم سقيم امتلأت يداه بالمال، وبعضهم صحيح صفرت يداه من المال.
وهكذا.. هم فى معيشة الحياة الدنيا درجات بعضها فوق بعض.. وذلك لأمر أراده الله، وهو أن يعيش النّاس فى هذه المستويات المختلفة، حتى يملأوا كلّ فراغ فيها، وحتى تتدافع بهم تيارات الحياة، كما تتدافع الأمواج على صدر المحيط.
وقوله تعالى: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .. إشارة إلى أن هذا(13/127)
الاختلاف بين الناس فى حظوظ الحياة، هو الذي جعل لكل واحد منهم مكانه فيها.. فهذا خادم، وذاك مخدوم، وذلك مرءوس، وهذا رئيس..
وهذا ينسج وذلك يلبس، وهذا يخبز وذاك يأكل.. وهكذا.. كلّ إنسان يخدم ويخدم، من طريق مباشر أو غير مباشر:
الناس الناس من بدو ومن حضر ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
قوله تعالى: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. الرحمة هنا هى القرآن الكريم، الذي هو رحمة من رحمة الله، التي أشار إليها سبحانه فى قوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» فهذا القرآن، وما يحمل إلى الناس من خير، هو خير من كل ما يجمع الناس جميعا من مال، وما يقتنون من متاع، وما يرزقون من بنين..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً» .
تكشف هذه الآية وما بعدها عن الطبيعة البشرية التي يستهوبها حبّ المال، وتفتنها شهوته.. فالنّاس جميعا- إلا من عصم الله- أضعف من أن يقاوموا شهوة المال، وأن يقهروا سلطانه المتمكن من نفوسهم..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ» بيان لتجربة عملية يمكن أن يمتحن بها الناس، ويرى فيها هذا الطبع الغالب عليهم، من حبّ المال وفتنته.. وتلك التجربة هى أن يساق المال بغير حساب، لكل من يكفر بالرحمن، حتى يتخذ هؤلاء الكافرون لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج- أي سلالم- من فضة، عليها(13/128)
يظهرون، أي يصعدون بها على ظهور هذه البيوت، كذلك يتخذون لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة كذلك، يتكئون عليها، ويسمزون فوقها، كما يجلبون إلى هذه البيوت ألوانا من المتاع والزخرف حتى تفيض وتمتلىء..
هذه هى التجربة المفترضة.. فماذا يكون الشأن لو أنها وقعت فعلا، فكان لكل من يكفر بالرحمن، هذا العطاء، يساق إليه بغير حساب؟.
والجواب الذي تعطيه التجربة، هو أن يتحول الناس إلى الكفر، ويتزاحموا على طريقه، حتى يكون لهم هذا المال الذي يعطاه كل كافر..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» ..
فالأمة التي سيكون الناس عليها، هى أمة الكفر، والدّين الذي سيدينون به هو الكفر، لو فرض ووقع جواب هذا الشرط، وهو أن يكون لبيوتهم سقف من فضة ومعارج عليها يظهرون.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد لعباده الخير، فعافاهم من هذا الابتلاء، ودفع عنهم تلك الفتنة، فجعل متاع الدنيا قسمة بينهم، ينال منه الكافرون والمؤمنون على السواء.. كلّ حسب ما قدّر له.. دون أن يكون المال من حظ المؤمنين وحدهم، أو الكافرين وحدهم.. فإنه لا حساب للإيمان أو الكفر، فيما يساق إلى الناس من متاع الدنيا، لأن هذا المتاع- مهما كثر- لا يصح أن يكون معيارا يقوم عليه ميزان الإيمان أو الكفر..
وقوله تعالى: «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» .. أي ما كل ذلك مما يساق إلى الناس من مال، وما يقيم لهم هذا المال من زينة الحياة الدنيا وزخرفها- ما كل ذلك إلا متاع هذه الحياة الدنيا وزاد أهلها.. أما الآخرة فلها زاد غير هذا الزاد، هو التقوى.. فالمتقون وحدهم هم(13/129)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
الذين ستكون لهم الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم.. أما من سواهم، فلا شىء لهم من هذا النعيم.. وليس لهم فى الآخرة إلا النار..
والجنة ونعيمها، لا يقوم متاع الدنيا كلها بلحظات قليلة منه، والنار وعذابها، لا يكفى مال الدنيا كلها لدفع ساعة منه..
الآيات: (36- 44) [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» ..(13/130)
عشا عن الشيء يعشو، عشوا: فعل فعل الأعشى، وهو كليل البصر..
والعشو عن ذكر الرحمن، الإعراض عنه، مع قيام الحجج والبراهين بين يديه، كما يعشو بعض الناس فى ضوء النهار لآفة تعرض لأبصارهم..
فالذى يعرض عن ذكر الرحمن هنا، هو من قامت بين يديه الدلائل، والحجج على صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.. فهذا المعرض عن ذكر الله، يقيّض الله له شيطانا، أي يسوق ويهيىء له شيطانا «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» أي ملازم له، مسلط عليه، يقوده إلى حيث يشاء.. فهو شيطان مع الشيطان حيث يكون..
وفى اختصاص صفة الرحمن بالذكر هنا من بين صفات الله سبحانه وتعالى- تذكير بهذه الرحمة المنزلة من الرحمن، وهى القرآن، وهى التي يعرض عنها أصحاب القلوب المريضة، فيتسلط عليهم الشيطان، ويملك أمرهم.. وإنها لمفارقة بعيدة أن يرى الإنسان يد الرحمن الرحيم تمتد إليه بالرحمة، ثم ينظر فيرى يد الشيطان الرجيم تمتد إليه بالبلاء والشقاء.. ثم يكون له- مع هذا- موقف للنظر والاختيار.. ثم يكون فى الناس من يمد يده إلى الشيطان مبايعا على أن يصحبه إلى حيث ما يرى رأى العين من شقاء وبلاء!.
قوله تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» ..
الضمير فى «إِنَّهُمْ» للشياطين، أي وإن الشياطين ليصدون المشركين عن سبيل الله، ويدفعون بهم إلى طرق الغواية والضلال، ويزينونها لهم حتى ليحسبون أنهم مهتدون.(13/131)
فقوله تعالى: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» جملة حالية، تكشف عن الحال الشعورية التي يكون عليها المشركون وهم يركبون طرق الضلال..
فهم يساقون إلى الضلال وقد خيل إليهم أنهم قائمون على الهدى، مستمسكون بالعروة الوثقى!.
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ» ..
حتى: حرف غاية، لما تضمنه قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» - أي أن الشيطان يظل فى هذه الحياة قرينا لصاحبه هذا الذي لزمه، وأمسك بزمامه- إلى أن يجىء يوم الحساب والجزاء.. وهنا يتخلى الشيطان عن صاحبه، ويتخلى صاحبه عنه، ويتولى كلّ منهما رجم صاحبه بكل منكر، وقذفه بكل تهمة.. وفى هذا يقول الله تعالى، عن الكافرين أصحاب الشياطين: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» (29: فصلت) ويقول سبحانه عن الشيطان: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (22: إبراهيم) ويقول سبحانه وتعالى عن إخوان السوء، ورفاق الضلال:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) ..
وقوله تعالى: «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» - هو بيان لما(13/132)
فى نفس هذا الضال الذي عشى عن ذكر الرحمن، وأصبح من قرناء الشيطان- من ضيق بصاحبه، ومن حسرة وندم على تلك الصلة التي كانت بينهما، والتي أوقعته فيما هو فيه اليوم من بلاء وعذاب.. ولهذا فهو يتمنى أن لو لم يجمعهما فلك، وأن لو كان كلّ منهما فى عالم غير العالم الذي يعيش فيه صاحبه..
فقوله تعالى: «بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» - إشارة إلى استحالة الالتقاء بينهما، كما يستحيل التقاء مشرق الشمس شتاء بمشرقها صيفا.. مثلا..
وأما قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» - فهو اعتراض بين الآيتين، يراد به الإلفات إلى أن الحكم الذي يقع على الواحد من أتباع الشيطان، هو حكم عام يشمل أتباع الشياطين جميعا، وأنهم كلهم قرناء سوء، كلما كثرت أعدادهم زاد إغواؤهم، وإضلال بعضهم بعضا، حيث تشتد داعية الإغراء والإغواء، كلما كثرت الأعداد المتزاحمة على موارد الغواية والضلال.
قوله تعالى:
«وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» .
الخطاب هنا للفريقين.. التابعين والمتبوعين.. إنه لن ينفعهم اشتراكهم جميعا فى العذاب.. ولن يشفى ما بصدور الضالين من نقمة وحنق على من كانوا سببا فى إغوائهم وإضلالهم- أن يلقى هؤلاء المغوون ما يلقون من عذاب وبلاء.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان التابعين، وهم يطلبون مزيدا من العذاب لمن كانوا سببا فى فتنتهم وبلائهم: «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» فيجيبهم سبحانه بقوله:(13/133)
«قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ» (38: الأعراف) ويقول سبحانه على لسان أئمة الكفر، ودعاة الضلال، وهم يردّون على أتباعهم الذين يتمنون لهم عذابا فوق العذاب: «إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» (48: غافر) .
فالمراد بقوله تعالى: «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ» ليس نفى مجرد النفع، وإنما المراد به النفع الذي يخلصهم من هذا العذاب، ويخرجهم من هذا البلاء.. إذ لا شك أن فى رؤية التابعين مشاركة سادتهم لهم فى العذاب، بعض العزاء لهم، وإن كان هذا لا يخفف من العذاب الذي هم فيه شيئا.
قوله تعالى:
«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
الاستفهام هنا يراد به النفي.. أي إنك أيها النبىّ لن تسمع الصمّ، ولن تهدى العمى، ولن تنقذ من كان فى ضلال مبين..
وفى هذا عزاء للنبىّ الكريم عن مصابه فى هؤلاء الضالين المفسدين من قومه.. الذين ركبوا رءوسهم، ومضوا يتخبطون فى طرق الغواية والضلال، غير ملتفتين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى النجاة، ويرفع لهم بين يديه نورا كاشفا من نور الله..
وفى هذا أيضا تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون.. فليتركهم النبىّ مع قرنائهم هؤلاء، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يبعث ليسمع الصمّ أو يهدى العمى..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (81: النمل) .(13/134)
قوله تعالى:
«فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» .
أي أن هؤلاء الصمّ، العمى، الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة- هؤلاء هم واقعون تحت بأس الله، مأخوذون بعذابه.. فى الدنيا وفى الآخرة..
ففى قوله تعالى: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» - إشارة إلى أنهم لن يفلتوا من قبضة الله، ولن يخلصوا من العقاب الراصد لهم، سواء أكان ذلك فى حياة النبىّ أو بعد موته.. فإنه إن ذهب الله سبحانه بالنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- ورفعه تعالى إليه، فإن انتقام الله سبحانه واقع بهم، وليس على النبىّ أن يشهد هذا الانتقام، وإنما حسبه أن الله سبحانه آخذ له بحقه من هؤلاء الذين ظلموه، وبغوا عليه..
وقوله تعالى: «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» إشارة أخرى إلى ما قد يحل بالمشركين من انتقام الله فى الدنيا، مما توعدهم الله به، ومما يراه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فيهم، وذلك بما كان من قتل رءوس المشركين يوم بدر، ومن خزيهم يوم الخندق، ثم ذلّتهم وانكسارهم يوم الفتح.. فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شىء، غالب على أمره.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
قوله تعالى:
«فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
هو تعقيب على ما توعد الله سبحانه وتعالى به المشركين، من انتقام على(13/135)
تكذيبهم للرسول، واستهزائهم به، واستكثارهم عليه أن يكون مبعوث الله إليهم، دون سادتهم وأشرافهم.
وفى هذا التعقيب دعوة من الله سبحانه إلى النبي الكريم ألّا يحفل بهؤلاء المشركين، وألا يفتّ ذلك من عزمه، وألا يقف به ذلك عن المضىّ فى سبيله، مستمسكا بالذي أوحى إليه من ربه.. وفى هذا يقول له الله تعالى:
«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» (10: المزمل) . ويقول له سبحانه: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (48: الأحزاب) .
وفى قوله تعالى: «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» تحريض للنبىّ، وتثبيت لقلبه.. ليمضى فى طريقه، مع كتاب الله الذي بين يديه.. فإنه به على صراط مستقيم.. صراط الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض.. ومن كان على هذا الصراط فهو على طريق النجاة، والفلاح.. إنه على نور من ربه..
«وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) .
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» هو تحريض كذلك، وشدّ لعزم النبىّ على الاستمساك بهذا الكتاب الذي بين يديه، فإن فيه ذكرا للنبىّ، ولقومه، وتمجيدا له ولهم على مرّ الأزمان.. إذ كان القرآن بلسان النبىّ ولسان قومه، وكان الرسول المبلغ لرسالة القرآن عربيا من هؤلاء العرب.. وإنه مادام للقرآن ذكر، ولرسالة القرآن ذاكرون- وهذا ما قدر الله له أن يكون إلى آخر الزمان- فإن ذكر الرسول باق، وذكر قومه باق كذلك.. فما آمن مؤمن بالله، ولا(13/136)
دان ذو دين بالإسلام، إلا كان إيمانه برسول الله، وبكتاب الله، من تمام إيمانه بالله.. وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى على النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، إذ رفع فى العالمين ذكره، وأعلى فى المصطفين من عباده منزلته، كما يقول سبحانه: «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» (4: الانشراح) ..
كما أنه إحسان عظيم، ونعمة سابغة على الأمة العربية، التي اختارها الله سبحانه وتعالى، لتكون الأفق الذي تطلع فيه شمس الهداية المرسلة إلى العالمين، وليكون لسانها اللسان الذي ينقل إلى الناس هذا الهدى المرسل إليهم من ربهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (3: الزخرف) وقوله تعالى: «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» .. إلفات إلى هذه النعمة العظيمة التي امتنّ الله بها على الأمة العربية، إذ اختارها لحمل هذه الأمانة العظيمة..
وإنها لمسئولة عن حفظ هذه الأمانة، وعن حراستها من كل عاد يعد وعليها، كما أنها مسئولة عن أداء هذه الأمانة إلى أهلها، وإزاحة المعوقات والعلل من طريقها، وإلا كان الحساب العسير على أي تقصير أو تفريط يقع من أولئك الذين حملوا هذه الأمانة.. أفرادا وجماعات.
إن الدعوة إلى الإسلام، هى مسئولية هذه الأمة التي جاءت شريعة الإسلام بلسانها.. وإنه لشرف عظيم لهذه الأمة، يكسو أفرادها وجماعاتها على مدى الأجيال، أثواب العزّة والفخار..
ولهذا الشرف العظيم ثمن عظيم، يؤديه كل من يريد أن يتحلى بهذا الشرف، بما يبذل من جهد، ومال، وجهاد فى سبيل الله، وتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن دين الله، وكتاب الله..(13/137)
قوله تعالى:
«وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة أشارت إلى هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على الأمة العربية، بأن جعل خاتم الرسل منها، وجعل خاتم الرسالات دينها وشريعتها، وجعل لها القوامة على هذا الدين، وتلك الشريعة.. وهذا من شأنه أن يثير فى نفوس العرب حمية وغيرة على هذا الدين واجتماعا على نصرته والدعوة له، لا أن يكون منهم العدوّ الراصد له، المتربص به، الخارج على طريقه..!!
فقوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» - إلفات إلى هؤلاء المشركين الذين يعبدون ما يعبدون من دون الله، من أوثان، وكواكب، وملائكة، وإلى أن ما هم عليه من هذا المعتقدات ليس من دين الله فى شىء.. وأن دين الله هو إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية المبرأة عن الشريك، والصاحبة والولد.. فمن أىّ رسول من رسل الله تلقى المشركون هذا الدين الذي يدينون به؟ أكان من رسل الله من دعا إلى عبادة غير الله؟ وحاش لله أن يحمل رسول من رسل الله دعوة إلى عبادة غير الله!! إذ كيف يكون رسولا لله من يدعو لغير الله؟
والسؤال من النبىّ لرسل الله هنا، ليس سؤالا مباشرا، بحيث يسأل الرسل ويتلقى الجواب منهم.. وإنما هو سؤال بالنظر فيما قصّ الله سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسل، ومحامل رسالاتهم إلى أقوامهم.. فقد كانت دعوة كل رسول إلى قومه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .
فهذا نوح- عليه السلام- يقول لقومه: «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» (26: هود) .(13/138)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
وهذا هود- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (50: هود) .
وصالح- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (61: هود) ..
وإبراهيم- عليه السلام- يقول لأبيه وقومه: «ماذا تَعْبُدُونَ؟ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» (85 86: الصافات) .
وشعيب- عليه السلام- يهتف بقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (84: هود) .
وهكذا كانت دعوة الرسل إلى أقوامهم، تدور كلها حول تصحيح معتقدهم فى الله، وإقامة وجوههم إلى الله وحده لا شريك له..
وفى نظر الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى أخبار الرسل مع أقوامهم يجد أن دعوتهم قائمة على توحيد الله، وتحرير العقول من ضلالات الشرك به.
وكأنه- عليه الصلاة والسلام- بهذا، قد سأل الرسل، وتلقى الجواب منهم.
وليس الرسول- عليه الصلاة والسلام- فى حاجة إلى أن يسأل عن أمر هو عالم به، ولكن هذا السؤال منه، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يشاركوا فى هذا السؤال، وأن يتلقوا الجواب عليه، حتى يكون لهم من ذلك علم يصححون به معتقداتهم الفاسدة، التي جاء رسول الله- عليه الصلاة السلام- لعلاج ما بها من أدواء، كما جاء رسل الله جميعا بدواء تلك الأدواء.
الآيات: (46- 56) [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)(13/139)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
مناسبة هذه القصة هنا، هو هذا الشبه القريب بين فرعون، وبين فراعين قريش، الذين كانوا ينظرون إلى النبىّ من سماء عالية، من الغرور الكاذب، والوهم الخادع، فيكذّبون رسول الله، ويهزءون به، لا لشىء إلا لأنه ليس أكثرهم مالا، ولا أوسعهم غنى، وإنهم لينكرون أن يختار الله لرسالته من لا يختارونه هم للرياسة عليهم، والسيادة فيهم.. «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» (31: الزخرف) .
وقصة موسى مع فرعون، هنا، هى مرآة يرى المشركون على صفحتها(13/140)
وجوههم المنكرة فى شخص فرعون، وماركبه من غرور واستعلاء، حتى أورده ذلك وقومه موارد الهلاك..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» .. هو رجع لصدى هذه الضحكات الهازئة الساخرة التي كان المشركون يلقون بها النبي، كلما طلع عليهم بآية من آيات الله.. كما يقول الله تعالى فى آية تالية من هذه السورة: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» أي يضجون بالضحك الهازئ، الساخر.. وكما يقول سبحانه: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ؟ وَتَضْحَكُونَ؟ وَلا تَبْكُونَ؟» (59- 60: النجم) .
قوله تعالى:
«وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .
هو إشارة إلى ما كان بين يدى موسى من آيات عجبا، عرضها على فرعون وملائه، آية آية.. ليكون لهم فى هذا مزدجر، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا، وضلالا..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» - إشارة إلى الآثار التي كانت تحدثها هذه الآيات فى حياة القوم.. فكانت تنتقل بهم من سيىء إلى أسوأ.. كما يقول الله سبحانه: «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» (42: الأنعام) .
والمراد بالآيات هنا هى تلك الآيات التي أرسلها الله عليهم بالبلاء بعد البلاء..
كما يقول سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» (133: الأعراف) .
قوله تعالى:
«وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» .(13/141)
أي أنهم كانوا كلما نزل بهم البلاء، وأحاط بهم الكرب، جاءوا إلى موسى يسألونه أن يرفع عنهم هذا البلاء، على أن يؤمنوا بالله الذي يؤمن به هو، ويدعوهم إليه..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» - إشارة كاشفة عما فى نفوسهم من إصرار على الكفر، وإن نطقت ألسنتهم بالإيمان.. فهم لا يرون فى موسى إلا ساحرا كبيرا. وأنه قادر بسحره هذا على أن يسوق إليهم البلاء، وأن يمسكه إذا شاء.. فهم بهذه الصفة يتعاملون معه.. أما دعواه بأنه رسول من رب العالمين، فهذا ادعاء لم يصحّ عندهم، وإن قبلوه منه، فهو إلى أن ينكشف البلاء عنهم.. «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (134- 135: الأعراف) .
وفى قوله تعالى: «رَبَّكَ» - اعتراف ضمنى منهم، بأنهم على ما هم عليه من كفر بالله.. فهو رب موسى.. وليس ربّهم.. وهو الذي عهد إلى موسى بهذا السحر الذي بين يديه، وعلّمه إياه..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» .
أي فلما استجاب الله لموسى فيما طلبه من رفع البلاء عنهم، لم يستقيموا على العهد الذي عاهدوا موسى عليه، من الإيمان بالله، بعد رفع البلاء عنهم..
بل نكثوا العهد، وأمسكوا بما هم عليه من كفر..
قوله تعالى:
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ» .(13/142)
هو معطوف على قوله تعالى: «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» .. أي لم يكتفوا بنكث العهد، بعد أن رفع عنهم البلاء، الذي كان مشتملا عليهم، ولم يشكروا الله على العافية، بل ازدادوا كفرا وضلالا، فجمع فرعون قومه، وحشدهم بين يديه، ليعيد إليهم ثقتهم فيه، وإيمانهم به، بعد هذه الزلزلة العاتية التي أصابتهم من هذا البلاء الذي لم يجدوا من فرعون حيلة يحتال بها لدفعه، حتى اضطروا إلى الوقوف بين يدى موسى موقف التذلل والرجاء، طالبين إليه كشف الضر عنهم، فكان لهم ما طلبوا!! وهذا موقف من شأنه أن يذهب بهيبة فرعون، ويتحيّف سلطانه القائم فى قومه، فكان هذا التدبير الذي جاء عقب هذه التجربة التي دخل فيها القوم بيد موسى، ثم أخرجوا منها بيد موسى أيضا..
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ.. قالَ يا قَوْمِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.. وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» .
ومن أنكر على فرعون هذا الملك الذي له؟ إنه هو الذي ينكر على نفسه هذا الملك، بعد أن رأى كيف تهزه الأحداث، وتزلزله النكبات، وتكاد تبتلعه الأمواج المضطربة، وهو لا يملك لذلك دفعا!! فأين سلطانه؟ وأين جبروته؟ لقد تعرّى من كل شىء، وأصبح فى هذه المحنة نبتة هزيلة، تعصف بها الرياح فيما تعصف به من نبات وأعشاب! إنه يلوذ بموسى عدوّه، طالبا أن يمد إليه يده ليدفع عنه هذا البلاء الذي نزل به..
إن فرعون هنا يفكر بصوت عال- كما يقولون- فهو بهذا الحديث إلى قومه، يكشف عما يشعر به من ضياع لسلطانه، وذهاب لهيبته. وهو بهذا الحديث يتحسس وجوده الذي ذهب، وسلطانه الذي ضاع.. تماما كما يفعل من صحا من حلم مزعج، رأى فيه أنه سقط من قمة جبل فتحطم، وتبدّد(13/143)
أشلاء، إنّه ليتحسس جسده ليرى إن كان حيّا أو هو فى عالم الأموات، وإن كان هو فى يقظة أو فى حلم!.
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تُبْصِرُونَ» طلب من فرعون لمزيد من الصفعات على وجهه، ليتأكد له أنه موجود على قيد الحياة، وأنه لا يزال قائما على كرسى الملك.. وإن من شك فى ذلك فلينظر.. فها هو ذا فرعون.. وها هو ذا عرش فرعون.. وها هو ذا قائم على كرسى مملكته!! إنه الغريق الذي احتواه اليمّ، وقد بئس الذي ينظرون إليه من نجاته،. وهو يهتف بهم: أنا هنا.. ما زلت حيّا.. فلا تهيلوا التراب علىّ!!.
قوله تعالى:
«أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» ..
أم هنا للإضراب على تلك المشاعر التي يراها فرعون تتحرك فى صدور قومه، من استخفاف به، وإكبار لموسى.. فهو يقول لهم: لا تظنوا هذه الظنون بموسى، ولا تجعلوه معى على كفة ميزان.. إنه ليس مثلى، ولا خيرا منّى.. بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، لا ملك معه، ولا سلطان له، ولا منطق مستقيم على لسانه..
ومن قال من القوم إن موسى خير منه؟.
إن فرعون نفسه هو الذي يقول هذا، وإنه ليرى موسى، وقد نازعه سلطانه، بل وانتزعه منه.. وإن فرعون لينزل من سمائه العالية، ويرضى أن يكون هو وموسى على كفتى ميزان.. على أن تكون كفته أرجح من كفة موسى.. أنا خير منه!!.
لقد نفذ القرآن الكريم بهذه الكلمات القليلة، إلى أغوار النفس الإنسانية(13/144)
ورصد حركاتها وسكناتها، وكشف عما يندس فى مساربها من خواطر وتصورات، وما يزدحم فى أعماقها من رؤى وخيالات..
وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، يطالع من ينظر فيه متأملا، آيات بينات، تشهد بأن هذا القرآن هو من كلام رب العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد..
قوله تعالى:
«فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» .
إن فرعون إذ يجلس على كرسى عرشه، فزعا مضطربا، ليرى- بلمح الخاطر- يد موسى تكاد تمتد إليه وتنتزعه من هذا العرش، ثم يرى هذه اليد عطلا من كل حلىّ، على حين يرى يديه هو قد حليتا بأساور من ذهب، مما يدل على أنه الملك الجدير بالجلوس على هذا العرش- وهنا يجدها فرعون فرصة ليضع فى كفة ميزانه ثقلا جديدا تثقل به كفته، على حين تخف كفة موسى..
فيقول: «أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» .. ثم أنا خير من هذا الذي لم تحلّ يده بحلية من ذهب، شأن الملوك وأصحاب السلطان.. فلو أن هذا الإنسان كان رسولا من عند الله حقّا لما ضنّ عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية، ذات بأس، وذات سلطان! فإن لم يكن أهلا لأن ينال من ربه هذه المكرمة، أفلا جاء معه ملك أو ملائكة من السماء، يشهدون له أنه رسول من عند الله؟ فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فبأى وجه يكون لموسى مقام بيننا ومكانة فينا؟.
واقتران الملائكة: هو اتصالهم ومرافقتهم لموسى.(13/145)
قوله تعالى:
«فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» .
أي أن فرعون استخف بعقول قومه، واستصغر أحلامهم، فتحدث إليهم بهذا الحديث الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه عاقل.. ومع هذا فقد تلقاه القوم بالتسليم والطاعة، ولم يقم من بينهم قائم ينكر هذا القول المنكر، ويسفه هذا المنطق السفيه.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ..» أي كانوا على ما كان عليه فرعون من سفاهة، وجهل، فراجت عندهم هذه البضاعة الفاسدة! وهكذا يستغلظ الضلال، وتنتشر سحبه القائمة فى المواطن التي تقبل الباطل، وتستجيب له.. تماما كالبرك والمستنقعات، تتداعى عليها الهوامّ والحشرات، وتتوالد وتتكاثر فى أعداد لا تعدّ ولا تحصى..
وإنها ليست مسئولية داعية الضلال وحده، بل هى كذلك مسئولية..
الذين يستجيبون له، ولا ينكرون عليه المنكر الذي يدعوهم إليه.. ومن هنا كان الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر مسئولية منوطة بكل مجتمع إنسانىّ، فى أفراده وجماعاته، إذ كانت الجماعة أشبه بالجسد، فيما يعرض له من عوارض العلل والآفات.. فأى عضو فى الجماعة، يعرض له عارض من عوارض الفساد، يهدد الجماعة كلها بتلك الآفة، التي إن لم تجد من يطبّ له منها، سرت عدواها فى المجتمع كله، وتهددت وجوده..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» .
وهكذا كانت عاقبة الجماعة كلها.. داعية الضلال، ومن ضلّ بضلاله..
لقد أخذهم الله جميعا بعذابه، فأغرقهم كما أغرق فرعون..(13/146)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أمهل هؤلاء الضالين، ومدّ لهم فى ضلالهم، حتى يكون لهم فسحة من الوقت، يراجعون فيها أنفسهم، ويعدّلون موقفهم المنحرف..
فلما لم يكن لهم فى هذا الإمهال، وفى تلك المطاولة، إلا الإمعان فى الضلال، والإسراف فى العناد- أخذهم الله بذنوبهم، ولم يكن لهم من دون الله من ولى ولا نصير.
فقوله تعالى: «آسَفُونا» أي أسخطونا عليهم.. والله سبحانه وتعالى «حليم» فلا يغضب الله إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا..
قوله تعالى:
«فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ» .
أي أن العذاب الذي أخذ به هؤلاء الضالون، المسرفون فى الضلال، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم، ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف..
الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)(13/147)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» .
يصدّون: أي يتصايحون، ويكثرون من الضجيج، شأن الجماعة يطلع عليها أمر على غير ما تتوقع، وهى فى مأزق حرج، فتتعلق بهذا الأمر الذي ترى فيه فرجا ومخرجا، فتصيح بصيحات الفرح المجنون، الذي تختلط فيه الأصوات، فلا يعرف الكلمات مدلول، وإن عرف للإشارة والحركات مفهوم، يدل على الفرحة والابتهاج.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قصة موسى مع فرعون انتهت بتلك النهاية التي كانت مثلا فيما تنتهى إليه طريق الضالين، المكذبين بآيات الله وبرسل الله.. وإن فى هذا المثل لعبرة لمعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفى عيسى بن مريم مثل بارز، لمن يتعقل الأمثال، وينتفع بها..(13/148)
ففى ميلاده هذا الميلاد العجيب، من غير أب- مثل شاهد على قدرة الله، وعلى أنه سبحانه يخلق ما يشاء، على غير مثال سبق من تلك المخلوقات، التي تجرى على طريق الأسباب الظاهرة لنا.. فالله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات جميعا..
وفى هذا الميلاد العجيب، الذي يبدو لنا من خلق عيسى عليه السلام من غير أب، إشارة دالة على أكثر من أمر..
فأولا: أن صفة هذا الميلاد الذي يكاد ينفرد به عيسى من بين بنى الإنسان لا يصحّ أن يكون داعية لبعض الناس إلى عبادته، وإلى رفعه عن مقام المخلوقين من مخلوقات الله.. فما هو إلا عبد من عباد الله، وخلق من خلقه.. وأنه إذا كان قد ولد من غير أب، فالإنسان- أصلا- خلق من غير أب وأم..
«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59 آل عمران) فعيسى وآدم عند الله على سواء.. كلاهما مخلوق لله..
سواء منهما من خلق ابتداء من غير أب ولا أم، أو من خلق من أمّ دون أب..
ومن هنا، فلا يكون لأولئك الذين يعبدون عيسى، ويجعلون له نسبة خاصة بالله- لا يكون لهم حجة يتخذونها من ميلاده الذي جاء على تلك الصفة..
وأنه إذا كانت لهم حجة، فهى من واردات الأوهام والضلالات، كتلك الحجج التي يقيمها عبّاد الأحجار والأصنام والكواكب، والملائكة على معبوداتهم.. فالذى يعبد الحجر لا يعدم أن يجد له منطقا يعبده عليه، تماما كالذى يعبد الشمس، أو القمر، أو الملائكة، أو الجن.. فكل(13/149)
معبود من تلك المعبودات له عند من يعبده وجه يعبده عليه، ومنطق يتعامل به معه..
وثانيا: أن ميلاد عيسى على غير الأسلوب الذي ولد عليه سائر الناس، دليل على قدرة الله التي لا تحكمها الأسباب.. وأن الله سبحانه قادر على كل شىء..
وأنه سبحانه بهذه القدرة قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، وأن يحيى هذه الأجساد بعد أن أبلاها البلى، وذهب التراب بمعالمها..
وفى قوله تعالى: «ابْنُ مَرْيَمَ» دون ذكر عيسى باسمه، أو لقبه «المسيح» - فى هذا إشارة إلى أنه ابن امرأة، هى مولود من مواليد الإنسانية.. فهو- أيّا كان ميلاده- ثمرة من شجرة الإنسانية، موصول نسبه بنسبها.. أيّا كان لون هذه الثمرة، أو طعمها!!.
وفى قوله تعالى: «إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» - إشارة إلى هذا اللغط والصخب، الذي أثاره المشركون عند ضرب هذا المثل فى تشبيه خلق عيسى بخلق آدم، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59: آل عمران) .. فقد انتهزها المشركون فرصة يشغبون بها على النبي، ويأخذون منها الحجة عليه من لسانه، بهذا المثل الذي ضربه..
فهو سبحانه يقول لهم: إن عيسى بشر مثل سائر البشر، وإنه مولود من الإناء الذي يولد منه كل إنسان، وهو رحم الأم.. وهم- أي المشركون- يقولون للنبى: هذا عيسى، هو بشر- كما تقول- وقد عبده من هم أهل كتاب سماوى، ولا بد أن تكون هذه العبادة عن دعوة من الله لهم- وإذن فعبادة غير الله(13/150)
جائرة عند الله.. ونحن إنما نعبد الملائكة الذين هم بنات الله.. والذين نتمثلهم فى هذه الأصنام التي نسميها بأسمائهم، كهبل، واللّات، والعزّى، ومناة.. فأىّ خير؟ آلهتنا تلك التي هى بنات الله؟ أم المسيح الذي هو ابن مريم؟ وإذا كان الله قد رضى لأهل الكتاب أن يعبدوا ابن امرأة، أفلا يرضى الله لنا أن نعبد الملائكة.. وهن بنات الله؟.
هذا منطق القوم الذي استخرجوه من هذا المثل الذي ضرب لهم فى خلق عيسى.. وهو منطق قائم على المماحكة والسفسطة.. إنهم أمسكوا بمقدمات باطلة، ثم خلصوا منها إلى نتائج فاسدة..
فمن قال لهم إن عبادة الذين يعبدون المسيح قائمة على الحق؟ إنها كفر وشرك بالله، مثل كفرهم وشركهم، بما يعبدون من هذه الآلهة التي أقاموها بأيديهم، وسموها بأسماء الملائكة كما يقول الله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (19- 22 النجم) ..
إن عبادة الذين يعبدون المسيح قضية أخرى.. لم يكن من شأن الدعوة الإسلامية أن تعرض لها فى هذا الدور الذي تواجه فيه هؤلاء المشركين من قريش.. وتعلّق المشركين بهذه القضية فى هذا الوقت، ودعوة النبي إلى الدخول معهم فى مناقشتها والفصل فيها- هو مما يجعل المعركة بين النبي وبين المشركين تنتقل إلى ميدان آخر، يقفون هم فيه موقف المتفرجين..
وهذا من شأنه أن يغمد سيوف الحق التي تضرب فى وجوههم، من قبل أن توقع الهزيمة بهم.. ولهذا جاء القرآن الكريم مبطلا مكرهم هذا بقوله سبحانه:
«ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» .. أي ما ضربوا هذا(13/151)
المثل الذي يوقع الشبه بينهم وبين أتباع المسيح الذين يعبدونه، من جهة، وبين آلهتهم التي يعبدونها، وبين المسيح- من جهة أخرى- ما ضربوا هذا المثل إلا جدلا، أي لأجل الجدل الذي يصرف عن الحق، وبعمّى السبل عنه..
وهذا شأن القوم فى أكثر أمورهم.. فهم قوم خصمون.. أي شديد والجدل فى الخصومة.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» (97: مريم) أي شديد والدد والعناد فى الخصومة..
وفى قوله تعالى: «قَوْمُكَ» إشارة إلى قوم آخرين، لهم خصومة فى ابن مريم، وهم أتباع المسيح الذين يعبدونه..
قوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» ..
هذا هو مقطع القول فى المسيح، بلا جدل، ولا مماحكة.. ما هو إلا عبد من عباد الله، ورسول من رسله، أنعم الله عليه بالرسالة، وجعله معلما من معالم الهدى لبنى إسرائيل، بعد أن ماجوا فى الفتن، وغرقوا فى الضلال.. فإذا ضل فيه الضالون، وفتن به المفتتنون، فليس فى هذا حجة يحتج بها المشركون على النبي، ويتخذون منها ذريعة لتبرير منكرهم الذي هم فيه، من عبادة الملائكة الذين نصبوا لهم هذه التماثيل، وأطلقوا عليها ما أطلقوا من أسماء..
قوله تعالى:
«وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» .
هو ردّ على المشركين الذين ينظرون إلى الملائكة نظرة ترفعهم إلى مقام(13/152)
الألوهية.. بهذا النسب الذي ينسبونهم به إلى الله.. وهذا نظر فاسد.. فإنه مهما يكن مقام المخلوق فى المخلوقات، فإنه عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، يعبد الله ويسبح بحمده، شأنه فى هذا شأن كل مخلوق لله.. «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (172- 173: النساء) .
فهذا هو المسيح- على ما يرى الناس من عجيب مولده- وهؤلاء هم الملائكة- على ما يرى الناس من عظمة خلقهم، وقربهم من ربهم- إنهم جميعا عبيد لله: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (6: التحريم) ..
فكيف يعبد العبد مع السيد، ويؤلّه المخلوق مع الخالق! وقوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» - أي أنه لو شاء الله لجعل الناس على صورة الملائكة، خلقا وتكوينا، ولأقامهم على خلافة الأرض ملائكة لا بشرا.. فإن الذي خلق الملائكة جندا فى السماء قادر على أن يخلق ملائكة ليكونوا خلفاء فى الأرض.. وفى هذا تذكير للناس بهذه الخلافة التي لهم على هذه الأرض.. وأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها للناس دون الملائكة الذي طمعوا فيها، ورأوا أنهم أحق من البشر بها، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (30: البقرة) وفى هذا ما يرى منه هؤلاء المشركون الذين يعبدون الملائكة أنهم إنما يعبدون خلقا مثلهم، أرادوا مرّة أن يكون لهم ما للإنسان من هذا السلطان الذي له فى هذه الأرض..
فكيف يجوز فى عقل عاقل أن يعبد الإنسان من كان يطمع فى أن(13/153)
يكون فى منزلته؟ .. أليس ذلك تدلّيا وسقوطا؟ وبلى إنه التدلّى السفيه، والسقوط المهين! قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» .
هو تعقيب على قوله تعالى فى شأن عيسى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» .
وهذا التعقيب يجب أن يكون من كل عاقل على ما سمع من قول الله تبارك وتعالى فى شأن عيسى، وأنه عبد من عباد الله، وأنه إذا كان المشركون المعاندون قد تعلقوا بحبال الضلال من هذا المثل، واستخرجوا منه هذا المنطق الفاسد الذي تصابحوا به فرحا- فإن العاقل ليجد فى هذا المثل دليلا يستدلّ به على البعث، فيزداد إيمانا به، ويقينا بأن الساعة آتية لا ريب فيها..
أي «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» أي وانه، أي ابن مريم- فى الميلاد الذي ولد به- ليفيد علما بالساعة، أي بالبعث، حيث يتجلى فى خلقه على تلك الصورة بعض من مظاهر قدرة الله، وأن البعث الذي ينكره المشركون، استعظاما له، إذ يقولون: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» (78: يس) . ويقولون: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» (3: ق) - هذا البعث، هو أمر واقع تحت سلطان قدرة الله التي لا يعجزها شىء.. فمن نظر إلى ميلاد المسيح الذي جاء على غير تلك الأسباب التي يعرفها الناس، لم ينكر البعث وإعادة الحياة إلى من فى القبور، وإن جاء على غير ما يعرف الناس من أسباب.. وهذا هو العلم الذي يستدل به أولو النظر، على إمكان البعث، والحساب، والجزاء، إذا هم نظروا نظرا مستبصرا فى ميلاد المسيح على تلك الصورة الفريدة التي ولد بها..(13/154)
وقوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» ..
بمعنى أنه إذا كان ميلاد المسيح يفيد علما بإمكان البعث، ومجىء الساعة- فإنه يجب الا يمترى فيها الممترون، وألا يجادل فيها المجادلون، وألا يكذب بها المكذبون، وبين أيديهم الدلائل والشواهد عليها..
وقوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» معطوف على قوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» أي فدعوا المراء والجدل فى الساعة، والتكذيب بها، واتبعون فيما أدعوكم إليه أيها المشركون من الإيمان بالله، واليوم الآخر.. فهذا هو الصراط المستقيم، الذي يسلك بمن يأخذ طريقه عليه، إلى غايات الأمن، والسلامة، والنجاة..
قوله تعالى:
«وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» أي اتبعونى ولا تتبعوا ما يدعوكم إليه الشيطان، الذي يصدكم عن اتباع هذا الصراط المستقيم الذي أدعوكم إليه.. فأنا أدعوكم إلى الخير، وأرتاد لكم طريق النجاة، لأنى محبّ لكم، حريص على سلامتكم ونجاتكم.. أما الشيطان، فهو عدو ظاهر العداوة لكم، لا يدعوكم إلا إلى ما فيه بلاؤكم وهلاككم.
قوله تعالى:
«وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..(13/155)
أي أنه لما جاء عيسى إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات، بما أجرى الله سبحانه وتعالى على يديه من معجزات، وبما أجرى على لسانه من الكلم الطيب الحكيم، الذي يشفى سقم العقول، وآفات القلوب- لما جاء إلى بنى إسرائيل «قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» أي أن هذا الذي جئتكم به من آيات بينات، هو مما أمرنى الله سبحانه وتعالى أن أحمله إليكم من عنده لأطبّ لكم به من عللكم وأدوائكم العقيلة والروحية والجسدية.. «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» - أي ولأكشف لكم عن مواقع الحق فيما اختلفتم فيه من التوراة، وأحكامها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى آية أخرى على لسان المسيح: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (50: آل عمران) .
فالمسيح لم يجىء إلى بنى إسرائيل داعيا لهم أن يعبدوه من دون الله، كما ذهب إلى ذلك أهل الضلال ممن عبدوه، وجعلوه إلها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (116- 117: المائدة) .
قوله تعالى:
«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» أي أنه قد وقع الخلاف بين بنى إسرائيل فى شأن المسيح، وفى مفهوم(13/156)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
دعوته التي جاءهم بها، فكانوا فى ذلك أحزابا وشيعا.
ففريق منهم بهته وكذبه، ورماه وأمه بالفحش والزور من القول..
وقالوا إنه ابن زنى، وإن أمه جاءت به من سفاح! وفريق غالى فيه، ورفعه إلى مقام الألوهية.. فقالوا إنه الله تجسد فى مريم، وجاء على صورة المسيح! وهكذا هلك الفريقان فيه..
وبين هذين الفريقين فرق أخرى كثيرة، بعضها مبالغ، وبعضها مقتصد..
وفى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» وعيد لهذه الفرق المنحرفة جميعها.. فكلّ جائر، حائد عن طريق الحقّ فى المسيح، وفى المفهوم الذي فهموه عليه.. فهو ليس إلها ولا ابن إله، كما زعم أنصاره وأتباعه.. وهو ليس ابن زنى، ولا كذابا، ولا دجالا، كما رماه بذلك المفترون الضالون من اليهود.. وإنما هو كما قال الله سبحانه وتعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» .
الآيات: (66- 73) [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)(13/157)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
هو عودة بالخطاب إلى المشركين، بعد أن ضرب لهم المثل بالمسيح بن مريم، وبما كان منهم من شغب فى هذا المثل، وما كان من بنى إسرائيل من خلاف فى شأنه.. وفى هذا الخطاب الاستفهامى تهديد للمشركين بما سيحل بهم، إذا هم أمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. فماذا ينتظرون؟ إنه ليس وراء هذا الانتظار إلا أن يموتوا على شركهم، وإلا أن يجدوا أنفسهم فجأة، وعلى غير توقع منهم- أنهم بين يدى عذاب الله، الذي أعدّ للضالين المكذبين..
قوله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» الأخلاء: جمع خليل.. وهو الصاحب الذي اتصل الودّ بينه وبين صاحبه..
والمعنى: أنه فى يوم القيامة يشغل كل إنسان بأمر نفسه، لما يرى من أهوال هذا اليوم.. «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (34- 37: عبس) .. هذا شأن الناس جميعا..
أما أهل الضلال، وإخوان السوء، فإن لهم إلى هذا الشأن شأنا آخر.. وهو أنهم(13/158)
يترامون بالتهم، ويتقاذفون باللعنات.. كل منهم يلقى باللأئمة على صاحبه ويقول له أنت الذي دعوتنى إلى كذا وكذا من المعاصي، وأنت الذي زينت لى كذا وكذا من الشرور، كما يقول الله سبحانه على لسان المستضعفين، ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» .
(38: الأعراف) .
وكما يقول سبحانه عن أهل الضلال جميعا: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) ..
وقوله تعالى: «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» استثناء من هذا الحكم العام: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» .. فليس كل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.. وإنما هذا الحكم واقع على إخوان السوء، وأهل الضلال.. أما أهل الإيمان، والتقوى، المتحابون فى لله، المجتمعون على ذكره وطاعته- فهؤلاء يلقى بعضهم بعضا بالحمد والثناء، حيث كان بعضهم لبعض ناصحا وهاديا..
قوله تعالى:
«يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» ..
هو دعاء من رب كريم، لعباده المتقين، الذين استخلصهم سبحانه من بين هذه الجموع المتخاصمة الملاعنة من أهل الفسق والضلال..
فأهل المحشر جميعا بعضهم عدو لبعض إلا المتقين، الذين ينادون من قبل الرحمن بقوله تعالى: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» ..(13/159)
وفى نداء المتقين من بين هذا المعترك الصاحب من حولهم، وفى إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى: «يا عِبادِ» لطف من لطف الله بهم، حيث تسكن بهذا النداء الكريم نفوسهم المضطربة، وتطمئن قلوبهم الواجفة، لما يرون من تناهش أهل الضلال حولهم، وتراميهم بالعداوة والشنآن.. فإذا سمعوا هذا النداء الكريم بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أمنوا من خوف، واطمأنوا من فزع.. إنهم ناجون وحدهم من بين الركب الذي تتخبط به السفينة فى متلاطم الأمواج، وتوشك أن تهوى إلى القاع!.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ» .
هو وصف لهؤلاء العباد، الذين ناداهم الحق جل وعلا بقوله: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» .. فهم إنما استحقوا هذا التكريم من الله سبحانه وتعالى، بندائهم، وبإضافاتهم إلى ذاته جل وعلا..
لأنهم آمنوا بآيات الله.. وكانوا مسلمين..
وفى وصفهم بالإيمان، ثم وصفهم بأنهم كانوا مسلمين قبل أن يكونوا مؤمنين- فى هذا إشارة إلى أنهم قبل أن يؤمنوا على يد الرسل، ويصدّفوا بآيات الله التي فى أيديهم- كانوا مسلمين، أي على فطرتهم السليمة، التي لم تفسدها الأهواء الموروثة، لقل كانوا على السلامة والبراءة، حتى إذا التقوا برسل الله، ونظروا فيما معهم من آيات، استجابوا لدعوة الحق، وآمنوا بآيات الله.. أشبه بالأرض الطيبة، التي احتفظت بكل ما فيها خير، حين لم تجد الماء الذي يحيى مواتها، حتى إذا غائها الغيث، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.. وليس كذلك الأرض الخبيثة، فإنها حين(13/160)
لا تجد الماء، حيث تنضح بكل ما فيها من خبث، فتصبح منبتا للحسك والشوك، ومأوى للآفات والهوام..
وقوله تعالى:
«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» .
بعد أن يجتمع المؤمنون على هذا النداء الكريم من ربهم، يدعوهم الله سبحانه وتعالى إلى ضيافته فى الجنة.. «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» أي حيث تلقون المسرة والحبور مع أزواجكم اللاتي آمنّ معكم..
وبهذا يكمل أنسهم، ويتم نعيمهم..
قوله تعالى:
«يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
فى الانتقال من الخطاب فى قوله (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) إلى الغيبة، فى قوله تعالى: «يُطافُ عَلَيْهِمْ» بدلا من «يطاف عليكم» - فى هذا إلفات للأنظار إلى هذا النعيم الذي يساق إلى عباد الله المتقين، الذين استضافهم سبحانه وتعالى فى رحاب كرمه، وأنزلهم منازل رضوانه.. وفى هذا ما يبعث فى قلوب المكذبين والضالين، من حسرات، إلى ما هم فيه من آلام، وأحزان، كما أنه يضاعف من نعيم أهل هذا النعيم، حيث ينظرون إلى أنفسهم وإلى ما هم فيه من عافية، وحيث يلقى غيرهم صنوف البلاء والهوان..
وفى قوله تعالى: «بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ» - إشارة إلى الطعام(13/161)
وهو فى آنية الطعام، وهى الصحاف، جمع صحفة.. وإلى الشراب وهو فى آنية الشراب، وهى الأكواب: جمع كوب.. وهى جميعا من ذهب..
وقوله تعالى: «وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ» - إشارة أخرى إلى أن وراء هذه الأطعمة والأشربة التي يطاف على أهل الجنة بها- وراء هذه الأطعمة كل ما تشتهى الأنفس من طيبات.. فلا يطلب أحد شيئا إلا وجده حاضرا بين يديه، كما يقول الله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
(31: فصلت) ..
وقوله تعالى: «وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» - إشارة ثالثة إلى ما للأعين من متع خاصة، تجدها فيما ترى من آيات الله، وبديع صنعه فى هذه المنازل الكريمة، التي استضافهم الله سبحانه وتعالى فيها..
هذا، وقد تأول بعض المفسرين قوله تعالى: «وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» بأنه النظر إلى الله سبحانه وتعالى، حيث لا يكمل نعيم أهل الجنة إلا بالنظر إلى الله سبحانه، فيتجلى الله سبحانه وتعالى على أهل الجنة، فيكون لهم من ذلك ما لا يحيط به الوصف من رضا ورضوان..
هذا وقد أشرنا فى أكثر من موضع إلى أن هذه الأوصاف الحسية التي يذكرها القرآن لنعيم الجنة، من ألوان الطعام والشراب، وأنواع اللباس والحلىّ- كلها مما يساق إلى أهل الجنة، الذين كانوا يشتهون هذه الأمور فى الدنيا، ثم تقصر أيديهم عنها، أو كانوا يحرمون أنفسهم منها، ابتغاء مرضاة الله!.
فكان من تمام إكرامهم، أن يجدوا بين أيديهم كل ما كان من نعيم الدنيا، الذي فاتهم حظهم منه.. عجزا، أو استعلاء..(13/162)
قوله تعالى:
«وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ» .
الإشارة إلى الجنة هنا، هى دعوة لأهلها إلى أن يزفّوا إليها، وأن ينالوا منها ما يشاءون.. فقد أصبحت ملكا لهم، يتصرفون فيها تصرف المالك فيما ملك..
وقد عبّر القرآن عن الملك بالميراث، لأمرين:
أولا: أن الوارث لا يبخل على نفسه بالتمتع بكل ما ورث، حيث لا يشتد حرصه عليه، لأن ما ورثه قد جاء إليه من غير عناء.. وفى هذا دعوة إلى أهل الجنة أن ينالوا من هذا النعيم الموروث ما يشاءون، غير مضيقين على أنفسهم فى شىء..
وثانيا: أن هذه الجنة التي نزل المؤمنون رحابها، وورثوا نعيمها- هى فضل من فضل الله عليهم، وإحسان من إحسانه إليهم، وأن أعمالهم الصالحة التي عملوها فى الدنيا ليست هى الثمن الذي يكافىء هذا النعيم العظيم..
وأن هذه الأعمال لم تكن إلا سببا ووسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة الله..
كما يتوسل الوارث إلى مورثه بسبب من قرابة ونسب، فتكون هذه القرابة سببا لميراث ما يرث، وإن لم يكن له فيما ورثه من عمل..
أما قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» - فهو لتحقيق أمرين كذلك..
أولهما: الاحتفاء بالأعمال الصالحة، والإشارة بقدرها، وإلى أنها تثمر ثمرا طيبا.. وأن من يغرس فى مغارسها لا بد أن يجنى منها ثمرا طيبا مباركا..(13/163)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
وثانيهما: تكريم العاملين، وإطعامهم من ثمرة عملهم.. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا مغارسه، وتعهدوها بالعمل.. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له.. فإنه وإن كان طيبا كريما، يجد فيه المرء هناءته وسعادته- فإنه يقوم معه شعور فى النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه.. وفى هذا ما يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة..
وفى التعبير القرآنى: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ما يجعل هذه الجنة ونعيمها، ملكا، مصفّى من كل شائبة، معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم، أو يقطعه عنه.. فهى ميراث ينفق منه الإنسان كيف يشاء، وينال منه ما يريد.. وهى ثمرة عمل وجهد.. ومن حق العامل أن ينعم بما عمل!.
الآيات: (74- 83) [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)(13/164)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» .
هو بيان لما يلقى أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء فى الآخرة، بعد هذا البيان الذي كشف عما للمؤمنين المتقين عند الله من جنات ونعيم.. فالناس فى الآخرة فريقان: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فريق يتلقى الكرامة والتكريم، وفريق يلقى الهوان والعذاب..
وفى التعبير عن أهل الضلال بالمجرمين، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم من عباد الله.. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به فى الآخرة بالخلود فى نار جهنم- إنما هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها فى دنياهم..
قوله تعالى:
«لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» .
هو صفة للعذاب الذي يخلد فيه المجرمون.. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا، ولا يفتر أو يضعف أبدا، بل هو متصل دائما، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء، وإن اختلف صورا وألوانا.
وقوله تعالى: «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم.. والإبلاس: هو الوجوم، والجمود، من شدة الحزن واليأس.. فهم أجسام قد تبلدت فيها العقول، وجمدت منها المشاعر، وذهلت النفوس..(13/165)
قوله تعالى:
«وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» .
أي أن هذا العذاب الذي هم فيه، لم يكن لظلم وقع عليهم، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب، الذي لا ينقطع أبدا، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا تحتمله السموات والأرض.. وكلا فإنهم لم يظلموا، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم، فأوردوها هذا المورد، وسعوا بها إلى هذا البلاء، فكفروا بالله، وحاربوا الخالق، وخرجوا بهذا على الولاء لله، والانقياد لرب العالمين، الذي انقاد له الوجود كله..
قوله تعالى:
«وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» .
مالك، هو الملك الموكّل بالنار من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقوم على أهل النار، كما يقوم السبحان على المسجونين..
وفى قولهم: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ما يكشف البلاء النازل بهم، كما يكشف اليأس الذي وقع فى نفوسهم من أن ينالوا من الله خيرا.. فهم لا يرجون الله فى هذا اليوم، ولا يطمعون فى رحمته، حتى إنهم لينادون مالكا:
«يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ولم يقولوا «ليقض علينا ربنا» - إنهم على يأس من أن ينسبوا إلى الله، وأن يقبل الله منهم قولا.. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم فى آخرتهم. فلم يقدروا الله قدره.. ولم يروا سعة رحمته..
وقوله تعالى: «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» - هو ردّ مالك على ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم، وإهلاكهم، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب..
وقول مالك: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» .. أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن(13/166)
يقضى عليكم، لأن قوله: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» يدل على أنهم لن يموتوا، ولن يقضى عليهم، كما يدل فى نفس الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها.. إنهم ماكثون فيما هم فيه من عذاب أليم، وعلى تلك الحال التي هم عليها..
أما لو قيل لهم لن يقضى عليكم، أو لن تموتوا، فقد يظلون أحياء، ولكن فى غير صحبة هذا العذاب الذي معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب، وفى هذا القول متعلق لهم، وإن كان متعلقا كاذبا.. فجاء قوله تعالى: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!.
قوله تعالى:
«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ..
يكاد يجمع المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار، وأنه من مقول القول الذي ردّ به مالك عليهم، وأن جمع الضمير فى قوله «جِئْناكُمْ» لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم، فيما حملوا إلى رسل الله من آيات الله! وهذا مردود من وجهين:
فأولا: فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين للحق، بل هم مستعدون لقبوله، والانتفاع به..
وهذا لا يتفق مع أهل النار، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها للحق، مجانبا له، بل ومحاربا لكل من(13/167)
يتجه إليه.. ولو كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد، ولما لقى هذا المصير المشئوم!! وثانيا: أن قوله تعالى فى الآية التالية: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» .
- هو- وبإجماع المفسرين- خطاب إلى المشركين! وهذا الخطاب- كما ترى متصل بالكلام الذي سبقه، إذ هو إضراب عنه، وإنشاء لخطاب آخر معهم.. كما سنرى..
وعلى هذا، فإن قوله تعالى:
«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» - هو خطاب.
من الله سبحانه وتعالى للمشركين، على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه..
وفى هذا الخطاب ردّ على هؤلاء المشركين، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون، الذين نادوا مالكا قائلين: «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هؤلاء المشركون يدعون فى هذه اللحظة إلى تلك النار، وهم إذ يطلبون وجها للفرار منها، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم، ويدفعهم دفعا إلى جهنم: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» .. والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى هذا الوقت يقفون من الله هذا الموقف العنادي، فأبوا أن يستمعوا لآيات الله، وأن يستجيبوا لها..
أما الذين استجابوا للرسول، وآمنوا بالله، فقد كانوا قلة قليلة منهم..
ولهذا صح أن يخاطبوا بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ..
قوله تعالى:
«أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» .(13/168)
هو إضراب عن هذا الخطاب الذي وجه إليهم، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا، وأن ينقادوا للحق، ويذعنوا له.. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة، فقد كان من التدبير الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه، وهو أنهم قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال، والله سبحانه قد أحكم أمره، على أن يأخذ المجرمين يجرمهم.. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
قوله تعالى:
«أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» .
هو إضراب أيضا عن الخطاب الذي وجه إليهم فى قوله تعالى: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» .. حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم إلا استهزاء، واستخفافا، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء.. وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء- فأين هى أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد من الناس، فأين من يعلم ما يعملونه فى الخفاء، وما يضمرونه فى الصدور؟.
فجاء قوله تعالى: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟» ليكشف عن هذا الوسواس، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة، عن علم الله سبحانه وتعالى، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم، وهى أن كل شىء عملوه فى السرّ أو فى الجهر، يعلمه الله الذي لا تخفى عليه خافية.. بل وليس هذا فحسب، بل إن أعمالهم كلها- سرها وجهرها- مسجلة فى كتب يكتبها رسل من عند الله موكّلون بهم.. «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (18: ق)(13/169)
قوله تعالى:
«قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» .
هو بيان للموقف الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن لله ولدا، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى الله، ثم عبدوهم من دونه..
فلو أنه سلّم بهذا الأمر جدلا، وكان للرحمن ولد كما يزعمون- فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على الوالد، حتى يؤثر بالعبادة من دونه.. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا.. فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد.. فإذا وجد الولد بعد هذا، فليس له أن يزيل الوالد عن مكانه! وعلى هذا، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن لله ولدا، فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد.. ولهذا كان أن واجههم النبي بما ينبغى أن يكون عليه الأمر- على فرض التسليم بدعواهم الباطلة- وهو أن النبىّ أول العابدين لله، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به..!
وهذا الأسلوب فى محاجّة الخصم، هو أبلغ الأساليب فى إفجامه، وقطع حجته، وذلك بإقامة الحجة عليه من واقع إقراره واعترافه، عملا بالمثل القائل:
«من فمك أدينك» .
قوله تعالى:
«سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» .
هو تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون بالله، من نسبة الولد إليه، والذي سلم به جدلا، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه على الله.. أما الله سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.(13/170)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» ..
هو استصغار لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم أشبه بالأطفال، يخوضون ويلعبون، فلا معتبر لما يقولون.. لأنهم يرمون بالكلام على عواهنه، دون أن يكون لعقولهم نظر فيه، أو تقدير له، ولهذا فإن الأولى بالنبي- صلوات الله وسلامه عليه- أن ينصرف عنهم، وأن يدعهم لما هم فيه من لهو ولعب، حتى تقع بهم الواقعة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون..
الآيات: (84- 89) [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» .
هو بيان لقدرة الله، وجلاله، وعظمة ملكه، واقتدار سلطانه..(13/171)
فهو سبحانه، المتفرد بالألوهة فى السماء.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل السماء بالعبودية..
وهو سبحانه، المتفرد بالألوهة فى الأرض.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل الأرض بالولاء ويخصّونه بالعبادة.. وأنه إذا كان فى الناس من ضلّ وغوى، فانحرف عن هذا الوضع الذي يتخذه أهل السماء والأرض، فإنهم- مع هذا- مقهورون لله، واقعون تحت سلطانه.. طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وكما يقول جل شأنه، «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (15: الرعد) .
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى الصفتين الكريمتين اللتين يتجلّى الله سبحانه وتعالى بهما على ملكه فى السموات والأرض.. وهما:
الحكمة والعلم فكل ما خلق الله سبحانه، موزون بميزان الحكمة، مقدر بقدرها.. وكل ما فى السموات والأرض، واقع فى علم الله «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» (3: سبأ) وهكذا كل أمر- صغر أو كبر- إنما ملاكه الحكمة والعلم.. فبالحكمة يقوم الأمر، وبالعلم تضبط مصادره وموارده، ولهذا كان مما طلب به «يوسف» القيام على تدبير خزائن الأرض- أنه حفيظ عليم، فقال للملك: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ.. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (55: يوسف) والحفظ شعبة من شعب الحكمة!.
قوله تعالى:
«وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .(13/172)
هو تسبيح بحمد الله وتقديس لجلاله، بلسان كل مخلوق فى السموات والأرض.. فهو سبحانه- المتفرد بالألوهة فى السماء، والأرض.. ومن ثمّ كان كل من فى السموات والأرض لسان حمد لله، وتسبيح لله، وولاء لجلاله.
وفى قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» تذكير للناس- وهم يشهدون جلال الله، وعظمته فى هذا الملك العظيم الذي له وحده- تذكير لهم بيوم الحساب والجزاء، الذي لا يعلمه إلا هو.. وذلك يوم يرجعون إلى الله، ويجزى كل امرئ بما عمل..
قوله تعالى:
«وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» المراد بالمدعوّين من دون الله هنا، هم الملائكة، الذين يعبدهم المشركون فى هذه الأصنام التي سموها بأسماء أطلقوها على بعض الملائكة، مثل اللات، والعزى، ومناة، وغيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى» (27: النجم) وهؤلاء الملائكة الذين يعبدهم المشركون فى تلك الأصنام التي يتمثلونها فيهم- وبتلك الأسماء التي يسمونهم بها- هؤلاء الملائكة، لا يملكون الشفاعة لأحد، كما يتوهم هؤلاء المشركون إذ يقولون عنهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) ويقولون فيهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) .
وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» هو استثناء من عموم النفي الواقع على شفاعة الملائكة.. أي أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، فآمن بالله، ويرسل الله، وباليوم الآخر.. كما يقول الله تعالى: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» (78: الزخرف) .. فهؤلاء الذين كرهوا(13/173)
الحق وأنكروه ليس للملائكة شفاعة فيهم.. وهم أكثر المشركين.. أما من شهد بالحق من هؤلاء المشركين- وهم أقلية- وآمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله له، فإن للملائكة شفاعة فيهم، تنال العاصين منهم.. وتلك الشفاعة، هى الاستغفار لهم كما يقول الله تعالى: «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (7: غافر) . فهذا من شفاعة الملائكة للعصاة من المؤمنين.. وهى شفاعة مقبوله عند الله سبحانه وتعالى..
وقوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» يمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول «الذين» أي أن الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.. وهم يعلمون هذا.. أي يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.
ويمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول «مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» أي لا تشفع للملائكة إلا لمن شهد بالحق، أي شهادة قائمة على علم، يملأ القلب إيمانا واطمئنانا، لا مجرد شهادة ينطق بها اللسان دون أن تقع من القلب موقعا..
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» .
أي أن هؤلاء المشركين إذا سئلوا عمن خلقهم، لما وجدوا بين أيديهم إلا جوابا واحدا، وهو أن الله هو الذي خلقهم.. إنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الملائكة الذين يعبدونهم، هم الذين خلقوهم، وخلقوا من فى السموات والأرض..
بل إنهم ليعلمون أن الملائكة من خلق الله، وإن كانوا أبناء لله عندهم.
ومع هذا الإقرار منهم بخلق الله لهم، فإنهم لا يعبدون رب السموات والأرض، الذي خلقهم ويعبدون خلقا من خلقه.. وهذا منطق معكوس، لا يلتقى أوله مع آخره.. ولذا جاء قوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» منكرا على هؤلاء(13/174)
المشركين هذا الإفك والافتراء الذي جعلوا منه دينا يدينون به، ولا مستند له من منطق، حتى منطقهم هم الذي ينتزع قضاياه من الوهم والضلال..
قوله تعالى:
«وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» .
القيل: معناه القول.. والضمير المضاف إليه هذا القول، هو للنبى صلوات لله وسلامه عليه.. ومقول القول هو قوله تعالى: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» .
وهو مثل قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» (30: الفرقان) وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فى الربط بين هذه الآية وما قبلها.. كما اختلف القرّاء فى قراءة «وَقِيلِهِ» فقرىء بفتح اللام، وقرىء بكسرها، وقرىء بضمها.. ولكل قراءة تأويل تؤول عليه..
ولا نريد أن نعرض لهذه المقولات، فهى مبسوطة فى كتب التفاسير، يرجع إليها من شاء مزيدا من العلم، أو الرياضة الذهنية..
والذي نراه فى تأويل هذه الآية، ونرجو أن يكون بتوفيق الله صوابا، هو- والله اعلم- أن الواو فى قوله تعالى: «وَقِيلِهِ» .. هى بمعنى «مع» ..
وعلى هذا تكون الآية مرتبطة بقوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» .. فهذا الاستفهام ينكر عليهم أن يعبدوا غير الله، وأن ينصرفوا إلى غير خالفهم وخالق السموات والأرض، الذي شهدت له بذلك ألسنتهم.. ومع هذا فهم يعبدون غير الله، بشهادة الواقع الذي هم فيه، وبشهادة الرسول الذي خبر حالهم، وعرف الداء المتمكن منهم، فقال شاكيا إلى ربه: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ..»(13/175)
وتحرير المعنى، هو: إلى أين ينصرف هؤلاء المشركون، مع شركهم الذي هم فيه، ومع ما يرى الرسول من حالهم فى المستقبل، وأنهم ممن لا يرجى صلاحهم، أو يتوقّع شفاؤهم من هذا الداء الذي معهم؟.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .
- جاء رداّ على قول النبي: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» وداعيا له إلى الرفق بهم، ومقابلة جهلهم بالحلم، وسفاهتهم بالمغفرة والصفح.. وأنهم كلما قالوا فحشا وهجرا قال لهم سلاما ومغفرة، كما يقول سبحانه فى وصف عباد الرحمن: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (63: الفرقان) وكما يقول جل شأنه لنبيه الكريم: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199:
الأعراف) .
وفى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين ينتظر منهم خير كثير، وسيكون منهم بناة الإسلام، ومادة دولته التي ستظهر عما قريب.. وقد كان، فدخل كثير من هؤلاء المشركين فى دين الله، حتى أنه إذا جاء يوم الفتح لم يبق مشرك من قريش- خاصة- لم يدخل فى الإسلام.
وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي أنهم هم الآن على جهل يزيّن لهم هذا الباطل الذي هم فيه، ويغذيهم بهذا السفه الذي ترمى به أفواههم..
ولكنهم مع الزمن، ومع ما يأخذهم به الرسول الكريم من حلم، وصفح ومغفرة، سيعلمون بعد جهل، ويؤمنون بعد كفر.. ويصبحون جندا من جنود الله، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق فى آفاق الأرض.. وليس هذا من الوعيد، كما يذهب إلى ذلك جمهور المفسرين.. فإن السورة قد ختمت بهذا الختام الذي يدعو النبي إلى الصفح والمغفرة والمسالمة.. ولا يتفق مع هذا(13/176)
أن يلقى النبىّ المشركين بالصفح والمسالمة، ثم يلقاهم الله سبحانه بعد ذلك بالوعيد..
هذا، والله اعلم.
ونود هنا، بعد ختام هذه السورة أن نشير إلى أمر كان ملفتا للنظر..
فقد كثر فى هذه السورة ذكر الاسم الكريم «الرَّحْمنِ» الذي تكرر فى سبعة مواضع من السورة هى:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ... » الآية: (17) «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ... » الآية: (19) «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ... » الآية: (20) «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ... » الآية (33) «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ... » الآية: (36) «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ..» (45) .
«قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ... » الآية: (81) ولذكر «الرَّحْمنِ» موقعه فى الآية التي ذكر فيها، كما له حكمته التي تلتمس من هذا الذكر فى هذا الموضع.. فحيث ذكر «الرحمن» جلّ وعلا، كانت تجليات الرحمة، ورحمات الرحمن، مبسوطة لكل طالب، طالبة لكل(13/177)
معرض فمن فاته حظه من رحمة الله فى هذا المقام فهو الشقي المحروم من كل خير..
ولكن الذي نريد أن نقف بين يديه موقف النظر والاعتبار، هو هذا الإكثار من ذكر هذا الاسم الكريم فى تلك السورة..
وبادىء ذى بدء، فإن تكرار هذا الذكر للاسم الكريم «الرَّحْمنِ» هو تأكيد لتلك الدعوة التي يدعو إليها الرحمن عباده، ويبسط بها يده تبارك وتعالى إليهم بالرحمة، يلقاهم بها على كل طريق من طرق الغواية والضلال التي يركبونها.. فهذا الذكر نداءات متتابعة، إلى موارد هذه الرحمة الواسعة..
وهذا التكرار فى ذاته، هو رحمة من رحمة الله..
ثم إنه- من جهة أخرى- كانت السورة كلها معرضا لمواجهة المشركين بعبادتهم الملائكة، على أنهم أبناء الله، وأنهم كانوا يعرفون الله تعالى، ويعترفون بأنه خالق السموات والأرض- كما أنه كان من أكثر أسماء الله عندهم هو اسم «الرَّحْمنِ» ولهذا كان الحديث إليهم عن الله باسم (الرحمن) إشارة إلى أنه هو الإله لذى يدعون إلى عبادته، وأن اسمه «الرَّحْمنِ» وأنه ليس له ولد.. ولهذا أنكروا أن يكون الرحمن الذي يعرفونه، هو الرحمن الذي يدعوهم النبي إلى عبادته، كما يقول الله سبحانه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» (60: الفرقان) إن الرحمن فى تصورهم هو أب لقبيلة كبيرة، هى الملائكة!!.
ومن جهة ثالثة، فإن موقف هذه السورة من المشركين، هو موقف ملاطفة، وموادعة، على مسيرة لدعوة التي كثرت فيها القوارع التي يقرع بها(13/178)
القرآن عناد المشركين، ويسفّه أحلامهم، ويفضح جهلهم.. فكانت هذه السورة أشبه بالهدنة التي يراجع فيها المتحاربون موقفهم، وقد ينتهى الأمر إلى الصلح، والسلام.. ومن أجل هذا كثر فى السورة ذكر الرحمن الذي يذكّر بالرحمة التي ينبغى أن تكون بين النبي وأهله.. ولهذا دعى النبي إلى أن يصفح عنهم، وأن يلقاهم بالموادعة والسلام، وقد وعد بأنهم سيعلمون بعد الجهل، ويؤمنون بعد الكفر، فكان ختام السورة قوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ.. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..(13/179)
44- سورة الدخان
نزولها: مكية.. باتفاق.
عدد آياتها: تسع وخمسون.. آية..
عدد كلماتها: ثلاثمائة وست وأربعون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الزخرف» التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .. وقد قلنا إن هذا الختام يتّسق مع السورة التي كانت تمثّل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية فى مواجهة المشركين، وأن هذه المرحلة كانت أشبه بالهدنة بعد هذا الصراع الذي كان محتدما بين النبي والمشركين..
وقد بدئت سورة «الدخان» ، بذكر القرآن الكريم، وأنه نزل فى ليلة مباركة، يفرق فيها كل «أَمْرٍ حَكِيمٍ» وهذا البدء، هو تحريك لمسيرة الدعوة، بعد تلك الهدنة، ومن أول المسيرة يواجه المشركون بالقرآن الكريم، وما يحمل إليهم من خير وبركة، وأنه إذا كان قد أنذرهم وتوعدهم بالعذاب، فإنما ذلك لأنه حريص على هدايتهم، ضنين بهم على النار التي أعدت للكافرين..(13/180)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 16) [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» ..
الليلة المباركة هى ليلة القدر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ(13/181)
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»
.. وليلة القدر ليلة من ليالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، كما يقول الله سبحانه: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (185: البقرة) ..
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها ليلة النصف من شعبان. تلك الليلة التي اعتاد كثير من المسلمين الاحتفاء بها، وتلاوة بعض الأدعية المرتبة لها، باعتبارها الليلة التي بفرق فيها كل أمر حكيم، وتقدر فيها الأرزاق والأعمار..
وهذا بعيد عن مفهوم الآيات الكريمة التي تنطق صراحة بأن الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن هى ليلة القدر، وأن شهر رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن، وليس لشهر شعبان ولا ليلة النصف منه أي إشارة فى القرآن الكريم..
وعلى هذا، فإن ليلة النصف من شعبان، ليست من الليالى الإسلامية ذات الشأن الخاص، وإنما هى ليلة من ليالى الزمن، غير موسومة بسمة خاصة، تمتاز بها على غيرها من الليالى..
أما ليلة القدر، وهى الليلة التي أنزل فيها القرآن، فهى ليلة باركها الله سبحانه وتعالى، واصطفاها من بين الليالى، كما يصطفى من يشاء من عباده للنبوة.. فهى ليلة مباركة، لأنها كانت ظرفا حاويا للرحمة المنزلة من السماء إلى الأرض، وهى القرآن الكريم..
ومعنى: «أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» أي ابتدأ نزوله فى ليلة القدر، وابتداء النزول مؤذن بنزوله كله تباعا بعد ذلك..
وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» - إشارة إلى أن إنذار الناس،(13/182)
وتنبيهم من غفلتهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب- هو مما اقتضته رحمة الله بعباده.. والمراد بالإنذار ما تحمله كلمات الله وآياته من تحذير من عذابه، وتخويف بعقابه، وذلك ليستقيم الناس على الطريق السوىّ، وليرجعوا إلى الله، بعد أن تقطعت بهم السبل إليه..
وفى الاقتصار على الإنذار، مع أن رسالات السماء تحمل بين يديها- مع النذر التي تحملها إلى المشركين، والمكذبين- بشريات برضوان الله، وجنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين- فى هذا إشارة إلى أن رسالات السماء إنما تجىء وقد ركب الناس رءوسهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وجرفهم تيار الضلال إلى حيث بشرف بهم على الهلاك، فكان من شأن من يخفّ للنجدة، والإنقاذ، أن ينفخ نفخة النذير، وأن يصرخ فى هذا الموكب المتجه إلى حافة الهلاك: أن قفوا، وإلا فهو الهلاك وسوء المصير.. فإذا كان من هؤلاء الضالين استماع لهذا النذير، واستجابة لدعوته- كان للحديث عن الحياة الجديدة التي يحياها الناس مع الايمان بالله والاستقامة على طريق الحق، وما وراء هذه الحياة من نعيم مقيم فى جنات عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين- كان لهذا الحديث آذان تسمع، وقلوب تفقه، وصدور تنشرح، ونفوس تتهيأ للبذل والتضحية فى سبيل هذا المعتقد الذي اعتقدته، واطمأنت إليه..
هذا، ومن مبادئ الشريعة: أنّ دفع المضار مقدم على جلب المصالح.
وعلى هذا فالإنذار من الخطر هو المطلوب أولا.. ثم يكون الاتجاه بعد هذا إلى جلب المنافع..
قوله تعالى:
«فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» .(13/183)
فرق الأمر: قطعه، والفصل فيه.. ومنه الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل..
والمعنى: أنه فى هذه الليلة المباركة يقضى ويفصل كل أمر حكيم، أي محكم، لا ينقض، ولا يبدل..
والمراد بالأمر الحكيم هنا، هو القرآن الكريم، الذي ابتدأ نزوله فى ليلة القدر، وسمّى حكيما، لأنه قائم على الحكمة الإلهية، مقدر بقدرها، ولأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ..»
(64: يونس) .
وما يضاف إلى هذه الليلة المباركة، من البركة، ومن القضاء بكل أمر حكيم فيها، هو خاص بهذا الكوكب الأرضى، وبالإنسان الذي يقوم على خلافة الله فيه، حيث لكل عالم نظامه الزمنى، وأوقاته المباركة..
وقوله تعالى: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» منصوب على الاختصاص، أي أخص وأعنى بهذا الأمر الحكيم- أمرا صادرا من عندنا، هو القرآن الكريم..
وهنا سؤال، وهو كيف خصّ وصف الأمر بالحكمة هنا، مع أن كل أمر يقضى به الله هو موصوف بالحكمة من غير وصف؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن وصف الأمر بالحكمة ليس وصفا مخصصا له، وإنما هو وصف مؤكد للوصف القائم فى ذات الأمر ومبين له..
كما يقال فى وصف العسل مثلا بأنه حلو، وفى وصف المسك بأنه طيّب الريح.! ..(13/184)
وسؤال آخر.. وهو: كيف خصصت هذه الليلة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم؟ وهل يعنى هذا أنها الليلة التي يقضى فيها الله سبحانه وتعالى بما يقضى، ثم لا يكون له سبحانه قضاء فى غيرها؟ وكيف وهو سبحانه يقول: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ؟» (29: الرحمن) .
والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذه الليلة، كما قلنا، خاصة بالعالم الأرضى، وعلى هذا، فإن ما يقضى به فى هذه الليلة من عند الله يكون خاصا بهذا العالم، وبالمخلوقات، والكائنات الموجودة فيه.. وهذا يعنى أن مقدرات ما يجرى على هذا العالم الأرضى فى مدة عام مقبل يفرق، ويقضى به فى هذه الليلة إلى مثلها فى العام القادم.. وهذا الذي يقضى وإن كان قد قضى به أزلا، فإن القضاء به فى تلك الليلة معناه نقله من اللوح المحفوظ إلى جند الله من الملائكة الموكلين بإنفاذ ما قضى الله به..
وقد كان مما قضى الله سبحانه وتعالى فى تلك الليلة نزول القرآن، وبعثة الرسول الكريم، وذلك فى عام البعثة النبوية.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» ، مشيرا إلى أنه مما قضى الله به فى عباده أن يبعث فى هؤلاء الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وذلك ليقيم الحجة على عباده، وليأخذهم بذنوبهم إذا هم عصوا رسله وردوا الهدى الذي يحملونه من الله إليهم.. كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) وقوله تعالى:
«رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. تعليل لبيان الحكمة التي من أجلها يرسل الله سبحانه وتعالى الرسل إلى عباده.. فهو سبحانه إنما يرسلهم رحمة منه، وفضلا وإحسانا.. وإلا فإن مع كل إنسان رسولا يدعوه إلى(13/185)
الإيمان بالله، وهو عقله، الذي لو أحسن النظر به، ووجهه نحو الاتجاه الصحيح لعرف ربه، وآمن به.. ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، أنه لم يدعهم لعقولهم التي قد تضل وتزيغ، فبعث إلى هذه العقول رسولا من عنده، ينبه الغافل منها، ويوقظ النائم، ويهدى الضال الحائر.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (165: النساء) وفى وصف الله سبحانه وتعالى بأنه: «السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى إن هاتين الصفتين اللتين لله سبحانه، قد جعل منهما للإنسان ما يقابلهما، رحمة منه وفضلا وإحسانا..
فالإنسان من شأنه أن يسمع، وأن يكون سميعا، ومن شأنه أن يعلم وأن يكون عليما.. وبهذا يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، الذي أقامه الله سبحانه وتعالى فيه، خليفة له على الأرض..
وإن خير ما يسمعه الإنسان، من كلام، وخير ما يتعلم من علم، هو العلم المودع فى كتاب الله.. فمن كانت له أذنان فليسمع، ومن كان له قلب فليعقل!.
قوله تعالى:
«رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» .
هو بدل من قوله تعالى: «مِنْ رَبِّكَ» .. أي إنا أرسلناك رحمة من ربك، رب السموات والأرض وما بينهما..
وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» - استدعاء لهؤلاء المشركين(13/186)
الذين سئلوا من قبل فى آخر السورة السابقة: «الزخرف» : «مَنْ خَلَقَهُمْ» فقالوا: «اللَّهُ» . (الآية 87) - دعوة لهم أن يصححوا قولهم هذا الذي أنطقهم الواقع به، من غير أن يكون له رصيد من وعى، وإدراك، ونظر فى ملكوت السموات والأرض.. ولهذا، فإن هذا القول لم يقع من أنفسهم موقع اليقين، أي المستيقن، المحقق، الذي تدعمه الأدلة والبراهين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» ؟ (20- 21: الذاريات) .
فالآية الكريمة دعوة إلى العلم الذي يقوم على النظر المتأمل، والعقل المتيقظ، والإدراك الفاقة.. فهذا العلم هو الذي يقيم فى كيان الإنسان يقينا بما علم، وعن هذا اليقين تتحرك نوازع الإنسان، وتتجه إرادته، وتمضى عزيمته، وفى صحبته شعلة من هذا العلم، تضىء له الطريق، وتكشف له معالم الحق والخير..
وفى قوله تعالى: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» - هو منطق المستيقن، الذي علم عن يقين، أن الله رب السموات والأرض وما بينهما.. فمن علم هذا واستيقنه، أسلمه هذا العلم إلى أن يعلم ويستيقن أن رب السموات والأرض وما بينهما، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وأنه سبحانه هو الذي يحيى ويميت، وأنه سبحانه رب الناس جميعا.. السابقين والحاضرين واللاحقين..
قوله تعالى:
«بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» ..
هو إضراب عن الحديث إلى هؤلاء المشركين، الذين دعوا ليسمعوا(13/187)
كلام الله، وليكونوا من السامعين- فلم يسمعوا، ولم يعقلوا.. فكان أن صرف الله سبحانه، النبىّ عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يقوم فيهم هذا المقام.. فهم فى شك يفسد عليهم كل أمر يتصل بالرسول، وما يتلوه عليهم..
وهم لهذا لا يستمعون إليه إلا استماع الأطفال الذي يشغلهم اللعب عن كل حديث فيه جدّ..
قوله تعالى:
«فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» ..
اختلف المفسرون فى هذا العذاب الذي يغشى الناس.. وأكثر المفسرين على أنه كان ضربا من العذاب أخذ الله به المشركين، استجابة لدعوة يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها على مضر، فقال: «اللهم اشدد وطأت ك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف «1» » وقد اشتد القحط وعم الجدب، حتى أكلوا الجيف والعلهز «2» . قالوا وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل صاحبه ولا يراه لكثرة الدخان.. ثم إنهم جاءوا إلى الرسول مستشفعين، فشفع لهم، وكشف الله الضر عنهم.. فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا..
__________
(1) يستشهد النحاة بهذا الحديث على أن جمع سنين- مفرد سنة- يعامل معاملة المفرد وأن نونه أصلية تظهر عليها حركات الإعراب، ولا تحذف عند الإضافة.
(2) العلهز: هو الصوف أو الوبر يغمس فى الدم.(13/188)
وقيل- وهو رأى قلة من المفسرين- إن هذا الدخان الذي يغشى الناس هو ما يطلع على الناس يوم القيامة من أهوالها ومرجفاتها..
والرأى الأول هو الذي نقول به، وذلك لأمرين:
أولهما: ما جاء بعد ذلك من قوله تعالى: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ..»
وعذاب الآخرة لا يكشف عن أهل النار ليختبر بهذا الكشف ما عندهم من وفاء أو نكث بما عاهدوا الله عليه، إن كشف الضر عنهم.. فالآخرة دار جزاء، وليست دار ابتلاء واختبار.. وهذا يعنى أن الكشف المراد هنا، هو كشف عذاب وقع بالقوم فى الحياة الدنيا..
وثانيهما: ما جاء بعد ذلك أيضا فى قوله تعالى: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى.. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» .. فهو وعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المشركين الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه، بأن يؤمنوا إذا كشف الضرّ عنهم.. فلما كشف عنهم الضرّ عادوا إلى ما نهوا عنه.
وهذا يعنى أن الفعل الذي وقع الوعيد عليه كان فى الدنيا، لأنه لا وعيد على ما يقع من الناس فى الآخرة..
وقد يسأل سائل فيقول: كيف يقع عذاب على هؤلاء المشركين، وقد وعد الله سبحانه وتعالى النبي الكريم ألا يعذّب قومه وهو فيهم، كما يقول الله تعالى. «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»
(33: الأنفال) فكيف هذا؟.
والجواب- والله اعلم- أن هذا العذاب الذي لقيه المشركون من قحط أو قتل، ليس هو العذاب الذي كان يؤخذ به أقوام الرسل من قبل، والذي(13/189)
كان بلاء شاملا يستأصل القوم، ويأتى على كل شىء، فلا تبقى منهم باقية..
كما حلّ بقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط.. وإنما هذا العذاب الذي نزل بالمشركين، لم يكن إلا وجها من وجوه الحياة التي كانوا يتقلبون فيها.. فإذا نزل بهم قحط، فقد عرفوا هذا القحط من قبل وذاقوا العذاب منه.. وإن أصيبوا فى أنفسهم فى معركة، من المعارك كيوم بدر فما أكثر المعارك التي أريقت فيها دماؤهم وأزهقت أرواحهم.. ولكن الذي يجعل لهذا العذاب الذي ينزل بالمشركين طعما جديدا، هو أنه يأتى على يد النبىّ، بدعائه عليهم، وذلك فيما أصابهم من قحط، أو على يد أصحابه يوم بدر..
فهذا هو الذي يجعل لهذا العذاب حسابا خاصا عندهم، وأثرا مضاعفا فى نفوسهم.
هذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» (52: التوبة) .. فالنبىّ والمسلمون معه، إنما يتربص بهم، وينتظر أن يحلّ بهم عذاب من عند الله، وهو هذا القحط الذي حلّ بهم، أو أن يحلّ بهم عذاب بأيدى المؤمنين، وهو ما أصابهم على أيدى المسلمين من خزى وهو ان فى ميادين القتال، حتى لقد انتهى الأمر بدخول المسلمين عليهم، مكة، واستسلامهم للنبىّ، وإسلامهم لله رب العالمين..
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المشركين قد دخلوا جميعا فى الإسلام، ولم يمت منهم على الكفر إلا أعداد قليلة بالنسبة لمجموعهم، سواء من مات منهم فى ميدان القتال بأيدى المسلمين، أو من مات حتف أنفه.. وهذا من شأنه ألّا يوقع حكما عاما على هؤلاء المشركين بالعذاب الأليم يوم القيامة، وذلك لأنهم سيصبحون عما قليل فى عداد المؤمنين بالله.. وعلى هذا فإن(13/190)
ما يتهددهم به القرآن من عذاب، هو العذاب الدنيوي، الذي يرونه رأى العين، والذي يكون فيه عبرة وعظة، تفتح لهم الطريق إلى الإيمان بالله، كما يقول الله سبحانه عن غزوة بدر: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13: آل عمران) .
وقوله تعالى: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» .. هو استبعاد لأن يقع فى نفوس المشركين شىء من العبرة والتذكر من هذا الابتلاء الذي ابتلوا به من القحط، الذي كان آية على صدق النبىّ، وعلى صلته بربّه، إذ كان هذا القحط دعوة مستجابة له من الله، كما كان رفع هذا البلاء عنهم استجابة أخرى للنبىّ من الله سبحانه وتعالى.. فهو معجزة من معجزات النبىّ، المادية، بعد أن ملأ النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- الدنيا عليهم، بالمعجزة الكبرى، التي تطلع عليهم من آيات الله وكلماته..
فماذا تفعل هذه الآية فى نفوس تحدّت الرسول وما بين يديه من كتاب مبين، تنطق آياته وكلماته بالمعجزات التي لا تنتهى؟ لقد تولوا عنه، وأعرضوا عن الاستماع إليه، والنظر فيما بين يديه، واتهموه بالكذب والافتراء والجنون، وقالوا «مُعَلَّمٌ» أي علمه غيره، و «مَجْنُونٌ» يهذى بهذا الذي اختطفه من علم العلماء!! وفى وصف الرسول الكريم بأنه «مُبِينٌ» ، إشارة إلى القرآن الكريم الذي بين يديه، والذي فيه البيان المبين إلى الهدى ودين الحق، وأنه بهذا القرآن يقدم الحجة الدامغة، والسلطان المبين، كما يقول سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (44: النحل) .
وقوله تعالى: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ» .. هو حكم(13/191)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
كاشف عن حال هؤلاء المشركين مع تلك التجربة، وأنهم سينكثون هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه، لو أنه كشف عنهم العذاب..
وفى قوله تعالى: «إِنَّكُمْ عائِدُونَ» .. هو إشارة إلى أنهم كانوا أثناء تلك المحنة قد اتجهوا إلى الله، وأخذوا طريقهم إلى الإيمان به، فلما كشف الضرّ عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وانسحبوا من هذا الطريق الذي وضعوا أقدامهم عليه.. وهكذا شأن أهل الضلال، إذا مسّهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا كشف الضرّ عنهم تولوا عنه معرضين..
وفى هذا يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها، رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (22- 23: يونس) .
وقوله تعالى: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» أي إننا منتقمون منكم أيها الضالون الناكثون للعهد، وذلك يوم نبطش بكم البطشة الكبرى، وهذه البطشة الكبرى هى يوم بدر، حيث قتل من رءوس المشركين وسادتهم سبعون قتيلا، وأسر منهم سبعون مقاتلا..!
الآيات: (17- 33) [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)(13/192)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» قلنا فى أكثر من موضع، إن القرآن الكريم يجمع فى كثير من المواقف، بين مشركى قريش، وبين فرعون وآله، وذلك لما بين الفريقين من تشابه كبير فى الكبر، والاستعلاء والعناد، مع الجهل الذي يدفع بهذه القوى الغاشمة الجامحة، إلى حيث يلقون مصارعهم على يديها..
وإنه كما فتن قوم فرعون بأنفسهم، وبما زين لهم الجهل والغرور، فرأى فرعون فى نفسه أنه إله، ورأى الملأ من حوله أنهم أشباه آلهة- كذلك فتن المشركون من قريش بأنفسهم، ورأوا أنهم أكبر من أن يتلقوا شيئا من إنسان، ولو كان هذا الإنسان مرسلا من رب العالمين..(13/193)
وفى قوله تعالى: «وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» إشارة إلى موسى- عليه السلام- وأنه الرسول الكريم الذي جاء إلى فرعون وملائه..
وفى وصف موسى بالكرم، لما فى يديه من معجزات كثيرة، عاد على الناس خيرها، فعاشوا فى ظلها كما يعيش الناس فى ظل جناب كريم معطاء..
فقد كان بين يدى موسى من المعجزات: العصا، التي أخرج بها بنى إسرائيل من العذاب المهين، والتي فجر بها الماء من الحجر.. كما كان من معجزاته المنّ والسلوى، الذي كان طعام بنى إسرائيل إلى أن عافوه، وزهدت فيه نفوسهم الخبيثة..
وقد كان يمكن أن يكون لفرعون نصيب عظيم من هذا الخير الذي بين يدى موسى، لو أنه صدّقه، وآمن بالله..
قوله تعالى:
«أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» هو بيان لمضمون الرسالة التي حملها هذا الرسول الكريم إلى قوم فرعون، وهو أن يؤدّوا إليه عباد الله، أي يطلقوهم، ويرسلوهم معه إلى حيث يخرج بهم من هذا البلاء الذي هم فيه..
وفى التعبير عن بنى إسرائيل بقوله تعالى: «عِبادَ اللَّهِ» - إشارة إلى أنهم ليسوا عبيدا لفرعون، ولا لقوم فرعون، وإنما هم عبيد لله.. وهذا رسول الله يطلبهم لينقلوا من هذه العبودية للناس، إلى العبودية لله.
وفى التعبير عن إرسال بنى إسرائيل مع موسى بقوله تعالى: «أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» - إشارة إلى أنهم أمانة لله فى يد القوم، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الأمانة عند طلبها.. وهذا يعنى أن الضعيف أمانة فى يد القوى، وأن عليه أن يرعاه(13/194)
ويحفظه، وألّا يضيّع إنسانيته بالقهر والبغي، فيتحول فى يده إلى إنسان قد فقد وجوده.. إنسان قد مسخت إنسانيته فاستخذى وذلّ.. وهذا هو الضياع، الذي هو الموت بالحياة! وفى وصف موسى بالأمانة فى قوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» - إشارة أخرى إلى أنه سيحفظ أمانة الله فى عباده، إذا صاروا إلى يده، وألا يضيّعهم كما ضيعهم فرعون، بل إنه سيصلح ما أفسد فرعون منهم، ويطبّ لما رماهم به من داء اغتال كل معانى الإنسانية فيهم..
قوله تعالى:
«وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» هو من مضامين هذه الرسالة، ومن مقول القول الذي واجه به موسى القوم.. وهو أنه قد جاءهم بسلطان مبين، أي سلطان ظاهر، يعلو كل سلطان..
ومن كان هذا شأنه فلا يصحّ أن يلقاه القوم متعالين.. فإنه- وهو أعلى منهم سلطانا وأقوى قوّة- قد جاءهم طالبا راجيا، ولم يأتهم آمرا مستعليا..
وفى التعبير عن السلطان الذي يلقى به القوم- فى التعبير عن هذا بفعل المستقبل «آتِيكُمْ» - إشارة إلى أن هذا السلطان الذي معه لم يره القوم بعد، وأنهم إذا شاءوا أن يروه أراهم إياه..
وفى هذا يقول الله تعالى، فيما كان بين فرعون وموسى: «قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ! فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» (30- 33: الشعراء) فالسلطان المبين الذي جاء به موسى، هو عصاه، ويده، ولم يكن فرعون(13/195)
ومن معه يرون فى العصا واليد سلطانا.. فلما سألوا موسى أن يريهم هذا السلطان- ألقى عصاه، ونزع يده.. فكانتا آيتين من آيات الله!! قوله تعالى:
«وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» هو أيضا من مقول القول من موسى إلى فرعون وملائه. يقول لهم.. إنى مستعيذ بالله، ومستجير بربي وربكم أن تأخذكم العزة بالإثم، فتمتد أيديكم إلىّ بالأذى، أو أن تتطاول علىّ ألسنتكم بالفحش من القول، فترجمونى بقوارص الكلم، وبذيئه..
فالمراد بالرجم هنا، القذف بالكلمات البذيئة، من غير حساب..
وفى قوله: «وَرَبِّكُمْ» مع أنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم- إلزام لهم بالاعتراف برب موسى، وإن لم يقبلوه ربّا لهم.. فذلك هو الحق الذي يقال، سواء قبله القوم أم رفضوه..
وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» أي وإن لم تصدقونى، وتسلّموا بما جئتكم به، ودعوتكم إليه، فليكن الأمر بينى وبينكم على ما كان عليه من قبل، وهو أن تكفّوا عنى، وتدعونى وشأنى، بعد أن بلغتكم رسالة ربى..
قوله تعالى:
«فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» .(13/196)
أي دعا موسى ربه: أن هؤلاء قوم مجرمون، وأنهم قد استحقّوا بإجرامهم أن يلقوا جزاء المجرمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى فى موضع آخر: «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (88- 89 يونس) ..
وقوله تعالى: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» - هو جواب لنداء موسى ربّه، ودعائه إياه أن يأخذ هؤلاء المجرمين بجرمهم.. ولم يصرح القرآن الكريم بالجزاء الذي طلب موسى من ربه أن يجزى به القوم المجرمين، وإنما اقتصر على عرض القوم وهو فى تلبسهم بالكفر الذي هو الجريمة التي يدانون بها.. وفى هذا ما يشير إلى أن عقابهم على هذا الجرم أمر مفروغ منه، وأنه لا يحتاج إلى طلب، إذ كانت تلك الجريمة الشنيعة تنادى بالويل والهلاك لمن ألمّ بها..
ولهذا جاء قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» معطوفا بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب- على قوله تعالى: «فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» - وذلك مما يشعر بأن الدعاء واستجابة الدعاء، أمر واحد.. بمعنى أن الجريمة وعقابها مترابطان متلازمان.. فحيث كانت هذه الجريمة، كان العقاب مصاحبا وملازما لها..
وفى قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا» بذكر الليل مع أنّ السّرى، لا يكون إلا ليلا- فى هذا ما يشير إلى ما ينبغى أن يكون عليه موسى وقومه، من الحذر، وهم يأخذون طريقهم ليلا، فارّين هربا من وجه فرعون..(13/197)
فقد يكون السير ليلا فاضحا لأهله، إذا هم أحدثوا جلبة وضوضاء..
وأصل السّرى من السرّ، وسمى السير بالليل سرّى لأن الليل يكتم تحرك الأشياء، ويسترها عن الأعين..
وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» بيان للحكمة من السير ليلا، إذ أن هناك من يتربص بالقوم، ويتتبع آثارهم وأخبارهم..
قوله تعالى: «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» ..
الرهو: المستوي، المتسع، من كل شىء.
وهذا أمر لموسى من ربه، أن يترك البحر قائما فيه الطريق الذي أحدثه بعصاه.. لأنه سيطبق وشيكا على فرعون وجنوده، بعد أن يجاوزه موسى وقومه..
وسمى فرعون وقومه هنا جندا، لأنهم كانوا فى معركة مع موسى، وقد انتهت هذه المعركة، وكانوا من المفرقين..
والآيات هنا تختصر الأحداث، وتطويها طيّا، لأن تفصيل هذه الأحداث، قد جاء به القرآن فى مواضع أخرى، فكانت الإشارة إليها هنا مغنية عن الشرح والتفصيل.
قوله تعالى:
«كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ» .
هذا بيان لما خلّف هؤلاء الهالكون غرقا، فقد خلقوا وراءهم جنات مثمرة، وعيونا جارية، وزروعا مونقة، وحياة طيبة، ومعيشة راضية.. وهو(13/198)
شىء كثير أفاضه الله على القوم من فضله، فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا.. وها هم أولاء قد خلّفوه وراءهم، يعيش فيه غيرهم، وينعم به سواهم.. فما أغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله من شىء..!
قوله تعالى:
«كَذلِكَ.. وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ» .
أي بمثل هذا الإحسان العظيم إليهم، كان عقابنا الشديد لهم، فنزعنا هذه النعم من أيديهم، وأورثناها قوما آخرين من بعدهم، وهم أبناؤهم الذين صارت إليهم هذه الأرض، وما خلّف المفرقون فيها من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم..
وسمّى الأبناء الوارثون لهؤلاء المغرّقين- سمّوا قوما آخرين، لأن آباءهم كانوا على حال من الضلال، بحيث لا يكاد يجمعهم بأبنائهم أي وجه من وجوه الشبه.. فمهما ورث أبناؤهم من بعدهم من الكفر والضلال، فإن المسافة بينهم وبين أبنائهم ستظل دائما بعيدة، لأن آباءهم قد بلغوا فى هذا الضلال غاية لا يبلغها أحد..
هذا ويذهب كثير من المفسرين إلى أن القوم الآخرين، هم بنو إسرائيل..
وهذا غير معقول، لأن بنى إسرائيل قد خرجوا من هذه الأرض، فرارا من العذاب، الذي سلّط عليهم فيها، وقد تحدث القرآن عن تيههم فى الصحراء أربعين سنة، ثم عن حياتهم فى أرض كنعان، بعد موت موسى..
ثم إن المراد بالميراث هنا ليس هو الوارث، ولهذا جاء مجهلا بقوله تعالى «قَوْماً آخَرِينَ» ..(13/199)
وإنما المراد، هو الإخبار عن هلاك فرعون، وإخلاء يده مما كان يعتزّ به من ملك وسلطان، كما يقول الله سبحانه على لسانه: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟» (51: الزخرف) فلقد ذهب كل ذلك، ولم يغن عنه شيئا، بل وصار ميراثا لغيره..
قوله تعالى:
«فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» .
أي لقد أهلكهم الله وأخذهم بعذابه، فلم يأس عليهم أحد، ولم تبكهم عين، ولم يحزن من أجلهم قلب.. بل ذهبوا كما يذهب الوباء، يتنفس بعده الناس أنفاس العافية والرجاء..
فليس لهؤلاء الهلكى أولياء فى السماء، ولا فى الأرض.. فهم أعداء الله، وأعداء ملائكته، وأعداء رسله، وأعداء الإنسانية كلها..
راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ... ولا تعطّلت الأعياد والجمع
وقوله تعالى: «وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» - أي لم يكونوا ممن يمهلون بالجزاء إلى يوم القيامة، بل كان عذابهم معجّلا فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم..
وهذا يعنى أمرين:
أولهما: أنّ جرم هؤلاء المجرمين قد بلغ من الشناعة حدا بحيث لا يسعه عذاب الآخرة، فكان عذابهم فى الدنيا، وفى الآخرة جميعا..
وثانيهما: أن هؤلاء المشركين من قريش، لن يعجّل لهم العذاب، كما عجّل(13/200)
لقوم فرعون، بل إنهم منظرون إلى يوم القيامة.. وفى هذا رحمة من الله بهم، وإكرام لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ربه فى قومه.. فإن هذا الانتظار بهم، سيفسح لهم مجالا لإصلاح ما فسد منهم، واللحاق بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإيمان.. وقد كان.. فدخل هؤلاء المشركون فى دين الله، وكانوا جندا من جنود الله، للجهاد فى سبيل الله، وإعلاء رأية دين الله..
قوله تعالى:
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» فى هذا بيان لما كان لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، فى نجاة بنى إسرائيل، أجداد هؤلاء اليهود الذين يقفون من دين الله موقف المتربص به، والمتحفز للانقصاض عليه.. فقد نجّى الله سبحانه وتعالى آباءهم الأولين من العذاب المهين الذي أخذهم به فرعون.. فليذكر اليهود نعمة الله عليهم، وليكونوا أولياء لأوليائه.. وإلا فالويل لمن يحادّ الله، ورسل الله! قوله تعالى:
«وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ» أي ومن نعم الله وإحسانه على بنى إسرائيل أنه سبحانه قد اختارهم على أهل زمانهم، ليكونوا موضع امتحان وابتلاء، فجعل فيهم الأنبياء الذين جاءوهم بالآيات البينات من عند الله..
وفى هذه البينات ابتلاء لهم أي ابتلاء.. فقد تتابعت آلاء الله عليهم،(13/201)
وكثرت نعمه فيهم.. وإنه على قدر الإحسان يكون الحساب.. وقد خرج بنو إسرائيل من هذا الامتحان بأخسر صفقة، إذ كشف ذلك منهم عن نفوس خبيثة، وقلوب مريضة، وطبائع شرسة- فكان أن أخذهم الله بالبأساء والضراء، وأنزل بهم الضربات القاصمة، فكانوا عبرة وعظة لمن يكفر بنعم الله، ويستنبت من إحسانه وفضله أنيابا ومخاب ينهش بها عباد الله..
فلقد لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» (13: المائدة) ..
ويقول جل شأنه: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (78: المائدة) ..
ويقول سبحانه فيهم: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ.. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (167: الأعراف) ..
وفى قوله تعالى «عَلى عِلْمٍ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، إنما كان اختياره لبنى إسرائيل، واختصاصهم بكثرة الأنبياء الذين أرسلوا فيهم، والآيات التي جاءوهم بها، وتظاهر النعم عليهم- إنما كان ذلك على علم منه سبحانه وتعالى بما سيكون من هؤلاء المناكيد، من كفر بهذه الآيات، وتكذيب لرسل الله، وإعنات لهم، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87: البقرة) ..(13/202)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
ففى قوله تعالى: «عَلى عِلْمٍ» ردّ على من لا يعرف قدر الله سبحانه وتعالى، ولا يعنو لجلاله وعظمته، فيسوء ظنّه بالله، حين يرى آثام بنى إسرائيل، وشناعاتهم، ومفاسدهم فى الأرض، ثم يرى كثرة الرسل الذين بعثهم الله فيهم، وكثرة الآيات التي جاءوهم بها، مما لم يكن لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب..
فكان قوله تعالى: «عَلى عِلْمٍ» ردّا على من يظن هذا الظن فى الله، ويرى- عن جهل- أن اختيار الله سبحانه لهؤلاء القوم، واختصاصهم بالرسل والشرائع والمعجزات، لم يكن واقعا موقعه الصحيح، إذ لم يثمر إلا هذا الثمر النكد الخبيث!! وكلا.. ثم كلا.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
فقد كان اختيار هؤلاء القوم لرسالات السماء ابتلاء لهم وامتحانا، وتجربة للإنسانية، تعمل فيها السماء أسلحتها فى النفس البشرية، لتخرج منها ما كمن فيها من آفات وعلل.. وقد تخيرت السماء لهذه التجربة أخبث ما فى الإنسانية من نفوس، وأرذلها من جماعة، فبعثت بالأطباء والأساة يحملون الدواء لكل داء.. فلم تتقبل نفوسهم الخبيثة أي دواء، ولم تستجب له.. فعاشت بدائها..
وماتت به! ..
الآيات: (34- 48) [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43)
طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)(13/203)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» .
الإشارة هنا «هؤُلاءِ» إلى مشركى قريش، الذين استمعوا إلى هذا الحديث من أمر فرعون وموسى، وما كان من استكبار فرعون وعتوّه، وما أخذه الله به من عذاب ونكال.. ثم ما كان من إحسان الله سبحانه إلى بنى إسرائيل وفضله عليهم، ثم مكرهم بآيات الله، وتكذيبهم لرسله..
فكان أن لعنهم الله، ومزّق شملهم، وفرق جماعتهم.. وقطّعهم فى الأرض أمما..
وهؤلاء المشركون.. ماذا هم فاعلون مع رسول الله، وما يحمل إليهم من آيات ربه؟ فهذا سؤال يسأله الذين استمعوا إلى هذا الحديث الذي(13/204)
تحدث به القرآن عن فرعون وموسى، وعن بنى إسرائيل وآيات الله إليهم..
فكان الجواب:
«إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» - هذا هو الداء المتمكن من القوم، وهو إنكارهم للبعث، والحساب والجزاء، وذلك لاستبعادهم أن تعود الحياة مرة أخرى إلى الموتى، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.. إنهم على يقين من أنهم لم يبعثوا، وإنهم ليقولون لمن يحدثهم عن البعث: «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» .. أي ما هى إلا موتة واحدة، لا حياة بعدها.. وهم بهذا يردّون على تصور خاطئ للبعث- ففى تصورهم هذا، أن البعث بعقبه موت.. لأنه حياة بعد موت، وهذه الحياة- فى تصورهم- سيعقبها موت.. ثم حياة.. ثم موت، وهكذا.. ولهذا جزموا بأنه لا موت بعد أن يموتوا، بمعنى أنه لا بعث، ولا موت بعد البعث. إن كان هناك بعث!! وفى التعبير عن الحياة بعد الموت بالنشر، تشبيه للموت بأنه طىّ لحياة الإنسان، كما تطوى الصحف على ما ضمّت عليه من كلمات.. فإذا أريد النظر فى هذه الكلمات مرة أخرى، نشرت هذه الصحف، بعد طيّها..
فالموت ليس إلا طيّا لصفحة الحياة، مع بقاء الحياة كامنة فى هذه الصحف المطوية، ونشر الصحف بعد طيّها أمر هين، لا يحتاج إلى عناء ومعالجة، كما أنه لا يدعو إلى استبعاده وإنكاره!!.(13/205)
قوله تعالى:
«فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
هو من تحدّيات المشركين المنكرين للبعث، لمن يحدثونهم عن البعث، ويدعونهم إلى الإيمان.. إنهم يؤكدون أنه لا موت إلا الموتة الأولى، التي تنهى حياتهم تلك، ثم لا حياة ولا موت بعد هذا.. ثم إن لهم على هذا شهودا من الواقع.. فهؤلاء آباؤهم الذين أودعوهم القبور، لم يعد أحد منهم. فإن كان الذين يقولون بالبعث على يقين من هذا القول، فليأتوا على هذا ببرهان، وذلك بأن يجيئوا لهم بآبائهم هؤلاء الذين ذهبوا.. فإذا لم يرجع هؤلاء الذين ذهبوا، فكيف يرجعون هم إذا ذهبوا؟ ذلك منطقهم الذي جعل البعث عندهم أبعد من أن يتصوّر..
إنهم كانوا يؤمنون بأن لهذا الوجود ربّا قائما عليه، هو الذي خلقه، وهو الذي يدبر أمره، وإن كان هذا الإيمان قد اختلط بشوائب كثيرة أو قلبلة من الأهواء الفاسدة..
ولكن الشيء الذي لا يتصورونه، ولا يصدقون به، هو البعث..
وهو الداء الذي أفسد عليهم إيمانهم بالله، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، بتهددهم فيه الفناء الأبدى المطلّ عليهم من كل وجه..
وهذا قسّ، بن ساعدة الإيادى، من حكماء العرب، وخطبائهم المعدودين وقد نسب إليه أنه كثيرا ما كان يخطب فى الناس فيقول:
«إن فى السماء لعبرا، وإن فى الأرض لخبرا.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج،.. البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير..»(13/206)
ومن هذا العبارات وأمثالها يقيم قسّ الأدلة والبراهين على وجود إله قائم على هذا الكون.. فإذا جاء إلى الموت لم ير فيه إلا حكما واقعا على الأحياء، وأنه سفر بلا عودة، وذهاب ولا إياب.. وينسب إليه أنه كان يقول:
فى الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومى نحوها ... يمضى الأكابر والأصاغر
أيقنت أنى لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
لا يرجع الماضون لا ... ولا يبقى من الباقين ناظر
فهو- كما ينطق هذا الشعر- لا يرى عودة للموتى، وإن كان يرى أن لا بقاء لحىّ فى هذه الحياة.!
قوله تعالى:
«أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» .
هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين برسول الله، وبما يتلو عليهم من آيات الله،. وأنهم ليسوا أحسن حالا من قوم تبع الذين أهلكهم الله وبدد شملهم، فلم يغن عنهم ما كانوا فيه من عزة وقوة ومنعة..
وقوم تبع، هم الذين كانوا يسكنون اليمن، قبل أن يشملها الخراب والدمار، بانهيار سدّ مأرب.. وتبّع هو الجدّ الأعلى لقومه..(13/207)
وقد ذكر القرآن الكريم فى موضع آخر ما أخذ الله به هؤلاء القوم- قوم تبع، من نكال وبلاء، بعد أن كفروا بنعمة الله، وبطروا معيشتهم..
وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» :
(15- 17: سبأ) .
وليس قوم تبع إلا جماعة من تلك الجماعات الكثيرة التي أهلكها الله سبحانه وتعالى، وأخذها بعذابه الأليم فى الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون..
فمن قبل قوم تبّع، أهلك الله قوم نوح، وأهلك عادا، وثمود، وأصحاب مدين وقوم لوط.. وهؤلاء ممن ذكر القرآن أخبارهم.. وهناك كثيرون من الأفراد والجماعات لم يذكروا.. إذ ليس المقصود من الذكر إلا العبرة والعظة. وفى هذا القليل الذي ذكر، عبرة وعظة لأولى الألباب..
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، ذكرت إنكار المشركين للبعث، وما لهم على هذا الإنكار من حجج باطلة.. وقد تهددهم الله سبحانه وتعالى وتوعّدهم بالهلاك فى الدنيا، كما أهلك الظالمين المكذبين قبلهم..
وهذه الآية، والآية التي بعدها، هى تعقيب على ما هدّد له به المكذبين من(13/208)
بلاء.. وذلك أن الله سبحانه أقام هذا الوجود على الحق، كما خلقه بالحق الذي ينتظم كل ذرة فى هذا الوجود.. ولهذا فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل سلطان الحق قائما على هذا الوجود، وأن يقطع دابر الباطل إذا هو طاف بحمى الحق، واعترض سبيله.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى أكثر من موضع، فيقول الله سبحانه وتعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (18: الأنبياء) ويقول سبحانه: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (7- 8: الأنفال) وإذن، فهذه الضربات التي تنزل بأهل الباطل، فى هذه الدنيا، هى وقاية للحق من أن يغتاله الباطل.. فإذا كانت الآخرة، كان القضاء المبرم على الباطل وأهله جميعا.. وفى هذا اليوم ينطق الوجود كله بحمد الله، أن قضى على الباطل والشر والضلال، وكل ما من شأنه أن يخرج على طريق الحق..
«وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (75: الزمر) قوله تعالى:
«إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .
الميقات: اسم زمان، والمراد به وقت الموعد الذي يكون فيه الحساب والجزاء.. وهو يوم القيامة.
ففى هذا اليوم- يوم القيامة- يصفّى حساب الناس جميعا.. فيجمع أهل الباطل على مختلف صورهم، ويلقى بهم فى جهنم ليكونوا حطبا لها.. وبهذا يتخلص الحق من كل ما علق به من شوائب.. وفى هذا اليوم يتعرّى أهل(13/209)
الضلال من كل سلطان يدفع عنهم هذا المصير، الذي هم صائرون إليه.. إنه لا ناصر لهم من دون الله، يخلصهم من هذا العذاب الأليم..
وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ» هو استثناء من الضمير فى قوله تعالى:
«وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» .. أي لا ناصر لأحد فى هذا اليوم، ولا مخلّص له من عذابه إلا من رحمه الله من عباده، فهذاه إلى الإيمان، ووفقه لطاعته..
فكل من زحزح عن النار وأدخل الجنة، فذلك برحمة من الله وفضل وإحسان.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله» (قيل ولا أنت يا رسول الله) قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» وقوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. فهاتان الصفتان من صفات الله، التي يتجلى بها الله سبحانه وتعالى على أهل المحشر يوم القيامة.. فبعزته- سبحانه- يملك أمر هذا اليوم، ويقضى فيه بما شاء فى الظالمين، وأهل البغي والعدوان، فلا يكون لهم مع سلطان الله سبحانه سلطان، ولا مع عزته عزة.. وبرحمته- سبحانه- يدخل من يشاء من عباده الجنة، ويصفى عليهم ما يشاء من فضله وإحسانه.. كما يقول سبحانه: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (31: الإنسان) .
قوله تعالى:
«إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» ..
تحدّث هذه الآيات عن صورة من صور العذاب الذي أعد للظالمين، يوم(13/210)
القيامة.. وقد جاءت هذه الصورة من العذاب، مفردة، حيث تحصر فى إطارها إنسانا ظالما، باغيا، من هؤلاء الظلمة الباغين.. فيبدو فى هذه الصورة وكأن العذاب الجهنّمى قد احتواه وحده، وفى شخصه هذا يرى كل ظالم أثيم أنه هذا الإنسان الشقي المنكود، يتقلب وحده فى هذا العذاب الذي تقشعر من هوله الجبال!.
وشجرة الزقوم، كما وصفها القرآن الكريم هى شجرة: «تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ» .. وإن شجرة تغتذى من جهنم، وتمتد أصولها وفروعها بين جمرها ولهيبها، لهى شجرة أقوى من جهنم، وأعتى من النار.. فكيف بثمرها هذا الذي تختصر وجودها كله فيه؟ إن هذا الثمر هو طعام الأثيم!! .. وإنه كالمهل، أي خثارة الزيت بعد غليانه..
وقوله تعالى: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ» - هو تنكيل بهذا الأثيم، ومضاعفة لما يلقى من ذلة وهو ان فى هذا اليوم، حيث يساق إلى جهنم بين زبانيتها سوقا عنيفا، ثم يعتل عتلا، ثم لا يلقى به حيث يقع، بل يدفع به دفعا حتى يبلغ سواء الجحيم، أي وسطها، ومركز دائرتها..
وبهذا يتلّقى من العذاب أقساه وأشده..
وقوله تعالى: «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ» - هو عذاب إلى هذا العذاب، الذي يأكل هذا الأثيم أكلا، ثم يلفظه، ثم يأكله..
وهكذا.. وما يصبّ فوق رأسه ليس ماء، وإنما هو عذاب.. ولكنه من حميم، أي من ذوب جهنم، ونضيج عرقها!! ..
والحميم: الماء الحار الذي يغلى.. ومنه الحمّى، لاشتداد حرارة المريض بها..(13/211)
وقوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» - هو مما يساق إلى هذا الأثيم، من ألوان العذاب.. فهو إذ يشوى بنار جهنم، يصبّ فوق رأسه ما ينضح عليه من لهيبها من عرق، ليتبرّد به. ثم يلقى فى أذنه بهذه التحايا التي كان يتلقاها فى دنياه من ندمائه وأتباعه.. وإنها لتحايا تملأ قلبه حسرة وكمدا.. «ذُقْ» ! وأي شىء يذوق؟ مهلا يغلى فى بطنه، وحميما يصبّ فوق رأسه، ونارا تقطّع له منها أثواب فوق أثواب!.
هذا هو نعيمه الذي ينعم به، وتلك هى التحايا التي يحيّا بها، والكؤوس التي يتناولها من يد السقاة والندمان!! وإنه مع هذا هو العزيز الكريم.. يحضره فى هذا البلاء المشتمل عليه- ما كان له فى دنياه من عزة ومنعة فى قومه، وما كان له من كرامة فيهم، وإكرام منهم.. فهذان شاهدان من أهله- عزته وكرامته- يشهدان هوانه، وذلته.. وإنه ليس أشد إيلاما للنفس، ولا إزعاجا للفؤاد، من أن يفتضح المرء فى أهله، وأن يعرّى على أعينهم، مع ما كان له فيهم من عزة وكرامة..
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ» .
عاد الخطاب إلى الجماعة، بعد أن شهدوا أنفسهم فردا فردا، فى شخص هذا العتلّ الأثيم، الذي تجرع كئوس العذاب والهوان ألوانا مترعة.. فهذا العذاب، هو الذي كان يمترى فيه، أي يجادل فيه هؤلاء الضالون، الذين كانوا يجادلون من يحدثهم عن اليوم الآخر، ويحذرهم من لقاء ربهم فيه، على ما هم عليه من شرك وضلال..(13/212)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
الآيات: (51- 59) [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» .
هذه الآيات والتي بعدها، تعرض الصورة المقابلة لأهل الضلال والمنكر، وما يلقون فى جهنم من عذاب وهوان.. وفى المقابلة بين الصورتين تتضح المعالم فى كلّ منهما، ويرى كلّ فى الصورة المقابلة، ما يضاعف ما هو فيه من بلاء أو نعيم..
فأهل النار، إذ يرون أصحاب الجنة، وما هم فيه من نعيم ورضوان، يزداد بلاؤهم وتتضاعف محنتهم، ويشتد عذابهم وحسرتهم.. وأصحاب «الجنة» إذ يرون أهل النار، وما هم فيه من محن وشدائد، يعظم نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم، فلا يجدون غير أن يسبّحوا بحمد ربهم أن عافاهم من هذا البلاء.. «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» (34- 35: فاطر) .
ولهذا كان أصحاب الجنة وأصحاب النار، على مشهد من بعضهم، حيث يرى(13/213)
بعضهم بعضا، ويتحدث بعضهم إلى بعض، دون أن يصل إلى أصحاب الجنة شىء من عذاب أهل النار، ودون أن يصل شىء من نعيم الجنة وريحها إلى أهل النار.. «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» (50: الأعراف) .
قوله تعالى:
«يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.. مُتَقابِلِينَ» .
وحيث يلبس أهل النار من النار أثوابا، يلبس أصحاب الجنة حللا من سندس وإستبرق.
والسندس.. الرقيق من الديباج وهو ما كان سداه ولحمته من الحرير..
والإستبرق: الغليظ من الحرير..
وإذ يتدابر أهل النار، فلا ينظر بعضهم إلى بعض، لما وقع بينهم من عداوة، ولما يشهدون من العذاب الذي يعذب به المعذبون- فإن أصحاب الجنة، يواجه بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم بالنظر إلى بعض، وبما يصافح أنظارهم من آيات الرضا والبهجة، التي تملأ الصدور، وتفيض على الوجوه.. «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (23- 24: المطففين) قوله تعالى:
«كَذلِكَ.. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» .
أي كذلك شأنهم الذي هم فيه.. وأكثر من هذا، فقد زوجهم الله سبحانه وتعالى، بحور عين من حور الجنة، وعرائسها..
والحور: جمع حوراء.. وهى التي فى عينها حور، وهو شدة سواد العين مع شدة بياضها، وهذا من مفاتن المرأة، يقول جرير:
إن العيون التي فى طرفها حور ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا(13/214)
والعين: جمع عيناه، وهى الواحدة من بقر الوحش، وذلك لسعة عينيها وجمالها، وبها تشبه المرأة الحسناء، ذات العيون الفاتنة.
قوله تعالى:
«يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ.. آمِنِينَ» .
أي يرزقون فيها من كل فاكهة يطلبونها، مما تشتهيه أنفسهم..
وقد عبر عن الطلب بالدعاء، لأنه التماس ورجاء من رب كريم.. وعدّى الفعل بالباء مع أنه يتعدى بنفسه، لتضمنه معنى الهتاف بالفاكهة.. فما هى إلا أن يهتف بها أحدهم حتى تكون حاضرة بين يديه، من غير أن يحملها إليه أحد، أو يمد إليها هو يده.. بل يجدها بين يديه، وهو آمن، ساكن، لا يلتفت، ولا يتحرك.
قوله تعالى:
«لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» .
هو تعليل لقوله تعالى: «آمِنِينَ» .. أي أنهم فى أمان من أن يزعجهم عن هذا النعيم الذي هم فيه، أىّ خاطر يخطر لهم، من انقطاع هذا النعيم بالموت، أو بالتحول عنه إلى غيره.. فهم فى أمان من الموت.. «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» أبدا، فإنها حياة خالدة، ونعيم خالد.. فلا يتحولون أبدا عن هذا النعيم إلى ما يقابله من عذاب الجحيم الذي يصلاه أهل النار، فقد وقاهم الله هذا العذاب وأنقذهم منه، فلا يتعرضون له أبدا..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى» إشارة إلى قول المكذبين باليوم(13/215)
الآخر: «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» .. أي أن أهل الجنة قد ذاقوا هذه الموتة الأولى، التي كانوا على إيمان بالحياة والبعث بعدها، فكان هذا الإيمان سببا فى خلاصهم من عذاب النار، كما كان سببا فى هذا النعيم الذي هم فيه.. ومذاق هذه الموتة عندهم، غير مذاقها عند من يكذبون بالبعث.. حيث يجد المؤمنون بالبعث، أن هذا الموت سبيل إلى الحياة الآخرة، وإلى لقاء الله، وإلى ما أعد الله للمؤمنين المحسنين من جزاء كريم، على حين يجد المكذبون باليوم الآخر، أن الموت هو حكم عليهم بالفناء الأبدى، الذي يتحولون بعده إلى تراب فى هذا التراب..
إنه الضياع الأبدى لهم، والفراق الذي لا لقاء بعده للأهل والولد! فهم يعذبون بالموت فى الدنيا، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (55: التوبة) وهم كذلك يعذبون بهذا الموت فى الآخرة، إذ كان هو الذي انتقل بهم إلى هذا العذاب الجهنمى الذي يتجرعون كئوسه ألوانا..
فهذا الموت، الذي ذاقه المؤمنون فى الدنيا، هو سبب مسراتهم التي يسرّون بها فى الجنة، إذ يذكرونه- وهم فى الجنة- فيذكرون أنه هو الذي أوصلهم إلى هذا النعيم، فلولا الموت لما كان البعث..
قوله تعالى:
«فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
هو تعليل لقوله تعالى: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» أي أن ما قضى الله سبحانه وتعالى به فى أهل الجنة، من أنهم(13/216)
لا يذوقون الموت، ولا يتحولون عن هذا النعيم الذي هم فيه، إنما كان ذلك فضلا من فضل الله، وإحسانا من إحسانه، ورحمة من رحمته، إلى عباده المؤمنين.. وحسبهم بهذا فوزا.. فذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يعدله فوز..
قوله تعالى:
«فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
الضمير فى «يَسَّرْناهُ» يراد به القرآن الكريم.. والمراد بتيسيره..
بلسان النبي، تمكين العرب من الالتقاء بهذا القرآن، والأخذ عنه، وتلقى الهدى منه، لأنه بلسانهم، الذي هو لسان النبي المبعوث فيهم..
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .. تذكير لهؤلاء المشركين بنعمة الله عليهم، إذ أنزل عليهم كتابا من عنده، باللسان الذي يتكلمون به..
ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما كان لهم سبيل إلى الاتصال به، والحياة فى رياضه النضرة، والاقتطاف من ثماره الطيبة المباركة..
فهذه نعمة جليلة من نعم الله على الأمة العربية، وإنه لجدير بها أن تلتقى بهذه النعمة، وأن تأخذ حظها منها.. فهو كتاب الله إليهم، ورحمته فيهم..
وقد ذكر القرآن بضميره، دون أن يكون لهذا الضمير مرجع، لأن القرآن أشهر من أن يذكر، إذ هو حجة قائمة على المؤمنين، وغير المؤمنين جميعا..
قوله تعالى:
«فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» .(13/217)
العطف بالفاء هنا يشير إلى أن الأمر بين النبي، وقومه، لم ينته إلى نهايته بعد، وأنهم مازالوا فى هذا الامتحان مع القرآن الكريم، فلينتظر النبي ما يكون منهم، وليصبر على أذاهم، ولا ييأس من استجابتهم له، وذلك لأنهم «مُرْتَقِبُونَ» لم يقطعوا برأى بعد فيما يدعوهم إليه، وإن كانوا مقيمين على كبر وعناد.. وهكذا كان شأن قريش مع النبي، إنهم لا يكذبون النبي، ولا يشكّون فى أنه رسول الله، ولكنّ كبرهم وعنادهم هو الذي كان يقطع عليهم الطريق إليه.. وإنهم لينتظرون ما تأنى به الأيام.. ولن تأتى الأيام إلا بما يسوء المعاندين والمكابرين منهم.. ويخيب ظنونهم، حيث يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.. إنهم سيبعثون، وقد كانوا لا يتوقعون بعثا، وإنهم ليحاسبون، وقد كانوا لا يرجون حسابا، وإنهم ليعذبون فى النار، وقد كانوا فى تكذيب بهذا العذاب، وفى شك منه..
وإذا كان القوم لم يرتقبوا شيئا من هذا كله، فإنهم مكرهون على هذا الارتقاب، إذ لا مفرّ لهم منه..
ولقد أدّى بهم ارتقابهم فى الدنيا إلى أن رأوا كلمة الله تعلو، وشهدوا جند الحقّ ينتصرون، وإذا ظل الشرك ينسخ شيئا فشيئا حتى تدول دولته، ويجىء فتح الله والنصر، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا.. وهنا يرى النبىّ قومه وقد استجابوا لدعوته، وأصبحوا جميعا جندا من جنود الحق الذي يدعو إليه..
فكان ذلك يوم النصر والفتح، الذي تحقق فيه للنبى ما وعده به ربّه يوم اصطفاه لحمل الرسالة، فقال سبحانه: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» .(13/218)
45- سورة الجاثية
نزولها: مكية.. بإجماع.
عدد آياتها: سبع وثلاثون.. آية..
عدد كلماتها: أربعمائة وثمانون آية..
عدد حروفها: ألفان ومائة وتسعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الدخان بقوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» .. وقد قلنا إن هذا الختام هو دعوة إلى النبي أن ينتظر ما ستأتى به الأيام من قومه، ولن ييأس منهم..
كما أن هذا الختام هو دعوة للمشركين أن يأخذوا حظّهم من هذه الرحمة المنزلة عليهم من السماء، والتي يسر الله سبحانه وتعالى مواردهم إليها، فجعل القرآن بلسان عربى مبين، ولو كان بغير اللسان العربي، لما كان لهم سبيل إليه..
وهنا تبدأ «سورة الجاثية» بالحديث عن هذا القرآن، وأنه كتاب منزّل من الله العزيز الحكيم.. ثم تعرض الآيات بعد هذا بعض ما اشتمل عليه هذا القرآن من هدى، ونور.. فكان هذا البدء متلاقيا مع ختام السورة قبلها، معانقا له.(13/219)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .
مضى تفسير «حم» فى مطلع أكثر من سورة من الحواميم.. وقد جاء بدء سورة غافر، هكذا:
«حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» .
والاختلاف بين مطلع السورتين، فى وصف الله سبحانه وتعالى هنا بالحكمة بعد العزة، على حين جاء الوصف فى سورة غافر، بالعلم بعد العزة..
وهذا الاختلاف يقتضيه المقام هنا وهناك.. ففى سورة غافر، كان العلم مطلوبا للكشف عما يدور فى نفوس المشركين من هواجس، وما يبّيتون من مكر..(13/220)
وهنا الحكمة مطلوبة، حيث تعرض الآيات القرآنية مشاهد من هذا الوجود فى أرضه وسمائه،.. وكل مشهد منها تتجلّى فيه الحكمة الإلهية التي أبدعت هذا الوجود وأقامته على أكمل نظام وأروعه..
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
هو عرض عام للوجود كله، فى السموات والأرض.. ففى كل نظرة ينظر بها المؤمن فى هذا الوجود، يرى آيات دالة على قدرة الله، وعلمه، وحكمته..
فالكون كله- فى نظر المؤمن بالله- هو كتاب مفتوح، يقرأ فى صفحاته آيات تحدث عن جلال الله، وعظمته، وكماله..
وفى كل شىء له آية ... تدلّ على أنه الواحد
أما غير المؤمن فلا يرى فيما يرى من هذا الوجود، إلا أشباحا تتحرك، وكائنات تظهر وتختفى.. وقد ينبهر بما يرى، ويفتن بما يملأ عينيه من جمال، ولكنه يظل حيث هو فى تعامله مع كائنات الوجود وعوالمه، دون أن يصله شىء من هذا بخالق الكون ومبدعه! قوله تعالى:
«وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» .
وهذه نظرة فى أفق محدود من آفاق الوجود.. إنها نظرة ينظر بها الإنسان إلى نفسه.. وكيف خلق؟ ومن أين جاء؟ ثم نظرة أخرى يتجاوز بها حدود نفسه، إلى عوالم الأحياء التي تدب على الأرض وتعيش فيها. فهى عوالم كثيرة،(13/221)
مختلفة الأشكال والصور، بعضها يعيش على اليابسة، وبعضها يعيش فى الماء، وبعضها يسبح فى الجو.. وفى كل عالم منها أجناس كثيرة لا تكاد تقع تحت حصر..
ففى هذه النظرة القائمة على حدود الإنسان وما يحيط به من كائنات حية، يرى المؤمن ما يملأ قلبه يقينا بما لله سبحانه وتعالى من حكمة، وعلم، وقدرة، حيث تصنع القدرة الإلهية من تراب هذه الأرض، تلك الكائنات المنتشرة فى كل أفق من آفاقها، والتي تملأ وجه الأرض حياة، وحركة، وجمالا..
قوله تعالى:
«وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .
وهذه نظرة أخرى فيما وراء الحياة وصورها المختلفة، فى الإنسان والحيوان.. نظرة فى هذه الحركة الدائمة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، كما يقول الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» (62: الفرقان) .
وعلى امتداد هذه النظرة فى الليل والنهار، حيث تلبس الأرض ثوبا من ضياء بالنهار، ثم تخلعه لترتدى ثوبا أسود بالليل- على امتداد هذه النظرة، ترى السماء وقد نزل منها الغيث الذي ينزع عن الأرض ثوب الموت، ويلبسها ثوب الحياة، كما ترى الرياح التي تدفع السحب، وتسوقها إلى كل اتجاه.
فهذه النظرة تحوى فى أعماقها نظرات معطية لكثير من الدلائل والآيات الدالة على قدرة الله.. وإنها لن تتجلى إلا لأولى العقول السليمة، والمدركات(13/222)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
القوية النافذة.. الذين يتفكرون فى خلق السموات والأرض، ثم ينتهى بهم التفكير إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وتفرده بالخلق والأمر..
الآيات: (6- 11) [سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
«تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» .
آيات الله، هى تلك الآيات التي ذكرت من أول السورة.. وليست آيات الله محصورة فى هذه الآيات، وإنما عبّر عن هذه الآيات بما يفيد حصر آيات الله كلّها على هذا النمط العالي من الكمال والجلال، والإعجاز.. فكل آية من كتاب الله، تمثل آيات الله كلّها فى إحكامها وإعجازها.(13/223)
وقوله تعالى: «نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ» جملة حالية من قوله تعالى:
«آياتُ اللَّهِ» أي هذه آيات الله متلوّة عليك بالحقّ الذي تحمله فى كيانها.
وفى إسناد تلاوة آيات الله على النبي، إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلوها عليه هو جبريل- فى هذا تشريف للنبىّ، واحتفاء به، وتكريم له..
وحسبه- صلوات الله وسلامه عليه- من الشرف والرفعة، أن ينكشف الحجاب بينه وبين ربّه جلّ وعلا وأن يخلى جبريل مكانه بين الله سبحانه، وبين عبده محمد- صلوات الله وسلامه عليه- فلا يسمع الرسول إلّا كلمات ربّه، من ربّه وإن كان جبريل هو الذي يحملها إليه.
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» استفهام إنكارى تقريعىّ، يسفّه موقف المشركين من آيات الله، واتهامهم لها، وشكّهم فيها وتوقفهم عن الإيمان بها. فأى حديث بعد حديث الله، وأي آيات بعد آيات الله، ينتظر القوم أن يأتيهم ببيان أجلى من هذا البيان، وحجة أبلغ وأصدق من هذه الحجة، ليؤمنوا به، ويطمئنوا إليه؟.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحدث بآياته تلك التي يتلوها الرسول عليهم.. فالله سبحانه وتعالى يتلوها على الرسول، والرسول يتلوها عليهم، ويبلغهم إياها.. ولو أنهم أحسنوا الاستماع، وفتحوا لما يسمعون آذانهم وقلوبهم، لسمعوا الحقّ جلّ وعلا، يتلو عليهم هذه الآيات التي يتلوها الرسول عليهم، ولا رتفع الحجاب بينهم وبين ربّهم.. فإن كلمات الله تأخذ طريقها مباشرة إلى القلوب المهيأة لها، المستعدّة لا ستقبالها.
قوله تعالى:
ْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
.(13/224)
هو تهديد ووعيد بالويل والبلاء، لمن يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها ضائفا بها، متكرّها لها، مستعليا ومستكبرا، على الإقبال عليها، والنظر فى وجهها، فلا يأبه لما يتلى عليه منها، بل يمضى كأن لم يسمع شيئا، كان فى أذنيه صمما..
والأفاك: صيغة مبالغة من الإفك، والافتراء، وقلب الحقائق..
والأثيم: صيغة مبالغة كذلك من الإثم، وهو اقتراف المنكر، واجتراح السيئات.. وهاتان الصفتان هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال، فلا يكون منهم قبول للحق، ولا تجاوب معه.. إذ كيف يجد الحق له مكانا فى نفوس لا تستمرئ إلا الإفك، ولا تستطيب إلا الإثم؟ ..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» .. إما أن يكون من الإصرار، وهو التمسك والتشبث بما مع المشركين من شرك.. ويكون المعنى: ثم يصر على الكفر، ويتشبث به، مستصحبا معه الكبر والاستعلاء.. وهذا مثل قوله تعالى فى قوم نوح: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (7: نوح) ..
وإما أن يكون من الصرّ، وهو تجّهم الوجه، ضيقا وتكرها.. ومنه قوله تعالى:
«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» (29: الذاريات) ..
ومنه الصّر، وهى الريح الباردة التي يجمد منها الدم فى العروق.. ومنه الصّرصر، وهى الريح العاصفة الباردة..(13/225)
وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» - هو بيان لهذا الويل، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به كل أفاك أثيم، ذلك الذي يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها متكرها مستكبرا..
فالذى يساق إلى هذا الأفاك الأثيم من بشريات فى يوم القيامة، هو العذاب الأليم.. فهذا هو النعيم الذي يبشّر به، ويزفّ إليه..! فكيف إذا انتقل من هذا النعيم الجهنمّى إلى العذاب الموعود به؟ .. وهذا أسلوب من الأساليب البلاغية التي تكشف عن جسامة الأمر، وفداحة الخطب، وذلك يوصفه بغير صفته.
قوله تعالى:
«وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .
هو معطوف على تلك الأوصاف التي وصف بها الأفاك الأثيم فى الآية السابقة.. فهو لا يسمع آيات الله، ولا يعقلها، ثم إنه إذا سمع شيئا من آيات الله- عرضا- ووقع له منها بعض العلم- عفوا، من غير قصد- لم ينتفع بهذا العلم، بل يتخذ منه مادة للسخرية والاستهزاء.. لأنه لم يكن حين استمع لآيات الله يقصد استماعا، ولا يبغى علما.. ومن هنا لم يكن لما وقع له من علم، ثمر ينتفع به، أو خير يرجى منه.. بل لقد فتح له هذا العلم طريقا جديدا من طرق الضلال التي يسلكها..
وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» بضمير الجماعة العائد على المفرد- فى هذا ما يشير إلى أن استهزاء المستهزئ، وسخرية الساخر بآيات الله، لم تكن تتحق صورتها، إلا بمشاركة ممن يستمع له، ويجرى معه فى استهزائه وسخريته، سواء أكان ذلك بمجرد الاستماع والاستحسان، أو بتجاذب حبل الحديث معه، ومدّه بمدد جديد من السخرية والاستهزاء..(13/226)
فالسخرية والاستهزاء، لا يكون لهما وجود بعمل فردىّ، وإنما الذي يعطيهما الحياة، هو المشاركة الصامتة، أو الناطقة، ومن هنا كانت كلمة السوء فى مجلس من المجالس، مأثما يحيط بأهل المجلس جميعا، إن هم سكتوا على كلمة السوء، ولم يقم فيهم من ينكرها على صاحبها، ويكبته ويخزيه..
وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - وفى وصف العذاب بأنه عذاب مهين لهم، مذلّ لكبرهم- هو رد على استهزائهم بآيات الله، واستخفافهم بها..
قوله تعالى:
«مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .
أي أن العذاب المهين، الذي سيأخذ المستهزئين بآيات الله، المستخفّين بها- هو عذاب جهنم، التي تطلع عليهم وهم فى غفلة عنها.. إنها تأنى من وراء تلك الحجب من الضلال التي حجبتهم عن اليوم الآخر، فلم يروه، ولم يعملوا على اتقائه، والفرار منه..
ثم إن فى وصف جهنم بأنها من ورائهم، وفيما يشير إليه هذا الوصف من غفلتهم عنها- تقريرا للحقيقة الواقعة، وهى أن جهنم وإن كانت أمامهم، تنتظرهم على الموعد الذي يلاقونها عنده- فإنها لا تأنى إلا بعد زمن متأخر عن يومهم هذا الذي هم فيه..
وقوله تعالى: «وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» جملة حالية، تكشف عن تعرية القوم من كل واق يقيهم هذا العذاب الذي يمد يده لا ختطافهم، وهم فى غفلة عنه..!(13/227)
وقد يكون الإنسان فى غفلة عن خطر يتهدده، ولكن هناك ما يحميه من هذا الخطر، ويردّه عنه، كأن يكون فى حصن قد أحكم بناءه، وأقام الحراس عليه، أو قد يكون له أولياء يخفّون لنجدته إذا دهمه خطر!.
أما هؤلاء المشركون، المكذبون بآيات الله، والمستهزءون بها، فلا شىء لهم من هذا.. فهم عن هذا الخطر فى غفلة..، ولا حارس يقوم على حراستهم.. والمال الذي فى أيديهم، والذي كان من شأنه أن يكون ذا غناء لهم فى هذه الشدة- قد خلت أيديهم منه.
وآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وكان لهم متعلق بها، ورجاء فيها- قد أنكرتهم، وخلّت بينهم وبين ما حل بهم من بلاء..
فكيف يكون لهم نجاة من هذا العذاب الذي يسوقهم أمامه؟
وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. استكمال لصورة هذا العذاب الذي يلقاه هؤلاء المشركون.. فهو عذاب مهين، وهو مع ما يسوق إليهم من ذلة وهوان- عظيم فى وقعه، شديد فى بلائه..
قوله تعالى:
«هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» ..
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وإلى ما تحمل آياته الكريمة المباركة من هدى ونور.. وفى هذا دعوة لهؤلاء الضالين الذين جلسوا مجلس الاستهزاء والسخرية بآيات الله، والذين تتهددهم جهنم بعذابها وهم فى غفلة عنها- فى هذا دعوة لهم إلى أن يهتدوا بهذا الهدى الذي بين أيديهم، وأن(13/228)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
يأخذوا به طريق النجاة من النار، التي تكاد تمسك بهم من خلف.. فإن هم لم يفعلوا، فهذه جهنم، وهذا عذابها..!
والرجز: القذر، والمنكر المكروه من كل شىء..
وفى وصف العذاب بأنه مخلّق من القذر، إشارة إلى ما يساق إلى أهل النار من طعام وشراب، هو فى أصله مستقذر تعافه النفوس.. فكيف به إذا كان مع استقذاره مقتطعا من النار.
الآيات: (12- 15) [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..(13/229)
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، أشارت إلى القرآن الكريم، ونبهت إلى أنه الهدى لكل من طلب الهدى.. ثم تهددت الآية أولئك الذين يكفرون بربّهم، ولا يقبلون على هذا الهدى الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إليهم..
وهذه الآية، تجىء بعد هذا، لتحثّ أولئك الذين استمعوا للآية السابقة، ووقفوا موقف التدبّر والتبصر- على أن يسرعوا الخطا إلى الله، وان يستجيبوا لما يدعوهم إليه الرسول، من خير وهدى.. وإنهم إذ يتجهون إلى الله ليجدون هذه الدعوة المجدّدة إليهم، والكاشفة لهم عن جلال ربهم وعظمته وقدرته، وماله من فضل وإحسان إليهم.. فهو سبحانه، الذي سخر البحر، ومكّن الناس من أن يجعلوه طريقا ذلولا تجرى الفلك عليه، كما تجرى الدواب على اليابسة.. كل هذا بأمر الله وحكمته.. فهو سبحانه الذي قدّر بحكمته أن تطفو بعض الأجسام على الماء، حسب قانون محكم لا يتخلف أبدا.. ومن عجب أنه بحكم هذا القانون، أن يلقى بالحصاة الصغيرة فى الماء فتغوص فيه، على حين أنه يلقى فوق ظهره بالسفينة محملة بالدواب، والناس، والأمتعة، فتظلّ سابحة فوقه! قوله تعالى:
«وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .
وهذا الإله الذي يدعى إليه العباد، هو الذي سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض، وأتاح لهم الانتفاع به فى كل وجه من وجوه الانتفاع، حسب استعدادهم وقدرتهم على التصرف فيه..(13/230)