ثم إنّ في قوله تعالى: «عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» داعية أخرى تدعوهم إلى الاستجابة للرسول، وفتح عقولهم وقلوبهم لما يدعوهم إليه.. إنهم عشيرته، وهم أقرب الناس إليه من عشيرته، وهو- بحكم هذه الصلة- لا يريد لهم إلا الخير، ولا يرتاد بهم إلا مواقع الرشاد.. وبخاصة في تلك البينة التي يعيش كل فرد فيها من أجل أهله وعشيرته، لأن حياته مرتبطة بها، وإن أي خطر يتهدّدها هو خطر عليه، وعلى كل فرد فيها..
قوله تعالى:
«وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
هو أمر بما يقضى به العدل، فى التسوية بين عباد الله، فيما ينزل عليهم من آيات الله، وفيما يفيضه رسول الله على الناس من بر ورحمة..
فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وإن بدأ بدعوة أهله إليه، فلأن ذلك الذي يدعوهم إليه هو برّ وضعه الله بين يديه، والأهل والأقربون هم أولى الناس بهذا البرّ، بعد نفسه، كما في الحديث الشريف: «ابدا بنفسك ثم بمن تعول» ثم إنه إذ كان هذا الخير هو مما لا ينفد أبدا بالعطاء، والإنفاق، بل إنه يزيد على الإنفاق، ويحلو طعمه كلّما كثرت الأيدى الممدودة إليه- فقد كان على النبيّ أن يسع بهذا الخير الذي بين يديه الناس جميعا، قريبهم، وبعيدهم.. وأنه إذا بدأ بدعوة أهله إلى هذا الخير، فإن ذلك لا يجعله يقف عند أهله، ولا أن ينتظر حتى يجتمع أهله على هذا الخير، بل إن عليه أن يحتفى بهؤلاء الضيوف الذي سبقوا أهله إلى هذه المائدة التي أعدّها، ودعا الناس إليها..
فمن سبق كان أولى الناس بأن يأخذ مكان الصدارة منها، وأن يكون بموضع لحفاوة والتكريم من ربّ الدعوة، وصاحب المائدة.. سواء أكانوا من الأقربين، أو الأبعدين..! «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» .(10/184)
قوله تعالى:
«فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .
هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه النبي من أهله الذين لا يستجيبون له، ولا يقبلون على دعوته.. إنهم حينئذ لا أهل ولا أقارب، وإن عليه أن يتبرأ مما هم فيه من ضلال، وألا يمد بصره إليهم، بل ينبغى أن يكون نظره قائما على هؤلاء الذين استجابوا له، واتبعوا سبيله! قوله تعالى:
«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
أي دع هؤلاء المتأبّين عليك من أهلك وعشيرتك، وما هم فيه من شرك، وتوكل على الله وحده، فهو الذي يشد أزرك، ويمدك بأمداد القوة والعزة، فهو «العزيز» الذي من اعتز به عزّ «الرحيم» الذي يلقاك برحمته، ولا يدعك لأيدى الباغين والسفهاء من قومك..
وفي قوله تعالى: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ»
- تأكيد لرعاية الله سبحانه وتعالى للنبى، وإحاطته بعزته ورحمته.. فالله سبحانه وتعالى يراه، ويطلع على كل حال منه، فى سر وجهر، وفي نوم ويقظة.. وخصّت الرؤية بحال القيام، لأنها أشرف الأحوال، التي يحبّ النبي أن يراه الله عليها، وهو حال قيامه بين يدى ربه للصلاة.
وقوله تعالى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» - معطوف على الكاف في «يراك» أي يراك في قيامك، ويرى تقلبك في الساجدين..(10/185)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وتقلّب النبي في الساجدين، هو لقاء المؤمنين في الصلاة. وترديد نظره فيهم، وملاحظة كل منهم، وإعطاؤه حظّه من عنايته ورعايته.. وخصت حال السجود من أحوال المؤمنين، لأنها الحال التي تقربهم من الرسول، هذا القرب، وتنزلهم منه تلك المنزلة..
هذا ما نحب أن نفهم الآية الكريمة عليه.. أما ما يذهب إليه كثير من المفسرين من أن المراد بتقلّب النبي في الساجدين، هو تنقله من الأصلاب الزّاكية إلى الأرحام الطاهرة، منذ آدم، إلى مولده، صلوات الله وسلامه عليه.. فهذا لا يزيد من شرف النبي، إن صحّ، ولا ينقص من قدره، إن لم يصح.. فإن شرفه- صلوات الله وسلامه عليه- فى ذاته، وفيما اختصه الله به من فضله وإحسانه.
وقد تحدث القرآن، عن إبراهيم، خليل الرحمن، وأبى الأنبياء، بما يدمغ أباه بالكفر، وبعداوته لله.. كما تحدث عن ابن نوح عليه السلام، بأنه من الذين حق عليهم العذاب! وفي هذا ما يقطع بأن الأنساب لا شأن لها فيما يريد الله بعباده من خير وإحسان، أو ما يرميهم به من بلاء وهلاك..!
وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» - تأكيد لرعاية الله سبحانه وتعالى، للنبى، وملاحظته له، وأنه في ضمان ربّ عزيز رحيم، سميع عليم..
الآيات: (221- 227) [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)(10/186)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ» .
هو توكيد للنفى الوارد في قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» ..
فهذا النفي كان ردا على التهم التي يرمى بها المشركون النبي صلّى الله عليه وآله من مخالطة الشياطين له، وتآخيهم معه، وأن معه رئيّا منهم يلقى إليه بهذه المقولات التي يحدثهم بها.. فقد كان من تصورات الجاهليين، أن الشياطين والجن يخالطون بعض الناس، ويعيشون معهم، وأن الشعراء خاصة هم أقرب الناس إلى هذا العالم الخفي، وأكثرهم اتصالا به، وأن مع كل شاعر فحل، شيطانا، ينظم له الشعر.. وفي تاريخ الأدب العربي كثير من الشعر الذي ينسب إلى الجن، إذ لم يعلم له قائل.. ومن هذا ما يروى من الشعر في حديث الهجرة وما كان من نزول الرسول- صلى الله عليه وآله- وصاحبه أبى بكر، بأمّ معبد.. ومما يروى من هذا الشعر، قولهم:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبرّ ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد(10/187)
ومن هذا أيضا، ذلك الشعر الذي قيل إن الجن رثت به أبا بكر..
ومثله هذا الشعر الذي ينسب إلى الجن في رثاء عمر.. وغير ذلك كثير، يمكن أن يجتمع منه ديوان كامل..
فقوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ» هو عزل للقرآن الكريم، عن أن يكون من تلك المصادر التي يتلقى منها الشعراء شعرهم، كما يزعم العرب.. ثم إن قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» - هو عزل للرسول الكريم، عن أن يكون على شاكلة هؤلاء الشعراء الذين يأخذون شعرهم عن الشياطين، كما يزعمون.
فالقرآن الكريم، فى علوه الذي لا ينال، أبعد من أن يدخل في وهم الشياطين أن يتطلعوا إليه، وأن يطوفوا بحرمه.. ثم على فرض أنهم أرادوا ذلك- تطاولا وسفها- فإنهم لن يبلغوا من هذا مأربا..
وقد تحدى القرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال تعالى:
«قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (88: الإسراء) فما لهم لا يتصلون بالجن، ويأخذون عنهم مثل ما أخذ النبي؟
وشأن الرسول في هذا شأن القرآن، فهو في مقام عال، وفي حراسة من طهره، وسموه، من أن تلمّ به الأرواح الخبيثة، أو تتعامل معه.. لبعد ما بينها وبينه، وللاختلاف الشديد الذي بين طبيعتها وطبيعته..
إن الشياطين، إنما تتنزل، وتتعامل مع أقرب الناس شبها بها، وأكثرهم(10/188)
تجاوبا معها، فى الاتجاه إلى غايات الشر، ومواقع الضلال.. «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» .. فهذا هو متنزل الشياطين ومهبط وحيهم.. أن يتنزّلوا على أهل الإفك والإثم، وعلى من يتعامل بالإفك والإثم، الذي هو كل بضاعتهم.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» (121: الأنعام) والأفّاك: كثير الإفك، وهو افتراء الأحاديث واختلاقها ونسجها من خيوط الباطل والبهتان..
والأثيم: كثير الإثم، وهو المقرف للآثام والمنكرات، دون تحرّج أو تأثّم..
وإذن، فالقرآن- فى ذاته- بمعزل عن الشياطين، لا يدنون منه، ولا يطوفون بحرمه.
والنبيّ- فى ذاته- على طبيعة من الصفاء والنّقاء والطهر، لا يقترب منها الشيطان، الذي هو طبيعة خبيثة قذرة، لا تميل إلا إلى الخبث والقذر..
شأن الذباب الذي يتهافت على الأقذار، ويتجنب كل نظيف طاهر! وإذن، فإن ما يتحدث به الرسول لن يكون من تلقيات الشياطين أبدا، سواء أكان ما يتحدث به منسوبا إلى السماء، أو منسوبا إليه.
قوله تعالى:
«يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» .
الضمير فى «يلقون» يعود إلى الشياطين.. والمراد بإلقائهم السّمع، أنهم يتجهون بأسماعهم إلى الملأ الأعلى، ليسترقوا السّمع، ويتحسّسوا ما يكون من أنباء عن العالم الأرضى هناك.. حتى إذا وقع لهم شىء من ذلك ألقوا به إلى أوليائهم من الإنس، ليضلّوهم، ويجعلوا منهم صنائع لهم..(10/189)
وقد كان الشياطين يفعلون ذلك قبل نزول القرآن، فيقع لهم شىء من بعض أخبار السماء، فيحدّثون به أولياءهم، حديثا مختلطا، يجمع بين الصدق والكذب، والحق، والباطل، وفي هذا يقول الله تعالى على لسان الجنّ، «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (9: الجن) .
وقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» جملة حالية من الضمير فى «يلقون» أي أن أكثر هؤلاء الشياطين الذين يتسمعون إلى أخبار السماء، كاذبون فيما يلقون إلى أوليائهم من الناس من أخبار، فالمستمع إليهم، والمتلقى عنهم ضالّ، ومضلّ لغيره، إذ يقع في يقينه أن ما سمعه هو الصدق كلّه، فيأخذ به جميعه، فتسوء العاقبة، وينكشف الحال عما يجلب الحسرة والندم..
والسؤال هنا: إذا كان أكثر الذين يتسمعون إلى أخبار السماء كاذبين، فهل هناك قلّة منهم لا تتصف بهذه الصفة؟
والجواب: نعم، فإنّ من الجن، مؤمنين صادقى الإيمان، يتحرّون الصّدق، ويلزمون أنفسهم به، شأنهم في هذا شأن المؤمنين الصادقين من الناس..
قوله تعالى:
«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» .
هو تأكيد لبعد النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، عن أن يكون على أية صلة قريبة أو بعيدة من الشياطين، وما يتنزلون به على أوليائهم- إنهم لا يتنزلون إلا على كل أفّاك أثيم.. وقد عرفت قريش فى «محمد» ما لم تعرفه في إنسان(10/190)
قط، من صدق الحديث، واستقامة السلوك، وطهارة النفس، حتى لقد كانت تلقّبه قبل البعثة بالصادق الأمين.
وإذا كانت قريش، وكان الجاهليون عموما، يزعمون أن الشعراء، يتلقون أشعارهم مما يوحيه إليهم شياطينهم، فإن محمدا ليس شاعرا، لا بالقوة ولا بالفعل.
فمحمد لم يقل شعرا في حياته أبدا.. لا قبل البعثة ولا بعدها.
ومحمد ليس من طبيعته أن يكون شاعرا، كما عرفت قريش من حياته معها، ومعاشرتها له، واطلاعها على كل شأن من شئونه.. إذ كان في بيئة عارية، لا يختفى فيها شىء عن أبصار الناس وسمعهم..
فمحمد أبعد الناس عن أن يكون شاعرا، بطبعه، أو بلسانه.. وهذا الكلام الذي يحدّث الناس به، ليس من واردات الشعر، سواء أكانت نسبته إلى السماء. أم إلى محمد نفسه..
فالقول، الذي تقوله قريش على محمد بأنه شاعر، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30: الطور) وكما يقول جلّ شأنه: «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (5: الأنبياء) - هذا القول الذي تقوله قريش- ساقط، يكذّبه الواقع الذي تعرفه قريش، وتستيقنه من أمر محمد..
وفي هذا يقول الحق جلّ وعلا: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، وَما يَنْبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (69: يس) وفي قول تعالى: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» .. إلفات لقريش، إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا وآمنوا به، وأنهم جميعا كانوا على حال من الاستقامة والقصد، بحيث لا تميل بهم أنفسهم إلى جانب الشعراء، ولا تهفو(10/191)
طباعهم إلى أن يكونوا في موكبهم، ومن بطانتهم، أو شيعتهم.. وفي هذا دليل مادى آخر، على أن محمدا ليس بشاعر، وأن ما يحدّث به ليس من قبيل الشعر، وإلا لكان أتباعه من الشعراء.. لسانا، وطبيعة.. فالشعراء إنما ينضوى إليهم من كان على شاكلتهم، من أهل الغواية، والبطالة..
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» .. هو بيان للصفة الغالبة على الشعراء، وأنهم لا يلتزمون الواقع، ولا يتحرّون الصدق، وذلك لما في طبيعة الشاعر من توفّز الشعور، وجموح الخيال، وتقلّب العاطفة..
فيخرج به ذلك كله عن أن يرى الأمور على حقيقتها، بل يلونها بخياله، ويصفيها بمشاعره، ويتعامل معها كما تقع في وجدانه.. ومن هنا جاء القول المشهور: «أعذب الشعر أكذبه» .. كاشفا عن الصفة الغالبة على الشعر، وهو الخيال لذى يلوّن الحقيقة، ويضع عليها من الأصباغ ما يغير وجهها، فيبدو القبيح جميلا، والجميل قبيحا، كما تفعل الأصباغ والألوان التي تلوّن بها وجوه الممثلين، والثياب التي يلبسونها، والشّعر المستعار لرءوسهم، ولحياهم- كما يفعل ذلك كله في إخفاء شخصية الممثل، وإظهاره في الصورة التي يقتضيها الدور الذي يقوم به على مسرح التمثيل..
قوله تعالى:
«وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» .. هو بيان لحال من تلك الأحوال التي تلبس الشعراء التي أشارت التي إليها الآية السابقة:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» .. إذا أن من مقتضى هيامهم في كل واد، أنهم لا يستقرون على حال، ولا يثبتون على رأى، ولا يتقيدون بأى قيد..(10/192)
ومن القيود التي يتقيد بها الناس- غير الشعراء- قيد الكلمة، وإخراجها من حيّز الكلام إلى عالم الواقع.. أما أن يرسل المرء الكلام هكذا، من غير أن يكون هذا الكلام صادرا عن إحساس به، وتصور له فى صورة عمل يعمله الإنسان، وسلوك يعيش به في الناس، فهو من غير الشعراء، كذب ونفاق، ثم هو من الشعراء خيال، هو من مستلزمات هذا الضرب من الكلام، الذي لا يطلب منه الناس الحقيقة عارية، وإنما يروقهم أن يروها في هذا الجوّ الشاعريّ الحالم!! يروى أن عبد الملك بن مروان سمع الفرزدق الشاعر، وهو ينشد بين يديه هذه الأبيات، من قصيدة له:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وواحدة تميل إلى شمام
فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام
فقال عبد الملك، يا فرزدق، قد أوجبت عليك حدّ الزنا، ولا بدّ من رجمك، فقال وبم أوجبت عليّ الحدّ يا أمير المؤمنين؟ قال بكتاب الله.. قال فإن كتاب الله يدرأ عنى الحدّ! قال وكيف؟ قال فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الشعراء: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» وأنا هنا شاعر، وقد قلت ما لم أفعله! هكذا يرى الشاعر نفسه، وكهذا ينبغى أن يراه الناس! قوله تعالى:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» - هو استثناء من الحكم العام الذي أوقعته الآيات الثلاث السابقة، على الشعراء.. ووصفتهم بتلك الصفة الغالبة عليهم، وهي أنهم غواة يتبعهم الغاوون لأنهم يهيمون فى كل واد من أودية الخيال، والضلال، وأنهم يقولون ولا يلتزمون بما يقولون. (م 13- التفسير القرآنى- ج 19)(10/193)
فهذه هي الصفات الغالبة على أكثر الشعراء، ولكن من الشعراء من غلبت طبيعتهم شياطين الشعر، وقهرت النوازع التي تحركها فيهم هذه الشياطين، فكان لهم من خلقهم، عاصم يعصمهم من الانزلاق في مهاترات الشعراء، ولهوهم ومجونهم، قولا، وفعلا.. وليس هنا عاصم يعصم الإنسان من المزالق والعثرات، مثل الإيمان بالله، والتمسك بآداب الدين وأحكامه.. حيث يجد الإنسان من دينه وازعا يزعه عن الشر، ويمسك لسانه عن الفحش والهجر..
فالذين آمنوا بالله، وذكروا الله كثيرا، أي استحضروا دائما جلاله وعظمته.. هم- وإن كانوا شعراء- مستثنون من تلك الأوصاف التي وصف بها عامة الشعراء، لأنهم ليسوا غواة ولا دعاة إلى غواية. ولأنهم لا يقولون إلا ما يفعلون.. فلا كذب. ولا نفاق.. حيث لا يجتمع الإيمان وذكر الله كثيرا، مع شىء من هذا الضلال..
وفي قوله تعالى: «وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» .. إشارة إلى ما يكون من الشعراء المسلمين، إذا حاربهم المشركون بالشعر، وسلقوهم منه بألسنة حداد.. فماذا يكون عليه موقف الشعراء المسلمين هنا؟ أيسكتون على هؤلاء الذين يرمونهم بهذه الطعنات المسمومة القاتلة من شعر الهجاء، الذي يشيع على ألسنة الناس، ويصبح حديث المحافل، وسمر السمار، وحداء الحداة، ونشيد الرعاة والصبيان؟ وكيف وفي أيديهم السلاح الذي يفلّ هذه الأسلحة، ويخرس تلك الأفواه التي تنفث هذه السموم؟ ومن أجل هذا فقد أذن الله سبحانه للشعراء المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم هذا الشرّ بالشرّ، وأن يضربوا الشعر بالشعر.. انتصارا من ظلم، وردعا للظالمين.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» (148: النساء) ويقول(10/194)
سبحانه: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41:
الشورى) .
وفي قوله تعالى: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .. تهديد لهؤلاء الشعراء من المشركين، الذين يعتدون بشعرهم الآثم على الناس، ويمزّقون الحرمات، ويهتكون الأعراض.. ثم هو من جهة أخرى- تحذير لشعراء المسلمين من أن يعتدوا ويظلموا، وأن يجاوزوا الحدّ الذي يأخذون فيه بحقّهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190: البقرة) وقد فهم كثير من الناس- ومن المسلمين- نظرة الإسلام إلى الشعر، وإلى الفنون عامة، فهما خاطئا، إذ أخذوا بظاهر النصّ القرآنى، ولم ينفذوا إلى شىء من وراء هذا الظاهر، الأمر الذي يدعونا إلى أن نقف وقفة قصيرة عند هذه القضية، قضية الشعر، وموقف الإسلام منه.
(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)
الشعر طبيعة في الإنسان، وهو فن من الفنون الإنسانية الجميلة، وليس هناك أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات، لم يكن الشعر أداة من أدوات التعبير الجارية على لسانها.. والأمة العربية، بخاصة- كان الشعر إدام حياتها في هذه الحياة القاسية المجدبة، التي كانت تعيش فيها قبل الإسلام..- كما سنعرض لذلك بعد قليل- وإذا كان الشعر على تلك الصفة في حياة الناس، وفي حياة العرب بخاصة، فإن الإسلام بسماحته وإنسانيته، لا يمكن أن يقيم حظرا على هذا المتنفّس، الذي تنطلق منه مشاعر الناس، وتغرد على أوتار ألسنتهم بلا بله..!
والذي كان من الإسلام هنا، فى هذا الوصف الذي وصف به الشعراء،(10/195)
هو تخليص هذا الفن الجميل، مما دخل عليه من تلك الألوان الصارخة من الفحش، والهذر واللغو، حتى تصفو موارده، ويكون للكلمة الصادقة فيه، وزنها وقدرها، فى تربية النفوس، وتقويم الأخلاق، إذ كان للثوب الذي تلبسه الكلمة فى القالب الشعرى، تأثير عظيم في كشف مضمونها، وتجسيد محتواها، حتى لتكاد تتمثل كائنا حيا، يعيش في وجدان السامع، ويتحرك في كيانه..
ومن هنا كان موقف الإسلام من الشعر، قائما على تقديره له، ووزن خطره وأثره في النفوس، وسلطانه على العقول والقلوب.. فإذا لم يقم على هذا الفن حارس من خلق أو دين، كان قوة من قوى الشر المدمرة، التي تأنى على كل صالحة في المجتمع، الذي تتحرك فيه شياطين هذا الفن! وهناك كلمة مضلّلة، وبما أغرت كثيرا من الشعراء- أعنى صغار الرجال من الشعراء- أن يأخذوا بها، وأن يتلقوا الدرس الأول عنها، تلك الكلمة، هى قولهم: «أعذب الشعر أكذبه» يعنون بهذا أن أجمل الشعر وأرقه، ما اصطاد بشباك الخيال، الغرائب والعجائب، وموّه الحق والواقع، بألوان وأصباغ، تغير صورته، وتطمس معالمه، فيرى على غير ما هو.. ومن هنا كان التعامل بالصور التي يرسمها مثل هذا الشعر، مزلقة إلى الضلال، والانحراف عن قصد السبيل! والحق، أن الكذب هو الكذب.. أيا كان الزي الذي يتزيا به.. فى الفنون والعلوم على السواء.
وفي المأثور: «ما كان الصدق فى شىء إلّا زانه، وما كان الكذب في شىء إلا شانه» . فكيف يزدان قول أو عمل، يكون الزور لحمته والباطل سداه؟
وإذن فأحق ما ينبغى أن يقال في الشعر- من حيث هو فن رفيع من(10/196)
الفنون الجميلة- أن يقال: «أعذب الشعر أصدقه» .. فبقدر ما يحمل الشعر من الصدق، بقدر ما تكون عذوبته وحلاوته، وبقدر ما يكون بهاؤه وجلاله..
إن الحق- فى ذاته- مستغن عن الزيف والبهرج، وفي غير حاجة إلى هذا الطلاء المموه، من الزور والبهتان.
إن الفنون الرخيصة المبتذلة، هى التي يتستر ضعفها وهزالها، وراء هذا الطلاء الزائف، من الزور والبهتان..
أما الفنون الرفيعة العالية، فهى لا تكون على هذا الوصف من العلوّ والرفعة، إلا إذا كانت حقا خالصا، وصدقا مصفّى وفي الأعمال الفنية المصوغة من الكلمة، أو الحجر، أو الوتر، أو اللون- شاهد لهذا.. فما لبس ثوب الحقيقة منها، فهو الخالد الذي يعيش في الإنسانية، ويطلّ عليها من عليائه، كما يطل شعاع الشمس في يوم قارس البرد، لافح الزمهرير، فينعش النفوس، ويثير المشاعر، ويحرك الهمم، ويشد العزائم.. وعلى عكس هذا، ما تزيا بالكذب والخداع من الفنون، فإنما هو سراب خادع، يلوح في العين ببريقه، فيحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
فصدق الشاعر مع نفسه، وإلزامها طريق الحق- أيا كان وقعه عليه، وأثره فيه- يجعله يصدق مع الناس، ومع الأشياء.. فإذا قال شعرا جاء شعره ممسكا بالصميم من الحق، كاشفا عن أسرار هذا الوجود، فى عوالمه الحية والجامدة، على السواء.. فيحدّث عن دخائل النفس الإنسانية، كما يحدث عن أحلام هذا الحجر الملقى في عرض الطريق! والصدق لا ينزل إلا حيث النفوس العظيمة، التي، تتسع له، وتحتمل تبعاته،(10/197)
وتقدر على الوفاء به، على المنشط والمكره.. أمّا صغار النفوس فإنها تضيق بكلمة الصدق، وتضعف عن أن تحتملها.. إن طريقها لا تستقيم أبدا مع الطريق المستقيم.. تماما كالجبان يتحرك نحو ساحة القتال، ولقاء الأبطال.. إنه يتقدم ويتأخر، ويستقيم ويلتوى.. وهيهات أن يكون الثعلب والأسد على سواء..
فى مواجهة الواقع وتحديه! وهكذا نجد شاعرا من أصحاب النفوس الكبيرة، كالمتنبى، مثلا، تحمله نفسه الكبيرة على أن يقف موقف النّدّ مع ممدوحه سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانية، ولا يرضى أن يكون حاشية من حواشيه.. حتى إذا التقى بكافور صاحب مصر، نظر إليه من سماء عالية، ولم يستطع أن يكتم ما بنفسه، من مشاعر العظمة لذاته، والإحقار لكافور، فيظهر ذلك في كل شعر قاله فيه.. ومن هنا لم يلتقيا على طريق، فافترقا من أول لقاء! وأكثر من هذا..
فإن المتنبي، أبى عليه صدقه مع نفسه، أن يلتزم ما التزمه الشعر العربي من مطالع الغزل في كل قصيدة، مدحا كانت، أو ذما، أو رثاء.. فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية، التي رمى بها في وجه هذا الغزل المصطنع، وقال:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم؟ ... أكل فصيح قال شعرا متيّم؟
بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا، فلم يرتض من أسلوب الحياة إلّا ما كان صميم الحياة ذاتها، ومن واقعها البعيد عن الصنعة والدّخل، حتى إنه ليعيب المرأة المتجمّلة بغير جمال الفطرة، الأمر الذي يكاد يكون طبيعة فى بنات حواء.. فيقول:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب(10/198)
والمتنبي في هذا، لا يقول ما لا يفعل، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» .. بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا، وإنه ليأبى- مثلا- أن يغيّر لون شعره، حين نسخ الشيب سواده.. فيقول:
ومن هوى الصّدق في قولى وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
وقل مثل هذا، فى «أبى العلاء المعرّى» الذي وقف أمّة وحده من الناس، ومن الدهر، موقف التحدّى، قولا، وعملا، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار، على كل ما لم يقبله عقله، أو تستسغه نفسه، من آراء ومعتقدات، وعادات، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه، انسحب إلى بيته، أو محبسه، وأغلق عليه بابه، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق، لا تزال منطلقة إلى اليوم، تدور في كل مدار، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها، أو يعترض طريقها.
نقول هذا، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟» فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام،(10/199)
ويضربون لهذا مثلا، بالشاعر لبيد، أحد أصحاب المعلقات، ويحكون أنه لم يقل بيتا من الشعر، منذ أن دخل في الإسلام..
هذا وكثير غيره مما يقال، فى موقف الإسلام من الشعر والشعراء..
وهو- فى رأينا- قول يخالف الحقيقة ويظلم الإسلام بتلك التهمة!.
فالقرآن الكريم. بأسلوبه المبين المعجز، هو الذي رفع قدر الكلمة العربية، وجعل للبيان العربي هذه المكانة العالية الرفيعة، حتى ليكاد يكون معجزة، لا يلقاه في ميدان الإعجاز، إلا كلمات الله، متحدية، قاهرة..
والشعر العربي، هو مجلى اللغة العربية، ومظهر بيانها، وشاهد بلاغتها..
فكيف يجىء القرآن الكريم، ليقتل هذا الشاهد الوحيد، الذي ينطق بإعجازه، ويحكى عن وجه الإعجاز فيه؟ وإذا مات هذا الشعر العربي، أو اختفى من الميدان، فمن أين يعرف للقرآن الكريم، إعجازه، ومن أين يؤخذ الدليل على مواقع الإعجاز فيه؟
إن القرآن الكريم، إذا وقف وحده في الميدان، فكيف يستدلّ على إعجازه؟ وبم يبين فضله على غيره من الكلام، وليس ثمة كلام غيره؟.
وندع هذا، لنقول: إن الإسلام لم يكن له موقف من الشعر العربي، من حيث هو شعر، وإنما كان موقفه هذا، من الشعر الذي غلب عليه الكذب، والذي اتخذ منه أصحابه أسلحة لنهش الأعراض، وفضح الحرائر، وبهت الشرفاء والأمجاد من الناس، وإلباسهم لباس الخزي والمذلة.. ببيت من الشعر، يصير. مثلا في الناس- ويصبح المقول فيه أمثولة.. فلا تقوم له بعد(10/200)
ذلك قائمة!! فهذا هو الشعر الذي عابه الإسلام، وأبى على المسلم أن يتخذ منه زادا له، لأنه زاد خبيث، تجتمع على مائدته الخبائث.. من كذب، وبهتان، وبغى وعدوان.. وكلها أطعمة يحرّمها الدين، كما تأباها النفوس الطيبة، التي لا تدين بدين!.
أما ما طاب من الشعر، وخلص من هذه الخبائث، فإن الإسلام حفيّ به، مكرم له، احتفاءه بالكلمة الطيبة، وإكرامه للقول الطيب.
ولقد سجل التاريخ الإسلامى، للصحابة رضوان الله عليهم، مواقف من الشعر الجاهلى، تدل على تقديرهم له، وحرصهم عليه، بل وتعلقهم به!.
فعمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يحفظ كثيرا من الشعر الجاهلى، ينشره حينا، ويستمع إليه أحيانا، ويسأل الوفود القادمة عليه، من قبائل العرب، عن شعرائهم، وعن أحسن ما عندهم من شعرهم..
بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضى الله عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول الله- صلى الله عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، فى بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!.
روى أنه- رضى الله- قرأ.. وهو على المنبر- قول الله تعالى:
«أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (47: النحل) - فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له.. فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص..
ثم أنشد:(10/201)
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السّفن «1»
فقال عمر: «أيها الناس.. تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم» .
وأمر ابن العباس- رضى الله عنه- فى موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان الله عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما.
ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!.
وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يرون الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» (69: يس) . ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع.. وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات الله وكلماته..
ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» .
ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة.. ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه
__________
(1) هذا الشعر في وصف ناقة، طالت بها الأسفار، فنحل وبرها، وهزل جسمها.. والتامك: السنام.. والقرد: الذي تجعد شعره من الهزال والضعف والنبع: شجر القسي، والسفن: أداة تنحت بها العصى ونحوها حتى تسوى وتصقل.(10/202)
لغلتقط منه هذه الحكم، وتؤخذ منه تلك الدرر، من بين هذا الغثاء الكثير، الذي كان يحمله هذا السيل المتدفق من الشعر! يروى عن أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله، كثيرا ما يقول لى: «أبياتك» ! (أي أنشدى أبياتك المعهودة) .
تقول السيدة عائشة.. فأقول:
ارفع ضعيفك لا يحربنّك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نما
يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
ففى هذا الشعر الذي كان يستمع إليه الرسول الكريم، دعوة كريمة من من دعوات البرّ، التي دعا إليها الإسلام.. فلا غرابة في أن يهش الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لسماعه، والإصغاء إليه.
وروى الزبير بن بكار، قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومعه أبو بكر رضى الله عنه، برجل، ينشد في بعض طرق مكة، هذا البيت:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلّا نزلت بآل عبد الدار؟
فقال- صلوات الله وسلامه عليه- يا أبا بكر.. أهكذا قال الشاعر؟
قال لا، يا رسول الله، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ... هلّا نزلت بآل عبد مناف
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «هكذا كنا نسمعها «1» » .
__________
(1) أي القصيدة التي فيها هذا البيت، ورويها حرف الفاء.. وبعد هذا البيت:
ثكلتك أمك لو نزلت بحيهم ... منعوك من عدم ومن إقراف(10/203)
وأكثر من هذا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يستمع إلى الشعر، ويجيز على الطيب العفيف منه، كما استمع إلى قصيدة كعب بن زهير، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دمه.. فلما جاءه مستخفيا وأنشده قصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيّم إثرها، لم يفد، مكبول
والتي يقول فيها:
نبئت أن رسول الله أوعدنى ... والعذر عند رسول الله مقبول
هشّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- له، وعفا عنه، وخلع عليه بردته التي كان يلبسها.. وأكثر من هذا فقد كان للنبى صلوات الله وسلامه عليه شعراء، على رأسهم حسان ابن ثابت، يردّون بشعرهم على شعراء المشركين، ويلقونهم في ميدان القول، كما كانوا يلقونهم في ميدان الحرب، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك» !! فكيف يكون روح القدس (وهو جبريل عليه السلام) مع شاعر يقول هذا الشعر الهجائى، ويطعن به في وجوه القوم وأعراضهم؟ أليس ذلك لأنه سلاح من أسلحة الحرب، وأنه بهذا السلاح إنما يقاتل المشركين بمثل أسلحتهم؟
ولهذا جاء قوله تعالى معقبا على آية الشعراء.. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» .
إن لكل مقام مقالا.. وإذا كان هذا المقام- فى حرب المشركين- يقتضى أن يكون لشعر الهجاء مكانه، فإن للشعر في مقام الخير، والإحسان، مكانا أوسع وأرحب!(10/204)
27- سورة النّمل
نزولها: مكية.. نزلت بعد الشعراء..
عدد آياتها: ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون، وقيل خمس وتسعون.
عدد كلماتها: ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة الشعراء، دفاعا عن القرآن الكريم، من أن يكون من واردات الشعر، كما كانت دفاعا عن النبيّ، أن يكون من زمرة الشعراء.. فمعدن القرآن، غير هذا المعدن الذي يصاغ منه الشعر، ونسيج القرآن، غير نسيج الشعر.. نظما ومعنى.. والنبيّ على طبيعة تخالف كل المخالفة طبيعة الشعراء.. قولا وفعلا.. سلوكا وخلقا!.
وكان بدء سورة «النّمل» .. حديثا عن هذا القرآن، الذي هو منقطع عن كل سبيل يصله بالشعر، حيث أنه هدى وبشرى للمؤمنين الذين يؤمنون به، يتعاملون بأحكامه وآدابه، على حين أن الشعر يقوم عموده على غير هذا الطريق الجادّ المستقيم.. كما كان هذا البدء حديثا عن النبيّ، بأنه بمعزل عن الموارد التي يردها الشعراء، ويملئون دلاءهم منها.. إنهم يأخذون ما توحيه إليهم شياطينهم، على حين أن النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذا القرآن وحيا من لدن حكيم عليم.. «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» .
فالمناسبة بين بدء سورة النمل، وختام سورة الشعراء، ظاهرة، والالتحام بينهما. قويّ، كما ترى.(10/205)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
التفسير:
يلفتنا هذا البدء الذي بدئت به هذه السورة إلى ما بدئت به سورة «الحجر» فقد كان بدء سورة «الحجر» هكذا: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» على حين جاء بدء النمل كما ترى. «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» .
فقد اختلفت صورة النظم فيهما، بالمغايرة بين وضع الألفاظ المشتركة بينهما، هنا وهناك..
فالكلمات في الآيتين واحدة، هى آيات، والكتاب، وقرآن، ومبين.
ولكن نظم هذه الكلمات في السورتين قد اختلف، فقدم هنا ما أخر هناك.
وإنه لا بد من سرّ وراء هذه المغايرة بين وضع الألفاظ، فى الآيتين.
تلك آيات القرآن وكتاب مبين (النمل) .
تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (الحجر) .(10/206)
أذلك لأن اختلاف الحروف المقطعة التي بدئت بهما السورتان، اقتضى هذه المغايرة في نظم الكلمات المشتركة بينهما..؟
فكان من المناسب للحرفين: الطاء والسين، أن يجىء بعدهما.. «تلك آيات وقرآن وكتاب مبين» كما كان من المناسب للأحرف: ألف، لام، راء، أن يجىء بعدها.. «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» ؟
قد يكون هذا، ولكن لا مفهوم له عندنا، مادمنا عاجزين عن فهم الدلالة القاطعة لهذه الحروف المقطعة.!
والذي يبدو لنا وراء هذا السر المختفى، الذي لا سبيل إليه، والذي ندع تأويله للراسخين في العلم- هو أن الآيتين تصوران صورة واحدة- للقران الكريم..
فالقرآن، والكتاب، آيات.. مقروءة، أو مكتوبة..
والقرآن.. هو كتاب مبين.. وقرآن مبين..
وهذا يعنى أن القرآن يجب أن يدوّن، ويكتب في صحف، احتفاء به، وحرصا عليه..
وهذا يعنى أيضا، أن هذا الكتاب الذي تدوّن فيه آيات الله، ينبغى أن يقرأ، ويتعبد بقراءته.. وأنه ليس الغرض من كتابته مجرد الكتابة للصيانة والحفظ، وإنما ليكون بموضع أنظار المسلمين في كل وقت.
وهذا يعنى مرة ثالثة.. ألا يقف القارئون لآيات القرآن، أو المرتلون لها، عند حدود القراءة أو الترتيل، بل يجب أن يفقهوا آياته، وأن يتدبروا كلماته، وأن يلتسموا عندها البيان لكل ما خفى عنهم، سواء كانوا قارئين أو مرتلين..
فآياته بينة لمن يقرأ أو يرتل.. إنه قرآن مبين، وكتاب مبين.. فمن لم يجد(10/207)
البيان فيما يقرأ أو يرتل منه فما أعطى القرآن أو الكتاب حقّه.
قوله تعالى:
«هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» هو بيان لما في القرآن من هدى وبشرى، لمن يؤمن بهذا القرآن، ويتدبر آياته، حيث يجد في آياته البينة ما يكشف له معالم الطريق إلى كل ما هو حق، وخير، وإحسان، وحيث يصله القرآن بالملأ الأعلى، ويصل حياته الدنيا، بالحياة الآخرة، وما أعد الله من جنات النعيم للمؤمنين، الذين سكن الإيمان قلوبهم، فامتثلوا ما أمرهم الله به، واستقاموا على طريقه المستقيم، فأقاموا الصلاة على وجهها، وأدوا الزكاة على ما أمر الله أن تؤدّى عليه، واستيقنوا أن هناك حياة آخرة، وأن فيها حسابا وجزاء، وجنة ونارا.. فعملوا لهذا اليوم العظيم بما ينجيهم من هوله، وبدنيهم من رحمة الله ورضوانه..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ» العمه: الضلال، وعمى البصيرة..
والآية هنا تكشف عن الوجه الآخر، المعتم الضال، من وجهى الإنسانية، للقابل للمؤمنين بالله واليوم الآخر.. وهو وجه الذين لا يؤمنون بالآخرة..
وأنه إذا كان فى القرآن الكريم هدى وبشرى للمؤمنين، فإن هذا القرآن لا يزيد الكافرين الضالين إلا كفرا وضلالا..
وقوله تعالى: «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أحلاهم لأنفسهم، وما توسوس لهم به أهواؤهم، فرأوا السيّء حسنا، والقبيح(10/208)
جميلا، والشرّ خيرا» والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) .
- وقوله تعالى: «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» أي يعشون عن طريق الهدى، فلا يقيمون وجوههم عليه، بل يتخبطون في ظلمات الجهل والضلال.
وفي قصر عدم إيمانهم، على الآخرة، ما يشير إلى أن الإيمان بالآخرة لا يكون إلا بعد الإيمان بالله.. فمن لم يؤمن بالله، وبقدرته على البعث، فلن يؤمن أبدا يبعث أو حساب وجزاء، أو جنة ونار..
قوله تعالى:
«أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» .
هو الجزاء الذي يلقاه المكذّبون بالآخرة، الكافرون بالله، الذين أعمتهم أهواؤهم وشهواتهم عن أن يفكّروا، ويتدبروا في خلق السموات والأرض، وأن يستمعوا إلى آيات الله التي تتلى عليهم..
قوله تعالى:
«وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» .
هو بيان لمتنزّل القرآن، وأن هذا المتنزّل هو مقام عال لا ينال.. فالله سبحانه وتعالى، هو الذي ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.. وهذا القرآن هو منزّل من ربّ العالمين.. وإذن فالقول بأن القرآن شعر، هو باطل الأباطيل، حيث لا وجه للشبّه بينه وبين الشعر، من حيث نظم الكلام، ومحتوى هذا الكلام،، وما يحمل من معان.
وفي وصف الله سبحانه وتعالى في هذا المقام، بهاتين الصفتين: حكيم، وعليم.. إشارة إلى ما في القرآن من حكمة وعلم.. حكمة، فى تقرير الحقائق، وفي وزن التكاليف، ورسم الحدود الشرعية، وضبط ذلك كله بميزان دقيق،(10/209)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
يضع الإنسان بموضعه الصحيح، فيعطى منه للجسد حقه، وللروح مطلبه..
وعلم، يحيط بكل شىء، ويمسك بأسباب كل شىء.. فلا يرى الأمر- مهما صغر- إلّا في مواجهة الوجود كلّه، حيث يأخذ مكانه فيه، وبهذا تكون الرؤية موصولة بماضى هذا الأمر، وحاضره، ومستقبله، جميعا..!
الآيات: (7- 14) [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ(10/210)
بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ»
الظرف «إذ» متعلق بمحذوف يدل عليه قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أي مما يلقيه عليك الحكيم العليم، ما كان من أخبار الرسل،، وها نحن أولاء نلقى عليك خبرا من أخبار موسى..
«إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً» .
آنس النار أحسّها، ووجد من إحساسه بها أنسا، وهو في وحشة مطبقة من صمت الصحراء، وظلام الليل.. فلما رأى النار استشعر الأنيس عندها، وأحسّ الأنس من جهتها، إذ لا توقد نار إلا وعندها من أوقدها، ليستدفئ بها، أو يهيىء لنفسه طعاما عليها..
وفي قول موسى لأهله: «سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ما يشير إلى أنّ موسى لم يكن على بيّنه من أمر هذه النار، وهل سيجد عندها أحدا أم لا.. فقد تكون بقية نار أشعلها قوم أول الليل ثم ارتحلوا عنها.. ولهذا فهو يتردد فيما سيجيئ به إلى أهله منها.. فهو إن لم يجد عندها أحدا، فلا أقلّ من أن يجىء بجذوة.. أي قطعة من النار.. لعلهم يصطلون بها، أي يستدفئون.
وقد جاء ذكر هذا الحدث في غير هذا الموضع هكذا:
«إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» (10: طه) .
وجاء في موضع ثالث هكذا:
«آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» (29:
القصص) .(10/211)
والصور الثلاث التي صور بها هذا الحدث، هى صورة واحدة، وإن استقلّت كل صورة بملامحها ومشخّصاتها..
فعناصر هذا الحديث هى:
موسى، والنار، وأهله، وما قال لأهله، وما عوّل على النتاسه من النار..
أما موسى.. فإنه قد رأى نارا.. وقد ذكرت هذه الرؤية في هذين الموضعين حكاية عن موسى ولم تذكر في الموضع الثالث، اكتفاء بالإشارة إليها فى الموضعين المذكورين..
فجاء في سورة طه: «إِذْ رَأى ناراً» .
وجاء في سورة القصص: «آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً» .
وهاتان الصورتان تمثلان الواقع أدق تمثيل، وأكمله.. فأول ما كان من موسى أنه رأى نارا.. مجرد رؤية.. ثم دخل عليه من هذه الرؤية أنس واطمئنان..
ثم كان بيان المكان الذي رأى فيه النار، وهو «جانب الطور» مما تتم به الصورة، التي سيكون لها شأن في نسيج الحدث كله..
وكان من تدبير موسى إذ رأى النار، أن ينطلق إليها وحده، وأن يدع أهله حيث هم، لأنه لا يدرى من يكون عند النار، وهل هم ركب مسافر، أم قطّاع طريق؟ .. إن من الحكمة أن يذهب وحده، ويتحسس الأمر، من غير أن يقحم أهله، ويدفع بهم إلى هذا المصير المجهول.. فينطلق وحده، بعد أن يعلن أهله بهذا..
ويصور القرآن الكريم، هذه الجزئية، من هذا المشهد في ثلاثة مواضع..
فى سورة النمل هكذا: «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً» .
وفي سورة طه: «إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً»(10/212)
وفي سورة القصص: «آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً.. قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» وهذه المقولات الثلاث هي من مقولات موسى، وليست من قبيل التكرار لقولة واحدة.. فهذا ما لا يكون في القرآن الكريم..
فهو إذ يرى النار، فى هذا المكان القفر، المظلم الموحش- تعروه حال من النشوة، وتأخذه الفرحة.. فيلقى إلى أهله بهذا الخبر المسعد.. إنى آنست نارا.. امكثوا.. إنى آنست نارا.. امكثوا.. إنى آنست نارا..
إنها فرحة من جاءه الخير على يأس.. أشبه بالطالب يدخل الامتحان، ويخرج منه، وهو على يأس من النجاح، ثم إذا به يرى نفسه في الناجحين، فينطلق بلا شعور، يحدث كلّ من يلقاه: نجحت! أنا نجحت.. أنا نجحت!! كأنه يريد أن يمسك بهذا النجاح أن يفلت منه، بعد أن ظفر به على يأس! وفي قوله لأهله: «امكثوا» «امكثوا» - هو تأكيد لهم بأن يظلوا مكانهم، وألا يتحولوا عنه، بحال.. يقول هذا، وهو منطلق إلى حيث رأى النار..
وفي تحرك موسى نحو هذه النار.. يلقى إلى أهله، الذين أمرهم بالانتظار، بما يريد من انطلاقه هذا.. إنه منطلق، وإنه لعائد إليهم..
«سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ..» (النمل) «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ.. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً..» (طه) «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ..» (القصص) إن هذه المقولات جميعها، هى مما ألقى به موسى إلى أهله.. مما كان يجرى فى خاطره، وهو يتجه نحو هذه النار..(10/213)
وإذا أخذنا هذه المقولات بترتيبها هذا- الذي لم يقم على حساب عندنا، إذ لا سبيل إلى تحقيق هذا الترتيب- نقول إذا أخذناها بهذا الترتيب، وجدنا أن موسى كان أول أمره عند رؤية النار، فى حال من الدّهش، والنشوة، لم يتبين معها الموقف على وجهه، فوقع في نفسه ما كان في شوق إليه، وهو العثور على من يؤنسه في هذا المكان الموحش، فلما رأى النار أمسك بهذا الأمل الذي طلع عليه منها، ورآه شيئا محققا، فقال لأهله على سبيل القطع..
«سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» .. ثم ماهى إلا لحظة حتى يطرقه الشعور المضادّ لهذا الأمل المحبوب أن يفلت من يده، فقال لأهله:
«لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ.. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» .. على سبيل الرجاء، لا القطع.. ثم هو لا يجيئهم بشهاب قبس، بل سيجيئهم بقبس!! لقد تضاءل هذا الشهاب الساطع من الأمل، فصار مجرد قبس.. ثم يعاوده الأمل مرة أخرى، ولكن بصورة تجمع بين الرجاء والقطع بهذا الرجاء: «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ! هذا، وإن لك أن تغير من أوضاع هذه المقولات الثلاث، فتقدم وتؤخر، وإذا هي في كل حال، تصوير دقيق لمشاعر الإنسان، فى مثل هذا الموقف، الذي يحوطه القلق والاضطراب، وتغمره الوحشة، ويحتويه الظلام..
وهذا التصوير الدقيق لأحوال النفس، ومسارب الخاطر، لا يمكن أن يكون في صورة كلامية، إلا في كلمات القرآن، ولا يمكن أن يحتمله نظم غير نظم القرآن! ثم إنه- فى القرآن- لا يكون على صورة مقبولة مع هذا التكرار، إلا إذا جاء موزعا، كما هو واقع في هذه المعارض الثلاثة، وإلا تراكمت ألوان الصورة وتدافعت، وغطى بعضها وجه بعض!(10/214)
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. أي وحين اقترب موسى من النار، سمع نداء، لا يعرف مصدره، ولهذا جاء الفعل مبنيا للمجهول:
«نودى» والنداء الذي سمعه هو أن هذه النار نار مباركة، قد بورك فيها، ويورك فيمن حولها من عوالم، جامدة، أو حية، وهذا يعنى أن موسى، قد مسّته هذه البركة، إذ كان فيمن حول النار.
وقد جاء في سورة طه: «نُودِيَ يا مُوسى.. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» وجاء في سورة القصص: «نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ..» (30)
وواضح أن هذه النداءات الأربع قد تلقاها موسى في هذا الموقف.
فأولا: نودى هذا النداء المجهول، ومن غير أن يذكر اسمه.. وإنما سمع نشيدا علويّا، يحدث عن هذه النار بأنها نار قد بورك فيها وفيمن حولها..
«أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها..»
وثانيا: أتبع هذا النداء بنداء آخر أكثر وضوحا وتحديدا: «يا مُوسى.. إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ثم أتبع ذلك بناء ثالث.. «يا مُوسى، إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .
ولا شك أن هذه النداءات تثير كثيرا من الاضطراب والفزع، فى هذا الجوّ الرهيب.. فكان النداء الرابع والأخير: «يا مُوسى.. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ.. إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» فهذا النداء، يدعى به موسى إلى ربه، ويضاف إليه، ثم يؤمر بما ينبغى أن يكون من أدب، فى لقاء ربه، والاستماع إلى خطابه!.(10/215)
وواضح أن هذه النداءات المتكررة، مصحوبة بذكر الله.. «يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» «يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. واضح أن هذه النداءات المتكررة في سرعة وانطلاق.. على أي ترتيب تكون عليه.. إنما اقتضاها هذا الموقف الذي اهتزّ له موسى من أقطاره، فكان صوت الحق سبحانه وتعالى في هذه النداءات المتكررة، سكنا لقلب موسى، وإمساكا لنفسه التي تكاد تذهب شعاعا. وفي كل نداء كان يذكر «موسى» باسمه، وفي هذا تطمين له، وأنه إنما ينادى ممن يعرفه، ويعرف أحواله.. وإذن، فلا خوف عليه..
الأمر إذن جدّ ليس بالهزل، وما يسمعه موسى هو حقيقة، وليس وهما، ولا حلما.. وإذن فعلى موسى أن يستيقظ، وأن يصحو صحوة مشرقة لاستقبال هذا العطاء العظيم..
قوله تعالى:
«وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ.. يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» .
الجانّ: فرخ الحيات، وهو أخفها حركة، وأسرعها انطلاقا على الأرض..
وقد جاء في سورة طه: «فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» ..
وهذا يعنى، أن العصا صارت حيّة في ضخامتها، وجانّا في سرعتها، وخفّتها، ولهذا وصفت بأنها «تسعى» فالحيات حين تكبر وتضخم: لا تكاد تتحرك من مكانها، فضلا عن أن تسعى.
وقوله تعالى: «وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» أي انطلق مسرعا، فأعطاها ظهره، وأطلق ساقيه للريح.. فرارا من هذا الهول الذي طلع عليه من(10/216)
تلك العصا التي كانت خشبة جامدة في يده منذ لحظات.. وفي قوله تعالى:
«وَلَمْ يُعَقِّبْ» .. إشارة إلى أنه لم يتراجع إلى الوراء قليلا، على عقبه، حتى ينكشف له الأمر، ويتبين إن كان سيقبل أم يدبر.. بل إنه اتخذ هذا القرار دون شعور، إذ لم يكن له أمام هذا الهول وقت يفكر فيه.. ثم هل هناك ما يحتاج إلى تفكير؟ إنه رأى واحد، وهو الفرار من الهول العظيم! وقوله تعالى: «يا مُوسى لا تَخَفْ.. إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
هو صوت الحقّ، الذي تبع موسى في منطلقه هذا، وأمسك به على طريق الفرار، وأنزل على قلبه الطمأنينة والسكينة..
إنه ليس وحده مع هذا الثعبان العظيم.. وهذا هو صوت الحق يملأ هذه الوحشة أنسا، ويحيل هذا الفزع والهلع طمأنينة وأمنا.. «يا مُوسى.. لا تَخَفْ» .. وإنّ كلمة «موسى» لتفعل فعلها في هذا الموقف، إذ أن المنادى يعرف موسى. وإذن فلا يخاف منه، لأنه في حضرة من يعرفه، ومن كان من شأن هذه المعرفة لا يجىء منها ما يسوء.. إن الإنسان في مثل هذا العالم الموحش ليتلمس أي وجه كان له به معرفة، من قريب أو بعيد. من إنسان، أو حيوان أو جماد.. إن أي شىء من هذا، يبعث الأنس، ويذهب بكثير من وحشة الغربة..!
ويفىء موسى، إلى شىء من الطمأنينة، ويذهب عنه كثير مما استولى عليه من الخوف.. «يا مُوسى.. لا تَخَفْ» ..!
ثم لا تكاد نوازع الخوف تعود إلى موسى مرة أخرى. بعد أن سكت هذا النداء المؤنس، حتى يجئ النداء مرة أخرى يملأ الوجود كله من حوله: «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» .. وهنا يعلم موسى أنه قد اختير لرسالة(10/217)
سماوية من رب العالمين، وأنه سيدخل مدخل الرسل، منذ ذلك الوقت..
والمرسلون لا ينالهم من الله ما يخيفهم، ولا يطلع عليهم في حضرته إلا ما يؤنسهم، ويملأ كيانهم رضا وأمنا..
ثم لا يكاد موسى، يسعد بهذه البشرى، التي يجد بها نفسه في حضرة الله سبحانه وتعالى، حتى يعود فيسمع من قبل الحق جل وعلا: «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..!! وهنا تدور في رأسه الظنون، وتتحرك في صدره الوساوس المتسائلة: ما هذا الاستثناء الذي يزعجه عن هذا المكان الذي اطمأن فيه إلى جوار ربه، وإلى ما وجد من أنس وروح في ظلال فضله وإحسانه؟ أهو من الظالمين، الذين لا يستحقّون أن ينزلوا هذا المنزل؟
أهو مطالب بأن يبدّل حسنا بعد ما كان منه سوء، حتى ينال عفو الله ومغفرته؟
إن الاستثناء لا شك واقع على المرسلين.. فهل من المرسلين من يظلم؟
وهل كان موسى- وهو من المرسلين- ممن ظلم؟
نذكر هنا حادثة موسى، مع المصري الذي قتله..!
فقد قتل موسى، المصري خطأ، حين وجده يعتدى على إسرائيلى..
كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» (15- القصص) وقد استشعر موسى الندم على هذه الفعلة.. فقال: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» .. ثم طلب المغفرة من ربه لهذا الذنب الذي ارتكبه.. «قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي.. فَغَفَرَ لَهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (16: القصص)(10/218)
فهذا الاستثناء يذكّر موسى بهذه الحادثة التي كانت منه، كما يذكّره بأن الله قد غفر له..!
وأكثر من هذا، فإن موسى سيدعى من ربه في هذا الموقف إلى لقاء فرعون، وما زالت نفسه تفيض بمشاعر الخوف التي وقع فيها من قتل المصري، وأنه مطلوب من فرعون ليقتله، بهذا المصري، وهو من أجل هذا قد فر من وجه فرعون، كما يقول الله تعالى: «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ» (18: القصص) أي يترقب القصاص منه.. ثم جاء من ينصح له بأن يخرج من المدينة، ويطلب النجاة لنفسه بالفرار منها.. «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ» (21: القصص) ..
فهذا هو شعور موسى، وهذا ما يطلع عليه من مخاوف، إذا هو دعى إلى لقاء فرعون.. وقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، أن يصفّى هذه المشاعر من نفسه، قبل أن يحمّله رسالته إلى فرعون.. فقد ظلم موسى نفسه فعلا بهذا الذي كان منه من قتل المصري.. ولكنه ندم، ورجع إلى الله تائبا مستغفرا، وقد غفر الله له..! وإذن فلا خوف عليه، لأنه من المرسلين، والمرسلون فى رعاية الله وحراسته..
إن موسى سيدخل في تجربة قاسية مع فرعون، إذ يحمل إليه دعوة من الله، بأن يؤمن بالله، وبأن يطلق بني إسرائيل من يده، ويرسلهم مع موسى، إلى حيث يخرج بهم من سلطان فرعون! وإن الخوف من فرعون ليكاد يكون كائنا يعيش مع موسى.. حتى إنه، مع هذا الأنس الذي وجده فى حضرة به، ومع هذا الوعد بأنه من المرسلين الذين يحرسهم الله، ويدفع عنهم ما يخيفهم- مع هذا كله، فإنه ما يكاد يتلقى أمر ربه: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» (24: طه) حتى تطل عليه وجوه الخوف من كل جهة، فيقول(10/219)
«رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» (33: القصص) .
وإذن فقد كانت هذه المواجهة لموسى بفعلته، وبمغفرة الله له، وبذهاب كل أثر لهذه الحادثة- كانت هذه المواجهة من تدبير الحكيم العليم، لانتزاع هذا الخوف، الذي غاصت جذوره في أعماق موسى وخالطت وجوده.
قوله تعالى:
«وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» .
وتجربة أخرى، يجريها موسى، بعد تجربة العصا، وهي يده، التي كانت تمسك بهذه العصا.. إن يده هذه نفسها، يمكن أن تكون شيئا آخر، كما كان ذلك شأن العصا.
العصا يلقيها على الأرض.. فإذا هي جانّ، وإذا هي ثعبان مبين، وإذا هى حية تسعى..
ويده.. ماذا يفعل بها؟
إنه يدخلها في جيبه، أي يدسها في صدره، تحت ثوبه، إذ يدخلها من جيبه- أي الفتحة التي يلبس منها الثوب- ثم يخرجها، فإذا هي بيضاء بياضا ناصعا، مشرقا، «من غير سوء» أي ليس هذا البياض عن داء كداء البرص مثلا، وإنما هو بياض يشّع نورا، ويتلألأ صفاء.. كما تتلألأ اللائي.
وقدّمت تجربة العصا، على تجربة اليد، لأن العصا- مهما كان التحول الذي يحدث لها- لا تثير في نفس موسى من رعب ما تثيره يده، وقد تغيرت صفتها على هذه الصورة التي تحولت إليها..
إنه مع العصا، قد استطاع أن يجد لمخاوفه مهربا.. فولى مدبرا، يبتعد(10/220)
عن موطن الخطر الذي تمثله منها.. أما مع يده، فكيف السبيل إلى مهرب منها؟ ولكنها إذ جاءت بعد تجربة العصا، وبعد أن ذهبت مخاوفه، فإن أمرها يكون هينا محتملا! وقوله تعالى: «فِي تِسْعِ آياتٍ» .. أي أن هذه الآية، آية اليد، واحدة من تسع آيات، أو في اطار من تسع آيات، هى جميعا أشبه بآية واحدة.. فى إعجازها، وتحديها لقوى البشر جميعا.. وهذا هو السر في حرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية.
وقوله تعالى: «إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ» .. الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: هذه اليد آية، تدخل في تسع آيات تحملها إلى فرعون وقومه.
وقد كانت الدعوة هنا موجهة إلى فرعون وقومه: «فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ» على حين جاء الأمر في بعض القصص بلقاء فرعون وملائه:
«فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ.. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ..
(32: القصص) أما في سورة طه، فقد كانت الدعوة إلى فرعون وحده:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» .
والسرّ في هذا والله أعلم، أن موسى، حين لقى فرعون لأول مرة، لقيه فى حاشيته ثم مع سحر له، وما حشد من جموع ليوم المعركة، بين موسى، والسحرة.. ولم يظهر موسى من الآيات التي بين يديه، إلا العصا، ويده..
ولهذا كان الذين شهدوا هاتين الآيتين، هم أعداد قليلة.. هم فرعون وحاشيته، وخاصة أتباعه، فناسب أن يكون فرعون وحده، أو فرعون والملأ حوله هم الذين يذكرون في مواجهة هاتين المعجزتين.
أما الآيات التسع، وفيها العصا واليد، فقد شهدها القوم جميعا، ووقع(10/221)
أثرها، على الشعب كله، وشمل ملك فرعون جميعه، فناسب أن يذكر القوم، مع فرعون، لأن هذه الآيات التسع موجهة إلى فرعون وقومه جميعا.
والآيات التسع، هى العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والجدب، والعقم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (133:
الأعراف) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) .. فالسنون هي سنو الجدب، التي تغيض فيها مياه النيل، وتجف مياه الآبار والعيون.. ونقص الثمرات، هو العقم، الذي أصاب الزروع، والحيوان، والإنسان.. وكان هذا وذاك آية من آيات الله..! وقد شملت هذه الآيات فرعون وقومه جميعا.
وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» - إشارة إلى كان عليه القوم من ضلال، وفسق، أي خروج عن جادة الطريق، إذ كانوا جميعا متابعين لفرعون، وعلى إيمان بألوهيته.. «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» .
(79: طه) .
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .
وصف الآيات بأنها مبصرة، إشارة إلى ما فيها من هدى مشرق واضح، وأنها تكاد تكون عيونا شاخصة تبصر، وتقود العمى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم..
قوله تعالى:
«وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا.. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ(10/222)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ»
.. الجحد، والجحود: الإنكار، القائم على المكابرة، والتحدّى للحق والواقع.
والاستيقاز: التثبت من الشيء، ورؤيته رؤية كاشفة محققة..
فالقوم، قد أنكروا هذه الآيات، وتنكروا لها، ورموها بالسحر والخديعة، مع أنهم في قرارة أنفسهم على غير هذا الذي تنطق بهم ألسنتهم في شأنها.. إنهم يرونها أبعد ما تكون عن السحر، وأنها مما لا تطوله يد بشر..
ولكن لما عندهم من جرأة على العدوان، واستكبار على الخضوع للحق، والولاء له.. أنكروا هذا الذي يجدونه في دخيلة أنفسهم لهذه الآيات.
وقوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» .. الأمر هنا هو إلفات للنبى، ولكل من عنده استعداد للنظر السليم في وجه الحق وتقبله..
فالذى ينظر، بعين مبصرة، إلى ما حل بهؤلاء القوم، يرى العبرة فيما أخذهم الله به، وأن مصرعهم كان حتما مقضيا به، على كل من يذهب مذهبهم، ويأخذ طريقهم، الذي لا يصلح عليه أمر من يسير عليه، لأنه طريق فاسد، لا يرى عليه إلا المفسدون..
الآيات: (15- 19) [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)(10/223)
التفسير:
[سليمان.. والنملة.. والهدهد]
مناسبة هذه القصة، لقصة فرعون، هى أن الله سبحانه وتعالى، يبتلى بنعمه من يشاء من عباده، فمنهم من يكفر بهذه النعم، ويتخذ منها أسلحة يحارب بها في مواقع الحق، والخير، ويضرب بها في وجه المحقين والأخيار من عباد الله.. ومنهم من يتلقى هذه النعم بالشكران لله، والولاء لطريق الله، ولمن يسلك هذا الطريق من عباده..
فهذا فرعون يمكّن الله له في الأرض، ويبسط له الرزق، فيتحول من إنسان إلى شيطان مريد، وإلى إعصار عاصف، يأتى على كل ما يزرع في منابت الحق والخير.. ثم يبعث الله إليه نبيا كريما، يحمل إليه دعوة كريمة، فى رفق ولين، حتى إن الله سبحانه وتعالى- كرما منه، وفضلا- يوصى رسوله أن يتلطف، ويترفق بهذا الإنسان، الذي ملأء الغرور، واستبد به الكفر، فيقول له الحق جل وعلا:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى؟» (17- 19: النازعات) .(10/224)
فيلقى هذا النداء الكريم، وهذا اللطف اللطيف بهذا العناد اللئيم، الذي وصفه الله تعالى في قوله: «فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (21- 24 النازعات) .
وعلى غير هذا تماما، كان موقف عباد الله المؤمنين، الذين يعرفون لله قدره، ويذكرون له فضله..
ومن هؤلاء داود وسليمان.. عليهما السلام.. لقد آتاهما الله خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم، الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، يستطيع بها أن يستولى على سلطان هذا العالم كله..
ومع هذا، فإنهما استقبلا هذه النعمة الجليلة العظيمة، بالحمد، والشكر، والولاء لله، وخفض الجناح لعباد الله، ولكل ما خلق الله.. حتى إن سليمان عليه السلام، وهو في أروع مظاهر سلطانه، وفي أعظم مجالى قدرته وقوته، يقف بين يدى أضعف مخلوقات الله، وهي النملة.. فيأخذ منها العبرة والعظة، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطانا كسلطانه، وملكا كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله. فيقول في محراب ملكها الذي تسبح فيه بحمد الله: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» ! فأين موقف فرعون، من هذا الموقف؟ وأين الأرض من السماء؟ وأين الباطل من الحق، والعمى من الهدى؟ وأين أعداء الله من أولياء الله؟.
وفي قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» إشارة إلى أن الذي أعطاهما الله إياه من العلم، هو- على عظمته وجلاله- شىء قليل، لا يكاد يذكر(10/225)
إلى مالله سبحانه وتعالى من علم، وهذا ما يدل عليه تنكير كلمة «علم» ..
فهو علم قليل قليل، مما عند الله من علم..
وفي قوله تعالى: «وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» - إشارة أخرى إلى أن العلم الذي كان عندهما، هو وإن علوا به عن كثير من عباد الله، فإن في عباد الله من أوتى علما أكثر من علمهما.. فهما أكثر من كثير من الناس علما، وأقل من بعض الناس علما..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (76: يوسف) وبهذه النظرة كانا ينظران إلى علمهما، وأنهما لم يستوليا على غاية العلم، مما هو متاح للناس، وإنما أخذا حظا كبيرا من هذا العلم.
قوله تعالى:
«وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» .
ميراث سليمان لداود، هو وراثة الملك من بعده، دون إخوته.. ثم اختياره للنبوة، فى قومه، كما كان أبوه نبيا فيهم.. فالملك وراثة، والنبوة اصطفاء، لا ميراث. وقد جمعهما الله سبحانه لسليمان، كما جمعهما لداود..
فتلقى سليمان من الله ما كان لداود من ملك ونبوة، وكان بهذا قد ورث أباه فى كل ما كان له من ملك ونبوة.
وقوله تعالى: «وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» .. هو تحدث بنعمة الله عليه، واستعراض لهذه النعم التي أسبغها الله عليه، ليكون في ذلك داعية له إلى القيام بشكرها، ورعايتها حق الرعاية.(10/226)
وفي الحديث عن نفسه «بنا» الدالة على الجمع، فى قوله «علمنا» ..
«وأوتينا» .. هو دعوة إلى الناس، أن يشاركوا معه في هذا التحدث بنعمة الله، والاستعراض لأفضاله، فما هو إلا واحد من هؤلاء الناس، وما الفضل الذي فضل الله به عليه، إلا فضل يأخذ منه الناس حظهم، فلا يختص به نفسه، وإنما هم شركاء له، فيما يعود عليه من هذا العلم لمنطق الطير، ولهذه النعم التي أوتى منها كل شىء! .. وهكذا شأن أهل العلم، وأرباب الجاه والسلطان من عباد الله.. إن ما يفتح الله عليهم به من علم، وما يمكّن لهم به من جاه وسلطان في هذا الوجود، هو خير متاح للناس جميعا، وتمكين لخلافتهم على هذه الأرض..
- وقوله تعالى: «وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» أي أوتينا من كل شىء من أشياء هذه الدنيا مما ينصلح به أمرنا، ويقوم عليه وجودنا، وسلطاننا.. فهو لم يؤت كل شىء، وإنما أوتى شيئا من كل شىء هو في حاجة إليه..
قوله تعالى:
«وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ.. فَهُمْ يُوزَعُونَ» الحشر: الجمع والحشد..
يوزعون: من الوزع، وهو السوق، والدفع، بفعل قوة خارجة، أو طبيعة غالبة..
وقد ذكر من جنود سليمان هنا: الجن، والإنس، والطير.. إذ كانت هى القوى العاملة معه في دولته..
فالجن كانوا مسخرين له، فى عمل ما يريد منهم.. «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» (13: سبأ) .(10/227)
والإنس: هم من تضمهم دولته من رعيته.
والطير: هى أجناس من الطيور، التي تعيش في جو مملكته، ويسخرها لخدمته..
وبهذا يكون له ملك ما على أرض مملكته، وما في جوها..
وطبيعى، أنه ليس كلّ الجنّ قد سخروا لسليمان، وإنما بعضهم، شأنهم فى هذا شأن الناس.. فليس كل الناس، كانوا في سلطان سليمان.. وإنما هم الذين كانوا يعيشون في دائرة مملكته..
وكذلك الطير.. فليس كلّ الطير كان مسخرا له.. وإنما هي بعض الطيور التي كانت تعيش في هذه الملكة..
وكان سليمان يستعرض وجوه مملكته.. من الجنّ، والإنس، والطير، ويحشدهم بين يديه، بسلطانه، الذي مكن الله سبحانه وتعالى له به، فى هذه الرعايا، فلا يقدر أحد على أن يخرج عن هذا السلطان، الذي يزع هذه الرعايا، ويأخذ من يخالف منها بالعقاب الذي يستحقه! وفي ثمان كلمات صوّر هذا العرض العظيم، الذي جمع عوالم الجن والإنسان، والطير، وحشرها في موقف واحد، وجىء بها من كل صوب، فى حركة هادفة منتظمة، أشبه بحركات الأفلاك في مداراتها، يمسكها نظام، وتظلها سكينة وجلال..
«وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ..
ثمانى كلمات لا غير، يقوم بها هذا المشهد، الذي تعجز أدوات البيان والتصوير كلها عن أن تأتى له بنظير، وأن تمسك بهذه الروعة وهذا الجلال.
فهذه الكلمات الثمان، قد استدعيت بها كل هذه الحشود الحاشدة، من(10/228)
الجن، والإنس، والطير، وقد أمسكتها يد القوة القادرة بكلمة واحدة.. هى «يوزعون» التي قامت على هذه الأمم مقام الحرس والقادة، فى أحدث ما عرفت الجيوش من حراسة، وضبط، وقيادة! قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
«حتى» إشارة إلى غاية من غايات للسيرة التي يسير إليها سليمان، بهذه الحشود التي احتشدت له، من الجنّ والإنس والطير..
وقد انتهت به هذه الغاية هو وجنوده إلى «واد النّمل» أي قرية من قراه، حيث يعيش النّمل جماعات، وفي نظام أشبه بنظام المجتمع الإنسانى! وقد أراد سبحانه وتعالى، أن يصغّر في عينى سليمان هذا الملك العريض الذي بين يديه، وأن يكسر من حدّة هذا السلطان المندفع كالشهاب، لا يمسكه شىء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كى لا يدخل على نفسه شىء من العجب والزهو.. فتقف له النملة هذا الموقف الذي يرى منه سليمان عجبا عاجبا.. فيرى سليمان من النّملة ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمعه أحد غير النمل الذي يعيش معها.. «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
هذا هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها..
إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان.. فلتأخذ الجماعة حذرها، ولتدخل مساكنها، وتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق! وممن هذا الهلاك؟(10/229)
من جماعة عالية، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطىء أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة! وهل يشعر من يسكن القصر، بما يعانى ساكن الكوخ؟ وكم في دنيا الناس من المستضعفين من تطؤهم أقدم الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم؟ وكم من مجتمعات بشرية بأسرها جرفها تيار عات من تيارات الطغاة والمستبدّين؟ وكم من مدن عامرة دمّرتها رحى الحروب التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود؟ وكم؟ وكم؟
إنها حكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه «النملة» - أضأل مخلوقات الله، وأقلها شأنا- على الإنسانية، فى أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها!.
ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟
ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة..! فحاد بركبه عن وادي النّمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله، ونعمته.. فيقول: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .. ومن شكر النعمة، حراستها من أن تكون سلاح بغى وقهر. ومن العمل الصالح، إرسال هذه النعم في وجوه الخير والإحسان.
إن للنملة سلطانا كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجندا كجنده.. ثم إنها تقوم على هذه الدولة وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائما على مواقع الخير، ترتاده لرعيتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، وتحذرها منها..
فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل(10/230)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
هذا السلطان الحكيم؟ وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ إن مقاييس الحكمة والرشاد لا تقاس بالكم ولا تحسب بالعدد.. ومتى كانت المعاني كمّا وعددا؟
والعجب أن مشيخة المفسّرين يدعون مثل هذه المعاني الدقيقة، التي جاءت هذه القصة وأمثالها لها، من حيث الوقوف على مواقع العبرة والعظة فيها، ثم يشغلون أنفسهم، ويشغلون الناس معهم، بالبحث عن النملة، وهل هي ذكر أم أنثى، وعن الموضع الذي كانت فيه مملكتها، واسم الوادي الذي قامت فيه تلك المملكة.. ثم اسم النملة!! إي والله اسم النملة!! حتى لكأنها لا تكون نملة إلا إذا حملت اسما لها، وحتى لا يكون منها هذا التدبير لمملكتها إلا إذا كانت من ذوات الأسماء!! ثم ما أكثر الأسماء التي تجلب لها من كل واد من أودية الخيال..
فمن أسمائها «حرس» وأنها من قبيلة بنى الشّيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت في حجم الذئب.. وقد لسب هذا القول إلى الحسن البصري! ومن أسمائها «طاخية» و «منذرة» ! وهكذا تكثر لها الأسماء والصفات، حتى لتخرج عن أن تكون نملة من هذه النّمال التي يعرفها النّاس، وحتى ليخرج بها ذلك عن أن تكون موضعا للعبرة والعظة!!
الآيات: (20- 27) [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 27]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27)(10/231)
التفسير:
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر، وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها.. وهو «الهدهد» .
وكأن سليمان قد نسى هذا الموقف الذي كان فيه مع جماعة النمل منذ قليل، وزايلته تلك المشاعر التي وقعت في نفسه هناك.. وها هو ذا يلبس سلطان الجلال، ويمسك بصولجان الملك، ويضرب بسيفه! «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .
الهدهد.. هذا الطائر الوديع المسكين.. يتخلّف عن هذا الحشد، ولا يحضر هذا الحفل، فيتوعّده، صاحب السلطان بأشدّ العذاب والنقمة! «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً.. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ.. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» !! أما للهدهد عذر يمكن أن يقوم لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب؟
ألا يجوز أن يكون مريضا؟ ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ ألا يعرض للهدهد ما يعرض للناس من أمور تعطل إرادتهم، أو تدفع بهم إلى غير(10/232)
ما يريدون؟ ألا سأل سليمان عن الهدهد أولا، وطلب إلى بعض جنده أن يأتوه بالخبر اليقين عنه؟ ألا اطمأن إلى سلامته قبل أن يسأل عن تأخره عن أخذ مكانه في هذا الحشد؟ وماذا يغنى الهدهد في هذا الجمع العظيم؟ وماذا يجدى أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، وبين يدى سليمان من الحشود والقوى مالا حصر له؟.
إنه سلطة السلطان، وناموس الملك.. الطاعة والولاء، لحساب الطاعة والولاء، ولسلطان الهيبة والجلال..!
وفي قول سليمان: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» - هو علم من علم سليمان الذي آتاه الله.. فهو حين ينظر فلا يرى الهدهد، يتهم نفسه أولا، ويتشكك في أن تكون حواسه قد خدعته: «مالى لا أرى الهدهد؟» ولم يقل: «أين الهدهد؟» ولم يقل: «إن الهدهد غائب!» .. وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها بين أيديهم، تشككوا في أسلوب تفكيرهم الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر.. حتى يجدوا ما يطلبون.. أما إذا التمس المرء الحقيقة ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة له إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم.
فسليمان، إذ لم ير الهدهد.. وقف موقف الشك. حتى ينجلى الموقف..
إنه لم يره، وقد يكون موجودا، وقد يكون غائبا! ثم استبان له بعد هذا، أن الهدهد غائب! .. ومن هنا كان هذا الوعيد بالعقاب الأليم له! ويطلع «الهدهد» على سليمان بما لم يكن يحتسب، ويهجم عليه، وهو(10/233)
الأعزل الضعيف، بسلطان أقوى من سلطانه، وجيش أعز وأقوى من جيشه، وعلم أكثر وأشمل من علمه..
«فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ.. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» !! لقد انقلبت الآية، وانعكس الوضع. وها هو ذا «الهدهد» الضعيف الأعزل، الذي تنتظر هذه الحشود الحاشدة من الجن والإنس والطير، مصيره، ومصرعه، بين مشفق، وشامت، ولاه- هذا الهدهد، يحاكم سليمان، وينتقص قدرته، ويتهمه بالقصور عن أن يرى ما حوله، وأن يدير هذه القوى التي بين يديه الدعوة إلى الله، وهداية الضالين من عباده، لا في هذه المظاهر الاستعراضية، التي لا ثمرة لها..
لقد حاكم، هذا المخلوق الضعيف الأعزل، ملك الملوك في عصره..
حاكمه، ووضعه موضع الاتهام، وهو في أبهة ملكه.. وعلى أعين الملأ من جنده.. من الجن والإنس والطير!! «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ! فلم يكن هذا الطائر الضعيف الصغير، مجرد مكتشف، وعالم، بما لم يعلم به سليمان وحسب، بل إنه كان داعية إلى الله، وإلى الإيمان به.. فهو ينكر على المشركين شركهم، ويسفه أحلامهم، ويحقر آلهتهم وما يعبدون من دون الله!.(10/234)
إنه يدين سليمان في هذه الإنسانية الضالة، التي ينتمى إليها سليمان، باعتباره واحدا من عالم الناس! ثم ماذا بقي لسليمان من فضل على هذا المخلوق الضعيف؟
إن سلطان سليمان- كملك- قصر عن أن يمتد إلى ما وصل إليه سلطان الهدهد، وأحاط به علمه!.
وإن دعوته كنبيّ.. لا تقوم على أكثر من هذه الدعوة التي يدعو بها الهدهد.. وإن حجته على دعوته، ليست بأقوى من حجة هذا الهدهد! فماذا بقي للإنسان في أكمل صوره، وأحسن أحواله، وأعلى منازله.؟
ماذا بقي له من فضل، على أضعف مخلوقات الله وأقلها شأنا.. كالنملة والهدهد؟
إن جهل الإنسان بأسرار هذا الوجود، هو الذي يخيل إليه أنه سيّد هذا العالم، وأنه قد علم مالم يعلمه غيره من مخلوقات الله..
وهذا- لا شك- رحمة من رحمة الله بالإنسان.. إذ لو انكشف له الغطاء عن أسرار هذا الوجود، وما أودع الخالق في مخلوقاته من عجائب وأسرار- لمات الإنسان حسرة وكمدا، على ضآلة شأنه، وكثافة جهله، ولانطفأت في نفسه شعلة الأمل التي تدفىء صدره، وتغريه بالاندفاع وراء المجهول، لكشف الستر المحجّب وراءها، ولوقف من هذا الوجود موقف الذليل المهين أمام سلطان جليل مهيب.. وصدق الله العظيم: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .
(85: الإسراء) ولعل خير شاهد لهذا الذي نقول، ما يعانيه الغرب اليوم من قلق نفسى، وحيرة فكرية، واضطراب سلوكيّ.. ومرّد هذا كله- فيما نرى- إلى هذا القدر الضئيل، الذي انكشف للعقل من أسرار الوجود، دون أن يرتبط ذلك بالإيمان بالله، وإضافة هذا إلى علمه وقدرته، وإبداعه في خلقه.. فكان(10/235)
الأثر المباشر لهذا، هو ضمور شخصية الإنسان، وصغاره، وضآلة شأنه بين عوالم الوجود..
وليست هذه النظرات المتشائمة، التي قامت عليها هذه المذاهب المادية السوداء، التي يعيش فيها الغرب اليوم- ليست إلا أثرا من آثار هذه الكشوف العلمية، التي ألقت أضواء خافتة على أسرار هذا الوجود، فظهر الإنسان فى شعاعاتها المضطربة المتراقصة، كأنه حشرة حقيرة، أو دودة هزيلة، أو قرد خلقه الله ليتسلى به في أبديته الطويلة المملة، كما يقول كبير الفلاسفة «نيتشه» !.
ونعود إلى القصة! فهذا سليمان، يلقى الهدهد، بعد أن تلقى منه هذا الدرس القاسي- يلقاه بشىء من اللطف والموادعة، فيقول له:
«سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين» .
وسليمان يعلم أن الهدهد صادق فيما جاء به من ألباء! ومن أين تعرف الطيور الكذب، وليس بينها وبين الإنسان قرابة أو نسب؟
«سليمان» ، يعلم أن الهدهد شهد بما علم، وتحدث بما رأى، ولكن سلطان الملك تخرج كبرياؤه إن هو تعرّى أمام الرعية.. فكان من السياسة أن يلقاه بهذا القول الذي ينبىء عن أن سليمان ما زال هو صاحب الدولة والسلطان.. «سننظر!!» .. إنها كلمة صاحب الأمر، وقاموس أرباب السلطان! وفيم سينظر؟ إنه سينظر في أمر هذا «الهدهد» .. أصدق فيما يقول..
أم كان من الكاذبين؟! إنها كلمة جارحة، تكلم فؤاد هذا «المخلوق» ..(10/236)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
وتجرح كرامته.. إنه في معرض الاتهام بالكذب!! وإنه لا يزال واقعا تحت سيف العقاب الراصد له!! وأكثر من هذا، فإن سليمان لم يقل له: أصدقت أم كذبت، فيكون اتهامه واقعا على تلك الحادثة، وإنما رماه بهذه الكلمة «أم كنت من الكاذبين» أي ممن شأنهم الكذب في كل حال.. إنه إحقار للهدهد، وإلقاء به إلى التراب، بعد أن ارتفع في عين هذه الحشود الحاشدة بسبب ما جاء به من أنباء
الآيات: (28- 44) [سورة النمل (27) : الآيات 28 الى 44]
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)(10/237)
التفسير:
ولا ينظر سليمان شاهدا يجىء به الهدهد، ليشهد له بصدق ما يقول، ولا يسمح له بمزيد من الوقت، يعرض فيه مزيدا من علمه، وبيانه، وحكمته، أمام هذه الرعية، التي تفف كلها في ولاء وخشوع بين يديه.. فكيف لهذا المخلوق الضعيف أن يصول ويجول، ويعرض من علمه ما لم يكن لسليمان به علم؟
وأين إذن صولة الملك وصولجانه؟ وأين هيبته وأين سلطانه؟
لقد قطع سليمان على الهدهد السبيل إلى هذا المرتقى الذي ارتقاه..
وبكلمة واحدة آمرة، أنزله من هذا المكان، وأزاله عنه.. وسرعان ما أصبح الهدهد، فى هذا الوضع الذي كان له بين أبناء جنسه.. جنديا من جنود سليمان، وخادما من خدمه.. وها هو ذا يتلقى من سليمان أمرا بالذهاب إلى حيث يريد منه أن يذهب.(10/238)
«اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» .
وإلى هنا ينتهى دور الهدهد في القصة، ويغرب وجهه الذي كان منذ لحظات، الوجه الذي تعلقت به أنظار مملكة سليمان كلها، فلا يرى له أحد وجها، بعد هذا!! ولا تتعرض القصة لشىء من رحلة الهدهد إلى سبأ، يحمل كتاب سليمان إلى القوم، كما لا تذكر شيئا عن ملكة سبأ، وهي تجد كتاب سليمان بين يديها، وما وقع في روعها من هذا الأمر العجيب، الذي طلع عليها من حيث لا تدرى! كما لم يذكر القرآن ما كان بينها وبين أهل سرها من حديث في هذا الحدث العظيم.. كل ذلك لم تعرض له القصة القرآنية، فتلك أمور مقدر لها أن تقع حتما، على صورة أو أكثر من صورة.. وفي هذا الفراغ يتحرك ذهن القارئ، وتستيقظ مشاعره، حيث يرى لزاما عليه أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة يجدها مناسبة لهذا المكان، وبهذا يتاح للناس- فى كل زمان ومكان- أن يتصوروا ويتخيلوا، وأن يشاركوا بهذا التصور والتخيل، فى بناء القصة، وألا يظلوا في عزلة عنها، غرباء عن مجريات أحداثها.. وبهذا تتقيد الخواطر بالقصة، وتتفتح لها المشاعر، ويستيقظ لها الوجدان، الأمر الذي تتكشف به مواقع العبرة والعظة منها..
وتنتقل القصة إلى مشهد جديد..
فهذه ملكة سبأ، قد دعت إليها وجوه القوم في مملكتها، ثم ها هي ذى تطلع عليهم بهذا الكتاب الذي ألقى إليها، وتفضى إليهم بما فيه!.
«قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» .(10/239)
ولأول مرة نعرف- نحن النظارة- مضمون هذا الكتاب الذي حمله الهدهد.. إنه رسالة من ملك إلى ملكة.. والهدهد، وهو حامل هذه الرسالة، ليس من شأنه أن يسأل عن مضمونها، وليس من وضعه في القصة أن يعرف محتواها.. وبهذا ظلت الرسالة سرا محجبا، حتى بلغت الجهة الموجهة إليها.. وهذا تدبير تقضى به الحكمة والكياسة، وتفرضه أصول الحكم ومقتضيات السياسة.
ومن جهة أخرى.. فإن الملكة كذلك، لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها.. بل ألقت إليهم الخبر مجهّلا هكذا: «إنى ألقى إلى كتاب كريم» وفي هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها، الحافظة لأمن دولتها، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها- ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها.. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة، جلال فوق جلالها، وروعة فوق روعة سلطانها..
وفي وصف الرسالة بأنها كتاب كريم، أدب من أدب الملوك، تقابل به الملكة ما في الرسالة من أدب النبوة والملك معا.. فقد كانت الرسالة موجزة العبارة، وضحة المعنى، بيّنة القصد، لا تحمل وعيدا، ولا تهديدا، وإنما تحمل دعوة إلى السلام والإسلام..
وحين يستمع القوم إلى هذا الخبر الذي ألقت به الملكة إليهم، تدور الرءوس، ويكثر الهمس، واللغط وتتقلب العيون، تتفرس في الوجوه، وما انطبع عليها من آثار لهذا الخبر المثير!.(10/240)
ويجىء صوت الملكة حازما محكما، يقطع مسارب الخواطر، ومجريات الأفكار:
«يا أَيُّهَا الْمَلَأُ.. أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» ..
إنها لم تدعهم إليها لتلقى إليهم بهذا الخبر لمجرد العلم به، وإنما ليشاركوها الرأى فيه، وليشيروا عليها بما ينبغى أن تواجه به هذا الموقف..
صورة كريمة، للحاكم الحكيم.. الذي يتوخى الخير، والأصلح لرعيته.. فلا يبرم أمرا إلا عن رأى ومشورة، يشارك فيها أهل الرأى والمشورة.. «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» أي حتى تشهدوا معى هذا الأمر، وتروا فيه رأيكم..
«قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ» .؟
وصورة كريمة نبيلة للمحكومين، الذين يبادلون الحاكم إخلاصا بإخلاص، وحبا، بطاعة وحب معا!.
ومع هذا، فإنها لم تشأ أن تقطع برأى، بعد أن فوض إليها القوم الرأى والأمر.. بل جاءت تعرض عليهم وجهة نظرها..
«قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» .
وهنا فراغ كبير تتركه القصة ليملأه القوم بهمساتهم وهمهماتهم، ومحاوراتهم.. وإذ لم يرتفع صوت يعارض هذا الرأى الذي تراه الملكة(10/241)
فى الملوك، وتعنى بالملوك هنا، الملوك الذين كانوا على دولة سليمان.. مثل طالوت، وداود، وسليمان.. وهذا يعنى أن الملكة كانت على علم بأحوال سليمان ودولته، وما بين يديه من سلطان، على حين لم يكن لسليمان علم بها، وبما عليه سلطانها!!.
- نقول إن الملكة إذ لم تر صوتا يرتفع بمعارضة رأيها هذا، صرّحت بما اعتزمت أن ترد به على تلك الرسالة..
«وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» .
إنها حركة تريد بها اختبار ما عند سليمان، وتستطلع النية التي ينتوبها معها..
وتنتقل أحداث القصة من سبأ إلى بيت المقدس، فى لحظة خاطفة..
وها نحن أولاء نرى الرسول وما معه من هدايا بين يدى سليمان..
«فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ.. قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ.. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» .
لقد وقع ما كانت تقدره الملكة، وما كانت تحذّر قومها منه: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً» .. وقد رجع مبعوثهم الذي بعثوا به إلى سليمان لينقل إليهم ما تهددهم به: «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
ثم تجرى الأحداث لاهثة متلاحقة..
فما كاد رسول الملكة يبرح مجلس سليمان، حتى يسبقه سليمان إلى تنفيذ وعيده الذي توعدهم به..(10/242)
«قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» .
انظر كيف تجرى الأحداث منطلقة كأنها ومضات برق خاطف؟
فهذه القوى الهائلة المسخرة لسليمان، تتسابق إلى تلبية ندائه، وتحقيق رغباته.. وأنت ترى هنا عظمة هذا السلطان وروعته، حيث يطلب سليمان الشيء، فتتزاحم بين يديه القوى القادرة على تنفيذه، وتتخاضع وتتخاشع بين يديه، ثم لا يحوجه الأمر- مع هذا- أن يتكلف له كلمة واحدة يقولها، أو إشارة يشير بها.. وإنما هو يأمر، فيجد ما أمر به حاضرا عتيدا بين يديه! «قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» .
ولم يفعل سليمان شيئا، وإنما وجد العرش الذي طلبه مستقرّا عنده! والعفريت من الجن، هو أقوى جماعة الجن وأشدهم بأسا..
والذي عنده علم من الكتاب. قد يكون أحد رعايا سليمان، من الذين أخلصوا دينهم لله، فأتاهم الله من العلم ما يقدرون به على ما لا يقدر عليه الجن.. وقد يكون سليمان نفسه، وهو الأرجح عندنا، وذلك لأمور منها:
أولا: أن سليمان أراد بقوله «يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي(10/243)
مُسْلِمِينَ»
.. أراد أن يلفت الملأ إلى تلك المعجزة القاهرة التي سيظهرها الله على يديه.. فدعا من عنده قوة منهم، أن يتصدى لهذا الامتحان، وأن يأتيه بالعرش.. وكان العفريت من الجن، هو الذي ندب نفسه لامتثال هذا الأمر، فقال: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ» .. وكان هذا آخر ما في جهد الملأ من إنس وجن وطير أن تفعله.. وهنا واجه سليمان هذه القوة التي أذهلت الجمع بما مكن الله له من قوة، وما آتاه من علم، فقال مخاطبا صاحب القوة الخارقة: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» .، فهذا الخطاب للعفريت، هو خطاب للجماعة كلها في شخصه، إذ كان هو ممثل أقوى قوة بين يديها.
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في آية سابقة أنه آتى داود وسليمان علما، فقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً..» فبهذا العلم فعل سليمان ما فعل، وبهذا العلم اتصل سليمان بالعوالم الأخرى، فعرف لغة الطير، وسمع همس النملة، واطلع على ما يجرى في محيطها.
وثالثا: قوله تعالى على لسان سليمان: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» ، هو إقرار بفضل الله عليه، أن آتاه هذا العلم، الذي صنع به هذه المعجزة! أما الكتاب، فهو كتاب الله، وهو ما في اللوح المحفوظ من خزائن علمه.. فمن هذا العلم يتلقى أهل العلم علمهم: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» ..
وفي هذه الحادثة يتجلى فضل العلم، وما يبلغ به أهله من مقامات عالية، تتخاضع بين يديها كل قوة، يذل لها كل سلطان. إذا كان هذا العلم من(10/244)
موارد الحق، وجرى في قلوب سليمة ونفوس طيبة.! وإن الإنسان بهذا العلم يقهر أعتى قوة خفية، هى الجن.
والذين يستكثرون على العلم أن ينقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام فى غمضة عين، والذين يقفون من هذا الخبر القرآنى موقف التوقف، أو التشكك أو الاتهام، حسبهم أن ينظروا في آيات العلم الحديث، وما حقق من معجزات في عالم المادة، حيث ينقل صور الأشياء من سطح القمر إلى الأرض في لحظة خاطفة على لوح «التليفزيون» ..
فإذا كان هذا هو سلطان العلم المادي على المادة، فهل ينكر أن يكون سلطان العلم الروحي على المادة أضعاف ما للعلم المادي عليها؟ إن العلم المادي ما هو إلا إشارة خافتة من إشارات العلم الروحي، وليس إلا ومضة خاطفة من سناه المتألق! أما كيف يتم هذا، فإن تصوره ممكن- فى ضوء العلم المادي-! فالمادة كما نعرف- وكما أشرنا إلى ذلك من قبل، هى نور، تجسد من اجتماع الذرات، وتركيبها على وجه خاص، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه من اليسير على العلم الروحي أنه ينفخ في أية صورة من صور المادة، فتتحول إلى ضوء، ثم يستقبل هذا الضوء في أي مكان يريده، فينفخ فيه مرة أخرى فإذا هو على صورته الأولى.
ومن يدرى! فلعل العلم المادي يبلغ يوما، شيئا من هذا الذي في مجال العلم الروحي!.
ونعود إلى القصة:
وها هي ذى ملكة سبأ بين يدى سليمان.. وقد دبر لها سليمان امتحانا، يختبر(10/245)
به عقلها وذكاءها..
«قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» ..
لقد أجرى سليمان بعض التغيير في عرشها، دون أن يمس الصميم منه..
وحين ترى الملكة هذا العرش، ويسألها سليمان: «أَهكَذا عَرْشُكِ» ؟
لم تشأ أن تقطع برأى، فهو أشبه شىء بعرشها فعلا.. ولكن كيف انتقل عرشها، وقد خلفته وراءها في مسيرتها إلى سليمان؟. ثم هي من جهة أخرى تعلم ما مع سليمان من قوى تفعل الأعاجيب، وتأنى بالمذهلات.. ألم تأتها رسالته على يد جند من جنوده، هو الهدهد؟. فكان جوابها هذا الجواب الحكيم، الذي توسط الأمر، فلم تنف ولم تثبت، بل قالت: «كَأَنَّهُ هُوَ» ! وقد أعجب سليمان بهذا الرد الذكي الحصيف، وعدّه من آيات العلم، وثمرة من ثمراته.. فذكر بذلك، العلم الذي آتاه الله فقال، فيما بينه وبين نفسه.
«وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» ! ولم يقف بسليمان العجب من ذكاء الملكة، وعقلها عند هذا الحد.. بل إنه رأى أن هذا العقل الكبير، وما وعى من علم، كان جديرا به أن يهدى صاحبته إلى الإيمان بالله، وأن يقيم وجهها للدين القيم.. فكيف لم تؤمن بالله؟
وكيف تسجد للشمس من دون الله؟ أهذا ما يقضى به هذا العقل الكبير ويقبله؟ ويطمئن إليه؟ لا بد أن في الأمر شيئا! وينظر سليمان، فيرى الآفة التي تسلطت على هذا العقل، فاغتالت منطقه، وأفسدت عليه وجوه الرأى، حتى ضلت صاحبته هذا الضلال، وركبت هذا السفه.(10/246)
إن موروثات الآباء والأجداد، من الضلال، هى التي غلبت على هذا العقل وما فيه من ذكاء، وما اجتمع له من علم..!
«وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ» .
أي حجبها عن الإيمان بالله، ما نشأت على عبادته من دون الله، لأنها ولدت في قوم كافرين، فورثت الكفر عنهم، ونشأت عليه منذ طفولتها، فخالط عقلها، وسكن في مشاعرها! ..
وتلك هي الآفة التي تسلطت على عقول كثير من ذى العقول، فأفسدتها، وأضلتها عن سواء السبيل.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى طلب التحرر من موروثات الآباء والأجداد، وأن يعيد بناء عقله- متى بلغ الرشد- على البحث والنظر، فما رآه صالحا، قبله، وما وجده فاسدا، دفعه وتخلى عنه..
وحين وجد سليمان نفسه أمام هذا العقل الذكي، لم يشأ أن يدخلها في دين الله بسلطانه عليها، وامتلاكه لأمرها، بل رأى أن يقودها إلى الإيمان بعقلها، لتتعرف إلى الله سبحانه وتعالى بنفسها، فيكون هذا أقوم لدينها، وأثبت لإيمانها..
ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»
..
والصرح هو البناء العالي المزخرف، وسمى بذلك لأنه صريح خالص من الشوائب والعيوب.. والممرد: الأملس، ومنه الأمرد، وهو الذي لم ينبت شعر عارضيه..
إن هذا الصرح الذي دعاها سليمان إلى دخوله، والذي حسبته- لصفائه(10/247)
ونقاء جوهره- لجة ماء رقراق- هذا الصرح لا يمكن أن يقوم بيد بشرية، ولا يمكن أن يكون من صنع بشر.. إنه من قوة فوق قوة الإنسان، ومن تدبير فوق تدبيره.. وإذن فهى أمام معجزة قاهرة.. لا يستطيع العقل السليم إلا أن يسلم بها..
وإذن فلا بد من التسليم.. وقد سلّمت..
وإذن فلا بد من أن تؤمن بمن آمن به سليمان، وأن تعبده.. وقد آمنت! فقالت: َبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
وانظر كيف كانت ثقتها بسليمان، بعد أن أراها من آيات الله التي بين يديه، ما جعلها تطمئن إليه، وتصدق دعوته بأنه نبى.. ولهذا فإنها تبادر إلى الإيمان بالله من قبل أن يدعوها إليه، لأنها قد عرفت أن سليمان على الحق، ومع الحق..
ولهذا قالت: َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»
! إنها مع سليمان، لأن سليمان مع الحق! وهكذا تنتهى أحداث القصة بهذه النتيجة، التي يحصلها العقل من مجريات هذه الأحداث..
وإذا كان مساق القصة إلى قريش، وإلى العرب، ثم إلى الناس جميعا- فإنها بهذا الأسلوب الذي يجىء بالموعظة في رقائق من المعاني، تخطر في براعة، وخفة، وتتحرك في وداعة ولطف، حيث تصيد الخواطر، وتملك المشاعر، وتأسر القلوب، دون أن تثير حربا، أو تريق دما- إنها- أي القصة- بهذا الأسلوب، هى رسالة قائمة بنفسها، لتدخل إلى مواقع الإفناع من العقول السليمة، فتسكن إليها، وتجد برد الطمأنينة والسلام في ظلها..(10/248)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
الآيات: (45- 55) [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 55]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ» .
هنا أمران، نود أن نقف عندهما، وهما:
أولا: مناسبة هذه القصة لما قبلها.(10/249)
وثانيا: إفراد هذه القصة بالذكر وحدها، من غير أن تتصل بها قصة عاد، حيث يجرى دائما ذكرهما معا، فى كل موضع ذكرت فيه إحداهما في القرآن الكريم..
فما مناسبة هذه القصة لما قبلها؟
المناسبة- والله أعلم- هى أن ملكة سبأ، مع ما كانت عليه من كفر موروث، حين رأت الصرح الممرد، عرفت صدق سليمان، وأنه على صلة بالسماء، فآمنت بما آمن به هو، واتبعت سبيله.. وأن «ثمود» قد طلع عليهم نبيّهم بآية من آيات الله، هى «الناقة» ، فلم يروا فيها ما رأت ملكة سبأ في الصرح الممرد، بل كذبوا صالحا، ورموه بالسفه. فهذا موقف، وذاك موقف..
وكلا الموقفين بين يدى آية من آيات الله.. فيكون في تلك الآية عبرة وعظة لقوم، وضلال ومهلكة لآخرين.
ولعل هذا هو السر أيضا في ذكر قوم صالح، دون قوم هود، إذ لم يكن مع هود آية كهذه الآية التي جاء بها صالح.
وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ» .
«إذا» فجائية، وفيها إشارة إلى مبادرة القوم بالتكذيب، وإعلان الحرب على «صالح» بمجرد سماعهم لدعوة الحق التي يدعوهم إليها بقوله:
«أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ» ..
والفريقان المختصمان، هما صالح ومن اتبعه، وقومه الذين وقفوا منه موقف العناد والتحدي.. فكان بين الفريقين خصام وشقاق.
قوله تعالى:
«قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .(10/250)
هو مما كان يراجع به صالح قومه، ليكشف لهم عن موقفهم الضال، الذي يرد بهم موارد التهلكة.. فقد استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به، إداهم ظلوا على ما هم عليه من كفر وضلال..
وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى، عنهم في قوله سبحانه: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (77: الأعراف) وقد كان الأولى بهم أن يطلبوا جانب الأمن والسلامة، وأن يدخلوا في هذه الدعوة التي يدعوهم إليها نبيهم، فإن وجدوا خيرا، عاشوا فيه، واطمأنوا إليه، وإلا كان في يدهم أن يخرجوا من هذا الدين الذي دخلوا فيه.. أما أن يبدءوا بجانب الوعيد من الدعوة، فذلك هو الضلال، والسفه جميعا..
قوله تعالى:
«قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» ..
هذا هو جواب الحمقى السفهاء على دعوة الخير والهدى.. إنهم يستولدون من دعوة الخير التي يدعوهم إليها نبيهم، مواليد شؤم، تنعق في ديارهم، وتنعب فوق رءوسهم، بالويل والبلاء.. وهكذا تتغاير حقائق الأشياء في النفوس المريضة، تماما كما تتغاير طعوم المطعومات في الفم السقيم، كما يقول الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
ويلقى «صالح» - عليه السلام- هذا الرد الغبي السفيه، بإلفاتهم(10/251)
إلى الله الذي يدعوهم إليه وأنه- سبحانه- هو الذي بيده كل شىء يساق للناس، من نفع أو ضر، ثم بإلفاتهم إلى أنفسهم الغارقة في الفتنة والضلال، حيث لم يروا هذه الحقيقة من قدرة الله، وسلطان الله.. فقال: «طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» أي أن حظكم المقسوم لكم من الخير والشر، هو عند الله تعالى، وفى خزائن علمه.. فى كتاب مبين، ولكنكم فى فتنة وعمى عن هذا الذي أقوله لكم..
وفي ذكر كلمة «قوم» - إشارة إلى أنهم كتلة واحدة متضخمة من الفساد وأنهم كيان واحد، تحتويه فتنة، لا مخرج له منها.
ويستدل من هذا على أن القوم كانوا يزجرون الطير، ويتعرفون منه على ما سيقع لهم من خير أو شر، حسب تصورهم الفاسد.. وذلك أنهم كانوا إذا أراد أحدهم أمرا، ترصد لطير واقع على الأرض، ثم زجره، أي أشار إليه بيده أو بعصا، حتى يطير.. فإذا طار إلى يمينه، تفاءل به، ومضى لغايته، وإن طار إلى يساره تشاءم منه، وأمسك عن الغاية التي يريد!.
كما يستدل من هذا أيضا على أن قوم صالح كانوا عربا، وأن- صالحا عليه السلام- كان نبيا عربيا، وذلك قبل إبراهيم وإسماعيل عليه السلام.. أيام العرب العاربة..
قوله تعالى:
«وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» .
وكما في كل جماعة رأس أو رءوس، تقودها، وتتولى تدبير أمرها،(10/252)
فكذلك كان في هذه الجماعة أكثر من رأس، لقد كان فيها تسعة رءوس، كلها فاسد، لا يدعو إلا إلى الشر، ولا يعمل إلا فيما هو شر..
والرهط، من الثلاثة إلى العشرة..
وليس المراد بالرهط هنا العدد، وإنما المراد به «النفر» أي الواحد، الذي يطلق على الجماعة أيضا.. وإنما ذكّر الرهط، للإشارة إلى أن الواحد من هؤلاء التسعة كان رأسا في القوم، وأنه أشبه برهط، من حيث أثره فى الجماعة، وفي الشر الذي يخرج من بين يديه.
قوله تعالى:
«قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .
قرىء: «لتبيتنه» ثم «لتقولنّ» بضمير الخطاب..
والتقاسم: تفاعل من القسم، وهو الحلف.. وذلك بأن يحلف كل واحد منهم للجماعة بما يحلفون عليه.. والبيات: الهجوم ليلا.. والولي: هو الناصر والقريب، والمراد به هنا وليّ الدم.
والمعنى، أن هؤلاء النفر، قد ائتمروا فيما بينهم، على أن يهلكوا صالحا وأهله، فأقسموا على ذلك، وجعلوا لتنفيذ هذه المؤامرة وقتا، هو الليل..
ثم اتفقوا كذلك على الموقف الذي يلقون به ولى الدم، لصالح وأهله، وذلك بأن ينكروا أنهم شهدوا مصرع صالح ومن معه..
وقوله: «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ» .. والضمير في أهله(10/253)
يعود على الولي، أي أنهم يقولون لهذا الولي، المطالب بالدم ما شهدنا مهلك أهله هؤلاء الذين تطالب بدمهم، ومنهم صالح..
وهذا أولى- فى تقديرنا- من عود الضمير على صالح، وأنهم يقولون لولى الدم ما شهدنا مهلك أهل صالح، كما يقول بذلك المفسرون- وذلك ليتحقق قولهم: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» على تقدير أنهم لم يشهدوا فعلا مهلك أهله وحدهم، وإنما شهدوا مهلكه ومهلك أهله معه.. وإذن فهم صادقون بهذا التلبيس الذي لبسوا به شهادتهم!! هكذا يقول المفسرون، كأن القوم يتحرون الصدق في شهادتهم، فيخرجونها على هذا الوجه الذي هو الكذب في صميمه، وإن طلى بهذا الزيف المفضوح..
والقوم في قولهم: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» إنما يؤكدون الكذب الذي جاءوا به في قولهم لولى الدم ما شهدنا مهلك أهلك هؤلاء- وفيهم صالح وأهله «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» فيما نقول.. فهكذا الكاذب دائما يحرص أشد الحرص على أن يزكى كذبه بمثل هذه الادعاءات، وأنه إنما يقول الصدق ويقسم عليه، كما يقول تعالى في شأن اليهود: «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (14: المجادلة) .
والسؤال هنا: كيف يتقاسمون بالله، ويحلفون به وهم كافرون؟
والجواب على هذا أنهم كانوا يعرفون الله، ولكن معرفتهم تلك قد اختلطت بالضلال، فلم يعرفوا الله حق معرفته، بل عبدوا معه آلهة أخرى، وجعلوه إلها من آلهتهم، أو كبيرا لهذه الآلهة التي يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، كما كان ذلك شأن مشركى العرب، ولهذا كانت دعوة صالح إليهم هى:
«اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (61: هود) ، أي أخلصوا العبادة له وحده، فما لكم إله غير الله.(10/254)
قوله تعالى:
«وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
المكر: التدبير للأمر، والإعداد له قبل الأخذ في تنفيذه.
أي أنهم دبروا تدبيرا، ودبر الله تدبيرا.. والله سبحانه يعلم ما دبروا من أمر، وما أحكموا من خطط، وهم لا يعلمون ما قد دبر الله، وما أعد لهم من نكال وبلاء.
قوله تعالى:
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» .
الخطاب هنا للنبى، صلوات الله وسلامه عليه، ولكل من كان أهلا للنظر والاعتبار.. وفي هذا النظر إلى مكر هؤلاء الرهط، وإلى ما أعقب هذا المكر، يرى ما نزل بهم من نقم الله، وما حل بهم وبقومهم جميعا من هلاك لهم، وتدمير لديارهم! وهكذا يصيب الشرّ أهله، ثم يمتد فيشمل من كان معهم، ممن لم يشاركوا في هذا الشرّ، ولكنهم لم يتصدّوا للأشرار، ولم يأخذوا على أيديهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (25: الأنفال) ويقول سبحانه: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
(16: الإسراء) .
وهكذا أرادوا الهلاك لصالح وأهله، فأهلكهم الله، وأهلك أهلهم جميعا..
قوله تعالى:
«فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .(10/255)
«خاوِيَةً» أي ساقطة متهدّمة، لا أثر لحياة فيها.. وهي منصوبة على الحال من «بُيُوتُهُمْ» .
والإشارة هنا، لفت للأنظار، إلى هذه الديار الخاوية، حيث ينظر المشركون إلى حيث متجه الإشارة، فلا يرون إلا أطلالا، يرى فيها أولو العلم وأهل النظر، آية من آيات الله، فيما يحل بالظالمين من بأسه، وما يرميهم به من عذابه! قوله تعالى:
«وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» - هو أشبه بالاستثناء من تلك الصورة التي تتمثل لعين الناظر.. مما حلّ بهؤلاء الظالمين المفسدين..
فهناك إلى جانب هذه الصورة للدّمار والهلاك، صورة أخرى لأهل السلامة والعافية، الذي نجوا من هذا البلاء، وخلصوا من هذا العذاب، وذلك بإيمانهم بالله، وباتّقائهم بأسه وعذابه، بالأعمال الطيبة الصالحة..
فإلى جانب الشر دائما خير، وفي مجتمع الأشرار.. دائما أخيار..
وهذا الخير وإن صغر حجمه، هو الرّوح الذي يحفظ الحياة في هذا الوجود.. وهؤلاء الأخيار- وإن قلّ عددهم- هم الشعاع الذي يسرى في وسط هذا الظلام الكثيف.
قوله تعالى:
«وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .؟
أي واذكر لوطا إذ قال لقومه. «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» وهي هذا المنكر الذي عرفوا به، والذي سيكشف عنه في الآية التالية..
وسمى هذا المنكر «فاحشة» و «فحشاء» لشفاعته وقبحه، ظاهرا وباطنا..(10/256)
وفي قوله: «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .. إشارة إلى ما بلغ من استهتار القوم، واستخفافهم بهذا المنكر، حتى إنهم ليأنونه عيانا وجهرة بحيث يرى بعضهم بعضا وهم عاكفون على هذا الفحش، دون حياء أو خجل.. وإن بعض الحيوانات، لتدعوها طبيعتها إلى أن تتخفى وتستتر، فلا تطلع عليها عين، حين تتصل ذكورها بإناثها.. أما هذه الحيوانات الآدمية، فقد نزلت إلى هذا المستوي الخسيس، الذي لا ينزله إلا أدنى الحيوانات وأخسّها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (29: العنكبوت) أي يأتون هذا المنكر علنا في مجتمعاتهم وأنديتهم، كأنهم يأتون مكرمة من المكرمات..
قوله تعالى:
«أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» هذه هي الفاحشة التي يأتيها القوم جهرة على أعين الناس، وهي «اللواط» واتصال الرجل بالرجل، كما يتصل الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى في عالم الحيوان.. وفي قوله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» .. إشارة إلى أن هذا الضلال الذي هم فيه، وهذه الحيوانية الطاغية التي لبستهم، إنما هي من واردات الجهل.. وليس بين الإنسان والحيوان من فرق، إلا العلم، وأنه بقدر ما يحصّل الإنسان من العلم، بقدر ما تكون منزلته في الإنسانية، وبقدر ما يكون بعده عن عالم الحيوان..!(10/257)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
الآيات: (56- 58) [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» هذا هو الجواب الذي أجاب به القوم لوطا، حين أنكر عليهم هذا المنكر الذي يعيشون فيه، ويتعاملون به جهرة، وهو جواب ينطوى على استخفاف واستهزاء، فوق ما يحتوى عليه من بغى وعدوان.. إنهم لم يجيبوا على ما أنكره عليهم لوط، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه، وإنما كان فعلهم الذي أرادوه به وبمن معه، هو الردّ العمليّ على هذا النصح الذي نصح لهم به.
- «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» .
فلقد تنادوا فيما بينهم إلى أن يخرجوا آل لوط من القرية، واعتبروا لوطا ومن معه كائنات غريبة تعيش في هذا المجتمع..
- «إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» أي يدّعون التّطهر والتعفف، ويكرهون أن يعيشوا في هذا الجوّ الذي نعيش فيه.. وإذن فليخرجوا من بيننا، وإذا لم(10/258)
يخرجوا أخرجناهم.. فهذه القرية هي قريتنا، وليس لهم مقام فيها ما داموا لا يحيون حياتنا!! هكذا كان منطق القوم.. إنهم كثرة، وآل لوط قلة..
وما كان للقلة أن تتحكم في الكثرة.. وإذا كانت القرية لا تحتملنا وتحتملهم على هذا الخلاف الذي بيننا وبينهم، فليخرجوا منها مكرهين، غير مأسوف عليهم.
وليس هذا وحده هو جواب القوم.. فقد كان للقوم أجوبة كثيرة، أجابوا بها على دعوة لوط، كما ذكر القرآن عنهم ذلك في أكثر من موضع، كقولهم. «ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ» (79: هود) ..
وقولهم له أيضا: «أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ» (70: الحجر) وقولهم: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» (167: الشعراء) .
فهذه أجوبة كثيرة كان يلقى بها القوم لوطا. ولكن هذا الجواب، الذي جاء في قوله تعالى: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» .. هو تلخيص جامع لهذه الأجوبة كلها، وهو النهاية التي انتهت إليها كل هذه الأجوبة، فكان هذا الجواب هو جوابهم القاطع، الذي لا جواب لهم غيره، ولهذا جاء به النظم القرآنى على هذه الصورة التي تفيد القصر.. «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» أي ما كان لهم إلا هذا الجواب..
قوله تعالى:
«فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» .
لقد أرادوا إخراج لوط والمؤمنين معه من القرية، ودبّروا لهذا الأمر ومكروا مكرهم له، فكان أن أخرجهم الله سبحانه من هذه الدنيا كلها،(10/259)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
لا من القرية وحدها، فأمطر عليهم حجارة من سجيل، أتت على قريتهم، وعلى كلّ نسمة حياة فيها، على حين نجا لوط ومن معه، إلا امرأته، فقد كانت حربا عليه، وعلى المؤمنين، فأخذها الله بما أخذ به القوم، فكانت من الهالكين.
الآيات: (59- 64) [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف، الذي عرضت فيه السّورة مواقف المشركين والكافرين، من دعوة الحقّ التي يحملها إليهم رسل الله، ويقدّمون بين(10/260)
يديها الآيات المحسوسة التي تنطق بقدرة الله وعظمته، وتشهد لرسله بأنهم مؤيدون من عند الله، وأن ما على ألسنتهم هو من كلمات الله، وأن ما بأيديهم هو من آيات الله- مع هذا، فقد عميت من الضالين الأبصار، وزاغت القلوب، فكان العناد والتحدّى، ثم التطاول والتعدّى.. وكان ذلك هو الجواب المحمّل بألوان التكذيب، والتهديد، الذي تلقاه الرسل من أقوامهم، إلا قليلا ممن شرح الله صدره للإيمان منهم، فنجا بنفسه، وكان من المفلحين في الدنيا والآخرة جميعا.
- بعد هذا العرض، جاءت آيات الله، لتعقب على هذه الأحداث، ولتلفت الأنظار إلى الله وعظمته، وإلى ماله في عباده من آيات.. ففى هذا التعقيب يرى المؤمنون والمشركون جميعا ما تحمل كلمات الله، من بيان، تتجلّى فيه نعم الله عليهم، ويبين منها فضله الذي أفاضه على هذا الوجود!.
وقوله تعالى:
«قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» هو خطاب خاص للنبى، ثم هو عام إلى كل مؤمن بالله.. وفي هذا الخطاب دعوة إلى ذكر الله بالحمد على نعمه التي لا تحصى، والتي أجلّها وأعظمها، هو الإيمان الذي عمرت به قلوب المؤمنين..
- وفي قوله تعالى: «وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى» ذكر يقترن مع ذكر الله، بالتسليم على عباد الله الذين اصطفاهم، واختصهم بالمزيد من فضله، وهم رسله الكرام، كما يقول سبحانه: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (180- 182 الصافات) وفي اقتران ذكر الله بالحمد والثناء عليه، بذكر المرسلين، والدعاء بالسّلام(10/261)
عليهم- فى هذا تكريم لرسل الله، واعتراف بفضلهم على الناس، إذ كانوا مصابيح هدى، ودعاة أمن وسلام للعباد.. وهذا من شأنه أن يجعلهم موضع إعزاز، وحبّ، وإكرام، من أقوامهم خاصة، ومن الإنسانية كلها عامة، لا أن ترجمهم الأيدى الأئمة، وتسلقهم الألسنة الفاجرة، وتزدريهم العيون البلهاء، كما يفعل السفهاء، والحمقى، من أهل الشرك والضلال..!
- وقوله تعالى: «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» - هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ الجواب من كل لسان، على هذا السؤال..
وأصل الاستفهام «أالله» قلبت همزة الوصل في لفظ الجلالة ألفا، للتسهيل، فصارت مع همزة الاستفهام مدّة..
و «أمّا» أصلها «أم» حرف العطف الذي يقع بعد همزة التسوية، «ما» الموصولة.. فأدغمت الميم في الميم.. وجىء باسم الموصول «ما» بدل «من» للإشارة إلى ما يعبد المشركون من معبودات، لا تعقل، من الحيوان، والجماد، وغيرها، وذلك أكثر ما يشرك به المشركون.
قوله تعالى:
«أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» .
فى الجواب على الآية السابقة جوابان:
جواب لأهل البصائر وأصحاب العقول.. وهو أن الله هو وحده المستحقّ للعبادة..
وجواب لأهل الشرك، الذين ران الضلال على قلوبهم.. وهو أنهم يؤثرون آلهتهم التي يعبدونها، ولا يلتفتون إلى غيرها.(10/262)
- وقد جاءت هذه الآية: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... » والآيات التي بعدها، لتلقى هؤلاء المشركين مع آلهتهم، ولتضع أمام أعينهم موازنة بينهم، وبين الله سبحانه وتعالى، لينظروا فيروا إن كان هناك من آلهتهم من يشارك الله في هذه الصفات التي لله سبحانه وتعالى.. فإن كان يقع لأيديهم أو لأبصاهم، أو لعقولهم شىء من هذا، فليمسكوا بآلهتهم، وإلّا فليروا رأيهم فيها، إن كان لهم- مع أهوائهم المتسلطة عليهم- رأى..
- فقوله تعالى: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً..» - هو معادل لمستفهم عنه محذوف، وهو الآلهة التي يمسك بها هؤلاء المشركون، والتقدير: أآلهتهم هذه، أم من خلق السموات والأرض وأنزل لهم من السماء ماء ... ؟.
- وفي قوله تعالى: «فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ» - هو إلفات إلى ما أودع الله سبحانه وتعالى من أسرار في هذا الماء، الذي ينزله من السماء، فيحيى به الأرض بعد موتها، ويكسو عريها حللا زاهية رائعة، ذات ألوان وأصباغ، تبهج النفس، وتشرح الصّدر.
وفي العدول عن ضمير الغائب المفرد فى «أنزل» إلى ضمير المتكلم المعظم ذاته فى «فأنبتنا» - إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن إنزال المطر عملية، قد لا يشهدها كثير من الناس، وإذا شهدوها فإن كثيرا منهم قد لا يلتفتون إليها.. أما هذه الزروع، وتلك الجنات التي تزين وجه الأرض، فإنه قل في الناس من لا يشهد هذه الظاهرة، ويملأ عينيه، ومشاعره منها، ومما فيها من حسن وروعة.. فكان من المناسب هنا أن يرى الناس يد القدرة القادرة، وهي تنسج هذه الحلل الجميلة الرائعة التي تنكسو الأرض، وتجلوها كما تجلى العروس في ليل زفافها.. ففى قوله تعالى:(10/263)
«أنبتنا» حضور لله سبحانه، فى هذه الزروع والجنات التي تزين وجه الأرض، وتقع لعينى كل إنسان..
وثانيهما: أن هذه الزروع وتلك الجنات.. ليست على صورة واحدة، فهى مختلفة الألوان والأشكال، متعددة الأنواع والأجناس،. كما يقول الله سبحانه «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا» (24- 31 عبس) فهذه الصور التي لا تكاد تحصى من الزروع والأشجار، فى مسرح العين، تبدو وكأن آلافا من الأيدى، عملت على إخراجها من الأرض، واستيلادها من بطنها، وصبغها بهذه الأصباغ.. وإن الأمر لعلى خلاف هذا الظاهر، فهى يد واحدة قادرة، هى يد الحكيم العليم، التي تفردت بكل هذا.. ومن هنا حسن أن يذكر الله سبحانه وتعالى بضمير الحضور، وبصيغة الجمع، حيث ترى قدرة الله قائمة على كل نبتة، وكل شجرة.. وليس كذلك الشأن في المطر، ونزوله.. إنه صورة واحدة في كل أحواله..!
- وقوله تعالى: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» الضمير «فى شجرها» يعود إلى الحدائق..
والمعنى، أن هذه الحدائق ذات الروعة والبهجة، ليس في مقدور الناس جميعا أن ينبتوا شجرها، وأن يخرجوه من الأرض، فضلا عن أن يمسكوا عليه حياته، ويبلغوا به هذا المدى من النماء، والإزهار، والإثمار، وتنوع الألوان والأشكال..
- وفي قوله تعالى: «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» سؤال تقريرى، يراد الجواب عليه،(10/264)
بعد النظر إلى هذه المعارض التي عرضتها الآية الكريمة لبعض قدرة الله، وآثار رحمته! وجواب أهل العناد والضلال، هو جواب كل معاند ضال.. وهو العمى عن الحق، والتشبث بالباطل.. ولهذا جاء قوله تعالى: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» مسجلا عليهم هذا الضلال، آخذا من أفواههم جوابهم على هذا السؤال..
وهو أنهم قوم يعدلون عن الحق إلى الباطل، ويولون وجوههم إلى معبوداتهم التي يعكفون عليها..
قوله تعالى:
«أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً.. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ!» وهذه معادلة أخرى، يوازن فيها المشركون بين الله، وبين آلهتهم..
أيّ أحق بالألوهة، وأولى بالعبادة؟. أآلهتكم تلك الخرساء الصماء، أم الله الذي جعل الأرض قرارا؟ أي موضعا صالحا لحياة الإنسان، واستقراره عليها، «وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً» أي وأجرى بين شعاب الأرض أنهارا، تخلل أجزاءها، بحيث يأخذ كل جزء منها حظه من هذه الأنهار «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» أي جبالا راسية، تمسك بها أن تميد أو تضطرب.. «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» أي فصل بين ماء البحار، وماء الأنهار، حيث يلتقيان، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. بل يبقى ماء الأنهار عذبا سائغا، ويظل ماء البحار ملحا أجاجا..
هذا هو صنع الله، وتلك آيات قدرته، وسوابغ رحمته.. فأين ما للآلهة التي تعبدونها، أيها المشركون الضالون؟(10/265)
«أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» .. أجيبوا! وقد أجابوا جواب الأغبياء الجاهلين، الذين لا حظّ لهم من علم.. فهم والحيوان على سواء.. ولو أنهم كانوا على شىء من العلم، لأنار لهم علمهم الطريق إلى الحق، ولنطقوا بما ينبغى أن ينطق به أهل العلم، وهو أنه «لا إله إلا الله» .. ولكن أتى لهم هذا، وهم في هذا الجهل المظلم؟: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.. فقد تكررت كلمة «جعل» أربع مرات، تخللت عشر كلمات، دون أن يشعر أحد بهذا التكرار، أو يجد له أي أثر في النطق بهذه الكلمات، التي تناغم لحنها، وتوازن نظمها، فكانت لحنا علوى النغم، يأسر الآذان بوقعه، ويملك المشاعر، بسرّه وجهره..!
أقرأ الآية الكريمة ورتلها ترتيلا! «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً.. وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً.. وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ.. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ..» ..
ثم ألا تسجد بعد هذا لهذا الإعجاز من كلام رب العالمين؟
قوله تعالى:
«أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
ومعادلة ثالثة.. بين ما لله، وبين ما يكون لهذه المعبودات من دون الله..
أفهذه الآلهة، التي لا تملك ضرّا ولا نفعا، أم الإله الواحد، القادر،(10/266)
السميع، البصير، الذي تفزعون إليه- أيها الضالون المكذبون- عند كل كرب، وتدعونه عند كل شدّة، فيستجيب لكم، ويكشف الضرّ عنكم.؟
كما يقول سبحانه: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» (63- 64: الأنعام) أآلهتكم هذه؟ أم الله ربّ العالمين، الذي أعطاكم هذه الصورة البشرية السويّة، ومنحكم العقل، والمنطق، وأقامكم على هذه الأرض خلفاء لله فيها؟
ألا تذكرون فضل الله عليكم، ولا تنظرون إلى نعمه إليكم؟ ألا تشكرون له أن أخرجكم من العدم إلى الوجود، ثم أعطاكم من الوجود الأرضى أحسن وأكرم ما خلق فيه؟
أجيبوا.. أيها الضالون المكذّبون، الجاحدون؟
وقد أجابوا بما يجيب به كل جاحد لنعمة الله.. لا يذكر الله إلا عند الشدّة، فإذا انجلى الكرب، وذهبت الشدّة «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (8: الزمر) .
ولهذا جاءت فاصلة الآية: «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» لتسجل عليهم هذا التنكر لنعمة الله عليهم، وإحسانه إليهم.. فهم لا يذكرون لله هذه النعمة، ولا يتذكرون هذا الإحسان..
قوله تعالى:
«أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
ومعادلة أو موازنة رابعة..(10/267)
أآلهتكم هذه الجاثمة الجامدة، أم الله الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر، بما أقام لكم من معالم في السماء والأرض، تتعرفون بها وجهتكم، فى تنقلكم على ظهر الأرض أو البحر؟ أآلهتكم هذه المستخزية العاجزة.. أم الإله الذي يرسل الرياح فتثير السحاب، وتدفعه إلى حيث ينزل ماء من السماء، فيحيى الأرض ومن عليها؟
ماذا تقولون؟
أجيبوا.. أيها اللّاهون الغافلون! ويجيبون بهذا الصمت الغبي.. ويجيب الوجود كله من حولهم، بهذا الجواب، الناطق بوحدانية الله، المنزه لله عن الشريك، والصاحبة والولد..
«تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» قوله تعالى:
«أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ؟
وهذه معادلة أو موازنة خامسة..
أآلهتكم هذه العجماء، الصماء.. أم الله الذي يبدأ الخلق، وينشئه ابتداء على غير مثال، ثم يعيده خلقا آخر كما بدأه، بعد أن يبلى، وتذهب معالمه؟
ماذا تقولون؟
أتقولون بعد هذا.. إن مع الله إلها، يصنع ما يصنع الله، ويتصرف معه فى هذا الوجود، أو يشاطره بعضا منه؟
«قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .(10/268)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
فأين الحجة على ما بين أيديكم؟ وأين البرهان على ما تقولون من أن مع الله إلها أو آلهة أخرى؟ إن القول بلا حجة يستند إليها، وبلا دليل يقوم عليه- هو كلام، لا معقول له، ولا حياة فيه، ولا نفع لمن يتعلق به:
«وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) .
وفي هذا العرض الممتد، المختلف الصور والألوان، لآيات الله في الأرض وفي السماء، وفي البر والبحر، لا يجد المكابرون والمعاندون، سبيلا إلى الإفلات والهروب من الإقرار بوحدانية الله.. إذ كانوا كلما أخذوا وجها من وجوه الضلال، لقيهم معرض من معارض قدرة الله.. حتى إذا كان آخر المطاف كانت كل ظنونهم وأوهامهم في آلهتهم قد ضلت عنهم، وفرت من بين أيديهم، فوقفوا في حيرة، بين الاتجاه إلى الله الذي يحجبهم عنه كبرهم وعنادهم، وبين الجري وراء آلهتهم بعد أن انكشف لهم أمرها.. وهنا لا يطالبهم القرآن بأكثر من أن يستعملوا شيئا من العقل والمنطق، وأن يحترموا إنسانيتهم، فلا يؤمنوا إلا بما يقبله العقل، ويطمئن إليه القلب، وإلا بما يقوم للعقل منه برهان على أنه الحق! لقد أقامهم القرآن في هذا العرض مقام الشك، والشك- كما يقولون- أول مراتب اليقين،
الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74)
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)(10/269)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» .
هو تعقيب على هذه المعارض، التي عرضت فيها الآيات السابقة للمشركين وغباءهم وضلالهم، وآلهتهم وما هي عليه من عجز وضعف، أمام جلال الله وعظمته وقدرته..
وفي هذه الآية عرض للمخلوقات جميعا، أمام علم الخالق، المحيط بكل شىء، وأن من في السموات والأرض من مخلوقات لا تعلم مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه شيئا.. فأهل الأرض مهما علموا من علم فإن علمهم(10/270)
بهذا الكوكب الذي يعيشون فيه، لا يعدو أن يكون قطرة من محيط الأسرار المودعة في هذا الكوكب، فكيف علمهم بما في هذا الوجود الذي هم قطرة في محيطه الذي لا حدود له؟ وكذلك مخلوقات العوالم الأخرى، علمها كعلم أهل الأرض، هو محدود محصور في دائرة وجودها..
وقوله تعالى: «إِلَّا اللَّهُ» إلا هنا ملغاة.. والمعنى أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده.. أما من في السموات والأرض فمنفى عنهم هذا العلم.. وإن علموا شيئا فهو بالاضافة إلى علم الله، وإلى ما جهلوه من هذا العلم- لا وزن له، ولا اعتداد به..
- وقوله تعالى: «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» - تأكيد لنفى علم الغيب عن أهل السموات والأرض.. وذلك أن الناس وهم أكثر خلق الله ادعاء للعلم، لا يعلمون متى يبعثون من قبورهم إذا ماتوا، وهذا البعث هو أمر يتصل بهم، ويعنى كلّ واحد منهم. فإذا جهلوا ما هو من شأنهم فهم لغيره أجهل، وإذا جهل الناس فغيرهم من المخلوقات أشد جهلا.
ويجوز أن يكون المراد هنا هم الناس وحدهم، ويكون نفى العلم عنهم بميقات بعثهم حجة قائمة على أنهم لا يعلمون الغيب.. فليؤمنوا إذن بعالم الغيب والشهادة إيمانهم بكل غيب، وليدعوا هذه الآلهة التي يجسدونها، ويتعاملون معها، كما يتعاملون مع أموالهم وأمتعتهم..
فالله سبحانه وتعالى، وإن لم يروه، فإن كثيرا من الحقائق التي بين أيديهم لم يروها، ولم يقع في علمهم شىء منها..
إن الإنسان ليستبين كثيرا من الأمور التي لا تقع لحواسة، بما يلوح(10/271)
للعقل من شواهد عليها.. فلم لا يؤمن المشركون بالله، وهذا الوجود كله شاهد لله؟
قوله تعالى:
«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.. بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» .
هذا تعقيب على قوله تعالى: «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» .. وذلك أن البعث وإن لم يعلم يومه فإنه آت لا ريب فيه، وعدم العلم بيومه، لا يستدعى إنكاره وجحوده.. ولكن ذلك هو الذي فتن كثيرا من الناس، وأضلهم، فكفروا بهذا اليوم، إذ لم يعلموه علما واقعا محققا.. وهذا غيب من الغيوب التي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها.. فالذين ينكرون يوم البعث، إنما ينكرون أمرا قامت عليه الأدلة، وتظاهرت له البراهين، وإن كان لا يشعر بها الغافلون الضالون، ولهذا جاء قوله تعالى في الآية السابقة «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» منبها إلى هذه الغفلة التي عليها هؤلاء المشركون المنكرون ليوم البعث.. إنهم لا يشعرون به، مع أن كثيرا من الإشارات الدالة عليه تمر بهم، ولكنهم في غمرة ساهون! - وقوله تعالى: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» إضراب على الصفة التي وصفوا بها من قبل، وهي عدم شعورهم بالبعث، وإلقاء صفة أخرى عليهم فوق هذه الصفة، وهي أن ما لديهم من علم في شأن الساعة، كثير، والشواهد عليه بين أيديهم لا تحصى، ولكن هذا العلم، وتلك الشواهد لم تحقق لهم علما بها.. وهذا هو بعض السر- والله أعلم- فى تعدية المصدر «علمهم» بحرف الجر فى، بدلا من الباء.. فى النظم القرآنى «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ»(10/272)
«فِي الْآخِرَةِ» ولم يجىء هكذا: بل إدراك علمهم بالآخرة.. فالعلم الذي عندهم بالاخرة كثير، ولكنهم يمارون في هذا العلم، ويجادلون فيه..
وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» هو وصف آخر يضاف إلى أوصافهم التي تكشف عن موقفهم من أمر الآخرة.. «إنهم في شك منها» لا يقيم لهم العلم الذي بين أيديهم عنها، إلا أوهاما وظنونا.
ومعنى ادّارك علمهم، أي كثر، وتتابع، وجاءهم داركا، أي متلاحقا..
تختلف وجوهه في تصورهم، وتتغاير صوره في عقولهم، وتتوارد عليهم الخواطر فيه بين الشك واليقين.
وقوله تعالى «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» - وصف ثالث يلحق بالوصفين السابقين، وهو أنهم في عمى وضلال عن الآخرة، فلا يرون لها وجودا، ولا يحسون لها أثرا..
والصورة التي تتمثل من هؤلاء المنكرين ليوم البعث، هى صورة مائجة مضطربة، كما يموج السراب في الصحراء..
فهناك شواهد قائمة على البعث والحساب والجزاء.. ولكن المشركين لا يشعرون بها، ولا يلتفتون إليها.
وهناك علم كثير، تحدثهم به آيات الله التي يتلوها عليهم رسول الله، فى أمر البعث والحساب والجزاء.. «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وهذا العلم لا يستقبله المشركون إلا بقلوب مريضة، وعقول ضالة.. فلا تقع منه إلا على ظنون.. «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» .
وهذه الظنون التي تقع لهم من هذا العلم، سرعان ما يطغى عليها الضلال والجهل، فتختفى، ويختفى معها كل شىء عن هذا اليوم، وإذا هم في عمى، فلا(10/273)
يرون للآخرة ظلا، أو خيالا، فى أنفسهم.. «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» .
وفي تعدية المصدر «عم» ، بمعنى أعمى- بحرف الجر «من» بدلا من «عن» الذي هو للفعل، إذ يقال: عمى عن الشيء: ولا يقال عمى منه، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى، الذي جاء من جهته.. وهذا- والله أعلم- ما أريد هنا، وهو أن الآخرة، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين..
وذلك أن أمر البعث، والحساب والجزاء، هو مضلة الضالين، وغواية الغاوين.
وليس الإيمان بالله هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان.. وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء.. وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون، ويتوقف عنده المتوقفون.. وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله، وربا برب.. وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم.. ولقد كان أكثر جدلهم واقعا على البعث بعد الموت، وفي هذا ما حكاه القرآن عن المشركين والمكذبين بيوم البعث: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟» (7- 8 سبأ) إنهم يعرفون الله، وإن كانت معرفة سقيمة معتمة، وإنهم ليقرون بوجوده، ويتهمون النبي بالافتراء على الله، ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعث الناس، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، يحتاج الوقوف عليه إلى شىء من النظر الخاشع بين يدى هذا الجلال المشرق من سماوات الحق..(10/274)
ففى الآية الكريمة ثلاثة مفاهيم لموقف واحد.. هو موقف المشركين من يوم القيامة.. فالمشركون وإن كانوا على موقف واحد من إنكارهم للبعث، فإنهم في إنكارهم ليسوا على صورة واحدة.. إذ يكاد يكون لكل منكر للبعث تصور خاص به، ومفهوم استقلّ به، وأقام إنكاره للبعث عليه.
ولتصوير هذه التصورات، وتلك المفاهيم في جميع مستوياتها، وعلى اختلاف منازلها، ينبغى أن يكون لكل إنسان صورة خاصة به، ووصف محدّد له..
ولكن هذا أمر لا يضبط، بل يقع موقع الاستحالة المطلقة..
ولو أنه ضبط، لما كان له كبير قيمة في كشف الموقف العام للمشركين المكذبين بهذا اليوم، إذ ما أكثر الصور المتشابهة المتكررة، التي لا يكاد يلمح فيما بينها فرق، إلا تحت النظر «الميكرسكوبى» .
وإذن، فالعمل الذي يجدى في هذه الحال، هو ضبط هؤلاء المكذبين فى مجاميع، كل مجموعة تمثل اتجاها معينا له صفته، وله وجهه في هذا المقام.. وهذا هو الذي فعله القرآن في هذه الآية.
فقد قسم المكذبين بيوم البعث، حسب مشاعرهم له- إلى ثلاث مجموعات، كما نرى في الآية الكريمة: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» .
فالمجموعة الأولى، تأخذ علمها عن الساعة من مدلول النظر العقلي المجرد، دون التفات إلى عالم الغيب، الذي تحتجب وراء ستره أمور كثيرة.. منها البعث، والقيامة.. فمن لا يؤمن بعالم الغيب، لا يهديه عقله وعلمه إلى الإيمان بيوم(10/275)
القيامة.. وهؤلاء هم العلماء الذين يحتكمون إلى العقل وحده، وعلى الحجج الاستدلالية التي ينقض بعضها بعضا.
والمجموعة الثانية، هى التي تخرج من المجموعة الأولى- بعد تضارب الحجج في عقولها- إلى التوقف والشك.
والمجموعة الثالثة، هى التي لم ترفع رأسها للبحث والنظر، ولم تفتح قلبها للإيمان والتسليم، بل هي في شغل وغفلة بما هي فيه، من حياة مادية، لا ترتفع كثيرا عن حياة الأنعام.
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟. لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .
هذا هو موقف المشركين من البعث وما وراءه.. إنه الإنكار الغليظ له، وإنه الجدل العنيف فيه.. ولم يجادل المشركون في الله، ولم ينكروا ألوهيته.. ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعثوا..
والاستفهام هنا إنكارى، إذ يرون استحالة عودتهم إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن يصيروا عظاما نخرة، ورفاتا بالية..
ثم يستدلون على مقولتهم تلك، بما هو واقع مشاهد.. فهؤلاء آباؤهم وأسلافهم الذي مضوا من قرون طويلة- قد وعدوا بالبعث.. فأين هم الآن؟
وأين البعث الذي وعدوا به!.
«إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. أي ما هذا القول إلا من خرافات قديمة، وأساطير بالية!(10/276)
قوله تعالى:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» .
هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين بيوم الدين، وأنهم بتكذيبهم هذا قد انتظموا في سلك المجرمين، وحق عليهم ما حق على المجرمين من بلاء وعذاب! ..
قوله تعالى:
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» .
هو عزاء للنبى الكريم، فى قومه هؤلاء الذين أجرموا، والذين حق عليهم العذاب.. فليدعهم النبيّ لمصيرهم المشئوم هذا، وليخل نفسه من لذعات الأسى والحزن عليهم.. فإنهم ليسوا من أهله.. إنهم عمل غير صالح.
وفي هذا العزاء تهديد آخر للمشركين، وتحقيق للعذاب الواقع بهم، واستحضار له، حتى لكأنه وقع بهم فعلا، وإن النبي ليجد الأسى عليهم، ويتقبل العزاء فيهم!! وقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» - هو تسرية عن نفس النبي، لما كان يجد من ضيق، لما يرميه به قومه من أذى، وما يدبرون له من كيد.. فالله سبحانه وتعالى ناظر إليه، ومؤيد له، وآخذ بيده إلى طريق النصر والعزة.. ولله ولرسوله وللمؤمنين قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(10/277)
وهذا الاستفهام إنكارى، يقوله المشركون في استهزاء وسخرية واستنكار:
«متى هذا الوعد؟» أي متى يوم البعث الذي تعدنا به، وتهددنا بما نلقى من عذاب فيه؟ .. فقد استبعدوا أولا أن يكون في الإمكان بعث الأموات من القبور بعد أن تتحلل أجسادهم وتضيع في التراب.. فقالوا ما حكاه القرآن عنهم في الآيات السابقة: «لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ثم هم ثانيا يؤكدون هذا الإنكار بمنطق سقيم، وهو أنه لو كان فى الإمكان بعث الموتى، فما الضرورة لبعثهم؟ إنهم كانوا أحياء في هذه الدنيا، فلم يموتون ثم يبعثون، إذا كان من بعثهم حكمة؟ ألا كان خيرا من هذا أن يظلوا أحياء إلى ما شاء الله، بدلا من أن يميتهم الله ثم يحييهم؟ فلم الموت ثم الحياة، إذا كانت نهاية الإنسان هي الحياة؟
ثم يسلمهم هذا المنطق السقيم إلى القول، بأنه لو كان البعث ممكنا، وكان لهذا البعث حكمة- فلم لم يقع هذا البعث ولو مرة واحدة في حياة الإنسانية، منذ آلاف السنين؟ .. إنه لو كانت البعث أمرا سيقع- مع التسليم بإمكان وقوعه- لما قطعت الإنسانية هذه الآماد الطويلة من حياتها على هذه الأرض، ولما غيب الثرى هذه الأعداد التي لا حصر لها من أجيال الناس!! فمتى يأتى هذا اليوم؟ .. إنه وعد كاذب، وسلاح خادع يتهددنا به محمد!! وفي هذا يقول شاعرهم:
حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو!!
وفي قولهم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - مواجهة للنبى والمؤمنين، بهذا الإنكار المتحدّى.. فهم لا يلقون النبي وحده بهذا التحدي الساخر، وإنما يلقون به(10/278)
النبي، وكل من آمن به، ودان بيوم البعث وعمل له.. إنهم يبشرون في الناس بأن لا بعث، وينشرون فيهم هذا المعتقد الفاسد، حتى يكثر الواردون معهم على مراتع الحياة الدنيا.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) قوله تعالى:
«قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» هو ردّ على هؤلاء المشركين المنكرين ليوم البعث، الساخرين بالمؤمنين به.. وقد أعطى الله سبحانه نبيه الكريم هذا الجواب الذي يجيب به على سؤالهم المتهكم المنكر.. وهو جواب يحمل إليهم نذر هذا اليوم، ويذيقهم جرعات من بعض العذاب المعدّ لهم فيه..
وقوله تعالى: «عَسى» هو يقين واقع، لا رجاء متوقع.. فما يعد الله سبحانه وتعالى به فهو واقع لا شك فيه، على أية صورة جاء عليها الوعد..
وإنما جاء هذا الوعد في صورة الرجاء، استهزاء بالمشركين المكذّبين، ليقابل استهزاءهم الذي جاء في هذا الاستفهام الإنكارى في قولهم: «مَتى هذَا الْوَعْدُ» ؟ .. ثم هو مطاولة لهم في طغيانهم، وإملاء لهم فيما هم فيه من تكذيب.
وقوله تعالى.. «رَدِفَ لَكُمْ» أي وقع لكم، وعلق بكم، بعض هذا العذاب الذي تنكرونه وتستعجلونه.. ولكنكم لا تشعرون به، لأنكم فى غمرة من جهلكم وضلالكم..
وأصل الرّدف: ما يجىء في عقب غيره.. ومنه الرديف، وهو من(10/279)
يركب خلف الراكب.. ومنه سمى الرّدف، وهو مؤخّرة الإنسان، وجمعه أرداف..
وفي التعبير بالفعل «ردف» دون غيره من الأفعال التي بمعناه..
ما يشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن هذا العذاب سيجيئ من وراء ظنونهم، ويقع من حيث لا يتوقعون.. كما يجىء الرديف من الخلف، وكما يقع الرّدف من وراء..
وثانيا: أن الرّدف، أو الرديف، يلتصق بصاحبه.. وأن هذا العذاب هو ملتصق بهم، وممسك بكيانهم، لا يفلتون منه أبدا.
وثالثا: أن الردف، أو الرديف، هو عبء ثقيل، قد يبهظ المتعلق به..
وهذا العذاب المعجّل لهم في الدنيا، سيلاقون منه بلاء وشدّة..
وقوله تعالى: «بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» .. هو إشارة إلى ما سيحل بالمشركين من خزى في الدنيا، ومن خذلان في مواقع القتال بينهم وبين المسلمين، حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت، ويدخل عليهم الرسول والمؤمنون مكة فاتحين.. إنه بعض العذاب الملتصق بهم.. وهو قليل من كثير.. مما يلقاه أهل الضلال في الآخرة.
وقوله تعالى:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» .
هو إشارة إلى ما يسوق الله سبحانه وتعالى إلى الناس من فضل وما يمدّهم به من نعم.. وإن من أجلّ هذه النّعم، رسوله المبعوث إليهم، وآياته التي يتلوها عليهم، ولكنّ أكثرهم يلقون هذه النعم بالجحود والكفران..
وفي إضافة النبي الكريم إلى ربّه، بهذا الخطاب الذي يفرده فيه وحده(10/280)
فى هذا تكريم للنبى، واحتفاء به، والتفات إليه بعين العناية والرعاية.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» .
هو تهديد للمشركين، وأنهم لن يفلتوا من يد الله، ولن يخلصوا من عذابه لما هم فيه من كفر وضلال، يمتلىء به صدورهم، وتنطق به ألسنتهم، وتتشكل منه أعمالهم.. والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون.. فأين يذهبون؟ وفي تكرار الإضافة للنبى إلى ربه وبضمير الخطاب لله لا بضمير الغيبة- فى هذا توكيد لهذا التكريم للنبيّ وإيناس له في حضرة ربّه..
قوله تعالى، «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ذلك هو بعض علم الله، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. فما من غائبة تغيب عن علم كل عالم في الأرض أو في السماء، إلا ويعلمها الله، لأنها مودعة في كتاب مبين من قبل أن توجد.. كما يقول سبحانه: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»
(22: الحديد) .
قوله تعالى:
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها وما بعدها من هذه الآيات، هى أن بنى إسرائيل كانوا في نظر المشركين أصحاب علم، وأهل كتاب، وكانوا يسمعون منهم، ويتلقون عنهم كثيرا من الأخبار.. فلما جاء القرآن الكريم، وحمل(10/281)
إليهم كثيرا من أخبار الأولين، وعرض عليهم صورا من الحياة الآخرة.
والحساب، والجنة والنار، ورأوا فيما سمعوا من آيات الله كثيرا من وجوه الاختلاف مع ما كانوا قد سمعوه من اليهود- لمّا كان هذا، وقع في نفوس المشركين أن النبيّ إنما يأخذ من تلك الأخبار التي عند اليهود، وينقلها نقلا مضطربا، يخالف فيه الأصل الذي أخذ منه، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ثم جاء قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ليلفت هؤلاء المشركين إلى علوّ هذا القرآن، وإلى أنه هو الذي يصحح لبني إسرائيل ما أحدثوا في الكتاب الذي بين أيديهم، من تحريف وتبديل، حتى وقع بينهم هذا الاضطراب والاختلاف، لأنه من علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء..
هذا، ولم يكن القرآن الكريم قد اتّجه إلى أهل الكتاب بعد، فى هذا الدور من الرسالة الإسلامية، ولم يكن لقى اليهود لقاء مباشرا.. فكانت هذه الآية إشارة إلى أن القرآن لم يجىء للمشركين وحدهم، وإنما جاء كذلك إلى أهل الكتاب، ليصحح ما دخل على هؤلاء وهؤلاء من أباطيل، أفسدت العقيدة، وغيّرت معالم الحق فيها.. وأكثر ما اختلف فيه بنو إسرائيل مقولاتهم في المسيح، وأنه ابن زنا، وأنه ابن يوسف النجار، وأنهم صلبوه..
فجاء القرآن الكريم يقرر أن المسيح عبد الله ورسوله، وأنه نفخة من روح الحق، وأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم..
ومما اختلف فيه اليهود والنصارى قولهم: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» فجاء القرآن يكذب هذا الادعاء.
فقال تعالى لنبيه: «قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» (18: المائدة)(10/282)
ومن ذلك أيضا قولهم في الأطعمة التي حرمها الله عليهم، نكالا بهم، وإصرا عليهم، وادعاؤهم أن هذه الأطعمة إنما حرمت على آبائهم الأولين، قبل أن تنزل التوراة، وأنها شريعة، وليست عقوبة.. وقد كذبهم القرآن فى هذا، فقال تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ.. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ.. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (93- 95: آل عمران) .
ففى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» - هو دعوة إلى اليهود أن يخرجوا.. هذا الإصر المضروب عليهم، وذلك بأن يدينوا بالإسلام الذي هو ملة إبراهيم، وبغير هذا فيكون ما حرم عليهم من طعام، هو نكال بهم، لا يرفع عنهم أبدا..
والطعام الذي حرمه الله على اليهود خاصة، عقابا لهم، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (146- 147: الأنعام) .
ومن ذلك افتراؤهم على الله، بأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وأنهم مهما فعلوا من منكرات وآثام، فلن يمسهم من عذاب الله إلا هذا العذاب الهين، الذي لا يتجاوز مداه أياما معدودات، فكذبهم الله بقوله: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً(10/283)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»
(80- 81: البقرة) .
وهكذا جاء القرآن يقصّ على بني إسرائيل، ويكشف لهم مفترياتهم على الله، وما خالفوا فيه شريعته، وكان موضع خلاف بين أهل العلم، فيهم..
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» .
إشارة إلى هذا القرآن، وما تحمل آياته من الحق والهدى.. وأن الذين يؤمنون به من المشركين، ومن أهل الكتاب، سيجدون الهدى مما هم فيه، من زيغ وضلال، واختلاف.
قوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» .
وإذ كان القرآن الكريم هو الحق، فإن من ينحرف عنه سيضل، ومن ضل فإنما يضل على نفسه، وسيقضى الله سبحانه وتعالى فيه بحكمه، ويأخذه بعد له: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» العزيز الذي لا يخرج عن سلطانه أحد، العليم، الذي لا يغيب عن علمه ما يعمل الظالمون..
الآيات: (79- 85) [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 85]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)(10/284)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» .
هو تثبيت لقلب النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتوثيق للصلة التي بينه وبين الكتاب المنزل عليه، وأن ما يلقى به اليهود إلى المشركين من تلبيسات، يحاجّون بها النبيّ، ويدخلون بها الشك في قلوب الضعفاء- لا ينبغى أن يلتفت إليه النبيّ، ولا أن يعطيه شيئا من التوقير والاحترام- على اعتبار أن ذلك من واردات الكتاب السماويّ الذي في أيدى اليهود.. فهذا الكتاب قد عبث به اليهود، وغيّروا معالمه، وقد جاء القرآن الكريم بالحق المبين، الذي يكشف مفتريات القوم، ويفضح أكاذيبهم: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
وإذن فليمض النبيّ في طريقه، متوكّلا على ربّه، غير ملتفت إلى تلك المقولات التي في أيدى اليهود، أو على ألسنة المشركين الذين أخذوها عنهم..
فهو على هدى وبصيرة من ربّه، وعلى صراط مستقيم بهذا الكتاب الذي بين يديه.. وليس عليه من أمر هؤلاء المعاندين المخالفين شىء..(10/285)
قوله تعالى:
«إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» .
هو تحريض للنبيّ على المضيّ في طريقه، غير ملتفت إلى أهل آراء والخلاف.. وغير آسف على ما يوردهم به هذا المراء والخلاف من موارد الهلاك والبلاء.. فإنهم موتى، إذا نودوا لا يسمعون، وإنهم صمّ، لا تقع الكلمات على آذانهم إلا كما تقع على الحجر الأصمّ..
وفي تشبيه القوم بالأموات، وفي وصفهم بعد ذلك بالصمم- إشارة إلى أنهم درجات في الإعراض عن آيات الله. فمنهم من لا يستمع إلى آيات الله أبدا، ولا يدنو من صوت يرتل كلمات الله، خوفا على نفسه أن يقع تحت تأثيرها، فهو يهرب منها، ويقيم على نفسه حجابا بينه وبينها.. وهذا هو والميت سواء بالنسبة لما يتلو الرسول من قرآن.. ومنهم من يسمع القرآن، لا ليتدبّر آياته، ولا ليعرض ما يسمع على عقله، وإنما ليقع على كلمة، يدبرها على غير وجهها، ويتخذ منها مادة للهزء والسخرية.. فهو بهذا أصمّ، وإن كان ذا أذنين يسمعان! وقوله تعالى: «إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» - هو شرط لإفادة الحكم بعدم سماعهم، وهو- فى معناه- قيد وارد على هذا الحكم، أشبه بالحال.. أي أنهم لا يسمعون ما يلقى إليهم وهم يولّون مدبرين..
والسؤال هنا: كيف يكون عدم سماعهم مقيدا بهذا القيد، وهم صمّ، والأصمّ لا يسمع مطلقا، سواء أقبل أو أدبر؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن الأصم وإن كان لا يسمع بأذنيه، فإنه إذا أقبل على محدثه، ربما فهم عنه بالإشارة، وربما قرأ على حركة شفتيه(10/286)
بعض الكلمات، فوقع له من هذا وذاك شىء من الإدراك والفهم.. وهؤلاء القوم قد ولوا على أدبارهم، وأعطوا ظهورهم لما يتلى عليهم، فلم يسمعوا شيئا، وهذا فى آذانهم من وقر، ولم يروا شيئا وقد أعطوا ظهورهم لما يلقى إليهم! قوله تعالى:
«وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» .
فقوله تعالى: «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» - هو استكمال للوصف الذي عليه هؤلاء المشركون وأمثالهم.. فهم أموات، وإن كانوا في الأحياء، وهم صم وإن كانوا في السامعين، وهم عمى وإن كانوا في المبصرين..
«فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) وفي تعديه اسم الفاعل: «يهادى» بحرف الجرّ «عن» بدلا من حرف الحجر «من» الذي يتعدى به الفعل، فيقال هداه من ضلاله- فى هذا إشارة إلى أن هدى القوم لا يكون بأضواء الحق، وأنوار المعرفة، فهذه معنويات تهتدى بها العقول السليمة، وتستضىء بها البصائر المبصرة.. أما هؤلاء القوم، فقد غابت عقولهم، فانطمست بصائرهم، وأصبحوا في عداد الحيوان، الذي يقاد من مقوده، حتى يستقيم إلى الطريق..
ومن هنا ضمّن اسم الفاعل «هاد» معنى «حاجز» أو «مبعد» - الأمر الذي يكون بمعالجة حية، وبقهر مادى.. وهذا ما ليس من رسالة الرسول. الذي تقوم دعوته على الحكمة، والموعظة الحسنة، كما يقول له الحق جل وعلا: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (125: النحل) وفي قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» تحديد(10/287)
لهمة الرسول، وبيان لمنهج دعوته، وهو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وأن يسمع الذين إذا سمعوا ودعوا واستجابوا..
و «إن» هنا نافية بمعنى «ما» .. أي ما يبلغ تبليغك إلا أسماع أهل السلامة والعافية في عقولهم وقلوبهم- فهؤلاء إذا سمعوا وجدوا لما يسمعون جوابا حاضرا، فى أنفسهم.. وهو التسليم، والإسلام..
وقوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» أي لا يسمع هذه الآيات إلا من كان عنده استعداد لتقبل الحق، والاهتداء بالهدى إذا التقى به.
وقوله تعالى: «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» جملة من مبتدأ وخبر، والفاء للسببية، أي أنهم يسمعون كلام الله، ويملئون به عقولهم وقلوبهم، لأنهم مسلمون بالفطرة، وبما عندهم من استعداد للإيمان.. أما من فسدت فطرته، فإنه لن يسمع، وإن سمع لا يعقل! قوله تعالى:
«وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» .
(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى؟)
اضطرب المفسرون في تفسير هذه الآية، وأكثروا من المقولات في هذه الدابة، وفي أوصافها العجيبة، وفي كيفية نطقها، وفيما نطقت به.. وهل يكون ذلك في الدنيا أم في الآخرة.. فهم يقولون إنها من أشراط الساعة، ويذكرون لذلك أحاديث تنسب إلى النبي صلّى الله عليه وآله.. ويقولون إنه يخرج في كل بلدة دابة، مما هو مبثوث من نوعها في الأرض.. وفي أوصافها.. يقولون: إنها(10/288)
من الإنس، وينسبون إلى على كرم الله وجهه أنه سئل عنها فقال: «أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية «1» » ! ويقولون: إنها الحية التي كانت في جوف الكعبة وخطفتها العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام.. ويقولون رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل «2» ، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرة، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير.. بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا.. ويزيد ابن جرير على ذلك، أنها بذراع آدم عليه السلام..!!
وهكذا تجمع في الدابة جميع الحيوانات، ومختلف الدواب! ويروى عن أبى هريرة أن فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب..
ويروى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا، يراها من بالشرق، كما يراها من بالغرب! ..
وعشرات من الأخبار، والأحاديث، غير هذا، بحيث يجتمع منها متحف، يضم أروع وأعجب ما وقع عليه الخيال.
وهذه المقولات في كثرتها، وتناقضها، توقع الحيرة والبلبال، فما يدرى المرء ماذا يأخذ منها، وماذا يدع؟ ولو أنه اقتصر منها على مقولة واحدة، مهما كانت غرابتها، وإغراقها في الخيال- لكان ذلك- على ما فيه- أقرب
__________
(1) أي أنها إنسان.. إذ أن من شأن الإنسان أن تكون له لحية.
(2) الأيل: بفتح الهمزة، وضمها، وتشديد الياء، حيوان من ذوات الظلف أشبه بالثور وله قرون طويلة متشعبة، وجمعه أيايل.(10/289)
إلى السلامة من التخبط بين هذه المقولات التي يلطم بعضها وجه بعض.
ولو أننا نظرنا إلى الآية الكريمة، نظرا مقاربا، دون شدها إلى أودية الغرائب والعجائب، لرأينا أنها لا تحمل شيئا تستخرج منه هذه المقولات، ولا تحتمل شيئا يساق إليها مما قيل..
فالآية الكريمة ترسم مع الآيات التي قبلها، صورة واضحة الألوان والظلال لأولئك المشركين، الضالين، الذين ماتت مشاعرهم، وعميت أبصارهم وصمّت آذانهم.. فلا يعقلون، ولا يبصرون، ولا يسمعون شيئا مما يتلى عليهم من آيات الله.. فهكذا صورتهم الآيتان في قوله تعالى لنبيه الكريم: «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا.. فَهُمْ مُسْلِمُونَ» «52- 53: الروم» وهنا في هذه الآية تكتمل الصورة، حين تصل حياتهم الجارية في ريح الأمن والسلامة، بحياتهم التي يطرقهم فيها طارق الموت.. وفي هذه الحالة ينكشف لهم كل شىء.. وإذا عقولهم عاقلة، وآذانهم سامعة، وعيونهم مبصرة.. كما يقول الله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» . «22: ق» ففى هذا الوقت ينكشف الغطاء عن الحق الذي ضلوا عنه، وإذا دواب الأرض تنطق، وإذا هم يفقهون حديثها، ويفهمون نطقها، وكانوا في دنياهم قد عجزوا عن أن يفقهوا أو يفهموا ما تحدثهم به آيات الله بلسان عربى مبين..
وفي هذا يقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (53: فصلت) .(10/290)
ففى هذا العرض يرى المشركون أنهم في وضع مقلوب، حيث لا يفهمون حديث الناس، حتى لكأنهم لا يعيشون بين الناس، وأنهم- وهم كما يزعمون أصحاب عقول- لا يعرفون الحق الذي تعرفه دواب الأرض التي تعيش معهم.. فهذه الدواب، تعرف ما لله سبحانه وتعالى من جلال وعظمة، وهي تدين لله سبحانه بالولاء، وتسبح بحمده، كما يقول جل شأنه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ.. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» (18: الحج) .
فهذه الدواب، سيفجؤهم أمرها، عند ما تطلع عليهم بهذا الحديث الذي تحدثهم به في العالم الآخر، والذي هو منطق كل موجود بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.
فقوله تعالى: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» إشارة إلى نزول الموت بهم..
فوقوع الشيء: مجيئه. من جهة عالية، حيث لا يملك أحد رده، كقوله تعالى: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» ..
والمراد بالقول هنا، هو حكم الله، وأمره فيهم، كما يقول سبحانه:
«لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (7: يس) وكقوله تعالى:
«فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ» (31: الصافات) ..
وقوله تعالى: «تُكَلِّمُهُمْ» أي توحى إليهم، بما يفهمون منه هذه الحقيقة التي ضلوا عنها، وهم أحياء، والتي كانت مستقرة في كيان كل كائن، حاضرة في حياة كل موجود.. إلا هؤلاء الضالين المكذبين! وقد جاء في قراءة: «تُكَلِّمُهُمْ» .. وهو من الكلم، والجرح.. أي(10/291)
أن ما يفهمونه يومئذ من الدابة فيه كلم وأذى لهم، بما ينكشف لهم من سوء حالهم، وأنهم دون هذه الدواب العجماء فهما، وأقصر منها إدراكا..
وليس المراد بالدابة، دابة واحدة، وإنما المراد جنسها، وهي كل ما يدب على الأرض من حيوان.. من حشرات، وأنعام، وطيور.. وغيرها..
وقوله تعالى: «أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» - هو تعليل لقوله تعالى: «أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ» - أي تكلمهم الداية لأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله، ولا يؤمنون بها.. والمراد بالناس هناهم هؤلاء المشركون والضالون، وكل من كفر بالله وأعرض عن آياته..
هذا هو المفهوم الذي نستريح إليه من معنى الآية الكريمة، وهو مفهوم كما ترى يعطى دلالة تعين على تأكيد المعنى الذي قصدت إليه الآيات التي سبقتها، والآيات التي لحقتها، كما سنرى.. ومما يستأنس به لهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو أن هذه الآية قد جاءت في تلك السورة «سورة النمل» التي كان من آياتها، حديث النملة، وحديث الهدهد، مع سليمان عليه السلام، فقد وقف هذان الحيوانان الضعيفان وهما دابتان من دواب الأرض- وقفا من سليمان هذا الموقف، الذي صغر فيه لعينى سليمان ملكه وما حشد له فيه من الجن والإنس والطير، أمام هذين المخلوقين الضعيفين، وما أودع فيهما الخالق العظيم.. من علم، وحكمة، وبصيرة! وقد نطق الهدهد، بوحدانية الله، وأنكر على الناس كفرهم وضلالهم، وسجودهم للشمس والقمر، شأنهم في هذا شأن هؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون الله أصناما، فقال: «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..» ؟ (25: النمل)(10/292)
وهذا يشير من بعيد إلى أنه إذا كان سليمان قد تلقى علما وحكمة، إلى ما آتاه الله من علم وحكمة، من هذين المخلوقين الضعيفين- فإن معنى هذا أن هناك علما كثيرا مستقى من موارد الحق الذي لا يشوبه شىء من الباطل، تعلمه دواب الأرض، ولا يعلمه كثير من الناس، وأنه من الممكن أن يتلقى الإنسان من هذه الدواب علما، بدلالة الإشارة أو العبارة، كما وقع ذلك لسليمان، وكما يقع ذلك للناس، يوم يكشف الغطاء، وترفع الحجب التي بين الناس وبين عالم الحق.. فينطق كل شىء، شاهدا بأن الله هو الحقّ! قوله تعالى:
«وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
الفوج: الجماعة المتحركة في سرعة.
يوزعون: أي يساقون، ومن ورائهم وازع يزعهم، ويدفع بهم دفعا إلى موقف المساءلة والحساب..
وينقل المشركون هنا في هذه الآية من حال الموت، وما يرون فيه من الحق الذي كانوا عنه معرضين، حين يتحدث إليهم الوجود كله، حتى دواب الأرض، تنطق بألوهية الإله الواحد القهار- ينقلون إلى المحشر، حيث يبعثون من قبورهم، ويساقون سوقا عنيفا إلى موقف الحساب والجزاء..
حتى إذا جاءوا، سألهم الحق جل وعلا: «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ؟ .. إنهم يسألون ممن كانوا ينكرونه، أو يشركون به، ويكذبون بآياته، ويمكرون برسله.. وهذا السؤال من الله(10/293)
سبحانه- هو مواجهة لهم بالحق الذي أنكروه، وعموا عنه.. وفي هذا بلاء عظيم لهم، حيث يسقط في أيديهم، ولا يجدون قولا يقولونه للذى اعتدوا عليه، وقد جاء بهم ليأخذ بحقه منهم! وفي الاستفهام: «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» تقريع لهم، وتقطيع لأكبادهم أسى وحسرة على ما كان منهم..
وفي قوله تعالى: «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» - إشارة إلى أنهم لم ينظروا في آيات الله، ولم يعرضوها على عقولهم، بل واجهوها بالبهت والتكذيب، ورموها بالسخرية والاستهزاء، من قبل أن ينظروا فيها..
وقوله تعالى: «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» - أي ماذا كان عملكم في هذه الدنيا، إذا كنتم لم تستعملوا عقولكم، ولم تؤمنوا بي وبرسلى؟
أللإنسان عمل آخر غير هذا؟ أم أنكم لستم من عالم الإنسان؟
واختصاص المكذبين بآيات الله، بالحشر، وإن كان الحشر للناس جميعا، هو عرض لهذا القطيع الضال من الإنسانية، فى كل أمة من الأمم، حيث تبدو منهم العبرة لكل معتبر! «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» قوله تعالى:
«وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» .
لقد وجم القوم، وتبلدت مشاعرهم، وطارت عقولهم، وانعقدت ألسنتهم، فى هذا الموقف الرهيب، الذي وقفوا فيه موقف الحساب بين يدى رب العالمين، فلم ينطقوا بكلمة.. «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أي وجب عليهم العقاب، وحق عليهم العذاب، بما كان منهم من ظلم وعدوان على الله، وعلى آيات الله، وعلى رسل الله..(10/294)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
هذه الآية تعقيب على تلك المشاهد، التي رأى فيها المشركون والذين يكذبون بآيات الله، ما رأوا من معالم الحق، وهم على طريقهم إلى الدار الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء.. وفي هذا التعقيب نخسة توقظهم من(10/295)
هذا الحلم المزعج، وإذا هم مع شركهم الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وإذا كانوا قد عموا عن كلمات الله التي تعرض عليهم آيات الله، تسطع هدى ونورا لمن أراد الهدى والنور.. فهذا الليل الذي جعله الله سكنا لهم، وهذا النهار الذي جعله الله ضياء يكشف ظلام الليل.. أليس في هذا شاهد يشهد بالحق، وينطق بوجود إله متفرد بالقيام على هذا الوجود؟ بلى.. إن في ذلك لآيات- لا آية واحدة- لقوم يؤمنون.. أي قد تهيأت نفوسهم للإيمان.. أما من فسدت فطرتهم، وعميت بصيرتهم، فلن تغنى عنهم الآيات شيئا. «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) ..
وفي تخير هذه الآية- آية الليل والنهار- من بين الآيات كلها، وقصر العرض عليها وحدها- لأنها تجمع الآيات المحسوسة والمعقولة، من جهة، ولأنها واقع مشترك بين الناس جميعا.. حيث يحتويهم جميعا.. الليل والنهار..
من جهة أخرى..
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» .
وفي هذه الآية يردّ المشركون مرة أخرى إلى الدار الآخرة، وإلى ما كانوا فيه من هول وفزع، مستصحبين معهم ما سمعوا لتوّهم من قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» .. فإذا كانوا قد نسوا، ما رأوا من مشاهد القيامة التي عرضت عليهم من قبل، فهذا مشهد من مشاهدها.. وهذه آية من آيات الله، الدالة على قدرته، ورحمته، وحكمته..
فليأخذوا طريقهم إلى الإيمان» ولا يمسكوا بما هم عليه من شرك، ولا عذر لهم بعد هذا البلاغ المبين..(10/296)
والصّور: هو القرن، الذي يؤخذ من الحيوان، ثم يخرق من أعلاء، وينفخ فيه..
والنفخ في الصور يوم القيامة، هو دعوة الحق سبحانه وتعالى للأموات، أن يبعثوا من قبورهم..
- وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» هو استثناء لبعض خلق الله من الفزع الذي يستولى على أهل السموات والأرض، حين يدعو داعى الحق إلى البعث والنشور.. وهؤلاء المستثنون هم عباد الله الذين آمنوا به واستقاموا على طريقه المستقيم.. كما يقول سبحانه فيهم: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (103: الأنبياء) وكما يقول سبحانه في هذه الآيات: «وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» .
- وقوله تعالى: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» أي أذلاء، صاغرين..
قوله تعالى:
«وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» .
هو استعراض لبعض مظاهر قدرة الله. وحكمته، وتدبيره في خلقه..
فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها هامدة جامدة لا حراك بها، هى في الواقع على غير هذا الظاهر الذي يبدو للعين منها.. إنها تتحرك حركة حرة منطلقة، فى يسر وفي انتظام، كما يمر السحاب! .. فما تراه العين منها شىء، وما هو واقعها شىء آخر..
وإذن ففى الجبال حقيقة لا ترى بالعين، ولا تحسّ بالنظر والمشاهدة..
وتلك الحقيقة أنها متحركة، وأنها تمر مر السحاب!(10/297)
وهنا سؤال:
إذا كنا نحن في هذا العصر نرى بعين العلم أن الجبال تمر مر السحاب، وأنها متحركة بحركة الأرض، وأن الذي ينظر إليها من الجو، يرى أنها تسير كما يسير السحاب فعلا.. فكيف كان مفهوم العرب الذين خوطبوا بهذه الآية، وهم لم يكونوا قد عرفوا أن الأرض متحركة تدور حول نفسها مرة كل يوم؟ ألم يكن في إعلان هذه الحقيقة ما يدخل اللبس على قلوب المؤمنين، فوق ما يحرك ألسنة المشركين بالبهت والتكذيب! والجواب- والله أعلم- أن النظم القرآنى، قد جاء على صورة تدفع هذا الاحتمال من جانبيه جميعا! فأولا: يقرر القرآن صراحة أن الجبال ثابتة في مرأى العين.. وهذا لا يجادل فيه أحد، وهذا هو السرّ في قوله تعالى: «تَحْسَبُها جامِدَةً» .. وكما يقول سبحانه: «وَالْجِبالَ أَرْساها» (32: النازعات) ، وكما يقول جل شأنه:
«وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (7: النبأ) .
وثانيا: إن هذه الجبال الثابتة في مرأى العين، هى في حقيقتها متحركة، وهذه الحركة حقيقة لا تنكشف إلا بالعلم والبحث، لأنها قائمة وراء هذا الظاهر..
فمن كان في استطاعته أن يبحث ويدرس، فليفعل، وسيجد مصداق ذلك..
ومن لم يكن عنده هذا الاستعداد، فهو بين رجلين: مؤمن بالله، وبآياته، مصدق بكل ما نزل على الرسول من ربه.. وهذا لا يمارى في هذه الحقيقة، ولا يشك فيها، وإنما هو مؤمن بها، مسلّم بما تحدث به القرآن عنها، ناظرا إلى اليوم الذي يقع له من العلم ما يكشف له عن وجه هذه الحقيقة. ومشرك، أو كافر بالله، فهو مكذب بآيات الله كلها.. جليها وخفيها.. فلا يدخل عليه(10/298)
من هذه الآية إلا ما امتلأ به قلبه من جحود وإنكار..
وقوله تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» .. «صُنْعَ اللَّهِ» منصوب على الإغراء بفعل محذوف تقديره: انظر، أو تأمل، أو نحو هذا.
وفي هذا دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية الكريمة من أمر الجبال، وتحركها مع تحرك الأرض في دورتها اليومية..
فالذين يؤمنون بالله، ويصدقون بكلماته، يستيقنون أن هنا حقيقة كامنة، تشير إليها الآية الكريمة، ولا تكشف عن وجهها، وأن على المؤمن أن يطلب هذه الحقيقة، وأن يشهد بعض جلال الله منها..
والمفسرون مجمعون على أن ذلك الذي تحدث عنه الآية في شأن الجبال، إنما يقع يوم القيامة، حين تتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وكما يقول الله تعالى: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (20: النبأ) .
على أن الذي حملنا على مخالفة هذا الإجماع، هو ما جاء في قوله تعالى:
«صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» فإن ذلك إلفسات إلى روعة الصنعة وإحكامها، وهذا لا يكون واقعا في نظر الإنسان يوم القيامة وهو يرى الجبال وقد تناثرت أشلاء!.
وإنما يرى ذلك، وهي قائمة ثابتة، ثم هي في نفس الوقت متحركة تدور مع الأرض في دورانها، دون أن تسقط وتهوى! وفي هذا يتجلى إحكام الصنع وإتقانه..
وهنا سؤال أيضا وهو: إذا كان ذلك كذلك، فلم لم تنكشف هذه الحقيقة للمسلمين الأولين؟ ولم لم يطلبها الصحابة، ولم يكلفوا أنفسهم البحث عنها.
وهم أعرف الناس بكتاب الله، وأقربهم من مواقع الحق فيه؟
وتقول: إن صحابة رسول الله- رضوان الله عليهم- كان متعلّقتهم بآيات الله، هو الجانب الروحي منها، ولم يكن يعنيهم من هذا الوجود(10/299)
ظواهره، وإنما كان همهم حقيقته، ولبابه، وما انطوى عليه من علم، وحكمة، وتقدير.. إنهم كانوا في مستوى روحى رفيع، بحيث يصغر في أعينهم كل ما هو مادىّ، وإن بهر العيون، وخلب الألباب! وإذن فلا نسأل إذا كان صحابة رسول الله قد اطلعوا على هذه الحقيقة من أمر الجبال أم لم يطلعوا، لأنها كانت أقل الحقائق التي اطلعوا عليها، وشغلوا بها، من عالم الحق.
ومن جهة أخرى.. فإن من كان يعرف هذه الحقيقة لم يكن يرى من الحكمة التحدثّ بها، وإذاعتها في المجتمع، إذ كانت مما لا تصدّقه العقول يومئذ، فالحديث به فتنة، تشغل الناس، وتثير دخانا كثيفا من الشكوك والريب.. ذلك في الوقت الذي كانت فيه وجهة الدعوة الإسلامية، هى محاربة الشرك والإلحاد، وتوجيه العقول والقلوب إلى وحدانية الإله الواحد، المتفرد بالخلق والأمر، رب العالمين.. فكل ما من شأنه أن يشغل عن هذه الغاية، هو في الواقع حركة مضادة لدعوة الإسلام، وحرب خفية عليها..
ولعلّ هذا هو السر في أن المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، قد خلت تماما من التعرض للحقائق العلمية، التي تشغل العقول عن النظر المباشر إلى جلال الله سبحانه وتعالى، فى صفحة هذا الوجود، نظرا يملأ القلوب روعة وخشوعا، ورهبة لهذا الإبداع الذي يتمثل في كل كائن من تلك الكائنات المبثوثة في الأرض أو في السماء.. فإن زهرة واحدة.. مثلا، فى جمال ألوانها، وتناسق أصباغها، وتماثل أجزائها.. جديرة بأن تفتح للإنسان طريقا إلى الله، وإلى الإيمان به، إيمانا وثيقا، مبرّا من كل شرك، وشك! ..
ومن أجل هذا، لم يلق القرآن الكريم أولئك الذين كانوا يريدون أن يدخلوا معه في ميدان المماحكة والجدل- لم يلقهم محاجا أو مجادلا، بل صرف وجهه عنهم، ودعاهم إلى أن يلتمسوا الطهر لقلوبهم من داء الشرك(10/300)
أولا، فإذا فعلوا ذلك، كان كل شىء يقع لهم من علم- وإن قل- مبارك العطاء، طيب الثمر.. وفي هذا يقول الله تعالى ردّا على من سألوا هذا السؤال المتعنّت عن الأهلّة: ما بالها تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود فتصغر؟: «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (189: البقرة) ومن أجل هذا أيضا أمسك كثير من صحابة رسول الله، بما كشف لهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من أسرار هذا الوجود، فى العالم الأرضى والسماوي، لأنها كانت فوق أن يحتملها غيرهم.. ولو أنها ذاعت فى الناس يومئذ لكانت فتنة لهم.. وكذلك فعل كثير من أهل العلم، الذين حلّقت أرواحهم في سماوات عالمية، فرأوا بشفافية أرواحهم مالا يراه غيرهم، وفي هذا يقول قائلهم:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستباح رجال مسلمون دمى ... يرون أكثر ما يأتونه حسنا
قوله تعالى:
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
فى هاتين الآيتين عرض لمحصول الدعوة الإسلامية في المجتمع الإنسانى..
فالناس مؤمنون، أو كافرون.. محسنون، أو مسيئون.
أما المؤمنون المحسنون، الذين يعملون الصالحات، فلهم جزاء ما عملوا، أضعافا مضاعفة، من رحمة الله ورضوانه.. وأما أهل الزيغ والضلال والفساد، فجزاؤهم جهنم، حيث يساقون إليها سوقا عنيفا، فيسقطون على وجوههم فى النار.. وهذا جزاء ما كانوا يعملون..
وفي إفراد الضمير لأهل الإحسان وأهل السوء أولا، ثم عوده جمعا(10/301)
عليهما ثانيا- فى هذا إشارة إلى أن لكل إنسان حسابه وجزاءه.. فهم- محسنون ومسيئون- محاسبون، فردا فردا.. ثم يلتقى أهل الإحسان بأهل الإحسان، ويلتقى أهل السوء بأهل السوء..
قوله تعالى:
«إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ.. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
بهذه الآيات الثلاث تختم سورة النمل، فيلتقى ختامها مع بدئها.. حيث بدئت بعرض كتاب الله الكريم، وما فيه من هدى وبشرى للمؤمنين، ومن خزى ووعيد للمشركين الضالين.
ثم عرضت السورة بعد هذا معارض للدعوة إلى الله على لسان هذا الطائر الضئيل الضعيف «الهدهد» ليرى في هذا العرض ما في الإنسان من سفاهة وحمق، حين يضل طريقه إلى الله، فيعبد الشمس والقمر، ويأبى أن يعبد ربّ الشمس والقمر..! ثم تختم السورة بهذا الموقف الذي ينهى به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ما بينه وبين قومه.. إنه قد دعاهم إلى الله، وبلغهم رسالة ربه، وأسمعهم آياته، فليس لهم بعد هذا على الله حجة.. وإنه- وهو رسول الله- مدعوّ مثلهم، إلى ما يدعوهم إليه من عبادة الله، والولاء له.. «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» لا سلطان لى على أحد، حتى أحمله به حملا على الإيمان بالله.
وفي قوله تعالى: «رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها» إشارة إلى أن هذه البلدة،(10/302)
وهي مكة- معلم من معالم الحق على هذه الأرض، وأنها أكرم وأعظم ما يشار إليه منسوبا إلى الله سبحانه مما على هذه الأرض.. إذ كان فيها أول بيت وضع للناس.. وإذ هي قبلة كل من يؤمن بالله، لا قبلة لأهل الإيمان غيرها.. وقد أشار القرآن الكريم إشارة أخرى في قوله تعالى: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ»
(3: قريش) .
وقوله تعالى: «الَّذِي حَرَّمَها» - الاسم الموصول يعود إلى ربّ البلدة، لا البلدة.
وفي قوله تعالى: «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» إضافة لكل موجود في هذا الوجود إلى الله سبحانه وتعالى.. فكل شىء هو ملك لله، لا شريك له فيما ملك.
وقد أضاف الله سبحانه، البلدة (مكة) إلى ربوبيته، وأضاف الوجود كله إلى ملكه، وفي هذا تشريف عظيم لهذه البلدة، ورفع لقدرها، وأنها مختصة منه سبحانه بمزيد من الفضل والإحسان، حيث تربى في نعم الله، وتستظل بظل ربوبيته.. وإذا كان كل شىء مربوبا لله، فإن لله سبحانه ما يشاء من اختصاص بالفضل والإحسان.. «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»
. (105: البقرة) وقوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن الدين الذي بدين به النبي ليس دينا خاصا به وحده، ولا مقصورا عليه وحده، وإنما هو دين كل من يؤمن بالله.. فهو واحد من المسلمين، وإن كان سيد المسلمين وإمامهم..
وقوله تعالى: «وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ» - معطوف على قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» أي وأمرت أن أتلو القرآن، على الناس وأبلغهم إياه..
هذه هي رسالتى: «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .. أي لا سلطان لى على أحد، وإنما أنا نذير لكم بين يدى عذاب(10/303)
شديد.. فمن استمع لهذا النذير، وأخذ لنفسه طريق النجاة من عذاب الله، فقد أدى حق نفسه عليه.. ومن أقام على طريق الضلال حتى يأخذه العذاب فلا يلومن أحدا..!
قوله تعالى:
«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
هو لسان الوجود كله، يسبح بحمد الله.. ينطق به الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وينطق معه كل مخلوق.. فإن لم ينطق به المشركون والكافرون في هذه الدنيا، لما ران على قلوبهم من زيغ، وما غشى على أبصارهم من ضلال، فإنهم سيحمدون الله سبحانه، حين ينكشف لهم الغطاء بعد الموت، ويرون آيات الله، ويعلمون أنها الحق من ربهم..
فقوله تعالى: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» - هو جواب عن سؤال يرد على خواطر المشركين والكافرين في هذه الدنيا، حيث ينكرون الله، وينكرون ما يحمد عليه.. فيقولون: من نحمد؟ وعلام نحمد؟ فيلقاهم الجواب:
«سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» أي إذا جهلتم الله الآن وأنكرتموه، وأنكرتم نعمه عليكم، فإنكم في الدار الآخرة، سترون آياته، وترون الحق الذي جهلتموه، ويومئذ تعرفون قدر الله، وجلاله، وعظمته، وما أفاض عليكم من نعم، فلا تملكون غير الحمد لله رب العالمين..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (75: الزمر) وفي قوله تعالى: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» وعيد لهؤلاء الضالين، يوم ينكشف لهم وجه الحق ويرون ما كانوا فيه من ضلال وعمى.. ومن تلك الآيات(10/304)
التي سيرونها، ويعرفونها ويتلقون منها الحق الذي أنكروه- هذه الدابة التي تكلمهم عند موتهم.
وقوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» وعيد بعد وعيد للمشركين والضّالّين، وأن ما عملوا من سوء هو مسجّل عليهم، فى علم الله، وسيحاسبون عليه.. فليس ما يعملونه بغائب على الله، وليس الله سبحانه وتعالى بغافل عنهم.. بل سيأخذهم بما كسبوا.. ليجزى الذين أسلموا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.(10/305)
28- سورة القصص
نزولها: مكية، باتفاق.
عدد آياتها: ثمان وثمانون.. بلا خلاف.
عدد كلماتها: ألف وأربعمائة، وواحدة.
عدد حروفها: خمسة آلاف، وثمانمائة حرف.
مناسبة السورة لما قبلها
جاء في سورة الشعراء، ثم في سورة النمل، السابقتين على هذه السورة- حديث موجز عن موسى وفرعون..
فقد جاء فى «الشعراء» قول فرعون لموسى: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (18- 19: الشعراء) وجاء في هذه السورة- القصص- بيان مفصّل لهذه الفترة من حياة موسى، تحدّثت عن مولده، وإلقائه في اليم، والنقاط آل فرعون له، ونشأته فى بيت فرعون تمنّى له.. ثم قتله المصري، ثم فراره إلى مدين.. وهذه الأحداث كلّها قد طويت طيّا في الآيتين السابقتين من (سورة الشعراء) وجاء في سورة (النمل) : «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» (7) ولم يذكر فيها من هم أهله؟ ومن أين جاءوا؟ وما وجهتهم معه؟.
فجاء في سورة (القصص) .. فرار موسى إلى أرض مدين، ولقاؤه شعيبا، وتزوّجه بإحدى ابنتيه اللتين لقيهما على ماء مدين، وسقى لهما ... كما سنرى ذلك مفصلا في هذه السورة.(10/306)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)
التفسير «طسم» مبتدأ، وخبره «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» . فهذه الآيات البينة التي ضم عليها هذا الكتاب المبين، هى هدى ورحمة للمؤمنين، يرون فيها، وعلى أضوائها، وجه الحق، فتتجه عقولهم إليه، وتتفتح قلوبهم له.. أما من ختم الله على قلوبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة من أهل الشّقوة- فإن آيات الله البينة الواضحة، تستغلق عليهم، فلا تقع في آذانهم، ولا تمر على(10/307)
عقولهم وقلوبهم إلا كما تمر هذه الحروف «طسم» وأمثالها، مما هو أصوات، لا ينتظم منها معنى، إلا عند الراسخين في العلم.
قوله تعالى:
«نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
أي من آيات هذا الكتاب المبين، نتلو عليك هذه الأنباء، مما كان بين موسى وفرعون، منزّلة من عالم الحق، بالحق.. «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» أي مستعدون بفطرتهم للإيمان، متقبلون للحق، إذا بانت لهم دلائله، ووضحت لهم سبيله.
- وفي قوله تعالى: «نَتْلُوا عَلَيْكَ» بإسناد الفعل إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلو هذه الآيات على النبي، هو جبريل- فى هذا تكريم للنبى، وإدناء له من ربه، الذي يتلو عليه هذه الآيات..
قوله تعالى:
«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» .
هو ابتداء بما يتلى من نبأ موسى وفرعون.
وقد بدىء بالحديث عن فرعون، فكشف عن شخصه الذي يكشف عن إنسان يلبس ثوب الجبروت والطغيان.. فقد علا في الأرض، وجعل الناس شيعا، وهم أمة واحدة، من طينة واحدة.. فهو بعلوّه واستكباره قد انعزل عن الناس، فكان رأسا، وكان الناس جميعا أرجلا!! كان سيدا، وأصبح الناس كلهم في سلطانه عبيدا.. كان إلها، وصار الناس له مألوهين..
ثم إنه بعمله هذا قد صنف الناس أصنافا، ورتبهم طبقات.. وبذلك تسلطت(10/308)
كل طبقة على من هي تحتها.. وبذلك أغرى الناس بالناس، وشغل بعضهم ببعض!.
وقوله تعالى: «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» المراد بالطائفة هنا هم بنو إسرائيل.. وإذا كان فرعون قد استضعف الناس جميعا ممن هم تحت سلطانه، فإنه بالغ في استضعاف هذه الجماعة، وأخذها بالبأساء والضراء.. فهو يذبح أبناءهم، حتى يقطع نسلهم، ويستحيى نساءهم، أي يمتهنهن، ويفضح سرهن، فلا يرعى لهن حرمة، ولا يبقى لهن على حياء!.
- وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» - هو الوصف الجامع لمساوىء فرعون- إنه لا يفعل إلا ما كان من واردات الفساد.. فهو كيان فاسد، لا يصدر عنه إلا ما هو فاسد..
قوله تعالى:
«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» .
هو معطوف على إرادة لفرعون، التي كان يقصد إليها من وراء هذا الإدلال للناس، وما يأخذهم به من ذبح الأبناء، واستحياء النساء، وهو التمكين لسلطانه، وازدياد هذا السلطان علوا، بازدياد الناس من تحته نزولا وانحدارا.. فهو يريد هذا، والله سبحانه يريد أن يمن على هؤلاء المستضعفين..
وإرادة الله هي الغالبة..
وهذا هو بعض السر في قوله تعالى: «وَنُرِيدُ» يتعلق الفعل بالمستقبل،(10/309)
مع أن إرادة الله قديمة أزلية.. ولكنهاهنا إرادة خالقة، قد جاء أوان إمضائها على الوجه الذي أراده سبحانه.. إنها تصدم إرادة فرعون الذي يريد بها إذلال تلك الجماعة، والله يريد خلاصها من يده، والمنّ عليها بالتحرر من هذا الأسر.
والمنّ: التفضل والإحسان ابتداء من غير مقابل..
والأئمة: القادة، الذين يكونون أمام غيرهم..
- وقوله تعالى: «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي نثبت لهم مكانا فيها.
- وقوله تعالى: «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» - أي نفسد على فرعون تدبيره، ونبطل كيده، فيما قصد إليه من وراء بغيه وعدوانه.. فمن هذه الجهة التي كان يعمل على القضاء عليها، خوفا على سلطانه- من هذه الجهة سيطلع عليه ما يذهب بسلطانه، ويقضى عليه هو ومن معه.! حتى لكأنما يريد إهلاك نفسه عمدا!.
و «هامان» هو اليد العاملة لفرعون، فيما يشاء.. وقد يكون وزيرا لفرعون، أو مستشارا له، أو كبير جنده.. وهو الذي دعاه فرعون إلى أن يبنى له صرحا يطلع منه إلى إله موسى..
وفي هذا يقول الله تعالى: «وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» «36- 37: غافر» قوله تعالى:
«وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» .(10/310)
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، يكشف الله سبحانه وتعالى عن الأسباب التي يقيمها سبحانه، لتمضى بها إرادته، وتتحقق مشيئته..
وإذا كان الله سبحانه وتعالى في غنى عن هذه الأسباب التي تتصل بالمسببات، حيث يقول للشىء «كن» فيكون- فإنه سبحانه، يرينا بهذا التدبير أن هناك أسبابا يتوسل بها إلى المسببات، وأن علينا أن نأخذ كل أمر بأسبابه التي تقع في حسابنا وتقديرنا..
وأول سبب من تلك الأسباب التي تقع بها إرادة الله في فرعون، هو ميلاد موسى، الذي سيكون على يده هلاك فرعون.! فهذا هو السبب الأول الذي ستدور عليه الأسباب المؤدية إلى هلاك فرعون!.
وحين ولد موسى، كان فرعون يمضى حكمه في أبناء بني إسرائيل، فيترصد جنوده لكل مولود ذكر ليذبحوه..
وقد أوحى الله سبحانه إلى أم موسى أن تمسك وليدها، وأن ترضعه، أي تتولى إرضاعه من لبنها، لا أن تدعه لمرضع غيرها، وذلك لأمر سيتضح فيما بعد، حين يقع الوليد في يد امرأة فرعون، فتلتمس له المراضع، فلا يقبل غير الثدي الذي رضع منه، أول رضعات، وهو ثدى أمه.. وبذلك يجتمع الوليد وأمه، لنمضى الأسباب إلى غاياتها..
وقد يكون الوحى المشار إليه هنا، هو إلهام من الله سبحانه وتعالى، فوقع فى تفكير أم موسى أن تصنع هذا الصنيع. وأن تحتال هذه الحيلة، وأن تغامر تلك المغامرة، فهى على ما بها من خطر يتهدد الوليد، فإنها فرارا بهذا الوليد من هلاك محقق، تدبر له هذا التدبير.. وقد ينجو الوليد وقد يهلك بهذا التدبير الذي دبرته، فإن نجا، فهذا ما ترجوه، وإن هلك فموته غرقا بعيدا عنها، أهون عليها من أن يذبح بين يديها!.(10/311)
- وقوله تعالى: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» - أي أمسكيه عندك، وأرضعيه، حتى إذا استشعرت خوفا من فرعون أن يصل إليه فألقيه في اليم، أي النهر، وهو نهر النيل..
- وقوله تعالى: «وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» تطمين لأم الوليد، وتسكين لمخاوفها التي تطل عليها من إلقائه في اليم.. فهى إذ تستمع إلى هذا الوعد من رب العالمين، تدفع بابنها إلى اليم، فى غير تردد، هذا إذا كان الأمر وحيا مباشرا، أما إذا كان إلهاما، فتكون هذه الأوامر الموجهة إليها، خواطر قد جرت في تفكيرها، ثم ألزمت نفسها بها، وأقامت أمرها عليها.. فكأنها أوامر صادرة إليها من جهة عليا، لا تستطيع لها خلافا.
إنها القدر الذي يسير الإنسان، ويحدد خطواته، ويقيم وجهه على هذا الأمر أو ذاك.. وقد هداها إيمانها بالله إلى هذا الاطمئنان.
قوله تعالى:
«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» .
وتتحرك الأسباب إلى غايتها، خطوة خطوة.. فهذا موسى «الوليد» ينتقل من يد أمه إلى صدر النهر، ثم ينتقل من صدر النهر إلى بيت فرعون.. وهكذا يمضى القدر فى طريقه، لا يدرى الناس من أمره شيئا، حتى ليربّى فرعون في حجره، العدوّ الذي كان يطلبه! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» .
فهو لم يلتقط حين التقط ليكون لفرعون عدوا وحزنا، وإنما التقطه آل فرعون ليكون لهم قرة عين، كما تقول امرأة فرعون: «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ولكنّ للقدر طريقا غير هذا الطريق.. لقد(10/312)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
أراد فرعون أمرا، وأراد الله أمرا، ولا مرد لما أراد الله..
- وقوله تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» .. يجوز أن يكون وصفهم بالخاطئين، من الخطأ وهو ضد الصواب.. بمعنى أنهم كانوا فى جهل وعمى عما ينكشف عن هذا الأمر الذي فعلوه بأيديهم.. وفي هذا ما يكذب ادعاء فرعون للألوهية، ويكشف زيف هذا الادعاء.. فلو أنه كان إلها، لما اختار من بين المواليد كلها هذا الوليد الذي يكون على يديه هلاكه، وموته على تلك الميتة الشنعاء! وإما أن يكون هذا الوصف من الخطء والخطيئة- ويكون هذا الوصف تعليلا لما أخذهم الله به من هذا التدبير الذي يوردهم موارد الهلاك.
الآيات: (9- 14) [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 14]
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)(10/313)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.. لا تَقْتُلُوهُ.. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
وتتحرك أحداث القدر إلى غاياتها، وها هو ذا الوليد بين يدى فرعون..
إنه الوليد الذي يطلبه ذبحا ممن يذبح من أبناء إسرائيل.. فالطفل إسرائيلى بلا ريب.. إذ ما من أم تلقى بابنها في اليم، إلا أن تكون من الإسرائيليات، فرارا به من موت محقق إلى موت محتمل.. إذ ربما يلتقطه رجل أو امرأة ممن لا يعنيهم أمر فرعون، من الصيادين، أو الفلاحين، فيجد الطفل من يربّيه ابنا، أو عبدا!! هكذا كانت نظرة فرعون والملأ حوله إلى هذا الوليد.. إنه إسرائيلى.. وإذن فليذبح كما ذبح ويذبح أبناء جنسه.. ولكن القدر يحرك سببا، فيفسد على فرعون وملائه هذا الرأى، حيث تتطلع امرأة فرعون إلى الوليد- وكانت غير ولود- فتتحرك فيها غريزة الأمومة، وتصرخ في أعماقها عواطف الأم نحو هذا الطفل، وإذا هو لعينيها الطفل الذي ولدته، لساعتها فتتشبث به، وتصرخ في الأيدى الممتدة لذبحه: - ولدي!! كبدى وقرة عينى!! «لا تقتلوه» .
وترتفع الأيدى عن مهد الوليد، ويتطلع فرعون إلى امرأته عجبا دهشا..!
ولا تمهله حتى ينطق بالأمر القاطع في هذا الوليد.. فتلقاه متوددة متعطفة، مسترحمة لنفسها- وقد حرمت الولد- أن يدع لها فرعون هذا الولد، من بين آلاف الأولاد الذين أراق دماءهم، وأزهق أرواحهم.. وإن ولدا واحدا، لا يقدم ولا يؤخر في الأمر الذي يتغياه فرعون، من قتل هؤلاء الأطفال-(10/314)
فتقول لفرعون في نودد وتلطف واسترحام: «عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» ! وتقع هذه الكلمات من قلب فرعون موقعا، فيجيب امرأته إلى ما طلبت، ويترك لها الوليد، تترضى به أنوثتها، وتشبع به جوع أمومتها! - وقوله تعالى: «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» جملة حالية، من فاعل فعل محذوف، دل عليه سياق الكلام.. والتقدير.. تركوا الوليد، واستثنوه من الذبح، وهم لا يشعرون بما سيأتيهم من هذا الوليد، مما كانوا يحذرون..
قوله تعالى:
«وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
فى الآية لفتة جانبية إلى أم موسى، وإلى ما تعانى من آلام نفسية، بعد أن ألقت بوليدها في اليم.. وفي هذه اللفتة تتصل خيوط الأحداث التي ينسج منها القدر هذا الحدث الكبير، الذي سيولد بعد قليل.. وأم موسى لها دورهام في الأحداث المقبلة.. سينكشف فيما بعد! - وفي قوله تعالى: «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» - إشارة إلى ما ترك ضياع الولد من يدها، من فراغ كبير، فى مشاعرها، وأحاسيسها.. فلقد تعطلت بذهابه عنها كل العواطف التي تغذى بها الأم طفلها، من سهر عليه، ومناغاة له، واشتغال به في نومه، ويقظته، وفي بكائه، وصمته، وفي حركته وسكونه.
إن جوارحها كلها التي ترصدها الأم لطفلها، قد أصبحت أدوات معطلة لا تعمل، وهذا بدوره قد جعل قلبها- وهو مركز العواطف والمشاعر- كيانا فارغا، لا يستقبل من الطفل ما يصل الأم به، من مشاعر وعواطف، إلا تلك العواطف السلبية.. من قلق، وأسى، ولوعة.. وهذا هو السر في هذا التعبير(10/315)
المعجز: «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» ! ..
- وفي قوله تعالى: «أُمِّ مُوسى» - إشارة إلى أن هذا الوليد، قد أصبح- فى رعاية الله، وفي ضمان وعده بحفظه- قد أصبح ذا وجود معترف به في هذا المحيط الذي ضاعت فيه معالم الأطفال، وأهدرت فيه دماؤهم.. إنه الآن شخصية معروفة، وعلم ظاهر، يأخذ مكانه في هذه الأحداث، تماما كما يأخذ فرعون مكانه فيها..
- وقوله تعالى: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» .. أي أنها- وقد فرغ قلبها من هذا المهد الذي كان لوليدها في سويداء القلب- أو شكت أن تصرخ وتندب هذا الوليد، وتنادى في الناس: إن هذا الطفل الذي وجد ملقى في اليمّ والذي التقطه آل فرعون هو وليدها.. وإنها لتود أن تلقى عليه ولو نظرة واحدة، قبل أن يصير إلى هذا المصير المجهول! - وقوله تعالى: «لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» - أي أمسكنا على قلبها ما فيه من نوازع تريد الانطلاق إلى الكشف عن وجه الوليد، وفضح أمره..
- وقوله تعالى: «لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» - تعليل لهذا لربط الذي ربط الله سبحانه، به على قلبها، وهو أنها بعد أن تتكشف لها الأمور، ستعلم أن ما وعدها الله حقّ، وبهذا يتأكد إيمانها بالله، ويقوى يقينها به وفي هذا إشارة إلى أن ما يبتلى به المؤمنون الصابرون من أرزاء ومحن، هو تثبيت لإيمانهم، وترسيخ لقواعد هذا الإيمان في قلوبهم، حيث ينكشف لهم وراء كل رزء، وعقب كل محنة، أن ذلك لم يكن إلا عن تدبير الحكيم العليم، وأنهم لو استقبلوا من أمورهم ما استدبروا، لما أقاموها إلا على هذا الوجه الذي أقامه الله ربّ العالمين، وبهذا ينتقلون من حال القلق، والجزع في مواجهة المصائب والمحن، إلى حال التسليم، والرضا.. وهذا هو الإيمان في أرفع مقاماته، وأعلى منازله..(10/316)
قوله تعالى:
«وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ.. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
وبدلا من أن كانت أم موسى على وشك أن تطرق باب فرعون، وتستصرخ هناك، فإنها- وقد ربط الله على قلبها- قد رجعت إلى صوابها، وأخذت تنظر إلى الأمور بعين الحكمة والروية، فطلبت إلى ابنتها أن تتحسس أخباره من بعيد، وأن تتسمع ما يتحدث به المتحدثون من حاشية فرعون من أمر هذا الوليد الذي التقطوه.. ما شأنه؟ وماذا حل به؟ وهل هو حيّ أم ميت؟ .. وتسللت الأخت في خفّة ولطف، تحوم حول بيت فرعون، ولا تلمّ به، وتلتقط الأخبار المتساقطة من أفواه القوم، ولا تستخبرهم عنها..
حتى لا يفتضح أمرها، وأمر الوليد معها..
- وفي قوله تعالى: «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» - إعجاز من من إعجاز النظم القرآنى، الذي تشخّص فيه الكلمة ألطف المعاني وأرقها، فإذا شعاعات هذا النور، كيان شاخص، يمسك باليد، ويصور بالعين!.
ففى كلمة «بصرت» نرى أن قلب تلك الأخت كان أمام عينيها، فلم تبحث عن أخيها، بعينيها، ولم تتسمع أخباره بأذنيها، وإنما كانت كيانا من الحذر والحيطة، بحيث تقرأ الحركات والإشارات، وتتأول الرموز والألغاز..
فالبصر هنا، بصر علم، أقرب ما يكون إلى الإلهام.. كما يقول سبحانه وتعالى:
«قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ.. قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» (94- 96 طه) وفي كلمة: «عَنْ جُنُبٍ» - إشارة إلى الموقف الذي كانت تأخذه هذه الأخت من موقع الحدث.. إنها لم تكن تلقى الأمر لقاء مواجها، وإنما كانت تلقاه عرضا، كأنه من غير قصد! وفي قوله: «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» تصفية هذا الموقف، المحاذر، المجانب، من أن يدخل عليه ما يدخل على موقف كثير من(10/317)
المحاذرين المجانيين من أخطاء، لا يلتفتون إليها، ولا يعملون حسابا لها، فتكون سببا في كشف أمرهم، وفضح سترهم..!
فانظر إلى هذه الكلمات النابضة بهذه الأسرار التي لا تنتهى.. إنها كلمات الله.. وكفى! قوله تعالى:
«وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» ؟.
وتتحرك الأحداث مرة أخرى إلى «الوليد» وقد أصبح في آل فرعون، تلتمس له المراضع، ويعرض عليه واحدة واحدة، فلا يقبل ثديا منهن!! وكيف؟.
لقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن ألهم أمه أن ترضعه من ثديها، كما يقول سبحانه: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ» .. وبهذا التدبير ألف الوليد ثدى أمه، وألف اللبن الذي رضعه من هذا الثدي.. فلما عرض عليه ثدى غير الذي رضع منه، ردّه، وأبى أن يطعم من لبنه.. وهذا أمر طبيعى، فكثير من الأطفال لا يتحولون عن الثدي الذي رضعوا منه الرضعات الأولى..
وهنا يبدو تأبى الوليد على المراضع، أمرا جاريا على المألوف.. وهنا أيضا تلتمس له المراضع، فى صور وأشكال شتّى.. إنه ابن فرعون.. وإن الدولة كلّها فى خدمته.. فيكثر لذلك البحث عن المرضع، التي يستجيب لها ويقبل عليها، وتعمل أجهزة الدولة كلها لتحقيق هذا الأمر. وعندئذ لا ترى أخت موسى بأسا من أن تعرض ما عندها من بضاعة لعلها تروق لأعين القوم، ولعلها تحقق لهم ما يريدون.. «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ.. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» «ولا يتردد القوم في قبول هذا العرض.. ويتم اللقاء بين موسى وأمه،(10/318)
ويعرض عليه ثديها، فيقبله.. وتصبح الأم في حاشيته فرعون، مرضعا لهذا الوليد..
وفي قوله تعالى: «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ» - إشارة إلى امتناع الطفل عن الرضاعة من مرضع غير أمه.. وفي التعبير عن هذا بالتحريم، تأكيد لهذا الامتناع، كما يمتنع المؤمن عن تناول ما حرم الله..
وفي قوله تعالى: «مِنْ قَبْلُ» إشارة إلى هذا التدبير الذي كان من إلهام الله سبحانه وتعالى أمّ موسى، بإرضاع وليدها.. فهو بهذه الرضاعة قد عاف كل لبن غير لبن أمه..
قوله تعالى:
«فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
وتنتهى الأحداث بهذا إلى موقف من مواقف الحدث الكبير.. فيعود الطفل إلى أمه، ويتحقق ما وعدها الله سبحانه وتعالى به قوله: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» وبهذا تعلم أن وعد الله حق.. وكثير من الناس لا يعلمون هذا، ولا يقدرون الله حق قدره..
قوله تعالى:
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .
وهذا تحقيق للجانب الآخر من وعد الله، وهو قوله تعالى: «وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وإذا كان هذا الموعد لم يكن قد تحقق، والأحداث لا تزال جارية إلى غاياتها، فإنه قد تحق، بعد أن بلغت الأحداث الغاية المنطقة إليها، كما يعلم ذلك من عاصروا نضج الأحداث، كما علمها من جاء بعدهم..(10/319)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
وفي قوله تعالى: «وَاسْتَوى» إشارة إلى الحال التي كان عليها موسى وهو يتلقى رسالة ربه. وهو أنه لم يتناول هذه الرسالة إلا بعد أن صار رجلا كاملا، وذلك في حدود الأربعين سنة من عمره، وحيث يستكمل فيها الإنسان كل أسباب الرجولة، فى جسده، وفي عقله، كما يقول تعالى: «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» (15: الأحقاف) .
وقوله تعالى: «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» والحكم: السلطان، سواء أكان روحيّا أو ماديّا، وقد كان لموسى، السلطان الروحيّ والماديّ معا على بني إسرائيل.. «والعلم» هو ما مع هذا السلطان من علم من الله سبحانه وتعالى، فبهذا العلم الذي قام إلى جانب هذا السلطان، كمل الأمر، وتمت النعمة..
الآيات: (15- 21) [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)(10/320)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» .
هنا تنقلنا الآيات نقلة بعيدة، بين موسى وقد احتواه صدر أمه مرة أخرى بعد أن ضمّ إلى بيت فرعون، وبين موسى وقد أصبح رجلا مكتمل الرجولة، يأخذ مكانه بين الرجال..
وقد تركتنا الآيات السابقة مع وعد من الله سبحانه وتعالى، قد حققه لموسى، بعد أن بلغ أشدّه واستوى.. ولكن الإخبار بتحقيق هذا الوعد، كان أشبه بختام القصة، وإذا بنا هنا نجده خيطا مشدودا من خيوط هذه القصة، قد طويت له الأحداث ليبرز في هذا الموقف الذي رأينا فيه موسى، الطفل، وقد عاد إلى أمه بعد أن ألقت به في اليمّ، ولكنّا لا نراه يعود إليها وحده، وإنما يعود ملففا برداء هذا الوعد الكريم، الذي وعدت به أمه من الله سبحانه وتعالى، فى قوله جل شأنه: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» ..
وها هو ذا يعود إلى أمه وهو يحمل في كيانه، الحكم والعلم..
قلنا إن أحداثا كثيرة طويت، منذ التقى الطفل بأمه إلى أن رأيناه هنا يدخل المدينة، ثم يدخل في صراع ينتهى بقتل إنسان!(10/321)
وما أغرب تصاريف القدر.. ينجو موسى من القتل.. ثم ها هو ذا يمد يده بالقتل! ومن يدرى؟ فلعل هذا القتيل كان هو الذي انتشل موسى من اليم!! قوله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» .. اختلف المفسرون في هذه المدينة، ما هي بين مدن مصر القديمة؟ على أن هذا الخلاف لا يعنينا، وحسبنا أنها مدينة فرعونية، وفي تعريفها، إشارة إلى أنها مدينة المدن، أي العاصمة..
أما كيف دخلها موسى.. وهل كان خارجها حتى يدخلها؟ وإذن فأين كان؟ هل كان قد ترك فرعون، وعاش بعيدا عن عاصمة ملكه؟ قد يكون! كما قد يحتمل أن فرعون كان يعيش في قصره، بعيدا عن المدينة، منعزلا به عن عامة الناس! وعلى أيّ فإن «موسى» قد دخل المدينة دخول من كان بعيدا عنها فترة من الزمن..
وهنا سؤال: لماذا يدخل موسى المدينة في غفلة من أهلها؟ هل كان هناك ما يحول بينه وبين دخولها؟ وهل كان مطلوبا لفرعون أو غيره لجناية جناها؟
يذهب المفسرون في هذا مذاهب شتى، ويلقون بكل ما يمكن أن يفترضه العقل في طلب علة لهذا الدخول المتخفى، تحت غفلة الأعين عنه..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن المراد بغفلة أهل المدينة، هو غفلتهم عن موسى، وعن أنه الابن المتبنى لفرعون.. ولعله كان متخفيا ليدارى صفته تلك، حتى لا يلفت إليه الأنظار، التي تتعلق دائما، بالسلطان، وبحاشية السلطان!(10/322)
وفي أثناء سير موسى في المدينة، وجد فيها رجلين يقتتلان.. أحدهما إسرائيلى «من شيعته» والآخر مصرى «من عدوه» .. إذ لا شك أن موسى كان يعرف أنه إسرائيلى، كما لا شك في أنه كان يعرف الإسرائيليين، بسماتهم وبزيهم الذي فرضه فرعون عليهم..
وقد استثار موسى هذا المشهد الذي كان بين المصري والإسرائيلى..
فالإسرائيلى كان تحت يد قاهرة، لعلها كانت يد أحد أصحاب السلطان، التي تلهبه بالسياط.. ولم يطق موسى صبرا على هذا الذي يراه بعينيه، من إنسان يضرب إنسانا في غير مبالاة.. فدخل بين الرجلين، ليدفع عن الإسرائيلى هذه اليد التي تسومه سوء العذاب.. وطبيعى أن يتصدى المصري لموسى، وأن يعدّ ذلك فضولا منه بالتدخل فيما لا يعنيه.. فكان بين الرجلين- موسى والمصري- شدّ وجذب، بل ربما مد المصري يده إلى موسى، «فَوَكَزَهُ مُوسى» أي دفعه بقبضة يده- وهو لا يريد قتله- وإذا الرجل يسقط على الأرض ميتا!! ويتحرك موسى سريعا، ويخلص بنفسه، دون أن يعرف أحد من جنى هذه الجناية ويرجع موسى على نفسه، يلومها أن قتل نفسا يغير نفس، ويرى أن ما فعله لم يكن إلا عملا ما كان له أن يفعله.. إنه «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» .. ولا يجد موسى غير الله، يبرأ إليه من نفسه، ويطلب الغفران مما جنت يداه..
«قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إنه وإن يكن قتل «خطأ» ، فهو على كل حال ذنب، وذنب عظيم في حق من هو مرشح للنبوة.. ولكن مغفرة الله فوق كل ذنب وإن عظم، لمن تاب، وأخلص التوبة وطلب المغفرة: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ(10/323)
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
(110: النساء) قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» يرى المفسرون أن النعمة التي يشير إليها موسى، والتي يرتب عليها هذا العهد الذي قطعه على نفسه، هو قبول توبته، ومغفرة ذنبه.. وهذا بعيد..
لأن موسى لم يكن قد أوحى إليه بعد.. فمن أين يعلم أن الله قد غفر له؟
ولعل الأولى من هذا، أن يقال إن النعمة التي يشير إليها موسى، هى ما وجده في نفسه من هذه القوة الجسدية، التي استطاع بها أن يقتل رجلا بدفعة يده.. فهو بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليه يملك قوة خارقة، وإنه ينبغى- لكى يرعى هذه النعمة، ويؤدى حق شكرها لله- ألا يستخدمها إلا في الخير، وألا يظاهر بها الأشرار المعتدين، وهذا ما يشير إليه قوله: «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» ! هذا، وفي مجريات الأحداث إلى غايتها التي ستنتهى إليها، نرى أن قتل المصري هنا، هو قوة دافعة إلى تلك الغاية، وأنها ستدفع بموسى للخروج من مصر إلى أرض مدين، حيث يقضى هناك عشر سنين أو نحوها، فى كنف نبى كريم من أنبياء الله، هو شعيب عليه السلام، فتكون تلك السنون إعدادا روحيا له، حتى يؤهل لحمل الرسالة السماوية التي تنتظره! قوله تعالى:
«فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ.. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ.. قالَ لَهُ مُوسى.. إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» .(10/324)
خرج موسى يسير في طرقات المدينة، يتحسس أخبار الفعلة التي فعلها بالأمس، ويتسمع حديث الناس عنها، وعمن فعلها، وذلك ليستوثق أنه غير مطالب بما حدث.. وتلك غريزة تدفع بمرتكب الجريمة أن يحوم حولها، كما يقرر ذلك علماء الإجرام.. وإلا فماذا كان يحمل موسى على البقاء في المدينة؟
ألا يخرج منها كما دخل إليها، دون أن يشعر به أحد؟.
- وقوله تعالى: «خائِفاً يَتَرَقَّبُ» - تصوير لما كان يلبس موسى من خوف واضطراب..
- وفي قوله تعالى: «يَتَرَقَّبُ» - إشارة إلى أنه كان يتطلع إلى وجوه الناس، ويستقرىء ما قد تكون تركت عليها الحادثة من آثار!.
ومع هذا الهمّ الذي يعالجه موسى، تفجؤه الأحداث بما لم يكن يقع فى الحسبان.. لقد رأى الإسرائيلى، الذي حمله هذا الوزر، وساقه إلى هذا الموقف- رآه في حال كتلك الحال التي رآه عليها بالأمس.. رآه مشتبكا مع مصرى في صراع غير متكافىء.. ثم ما إن رأى الإسرائيلى موسى حتى علا صراخه، طالبا الغوث والنجدة.. «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» أي يستغيث به.. وينظر موسى إلى الإسرائيلى بعين المغيظ المحنق، ويتمثل فيه الشيطان الذي رأى أنه هو الذي أوقعه فيما وقع فيه بالأمس، وقال عنه: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» وهنا يلقى الإسرائيلى بقوله: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» .. وهكذا يضع القدر بين يدى موسى صورة مصغرة لما سيكون بينه وبين بني إسرائيل، تنعكس على مرآة ما كان بينه وبين هذا الإسرائيلى..
لقد خلّص موسى «الإسرائيلى» من يد القوة الباغية التي كان يئن تحت ضرباتها.. ثم ها هو ذا الإسرائيلى، يلتحم من جديد في معركة، ويريد أن يدفع موسى إلى مثل ما دفعه إليه بالأمس، فيقتل مصريا آخر كما قتل مصريا بالأمس..(10/325)
ثم بعد سنوات سيخلّص موسى بني إسرائيل جميعا من يد فرعون، ويخلع عنهم ثوب الذّلة والهوان الذي ألبسهم إياه فرعون.. ولكنهم لا يكادون يخرجون من هذا البلاء، وينسمون أنسام العافية، حتى يديروا ظهورهم إلى موسى، وحتى يرجموه بكل ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر، فيرميهم الله سبحانه بالتّيه أربعين سنة في الصحراء، ويضربهم بالذلة والمسكنة..
هكذا القوم، يفسدهم الإحسان، وتبطرهم النعمة، فيلدغون اليد التي تطعمهم، وينفثون سمومهم فيمن يحسن إليهم! ومن يدرى؟ فلعل الإسرائيلى تبع موسى بالأمس بعد أن تخلّص من المصري القتيل، وعرف من هو.. ثم ظل يتبع خطاه، حتى كان صباح اليوم الثاني، فلما رأى موسى اصطنع اشتباكا بينه وبين أحد المصريين، وذلك عن نية مبيتة، وتدبير مقصود، كما سنرى.
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» .
لم نجد عند المفسّرين مفهوما لهذه الآية، نطمئن إليه، ونجد فيه هذا التجاوب والانسجام بين آيات القرآن الكريم وكلماته..
والمقولة التي تكاد تلتقى عندها الآراء، هى أن الإسرائيلى، حين استصرخ موسى، ثم سمع من موسى قوله له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» توقع الشر من موسى..
ثم إن موسى لما اتجه إليهما، يريد أن يبطش بالمصري، ظن الإسرائيلى أنه يريد البطش به هو بعد أن رماه بقوله: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» - وهنا صرخ في وجه موسى: «يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ ..»(10/326)
وهذا قول يمكن أن يقال، لو أن أحداث القصة كانت تجرى على المستوي البشرى المحدود، ولكن- وكما رأينا، وما نرى- تجرى الأحداث في آفاق عالية، بعيدة عن المستوي الإنسانى، تقديرا، وتدبيرا..
ونحن بهذا النظر إلى وضع القصة، فى هذا المستوي العالي، ننظر إلى أحداثها.. وهنا نرى التلاحم والتجاوب بين مجريات الأحداث، فلا تخلخل، ولا تفاوت ولا تصادم، بين حدث وحدث.. فى اجتماعها، وافتراقها..
على السواء.
(موسى.. والقتيل الذي قتله)
وهنا نعرض مفهومنا للآية الكريمة، وهو رأى ننفرد به، ونسأل الله أن يكون صوابا.. فنقول: رأينا في الآيات السابقة، أن حدثا عارضا عرض لموسى، وهو يدخل المدينة متخفيا، ولا يعرف أحد شخصه.. حيث لقى إسرائيليا ومصريا يقتتلان.. ثم كان أن وكز المصري فقضى عليه.. وهنا ينطلق موسى ناجيا بنفسه.. أما الإسرائيلى فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يكون فرّ، ثم أمسك به، ليسأل عن هذا القتيل، الذي كان لا بد أن تصله به صلة ما..
كأن يكون أجيرا عند المصري، أو عاملا تحت يده..
وإما أن يكون قد خاف على نفسه أن يعرف ويتهم بالقتل، فأسرع بالإخبار عن هذا الحدث وبأن مجهولا قبل هذا القتيل.
وإما أن يكون قد سعى متطوعا، ليدل على من قتل هذا القتيل..
وعلى أي فقد تبع الإسرائيلى موسى، وعرف مأواه الذي أوى إليه.. ثم كشف لرجال فرعون عن شخصية القاتل، وأنه موسى.. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل عليها..
ثم إنه لكى يقوم هذا الدليل، كان بين الإسرائيلى، وبين رجال فرعون(10/327)
هذا التدبير، الذي اصطنعت له هذه المعركة بين الإسرائيلى، وبين مصرى آخر، على نحو ما وقعت عليه حادثة الأمس.. وذلك ليرى ما يكون من موسى حين يرى هذا المشهد، أيخف لنجدة الإسرائيلى، ويعتدى على المصري؟
إنه إن فعل فإن ذلك قرينة قوية على أنه هو الذي فعل فعلة الأمس! وقد كان.. فما أن خرج موسى من مأواه الذي قضى فيه ليلته، حتى وجد الإسرائيلى مشتبكا مع مصرى، وحتى هتف به الإسرائيلى مستصرخا! ..
هذا، وعيون رجال فرعون ترقب من بعيد هذه التمثيلية، دون أن يدرى موسى ما يدير له.. فإنه لم يستطع أن يسكت على هذا العدوان الذي يسوم به الأقوياء الضعفاء سوء العذاب.. وأنه إذا كان الإسرائيلى رجل سوء، فإن ذلك لا يسوغ هذا الظلم الواقع تحته، حتى ليغادى ويصبّح بهذا الضرب المبرح! وإنه إذ يقول للإسرائيلى: «إنك لغوى مبين» يخف لنجدته وخلاصه من يد هذا المستبد به..!
وهنا يقع الصيد في الشبكة! فيلقى المصري موسى بهذه الجريمة التي كان يبحث لها عن متّهم.. فقال: «يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» .. ويفاجأ موسى بهذه التهمة، ويسقط في يده.. وهنا يخرج جنود فرعون.. وقد كشف الإسرائيلى عن شخصية «موسى» ربيب فرعون ومتبناه.. ويكثر الهرج والمرج.. وتصل الأخبار في سرعة خاطفة إلى بيت فرعون.. ويخفّ من بيت فرعون من يحضر هذا المشهد، فيعمل بأسلوب سياسى حكيم، يطفىء به هذه الفتنة، التي تمس فرعون، وتحرج موقفه في رعيته ... إن إسرائيليا يقتل مصريا، هو فوق أنه جريمة قتل، هو جرم غليظ، وسابقة تنذر بالخطر.. ولكن هذا الإسرائيلى هو محسوب على فرعون،(10/328)
وفي العدوان عليه حطة بقدر حاشية فرعون، ورجال فرعون.. إن الأمر في غاية الحرج، والمخرج منه على أي وجه إن أرضى طرفا أساء إلى الطرف الآخر..
وإذن فلا بد من معالجته بالحكمة والرفق.. فكان هذا الأسلوب السياسى الحكيم، الذي خرج من قصر فرعون، فى صورة هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.. إنه كبير من كبار رجال القصر، وقد خلا بموسى، وأسر إليه، أنه سيعمل على إطلاق سراحه، ولكن على أن يفر موسى من مصر، فلا يقع له أحد على أثر.. حتى إذا طلب للمحاكمة كان في عداد المفقودين.. ولا يعجز رجل القصر عن وسيلة يطلق بها موسى من يد الجند، دون أن يعلم أحد.. فهذا أمر من اليسير أن يدبره مع الجند، بعد أن يذهبوا بموسى على أعين الناس، وهو- كما يرون- فى يد الجند، إلى حيث يساق إلى المحاكمة والقصاص..!
واستمع إلى قوله تعالى، عن هذا الرجل، الذي جاء من أقصى المدينة، وقام بهذا الدور الذي رأيناه يقوم به على مسرح الحدث:
«وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى.. قالَ يا مُوسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ.. فَاخْرُجْ.. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» .
وفي هذه الآية تنكشف لنا أمور:
فأولا: أن هذا الرجل جاء من أقصى المدينة.. أي من أطرافها البعيدة..
وهذا يعنى أنه جاء من بيت فرعون، حيث كان فرعون يقيم في ظاهر المدينة، منعزلا بقصره عن الرعية، وهذا يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» .. وقلنا إن التعبير عن وجود(10/329)
موسى في المدينة بالدخول، يشير إلى أنه كان يعيش خارجا عنها.. وقلنا إن ذلك كان في قصر فرعون، الذي كان في أطراف المدينة، أو ظاهرها..
وثانيا: أن هذا الرجل جاء «يسعى» أي في عجلة ولهفة، يستبق الأحداث قبل أن تفلت من يده، وتتجه اتجاها غير الذي يراد لها أن تتجه إليه، ثم لا يستطيع التصرف فيها من غير أن تثير دخانا، أو تؤجج نارا..
وثالثا: ما أسرّ به الرجل إلى موسى في قوله تعالى: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» ، ففى هذا القول، الذي يملأ قلب موسى خوفا وفزعا، تهيّأ المطيّة الذلول التي يطير بها موسى، إلى حيث يختفى من مصر، دون تمهل أو توقف.
ورابعا: فى قول الرجل لموسى: «فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» تحريض قوى لموسى على الفرار.. وأنه إنما تلقى نصيحة ناصح أمين، يشفق عليه، ويود الخلاص له مما تورّط فيه.. إنها كلمة رجل السياسة دائما.. إنه ناصح أبدا لكل من يتحدث إليه، ولو ألقى به في التهلكة!! أرأيت كيف يقيم لنا هذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية منطقا سليما، تستقيم عليه مجريات الأحداث، وتتشكل منها وحدة متكاملة متجانسة، فى حركتها إلى الغاية المقدورة لها؟.
تلك هي آيات الله، وذلك هو بعض ما يرى من وجوه إعجازها المبين.
أما أن يقال إن هذا الرجل الذي جاء يسعى ناصحا لموسى- هو مؤمن آل فرعون، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» .. فهو قول مردود، لأن موسى لم يكن قد حمل الرسالة بعد.(10/330)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قوله تعالى:
«فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
وهكذا يتم هذا التدبير البارع الحكيم.. ويخرج موسى من مصر هاربا.
ولعله كان من تمام التدبير أن يذاع أنه هرب، وأن جنود الملك يجدّون في طلبه، وربما يذاع في الناس أنه قتل بيد الجند على حدود مصر، أو وراء الحدود..
وعلى أيّ فإن الأمر قد سوّى على هذا الوجه، دون أن يثير بلبلة في الخواطر، أو يحرك الألسنة بكلمة تقال في سر أو جهر، فى الملك أو حاشية الملك.
الآيات: (22- 28) [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)(10/331)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» .
هنا تنتقل الأحداث نقلة بعيدة، حيث نرى موسى فى «مدين» وهي على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام، وتقع على خليج العقبة في مقابل تبوك.. ذلك، بينما كنا معه منذ لحظة في مصر، وفي أحشاء عاصفة هو جاء، لم يكن أحد يقدّر له الخلاص منها..
وتلقاء مدين، هو اتجاهها، حيث كان وجهه مقبلا إليها..
وفي قوله: «قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» .. ما يشير إلى أن هذا القول كان مقيدا بالوقت الذي أخذ فيه وجهته إلى مدين.. وهذا يعنى أن موسى لم يدع ربه بهدايته سواء السبيل إلا في هذه الحالة.. وكيف يكون هذا، وموسى- وإن لم يكن نبيا بعد، فإنه كان على دين آبائه، إبراهيم، وإسحق، ويعقوب؟
والجواب، أن موسى كان على ذكر دائم لربه.. وذكر العبد لربه ليس على صورة واحدة.. فتارة يسبح ربه، وتارة يحمده، وتارة يستجير به، أو يستهديه.. أو يستغفره.. إلى غير ذلك من أحوال الإنسان مع خالقه..
فموسى حين قتل المصري: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» .. وسليمان حين رأى عظمة ملكه، وعرض له ملك النملة، قال:(10/332)
«رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» .
وهنا يجد موسى نفسه على طريق غربة، موحشة، لا يدرى إلى أين تسوقه قدماه، ولا ما يلقاه على طريقه من أحداث. إنه في حيرة من أمره، بعد أن خرج من مصر، كما يخرج راكب سفينة غرقت، فألقت براكبيها في الماء، وكان أسعدهم حظا من وضع رجله على اليابسة، ولو كان في مورد الوحوش. إن موسى لم يكن يعرف أن وجهته مدين، وإنما اتخذ الوجهة التي تؤدى به إليها.. وهنا كان دعاؤه إلى ربه أن يهديه سواء السبيل، ويقيم خطوه على طريق الأمن، ويدفع به إلى شاطئ السلامة..
قوله تعالى:
«وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ.. قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ..
ماء مدين: هو العين التي يستقى منها أهل مدين..
الأمة: الجماعة من كل حيّ.. من الإنسان أو الحيوان.. وفي هذا يقول الله تعالى:
«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» (38: الأنعام) وقد غلب استعمال هذا اللفظ على بنى الإنسان..
تذودان: أي تسوقان ماشيتهما، بعيدا عن الماء، حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. وأصله من الذود، وهو الدفع، والذود ما يذاد من الحيوان أي يدفع..
والخطب: الشأن، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه.
يصدر الرعاء: أي يرجعون من وردهم.. والورد. ورود الماء، والصدر.
الرجوع بعد الورد.. والرعاء: جمع الراعي.(10/333)
وهنا نجد موسى قد بلغ في مسيرته «مدين» التي كان وجهه إليها- بقصد أو بغير قصد- بعد أن خرج من مصر! وعلى مقربة من المدينة وجد العين التي يستقى منها أهلها.. وهناك كانت جماعات الرعاة ترد الماء، وتستقى منه، وتسقى ماشيتها.. وهذا هو السر في حذف مفعول الفعل «يسقون» ليكون شاملا لكل ما يحتاج إلى سقى من إنسان أو حيوان..
وعلى الماء، لفت نظر موسى، منظر فتاتين، قد انحازتا بماشيتهما مكانا قصيا عن الماء.. وقد عجب لهذا، وبدا له أن يسأل الفتاتين: «ما خَطْبُكُما» ؟
ولم أنتما هكذا بعيدتين عن الماء؟ ألا تسقيان كما يسقى القوم؟.
وليس الأمر على ما قدّر موسى، وإن الخطب لأهون من هذا، فما بين الفتاتين وبين القوم ما يدعو إلى هذه القطيعة البادية لعينيه.. ولكن هكذا كانت الحياة في هذه الجماعة التي يعيش فيها شعيب.. لقد وقفوا من هذا الرجل الصالح، الذي يحمل إليهم دعوة السماء، بتوحيد الله، وبالعدل في الكيل والميزان- وقفوا منه موقف الخصومة، والقطيعة.. فلم يكن لفتاتيه من يمدّ إليهما يدا.. وأبوهما شيخ كبير.. «قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ألم تقف قريش من النبي ومن رهطه بنى هاشم وبنى المطلب موقفا كهذا؟ لقد عقد القوم فيما بينهم عقدا على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب، كما هو معروف في السيرة النبوية..
قوله تعالى:
«فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» .(10/334)
وكرجل ذى مروءة، لم يجد بدا من أن يسقى للفتاتين، وقد شهدتا منه قوة، وعفة.. فلم يعلق نظره بهما، ولم يتبعهما نفسه، بلى سقى لهما..
ثم تولى إلى الظل، حيث كان يجلس من قبل.. وهناك رفع وجهه إلى السماء، يحمد الله أن ساق إليه هذا الرزق الذي وجده فيما أسدى إلى هاتين الفتاتين الضعيفتين من عون، وإحسان.. وإنه لفقير إلى مثل هذه الأعمال الطيبة، ليكفر بها ما كان منه من قتل المصري!! قوله تعالى:
«فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ.. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
هنا أمور جزئية، لم يذكرها القرآن، لدلالة الحال عليها، وأنها، لا بد أن تحدث على صورة ما حسب تصور الذي يتلو آيات الله، أو يستمع إليها.. وهذا من شأنه أن يوقظ شعور المتتبع لأحداث القصة، حتى يملأ هذا الفراغ كما يتصوره.
فمثلا ما كان من حديث ابنتي شعيب إلى أبيهما عن هذا الغريب الذي سقى لهما، وعن حاله التي هو عليها، وعن القوة التي شهدتاها منه، وعن المكان الذي أوى إليه.. ثم ما كان من مداورة الرأى حول الصنيع الذي يصنعونه مع هذا الغريب.. وهل يبعثون إليه بطعام أو يدعونه إلى البيت، ليرى الأب حقيقة ما سمع؟
وعلى أيّ، فقد انتهى الرأى إلى استدعاء موسى، وأن يندب لهذا الأمر إحدى الفتاتين، لا كلتاهما..(10/335)
- «فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» أي في خفر، وحياء، شأن الحصان العفيفة.. وحسبها أنها ربيبة بيت النبوة.
وانظر في قوله تعالى: «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» .. يا لله، ويا لروعة كلامه المعجز المبين.. لقد تجسد الحياء، فكان بساطا ممدودا على طريقها إلى موسى.. إنها لا تمشى على الأرض، ولكنها تمشى على حياء، تتعثر فيه قدماها، وتقصر به خطاها، ويضطرب له كيانها..
- «قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» إنها رسول أبيها، الذي عرف موسى من أمره أنه «شيخ كبير» ولو كان في استطاعته أن يسعى إلى موسى لما بعث بابنته إليه، ولجاء إليه بنفسه، يدعوه إلى النزول عنده.. وهو الغريب، الذي لا مأوى له في هذا البلد..
والمراد بالأجر هنا، ليس مجرد الأجر المادي، وإنما هو جزاء إحسان بإحسان، ولقاء معروف بمعروف..
- «فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
لقد التقى الرجلان.. موسى وشعيب.. وكان بينهما حديث، أفضى به موسى إلى مضيفه، وعرف المضيف بهذا الحديث من يكون ضيفه، ومن اى بلاد جاء، وما سبب مجيئه.. فلما عرف شعيب ما وقع لموسى من أحداث، آواه إليه، وأمّنه، قائلا: «لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . فإنك هنا بحيث لا تنالك بد فرعون.
وهنا تظهر الأنثى التي تطلب الرجل الذي تطمع في أن يكون رجلها الذي تحلم به، وتنتظر الأيام تجئ به، ليطرق بابها! «قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»(10/336)
إنه- والله أعلم- ليغلب على الظن، أنها تلك التي بعث بها أبوها لتدعو هذا الغريب إليه.. وها هو ذا قد جاء.. وربما يرحل غدا أو بعد غد.. فلا تدع الفرصة تفلت من يدها، وقد رأت بعين الأنثى في موسى، الرجل الذي هو أهل لها..
«يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» أي أمسك به عندنا، ولا تدعه يفلت من يديك، وذلك بأن تصله بك بعمل.. فهو خير من يعمل لك، حيث عجزت عن العمل.. «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .. هكذا تكشف لأبيها عن معدن الرجل الذي يستأجره، وأنه في الرجال يتزين بأجمل صفتين: القوة، والأمانة.. وقد رأت قوته فيما كان منه من السقي لهما، كما رأت أمانته في غض بصره عنها، وقد جاءته وحدها تدعوه إلى أبيها.
ويستجيب شعيب لهذا الطلب في غير تردد، ويستشعر بمشاعر الأب ما بنفس ابنته نحو هذا الغريب.
«قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» .
وهكذا يجئ شعيب إلى موسى صريحا واضحا، كما يجئ إلى ابنته أبا حانيا عاطفا، لا يري حرجا في أن يتخير لابنته الرجل الذي تتتمناه زوجا لها، ويردها حياؤها عن أن تعرض نفسها عليه.
وما كان أبرع شعيبا وأحكمه، وأعدله، فيما بينه وبين موسى من جهة، ثم فيما بينه وبين ابنته من جهة أخرى.
إنه لم يشأ أن يفرض على موسى واحدة بعينها من ابنتيه هاتين.. فلموسى(10/337)
أن يختار من يشاء منهما.. فلقد رآهما من قبل، كما رآهما في بيت أبيهما، وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن تفرض عليه واحدة بعينها، حتى ولو كان لموسى رغبة فيها، وكان لها رغبة فيه.. إن هذا الفرض من شأنه أن يزعج موسى، وأن يصدم إرادته، ويصادر رأيه.. ثم إن موسى سيعيش في بيت شعيب، فإذا لم يكن قد اختار هو بنفسه من تزوجها، كان في ذلك تنغيص له، واضطراب لحياته الزوجية، ومعادلة وموازنة دائما بين الأختين في كل وقت.
الأمر الذي يجعل هواه دائما مع من لم يكن له خيار فيها.. هكذا الإنسان! ثم إنه بهذا التدبير الحكيم، قد سوّى الأب في القسمة بين ابنتيه، فى هذا الذي ساقه الله إليهما، فى صورة رجل، هو نادرة في الرجال.. فالأب لا يؤثر بهذا الخير إحدى ابنتيه على الأخرى، ولو كانت الكبرى.. إنه لو فعل هذا لكان في نفس الأخرى أسى ومرارة.. وليس الشأن كذلك إذا كان الخيار لموسى، أو كان بالتراضي بين الأختين، حيث تبدو كل منهما، وكأنها تؤثر أختها عليها..
ومن جهة أخرى، فإنه واضح من قول شعيب: «إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين» أنه لم يفصح عمن يكون له الخيار فيهما..
أهو شعيب أم موسى..
وهذا أمر، إن قام على هذا الوجه، فى هذا الموقف وفي مواجهة البنتين، فإنه قد ترك البتّ فيه لمجلس خاصّ بين الرجلين، فإذا انكشف الأمر بعد ذلك عمن وقع عليها الاختيار- لم يكن من اليسير لدى البنتين القطع بأن هذا الاختيار، كان من موسى، أو من شعيب، أو منهما معا.. وهكذا تتوزع الصدمة- إن كان هناك صدمة- التي ربما تصيب من لا يقع عليها الاختيار، بين هذه الاحتمالات، فتخفّ وتهون.(10/338)
«قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ.. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» .
وهكذا تتم الصفقة بين النبيين الكريمين، فيظفر شعيب بالقويّ الأمين الذي يبذل في خدمته كل ما عنده من قوة وأمانة، ويظفر موسى بابنة هذا النبيّ، التي كان حسن تدبيرها، ولمعة ذكائها، وصدق فراستها، خير سفارة تجمع بين الرجلين، وتفتح قلب كل منهما لصاحبه قبل أن يلتقيا.
والاتفاق، على أن يخدم موسى شعيبا ثمانى سنين في مقابل زواج ابنته..
فإن جعل موسى الثماني عشرا فذلك فضل منه، وإلا فهى ثمان لا أكثر..
ولا شك أن هذا تدبير حكيم من شعيب- عليه السلام-، إذ لم يشأ أن يضع موسى أمام حكم لازم لا خيار له فيه، بل جعل له أمرين، يختار أيهما شاء.. وفي هذا المجال الذي تتحرك فيه إرادة الإنسان شىء غير قليل من الرضا النفسي، حيث يجد المرء لإرادته مكانا في كيان، ويستشعر لها حضورا فى هذا المقام، فيقبل على هذا الأمر أو ذاك، وهو شاعر بأنه حرّ في اختياره، غير واقع تحت قوة قاهرة ملزمة..
وهذا عين ما فعله شعيب، حين أراد أن يزوّج موسى إحدى ابنتيه..
إنه لم يفرض عليه واحدة بعينها، بل جعل الأمر بينهما، حتى يفسح المجال للنظر والاختيار، له، ولموسى، ولابنتيه.. أما موسى.. عليه السلام..
فلم يكن أقلّ براعة وحكمة من شعيب.. فقد أجاب هذه الإجابة الحكيمة، التي ترضى شعيبا، ولا تقيد موسى: «ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ» أي هذا الذي قلته أنا موافق عليه، وهو عقد بينى وبينك.. وهذا فيما يختص بإحدى الابنتين التي سيقع الاختيار عليها.. أما الأجل، فهو محتمل للأجلين معا(10/339)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
«أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» .. فهو بالخيار، بين الثماني سنوات أو العشر..
والمراد بالعدوان في قوله: «فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» الحرج.. أي لا حرج عليّ إذا أنا أخذت بالثماني سنوات، ولم آخذ بالعشر.. ومن ثمّ فلا يكون عليّ عدوان منك.
وطبيعى أن موسى، قد أخذ بما هو أولى بالمروءة، والكمال، فعمل بالأكثر دون الأقل..
الآيات: (29- 35) [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)(10/340)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» .
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تبدأ مرحلة جديدة من مراحل المسيرة التي تتحرك فيها الأحداث إلى غايتها.. فها هو ذا موسى، قد وفى بالعهد الذي بينه وبين شعيب، وقضى الأجل.. ثم تحركت أشواقه إلى أهله، وقومه بمصر، فأخذ زوجه، وسار عائدا على الطريق الذي جاء منه..
وفي الطريق، آنس من جانب الطور، (وهو طور سيناء) نارا، فى ظلمة الليل، ووحشة الصحراء، فأحسّ في هذه النّار ريح الأنس، فانطلق إليها، تاركا أهله في مكانهم، قائلا لهم: «امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» .
وقد جاءت هذه الآية في غير موضع على نظم يختلف مع هذا النظم، وقد عرضنا لذلك في دراسة خاصة، تحت عنوان: «التكرار.. فى القصص القرآنى» «1» وكشفنا عن بعض الأسرار الكامنة وراء هذا الاختلاف.
__________
(1) انظر ص 96: من الكتاب العاشر (الجزء التاسع عشر) .(10/341)
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .
هنا في هذه الآية يتحدّد المكان الذي نودى منه موسى، وإنه الشاطئ الأيمن من الوادي.. وأن ذلك النداء كان عند البقعة المباركة من الشجرة القائمة على هذا الشاطئ الأيمن ومن هذا يعرف أن وجهة موسى كانت مصر، وأنه في الطريق إليها من مدين، حيث كان الشاطئ الغربيّ من طور «سيناء» واقعا على يمينه..
وقد تحدّد هذا المكان تحديدا تاما بقوله تعالى في آية أخرى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (44: القصص) .
قوله تعالى:
«وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ..
وقد وصفت الحيّة هنا بأنها «جانّ» كما وصفت في آيات أخر بأنها «حَيَّةٌ تَسْعى» .. (20: طه) .. وبأنها «ثُعْبانٌ مُبِينٌ» (32: الشعراء) .
ومن هذه الأوصاف جميعها، تلبس الحيّة صورة كاملة للحية، فى ضخامتها وحيويتها، وخفّة حركتها.. فهى حيّة في ضخامة جسمها، وهي ثعبان عظيم، فى الحياة التي تلبس هذا الكيان الضخم، وهى «جان» فى سبحها على الأرض في خفة كأنها سهم منطلق! قوله تعالى:
«اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ(10/342)
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ»
الرّهب: الخوف.. والجناح: اليد، كلها، بالكفّ والساعد، والعضد.
والمراد بضم الجناح، إلصاقه بالجنب.. كما يفعل الخائف فيشد من عزمه، ويمسك نفسه.. والمراد بهذا أن يأخذ موسى هذا الوضع حين يخرج يده من جيبه في موقفه مع فرعون.. وفي هذا ما يدفع الخوف عن موسى، وهو يواجه فرعون في هذا الموقف الرهيب! قوله تعالى: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ.. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» .
ذان: مثنى ذا، أي هذان برهانان من ربك إلى فرعون وملائه، وهذا البرهانان هما: العصا، واليد..
وقد كان مع موسى غير هذين البرهانين، سبع آيات أخرى، هى الجراد والقمّل، والضفادع، والدم، والجدب، والطوفان، ونقص الأموال والأنفس والثمرات..
وخصّ البرهانان هنا- وهما العصا واليد- خصا بالذكر، لأنهما الآيتان اللتان يلقى بهما موسى فرعون وحاشيته أول الأمر، ويتحدّى بهما تكذيب فرعون له.. ولهذا كانت المعركة المتحدية بين موسى وفرعون في لقاء العصا بالسحرة الذين جمعهم فرعون لموسى.. أما الآيات الأخرى فقد كانت بلاء متحدّيا لفرعون وقومه جميعا.. ولعلّ هذا- والله أعلم- هو السرّ في اختلاف النظم هنا في قوله تعالى: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» وما جاء في سورة النمل في قوله تعالى: «فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ» ..
(12) فالملأ هم الحاشية، والقوم هم المجتمع كله.(10/343)
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» إن شبح القتيل ما زال يطارد موسى، بعد هذا الزمن الطويل، وإن لقاءه فرعون سيحرك هذا الحدث الذي كاد ينسى.. ولهذا أظهر موسى ما بنفسه من خوف، وأن لقاءه فرعون، وعرض ما يعرض عليه من آيات- قد يقع عند فرعون أنه حيلة يريد أن يشغله بها عن فعلته التي فعلها، ولهذا طلب أن يكون معه أخوه هرون، الذي لا تهمة له عند فرعون، ليكون قوله بعيدا عن هذا الظن الذي يظنه فرعون في موسى..
وهنا سؤال:
هل كان موسى ألكن أو عييّا، على لسانه حبسة، حتى يطلب إلى الله أن يرسل معه هرون الذي هو أفصح منه لسانا؟
هذا ما يقول به المفسّرون، ويأتون على ذلك بأخبار تحدث بأن موسى قد أخذ بيده جمرة، وهو طفل في بيت فرعون.. ورفعها إلى فمه فمسّت لسانه، وتركت عليه هذه الحبسة! وهذا خبر لا يصدق.. إذ كيف يستطيع الطفل أن يمسك الجمرة بيده، ثم يصبر عليها حتى يحملها إلى فمه، ثم يلقى بها في فيه؟
ومن جهة أخرى، فإن اللسان، هو الأداة العاملة في رسالة الرسول..
فكيف تعطل هذه الأداة، أو تصاب بعطب؟ ذلك بعيد.. وماذا يبقى من الرسول بعد أن يؤخذ لسانه؟
والذي نراه، هو أن الخوف الذي كان يملأ كيان موسى من فرعون،(10/344)
هو الذي كان يمسك لسانه عن الانطلاق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» (13: الشعراء) فضيق الصدر من الخوف والرهبة، هو الذي يحبس اللسان عن الانطلاق في الحديث- ولهذا جاء قوله تعالى إلى موسى: «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» أي اضمم إليك جناحك، تسكينا لك من الرهب، أي الخوف، الذي يجئ من الرهبة.
وقد يردّ على هذا، بما جاء في قوله تعالى على لسان فرعون في موسى:
«أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» (52: الزخرف) فهذا الذي نطق به فرعون، يكشف عن عجز موسى عن البيان في منطقه..
وردّنا على هذا، هو ما أشرنا إليه، من أن الخوف الذي كان يعترى موسى في أول لقاء أنه مع هذا الجبار العنيد، الذي يسلط عليه سيف التهديد بالقتل، قصاصا للقتيل الذي قتله موسى- هذا الخوف، هو الذي كان يجعل موسى غير قادر على الانطلاق في الكلام.. أما ما قاله موسى: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» فهو لما لم يكن لهرون ذنب يطالبه به فرعون، فهرون فى هذا الموقف أقدر على الكلام من موسى، ولهذا قدم قوله: «قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» على قوله: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» ..!
قوله تعالى:
«قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» .
«بِآياتِنا» متعلق بقوله تعالى: «الْغالِبُونَ» .
والمعنى: أنكما أنتما، ومن اتبعكما، الغالبون بآياتنا التي في أيديكما. وشد(10/345)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
العضد، تقويته بضمّ قوة أخرى إليه، والعضد، أعلى الذراع من المرفق إلى الكتف، وهو مركز القوة في اليد، واليد هي مظهر القوة في الإنسان.
الآيات: (36- 42) [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 42]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» :
بهذا التكذيب، تلقى فرعون آيات الله، ونسبها إلى السحر، بل وجعلها سحرا مفترى، أي مختلقا، مدسوسا على السحر الذي عرف به سحرة فرعون..!!(10/346)
وأما ما يقول فرعون عنه إنه لم يسمعه في آبائه الأولين، فهو دعوة موسى له، إلى الإيمان بالله رب العالمين، الذي له ملك السموات والأرض.. فهذه الدعوة لم يسمعها فرعون من قبل، فقد كانت الآلهة تملأ أرض مصر، وتحوم فوق سمائها، من آدميين، وحيوانات وطيور، وكواكب، ونجوم! .. وهذا ما ملأ شعوره بأنه الإله المتفرد، فقال قولته الآثمة: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» .
قوله تعالى:
«وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .
قد يكون هذا القول الذي قاله موسى مقولا في مواجهة فرعون.. وقد يكون حديثا تحدّث به إلى نفسه، مواساة وتعزية، فى مواجهة هذا الاتهام الذي يرمى به فرعون بين يدى آيات الله التي يعرضها عليه..
فالله سبحانه- أعلم بمن جاء بالهدى.. موسى، أو فرعون؟ ومن تكون له عاقبة الدار منهما.. فماداما على هذا الخلاف البعيد بينهما، فلا بد أن أحدهما محقّ والآخر مبطل، أحدهما مظلوم، والآخر ظالم..
فهذا أشبه بالمباهلة، وقد تحدّى بها النبي- صلوات الله وسلامه عليه وفد نجران، وقد جاءوا يجادلونه في آيات الله، فقطع عليهم الطريق، حين دعاهم إلى المباهلة، كما في قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (61: آل عمران) ..(10/347)
قوله تعالى:
«وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» ..
وهذا الأمر الذي يصدره فرعون إلى «هامان» إنما هو على سبيل الاستهزاء والسخرية، والإمعان في تكذيب موسى.. فهو يقرر لقومه الواقع الذي يعيشون فيه معه، وهو أنه الإله ابن الآلهة: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ! فهو الذي يفكر للقوم، ويولى وجوههم إلى الإله الذي يعبدونه، وقد فكر وبحث، ونظر في كل متجه فلم يجد لهم إلها غيره، «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ! ..
وها هو ذا موسى يقول عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأى أرض هى؟ إنه لا آلهة على الأرض غير فرعون! أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! وإذن «فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى» .. إنه لا يبحث عن إله يدين له هو وقومه، فهو إله لا يدين لآلهة غيره، وقومه لا يعرفون لهم إلها سواه.. وإنما يبحث عن إله موسى، الذي يأبى أن يتخذ فرعون إلها له، وفي هذا يقول سبحانه على لسان فرعون إلى موسى: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» !.
وفي قوله: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» تأكيد لما قرره من قبل، وهو أنه لا إله غيره، والمراد بالظن هنا اليقين، وقد جاء به مؤكدا(10/348)
قوله تعالى:
«وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ» .
هو وصف كاشف لحال فرعون وجنوده، قبل أن تأتيهم آيات الله، وبعدها..
والمراد بالاستكبار هنا، التعالي على العباد، واستعباد الناس وإذلالهم، والعدوان عليهم بغير حق.. ظانين أنهم لا يرجعون إلى الله، ولا يحاسبون على ما قدمت أيديهم..
قوله تعالى:
«فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» .
المراد بالأخذ هنا، الإحاطة، والتمكن من الإمساك بفرعون وجنوده، إذ وقعوا تحت قضاء الله النافذ فيهم، وهو الموت غرقا.. وكأن يد الله سبحانه وتعالى هي التي أخذتهم من دورهم فألقت بهم في اليم، وكأنهم ليسوا هم الذين سعوا بأقدامهم إلى حتفهم! وقوله تعالى:
«وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» .
أي أن فرعون وجنوده سيكونون أئمة وقادة يوم القيامة، يقودون قومهم إلى النار، كما كانوا قادة لهم في الدنيا.. فهم يدعون قومهم إلى جهنم، كما كانوا يدعونهم في الدنيا إلى الشرك والضلال.. وفي هذا يقول الله تعالى في فرعون: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ»(10/349)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
(98: هود) ويقول سبحانه: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (71: الإسراء) .
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» - جملة حالية أي وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار يوم القيامة، ويوم القيامة لا ينصرون، أي وجعلناهم أئمة يقودون الناس إلى النار، ويتقدمونهم، ولا ناصر لهم ينصرهم من بأس الله في هذا اليوم.
قوله تعالى:
«وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» .
أي جعل الله سبحانه وتعالى حديث الناس بعدهم لعنة تلحقهم من كل لسان، إذ كانوا مثلا سيئا للبغى والعدوان، فلا يذكرهم أهل الإيمان والتقوى إلا اقترن ذكرهم باللعنة عليهم.. وكذلك شأنهم يوم القيامة، تلقاهم اللعنات من كل لسان في المحشر.
الآيات: (43- 50) [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)(10/350)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .
هذه الآية والآيات التي بعدها، تمهيد لذكر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، والكتاب الذي تلقاه وحيا من ربه، وتبليغ قومه إياه، وما كان منهم من تحدّ له، وخلاف عليه..
فالكتاب الذي آتاه الله سبحانه وتعالى موسى، إنما كان على فترة من الرسل، وبعد هلاك كثير من القرون التي بعث الله فيهم رسله، فاندثروا واندثرت آثارهم..
والبصائر: جمع بصيرة وهي ما يستبصر بها إلى طريق الحق والهدى..(10/351)
وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» - الضمير في لعلهم، يعود إلى الناس في قوله تعالى: «بَصائِرَ لِلنَّاسِ» .. وفي هذا إشارة من بعيد إلى المشركين من قريش، وأنه كما أرسل الله موسى على فترة من الرسل، بالكتاب الذي فيه بصائر وهدى ورحمة، أرسل الله «محمدا» على فترة من الرسل، بكتاب فيه بصائر للناس وهدى ورحمة..
قوله تعالى:
«وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» ..
الخطاب للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وهو أنه لم يكن على علم بهذه الأخبار التي يقصها على قومه فيما أوحى الله إليه به، مما كان بين موسى وربه إذ ناداه ربه من جانب الطور الأيمن، وهو الجانب الغربي من سيناء، وأعلمه بأنه رسول الله، اختاره لرسالة كريمة إلى الناس..
قوله تعالى:
«وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» .
تكشف هذه الآية عن الحكمة في إرسال محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أنه قد سبقته فترة لم يكن فيها رسل، فشاءت إرادة الله أن يختار رسولا يكشف للناس معالم الطريق إلى الحق، وقد ضلوا وانحرفوا عن سواء السبيل..
وفي هذا يقول الله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» (19: المائدة) .(10/352)
- وقوله تعالى: «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» .. هنا كلام محذوف، دل عليه السياق.. والتقدير: «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» فكان من رحمتنا أن نبعث في الناس رسولا، بعد هذا الزمن الطويل..
- وقوله تعالى: «وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» - هو خطاب للنبى الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لم يكن مقيما في أهل مدين، حتى يعلم هذه الأخبار التي يقصها على قومه، فيما كان بين موسى وشعيب.
- وقوله تعالى: «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» .. الضمير فى «عليهم» يراد به المشركون من قريش.. وهم وإن لم يجر لهم ذكر، فهم مذكورون بذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. وجملة «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» صلة لموصول منادى أي يأمن تتلو عليهم آياتنا.. فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- هو هنا في مقام الخطاب من ربه.. والخطاب يطوى في كيانه نداء خفيا، لا يجرى له ذكر في مقام القرب من ربه..
- وقوله تعالى: «وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» أي ولكن هذا القصص الذي تقصه على قومك- أيها النبي- هو وحي أوحى إليك من ربك، الذي أرسلك هدى ورحمة، إذ كان من حكمتنا ورحمتنا أن نرسلك إلى الناس رسولا، على فترة من الرسل..
قوله تعالى:
«وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .
هو تأكيد لرسالة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه إنما تلقى(10/353)
هذا القرآن الذي بين يديه وحيا من ربه.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن حاضرا مناداة الحق سبحانه وتعالى لموسى وهو بجانب الطور، حتى ينقل إلى الناس هذا الحديث الذي يحدثهم به، ويقصه عليهم من أمر موسى..
ولكن هذا الذي بين يديه هو رحمة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المشركين، الذين بعثه الله نبيا فيهم، إذ لم يأتهم رسول من قبله، كما أتى غيرهم من الأمم..
فليذكروا هذه النعمة، وليأخذوا حظهمم منها، وليكن لهم فيها موعظة وذكرى..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
أي أنه لولا أن يكون لهؤلاء المشركين علة يتعللون بها في عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وهو أن الله سبحانه لم يبعث فيهم رسولا، ولم يدعهم إليه على يد رسول منهم كما فعل ذلك بغيرهم من الأمم، كاليهود، والنصارى- لولا هذا ما أرسل الله إليهم رسولا، إذ كان مع كل منهم فطرة مؤمنة.. ومن وراء هذه الفطرة عقل، هو الرسول الذي يفتح مغالق الإيمان فيها.. ولكن رحمة الله اقتضت أن يبعث في الناس رسولا منهم يوقظ عقولهم، وينبه فطرتهم..
وبذلك لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل..
فما حجة هؤلاء المشركين بعد هذا وقد جاءهم رسول الله؟ وما العلة التي يتعللون بها في شركهم بالله، وكفرهم باليوم الآخر؟ إنه لا شىء إلا الكبر والعناد، وإلا الغفلة والهوى!.
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ(10/354)
يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» .
وهذا مذهب من مذاهب الضلال والعناد، الذي غطى على عقول المشركين..
إنهم كانوا يتمنون على الله أن يبعث فيهم رسولا، وأن يكون لهم كتاب كما لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا ما يحكيه القرآن عنهم في قوله تعالى:
«أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (157: الأنعام) .
وها هو ذا رسول الله قد بعث فيهم، وها هو ذا الكتاب من الله، يتلى عليهم.. فماذا كان منهم؟ لقد ذهبوا يطلبون التعلات والمعاذير، يلقونها بين يدى رسول الله، وكتاب الله.
إن الرسول الذي جاءهم لم يؤت من الآيات المادية مثل ما أوتى موسى.. إنه ليس معه عصا كعصا موسى، ولا بد كيده.. وإن موسى قد نزّل على بني إسرائيل المنّ والسلوى.. فأين ما مع محمد من هذا؟ وأين الخير المادي الذي جاءهم به؟
فليجر لهم في هذه الصحارى أنهارا، وليفجّر لهم فيها عيونا.. وإلا فأين الرسول وأين رسالته؟ أرسول بغير هذه الآيات التي يجنون من ثمرها ما يملأ أيديهم من مال ومتاع؟ أرسول كل بضاعته إليهم كلام في كلام؟ إن ذلك أمر هين، يستطيع كل واحد منا أن يصبح رسولا، لو كانت محامل الرسالة كلاما، وكانت بضاعة الرسول حديثا وقصصا.. «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا.. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (31: الأنفال) .. هكذا كانت نظرة المشركين إلى رسالات السماء.. وما دروا أن الله سبحانه، قد خصهم بأعظم رسالة..
تتجه إلى أكرم ما في الإنسان من روح وعقل.. إنها الرسالة التي تغذى العقل وتهذيب النفس، وتسموا بالروح إلى الملأ الأعلى.. وإنها المائدة التي لا تزهد فيها النفوس، ولا تنقطع عن وردها العقول، بل إنه كلما أخذ الإنسان منها، اشتد طلبه، وقويت رغبته- وليس كذلك ما كان طعاما للبطون، فإن المرء إذا(10/355)
أخذ حاجته منه زهد فيه، ثم إذا عاوده مرة ومرة عافه، كما عاف بنو إسرائيل ما أنزل الله عليهم من المنّ والسلوى!.
ومن هنا كانت هذه المعجزة «الكلامية» هى المعجزة الخالدة على الزمن لأنها تصحب العقل دائما، وتلتقى به في كل زمان ومكان.. حيث تجد فيها العقول على اختلاف مستوياتها، وعلى امتداد أزمانها وأمكنتها- النور الذي يكشف لها معالم الطريق، إلى الحق والخير، فلا تضلّ، ولا تزيغ.
- وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» هو كشف عما بين هؤلاء المشركين من أهل مكة، وبين فرعون وآل فرعون، حيث يجمعهم الضلال، والعناد، والاستكبار.. فإذا كان فرعون قد كفر بما أوتى موسى، وقال لموسى حين أراه آيات ربه الكبرى: «ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» .. «36:
القصص» فلن يكون من هؤلاء المشركين إلا الكفر بكل آية.. إنهم وفرعون على سواء.. فهم وإن لم يكونوا قد التقوا بموسى وكفروا بما معه من آيات، فقد التقوا به في شخص فرعون، الذين هم من طينته، وعلى شاكلته!! فلم يطلبون إذن أن يأتيهم النبيّ بمثل تلك الآيات التي كانت مع موسى، وقد كفروا بها على لسان فرعون، الذي هو واحد منهم، وإمام من أئمتهم؟
- قوله تعالى: «قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» .. هو مزج المشركين بفرعون، مزجا كاملا، وجمعهم وإياه في كيان واحد، بحيث يكون لهم موقف واحد، ومنطق واحد، وإن بعد المدى بينهم وبينه، زمانا، ومكانا، ولسانا، ومجتمعا.. فهذه الفواصل كلها فواصل مادية.. لا تقوم حجازا بين ائتلاف الأهواء، والتقاء المشارب.. إن هواهم جميعا واحد، وإن مشربهم على سواء..
وهنا ترى فرعون يبعث من مرقده بعد آلاف السنين، ويحضر مجلس(10/356)
المشركين في مكة، وبين يديهم جميعا آيات موسى، وآيات محمد، فيرى فرعون فى آيات محمد ما رآه من قبل في آيات موسى، ويرى المشركون في آيات موسى ما رأوه في آيات محمد، وإذا هم جميعا ينطقون بلسان واحد في آيات موسى، وآيات محمد: «سِحْرانِ تَظاهَرا» .. أي تساندا، وتعاونا، فهذا سحر، وذاك سحر.. وإذن فهى مؤامرة يأتمر بها هذا الساحران علينا.. قديما وحديثا «وقالوا: إنا بكل كافرون» ..
فلو أن فرعون بعث من قبره، واستمع إلى كلمات الله التي يتلوها محمد لكفر بها، ولقال إنها سحر، كما يقول بذلك المشركون..
ولو أن المشركين ردّوا إلى عهد موسى، ورأوا من الآيات ما رأى فرعون لقالوا ما قال فرعون فيها: «ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» ! وهكذا يلتقى أهل الضلال والفساد على طريق واحد، ينتظم السابقين منهم واللاحقين، ويجمع الماضين والحاضرين.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» (118: البقرة) .
قوله تعالى:
«قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
هو ردّ على مجتمع الضالين الغاوين، الذين كفروا بآيات موسى، وآيات محمد، وقالوا إنها سحر، يظاهر بعضه بعضا، وإنا بهذا وبهذا كافرون.
وإذن فبم يؤمنون؟ وبأى كتاب يصدّقون؟ فليأتوا بكتاب يحمل من معالم الحق، أكثر وأضوأ مما يحمل موسى، ومحمد، من آيات الله، حتى تكون(10/357)
لهم حجة يقضون بها على هذه الآيات، ولا يكون لمحمد إلّا أن يتّبع هذا النور الذي يغطى على نور هذه الآيات! وفي قوله «من عند الله» . إشارة إلى أن هذه الآيات التي مع موسى، ومع محمد، هى من عند الله، وليس في هذا قيد يتقيد به المشركون المطالبون بالإتيان بما هو أهدى من آيات موسى ومحمد، بل إن لهم أن يأتوا بالكتاب المقترح عليهم، من أي مورد يردونه، على شريطة أن يكون أهدى مما هو معروض عليهم من آيات الله تلك! وإنما قوله «من عند الله» هو تقرير لحقيقة واقعة، وهي أن ما يأتى به الرسل، هو من عند الله، فتلك هي الحقيقة، وهو ما يصرح به الرسل أنفسهم، فى مواجهة أقوامهم.. فهو تحد لهم بأن يتصلوا بالله، ويتلقوا منه كتابا سماويا.. فهذا هو الوجه الذي يطلب منه الكتاب، الذي يناظر هذين الكتابين! والسؤال هنا، هو: إذا كان مفهوم ما أوتيه موسى هو تلك الآيات المادية، التي عرضها على فرعون، فكيف يستقيم النظم القرآنى، على هذا الفهم، وقد جاء قوله تعالى:
«فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما» ؟ ألا يدلّ الضمير في «منهما» على أن المراد بآيات موسى هي كتابه، وهو التوراة؟
ونقول- والله أعلم- إن آيات موسى المادية هي بعض رسالته، وهي مكملة للكتاب الذي تلقاه من ربه.. فهى بهذا صحف من كتاب موسى..
وعلى هذا، فإن هذه الآيات المادية، إذا اجتمعت إلى الآيات القرآنية، كان منهما كتابان، كتاب مادى، وكتاب كلامى.. وقد كذب المشركون قديما وحديثا بالكتابين معا، ما اشتمل منهما على آيات مادية، وما اشتمل على آيات كلامية..(10/358)
قوله تعالى:
«فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
الاستجابة هنا مرادة لأمرين: أن يأتى المشركون بكتاب من عند الله، هو أهدى من الكتابين المنزلين من الله، فيتبعهم النبيّ، أو أن يظهر عجزهم، فيؤمنوا بهذا الكتاب الذي يتلوه الرسول عليهم، ويدخلوا في دين الله..
فإن لم يستجيبوا، ولم يؤمنوا بالله وبرسوله، وبكتاب الله، فليس لهم وجهة إلا أن يضلّوا، ويتبعوا أهواءهم الفاسدة.. فليعلم الرسول هذا، وليقم موقفه منهم على هذا التقدير.
- وقوله تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ» هو تأكيد لضلال هؤلاء المشركين، وأنهم إنما ينقادون لأهوائهم، انقياد الكلب لصاحبه.. وأهواؤهم ضالة فاسدة، لا تقود إلا إلى ضلال وفساد! والاستفهام هنا بمعنى النفي.. والتقدير: أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله والسؤال هنا: ما السرّ في تقييد الهوى المضلّ بهذا الوصف، وهو أنه بغير هدى من الله؟ وهل يكون هناك هوى معه هدى من الله؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن الهوى مضلّة أبدا، وأن الإنسان حيث يتبع هواه، فهو على ضلال، كما يقول سبحانه في ذمّ المشركين: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» (23: النجم) .
وكما يقول سبحانه: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (14: محمد) .(10/359)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
والإنسان- من حيث هو إنسان- لا يخلو من الهوى.. فإذا كان مع الهوى هدى من الله، غلب الإنسان هواه وقهره.. وإذا لم يكن معه من هدى الله شىء، يمسك زمام هواه- كان على طريق الهوى أبدا، لا يعدل عنه إلى طريق الحق والهدى أبدا.. ولهذا جاء الوصف لأصحاب الهوى الذين لا يلقاهم هدى الله، مقرّرا، أنهم أضلّ الضالين.. «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟» .
فقد يضلّ الإنسان، وينحرف، متّبعا هواه، ولكن حين يلقاه هدى الله على طريق غوايته، يستقيم، ويهتدى.. أما إذا لم يلقه هدى الله، فلن يهتدى أبدا! وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» حكم من الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الضالين، الذين اتبعوا أهواءهم أنهم لن يهتدوا أبدا، لأن هدى الله لا يلقاهم على طريق، لأنهم ظالمون، والله لا يهدى القوم الظالمين..
الآيات: (51- 57) [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 57]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)(10/360)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .
كانت الآيات السابقة تمهيدا للقاء المشركين وعرضهم على كتاب الله رضا مباشرا، بعد أن رأوا ما هم فيه من ضلال وعناد، ومكابرة في الحق، وأنهم وفرعون في هذا المقام على سواء، حتى لكأنهم أبناؤه الوارثون لكل ما عرف عنه من جور وجبروت.. والمراد بالقول هنا، القرآن الكريم، وتوصيل القول، وصل بعضه ببعض.. وهذا ما يشير إلى الأسلوب الذي نزل عليه القرآن الكريم، وإلى الحكمة المرادة من هذا الأسلوب.. فقد نزل القرآن الكريم منجما، آيات آيات، وسورة سورة، ولم ينزل مرة واحدة، كما نزلت الكتب السابقة، فكان نزوله- مكيا ومدنيا- فى نحو ثلاث وعشرين سنة.. أما الحكمة المرادة من هذا الأسلوب الذي نزل عليه القرآن الكريم، فهى ما كشف عنه قوله تعالى في هذه الآية: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» وما كشف عنه قوله تعالى أيضا: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً؟ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 23: الفرقان) .(10/361)
فنزول القرآن على هذا الأسلوب، يثير أشواق المؤمنين، الذين كانوا ينتظرون كل يوم خيرا جديدا، ينزل من السماء فيلقونه، بوجودهم كله، حتى لكأن الذي نزل عليهم ليومهم هو كل القرآن الكريم.. وهكذا كانت الآية أو الآيات المنزلة، تمثل القرآن الكريم كله، حيث يرون فيها دعوة الإسلام، ورسالته..
عقيدة وشريعة، وبهذا يرون مع كل وحي بتلقاه الرسول دعوة مجددة إلى الله، وإلى دين الله، فيزدادون إيمانا ويقينا، ويترشفون ما يروى ظمأهم من هذا المورد العذب.. قطرة قطرة، فيكون ذلك أنقع وأنفع.. أما المشركون فإن لهم فى نزول القرآن- منجما- واعظا يطلع عليهم من آيات الله مع كلّ وحي يوحى إلى الرسول، وإن لهم من كل آيات تتنزل، نذيرا، يختلف وجهه، وتختلف طلائع نذره عن سابقه.. وهكذا يدخلون مع كل وحي يوحى، فى صراع جديد، وفي تجربة جديدة، وفي هذا ما يقيمهم دائما على اتصال بالدعوة، طوال هذه المدة التي نزل فيها القرآن.. وهذا من شأنه أن يصفى ما بالنفوس من شر وخير، يوما بعد يوم، وفي كل يوم يزداد أهل الخير قربا من الإسلام، على حين يزداد أهل الشرّ بعدا ونفورا..
قوله تعالى:
«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» المراد بالذين أوتوا الكتاب هنا، هم بعض اليهود والنصارى، الذين دخلوا فى الإسلام، وقد عرفوا أنه الحق من ربهم، وأنه الدين الذي كانوا ينتظرون الرسول المبلغ له، والذي بشرت به التوراة والإنجيل.
- وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِهِ» متعلق بآتيناهم، أي آتيناهم الكتاب من قبل هذا الكتاب الذي نزل على محمد- صلوات الله وسلامه عليه.(10/362)
وفي الآية تحريض للمشركين من قريش، ومن العرب عامة، إلى المبادرة يأخذ حظهم من الكتاب الذي نزل عليهم. من قبل أن يسبقهم إليه أهل الكتاب، وينتزعوا منهم هذا الشرف الذي ساقه الله إليهم، وندبهم له..
- وقوله تعالى «هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» - إشارة إلى أن أهل الكتاب، عندهم عن هذا الكتاب الدلائل والشواهد التي تدعوهم إلى الإيمان به، وأنهم ما إن يلقونه حتى يؤمنوا به، إذا لم يحجبهم عن هذا الإيمان ما يثور في صدورهم من دخان العصبية، والحسد.. وهذا هو بعض السر في قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ» الذي يدل على توقع حدوث الفعل بدلا من «مؤمنون الذي يدل على وقوع الحدث فعلا.
قوله تعالى:
«وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» .
فى هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب بما عندهم من دلائل وشواهد على صدق القرآن الكريم- مهيئون للإيمان بكتاب الله، والتصديق به.. وإنهم إذا تتلى عليهم آياته، لم يتلبثوا ولم يترددوا، بل أسرعوا بالاستجابة له: قائلين آمنا به.. إنه الحق من ربنا.. وإنه الدين الحق الذي دان به النبيون وأتباعهم من قبل.. ولهذا فنحن إذ نؤمن بهذا القرآن لم نتبدل دينا بدين، وإنما نحن بديننا الذي ندين به، ندخل في الإسلام الذي دعينا إليه.. فديننا من الإسلام، والدين الذي ندعى إليه هو الإسلام، فإذا التقينا بالأصل كان لزاما علينا أن ندخل فيه بما معنا من فرع.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ.. بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران)(10/363)
وليس كل أهل الكتاب- كما قلنا- هم على هذه الشاكلة، وإنما قلة قليلة منهم، هى التي عرفت الحق وآثرت اتّباعه، وكثرتهم الكثيرة، عرفت الحق، ولكنها آثرت الهوى، وفي هذا يقول الله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «213: البقرة» .
قوله تعالى:
«أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» الإشارة هنا إلى الذين يؤمنون من أهل الكتاب بكتاب الله.. فهؤلاء يؤتيهم الله أجرهم وثوابهم مضاعفا، لأنهم جمعوا بين الحسنيين، الدّين الذين كانوا يدينون به، ولم يخلطوه بزيف أو ضلال، والدين الجديد الذي استجابوا له، ولأنهم صبروا على المكاره التي تأتيهم من قومهم، من أهل الكتاب وقد خرجوا على إجماعهم، واتبعوا الطريق الذي هداهم الله إليه.. ولأنهم لا يلقون إساءة المسيئين إليهم من قومهم بالإساءة، بل يلقون الإساءة بالإحسان «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» .. ولأنهم لا يكنزون الذهب والفضة، كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان، بل ينفقون في وجوه الخير مما رزقهم الله..
قوله تعالى:
«وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» هو بيان لأسلوب من أساليب درء السيئة بالحسنة.. فهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب، إذا لقيهم قومهم بالسفاهة، لم يقفوا معهم في هذا(10/364)
الموقف، بل أعرضوا، قائلين: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم، لا نجالس الجاهلين، ولا نتجه إليهم، وإنما نحن طلاب هدى وحق.. نطلب أهل الهدى والحق، ونرتاد مجالس أهل العلم والمعرفة! هذا، ويلاحظ أن هذه الآيات مكية، أي أنها نزلت ولم يكن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد لقى أهل الكتاب بدعوته لقاء مباشرا ولهذا جاء أسلوب النظم معلقا بالمستقبل.. مثل قوله تعالى: «هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» وقوله: «وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا» .. وقوله: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» ..
فهذا إرهاص بما سيطلع به المستقبل من موقف أهل الكتاب من رسول الله، ومن الكتاب الذي معه..
وهذا العرض المسبّق لأحداث المستقبل، فوق أنه تلويح لأهل الكتاب بما لهم من شأن في الدعوة الإسلامية- هو- كما قلنا- تحريض للمشركين من العرب، أن يبادروا بالدخول في هذه الدعوة، وأن يسبقوا إلى الإيمان بها، فهم أحق بها وأهلها.. ثم هو تثبيت لقلوب المؤمنين، بعرض ما يلقاه المؤمنون على طريق الإيمان من مكاره، وما يساق إليهم من أذى.. وأنهم يقابلون ذلك بالصبر، ودفع السيئة بالحسنة، والإعراض عن السفاهة..
قوله تعالى:
«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» هو تعقيب على هذا الموقف الجانبى، الذي عرض فيه القرآن الكريم على أنظار المشركين، ما سيكون من أهل الكتاب مع الدعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، وأن كثيرا منهم سيدخلون في هذا الدّين..(10/365)
وفي هذا التعقيب إشارة إلى أن كثيرا من المشركين من قوم الرسول، وذوى قرابته لا يدخلون في هذا الدّين، ولن يكونوا في المؤمنين، ولو حرص الرسول على هداهم، وأحبّ أن يراهم في المهتدين المؤمنين.. فليس للرسول أن يهدى من أحبّ، وإنما هو يهدى من أراد الله له الهداية. وغير قليل من حرص الرسول الكريم على هداهم، لم يرد الله لهم الهدى، وإذن فلن يهتدوا أبدا..
«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) .
وفي هذا ما يكشف عن صميم الدعوة الإسلامية، وعن عظمة هذه الدعوة، وعن شمولها وعمومها، وأنها تقوم على مبدأ إنسانى عام، لا يخالطه شىء من قرابة أو عصبية، حتى ولو كانت قرابة صاحب الدعوة، وعصبيته.. فهذه دعوة من الله إلى عباده، ومائدة سماوية ممدودة إلى كل من تهفو نفسه إليها، وتمتد يده لها.. فمن جاء فلا يردّ، ومن أبى فلا يحمل إليه الزاد، ولا يحمل هو عليه..
وها نحن أولاء نرى على مائدة السماء تلك، أيديا غريبة متمكنة، تنال من كل شىء منها، على حين نرى أيديا من أهل بيت النبيّ الذي تمدّ المائدة في رحابه- ليس لهم مكان على هذه المائدة.. فترى على المائدة رجالا كبلال الحبشي، وسلمان الفارسيّ وصهيب الرومي، ولا نرى أبا طالب عم النبي! .. ومن عجب أن يكون هذا في مجتمع يقوم أمره كله على العصبية، وتجرى حياته كلها على اقتسام الخير والشر بين أبناء البيت الواحد، أو القبيلة الواحدة.. وهذا أبلغ شاهد، من شواهد كثيرة لا تحصى على أن دعوة الإسلام من وحي السماء، وليس للبشر صفة فيها أو تدبير لها.. إنها من عند الله، لعباد الله.
قوله تعالى:
«وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا.. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .(10/366)
من تعلّات المشركين، الذين أبوا أن يستجيبوا لرسول الله، وأن يدخلوا فى دين الله- هذا القول لذى يقولونه زورا وبهتانا: «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» !.
وهذا القول منهم، هو شهادة عليهم بألسنتهم، بأنهم أهل سفه وضلال، وليسوا أصحاب مبادئ وأخلاقيات.. إذ كيف يعلمون أن هذا الذي يدعون إليه هو الهدى، ثم لا يتبعونه، ويؤثرون أن يعيشوا في ضلال، خوفا من ضرّ يلقاهم، أو أذى يصيبهم؟ ومتى كان أصحاب المبادئ والمثل، يخشون ضرا، أو يرهبون أذى؟ ألا ينظرون إلى بلال وإلى أبيه وأمه، وإلى غيرهم وغيرهم، وهم يطعمون من أيديهم هذا العذاب الأليم، فى سبيل المبدأ والعقيدة، دون أن يزحزحهم عنه هذا البلاء الذي مات بعضهم تحت سطوة سياطه، وهو يقول:
«أحد أحد» ! ألم يكن لهم في هذه المواقف البطولية عبرة وعظة؟ ألا يدعوهم الشرف والمروءة- وهم السادة الأشراف- أن يرتفعوا إلى هذا المستوي الذي ارتفع إليه عبيدهم وإماؤهم؟ ولكنها العقول حين تضل، والبصائر حين تعمى..!!
ثم من قال لهؤلاء الضالين، إنهم لو اتبعوا الهدى ستخطفون من أرضهم؟
ألا يرون ما لله عليهم من فضل وإحسان، وقد جعل لهم- وهم في الشرك والضلال- حرما آمنا، حيث يتخطف الناس من حولهم، وهم في حرم الله آمنون، وحيث تحج إلى هذا الحرم قبائل العرب جميعا، تحمل إليهم مما في أيديها من ثمرات وخيرات، كما تحمل إليهم مما في قلوبها من توقير وتكريم، لما لهذا البيت من توقير وتكريم؟ فإذا كان ذلك هو شأن الناس معهم وهم على الشرك والضلال، أفلا يكون لهم مثل هذا الشأن، وهم على الهدى والإيمان؟(10/367)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
ألا إنه العناد الذي يهلك أهله.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) .
الآيات: (58- 70) [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)(10/368)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» .
ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، ما لله سبحانه وتعالى من فضل على البلد الحرام وأهله، إذ جعله بلدا آمنا! تهوى إليه الأفئدة، وتعظمه القلوب، وجعل لأهله حرمة في الناس، فأمنوا ما كان ينزل بالناس حولهم من بغى وعدوان.. وقد كشفت الآية كذلك عن كذب هذا الادعاء الذي يدعيه المشركون، وهو أنهم إذا اتبعوا الهدى، زال عنهم وعن بلدهم، هذا الأمن الذي هم فيه، وتخطّفهم الناس! وفي هذه الآية، يهدد الله سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين بالنقم التي حلت بكثير من القرى قبلهم، فقد كانت تلك القرى آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فلما كفرت بأنعم الله، وبطرت معيشتها، أي استخفت بالنعمة وكفرت بها- أذاقها الله لباس الجوع والخوف.. وكذلك هؤلاء المشركون، هم في قرية آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، ويجبى إليها ثمرات كل شىء، وقد بطروا وأشروا، فأشرف بهم هذا البطر والأشر، على مواقع الهلاك والبلاء، ليلحقوا بمن كانوا على شاكلتهم من أهل تلك القرى التي كفرت بأنعم الله..
قوله تعالى:
«وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» .(10/369)
فى هذه الآية إشارة إلى أن أهل هذا البلد الحرام، قد بطروا معيشتهم، وكفروا بأنعم الله، واستوجبوا العذاب والبلاء.. ولكن الله سبحانه وتعالى- رحمة بعباده، وإقامة للحجة عليهم- لم يشأ أن يأخذهم بذنوبهم قبل أن يعذر إليهم، وينذرهم على يد رسوله.. فما أهلك سبحانه وتعالى قرية من القرى إلا بعد أن بعث إليها رسولا مبشرا ومنذرا، كما يقول سبحانه: «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ» (208: الشعراء) .
وها هي ذى القرية، البلد الحرام، قد كفر أهلها بالله، وها هو ذا رسول الله فيهم، قد جاء لينذرهم بين يدى عذاب شديد.. فإن هم استجابوا له، ورجعوا عما هم فيه نجوا، وسلموا من بأس الله في الدنيا، ومن عذابه في الآخرة، وإن أبوا إلا ضلالا وعنادا، فهم في الهالكين.. «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41: المائدة) .
والأمّ: الرأس من كل شىء.. وأم القرى رأسها، ومجتمع قراها..
وهي هنا مكة.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» (92: الأنعام) .
قوله تعالى:
«وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
هو نذير من تلك النذر، التي ينذر بها القوم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله، وذلك أن أكثر ما يصرفهم عن الدعوة الإسلامية، ويصمّ آذانهم عنها، هو خوفهم على ما في أيديهم من جاه وسلطان، وما يجلبه عليهم جاههم وسلطانهم من مال ومتاع.. فكان قوله تعالى: «وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ(10/370)
فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها»
- تهوينا لشأن ما في أيديهم من مال ومتاع يحرصون عليه، ويضحون بكل شىء من أجله.. فهذا الذي أوتوه، هو من متاع الدنيا وزخرفها، والدنيا زائلة، ونعيمها زائل، وما عند الله من أعمال صالحة، يقدّمها المؤمنون ليوم الجزاء- هو الذي يبقى، وهو الذي يدوم خيره، ويتصل نعيمه..
- وفي قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» نخسة لهؤلاء الضالين، الذين حرصوا على أموالهم، وزهدوا في عقولهم، فلم ينظروا بها إلى أكثر مما وراء المال والمتاع!.
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» .
الوعد الحسن: هو الجزاء الطيب الكريم، الذي وعد الله عباده المؤمنين فى الآخرة، من جنات ونعيم..
والموازنة هنا، بين المؤمنين والمشركين، حيث يتضح بعد ما بينهما..
فالمؤمنون على وعد من ربهم بالجنة، وهم سيلاقون هذا الوعد: «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» (6: الروم) والكافرون يمتعون في هذه الدنيا متاعا قليلا، ثم يحضرون يوم القيامة إلى الحساب والجزاء وليس لهم في الآخرة إلا النار..!
- وفي قوله تعالى: «مِنَ الْمُحْضَرِينَ» - إشارة إلى أن الكافر إنما يساق سوقا إلى الحشر، ويدفع دفعا إلى موقف الحساب، ويدعّ دعا إلى النار.. فمن ورائه سائق عنيف يسوقه إلى تلك المكاره، التي يودّ لو أن له طريقا يعدل به(10/371)
عنها.. «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» (21: ق) فهذه هي نفوس الضالين المكذبين، الذين لم يعملوا لهذا اليوم، ولم يكونوا على وعد بما وعد به المؤمنون، من لقاء ربهم، ومن الجزاء الحسن الكريم عنده.. فالمؤمنون:
«لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (103: الأنبياء) .
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ؟
الضمير فى «يناديهم» يعود للمشركين جميعا، على اختلاف معبوداتهم..
والسؤال هنا، سؤال تعجيز للمشركين، حيث يتبرأ بعضهم من بعض، ويفر بعضهم من وجه بعض، ويتلفت كل مجرم، فلا يرى إلا آثامه، تحيط به وتنادى بمخازيه..
قوله تعالى:
«قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» .
للذين حق عليهم القول، أي وجب عليهم العذاب، فكانوا من أهل النار..
وقد كان السؤال موجها إلى المشركين جميعا، ليحضروا آلهتهم التي عبدوها من دون الله.. وهنا يبادر أهل الرياسة والسلطان ممن كانوا سدنة هذه الآلهة، والدعاة لها بين الناس- ليدفعوا عن أنفسهم هذا البلاء العظيم، إذ يرون أنهم هم الذين زينوا للناس الشرك، وساقوهم إلى هذا الضلال..
فيقدمون هذا العذر: «رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا» ... أي هذه هي جريمتنا(10/372)
ممثلة في هؤلاء الأتباع الذين أغويناهم، ولكنا أغويناهم كما غوينا نحن، فنحن غوينا، ثم أغويناهم بما كنا فيه من غواية، وإذن فنحن وهم على سواء..
«تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ» من كل شرك، وتبرأنا إليك من تعلق هؤلاء الضالين بنا..
«ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» وإنما كانوا يعبدون ما نعبد من ضلال!! وهكذا يجرّ هؤلاء الرؤساء أتباعهم معهم إلى هذا المصير المشئوم، ليشاركوهم البلاء والعذاب..
وذلك أنهم ظنوا حين وجه السؤال في قوله تعالى: «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» أنه لو سبقهم أتباعهم إلى الإجابة على هذا السؤال، وقالوا: هؤلاء هم الذين دعونا إلى عبادة ما عبدنا من الهة- لعلقت التهمة بهم وحدهم، ولنجا أتباعهم، وفي هذا ما يضاعف بلواهم، ويزيد في حسراتهم..
أما حين يؤخذ الجميع، ويعمهم البلاء، فإن البلاء- وإن عظم- يهون، وإن الحسرة- وإن اشتدت- تخفّ..! هكذا فكروا وقدّروا..
قوله تعالى:
«وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» .
الشركاء: هم من أشركوا بعبادتهم، واتخذوهم آلهة من دون الله..
والأمر بدعاء الشركاء، تيئيس لهم، وتنديم لما كانوا فيه من ضلال، حيث كانوا يتعلقون بهؤلاء المعبودين في الدنيا، ويرجون منهم ما يرجو المؤمنون من ربهم- وحين جاء وقت الامتحان ووقف المشركون على النار، قيل لهم: ادعو شركاءكم، ليدفعوا عنكم هذا البلاء.. «فَدَعَوْهُمْ.. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» ولم يسمعوا إلا فحيح جهنم، وشهيقها..(10/373)
- قوله تعالى: «وَرَأَوُا الْعَذابَ» هو معطوف على قوله تعالى «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا» أي أنهم حين دعوا شركاءهم الذين عبدوهم من دون الله، وهتفوا بهم أن أغيثونا، لم يروا لهم ظلا، ورأوا العذاب في الموقع الذي كانوا ينتظرون أن تطلع عليهم منه آلهتهم تلك.. وفي ذلك ما يضاعف من بلائهم ويزيد فى حسرتهم.
- وقوله تعالى: «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» .. هو صوت منطلق من وراء هذا المشهد، الذي عرض فيه المشركون وهم في الدنيا، هذا العرض الذي رأوا فيه المصير الذي هم صائرون إليه، إذا هم ظلوا على ما هم فيه من عمى وضلال..
وهذا الصوت هو صوت العبرة والعظة، المندسة في كيان هذا العرض، الذي شهده المشركون، وإذ لم يجدوه في أنفسهم، جاء إليهم من خارج، فى دعوة مجددة تدعوهم إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن هذا الشرك الذي هم فيه.
وجواب لو مخدوف، دل عليه مضمون الكلام السابق.. والتقدير: إن فى هذا العرض لعبرة وعظة لهم، لو كانوا يهتدون.. أي لو كانوا ممن يقبل الهدى، ويستجيب له، لكان لهم من هذا الموقف عبرة وعظة.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» هو من سياق قوله تعالى فى الآية السابقة: «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» ..
فقد قلنا إن هذا صوت يستحثهم على الهدى، ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه من شرك.. فإذا وقع هذا الصوت موقعا من قلوبهم، وأرادوا أن يطلبوا الهدى، لقهم الرسول الكريم، الذي يدعوهم إلى الله، وهم يصمّون آذانهم عنه..
وتلك جناية أخرى من جناياتهم على أنفسهم، حيث يدعون في يوم القيامة(10/374)
ويسألون. «ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟» أي بماذا أجبتموهم لما دعوكم إليهم؟ ولا جواب لهم إلا الإقرار بالجريمة، وأنهم قد صدوا عن سبيل الله، وكفروا بالله وبرسوله..
قوله تعالى:
«فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ» أي أنهم في هذا اليوم يستولى عليهم حال من الذهول، تتبلد به حواسهم، ويطير معه صوابهم، وتنعقد منه ألسنتهم، فلا يدرون شيئا، ولا ينطقون بشىء..!!
قوله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» .
هو لقاء من جديد، بدعوة محددة، إلى هؤلاء المشركين، وقد عادوا التوهّم من يوم القيامة، ليتوبوا، ويرجعوا عما هم فيه من ضلال وشرك، ويؤمنوا بالله ويعملوا صالحا، فإن فعلوا ذلك، كانوا على الطريق الذي يعدل بهم عن جهنم إلى الجنة، وينقلهم من الخسران إلى الفلاح..
وفي قوله تعالى: «فَعَسى» - إشارة إلى أن فلاح المؤمن، إنما يكون بفضل من عند الله، وأن على المؤمن أن يعلّق رجاءه بالله، لا بما يعمل من صالحات! قوله تعالى:
«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .(10/375)
هو بيان لما جاء في قوله تعالى: «فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» فالإيمان بالله، والعمل الصالح، فضل من أفضال الله على عبده، وإذن فليكن نظر العبد متجها دائما إلى ربه، وإلى الطمع في رحمته، وليعلم أن الأعمال الصالحة- وإن كانت مطلوبة من المؤمن لأنها سبيل إلى مرضاة الله- فإنها لا تدخله الجنة، وإنما الذي يدخله الجنة، هو رحمة الله، التي تحرس إيمانه وتيسر له السبيل إلى الأعمال الصالحة..
- وقوله تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» .. أي أنه سبحانه، يخلق ما يشاء من مخلوقات، ويختار لكل مخلوق طريقه الذي يأخذه، إلى الهدى أو الضلال، وإلى الجنة أو النار..
- وقوله: «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» - هو نفى لأن يكون لأحد مع إرادة الله إرادة، ومع اختياره اختيار ...
وقد عرضنا لهذه القضية من قبل تحت عنوان: «مشيئة الله ومشيئة العباد» «1» - وقوله تعالى: «سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله عما يشرك به المشركون من آلهة، ويدّعون أن لهم في هذا الوجود تصريفا ينفع أو يضر..
قوله تعالى:
«وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» هو بيان لقدرة الله القادرة، وعلمه الشامل، المحيط بكل شىء..
__________
(1) انظر التفسير القرآنى للقرآن، وكذلك كتابينا: «قضية الألوهية» «والقضاء والقدر» .(10/376)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قوله تعالى:
«وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو الوصف اللائق لله سبحانه وتعالى، الذي يتفرد به، لا يشاركه فيه أحد..
فهو سبحانه. «الله» المتفرد بالألوهية، «لا إله إلا هو» تفرد وحده سبحانه بألوهيته.. «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى» أي في الدنيا «والآخرة» يوم القيامة، حيث يحمده. كل مخلوق على ما هو عليه من خلق أقامه الله فيه، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) «وله الحكم» أي التصريف والسلطان، فى كل ما في الوجود، يدبره كيف شاء علمه، وقضت إرادته، لا معقب لحكمه..
«وإليه ترجعون» أي إليه يرجع الناس بعد الموت، ليروا أعمالهم، ويجزوا عليها.. «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .
(7- 8: الزلزلة) .
الآيات: (71- 75) [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)(10/377)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ» السرمد: الدائم، والنسبة إليه سرمدى..
والآية وما بعدها، استعراض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وإحسانه إلى خلقه، وفضله عليهم، ورحمته بهم.. فلو شاء سبحانه أن يجعل الليل قائما على هذه الأرض، لا يعقبه نهار أبدا، لاستولى الظلام على هذا الكوكب، وعلى من فيه وما فيه، ولما كان لأحد أن يغير هذا الوضع القائم أبدا..
- وفي قوله تعالى: «أَفَلا تَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن الحاسة العاملة في الإنسان، عند الظلام، هى حاسة السمع، حيث يبطل عمل البصر، ويتحول المجال الحسى للإنسان كله، إلى أذن تسمع! .. فالناس في عالم الظلام، تتجمع حواسهم في سمعهم.. ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين لا يسمعون، حتى حين يكون السمع هو الوسيلة الوحيدة للإنسان في اتصاله بالحياة..!
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ»(10/378)
وكما في قدرة الله سبحانه، أن يحبس الليل، فلا يتحول عن مكانه من الأرض، كذلك في قدرته جل شأنه أن يجعل من النهار سلطانا قائما على الأرض لا يتحول عنها أبدا، ولا يجد الناس- ولا الكائنات الحية- هذا الليل الذي يلف الوجود بردائه، ويريح الكائنات على صدره..
- وقوله تعالى: «أَفَلا تُبْصِرُونَ» - إشارة إلى أن حاسة البصر في هذا النور الدائم الذي لا ينقطع أبدا، تكون هي الأداة العاملة في الإنسان.. ومع هذا، فإن المشركين، لا يبصرون في هذا النور الغامر، الساطع، الدائم..
قوله تعالى:
«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» هو تعقيب على الآيتين السابقتين، ورد على ما سئل عنه المشركون، وأعياهم الجواب عنه..
فالله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الليل سرمدا، أو النهار سرمدا، بل جعل الليل والنهار، ووصل بعضهما ببعض، ولم يجعل لأحدهما وجودا بغير الآخر.. وجعل ذلك رحمة منه سبحانه، بعباده، وإحسانا إليهم..
- وقوله تعالى: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» الضمير فى «فيه» يعود إلى الليل. وفي ذلك إشارة إلى أن الليل- وإن كان ظلاما- فإنه يحمل معه السكن، والهدوء والاستقرار، ولراحة، بعد عمل النهار..
والضمير في قوله تعالى: «مِنْ فَضْلِهِ» يعود إلى لفظ الجلالة، أي من فضل الله..
والابتغاء من فضل الله، يكون في كل وقت، فى النهار، وفي الليل. ولهذا لم يقيّد بظرف، كما قيّد السّكن.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» هو تذكير(10/379)
بقوله تعالى في مطلع الآيات السابقة: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» (الآية: 62) .. وبهذا يكون ما بين هاتين الآيتين واقعا في حيز التهديد للمشركين، وسؤالهم يوم القيامة عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.. وهو سؤال تعجيز، يراد به وضعهم موضع الاتهام، وما يلقون فيه من تعنيف وتأنيب..
وفي تصدير الآيات بهذا السؤال التعجيزي، ثم ختامها به- فى هذا ما يشير إلى أهمية هذه القضية، التي جاءت الآيات للفصل فيها، وهي قضية التوحيد بالله! قوله تعالى:
«وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» نزعنا: أي أخرجنا من كل أمة شهيدا، وهو الرسول المرسل إليهم..
كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «41: النساء» .
- وقوله تعالى: «فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ» أي هاتوا حجتكم، ودليكم على دينكم الذي تدينون به..
- وقوله تعالى: «فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» - أي فجاء كل إنسان ببرهانه وحجته، على دينه الذي يدين به، والإله الذي يعبده،:
وهنا ظهر الحق، وزهق الباطل.. فأما من كانوا يعبدون الله، ويؤمنون برسل الله وكتبه، فقد جاءوا بالبرهان المبين، على أنهم على الدين الحق، فقبلهم الله سبحانه في ملكوته، وتقبل أعمالهم الطيبة، وتجاوز عن سيئاتهم. وأما من كانوا يعبدون غير الله، فقد ضل عنهم آلهتهم، وتركوهم ليلقوا مصيرهم الشئوم(10/380)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
الآيات: (76- 83) [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)(10/381)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» .
مناسبة قصة قارون هنا، هى أن الآيات السابقة كانت تعرض مواقف المشركين من رسول الله، ومن الكتاب الذي بين يديه، وقد جمعت بينهم وبين فرعون، وجعلت منه ومنهم جبهة واحدة، تمثل الكفر، والعناد، والعتوّ، والفساد في الأرض..
وقصة «قارون» تطلع على هؤلاء المشركين من الماضي البعيد بصورة يرون في بيئتهم من يمشى بينهم في إهابها، وكأنما هو «قارون» بعث من قبره! وذلك فيمن كان يعيش في مجتمعهم من أغنياء اليهود، مثل حيى بن أحطب وغيره..
فالمشركون في صورتهم العامة، فراعين، فى عتوهم وضلالهم، تتحرك فى كيانهم أجسام غريبة، من اليهود، الذين جمعوا أموالا كثيرة، بأساليب لا يحسنها غيرهم.. وبهذا تكتمل المشابهة بين مجتمع المشركين، ومجتمع فرعون.. فكلا المجتمعين يتشكل من عنصر أصيل، وعنصر دخيل عليه..
وفي العنصر الأصيل كبر، وعناد، واستعلاء، وفي العنصر الدخيل انحلال، وفساد، وعفن.. وكلا المجتمعين، بعنصريه- الأصيل والدخيل- حرب على الحق والخير..
- وقوله تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ(10/382)
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»
هو استحضار لأهل الكتاب في شخص اليهود، ثم استدعاء لليهود في شخص أغنيائهم، وأصحاب الثراء فيهم، ممن هم على شاكلة أبيهم قارون.. وهذا الاستدعاء هو نذير لليهود من قبل أن يلقاهم الرسول لقاء مباشرا، حتى يأخذوا حذرهم لأنفسهم من أن يقفوا من قومهم موقف قارون في أجدادهم، حين يدعوهم الرسول إلى الله، فيتصدّى منهم «قارون» أو أكثر من «قارون» لهذه الدعوة.. فإنهم إن فعلوا أخذهم الله كما أخذ قارون من قبل..
ففى قوله تعالى: «فَبَغى عَلَيْهِمْ» أي خرج من محيطهم، وانحاز إلى فرعون، ونسى أنه على دين يلتقى مع هذا الدين الذي جاء به موسى.. وقد جاءت الأيام بصدق هذه الصورة، فيما كان بين أغنياء اليهود من تحالف بينهم وبين المشركين على محاربة الدعوة إلى الإسلام، سرا وجهرا.. فكان أن أخذهم الله بما أخذ به المشركين، كما أخذ الله قارون بما أخذ به فرعون، وفي هذا يقول الله تعالى:
«وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها.. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (26- 27: الأحزاب) - وقوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» :
الفاء هنا للتعقيب، بمعنى أن هذا الذي آتاه الله قارون من كنوز، قد كان بعد أن بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون، وفي ذلك استدراج من الله سبحانه وتعالى له، حتى يغرق في الغى والبغي، كما يقول سبحانه: «أَيَحْسَبُونَ(10/383)
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ»
(55- 56 المؤمنون) ..
و «ما» فى قوله تعالى: «ما إِنَّ» اسم موصول، وهو وصلته صفة للكنوز.. أي أن الله سبحانه وتعالى آتاه من المال الذي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة.
والمفاتح، جمع مفتح، مثل كوكب..
والمراد بالمفاتح هنا: المداخل التي يدخل منها على هذا المال.. وهو لكثرته ونفاسته قد شددت الحراسة عليه.
وفي إسناد، الفعل إلى المفاتح، وهي المداخل إلى هذه الأموال، وجعلها هى التي تدوء بالعصبة أولى القوة- إشارة إلى ما قام على هذه الكنوز من قوى شديدة ذات بأس من الخزنة والحرس، حتى إنها لتنوء، وتضعف عن حمل هذه القوى القائمة عليها.. يقال: ناء بالحمل: إذا ضعف عن حمله، لثقله عليه.. وكذلك المداخل التي يدخل منها على هذا المال الكثير، تنوء بما عليها من حراس أقوياء..
- وقوله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» ..
المراد بالفرح هنا: فرح الزهو والعجب والخيلاء.. فهو فرح متولد من تلك المشاعر التي تحرك في صاحبها دوافع البغي والتسلط.. أما الفرح، على إطلاقه، فليس بالمكروه، إذا كان عن قلب يجد لفضل الله وإحسانه موقعا منه، كما يقول سبحانه: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» (4- 5: الروم) .
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» - إشارة إلى أن الفرح(10/384)
المكروه، هو الفرح المبالغ فيه، والذي يخلى نفس صاحبه من كل شعور بقدرة الله، وبما لهذه القدرة من تصريف في شئون العباد، وتقلّب أحوالهم.. فلو ذكر المرء هذا في حال من أحوال فرحه، لتخفف كثيرا مما هو فيه من فرح، ولعلم أنها حال لا تدوم، وأنه إذا لم يكن في مجريات الأحداث ما يقطع هذه الفرحة، قطعها الموت، وما وراء الموت من حساب وجزاء..
«والفرح» صبغة مبالغة من فرح..
قوله تعالى:
«وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» ..
هذا مما وصّى به أهل الصلاح والتقوى من قوم موسى، «قارون» ، هذا الذي استبد به العجب بماله، واستغواه الغى، بما ضمت عليه يده من سلطان بهذا المال..
فهم يدعونه إلى أن يسلك بهذا المال، الطريق الذي تحمد عواقبه، وتتم به تلك النعمة.
وقد نصحوا له ألا يستبد به الفرح بما ملك، وفي ذلك إيقاظ له من سكرة هذا المال، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغى أن يسوس به ماله هذا، فيطلب به رضا الله، ويقدم منه ما ينفعه في الآخرة، ويأخذ منه ما يصلح به شئون دنياه، فيجمع بذلك خير الدنيا والآخرة جميعا.. وأن يحسن وينفق في وجوه الخير، مثل ما أحسن الله إليه، فيلقى إحسان الله بالإحسان إلى عباد لله، فذلك هو زكاة هذه النعمة، وألا يتخذ من هذا المال أداة للفساد والإفساد(10/385)
فى الأرض، والإضرار بالناس، وهضم مالهم من حقوق.. إن الله لا يحب المفسدين..
قوله تعالى:
«قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» وقد استقبل «قارون» هذه الدعوة الحكيمة الرشيدة بالاستخفاف والتحدي، شأنه في هذا شأن من غطى على بصره ما امتلأ به كيانه من أشر وبطر، فجعل كل نصح يلقى إليه، دبر أذنه، ومن وراء ظهره.
- وقوله تعالى: «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» .. إنه ينكر أن يكون لله شىء فيما بين يديه من هذا المال الغمر.. إنه قد توصل إليه بحسن تدبيره، وجمعه بجهده وكده..
والعلم الذي أوتيه «قارون» ليس العلم الذي تحصله العقول، أو تستشفه البصائر، وإنما هو علم تنضح به الطبائع الخبيثة، والنفوس المريضة، من نفاق، ومداهنة، وانّجار بالذمم والضمائر، مما يحسنه اليهود، ويأخذون به مكان الأستاذية للناس جميعا.. وقد كان «قارون» فى هذا العلم أستاذا لهؤلاء الأساتذة.. فجمع هذا المال الوفير الذي كان موضع حسد من كثير من قومه، كما كان آفة مهلكة له..
وليس يعترض على هذا بقوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ» إذ قد يفهم من هذا أن الله سبحانه وقد آتاه هذا المال، إنما آتاه إياه هبة، وابتدأه به إحسانا، فهو- والأمر كذلك- لم يحصّل هذا المال بشىء من تلك الوسائل الخسيسة الفاسدة، خاصة، وأن القرآن الكريم قد استعمل هذا الفعل مسندا إلى الله في مواضع كثيرة، وكلّها في مقام الفضل والإحسان، وأجلّها ما كان(10/386)
من إيتاء الله سبحانه وتعالى الكتاب والحكم والنبوة، للكثير ممن اصطفى من عباده..
وردّنا على هذا:
أولا: أن هذا لا يدفع أن يكون الله سبحانه وتعالى قد ابتدأ قارون بهذه النعمة، وأولاه هذا الإحسان.. ثم كان منه هذا الكفران بالله، والجحود لفضله عليه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ» (175- 176: الأعراف) .
وثانيا: أن قول قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» - هو دعوى يدّعيها، ويبرر بها إضافة هذا المال إلى كسبه بوسائله، تلك الوسائل التي أشرنا إليها.. فهو- فى تقديره- كان يحسب أن هذه الوسائل هي التي جلبت له هذا الثراء العريض، وهذه الوسائل- فى تقديره- هى علم يحسنه وحده، ولا يحسنه غيره.. وهذا لا يمنع من أن تكون تلك الوسائل في ذاتها غير فاعلة، وإن بدا في الظاهر أنها هي التي يردّ إليها هذا الذي اجتمع في يديه من مال..
وأن هناك أسبابا خفية، هى التي جلبت له هذا الثراء، على غير تقدير منه.
وثالثا: قد يسند الإيتاء إلى الله سبحانه وتعالى للنقمة في ثوب النعمة، كما قال تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها» (59: الإسراء) ..
فالذى آتاه الله ثمود هنا- وهو الناقة- كان بلاء وهلاكا.
ورابعا: أن إسناد هذا الفعل لله، إنما هو من مقولة القوم، الذين ينظرون إلى هذا المال الذي اجتمع ليد «قارون» كما ينظرون إلى كل شىء يناله الإنسان في هذه الدنيا، وهو أنه من عند الله.. إذ كان القوم مؤمنين بالله، وقولهم هذا هو على ما جرت به عادة المؤمنين، من إضافة كل شىء(10/387)
إلى الله، سواء أكان خيرا أو شرّا.. أما النعم الخالصة التي يسوقها الله إلى المصطفين من عباده، فإنها تحمل مع هذا الفعل مسندا إلى الله، بإخبار منه سبحانه، كما يقول سبحانه: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» «55: الإسراء» ..
«وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» . «87: البقرة» .. أمّا «قارون» فقد أتاه الله هذا المال الوفير، جزاء بغيه، فكان نقمة في صورة نعمة.
- وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً» هو رد على هذا الادعاء العريض الكاذب الذي يدعيه قارون.. وأنه لو كانت له قوة ذاتية، وكان له من العلم الذاتي ما جمع به هذا المال، لكان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم، أن يحفظا عليه وجوده هو نفسه!! فهل تنفعه هذه القوة، وهل يجديه هذا العلم، إذا جاءه بأس الله؟ ألا فلينظر إلى من كان قبله من الأمم السابقة، ممن هم أشد منه قوة وأكثر جمعا.. أين هم الآن؟ وأين ما جمعوا من مال وما اجتمع لهم من قوة؟ هل أغنى ذلك عنهم من بأس الله من شىء لقد؟ هلكوا، وهلك ما كان لهم.
- وفي قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ» رد على هذا العلم الذي يدعيه، وأنه علم هو الجهل بعينه، وأنه لو كان علما حقا، لعلم به ما حل بالظالمين المفسدين في كل أمة وكل جيل ولما سار على دربهم، وسلك طريقهم..!
- وقوله تعالى: «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» .. أي أن الله سبحانه إذا أخذ المجرمين بجرمهم في الدنيا، وأنزل بهم البلاء، وسلط عليهم النقم- أخذهم بغتة، على غير توقع منهم، حيث لا يسألون عما هم فيه من ضلال، ولا يدعون إلى موقف المحاسبة في هذه الدنيا.. فهذا موقف له يومه، يوم يقوم الناس لرب العالمين..(10/388)
قوله تعالى:
«فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» .
إنها الفتنة تتحرك في هذا الموكب، الذي تحتشد فيه زخارف الحياة، حيث يخرج قارون في موكبه الحاشد، وقد ظهر فيه سيدا عظيما في زى أصحاب الملك والسلطان، وبين يديه ومن خلفه الجنود والأعوان.. فتحركت مع هذا الموكب أهواء النفوس وشهواتها، وتطايرت من العيون قطرات الاشتهاء والتمني، فقال الذين همهم هذه الدنيا وحدها، وليس للآخرة نصيب يشغل به تفكيرهم، ويصرف إليه همهم- قالوا: «يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ.. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» .. وهكذا تعظم الدنيا في عين طلابها، فإن فاتهم شىء منها مما وقع لغيرهم، تقطعت نفوسهم أسى وحسرة على حظهم المنكود، ذلك، ولو لم يكن ينقصهم شىء مما يحتاجون إليه لحفظ حياتهم، من طعام، وكساء، ومأوى.. وإنما هو الغيرة والتنافس في متاع الدنيا..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» .
وهذه نظرة أهل الحق والعلم إلى الدنيا.. إنها نظرة قائمة على حساب سليم مع الحياة الدنيا ومتاعها.. فهى عندهم ظل زائل، ومتاع قليل، وحسب الإنسان منها أن يأخذ في حمد ورضى، ما قسم الله له، وأن يطلب الرزق من وجوه سليمة مستقيمة، وأن يؤدى حق الله والعباد فيما آتاه الله.. ثم لا يصرفه شىء من هذا عن طلب الآخرة، والإعداد لها، وابتغاء مرضاة الله بالأعمال الصالحة..(10/389)
فذلك هو خير مما لو اجتمعت الدنيا كلها للإنسان، ثم لم يكن له نصيب فى الآخرة..
- وقوله تعالى: «وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» أي لا يلقيّ هذه المقولة، ولا يتقبل هذه الدعوة الطيبة إلى ابتغاء ثواب الله- إلا الصابرون، الذين يصبرون على بأساء الحياة الدنيا وضرائها، ابتغاء ما يلقون من جزاء حسن في الآخرة..
فمن لم يكن من الصابرين، فإنه لا يؤدى حقا، ولا يصبر على حق، بل يستعمل كل ماله في هذه الدنيا، ويستهلكه في يومه، غير ملتفت إلى غده.. إن الطاعات تكاليف وأعباء، لا تقع موقع القبول والرضا إلا من نفوس صابرة، تغرس اليوم، لتجنى ثمار غرسها غدا..
قوله تعالى:
«فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» .
وهكذا يدور الزمن دورته، وينخرم حساب قارون مع دنياه هذه، وما جمع فيها، وإذا هو وما جمع في حفرة عميقة في الأرض، قد فغرت فاها، وابتلعته في غمضة عين، كما يبتلع الحيوان فريسته.. وهكذا تطوى صفحة هذا الضلال المتحرك، وتذهب معالمه، دون أن يكون له من ينصره من بأس الله ويدفع عنه هذا المصير، فقد ذهب عنه سلطانه، ولم يغن عنه ماله! قوله تعالى:
«وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» .
وينتقل المشهد من قارون وموكبه، وداره وحشمه وماله، إلى تلك العيون(10/390)
التي كانت متعلقة بهذا الموكب وما يجر وراءه، وإذا بها شاخصة في ذهول مما حدث؟ أين قارون الذي تعلقت بأذيال موكبه أمانيّ القوم؟ وأين كنوزه وأمواله، وقصوره؟ لا شىء من هذا.. لقد اختفى كل شىء في لحظة خاطفة، كما يختفى السابح في الماء وقد احتوته دوامة عاتية، فغرق، وهوى إلى القاع!! أهكذا الدنيا إذن؟ وأ هكذا تصاريف القدر فيها؟ «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» ؟ إذن، فالأمر لله وحده، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره ويقبضه عمن يشاء، بعلم، وحكمة وتدبير..
وإذن، فقد كان من فضل الله علينا أنه لم يستجب لأمنياتنا، ولم يؤتنا مثل ما أوتى قارون.. إنه لو فعل لكان مصيرنا كمصيره، ولخسف بنا وبدورنا الأرض، كما خسف به وبداره الأرض.. «لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا» .
إن أشد الناس فقرا فينا، لهو خير من قارون وكنوزه.. وهل يرضى أحد من هؤلاء الذين شهدوا هذا المشهد اليوم أن يكونوا قارون الذي كان بالأمس؟
«وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» .. وإذن، فالحكم القاطع الذي يمليه علينا هذا المشهد، هو أنه لا فلاح للكافرين أبدا، وإن كثرت أموالهم، وملكوا الدنيا في أيديهم.. إنهم هم الخاسرون خسرانا مبينا، فى الدنيا والآخرة جميعا.
وكلمة «وى» أداة تعجب وانبهار، يلقى بها المرء مواقف العجب والدهش..
قوله تعالى:
«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .(10/391)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
هو تعقيب على هذه القصة، التي كان مدار حركتها قائما على هذه الدنيا، وقد انتهى المشهد، وقد تحطم هذا الدولاب، وتحطم كل ما احتواه.. وإذن فلا التفات إلى هذا الحطام، ولا اشتغال به.. وإذن فإلام تتلفت النفوس؟ وبم تشتغل القلوب؟ هذه هي الدار الآخرة.. الدار الباقية التي ينبغى أن يلتفت إليها، ويشتغل بها..
ولكن لمن هذه الدار؟ ومن يصلح للاتجاه إليها، والتعامل معها؟ «لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً» - فهؤلاء هم أهلها، حيث لا تنصرف إرادتهم إلى الدنيا، وإلى طلب العلو والإفساد فيها.. إن إرادتهم متجهة إلى الآخرة، وإن كانت الدنيا معبرهم إليها، وطريقهم عليها..
- «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي العاقبة الحسنة الطيبة لأهل التقوى، الذين يريدون الله والدار الآخرة..
الآيات: (84- 88) [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)(10/392)
قوله تعالى:
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
هو إعلان عام للمؤمنين والكافرين.. للمصلحين والمفسدين.. للذين يعلمون الصالحات، والذين يقترفون السيئات.. إن لكل حسابه وجزاءه..
أما أهل الإحسان، فيجزون بإحسانهم إحسانا مضاعفا.. فضلا من الله وكرما.. وأما أهل السوء، فيجزون بسوئهم سواء مثله، حقا من الله وعدلا..
وقد أفرد الضمير في مقام الإحسان، حيث تختلف منازل المحسنين، فيما يجزون به على إحسانهم.. الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء.. فهذا مقام الفضل، ينزل فيه الله عباده منازلهم من فضله ورحمته..
أما أهل السوء، فهم على حال واحدة.. السيئة بالسيئة ولا زيادة.. فهم فى مقام العدل. الذي يقتضى المساواة.. ولهذا جمع ضمير أهل السوء..
«فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
فرض القرآن على الرسول، هو حمله عليه حملا كاملا.. حيث يتلقاه من ربه، ويستقيم على كل آية منه، ويبلغه إلى الناس، ويجاهدهم به..
والمعاد الذي يرد إليه الرسول، هو لقاء ربه، وتلقى ما وعده الله به من رضا ورضوان..
وإذن فهذا القرآن المفروض على الرسول الكريم، هو الرفيق الذي يعيش(10/393)
مع الرسول في الدنيا، ويلقى الله به في الآخرة، حيث يجىء ومعه المحصول الوفير، من مغارس الإيمان التي غرسها القرآن في الأرض، فكان منها هذه الأمة المسلمة، التي تأخذ مكانها في المحشر، وقد رفع على رأسها علم التوحيد! وفي هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (71: الإسراء) ويقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) .
- وقوله تعالى: «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» - هو إلفات إلى هذا القرآن الذي فرض على الرسول، وهو الهدى، الذي من اتبعه اهتدى ورشد، ومن خالفه ضل وغوى..
قوله تعالى:
«وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» .
أي أن هذا القرآن الذي فرضه الله عليك- أيها النبي- لم يكن عن أمنية تمنيتها، ولا عن سعى سعيت له.. فذلك مما لا يحصل بالسعي، ولا يستدعى بالأمانى.. وإنما هو رحمة خالصة من عند الله، يختص بها من يشاء من عباده، ويضعها حسب ما يقضى به علمه في خلقه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) .
وقوله تعالى: «إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» هو بدل من «أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ» وهو في تأويل مصدر مفعول به لترجو.. والمعنى: ما كنت ترجو كتابا يلقى إليك من ربك، ولكن كنت نرجو رحمة منه.. وها قد جاءتك الرحمة عامة شاملة من ربك في اصطفائك للرسالة، ولكتابها الكريم..
«إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» (87: الإسراء) .(10/394)
- وقوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» .. هو تعقيب على هذه؟؟؟ العظيمة، وتلك النعمة الكبرى، وهذه الرحمة العامة الشاملة، التي ينبغى أن يأخذ كل إنسان حظه منها، إذا هو التمسها، ودخل في حماها.. وهؤلاء هم المؤمنون.. أما الكافرون فلا نصيب لهم منها..
وإذن، فالذى ينبغى أن يكون عليه شأن الرسول مع هذه الرحمة الشاملة التي وضعها الله سبحانه وتعالى بين يديه- هو أن يجعلها قوة تظاهر المؤمنين، وتقوّى جبهتهم، إزاء الكافرين والمشركين وأهل الضلال جميعا، لأنها قوة من قوى الحق، ومن شأنها أن تخلص لأهل الحق وحدهم..
والنهى الموجه للنبى في قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» - هو دعوة للنبى إلى اليأس من هؤلاء المشركين من قومه، الذين قال الله فيهم:
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) وقال سبحانه:
«إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (37: النحل) ذلك أن وقوف النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هذا الوقوف الطويل مع المشركين المعاندين من قومه، طمعا في إيمانهم، هو على حساب المؤمنين، أو الذين يستجيبون للإيمان، حيث تلك هي المواطن الصالحة للغرس، والإنبات والإثمار، وهي المواطن التي ينبغى أن يوجه الرسول إليها كلّ جهده.. وقد عاتب الله سبحانه وتعالى النبي الكريم في ابن أم مكتوم الأعمى، المؤمن، الذي جاء يستزيد من الرسول إيمانا، ويطلب هدى، والرسول في لقاء مع بعض وجوه القوم، من المشركين، وفي جدل حاد، يرجو الرسول من ورائه أن تلين قلوب الجماعة، وتدخل في دين الله- فقال تعالى:
معاتبا لرسوله: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ(10/395)
أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ»
. (1- 11. عبس) وقد دخل موسى عليه السلام في تجربة كتلك التجربة، حين أخذته عاطفة العصبية لقومه، وما كانوا يلقون من ظلم على يد فرعون وقومه.. وقد تمثل له ذلك فيما وقع بين المصري والإسرائيلى، وقد انتصر موسى للإسرائيلى، على المصري.. فلما خرج من تلك التجربة، استشعر الندم، واستغفر ربه، ونذر نعمة القوة التي في كيانه، أن تكون دائما للحق، ومع الحق حيث كان، فقال: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» .. ولعل هذا هو بعض السر في الجمع بين هاتين الآيتين في هذه السورة..
قوله تعالى:
«وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
هو تحذير للنبى من هؤلاء المشركين من قومه، وذوى قرابته، الذين يدعونه إلى أن يدع ما هو فيه، حتى لا يكون بموقفه هذا سببا في تمزيق وحدة قومه، وإلقاء العداوة بينهم، حتى يقتل بعضهم بعضا.. فهذه قريش لا تريد الدخول في دينه، وهؤلاء أهله الأدنون يأبون أن يتخلّوا عنه، ويتركوه لقريش ترميه بالأذى.. وهذا عمه أبو طالب يدعوه إلى أن يرفق به وبأهله، وألا يحملهم على مواجهة قريش، فيقول له لرسول الكريم قولته الخالدة تلك: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه» - وقوله: «وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ»(10/396)
هذا فوق أنه تحذير للنبيّ من أن تغلبه عاطفة الحرص على أهله أن يصيبهم سوء من أجل انتصارهم لعصبيتهم فيه- هو تثبيت لقلب النبيّ، وترسيخ لقدمه فى القيام على دعوته، وألا يلفته شىء عنها.. فلتذهب الدنيا كلها، ولتبق راية الحقّ قائمة في يده.
- وفي قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» دعوة إلى قطع كل رابطة من قرابة أو نسب، وإلى التضحية بكل عاطفة بينه وبين أهله، إذا كان في ذلك جور على دعوته، وتحيّف على شىء من عزمه وإرادته في القيام بتبليغها، والجهاد بها. فهو في تلك الحال ليس من أهله هؤلاء المشركين.. إن أهله وقرابته هم المؤمنون: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (91: النمل) فالمؤمنون هم أهل الرسول، وهم قرابته.
قوله تعالى:
«وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
بهذه الآية تختم سورة «القصص» .. وهي تعزل النبيّ عزلا تاما عن قومه المشركين، الذين يدعون مع الله آلهة أخرى.. فهو على طريق، وهم على طريق.. هو له دينه، وهم لهم دينهم، فلا جاممة تجمع بينه وبينهم إن لم يجمعهم الاجتماع على دين الله، وعلى إخلاص العبودية له وحده، لا إله إلا هو..
فإذا سلم للمرء دينه، وخسر كل شىء، فهو الذي ربح كل شىء ولم يخسر شيئا.. لأن كلّ شىء هالك وإلى زوال، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام..(10/397)
وإذن فلا حساب لأهل، أو مال، أو ولد، مع الدّين الذي يشد الإنسان إلى الله، ويقيمه على ولاء له.. فالأهل والمال، والولد، وكل شىء هالك، فيصبح الإنسان أو يمسى ولا شىء له، أو معه من هذا، ثم يلتفت فلا يجد إلا ما ادخر عند الله من إيمان وتقوى.. «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (46: الكهف) - وفي قوله تعالى: «لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو إلفات إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى أنه جلّ شأنه المتفرّد بالبقاء، وبالحكم بين العباد، يوم يرجعون إليه.. فالذين كانوا على ولاء مع الله، يدخلون في ظلّ هذا الولاء، فيجدون الأمن والسلام، والذين عادوا الله وحادّوه، وكفروا به وبرسله، يظلمون في العراء، بعيدين عن هذا الظل الكريم الرحيم، «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»(10/398)
29- سورة العنكبوت
نزولها: مكية..
عدد آياتها: تسع وستون آية.
عدد كلماتها: تسع مئة وثمانون آية عدد حروفها: أربعة آلاف ومئة وخمسة وتسعون
مناسبتها لما قبلها
كان ختام سورة القصص دعوة إلى النبيّ الكريم، وإلى المؤمنين جميعا، أن يكون ولاؤهم كلّه لله، ولدين الله، وأن يكون ما بينهم وبين أهليهم وذوى قرابتهم، من وراء هذا، وأنه لا بأس إذا قطع الإنسان، رحمه، وعادى أهله في سبيل دينه، إذا كان في صلة الرحم، وموادّة الأهل، ما يجور على الدين.
وقد كان..
ثم كان بدء سورة «العنكبوت» إعلانا صريحا للمؤمنين، بما انطوى عليه ختام سورة «القصص» وهو أن الإيمان له تبعاته وأعباؤه التي يجب أن يتحملها المؤمنون في رضا، وأن يتقبلوها في صبر واحتساب لما وعدهم به الله سبحانه وتعالى، من ثواب عظيم، وأجر كريم.
فالمؤمن في وجه فتن كثيرة، ترد عليه من أكثر من جهة.. من نزعات نفسه، ومن وساوس شياطين الإنس والجنّ، ومن دفاع عن دين الله، الذي يكيد له الكائدون، ويبغى عليه الباغون.. كما سنرى ذلك في شرح الآيات التي بدئت بها هذه السورة.(10/399)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 7) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
التفسير:
فى هذه الآيات التي بدئت بها السورة، تقرير لما ختمت به سورة «القصص» قبلها، وهو أن الإيمان بالله، ليس مجرّد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما هو عقيدة تسكن القلب، وعمل تقوم به الجوارح، وجهاد شاق متصل..
وبهذا يكون للإيمان وزنه واعتباره، ويكون للمؤمنين شأنهم ومقامهم..
فالمؤمنون، الذين لقيتهم هذه الآيات في أول الدعوة الإسلامية- كانوا فى وجه محنة قاسية، حيث انخلعوا عن أهليهم، وانعزلوا عن مجتمعهم، وكانوا قلة قليلة في مواجهة عاصفة عاتية، تسوق إليهم البلاء بغير حساب، حتى هاجروا من ديارهم، وخرجوا من أموالهم.. فلما اجتمع لهم في موطنهم(10/400)
الجديد، شىء من القوة، وأذن الله لهم في القتال- كان أول لقاء لهم، مع آبائهم، وأبنائهم، وإخوتهم، فعملت سيوفهم في رقاب المشركين من أهليهم وذوى رحمهم، فما نكل أحد منهم عن أن يضرب بسيفه من كان- قبل الإسلام- يفديه بنفسه، ويلقى الموت دونه.. وقد حدّث التاريخ أن أبا بكر لقى ابنه فى معركة بدر، وقد عرفه ابنه ولم يعرفه.. فلما كان بعد زمن، ودخل ابنه فى الإسلام، قال لأبيه: لقد عرضت لى يوم بدر، فأعرضت عنك، فقال له أبو بكر، لو عرضت لى يومئذ، وأمكننى الله منك، لما رددت سيفى عنك!! ولا شك أن هذه كانت تجربة ثقيلة على نفوس المؤمنين، وقد احتملوها صابرين، وكانت آيات الله تتنزل عليهم، فتبعث في نفوسهم المضطربة، سكنا، وتسوق إلى قلوبهم الملتهبة، بردا وسلاما.
ونجد في قوله تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» تصحيحا لما يقع في بعض النفوس المؤمنة من انزعاج أو استثقال لهذا العبء الذي حملوه من الإيمان بالله.. كما نجد في الآية والآيات التي بعدها إجابات قاطعة على تلك التساؤلات التي كانت تتردد في الخواطر: لم يكون الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف؟ ولم يحملنا إيماننا بالله على هذا المركب الوعر؟ ألسنا على الهدى، وعلى الصراط المستقيم؟ وهل هذا الطريق هكذا وعر المسالك، مزدحم العقبات؟
ونعم.. إن الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف، وإن طريقه وعر المسالك جمّ العقبات!! إنه الطريق إلى الجنة، وإن طريق الجنة محفوف بالمكاره! وإن هذا البلاء الذي يلقاه المؤمن على طريق إيمانه، هو ابتلاء له، وتمحيص لما عنده من صبر ومصابرة.. وهل يصفّى الذهب من الغثاء الذي علق به، إلا إذا صهر بالنار؟ «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ(10/401)
وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ»
(31: محمد) . «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (179: آل عمران) .
وهل انكشف وجه النفاق، وعرف المنافقون إلا في بوتقة الابتلاء، وفي مقام التضحية والبذل؟
إن الناس جميعا على سواء في حال الأمن والعافية.. فإذا كانت المحن والشدائد، فهم أنماط وأشكال، وهم معادن مختلفة، بين غث وثمين! والاستفهام في الآية الكريمة، للإنكار، والنفي.. أي ليس الأمر على ما يظن الناس وما يقدرون، من أنهم إذا قالوا آمنا كانوا مؤمنين.. كلّا، إن ذلك لا يكون حتى يفتنوا، وحتى يبتلوا.. وعندئذ ينكشف ما عندهم من إيمان..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» هكذا حكم الله في عباده.. فكما امتحن الله المؤمنين في الأمم السابقة، يمتحن سبحانه الذين أسلموا، بما يفتنهم، فى دينهم مما يلقاهم من شدائد ومحن..
فمن كان صادق الإيمان، سليم العقيدة، خالص النية، أمسك إيمانه في قلبه، وثبت عليه، ومن كان على غير تلك الصفة انخلع عن دينه، وألقى به لأول مسة تمسه من بلاء، وباعه بأبخس ثمن!.
- وفي قوله تعالى: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» - بهذا الأمر المؤكد- إعلان للمؤمنين بأنهم في وجه ابتلاء، وفي مواجهة فتن، لا بد لهم منها.. إن لم تكن واقعة بهم فعلا، فإنها ستقع حتما.. هكذا يجب أن يتقرر في نفوسهم من أول الطريق.. فمن شاء أن يكون في المؤمنين،(10/402)
فليوطن نفسه على هذا، وليستعد لحمل أفدح الضربات.. وإلا فليأخذ طريقا غير هذا الطريق، وأمامه أكثر من طريق فسيح.!
والمؤمنون الأولون الذين دخلوا في الإسلام، ورسخت أقدامهم فيه، هم- كما شهد التاريخ- أصفى الناس جوهرا، وأكرمهم معدنا.. فقد كانوا خلاصة مجتمعهم، وثاقة عزم، وقوة يقين.. فاحتملوا من الشدائد والمحن ما تتصدع به الجبال الراسيات.. «فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» «146: آل عمران» ومن أجل هذا، فقد شهد القرآن الكريم لهذه الصفوة المتخيرة من عباد الله أكرم شهادة، وجعل ميزان الواحد منهم يعدل عشرة من غير المؤمنين، فقال تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) ..
وأنت ترى أن الصفة التي فرق بها القرآن بين هؤلاء المؤمنين، والمشركين، هى «الفقه» .. وهو ليس ذلك العلم النظري، وإنما هو الحق الذي يملأ القلوب نورا، فيكشف لصاحبه من آيات الله، ودلائل قدرته، وعلمه، وحكمته، ما يصغر به كل شىء، إزاء عظمة الخالق وجلاله..
قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .
هو لفتة تلفت المؤمنين، الذين يعانون ما يعانون من أعباء الإيمان وتبعاته- إلى هؤلاء المشركين، الذين خلت دنياهم من هذا البلاء،(10/403)
وفرغوا لما هم فيه من متع الحياة.. فهؤلاء المشركون لهم يومهم الذي يوعدون، حيث يلقون ما يعلمه المؤمنون من سوء العذاب، الذي أعدّه الله للمشركين والمنافقين والكافرين.. إنهم لن يسبقوا يد القدرة المتمكنة منهم، وإنهم لن يفلتوا من بأس الله إذا جاءهم.. وإنهم إن ظنوا ذلك، فذلك الظن هو الذي يحملهم إلى الردى، ويسوقهم إلى الهلاك. «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
هو دعوة للمؤمنين إلى ما أعد الله لهم من نعيم، وتطمين لقلوبهم بما وعدهم به من مغفرة ورضوان، فهم لهذا الوعد يعملون، وعلى رجاء لقاء ربهم يجاهدون، ويصبرون على ما يلقون من أذى وبلاء..
- وقوله تعالى: «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ» توكيد لتحقيق وعد الله، وأنه آت لا شك فيه، ولكن في الوقت الموقوت له.. ولهذا جاء النظم بلفظ «أجل» بدلا من اللفظ الذي يقتضيه سياق النظم وهو «اللقاء» .. وذلك للإشعار بأن هذا الوعد له أجل محدود، عند الله، وأنه متى جاء الأجل، التقى المؤمنون بما وعدهم الله به.
- وقوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» السميع لما يقول المؤمنون بألسنتهم، العليم بما انعقد في القلوب من إيمان، يصدّقه العمل..
قوله تعالى:
«وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» .
وهذا البلاء الذي يحتمله المؤمنون، وهذا الجهاد الذي يجاهدونه فى(10/404)
سبيل الله، إنما هو تزكية لأنفسهم، وتطهير لقلوبهم، وإعلاء لذواتهم..
وإنه ليس لله من أعمال عباده ما ينفعه أو يضره.. فلا ينفعه طاعة المطيعين، ولا يضره عصيان العاصين.. وكيف، وهو سبحانه الذي يقوم على وجودهم ويحفظ عليهم حياتهم، ويمدّهم بكل نفس يتنفسونه في هذه الحياة؟ «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» .
إن هذا الجهاد، وهذا الصراع القائم بين الحق والباطل، وبين المؤمنين والكافرين، هو ضريبة الحياة، وهو الثمن الذي يقدمه المؤمنون المجاهدون في سبيل حياة أفضل.. فهم أصحاب الحياة بحق، وغيرهم دخيل عليها، لا يستحق أن يأخذ مكانا كريما فيها.. فجهاد المجاهدين، هو فى الواقع، جهاد في سبيل وجودهم، وجودا كريما في هذه الحياة الدنيا، وإلّا فالموت في مجال الصراع خير لهم، حيث ينقلون إلى دار خير من دارهم، وإلى حياة أفضل من حياتهم..
إن النبتة لا ترى النور، ولا تصافح النسيم، حتى تدفع برأسها الواهي الضعيف هذا التراب الذي قام فوقها، وحجب النور عنها..!!
وفي الإنسان- كل إنسان- أشواق إلى عالم الحق والنور، وتقوم بينه وبين هذا العالم سدود من الباطل والضلال، وإنه لكى يصافح معالم الحق والنور، ينبغى أن يزيل هذه السدود، وأن يحطمها بكل ما أوتى من قوة، وألا يتحول عن موقفه منها حتى يبلغ غايته، أو يموت دونها.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» .(10/405)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
هو احتراس مما تقرر في الآية السابقة من أن جهاد المجاهدين، وما يصيبهم على طريق الجهاد، هو لهم، وليس لله منه شىء.. وهذا الاحتراس يدفع ما يقع في النفوس من أن الجهاد والبلاء لا أجر له عند الله.. وكلا، فإنه مع أن أجر الجهاد فيه، وأن ثمرة كل عمل صالح يجنبها صاحب العمل من العمل نفسه- مع هذا فإنه الله سبحانه وتعالى، قد جعل للعمل الصالح جزاء حسنا من عنده، كما توعد أصحاب السيئات والمنكر بالعذاب الأليم..
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات قد وعدهم الله بأن يكفر عنهم سيئاتهم، بما عملوا من حسنات، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» .
«114: هود» كما وعدهم بأن يجزيهم بإحسانهم إحسانا مضافا، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ»
الآيات: (8- 13) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)(10/406)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» قلنا إن المؤمنين قد ابتلوا أول الإسلام بلاء عظيما، حيث فرق الإسلام بين ذوى الأرحام، وقطّع ما بينهم من صلات المودة.. وقد أشرنا إلى ذلك فى آخر سورة القصص، وفي أول هذه السورة..
وهذه الآية تعرض قضية من قضايا هذا الصراع النفسي الذي أوجده الخلاف في الدين بين الآباء والأبناء..
فالآباء الذين دعوا إلى الإسلام، قد وقفوا موقف العناد، وأبوا أن يتحولوا عما ألقوه من عادات ومعتقدات، وقليل منهم من آمن الله..
والأبناء، كانوا أقرب إلى الإسلام، إذ لم تكن فطرتهم قد انطمست معالمها بعد، بموروثات آبائهم وأجدادهم، فحين دعوا إلى الدين الجديد، استجابوا له.. وقليل منهم من حزن وأبى! والأمثلة هنا كثيرة.. فقد سبق أبو بكر إلى الإسلام، وتأخر أبوه إلى يوم الفتح.. وعلى بن أبى طالب، سبق إلى الإسلام ولم يسلم أبوه.. وهكذا.
فماذا يكون الموقف بين أبناء مؤمنين وآباء مشركين؟ إن الإسلام يوصى ببر الوالدين، وطاعتهما، والإحسان إليهما.. فماذا يكون الموقف لو أن الوالدين المشركين أرادا ابنهما على أن يرتد عن دينه الذي دخل فيه، ويعود إلى دينهم مشركا؟ أيطيعهما، ويرتد مشركا، أم لا يلتفت إليهما، ولا يسمع لقولهما؟(10/407)
وجواب الإسلام على هذا هو أنه لا ينكر حق الوالدين، والطاعة المفروضة على الأبناء لهما، ولكن هذا، حق إذا تعارض مع حق هو أولى منه، قدّم الحق الأولى عليه..
وهنا حق أول، لزم الابن، ووجب عليه، هو الإيمان بالله.. وإن أي حق يتعرض هذا الحق لا يلتفت إليه..
وإذن، فالذى يقتضيه الموقف الذي يقفه الابن المؤمن من والديه المشركين، هو أن يلزم جانب الإيمان بالله، وألا يجعل من طاعته لهما عصيانه لله، وكفره به، على أن يلتزم الابن- ما استطاع- حدود الأدب معها، وألا يعنف بهما، وألا يسوق شيئا من الأذى إليهما، وحسبه أن يظل ممسكا بدينه، حريصا عليه، لا تنال منه أية قوة، مهما كان بأسها، وسلطانها..
وفي قوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» دعوة إلى التمسك بالدين، على الرغم من مجاهدة الوالدين للابن، وقسوتهما عليه، وأخذه بكل ما لهما عليه، من سلطان مادى أو أدبى.
وقوله تعالى: «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» - إشارة إلى أن المعتقد الدسني السليم، يجب أن يقوم على أساس من العلم، الذي يقيم لصاحبه تصوّرا واضحا، وإدراكا سليما للإله الذي يعبده.. أما أن يدين الإنسان بما دان به آباؤه وأجداده، من غير أن يكون له نظر وفهم، ومن غير أن يجد بين يديه الحجة والبرهان على أحقية معبوده بالعبادة، فذلك معتقد لا ينتفع به صاحبه، وإن كان في ذاته معتقدا سليما، لأنه لم ينبع عن إرادته، ولم يتصل بمشاعره. فهو كائن غريب في كيانه، وهذا يعنى أن الأبوين- أحدهما أو كليهما- إذا كانت منهما دعوة إلى ابنهما أن يعبد إلها غير الله، وأن يدين بدين غير الإسلام، الذي آمن به عن نظر(10/408)
واقتناع- فليس ذلك بالذي يمنع الابن من أن ينظر في هذه الدعوة الجديدة التي يدعى إليها من أبويه، وأن يتعرف على هذا الإله الذي يراد منه أن يعبده..
فليس الإسلام بالذي يحجر على العقل أن ينظر في كل دين، وأن يبحث في كل معتقد، وأن يتفرس وجوه الآلهة التي يعبدها العابدون.. فهذا النظر وذلك البحث والتفرس، سينتهى آخر الأمر إلى حقيقتين:
أولاهما: أنه سيسقط من الحساب كلّ ما يقع عليه النظر من آلهة غير الله سبحانه وتعالى.. وأنه كلما تفرس المرء في وجه من وجوه هذه الآلهة التي تعبد من دون الله، أنكره، وارتفع بإنسانيته عن أن يعفر وجهه فى معبد لحجر، أو صنم، أو حيوان.. أو إنسان.. وبهذا النظر يفيد الإنسان علما، وهو أن المعبود الحق، هو الله جل وعلا، وأن أي معبود آخر، لا يجد العقل من جهته علما يمسك منه بحجة أو برهان على ألوهيته- هو معبود باطل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» .. وما يشير إليه قوله سبحانه في آية أخرى: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) وثانيتهما: أن هذا النظر المتفحص، الذي يطلب علما، ويرتاد حقيقة، من شأنه أن يثبت إيمان المؤمن بالله، ويكشف له من جلال الله وعظمته، وعلمه، وقدرته- ما يملأ قلبه يقينا بربه، وطمأنينة إلى الدين الذي يدين به، فيعبد الله مخلصا له الدين، غير متعرض لما يتعرض له غيره من اهتزاز في إيمانه، واضطراب فى عقيدته، كلما مرت به محنة، أو أصابته فتنة.. فيكون ممن قال الله فيهم:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» (11: الحج) ولهذا كان من تدبير الإسلام دعوة المؤمنين إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وإعمال العقل في كل(10/409)
ما يعرض للمؤمن من أمر، ولقد جعل الإسلام النظر والتدبر، عبادة يتقرب بها المؤمن إلى ربه، ويبغى بها المثوبة والرضوان.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» هو دعوة للوالدين المشركين، أن يأخذا طريقهما إلى الإيمان والعمل الصالح، ليكونا في عباد الله الصالحين، وليفوزا بما أعد الله سبحانه وتعالى لهما من رضا ورضوان.. ثم هو دعوة للأبناء المؤمنين أن يستمسكوا بدينهم، وأن يحتملوا فى صبر ورضا ما يلقون من آلام مادية ونفسية، ليظلوا في عباد الله المؤمنين الصالحين.. ثم هو دعوة عامة للناس جميعا، إلى الإيمان بالله، والعمل الصالح..
فالمؤمنون مدعوون ليتمسكوا بإيمانهم، ثم ليؤدوا لهذا الإيمان مطلوبه من الأعمال الصالحة.. وغير المؤمنين مدعوون ليؤمنوا بالله أولا، ثم ليعملوا صالحا.. فهذا هو طريق النجاة والفلاح..
قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ، وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» .
هو مثل شارح لقوله تعالى في أول السورة: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» ولقوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» ..
ففى هذا المثل عرض لصورة من صور الذين يقولون آمنا بأفواههم، ولم تطمئن قلوبهم بالإيمان.. فمثل هؤلاء المؤمنين، إذا أصابهم على طريق(10/410)
الإيمان شىء من الضر أو الأذى المادي أو النفسي، خلعوا ثوب الإيمان، وتجردوا منه، وارتدّوا على أدبارهم خاسرين..
- وقوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ» أي من بعض الناس من يجرى كلمة الإيمان على لسانه، ويحسب بهذا أنه من أهل الإيمان حقا..
والإيمان- كما قلنا- ليس مجرد هذه القولة التي ينطق بها اللسان، وإنما للإيمان تبعاته، وله أعباؤه وتكاليفه، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه.. فمن لم يؤد للإيمان حقه الذي له، فليس من الإيمان في شىء!.
- وقوله تعالى: «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» - إشارة إلى أن هذا الذي يؤمن بلسانه، ولا ينعقد الإيمان في قلبه- إذا أصيب بأذى في سبيل الإيمان، أسرع بالتحول عنه، ونسى أنه بهذا وإن يكن قد خلص من أيدى الناس، وسلّم من أذاهم، فقد وقع ليد الله، ولبأسه وعذابه..
وشتان بين عذاب الله، وعذاب الناس وقوله تعالى: «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» أي أن ضعاف الإيمان هؤلاء، يلبسون الإيمان ظاهرا، فإذا مسهم الأذى تجردوا منه، وإذا ساق الله إلى المؤمنين خيرا، ومنحهم نصرا، جاء هؤلاء المتلصصون، ليأخذوا نصيبهم مع المؤمنين، فيما أفاء الله عليهم من خير.
- وقوله تعالى: «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» - هو تهديد لهؤلاء المنافقين الذين لم يظهروا بعد، على مسرح الحياة الإسلامية، وإن كانوا سيظهرون، وشيكا حين يلتحم القتال بين المؤمنين والمشركين..
وأنه إذا كان المؤمنون لا يعلمون من هؤلاء المنافقين إلا هذا الظاهر(10/411)
الذي يدخلون به مدخل المؤمنين، فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون.
والآية الكريمة إرهاص بما ستكشف عنه الأيام، من إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، حين يبتلى المؤمنون بالجهاد في سبيل الله، ويدعون إلى تقديم أنفسهم وأموالهم دفاعا عن دينهم الذي دانوا لله به..
فالآية مكية، ولكنها تشير إلى ما سيكتب الله للمؤمنين من نصر، وما يسوق إليهم من رزق كما يقول سبحانه: «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ» ..
وهذا من أنباء الغيب، التي حمل القرآن الكريم كثيرا منها..
قوله تعالى:
«وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» .
هو توكيد، لما سيلقى المؤمنون على طريق الجهاد من امتحان وابتلاء..
وأن هذا من شأنه أن يكشف عن حقيقة ما عند كلّ منهم من إيمان.. وعندئذ يعرف من المؤمنون، ومن المنافقون..
فالعلم هنا في قوله تعالى: «وَلَيَعْلَمَنَّ» ليس مرادا به العلم في حقيقته، وإنما المراد به ما يلزم عنه العلم، وهو الابتلاء والاختبار.. وهذا يعنى أن الابتلاء أمر لازم لا بد منه، قد أوجبه الله سبحانه وتعالى على نفسه، وأقام المؤمنين على الامتحان به!.
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ(10/412)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ»
ومما يبتلى به المؤمنون على طريق الإيمان، هذه الفتن التي تطلع عليهم من إخوان السوء، وأهل الضلال والكفر، من الآباء والأهل والأصدقاء، حيث يزينون لهم الضلال، ويدعونهم إليه، فإذا حدثوهم عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، هوّنوا عليهم الأمر، وقالوا لهم: لا تخشوا شيئا إن كان هناك آخرة، وكان حساب وجزاء، فنحن الذين دعوناكم إلى ما نحن فيه، ونحن نحمل تبعة هذا عنكم، فما أنتم إلا تبع لنا في هذا المقام..!
وقد كذبهم الله سبحانه وتعالى في دعواهم تلك، فقال سبحانه «وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. إذ كل نفس بما كسبت رهينة، وليس لإنسان أن يتولى أمر إنسان، ويحمل تبعته.. فكل إنسان له ذاتيته، وعليه مسئولية ما يعمل.. هكذا الإنسان، أو هكذا يجب أن يكون!.
وقوله تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» أي أن هؤلاء الضالين، الذين يعملون على إضلال غيرهم، سيحملون فعلا ذنوبهم هم، وذنوب الذين أضلوهم، على حين لا يرفع عن كاهل الذين أضلوهم ما حملوا من ذنوب، فهذه الذنوب هي من كسبهم، لا تحسب على أحد غيرهم.. ثم إنها- من جهة أخرى من غرس الذين دعوهم إليها وأصلّوهم بها. فلا بد أن يطعموا من ثمرها الفاسد المشئوم!.
الآيات: (14- 18) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)(10/413)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أنها تعرض في إيجاز معجز، صورتين من صور الصراع بين الحق والباطل، فتواجه بهاتين الصورتين، هذا الصراع القائم بين المؤمنين والمشركين.. بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- والمؤمنين معه، وبين المشركين ومن اجتمع إليهم..
وفي الصورة الأولى، يرى المشركون أنفسهم في قوم نوح، الذي طول مقامه فيهم حتى بلغ ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم ينفعهم هذا الزمن الطويل، الذي وقفوا فيه إزاء دعوة الحق. ولم تلتق طريقهم مع طريقه.. فكان أن أخذهم الطوفان، وهم متلبسون بكفرهم، يحملونه معهم إلى يوم الجزاء.. أما نوح ومن آمن معه، فقد نجاهم الله، وكان في نجاته آية للعالمين..
وفي الصورة الثانية: يرى المشركون أيضا رسولا من رسل الله، هو جدهم الأعلى، إبراهيم، عليه السلام، يقوم في قومه مقام محمد فيهم. فكل من النبيين الكريمين- إبراهيم ومحمد- عليهما السلام يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وإلى الانخلاع عن عبادة الأوثان التي يخلقونها بأيديهم وإن عبادة تلك الأوثان(10/414)
ضلال، وامتهان لكرامة الإنسان.. إنها لا تملك لهم رزقا.. وإنما لذى يبتغى عنده الرزق، هو الله رب العالمين..
هذه هي دعوة كلا النبيين الكريمين، وقد بلغها كل منهما إلى قومه، كما أمره ربه «وما على الرسول إلا البلاغ المبين» ..
ويلاحظ هنا، أن قصة نوح تحمل إنذارا بالهلاك العام الشامل للكافرين جميعا، على حين أن قصة إبراهيم لم تحمل نذيرا بالعذاب الذي سيحلّ بالمشركين فما سر هذا.
نقول- والله أعلم- إن قصة نوح تمثل الدور الأول من الدعوة الإسلامية وذلك في مكة قبل الهجرة.. وأن هجرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلى المدينة مع أصحابه، كانت أشبه بسفينة نوح، حيث وجد المسلمون في المدينة أمنا وسلاما، وحيث غرق المشركون في موقعة بدر، ومن لم يغرق منهم في ميدان القتال، مات غرقا في بحر الكفر والضلال، قبل أن يدركه الإسلام يوم الفتح، أما من ظل منهم على الحياة، يتخبط في أمواج الضلال، فقد انتشله الرسول الكريم يوم الفتح، وألقى به في سفينة النجاة، يوم ألقت مراسيها على المرفأ الذي أقلعت منه..!
أما قصة إبراهيم فإنها تصافح قصة نوح، وتلتقى بسفينة النجاة التي حملت النبي ومن معه إلى المدينة، ثم عادت بهم يوم الفتح إلى مكة.. وهناك يقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، موقف إبراهيم يوم أقبل على الأصنام فحطمها، وجعلها جذاذا.. فقد أقبل النبي يوم الفتح على جماعات الأصنام التي كانت منصوبة حول الكعبة، فقلبها على وجوهها محطّمة، وهو يتلو قوله تعالى: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» .. «81: الإسراء»(10/415)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
ولعل هذا، هو السر في اختيار هاتين القصتين هنا، من بين قصص الأنبياء التي جاء بها القرآن الكريم، إذ كان في قصة نوح هلاك ونجاة معا، هلاك للكافرين ونجاة للمؤمنين.. ثم كان قصة في إبراهيم بلاغ مبين، هو غاية ما يطلب من رسول الله إلى عباد الله..
وقد رأينا أنه في الدور الأول للدعوة الإسلامية، قد نجا النبي ومن معه، وهلك مشركو قريش ومن معهم.. ثم رأينا يوم الفتح، ثم في حجة الوداع، كيف حطم النبي الأصنام، وبلغ رسالة ربه، بلاغا مبينا، وأشهد على ذلك المؤمنين جميعا، قائلا بعد كل مقطع من مقاطع خطبته: «هل بلغت؟
اللهم فاشهد..» .. ثم دعا الشاهدين أن يبلغوا من لم يشهد: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب» ..
ألا خرست ألسنة تقول في هذا القصص: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وألا خسىء وخسر المبطلون..، «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ..» «77- 80: الواقعة»
الآيات: (19- 25) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)(10/416)
التفسير:
إن قصة إبراهيم لم تتم بعد، وستأتى بقيتها، بعد تلك الآيات التي جاءت فى مساق القصّة، لتكشف لهؤلاء المشركين، قديما وحديثا، عن ضلالهم، وسفاهتهم، وضعف أحلامهم، إذ ينحتون أحجارا ثم يعبدونها، ويجعلونها مشاركة لله سبحانه وتعالى، فى الملك والتدبير، وفي النفع والضر..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو إلفات لهؤلاء المشركين، إلى مالله سبحانه وتعالى من قدرة مطلقة لا حدود لها، وأنه سبحانه هو الذي أوجد هذا الوجود، وأنشأ هذه المخلوقات، وهو سبحانه الذي سيعيدها كما بدأها.. إن ذلك البدء، والإعادة، أمر يسير على الله، لا يتكلف له جهدا، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون..
والمراد بالرؤية هنا، رؤية العلم، الذي يكشف للإنسان حقائق الأشياء، كما يكشف البصر صور المرئيات.. والاستفهام معطوف على محذوف، تقديره:
أعموا ولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده؟(10/417)
قوله تعالى:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وهذا الأمر مترتب على ما سبق في الآية السابقة، التي نخست هؤلاء الغافلين، تلك النخسة الموجعة، لما هم فيه من عمى وضلال عن آيات الله.. وأنهم إذا كانوا لم يعلموا، فليطلبوا العلم.. وها هي ذى سبل العلم ميسرة، فليسيروا فى الأرض، وليقلبوا وجوه النظر فيها.. وهذا أسلوب من أساليب تحصيل العلم بالتجربة الحسية، والانتقال من المحسوس إلى المعقول، على حين كان أسلوب تحصيل العلم في الآية السابقة عن طريق التأمل والتدبر.. وهذا الأسلوب التجريبي في تحصيل العلم، وإن كان له جلاله وخطره في لمس الحقيقة، إلا أنه دون الأسلوب الأول الذي يحصّل فيه العلم بتوجيه العقل مباشرة إلى الحقيقة، مستهديا في ذلك بحدسه، وبصيرته.. وذلك في مجال البحث عما وراء الطبيعة من الغيبيات، التي تتعلق بالبعث والقيامة، والحساب والجزاء.. فهذه الأمور وأمثالها لا يمكن إدراكها عن طريق الحسّ، ولا بتقليب النظر في المدركات الحسية.. وإن كان المدركات الحسية شأن هنا، فإنما هو فيما يبدو منها من إشارات خافتة، وما يندّ منها من شرارات متطايرة، فإذا وجدت هذه الإشارات بصيرة نافذة، وعقلا متفتحا، كانت منطلقا للمدارك الإنسانية العليا نحو الحقيقة، وإذا وجدت هذه الشرارات المتطايرة قلبا يجمعها إليه اتقدت منها جذوة تضىء جوانب النفس وتكشف للعقل معالم الطريق إلى الحق والهدى..
قوله تعالى:
«يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» .. أي كما(10/418)
أن من قدرة الله أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، فإن من قدرته كذلك أن يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء.. لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه في عباده..
وقدّم العذاب على الرحمة هنا، لأن الموقف في مواجهة المشركين الضّالّين الذين أنذروا، فلم تغنهم النذر، فكان من البلاغ والبلاغة في آن- عند دعوتهم إلى الله- أن يروا العذاب الذي أنذروا به، وأن يستشعروا أنهم أهله، فإذا كان لذلك العذاب وقع كريه في نفوسهم، فهذه أبواب الرحمة مفتحة لمن يطرقها إلى الله، والإيمان به.
وفي قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» - إشارة إلى أن مسيرة الإنسان بدأت من عند الله سبحانه وتعالى، وانطلقت من يد قدرته.. وأن مسيرة الناس في الحياة، لها نهاية تنتهى عندها، ثم تنقلب راجعة إلى الله من حيث بدأت.. فمن يد القدرة انطلقت، وإلى يد القدرة تعود.. كما يقول سبحانه:
«إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
(8: العلق) والرجوع إنما يكون بالعودة إلى مكان البدء، والانطلاق..
قوله تعالى:
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
هو توكيد لقدرة الله المطلقة، وأن هذه القدرة لا يعجزها الإنسان، فى أي منطلق ينطق إليه، سواء أكان منطلقه في الأرض أم في السماء.. فالله سبحانه، له ما في الأرض وله ما في السماء.. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا ملجأ للإنسان من الله إلا إليه، وأنه إذا طلب معينا يعينه، فلن يجد العون إلا عند الله، ومن الله..(10/419)
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
فى الآية حكمان واقعان على الذين كفروا بآيات الله واليوم الآخر..
الحكم الأول: أنهم في يأس من رحمة الله.. إنهم لا يرجون رحمة الله، لأنهم لا يؤمنون به.. ولو كانوا يؤمنون بالله لآمنوا باليوم الآخر، ولعملوا في هذه الدنيا أعمالا صالحة، يرجون بها رحمة الله، ويبتغون ثوابه..
والحكم الآخر: أن لهم في الآخرة عذابا أليما، إذ لم يكن لهم نصيب من رحمة الله.. لأنهم لم يرجوها ولم يعملوا لها.
قوله تعالى:
«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» تجىء هذه الآية فتصل أحداث قصة إبراهيم، التي فصلت بينها الآيات السابقة، التي جاءت في سياق القصة- تجىء والنفوس متشوقة إلى متابعة أحداثها، والأبصار شاخصة إلى ما يطلع عليها من وجوه الأحداث المتوقعة، فكان ذلك القطع لمجريات الأحداث، أشبه بصدمة قوية، تتنبّه لها حواسّ الإنسان وتستيقظ لها مشاعره ومدركاته، لينظر ماذا جرى، وماذا هناك من أمر قطع تيار الأحداث التي تجرى فيها القصة.. وهنا تلقاه هذه الآيات التي تلفت الأنظار- فى قوة- إلى قدرة الله، وإلى ماله من تدبير وتصريف، فى هذا الوجود، وأنه سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده، وأنه يعذّب من يشاء ويغفر لمن يشاء،(10/420)
وأنه- سبحانه- لن يعجزه هارب في السماء أو في الأرض. فإذا وعى الإنسان ذلك كلّه، لقيته أحداث القصة من جديد، وطلعت عليه بالجواب الذي كان يريد أن يعرف مضمونه من فم القوم، بعد أن دعاهم إبراهيم- عليه السلام- إلى الله، وإلى ترك ما يعكفون عليه من أصنام.. فلقد وقفت أحداث القصة عند مقولات إبراهيم لقومه، وحين تهيأت النفوس لاستقبال جوابهم الذي يحدّد موقفهم من هذه المقولات- انتقلت بهم الآيات إلى موقف آخر غير هذا الموقف، وكادت تعزلهم عنه عزلا تاما، حتى إذا كادوا ينسون أحداث القصة، طلع عليهم الوجه الغائب عنهم منها.. وهو جواب القوم وردّهم على مقولات إبراهيم..
فانظر في وجه هذا الإعجاز، واسجد لله في محراب عظمة آيات الله وجلالها.. وإنك لترى الكلمات أحداثا متحركة، وشخوصا حية عاقلة، تتبادل فيما بينها المواقف، كما يتبادل المجاهدون مواقفهم في ميدان الجهاد، حيث يتحرف المجاهد للقتال، أو ينحار إلى فئة، حسب ما يرى ويقدر، لسلامة الموقف، وتحقيق النصر، دون أن يولى ظهره، أو يستسلم لعدوّه..
هكذا نرى آيات الله، فى مقام الدعوة إلى الله.. إنها جنود سماوية في ميدان الجهاد لإزاحة الضلال من العقول، وكشف العمى عن القلوب..!
«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
هذا هو الجواب لمن كان ينتظر الجواب.. وإنه لجواب أهل السّفه والضلال لكل قول كريم يقال لهم، وإنه لردّ أهل الزّيغ والفسوق على كل دعوة رشيدة يدعون إليها..
فماذا يكون جواب هؤلاء المشركين من أهل مكة لمقولات النبيّ التي(10/421)
قالها لهم، وماذا يكون ردّهم على دعوته التي يدعوهم إليها؟
لقد قالوا أسوأ القول، وردوا أفحش الردّ.. قالوا إنه ساحر، وقالوا إنه مجنون، وقالوا إنه كاذب مفتر.. وقالوا: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» ..
«30: الطور» وقالوا: اعتزلوه وأهله.. وقالوا اقتلوه ضربة رجل واحد، فيذهب دمه في قبائلكم بددا..!
فماذا كانت خاتمة هذا الصراع؟ لقد أنجاه الله منهم وخلصه من كيدهم، وأطفأ لهيب هذه الأفواه التي كانت ترمى بالشرر من نار العداوة البغضاء.. تماما كما نجى الله إبراهيم من النار، وجعلها بردا وسلاما عليه.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» يراها ذوو العقول الرشيدة، ويشهدها أصحاب البصائر المبصرة، فى تلك القوى الغيبية التي تطلع من حيث لا يراها أحد، فتحيل الضعف قوة والقوة ضعفا، وتجعل النار بردا وسلاما! قوله تعالى:
«وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» هذه هي قوله الحق، ينطق بها إبراهيم، وينطق بها محمد، وينطق بها الوجود كله، ردّا على هذا الرد السفيه الأحمق، الذي ردّ به هؤلاء السفهاء الحمقى، على ما دعوا إليه من حق وهدى وخير..
- وفي قوله: «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» تقرير لأمر واقع.. فهم إنما اتخذوا فعلا أوثانا، يعبدونها من دون الله.. ولكنّ في إعلامهم بها، وكشف وجوهها لهم، تسفيها لهم، ووضعا لجسم الجريمة بين أيديهم، تماما كما يوقف(10/422)
القاتل على جنة قاتله في مواجهة الاتهام والمساءلة! - وقوله سبحانه: «مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .. هو بدل من قوله تعالى:
«أَوْثاناً» .. وهذا يعنى أن الأوثان، والمودة مثلان متعادلان.. فالأوثان في هذا التقدير ليست إلا هوى من أهوائهم، وإلا كئوسا من الإثم، يتعاطونها، ويجتمعون عليها، فنقيم بينهم من التآلف والتوافق، ما تقيم مجالس الشراب بين الشّرب من اختلاط وامتزاج.. ثم إذا كانت لأحدهم صحوة بعد هذا، ونظر نظرة سليمة إلى حاله تلك، أنكر هذه المجالس الآثمة، وأنكر أهلها، ولعن كل وجه كان يلقاه فيها..
وعلى هذا نجد وضع الآية الكريمة هكذا: وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا، فجعلتم هذه المودة القائمة على الهرى، هى الرباط الذي ربط بينكم، وجمعكم على هذا الضلال الذي أنتم عليه.. ولكن أين هذا من نظم القرآن وإعجازه؟ وأين الأرض من السماء؟
- قوله تعالى: «يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» أي ويوم القيامة ينكشف لكم الأمر، وتنقلب هذه المودة بغضة وعداوة، فيكفر بعضكم ببعض، وينكر بعضكم بعضا، ويلعن بعضكم بعضا، كما يقول سبحانه: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .. فالمودة التي تقوم بين المؤمنين مودة قائمة على التقوى والخير، يلتقى عليها المؤمنون في الدنيا والآخرة، كما يقول سبحانه في أهل الجنة: «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (47: الحجر) والمودة القائمة على الهوى والضلال، لا يلتقى أهلها يوم القيامة إلا على العداوة والمقت والبغضاء، وفي هذا يقول الله تعالى: «قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ(10/423)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ»
(27- 28 ق)
الآيات: (26- 35) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(10/424)
تتصل قصة «لوط،» بقصة «إبراهيم» - عليهما السلام- لأن لوطا كان من قوم إبراهيم، وقد اختلف في قرابته لإبراهيم، ودرجة هذه القرابة، وليس لهذه القرابة كبير وزن هنا، إذ كانت بين لوط وإبراهيم تلك القرابة الموثقة التي لا تنقصم أبدا، وهي النسب الذي جمعهما على الإيمان بالله، فكان لوط من الذين استجابوا لإبراهيم وآمنوا بالله.. فهذا الإيمان هو جامعة النسب بينهما.
وقوله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» أي استجاب له، ولهذا عدى الفعل بحرف الجر اللام.. فإن الإيمان بكذا، غير الإيمان لكذا. إذ أن الإيمان بالشيء، هو اعتقاده، وتيقنه كالإيمان بالله، والإيمان بالبعث، والجزاء، والجنة والنار..
أما الإيمان للشىء، فهو الإقبال عليه، والاستجابة له.. قال تعالى: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) فالاستجابة إقبال على الله، والإيمان ثقة بالله، واستيقان من صفات الكمال المتصف بها سبحانه.
وفي قول لوط: «إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» - إشارة إلى ما يقتضيه الإيمان بالله من ابتلاء بضروب من الشدائد والمحن..
والهجرة إلى الله، هى الاتجاه إليه سبحانه، والانخلاع عن كل ما يعوّق مسيرة المؤمن على طريق الإيمان، حيث يتخطى المؤمن المهاجر إلى الله كلّ ما يعترض طريقه، من أهل، ومال، ووطن، وحيث لا يلتفت إلى ما يصيبه في نفسه من ضر وأذى، ولو كان الموت راصدا له.
وفي هذا إشارة للمؤمنين، الذين كانوا تحت يد قريش، يسامون الخسف، ويتجرعون كئوس البلاء مترسة.. إنهم في هجرة إلى الله، وإن لم يهاجروا من بلدهم، ولم يخرجوا من ديارهم.. وإنهم لفى هجرة إلى الله، إن هم خرجوا من ديارهم، وهاجروا من بلدهم..(10/425)
فالمؤمن بالله إيمانا حقّا، فى هجرة إلى الله دائما، ما دام قائما على طريق الحق، والخير.. يهجر كل منكر، ويجتنب كل فاحشة، وفي الحديث:
«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه..»
وقد كانت هجرة «لوط» إلى ربه هجرة مباركة، إذ التقى على طريقه إلى الله، بالنبوّة، فكان من المصطفين الأخيار من عباد الله المكرمين.
قوله تعالى:
«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» .. وهو تتمة لقصة إبراهيم، وفي عطف هبة الله سبحانه تعالى لإبراهيم إسحق ويعقوب- على إيمان لوط له- إشارة إلى أن إيمان لوط لإبراهيم واستجابته له، هو من كسب إبراهيم، ومن النعم الجليلة التي أنعم الله بها عليه. كما أنعم عليه بالولد بعد الكبر..
وفي تأخير الإنعام بالولد، على إيمان «لوط» مراعاة للترتيب الزمنى من جهة، إذ كان إيمان لوط واستجابته لإبراهيم أسبق زمنا من البشرى بإسحاق..
ثم هو من جهة أخرى جزاء حسن، على هذا الفعل الحسن الذي كان من نتاجه ميلاد لوط في الإسلام، بدعوة إبراهيم.. فقد ولد إبراهيم لله ولدا، هو «لوط» .. فأخرج الله من صلب إبراهيم ولدا في الإسلام! وهذا ما يشير إليه- قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا» .. فهذا الولد هو بعض أجره في الدنيا.
- وفي قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» - إشارة إلى حصر النبوّة في ذرّية إبراهيم، من بعده، بمعنى أن الأنبياء الذي استقبلتهم الحياة من بعد إبراهيم كانوا جميعا من ذريته.. أما الأنبياء الذين سبقوه فكانوا من ذرية نوح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ(10/426)
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ»
(26: الحديد) .. فمن ذرية هذين النبيين الكريمين كان أنبياء الله جميعا..
وأما «الكتاب» - فهو الرسالة السماوية التي يتلقّاها النبيّ من ربّه، وبهذا يكون نبيّا ورسولا..
وهذا يعنى أن الأنبياء والرسل من بعد إبراهيم كانوا من ذرّية هذا النبيّ الكريم..
قوله تعالى:
«وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
الفهم الذي أستريح إليه في قوله تعالى: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» .. أنه معطوف على قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» .. وفي هذا ما يشير إلى أن لوطا هو من بعض الهبات الجليلة التي وهبها الله إبراهيم عليه السلام، على ما أشرنا إليه من قبل.
وعلى هذا، يكون الظرف في قوله تعالى: «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» متعلّقا بالفعل «ووهبنا» وهذا يعنى أن هذه الهبة لم تظهر على وجهها الصحيح إلا بعد أن تلقّى «لوط» النبوّة من ربّه، وحمل الرسالة إلى قومه..! ولعل فى هذا ما يكشف عن السرّ في عروج الملائكة المرسلين من عند الله إلى لوط- على إبراهيم، وإخبارهم إياه بما أرسلوا به إلى قوم لوط من مهلكات، وما كان من تلهف إبراهيم على لوط، وخوفه أن يناله من سوء إذا دمّرت القرية التي هو فيها، فيقول إبراهيم في لهفة: «إِنَّ فِيها لُوطاً!!» .. فكان جواب الملائكة: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها.. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» .(10/427)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
وقوله تعالى: «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» هو من قبيل قوله تعالى: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» (27: البقرة) .
وقد قلنا في تفسير قوله تعالى: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» .
إن الذي أمر الله به أن يوصل، هو إيمان الفطرة، مع إيمان الدعوة، وأن الكافرين بكفرهم وتأبّيهم على الاستجابة لدعوة الرسول، قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهو الإيمان المركوز في الفطرة، بالإيمان الذي يدعو إليه الرسول..
وهنا في قوله تعالى: «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» . إشارة إلى ما يرتكبه قوم لوط من قطع سبيل الفطرة السليمة، التي تدعو إلى اتصال الذكر بالأنثى، والرجل بالمرأة، وذلك باعتزالهم النساء، وإتيانهم الذكران.. وذلك قطع منهم للسبيل المستقيم، الذي تسير عليه الكائنات جميعا، حيث يأخذون هم سبيلا غير هذه السبيل! - وقوله تعالى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» . إشارة إلى أن القوم كانوا من الفجور وجفاف ماء الحياء من وجوههم، بحيث لا يجدون حرجا في أن يأتوا هذا المنكر علانية، وهم في مجتمعهم الذي يجتمعون فيه.. وهذا غاية ما يتردّى فيه الإنسان، فى طريق الانحدار إلى عالم الحيوان..
هذا وقد عرضنا من قبل لتفسير قصة لوط مع قومه في أكثر من موضع، فلا داعى لإعادة ذلك هنا..
الآيات: (36- 40) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)(10/428)
التفسير:
فى هذه الآيات عرض موجز معجز، لقصص بعض الأنبياء، الذين كذّبوا من أقوامهم، وما أخذ الله به هؤلاء المكذبين من نكال وعذاب.. وفي هذا العرض الموجز ترتسم الأحداث في أعين المشركين، وتتجسد في خواطرهم، بحيث تبدو كأنها حدث واحد، يعرض عرضا كاشفا لجميع وجوهه.
قوله تعالى:
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» .
إنه في نظرة واحدة نطوى صفحة مجتمع فاسد.. ففى هذا العرض يختصر الزمان، وتجتمع أطرافه كلها في البؤرة التي كانت تدور حولها الأحداث سنين طويلة.
فهذا شعيب، يلقى كلمته الأخيرة إلى قومه.. وهؤلاء القوم قد أعطوه جوابهم الأخير أيضا.. وهذا هو حكم الله فيما بين الطرفين.. «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ»(10/429)
قوله تعالى:
«وَعاداً وَثَمُودَ.. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» .
وهذان مجتمعان كبيران، من مجتمعات الضلال.. بينا تراهم العين في دورهم العامرة، ودنياهم المزهرة، ثم يرتد الطرف إليهم، فلا يجد إلا خرابا شاملا، وإلا قفرا موحشا..
إنه لم يذكر عن عاد وثمود ما كان من دعوة الرسولين الكريمين إليهما، وما كان من القوم من رد فاجر آثم على هذه الدعوة.. كما أنه لم يذكر ما حل بهما من نقم الله.. إذ كان الأمر ماثلا للعيان..
فهذه هي مساكن القوم، يراها المشركون، وقد صارت أثرا بعد عين «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» .. أي انظروا ماذا بقي من دنيا القوم الظالمين.. ثم احكموا.. «وما راء كمن سمعا» !.
- قوله تعالى:
«وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» .
الفهم الذي أستريح إليه في هذا المقطع من الآية الكريمة، أنه تعقيب على هذا الخطاب الموجه إلى المخاطبين بهذه الآية، فى قوله: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» .
وفي هذا التعقيب، اتهام للمشركين بما بينهم وبين الشيطان من تفاهم، وتوافق، وأنهم أتباع مخلصون له، مطيعون ما يشير به.. فهم مع ما تبين لهم من هذا البلاء الذي رمى به الله عادا وثمود، وما ترك هذا البلاء وراءهم من خراب ودمار- هم مع هذا لا يعدلون عن طريقهم الضال الذي ركبوه، ولا يلقون السمع إلى ما يتلو عليهم الرسول من آيات..(10/430)
وفي عطف «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» على قوله تعالى: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» - أمران:
أولهما: الإشارة إلى التقاء الهدى والضلال في نفوس المشركين، لقاء موافقة وائتلاف، إذ لا فرق بين الهدى والضلال عندهم، وأن النور الذي يساق إليهم من الآيات سرعان ما يشتمل عليه الظلام، ويمتزج به.. فما تبين للقوم من مساكن القوم، وما في ذلك من دلائل تدعو إلى الإيمان واتباع سبيل المؤمنين- قد اختلط بما وسوس لهم به الشيطان، ثم سرعان ما اختفى هذا البيان، الذي استبان لهم، واستولى الشيطان عليهم، فصدهم عن سبيل الله..
وثانيهما: العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» .. هو لعزلهم عن مقام الخطاب، وما فيه من تشريف، ووضعهم بالمكان الذي يشار إليهم منه، حيث يسمع المؤمنون حكم الله، تعالى فيهم بقوله: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» ..
فالخطاب كان عاما للمؤمنين والمشركين، فى قوله تعالى: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» .. ثم كان خطابا خاصا بعد ذلك للمشركين «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» فلم ينتفعوا بما رأوا من آثار القوم الهالكين، فصدهم عن سبيل الله، فى حال استبصارهم، ووضعهم أمام تلك الآيات المبصرة. كما يقول سبحانه: «هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (20: الجاثية) .
ولو أنه قد جاء النظم على أسلوب الخطاب، لكان المؤمنون داخلين في- قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» إذ لو جاء النظم هكذا. «وزين لكم الشيطان أعمالكم» لكان الحكم عاما، يشمل المؤمنين وغير المؤمنين..(10/431)
كما في قوله تعالى: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» حيث كان هذا البيان واقعا للمؤمنين وغير لمؤمنين.. أما لمؤمنون فقد انتفعوا به وكان لهم منه عبرة وعظة.. وأما المشركون، فقد أفسد عليهم الشيطان أمرهم، وأطفأ بنفثاته في صدورهم، ما قبسوا من عبرة وعظة، وجدوها في هذه الدور الخاوية على عروشها..
قوله تعالى:
«وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ» ..
فى الآية دليل، على أن قرون قد هلك قبل هلاك فرعون، وهذا يعنى أنه هلك وموسى وبنو إسرائيل لم يخرجوا من مصر بعد- وهذا ما أشرنا إليه في سورة القصص في شرح قوله تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى، فَبَغى عَلَيْهِمْ» - وقوله تعالى: «وَما كانُوا سابِقِينَ» أي أنهم بما كان لهم من قوة وسلطان، لم؟؟؟ لتوا من عقاب الله الراصد لهم. ولم يجدوا وجها للفرار من العذاب الذي أرسله الله عليهم.
قوله تعالى:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» .
هذا بيان لصور العذاب، وألوانه التي حلت بالقوم الظالمين.. فهم وإن وقع بهم العذاب جميعا، إلا أن كل قوم قد شربوا من هذا العذاب، بكأس غير الكأس التي شرب بها غيرهم..(10/432)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
والحاصب، وهو ما يحصب به، أي يرمى به من حصى وغيره.. ومنه الحصباء، وهو صغار الحصى. ومنه قوله تعالى: «حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» «98: الأنبياء» أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصى!.
وهذا الضرب من العذاب، هو ما أخذ به قوم لوط، إذ رماهم الله بحجارة من سجيل، وهو الذي أخذ به من قبل، قوم صالح، إذ أهلكوا بريح صرصر عاتية، فكانت كأنها رجوم.
والصيحة، وهي الرجفة، هى العذاب الذي أهلك به قوم عاد، إذ صلح فيهم صائح، فزلزل بهم الأرض، وهدم عليهم دورهم.
والخسف، هو ما حل بقارون.. والغرق، هو ما هلك به فرعون وهامان..
الآيات: (41- 45) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
التفسير:
قوله تعالى:
«مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
(م 28 التفسير القرآنى ج 20)(10/433)
مناسبة هذا المثل هنا، هو أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى بعضا من تلك الأقوام الضالة، التي كذبت برسل الله، واستمسكت بما كانت عليه من شرك- كان هذا المثل مرآة يرى عليها الناس- وخاصة أولئك الذين غلظت طباعهم، وتبلدت مشاعرهم- صورة مجسدة لهؤلاء المشركين وما عبدوا من دون الله..
إن هؤلاء المشركين، كالعنكبوت.. فى ضعفها وصغر شأنها..
فهؤلاء المشركون، هم في يد القدرة القادرة، وإزاء سلطان الله الغالب القاهر- أقل من العنكبوت شأنا، وأضعف منها حيلة وحولا..
ثم إن هؤلاء المشركين في ضعفهم وصغر شأنهم، قد اتخذوا من الأصنام، وغير الأصنام، آلهة يعبدونها من دون الله، ليكون لهم منها قوة وسندا- كما يقول سبحانه: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (81: مريم) فكان مثلهم في ذلك مثل العنكبوت، حين تتخذ لها بيتا، تقيمه حولها، وتسكن إليه، وتحتمى به.. إنه لا يثبت لأية لمسة من ربح عابرة، أو حشرة طائرة.. وإن هذه الآلهة التي دخل القوم في حماها، لهى أو هي من بيت العنكبوت، لا تدفع عن الداخلين في حماها أذى، ولا ترد شرا..
- وفي قوله تعالى: «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . وصف للقوم بالصفة الغالبة عليهم، وهي الجهل، لأنهم لو كانوا على أي قدر من العلم، لما ارتضوا أن ينسجوا من هذا الضلال دروعا يحتمون بها من رميات القدر..
وفي تشبيه آلهة القوم بنسيج العنكبوت، إعجاز من إعجاز القرآن، إذ أن العنكبوت إنما تتخذ بيتها من خيوط رفيعة هي لعابها الذي إذا لامس الهواء تماسك في صورة خيوط دقيقة واهية.. وهؤلاء المشركون إنما(10/434)
أقاموا معتقدهم الفاسد الذي يعتقدونه، ويلتمسون الطمأنينة والأمن في ظله- إنما أقاموا من تلك الأبخرة العفنة التي تتصاعد من مشاعرهم، فتتشكل منها تلك الأوهام الخادعة، ويقوم عليها هذا البناء المتداعى!! قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو بيان لعلم الله بهم وبما يعبدون من أباطيل، لا وزن لها، مع عزة الله، ولا تدبير لها، مع تدبيره المحكم.
ويمكن أن يكون للآية مفهوم آخر، وهو أن تكون «ما» نافية..
ويكون مفعول العلم مطلقا، بمعنى أن الله يعلم كل شىء.. وقوله تعالى:
«ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» نفى لوجود هذه المعبودات، أي أنها لضالتها، وعدم جداوها لهم، لا تعدّ شيئا.. أما الله سبحانه، الذي أعرضوا عنه، فهو العزيز الحكيم..
قوله تعالى:
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» الإشارة هنا، هى إلى هذا المثل المضروب، وإلى تلك الأمثال التي يضربها الله للناس، ليروا فيها مواقع العبرة والعظة، وليكون لهم منها طريق إلى الحق والهدى.. ولكن هذه الأمثال لا يعقلها، ولا ينتفع بما يعقل منها إلا أهل العلم.. «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» (26: البقرة) قوله تعالى:
«خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» - هو(10/435)
بيان لما أبدع الله «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وما أقام في هذا الوجود من عوالم، وما بث فى هذه العوالم من مخلوقات.. وفي هذا الوجود، وعوالمه ومخلوقاته، صحف يتلو فيها المؤمنون آيات الله، ويسبحون بحمده، فى كل نظرة ينظرون بها، وفي كل نفس يتنفسونه، وفي كل خاطر يخطر لهم: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا.. سُبْحانَكَ.. فَقِنا عَذابَ النَّارِ»
(190: 191: آل عمران) قوله تعالى:
«اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» ومن آيات الله، تلك الآيات المتلوة، التي هي كلماته، التي أوحاها سبحانه إلى نبيه الكريم.. إنها تناظر تلك الآيات المبثوثة في السموات والأرض.. فى كل منها شاهد يشهد لجلال الله وقدرته، وعلمه وحكمته..
وفي أمر النبي بتلاوة ما أوحى إليه من الكتاب- إلفات للعقول إلى هذه الآيات القرآنية، بعد إلفات الأبصار إلى الآيات الكونية، فيكون من هذه وتلك لقاء بين المحسوس والمعقول، وبهذا تكتمل المعرفة، وتثبت قضايا العلم فيقع للإنسان من ذلك علم يقينى، يقوم عليه إيمانه بالله رب العالمين..
- وفي قوله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ» إشارة إلى ما للصلاة من شأن في وصل العبد بربه، وفي قيادته نحو الطريق القاصد إلى الله.. إذ كانت تسبيحا بحمده، وتمجيدا لجلاله..
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» - إشارة إلى(10/436)
الأثر الذي تتركه الصلاة في المصلين: من إيقاظ المشاعر الطيبة في الإنسان، تلك المشاعر التي تعاف الفحشاء، وتنفر من المنكر..
- وقوله تعالى: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» . المراد بالذكر هنا، استحضار عظمة الله، وجلاله في الصلاة، حيث يكون الإنسان في صلاته في حال من الخشوع، والتخاضع بين يدى الله، لما يملأ قلبه من جلال الله وعظمته، وهذا هو الذي يجعل للصلاة ثمرا طيبا مباركا، يذوق الإنسان منه حلاوة الإيمان، ويستروح منه أنسام التقوى، وبذلك يدخل في عباد الله المفلحين المكرمين.. كما يقول سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» (1: المؤمنون) فالصلاة التي لا يحضرها ذكر الله، ولا يغشاها الخشوع والرهب، ولا تظللها سكينة النفس، وطمأنينة القلب- هى صلاة قليلة الثمر، ضثيلة الأثر.. يقول الله سبحانه لموسى عليه السلام: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» «14: طه» أي لتذكرنى بها..
وإذا كان ذكر الله مطلوبا في كل حال، فى الصلاة وفي غير الصلاة، فإن ذكره سبحانه في الصلاة، أولى وأوجب.. إذ كانت الصلاة في ذاتها ذكر الله.. فالذكر في مقام الذكر أولى، وأوجب، وأنفع.
هذا، وقد يصغر شأن الصلاة عند من ينظرون إلى كثير من المصلين، فلا يجدون للصلاة أثرا عليهم في سلوكهم، حيث لم تنههم صلاتهم عن فحشاء أو منكر.. ففى المصلين من يكذب، وفي المصلين من يشهد الزور، وفي المصلين من يبخس الكيل والميزان، وفي المصلين من يشرب الخمر، وفي المصلين من يزنى، ومن يسرق ... ومن، ومن..
ونعم، فى المصلين، من هم على هذا الوصف الذميم.. وليس ذلك لعلة فى الصلاة، وإنما العلة كامنة في المصلّى نفسه، لأنه يصلى بجسمه، ولا يصلى بعقله،(10/437)
وقلبه، وروحه، فلا يذكر الله في صلاته ذكرا يملأ كيانه خشوعا، وجلالا..
ومع هذا، فإن مداومة الصلاة، والحرص على أدائها في أوقاتها، ستصل بالمصلّي يوما وإن طال به الطريق، إلى الثمرة الطبية التي وعد الله المصلين بها، وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر..
وفي هذا يقول الرسول الكريم فيمن بلغه عنه أنه يصلى، ولا ينتهى عن الفحشاء والمنكر- يقول صلوات الله وسلامه عليه.. «دعوه.. فإن صلاته ستنهاه يوما ما» والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل(10/438)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة. الماء والماء ... والناس للناس 43. التكرار ... والقصص القرآنى 96. كلمات الله ... وكيف تلقاها النبي 156. الشعر ... ونظرة الإسلام إليه 195. سليمان ... والنملة ... والهدهد 224. الدابة التي تكلم الناس ... ما هى؟ 288. موسى ... والقتيل الذي قتله 327(10/439)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
[الجزء الحادي عشر]
[تتمة سورة العنكبوت]
الآيات: (46- 51) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 51]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها هى أن الآية السابقة عليها، جاءت داعية النبىّ الكريم أن يتلو ما يوحى إليه من ربه، وأن يقيم الصلاة قياما يحدث فى القلب ذكرا لله، وبهذا يكون للصلاة ثمرتها في نهى المصلى عن الفحشاء(11/441)
والمنكر، إذ كان ذكر الله حاضرا فى قلبه مستوليا على مشاعره، يملأ كيانه خشية، وخوفا، من العدوان على حدود رب العالمين.
وهذا الأمر الذي حملته الآية: «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» - وإن كان دعوة للنبى الكريم، فهو أمر للمؤمنين بالله، الذين اتبعوا النبي، ودانوا بالشريعة التي جاءهم بها من ربه.
ومن محامل هذه الدعوة تلاوة ما أوحى إلى النبي من آيات الله، على أهل الكتاب، وتبليغهم رسالة الإسلام، إذ ليس المراد من التلاوة، مجرد التلاوة، وإنما المراد هنا، إعلان الناس بها، وإسماعهم آيات الله وكلماته ...
وأهل الكتاب حين يسمعون كلمات الله التي يتلوها النبي والمؤمنون، لا يلقونها على وجه واحد.. فكثير منهم يلقونها بالبهت والتكذيب، وقليل منهم أولئك الذين يلقونها بالقبول والتسليم..
وإذ كانت الدعوة الإسلامية قائمة على الحجة والإقناع، وبين يديها الحجة القاطعة والبرهان المبين- فإن أي عقل سلم من آفات الهوى، وخلص من أسر الضلال، لا يجد سبيلا إلى المماحكة والمجادلة في آيات الله، بل يستجيب لها، ويسلم زمامه إليها ... أما من كان فى عقله سقم، وفى قلبه مرض فلن يذعن للحق، ولن يأخذ طريقه أبدا ... شأنه في هذا شأن أصحاب العلل والآفات، التي تصيب العيون بالعمى، والآذان بالصمم، والأنوف بالزكام، والأفواه بالبخر ... !
ومن هنا كان الذين يجادلون في آيات الله من أهل الكتاب، إنما(11/442)
يجادلون في حق يعرفونه، ويمارون في آيات يعلمون صدقها.. ومن كان هذا شأنه فخير موقف يتخذ معه، هو الإعراض عنه، وترك الجدل معه، لأن الجدل في هذا المقام، عقبم، وإن ولد شيئا، فإنما يلد دخانا ينعقد في سماء الحق، ويشغل القائمين على رسالته عما هو أنفع وأجدى ... ولهذا كان من دعوة السماء إلى النبي الكريم قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) .
- فقوله تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» - هو بيان للموقف الذي يأخذه المؤمنون من أهل الكتاب فيما يكون بينهم من مواقف، تثار فيها بينهم قضايا، تتصل بالدين، عقيدة أو شريعة ...
وهو أن يعرض المسلمون حقائق الإسلام كما حملتها آيات الله، بمنطق الناصح المرشد، لا المملى ولا المسيطر ... «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» .. إنه خير يدعى إليه الناس، ولا يحملون عليه حملا ...
ومتى كان المحسن يأخذ المحتاج إلى إحسانه، بالقهر والقسر؟ وحسبه أن يمد إليه يده بما تحمل من إحسان، فإن تجاوز ذلك إلى ما يثير عداوة وبغضاء، انقلب الإحسان إساءة، والخير شرا ...
والجدل، والمجادلة تكون باللسان، ومقارعة الحجة بالحجة، والأصل فيها القوة، يقال حبل مجدول، إذا كان مفتولا من حبلين، ولهذا سمى الصقر أجدل، لقوته وشدته ...
- وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» - هذا استثناء من الحكم العام، فى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك الاستثناء في شأن الذين يلقون تلك الدعوة بالشغب عليها، والتطاول على أهلها، والكيد لها ولهم ...(11/443)
إن الأمر حينئذ يخرج عن هذا المجال، إلى رد عدوان، ودفع ظلم، وردع بغى ... والله سبحانه وتعالى يقول:
«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (125- 126: النحل) .
والذين ظلموا من أهل الكتاب، هم أولئك الذين امتلأت قلوبهم ضغينة على الإسلام، وحقدا عليه، فكانوا حربا على المسلمين والإسلام، بالكيد والفتنة، وإشعال نار الحرب الظاهرة والخفية على رسول الله وعلى المؤمنين ... ولهذا كان وصفهم بالظلم، كاشفا عن عدوانهم وبغيهم، إنهم معتدون لا معتدى عليهم، وظالمون غير مظلومين، فإذا أخذوا بعدوانهم، وبظلمهم، فذلك بما جنته أيديهم: «فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (193: البقرة) .
أما الأسلوب الذي تجرى عليه معاملة هؤلاء الظالمين، فهو على حسب ما كان منهم من ظلم، بلا بغى أو عدوان..
وفي الآية الكريمة- وهى مكية- إشارة إلى مستقبل الإسلام، وإلى ما سيكون بينه وبين أهل الكتاب من تلاحم، بالقول، وبالفعل ...
بالجدل بالتي هى أحسن أولا، فإن كان عدوان فبالعدوان: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41: الشورى) .
- قوله تعالى: «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» - هو بيان لمقولة المسلمين، في مقام الجدل بالتي هى أحسن مع أهل الكتاب، وفي مواجهة غير الظالمين المعتدين منهم.(11/444)
فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية إيمانا مجملا، باعتبار أنها من عند الله، وأنه إذا كان أهل الكتاب قد غيّروا وبدلوا فيما بين أيديهم من كتب الله، من التوراة والإنجيل، فإن هذه الكتب في أصلها حق من عند الله، فما كان منها متفقا مع كتاب الله آمن المسلمون بأنه من عند الله، وما خالف كتاب الله، فما على المسلمين شىء منه، وإنما إثمه على الذين بدلوا وحرفوا ...
على أنه مهما كان من اختلاف بين أهل الكتاب وبين المسلمين، فإن هناك قضية لا يجوز الاختلاف فيها، وهى الإيمان بإله واحد، هو القائم على هذا الوجود، وهو الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب ... فإذا كان من أهل الكتاب من يختلف في هذه القضية، فقد ناقض دعواه بأنه من أهل الكتاب، وقطع السبب الذي يصله بالله، وبرسول الله الذي حمل هذا الكتاب ... «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» (137: البقرة) .
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ» .
الخطاب للنبى الكريم، من الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه قد أنزل عليه الكتاب، كما أنزله على المرسلين من قبله ... فهو- صلوات الله وسلامه عليه- كما يدعى إلى الإيمان بما أنزل على رسل الله، فقد دعى المرسلون قبله إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزل عليه ... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» ... فالذين آتاهم الله الكتاب، هم الرسل من أصحاب الكتب المنزلة، وفي هذا يقول الله تعالى:(11/445)
«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا.. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (81: آل عمران) ..
والضمير في قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ بِهِ» يعود إلى القرآن، وهو «الكتاب» فى قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» .
والمشار إليه في قوله تعالى «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» هم أهل الكتاب المعاصرون للدعوة الإسلامية، و «من» للتبعيض ... أي ومن بعض هؤلاء من اليهود والنصارى، من يؤمن بالكتاب، وهو القرآن كما آمن به موسى، وعيسى، والنبيون من قبل ...
أما القول، بأن المراد من قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» هم اليهود والنصارى المعاصرون للدعوة الإسلامية، وأن قوله تعالى: «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» مراد به المشركون من قريش، كما يذهب إلى ذلك المفسرون، قديما، وحديثا، فهذا ما لا نراه، ولا نأخذ به ...
فالموقف هنا، فى مواجهة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وبالكتب المنزلة من عند الله، كما آمن النبي والمؤمنون، بالله، ورسله، وكتبه.
هذا، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن إيمان النبيين الكريمين موسى وعيسى بالقرآن، هو حجة على أهل الكتاب، وإلزام لهم بمتابعة الرسول الذي حمل إليهم الكتاب الذي يؤمنون به ... من التوراة أو الإنجيل، وإلا فهم حارجون على رسولهم، وعلى الكتاب الذي بين أيديهم..(11/446)
ومن جهة ثالثة، فإن الإشارة إلى مشركى العرب بأنهم آمنوا بالقرآن- لا محصل له في هذا المقام، ولا حجة منه على أهل الكتاب، وحسب القائل منهم أن يدفع هذا بقوله: بأن هؤلاء المشركين أمّيّون، فكيف يكون إيمانهم حجة عليهم.؟ فإن لم يقل قائلهم هذا القول، كان له أن يقول:
إن محمدا هو- إن صح أنه رسول- فهو رسول إلى قومه هؤلاء، وهو حجة عليهم لا علينا!! وهذا قول- وإن كان باطلا- فإن الجدل يتسع له، وخاصة في أول الدعوة الإسلامية، التي كانت دعوتها متجهة أول الأمر إلى العرب، كما يقول سبحانه وتعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2: الجمعة) .
ومن جهة رابعة، فإن قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» إذا فهم على ما قرره المفسرون من أنه مراد به أهل الكتاب المعاصرون للدعوة، فإنه يصادم الواقع، إذ أن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن، لا في عصر النبوة، ولا بعده، وإن الذي آمن منهم به نفر قليل بالإضافة إلى الكثرة الكثيرة التي ظلّت على ما وجدها القرآن عليه ...
وليس يشفع لهذا القول، ويدفع عنه هذا التناقض، ما سيق له من تخريجات، كما قيل بأن المراد بقوله تعالى «يُؤْمِنُونَ بِهِ» هو أن من شأنهم أن يؤمنوا، لو أنهم أخلوا أنفسهم من الحسد، والغيرة، لما يلقاهم به القرآن من آيات بينات، تنكشف في أضوائها معالم الطريق إلى الحق، لكل ناظر فيها، ملتمس الهدى منها ... وكما قيل أيضا، من أن المراد بالذين يؤمنون به من أهل الكتاب، هم الذين آمنوا فعلا، وهؤلاء وإن كانوا(11/447)
قلة، فإنهم هم كل أهل الكتاب، الذين انتفعوا بالكتاب الذي في أيديهم..
أما غيرهم من أهل الكتاب، فلا حساب لهم..؟!
وهذه لا شك مما حكات، متهافتة، ودعاوى واهية، تتداعى لأية لمسة من نظرة عقل، أو لمحة منطق.
ثم من جهة خامسة، أن قوله تعالى: «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» لا يصدق على العرب إلا في مرحلة من مراحل الدعوة، وفي بدئها، أما بعد ذلك فقد دخل العرب جميعا في دين الله، وآمنوا جميعا بالله، لا أفرادا معدودين منهم، كما هو منطوق النظم القرآنى: «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» ! هذا- والله أعلم- هو الرأى الذي يستقيم على طريق الآية الكريمة، ويسير في أضواء نظمها المشرق المعجز.
وسنرى، فى الآيات التالية ما يزيد هذا الرأى وضوحا وتمكينا.
قوله تعالى: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» .
هذا الخطاب للنبى الكريم من ربه سبحانه وتعالى، يكشف لأهل الكتاب، الذين كانوا في هذه البيئة الأمية جامعة العلم، وأساتذة طالبيه- هذا الخطاب يكشف لهم عن حقيقة جهلوها وتجاهلوها، وهى أن هذا الأمىّ فى الأمة الأمية، لم يكن ممن ألمّوا بشىء من القراءة والكتابة، حتى على هذا المستوي المتواضع الذي كان لبعض نفر قليل من قومه، ممن عرفوا القراءة والكتابة، ومع هذا فهو يحمل في صدره، وعلى لسانه، وبين يديه، كتابا عجبا، يعلو بسلطانه على كل كتاب، ويستولى بعلمه على كل علم، ويقطع بحجته كل حجة، ويقهر بمنطقه كل منطق، ويفحم ببيانه كل بيان!!(11/448)
فمن أين لهذا الأمى بهذا كله؟.
وإذا كان للأميين المشركين أن يقولوا- جهلا- «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» وإذا كان لهم أن يقولوا- استبعادا أو استعظاما- إنه أخذ هذا العلم عن بعض العلماء من أهل الكتاب- فماذا يقول أهل الكتاب في هذا الكتاب؟ وإلى أي نسب ينسبونه، وإلى أي عالم منهم يسندونه؟.
إنه لم يجرؤ أحد من أهل الكتاب أن يقول كلمة واحدة في نسب هذا الكتاب إلى علمهم، أو إضافته إلى أحد من علمائهم.. وقد كان لهم- وهم أصحاب العلم- أن يقولوا شيئا من هذا الذي كان يقوله الأميون، لو أنهم وجدوا لهذا القول مكانا- أىّ مكان- ولو من قبيل التلبيس والتشكيك ...
فلقد كان المدى بعيدا بين هذه الشمس المتألقة في كبد السماء، وبين الأيدى التي تحاول الإمساك بها، وعقد سحب من الظلام في وجه أضوائها المتدفقة!.
ومن هنا، فإنه لا سبيل لأهل الكتاب أن يرتابوا في نسبة هذا الكتاب إلى الله، وأن يقولوا بأن إنسانا أمّيّا، فى أمة أمية، يمكن أن يكون هذا الكتاب، أو شىء منه، من عمله ... وأنه إذا كان يمكن أن يرد عليهم شىء من الشك في أن إنسانا، قارئا، كاتبا، دارسا، يمكن أن يأتى بمثل هذا الكتاب، فإن مثل هذا الشك يكون مستحيلا، إذا جاء الكتاب على يد أمي، ما عرف القراءة والكتابة، ولا حضر مجالس الدرس والتحصيل.
وقد أثار المفسرون جدلا طويلا حول ما إذا كان الرسول قد عرف القراءة والكتابة بعد البعثة أم لا ... وقال كثير منهم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد عرف القراءة والكتابة بعد بعثته.. وهذا أمر ما كان(11/449)
يصحّ أن يكون موضع بحث أو خلاف، فقد جاء القرآن ناطقا صريحا بأمية النبىّ، وجعل هذه الأمية صفة دالة عليه، يجده عليها أهل الكتاب في كل حال يلقونه عليها. وفي كل زمن يوجهون وجوههم إليه.. فالله سبحانه وتعالى يقول: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (157: الأعراف) .. والأميّة هنا لا شك هى أمية القراءة والكتابة، أما أمية العلم، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه- بما علّمه ربّه- عالم العلماء، وحكيم الحكماء، كما يقول سبحانه وتعالى مخاطبا له: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
(113: النساء) .
فكيف إذن يكون النبىّ قد خرج عن صفة الأمية بعد البعثة، وعرف القراءة والكتابة، ثم يكون بهذا حجة على أهل الكتاب الذي يجدون وصفه فى التوراة والإنجيل، نبيّا أمّيّا فى الأميين؟ ثم ما حاجة النبىّ إلى أن يعرف القراءة والكتابة بعد النبوة؟ أكان ينقل الكتاب الذي بين يديه عن كتب أخرى حتّى يضطره ذلك إلى معرفة القراءة والكتابة؟ أم ماذا؟
لا نجد جوابا!! قوله تعالى:
«بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» .
الضمير «هو» يعود إلى الكتاب. فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» . والذين أوتوا العلم، هم العلماء من أهل الكتاب ...
أي أن هذا الكتاب يقع في صدور العلماء من أهل الكتاب موقع(11/450)
المعجزات البينات، حيث تنطق آياته بالحقّ المبين، يتلقاه منها كلّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... وفي هذا يقول الله تعالى كاشفا للمشركين عن عنادهم وضلالهم: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» (197: الشعراء) .
أي أنه إذا لم يكن عند المشركين علم يعلمون يعرفون به قدر هذا الكتاب، ويفرّقون به بين ما هو سماوى وما هو أرضى ... أفلا كان لهم في علم العلماء من أهل الكتاب، بهذا الكتاب، وإيمانهم به، عبرة يعتبرون بها، ومعلّم من معالم الهدى، يهتدون به إلى هذا الكتاب؟.
وقوله تعالى: «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» ... إشارة إلى علماء أهل الكتاب، الذين يعرفون الحق في كتاب ثم ينكرونه، من بعد ما عرفوه.
وفي هذا يقول الله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) ووصفهم بالظلم، هو الوصف الحق لهم، إذ كتموا شهادة الحق الذي عرفوه ... والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» (140: البقرة) .
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .
بعد هذه اللفتة العارضة إلى أهل الكتاب، وأسلوب مجادلة المؤمنين لهم، وما عند علمائهم من علم بهذا القرآن- بعد هذا عادت الآيات لتصل الحديث مع المشركين، وتكشف عن مقولة من مقولاتهم الفاسدة الحمقاء في مواجهة الدعوة الإسلامية، ومدعياتهم عليها، وعلى المرسل إليهم بها ... فهم(11/451)
يرتابون في أن يكون «محمد» على صلة بالسماء، وأن يكون هذا الكتاب الذي بين يديه من عند الله، وقد أقاموا منطقهم هذا على أنه لو كان هذا شأن محمد، لجاءهم بآية محسوسة، كما جاء الرسل قبله إلى أقوامهم بآيات محسوسة، وفي هذا يقول الله على لسانهم: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (5: الأنبياء) وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» أي أننى بشر مثلكم، لا أملك من أمر الله شيئا، وإنما أنا نذير مبين أبلغكم ما أرسلت به إليكم ...
وقوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
هو ردّ آخر، على ما يقترحه المشركون على النبىّ من آيات، وفي هذا الردّ إنكار عليهم أن يطلبوا آيات مع هذه الآيات التي تتلى عليهم..
إنها آيات لا تغرب شمسها، ولا يخبو ضوءها أبد الدهر ...
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً» إشارة إلى أن هذه الآيات لا تحمل معها نذر الهلاك الذي تحمله الآيات التي يقترحونها، فإنه لو جاءتهم آية من تلك الآيات لكفروا بها، ثم كان مصيرهم مصير الكافرين المكذبين، كعاد، وثمود، وفرعون! فهذه الآيات القرآنية رحمة من رحمة الله بهم.
- وفي قوله تعالى: «وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» إشارة أخرى إلى أن آيات الكتاب في معرض البحث والنظر، وفي مجال التعقل والتأمل، يعيش معها الإنسان ما يشاء، ناظرا فيها، متأملا مواقع الإعجاز منها، فيجد بهذا طريقه إلى الحق والهدى، إذا كان صالحا لقبول الخير، مستعدا للتجاوب مع الحق!(11/452)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
الآيات: (52- 55) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 52 الى 55]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
هذا هو نهاية الموقف الذي يقفه النبي من المشركين ... إنه يشهد الله عليهم، أنه بلّغهم رسالة ربّه، وأنهم في عناد وتكذيب ... والله سبحانه وتعالى يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون ... وعند الله سبحانه عذاب شديد للضالين المكذبين، الذين يؤمنون بالباطل، ويقيمون في رحابه آلهة يعبدونها من دون الله.. إنهم هم الخاسرون.. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .
قوله تعالى:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .(11/453)
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يتحدّون النبىّ باستعجال العذاب الذي ينذرهم به، إذا هم لم يؤمنوا بالله، ولم يصدّقوا رسوله، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) .
- وقوله تعالى: «وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» ... والأجل المسمّى هو ما قدّره الله تعالى في علمه، ووقّت له وقته الذي يقع فيه، بما قضى به في عباده ... وإن أي أمر لا يقع إلا في وقته الموقوت له.. وإنه لولا هذا الأجل الموقوت للعذاب المرصود لهؤلاء المشركين، لوقع بهم عند طلبهم له ... فلم يستعجلون هذا البلاء؟ إنه لواقع بهم لا محالة، ولكنه سيأتيهم من حيث «لا يشعرون ... لأنهم لا يتوقعونه، ولا يعملون على توقّيه بالإيمان والعمل الصالح، فإذا وقع بهم دهشوا له، وبغتوا به! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ... والعذاب هنا، هو العذاب الأخروى، كما يفهم من الآية التالية ... والبغتة: المباغت المفاجئ.
قوله تعالى:
«يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .
هنا استفهام إنكارى، أي أيستعجلونك بالعذاب؟ وكيف يستعجلون به، وهو واقع بهم فعلا؟ إنهم سائرون على الطريق الذي يهوى بهم في جهنم ... فهم بما هم عليه من كفر وضلال، واقعون في دائرة العذاب، ولن يخلصوا من العذاب إلا إذا تخلصوا من كفرهم، وتطهروا من شركهم، ودخلوا في حظيرة الإيمان ...
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .(11/454)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
وإذا لم يكن هؤلاء الضالون يستشعرون الخطر الذي هم فيه، ولا يرون جهنم المحيطة بهم في الدنيا، فإنهم سيرون ذلك عيانا، ويذوقونه نكالا وبلاء، يوم القيامة، يوم يأخذهم العذاب، ويشتمل عليهم، من رءوسهم إلى أقدامهم، ويوم يقول لهم الحق سبحانه وتعالى: «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فهذا هو عملكم الذي كنتم تعملونه في الدنيا ... لقد عملتم شرا فطعموا من هذا الشر!.
الآيات: (56- 60) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» .
مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها للآيات السابقة، أن الآيات السابقة كانت حديثا إلى المشركين من قريش، وما يتحدون به رسول الله من إنزال آية مادية عليهم، ومن استعجال العذاب الذي يتهددهم به- فجاءت(11/455)
الآيات بعد هذا حديثا إلى المسلمين الذين كانوا قلة مستضعفة في مكة، يلقاهم المشركون بالضر والأذى، ويأخذون عليهم كل سبيل إلى الاجتماع بالرسول، أو الصلاة في المسجد الحرام، أو الجهر بتلاوة القرآن ... إلى غير ذلك مما كانت تضيق به صدور المسلمين، وتختنق به مشاعر الإيمان في كيانهم، وتختفى به مظاهره على ألسنتهم وجوارحهم- جاءت هذه الآيات لتفتح للمسلمين طريقا رحبا إلى النجاة من هذا الضيق، والخلاص من هذا البلاء..
إن أرض الله واسعة، وإذا ضاقت أرض بإنسان فإن من الخير له أن يتحول عنها إلى غيرها، حيث يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة..
- وفي قوله تعالى: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا»
وفي إضافة الذين آمنوا إلى الله سبحانه وتعالى، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا- فى هذا احتفاء بهم، واستضافة لهم في رحاب رحمة الله وفضله وإحسانه.. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم، وذلك أمر شاق على النفس، ثقيل الوطأة على المشاعر، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد..
فكان من لطف الله سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم- أن استضافهم في رحابه، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه، بهذا الدعاء الرحيم، الذي دعاهم به سبحانه، إليه ... «يا عبادى» .. فمن استجاب منهم لهذا النداء، وأقبل على الله مهاجرا إليه بدينه، تلقّاه الله سبحانه بالفضل والإحسان، وأنزله منزلا خيرا من منزله، وبدّله أهلا خيرا من أهله!.
وقد استجاب المسلمون لهذا النداء، فخرجوا مهاجرين إلى الله، أفرادا وجماعات، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون، فأنزلهم(11/456)
الله أكرم منزل، هناك.. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها..
وهناك وجد المهاجرون إخوانا، شاطروهم دورهم وأموالهم، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شىء.
وأكثر من هذا، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين الله، وعزت به شريعته.. ومن هؤلاء المهاجرين، كان صحابة رسول الله، وخلفاء رسول الله..
وأكثر من هذا أيضا، فإن القرآن الكريم، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين، وأشار إلى منزلتهم العليا عند الله، وما أعد لهم من أجر عظيم، وثواب كريم، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين، إلا الأنصار، الذين نزل المهاجرون ديارهم، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم ...
وهكذا، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم ... «يا عبادى» فكانوا منه في نعمة سابغة، وفضل عظيم، فى الدنيا والآخرة جميعا.
وفي قوله تعالى: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
.. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك الله سبحانه وتعالى، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود، الذي يعيشون فيه، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها، ويضطربون فيها.. وكلا فإن أرض الله واسعة، أكثر مما يتصورون ... فليخرجوا من محبسهم هذا، ولينطلقوا في فجاج الأرض، الطويلة العريضة، وسيجدون في منطلقهم هذا، سعة من ضيق، وعافية من بلاء.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً» (100: النساء) .(11/457)
- وقوله تعالى: «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ»
... أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي، لا تشركون بعبادتي أحدا ...
والفاء في قوله تعالى: «فَإِيَّايَ»
تفيد السببية.. حيث كشف قوله تعالى: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
عن إضافة هذه الأرض إلى الله سبحانه، كما كشف عن سعة هذه الأرض، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه، هو في ملك الله ... وإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة، كما أفرد جل شأنه بالملك ...
هذا، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا، من كل قيد مادى، أو معنوى، يعطل حركته، أو يعوق انطلاقه، أو يكبت مشاعره، أو يصدم مشيئته، أو يقهر إرادته ...
ففى أي موقع من مواقع الحياة، وعلى أي حال من أحوالها، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة- يكون ظالما لنفسه، معتديا على وجوده ...
وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله، وأعلى درجاته، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة، وفي هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ!! قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» (97: النساء) ..(11/458)
فلقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة، لأنهم باستخزائهم وضعفهم، قد باعوا دينهم، واسترخصوا مروءتهم، فكانوا سلعة فى يد الأقوياء، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها ... وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف..
ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان، عقلا وقلبا وروحا، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا..
وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم، ومع هذا فهو أسير شهواته، وعبد نزواته، وتبيع هواه ... لا يملك من أمر وجوده شيئا ... ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس، والأهواء المتسلطة عليه منها، وهذا ما قصد إليه الرسول الكريم من قوله، وقد عاد من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قالوا يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال:
جهاد النفس» .
قوله تعالى:
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» .
هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة.. فقد يحضر كثيرا منهم- وهو يأخذ عدته للهجرة- وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم.. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر فى مثل هذا الموقف- فجاء قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت.. وإذ كان ذلك(11/459)
هو شأنها، فإنّ التعلق بها وبأهلها، وبأشيائها، هو متاع إلى حين، ثم ينصرم الحبل بين الإنسان وبين كل ما يمسك به من هذه الدنيا، طال الزمن أو قصر- فإذا كان ما يمسك الإنسان من هذه الدنيا شىء يحول بينه وبين الطريق إلى الله، وإلى ما عند الله من ثواب عظيم وأجر كريم- فإن هذا الشيء مهما غلا، هو عرض زائل، وظل حائل، لا حساب له إلى جانب الباقيات الصالحات، وما وعد الله سبحانه عليها، من رضوان وجنّات فيها نعيم مقيم.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .
فهذه هى الحياة الباقية، التي ينبغى للإنسان أن يعمل لها، ويحرص الحرص كلّه على ألّا يعوّقه شىء- أيّا كان- عن السعى في تحصيل كل ما هو مطلوب لها ... فالذين آمنوا بالله، وعملوا الصالحات، موعودون من الله سبحانه وتعالى أن ينزلهم من الجنة أكرم منازلها، وأن يحلّهم منها في غرفات يجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، لا يتحولون عنها ... وذلك هو جزاء العاملين، وإنه لنعم الجزاء.
وإن أبرز صفات العالمين، الذين يداومون على العمل ويحسنونه، هو الصبر، والتوكل على الله، فبالصبر يقهر الإنسان كل دواعى الضعف والتخاذل، وبالتوكل على الله والتسليم له، وتفويض الأمور إليه، يحلو المرّ، ويستساغ الضرّ ... وبهذا يظل العامل آخذا مكانه في موقع العمل، فيما يرضى الله، لا يتحول عنه أبدا.
وفي قوله تعالى: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» وعد مؤكد، بالقسم،(11/460)
ونون التوكيد ... وليس وعده سبحانه في حاجة إلى توكيد، فهو محقق لا شك فيه ... ولكن لتطمئن قلوب المؤمنين، ولتثبت أقدامهم على الطريق الشاق الذين يأخذونه إلى الهجرة، وما يعترضهم عليه من دواعى الإشفاق من فراق الأهل والولد.
قوله تعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
هو تطمين لقلوب المسلمين المدعوين إلى الهجرة، والذين استجابوا لها، وأعدّوا العدة لإمضائها، أو للذين هم قد هاجروا فعلا، وانقطعت موارد رزقهم التي كانت في أيديهم، بين أهلهم وفي ديارهم ... وإنه لن يأسى المسلمون على ما تركوا وراءهم من مال ومتاع، ولن يهتمّوا كثيرا لأمر المعاش، ولن يشغلوا به ... فالله سبحانه الذي يرزق الدواب في القفار، والطيور في السماء، هو الذي يتكفل بأرزاق الناس، وأن سعيهم في وجوه الأرض، وما يبذلون من حول وحيلة، إنما هو أسباب موصلة إلى ما قدّر الله لهم من رزق ... ولن ينال أحد مهما جدّ وسعى غير ما هو مقدور له.
وقوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» إشارة إلى أن كثيرا من الدواب لا تستطيع أن تحمل رزقها، أي تحصّله بنفسها، وتصل إليه بسعيها.. وأقرب مثل لهذا مواليد الحيوان، حيث سخّر الله لها الأمهات والآباء لتعمل على إطعامها، بل وتزقّه في فمها، وتلقيه في جوفها.. وإذا بدا لنا أن بعض الدواب كالأسود والذئاب ونحوها قادرة على انتزاع غذائها من الحياة، فإن ذلك لا يعدو في حقيقته أن يكون رضاعة من ثدي الطبيعة التي خلقها الله على هذا النظام البديع المعجز، الذي يجد فيه كل كائن رزقه(11/461)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
الذي يحفظ عليه وجوده.. وكذلك الناس بين أقوياء وضعفاء، وبين ذوى حيلة ومن لا حيلة لهم ... كلهم جميعا يرزقون من فضل الله، ويحصلون على ما قدّر لكل منهم من رزق ... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» .. أي فكما ترزق هذه الدوابّ التي لا حيلة لها في تحصيل قوتها، كذلك ترزقون أنتم أيها المهاجرون، وقد بدا لكم أنه قد انقطعت عنكم أسباب معيشتكم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (6: هود) .
وقوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» أي سميع لما تدعون به من حاجاتكم، عليم، بما تحتاجون إليه، وإن لم تسألوا شيئا.
الآيات: (61- 69) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 69]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)(11/462)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» .
بعد هذه الوقفة مع هؤلاء المؤمنين الذين حملهم المشركون على الهجرة من أوطانهم، بما أخذوهم به من بأساء وضراء- عادت الآيات لتلقى المشركين بقدائفها المدمّرة، التي تدكّ بها حصون الشرك، وتهدم قلاعه، بحجتها الدامغة، وبيانها المبين ...
فالمشركون هنا، في مواجهة سؤال، هو: «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» ؟
وإنه لا يجرؤ أحد منهم أن يجيب بأن آلتهم تلك الجاثمة على الأرض، هى التي حلقت السموات والأرض، وأنها هى التي سخرت الشمس والقمر ...
فمن إذن الذي خلق؟ ومن الذي سخّر؟ جواب واحد، هو الله الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر ... إنهم لا ينكرون هذا، ولا سبيل لهم إلى إنكاره.. وإذن فكيف يصرفون وجوههم عن الله، ويقبلون على هده الدّمى يعبدونها من دونه؟ أليس هذا سفها وضلالا؟ وبلى إنه السّفه والضلال والضّياع أيضا.
وقوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» هو تعقيب على هذا السؤال، وعلى(11/463)
الجواب الذي أجابوا به نطقا، أو إلجاء، وإلزاما، إذ لا جواب لهم غيره! «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» .
وأنّى، بمعنى كيف، ويؤفكون، من الإفك، وهو الانصراف عن وجه الحق إلى الضلال ...
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
«هذه الآية تعقيب على ما تقرر في الآية السابقة من استسلام المشركين لما ألزمتهم به من حجة، لم يجدوا معها سبيلا إلا الإذعان والإقرار، بأن الله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر..
وإذا كان ذلك كذلك على ما أقروا به، فليعلموا إذن أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له، فيوسع الرزق لمن يشاء، ويقدره أي يضيقه على من يشاء، حسب علمه، وحكمته.. «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» فلا يفعل ما يفعل إلا عن علم، وما كان فعلا عن علم، فهو أصلح الأفعال، وأنسبها، وأعدلها، وأحكمها..
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» .
وهذا سؤال آخر يسأله المشركون: «مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها؟» فما جوابهم على هذا؟.
لقد أقروا- طوعا أو كرها- أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر.. إذ كان ذلك أمرا لا يمكن المجادلة فيه، ولا يجد معه أي عقل- مهما لج في الضلال والعناد- سبيلا إلى المماراة، والتمحك..(11/464)
وعلى هذا، فإنه وقد سلّم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر، لا بد أن يسلّم بأنه سبحانه هو الذي يملك كل ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه هو سبحانه الذي يصرّف كل شىء فيهما..
فما ينزل من السماء من ماء، فهو من أمر الله، ومن قدرته، وتدبيره.. وما يحدث هذا الماء من آثار فى الأرض، فهو من أمر الله، ومن قدرته، وتدبيره..
وإذن، فلا جواب لهؤلاء المشركين إلا الإقرار، بأن الله هو الذي نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.. فهذا من ذاك، أو من بعض ذاك..
- وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» هو تعقيب على هذا الإقرار، الذي ألجأ المشركين إليه، ما طلع عليهم من آيات الله، فأنوا إليه مذعنين..
وهذا مما يجدد للمؤمن نظرا إلى نعم الله، حيث قهر جلالها المشركين الضالين، فاعترفوا برب هذه النعم، وأضافوها إليه.. وإن الحمد والولاء لله، هو ما ينبغى أن يسبّح به المؤمن فى هذا المقام، مقام تلك النعمة الجليلة، وهى نزول الماء من السماء، وما لهذا الماء من آثار فى بعث الحياة فى الحياة!.
والأمر هنا فى قوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» هو للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكل مؤمن، يتلقى هذا الجواب، على هذا السؤال: من نزل من السماء ماء فأحيا به على الأرض من بعد موتها؟ سواء أكان الجواب على هذا السؤال واردا عليه من ذات نفسه، وهو يدير نظره فى هذا الوجود، أو تلقاه من غيره، جوابا على سؤال! وفى قوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» إشارة إلى ما ركب كثيرا من هؤلاء المشركين من جهل، وما تغشّاهم من ضلال ... وأنهم لا يرون(11/465)
الحق الذي تلوح أماراته لأعينهم، ثم إنهم إذا بصّروا به، وأبصروه، لم يتقبلوه، واتهموا أنفسهم، وارتابوا فى معطيات أبصارهم، وقالوا كما ذكر القرآن: «إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (15: الحجر) .
فهذا الحمد الذي ينطق به الوجود كله، تسبيحا، وولاء لله، لا يدرك المشركون دلالته، لأنهم لا يعقلون ما ينبغى لله من تنزيه عن الشريك والولد.
قوله تعالى:
«وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
إن الذي يغطّى على أبصار هؤلاء المشركين، ويعمّى عليهم الطريق إلى الحق، هو اشتغالهم بهذه الدنيا، وتنافسهم على متاعها، واستهلاك أنفسهم فى الجري اللاهث وراء لذاذاتها وشهواتها. ولو أنهم تخففوا قليلا من تعلقهم بالحياة، ونظروا إليها على أنها طريق إلى حياة أخرى، أخلد وأبقى- لو أنهم فعلوا هذا لكان شأنهم مع آيات الله وكلماته، غير شأنهم هذا، ولوجدوا لدعوة لرسول آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تتقبل ما تعقله العقول..
ولهذا جاء قوله تعالى: فى هذه الآية، كاشفا عن حقيقة دنيا المشركين هذه، التي فتنوا بها، وسكروا من خمرها. فما هى فى حقيقتها إلا لهو ولعب، لا يشغل نفسه بها إلا لاعب لاه، شأنه فى هذا شأن الصغار، الذين يعيشون لساعتهم، فى مرح معربد، ولهو صاحب، غير ملتفتين إلى أي شىء وراء هذا.
وقوله تعالى: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» - هو عرض للجانب الآخر من حياة الإنسان، وهو الجانب الحق، الجدير بأن يلتفت الإنسان(11/466)
إليه، ويعمل له.. إنه المستقبل الذي ينتظره، والذي يأخذ فيه مكانه بين الناس وينزل منه منزلته، حسب ما قدم لهذا المستقبل من جهد، وما بذل من عمل..
تماما كما هو الشأن فى حياة الإنسان فى هذه الدنيا، فإن مكانه فى الرجال، ومنزلته فى الناس إنما تتحدد بما كان منه من سعى وعمل فى دور الصبا والشباب ... فإذا لها المرء فى صباه، وعبث فى شبابه، أسلمه ذلك إلى حياة ضائعة وإلى مستقبل أسود كئيب!
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط فى زمن البذر
وفى قوله تعالى: «لَهِيَ الْحَيَوانُ» بدلا من «لهى الحياة» - إشارة إلى أن الحياة الآخرة هى الحياة، بل هى أصل الحياة، وما سواها من حيوات، ظل لها، أو فرع منها..
وقوله تعالى: «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .. اتهام لهؤلاء المشركين بالجهل والغباء، وأنهم لو كانوا على شىء من العلم لما عموا عن هذه الحقيقة، ولما آثروا الفانية على الباقية، ولما اشتروا الضلالة بالهدى ... فإن العاقل العالم، من شأنه أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين الغث والثمين.
قوله تعالى:
«فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» أي أن هؤلاء المشركين اللاهين الغافلين، الذين أعماهم الضلال عن الآخرة، وعن العمل لها، وعن ذكر الله ذكرا خالصا- هؤلاء يظلون سادرين فى لهوهم وشركهم، حتى إذا ركبوا فى الفلك، واستشعروا الخطر، ذكروا الله، وفزعوا إليه، وأسلموا وجوههم له، مخلصين له الدين، لا يذكرون وجها من وجوه آلهتهم، ولا يهتفون باسم معبود من معبوداتهم(11/467)
فإذا خلصوا من البلاء، ونجوا من الهلاك، ولبستهم الطمأنينة- عادوا إلى ما كانوا فيه من شرك، ونسوا ما كان منهم لله من دعاء ومواثيق!! وهكذا المشركون فى الآخرة، يوم يلقاهم العذاب، وتفتح لهم أبواب جهنم..
هناك لا يجرون لآلهتهم ذكرا على ألسنتهم، بل يذكرون الله وحده، طالبين الغوث من هذا البلاء العظيم، قائلين: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» .. وأنّى لهم الخروج وقد دانهم الديّان بما كانوا يعملون؟: «قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» (108: المؤمنون) .
قوله تعالى:
«لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .
اللام فى «ليكفروا» وفى «ليتمتعوا» هى لام التعليل.. وهو تعليل لسؤال يرد على قوله تعالى: «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ!» والسؤال الوارد هنا هو: لم لم يهلكهم الله فى هذه الدنيا؟ ولم لم يعجّل لهم العذاب بشركهم هذا؟ ولم نجاهم الله سبحانه من الغرق، ولم يدع يد الغرق التي امتدت إلى سفينتهم تدفع بها وبهم إلى لجة الماء، فيبتلعهم اليمّ؟.
والجواب: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا» أي ليأخذوا فرصتهم كاملة فى الكفر بهذه الآيات التي تطلع عليهم من آثار قدرتنا، وليتمتعوا بما بقي فى آجالهم المقدورة لهم، من أيام.
- وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الذين لم تزدهم آيات الله إلا ضلالا، ولم تزدهم نعمه وآلاؤه إلا كفرا.. وأنهم إذا كانوا اليوم فى غفلة عن مصيرهم الذي هم صائرون إليه، فسوف يعلمون علم اليقين، هذا المصير، وسيصلون عما قليل إلى ما أعد الله لهم من عذاب أليم.
هذا وقد قرىء قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا» يسكون اللام فى «وليتمتّعوا» وهذا يعنى أن الأسلوب أمر، يراد به التهديد والوعيد.(11/468)
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ» .
هو استفهام إنكارىّ، ينكر فيه على هؤلاء المشركين كفرهم بآيات الله، وجحودهم النعم التي يعيشون فيها من فضله وإحسانه ... فقد اختصهم الله سبحانه من بين العرب جميعا، بهذا البلد الحرام، الذي ألقى فى قلوب العرب جميعا توقيره، وتوقير ساكنيه.. وبهذا عاش هؤلاء المشركون فى ظل هذا البلد الحرام، آمنين لا ينالهم أحد بسوء، على حين يعيش الناس من حولهم، فى خوف وفزع، وفى بغى وعدوان، لا يأمن أحد على نفسه، وأهله وماله، من أن تطلع عليه فى أية لحظة، عاصفة تأتى على كل شىء!.
هكذا الحياة فى هذه الغابة التي لا يتعامل فيها ساكنوها إلا بالظفر والنّاب، ما عدا هذه البقعة المباركة منها، فقد حماها الله، وحمى أهلها من كل عادية.. «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (4: قريش) .
أفلا يرى هؤلاء المشركون تلك النعمة الجليلة؟ ألا يذكرون فضل الله عليهم بها؟ ألا يخلصون له العبادة؟ ألا يتركون عبادة هذه الدّمى التي شوّهوا بها وجه هذا الحرم، وجعلوها أندادا لله؟ «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ» ؟ ألا ما أسخف عقولهم، وما أخفّ أحلامهم! قوله تعالى:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» .
وإن هؤلاء المشركين لظالمون معتدون، بل إنهم لأشد الناس ظلما وأكثرهم عدوانا.. إنّهم افتروا على الله الكذب، فخلقوا هذه الدّمى،(11/469)
وأعطوها ما شاءوا لها من أسماء، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون الله، وقالوا:
«ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .. ثم إنهم حين جاءهم رسول الله، يكشف لهم وجه هذا الباطل، ويفضح هذا الزّور، ويقيم لهم طريقا إلى الله، قائما على الحق- كذّبوه، ولم يقبلوا الهدى الذي معه.. إن ذلك جرم غليظ، لا تتسع له أية عقوبة فى هذه الدنيا، وإنه ليس إلا جهنّم ونكالها، وبلاؤها، جزاء يجزى به هؤلاء الكافرون.. «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» ؟
وبلى.. إن فيها لمكانا لكل من كفر بالله، وكذّب بآيات الله.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» .
بهذه الآية الكريمة تختم السورة ... فيلتقى ختامها مع بدئها، ولقد بدئت السورة بإيذان المؤمنين بالابتلاء، وملاقاة الفتن على طريق الإيمان، وأن استمساك المؤمن بإيمانه يقتضيه جهادا وتضحية، بالنفس والمال، والأهل والولد، والوطن، وكما يقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» (186: آل عمران) .
وهذا الختام الذي ختمت به السورة، هو وعد كريم من الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يجاهدون فى سبيل الله، ويحتملون ما يلقاهم على طريق الجهاد من ضرّ وأذى- أن يهديهم الله، ويثبّت أقدامهم على سبيله ... لأنهم سعوا إلى الله، فتلقاهم الله بإمداد عونه، وتأييده، ونصره، فكان لهم الغلب، وكانت لهم العزّة فى الدنيا، وجنات النعيم فى الآخرة.
وفى قوله تعالى: «جاهَدُوا فِينا» ... إشارة إلى هذا الجهاد الذي يجاهده(11/470)
المؤمن، وأنه جهاد لله، وفى سبيل الله، وإعزاز دينه، ونصر كلمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» (40: الحج) ..
ومعنى الجهاد فى الله، الجهاد فى كل ما هو لله- مما جعله حمى له، جل شأنه.
وفى توكيد الفعل «لنهدينّهم» توكيد لوعد الله، وأنه وعد أوجبه الله سبحانه على نفسه، كما يقول سبحانه: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
(47: الروم) وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» تطمين لقلوب المؤمنين، وإشعار لهم بأن الله معهم، بعزته وقوته، وسلطانه.. ومن كان الله معه، فهو فى أمان من أن يذلّ أو يهون: «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (22: المجادلة) وفى وصف المجاهدين فى سبيل الله بأنهم محسنون، إشارة إلى أن الجهاد فى جميع صوره، هو إحسان، وأن المجاهد محسن، لأنه يأخذ طريق الإحسان، ويسلك مسالكه، على حين أن غير المجاهد مسىء، لأنه يركب مراكب الضلال، ويهيم فى أودية الباطل ... فحيثما كان الإنسان مع الله سبحانه وتعالى، فهو فى جهاد.. فإذا قهر المرء أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، فهو مع الله، وفى جهاد فى الله ... وإذا انتصر الإنسان لمظلوم، فهو مع الله وعلى جهاد فى سبيل الله ... وإذا قال المرء كلمة الحقّ، وردّ بها باطلا، وسفّه بها ضلالا، فهو مع الله، وفى جهاد فى الله.. وإذا حمل المرء سلاحه، ودخل الحرب تحت راية المجاهدين فهو مع الله، وفى جهاد فى الله.
إن سبل الجهاد كثيرة، وميادينه متعددة ... بالقول، وبالعمل، باللسان وبالسيف، ولعلّ هذا هو السرّ فى جمع السبيل فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» .. فهناك أكثر من سبيل يصل به المؤمن إلى الله ... لأنها جميعها قائمة على الحق، والعدل، والإحسان.
وصدق الله العظيم(11/471)
30- سورة الرّوم
نزولها: مكية عدد آياتها: ستون آية..
عدد كلماتها: ثمانمائة وسبع..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وثلاثون ...
مناسبتها لما قبلها
حملت سورة «العنكبوت» - التي سبقت هذه السورة- دعوة للمسلمين إلى أن يوطّنوا أنفسهم على ما يلقاهم من بلاء وفتن على طريق الإيمان، وآذنتهم بأنهم مبتلون بكثير من الشدائد والمحن، وأن فيما يبتلؤن به، الهجرة، وفراق الأهل والديار ... تم كان ختامها هذا الوعد الذي تلقّوه من الله سبحانه وتعالى، بأن الله سيهديهم السبيل المستقيم، سبيل الله، وأنه معهم، يمدّهم بأمداد نصره وتأييده.
ثم تجىء بعد هذا سورة «الروم» هذه، فتعرض مشهدا من الواقع، ونخبر عن حدث مشهود، يراه المسلمون والمشركون، يومئذ، وهو تلك الحرب التي وقعت بين الروم والفرس، والتي انتصر فيها الفرس، وهم عبدة أوثان، على الروم وهم أهل كتاب، كان ذلك، والحرب على أشدّها بين المشركين والمسلمين فى مكة، وقد كانت الدولة للمشركين، حيث كانوا هم الكثرة، وأصحاب القوة والجاه، على حين كان المسلمون قلّة قليلة، أغلبها من المستضعفين، من الإماء والعبيد، وكان أقوى المسلمين قوة، وأعزّهم نفرا، من يستطيع أن يفلت من يد القوم، ويخرج فارّا بدينه، تاركا كل شىء وراءه!!(11/472)
فى هذا الوقت جاءت الأنباء إلى أهل مكة تحدّث بتلك الحرب الدائرة بين الفرس والروم، وبأن الغلبة كانت للفرس، وكان لذلك فرحة فى نفوس المشركين، لم يستطيعوا أن يمسكوا بها فى كيانهم، بل انطلقوا يردّدونها فيما بينهم، ويديرون أحاديثها على أسماع المسلمين، استهزاء وسخرية وشماتة، إذ كان المسلمون يمثلون الروم، الذين يؤمنون بكتاب سماوى، على حين كان المشركون يمثلون الفرس، عبدة النار.. وأما وقد غلب عبدة النار أهل الكتاب، فإن عبدة الأصنام المشركين ستكون لهم الغلبة دائما على الذين اتبعوا محمدا، وآمنوا بالكتاب الذي معه، وأن ما يعدهم به الكتاب الذي فى أيديهم من نصر وعزّة، ليس إلا خداعا ووهما كاذبا، وأن فيما وقع بين الفرس والروم، وما كان من انتصار الفرس على الروم لهو شاهد بيّن، لا تدفع شهادته ... وإذن فإن ما يدّعى بأنه كتب سماوية من عند الله- قديما وحديثا- هو مجرد كذب وافتراء.. إذ لو كانت هذه الكتب من عند الله لما خذل أتباعها أبدا ... وإلا فأين الله وقد خذل أتباع كتبه؟ هكذا كان تفكير المشركين وتقديرهم.
وقد وجد المسلمون فى أنفسهم شيئا من الأسى لتلك الهزيمة التي حلّت بالروم، ثم ضاعف ذلك الأسى، وزاد فى مرارته ما كان يلقاهم به المشركون من كلمات ساخرة، ونظرات شامتة.. ذلك والمسلمون قد كانت تنزف جراحاتهم دما، من طعنات المشركين لهم، فى أجسامهم، ومشاعرهم ...
على السواء.
وفى كل موقف يشتد فيه البلاء على المؤمنين، وتضيق فيه عليهم الأرض بما رحبت، تطلع عليهم آية من آيات الله، فتمسك بسفينتهم المضطربة، وتنتزعها من يد العاصفة المجنونة المشتملة عليها، وإذا الأمن والسلامة يحفّان(11/473)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
بهم، وإذا هم وقد ظفروا، وغنموا، وانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء!! ومن هذه الآيات الأولى التي تنزلت بها سورة «الرّوم» وجد المسلمون ربح رحمة الله، فى هذا الوعد الكريم، وفى تلك البشرى المسعدة التي ساقنها إليهم بين يديها.
وحفّا قد غلبت الرّوم فى هذه المعركة، وليس بالمستبعد أن يغلب المؤمنون فى معركة أو أكثر من معاركهم مع المشركين، ولكن العاقبة أبدا للمؤمنين.. ولقد غلبت الروم فى هذه المعركة، ولكن الصراع لم ينته بعد.
فهناك معركة غير منظورة، يعلمها الله، وستقع بعد بضع سنين، وفيها يكون النصر للروم، وبهذا النصر يحسم الأمر بينهم وبين الفرس، فلن تقوم للفرس قائمة بعد هذا اليوم، بل ولن تكون لهم دولة، حيث يستولى المسلمون على هذه الدولة، وتصبح بعضا من دولة الإسلام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 10) [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)(11/474)
[من أنباء الغيب] التفسير:
قوله تعالى:
«الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» .
قلنا إنه فى هذا الجو الخانق الكئيب، الذي كان يتنفس فيه المسلمون سموم الشماتة من أفواه المشركين، لهذه الهزيمة التي لحقت بالروم على يد الفرس- فى هذا الجو تلقى المسلمون فى مكة هذه الآيات من مطلع سورة الروم، فوجدوا فى أنفاسها المطهرة، أرواحا طيبة، سرت فى كيانهم، فتفتحت لها قلوبهم، وانتعشت بها مشاعرهم، وزغردت لها أرواحهم.!
إنهم تلقوا من الله سبحانه وعدا كريما بنصر الروم، وإنهم ليجدون هذا الوعد واقعا محققا، قبل أن يقع.. إنهم مؤمنون بربهم، مستيقنون بما يعدهم به..(11/475)
وحين يرى المشركون هذه الحال، التي لبست المسلمين من الرضا والطمأنينة، يتساءلون فيما بينهم. ماذا جرى؟ وأي شىء بدّل حال المسلمين، فأصبحوا على غير ما أمسوا عليه؟ وتجيئهم الأنباء، بأن «محمدا» تحدث إليهم بما اعتاد أن يلقاهم به من حديث يقول إنه تلقاه من ربه، وأن ما حدثهم به اليوم، هو أن الروم وإن غلبوا فى تلك المعركة التي دارت بينهم وبين الفرس منذ قليل، فإنهم سيغلبون، وأن ذلك سيكون بعد بضع سنين!!.
أهكذا الأمر إذن؟ وأ لهذا كانت تلك الفرحة التي تعلو وجوه المسلمين؟
ألا ما أخف أحلامهم، وما أضل عقولهم؟! ألمثل هذا الكلام ينخدعون؟
وعلى مثل هذا الكلام يبنون قصورا من الأمانى والآمال؟ ألا يزالون على ضلالهم القديم، ينخدعون بما يحدثهم محمد به، من أحاديث لا تعدو أن تكون وعودا معلقة بالمستقبل البعيد أو القريب، لا يمسك المرء منها بشىء، فى يومه أو غده؟ فأين البعث؟ وأين الحساب؟ وأين الجنة والنار؟ لقد أكثر محمد من تلك الأحاديث إلينا، وصدّع بها رءوسنا، وما نرى لذلك ظلا، وما نشهد له أثرا! ثم ها هى ذى تبلغ الجرأة بمحمد، فينتقل من الرجم بالغيب فى أحشاء الزمن البعيد، المضاف إلى ما بعد موت الناس جميعا، إلى أن يرجم بالغيب فى واقع حياتنا، مما لا يجاوز مداه بضع سنين؟ إنها عثرة قائلة، ولن نقيل «محمدا» منها.. فهيا أمسكوا به، متلبسا بهذا الكذب المفضوح، واضربوه الضربة القاضية، وقد سنحت لكم الفرصة فيه!! هكذا أدار المشركون الحديث حول هذه الآيات، ووجدوا- حسب زعمهم- أن فيها فرصتهم، للنيل من محمد، وبضربته ضربة فى الصميم من دعوته ...
إنها لسنوات معدودة، «بضع سنين» تنحصر فيما بين ثلاث وعشر،(11/476)
وبعدها ينكشف الأمر، فماذا لو ظلت الحال على ما هى عليه، فلم تقع حرب بين الروم والفرس خلال هذه السنوات المعدودات؟ وماذا لو وقعت حرب بينهما ثم دارت الدائرة فيها على الروم مرة أخرى؟ أيكون لمحمد وجه يلقى به الناس بعد هذا؟ أو يجد محمد بعد هذا أذنا تسمع له، أو إنسانا يصدق له قولا؟
والحق أن هذا صحيح.. فلو أنه لم تقع حرب بين الفرس والروم خلال هذه المدة المحدودة، المحصورة في بضع سنين، ثم لو وقعت هذه الحرب ولم يكن النصر والغلب للروم على الفرس فيها- لو أنه لم يحدث هذا، لما كان لمحمد ولا لدعوة محمد مكان في هذه الدنيا، ولذهب كل شىء، ولا ختفى كل أثر لمحمد، ولدعوة محمد إلى الأبد!.
إنها دعوة قائمة على أنها من عند الله، وأن محمدا، يتلقى آياتها وكلماتها من ربه ... وهذا يعنى أنها الصدق الذي لا تعلق به شائبة من كذب، وأنها الحق الذي لا يلم به الباطل أبدا.. فإذا طاف بهذا الكلام طائف من الكذب، أو علق به ولو ذرّة من شك وارتياب- كان ذلك واقعا بين أمرين، لا ثالث لهما:
إما أن يكون هذا الكلام من عمل محمد، ومن مقولاته التي يتصيدها من هنا وهناك.. وإذن فهو كاذب فيما يدعيه من أنه رسول الله، وأنه يتلقى هذا القرآن، وحيا من ربه.. وإذن فقد بطلت دعواه بأنه رسول من عند الله ...
وإما أن يكون هذا الكلام، وحيا كما يقول محمد، ولكنه ليس وحيا من عند الله، وإنما هو مما تلقيه الشياطين، على بعض الناس، كالعرافين،(11/477)
والشعراء.. وإذن فقد بطلت دعواه أيضا بأن ما يحدثهم به هو وحي من عند الله ... لأن الله لا يكذب، ولا يفترى!.
والحق أيضا أن هذه الآيات، وما حملت من هذا الغيب، الذي أذاعته في الناس جميعا، والذي ترددت أنباؤه على أسماع الناس في الجزيرة العربية، وما فيها من مشركين وأهل كتاب، بل وربما جاوزت الجزيرة العربية إلى فارس والروم. الحق أن هذا كان تحديا للناس جميعا، بهذه المعجزة المادية المحسوسة ... وقد كان ذلك فيما يبدو- فى ظاهر الأمر- مغامرة انتحارية من محمد، كما كان فرصة للذين يرصدون دعوة محمد، ويريدون أن يعرفوا على وجه اليقين، مبلغ صدقها أو كذبها.
وكعادة المشركين الضالين، الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية من أول يومها بإعلان الحرب عليها، من قبل أن ينظروا في وجهها، وأن يتبينوا دلائل الحق التي بين يديها- كعادتهم في مواجهة الدعوة الإسلامية بالكفر والعناد، استقبلوا هذه الآيات بالهزء والسخرية، وأقبلوا إلى المسلمين يسلقونهم بألسنة حداد، بما عرف فيهم من لجاج ولدد في الخصومة.. فما هذا الخبر الذي حملته الآيات، إلا وعدا كتلك الوعود الكثيرة التي أوسع لها محمد في الأجل، فجعلها في عالم آخر، نصب فيه موازين الحساب والجزاء، وأقام في ساحاته الجنة والنار ... وإذا كان في هذا الوعد الجديد شىء، فهو في قرب الأجل المضروب له ... وهذا القرب هو في ذاته دليل على كذبه، وأنه ليس من عند الله ...
إذ لو كان عن إرادة نصر من عنده لأهل الكتاب على المجوس- لكان ذلك أمرا منجزا، ولما كان لله أن يؤخره بضع سنين ... إذ لا داعية لهذا التأخير، ما دامت قدرة الله حاضرة قادرة أبدا.. بل وأكثر من هذا، فإن هذا النصر لو كان إرادة لله لما وقعت الهزيمة أصلا بالروم، ولكان(11/478)
نصرهم قبل هزيمتهم أوقع وأقرب من نصرهم بعد الهزيمة!.
هكذا، لقى المشركون المسلمين بهذه المقولات وأمثالها، حتى لقد أدّى الأمر إلى أن تقوم مخاطرات بين المسلمين والمشركين، على وقوع هذا الخبر أو عدم وقوعه، وحتى لقد قيل إن أبا بكر- رضى عنه- خاطر أبىّ بن خلف، على عدد من الإبل، يؤديها إلى أبى بكر، إذا غلبت الروم الفرس خلال سبع سنوات، ويؤديها أبو بكر إلى أبىّ، إذا غلبت الفرس الروم، أو لم تقع بينهما حرب أصلا، خلال هذه السنوات السبع!.
وتمضى الأيام، وتتحرك الأحداث، ويهاجر النبي والمسلمون إلى المدينة، ويلتقى المسلمون والمشركون في موقعة بدر في السابع عشر من رمضان، للسنة الثانية من الهجرة، وينتصر المسلمون نصرا كاملا مؤزرا، ويهزم المشركون هزيمة نكراء، فيقتل منهم سبعون رأسا من رءوسهم، ويؤسر سبعون..!
وفي هذا الوقت الذي كانت تدور فيه معركة بدر بين المسلمين والمشركين، وتدور فيها الدائرة على الشرك وأهله، كانت هناك معارك دائرة بين الروم والفرس، وفيها ينهزم الفرس هزيمة إلى الأبد، فلا تقوم لهم بعدها دولة ...
فما هى إلا سنوات بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، حتى تدخل جيوش المسلمين بلاد فارس، وتستولى عليها، وتضمها إلى الدولة الإسلامية.
وليس هذا رجما بالغيب، ولا استملاء من أساطير الأولين، كما يتخرص المتخرصون عن القصص القرآنى.
وهذه صحف التاريخ التي سجّلت هذه الأحداث في وقتها، لا تزال بين يدى أهلها، الذين ليس لهم مصلحة في أن يقيموا تاريخهم على ما يطابق أخبار القرآن، ويجىء مصدّقا له.
والثابت في هذا التاريخ، أنه في سنة 614 من الميلاد كانت تدور معركة(11/479)
بين القرس والروم، وقد بدأت طلائع الهزيمة تنزل بالروم، فاستولى الفرس على أنطاكية، وهى من كبريات المدن الشرقية للدولة الرومانية، ثم استولوا بعد ذلك على دمشق، ثم على بيت المقدس ذاتها، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كنيسة القيامة..
وعام 614 من الميلاد واقع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وسابق لهجرته صلوات الله وسلامه عليه.
وطبيعى أن أنباء هذه المعركة، لم تصل إلى مكة في يومها، وربّما يكون ذلك بعد عام أو أقل من عام، وإن لنا أن نفترض أنه في عام 615 من الميلاد كان نزول هذه الآيات التي نزلت بها أول سورة الروم، لتلتقى مع هذا الحدث، ووقعه على المسلمين والمشركين في مكة ...
وقد حدّدت الآيات أنه بعد بضع سنين سيكون الغلب للروم.. وإذا كان البضع بين ثلاث إلى عشر.. فاسمع ما جرى، وما تحدث به صحف التاريخ الرومانىّ.
تقول تلك الصحيفة: إنه في سنة 622 من الميلاد- أي بعد سبع أو ثمانى سنين من حرب الروم والفرس، بدأت المعارك بين الروم والفرس مرة أخرى، وكان هذا إرهاصا- عند من يرقب الأحداث- بأن ما تحدّث به القرآن عن هاتين الدولتين يمكن أن يقع على ما أخبر به!.
ومع هذا، فإن المشركين حين بلغتهم أنباء هذه المعارك، كانوا يتوقعون النصر للفرس، ولهذا، فإن أبىّ بن خلف حين علم بهجرة أبى بكر طلب إلى عبد الله بن أبى بكر أن يكون كفيلا لأبيه في أداء ما خاطره به، إذا غلبت الفرس، وقد قبل عبد الله بن أبى بكر هذا.
وفي عام 624 من الميلاد، كانت معركة بدر، وحين خرج أمية بن خلف(11/480)
فيمن خرج من المشركين لحرب النبي والمسلمين، أمسك به عبد الله بن أبى بكر عن الخروج، إلا أن يقيم كفيلا يؤدى عنه ما خاطر عليه أبا بكر إذا انهزمت الفرس، وغلبت الروم، فأقام كفيلا له.
وهذا يعنى أن الحرب التي بدأت بين الدولتين في سنة 622، كانت ما تزال قائمة لم تنته بعد إلى نتيجة حاسمة، أو أنها قد تكون قد انتهت، ولكن أخبارها لم تكن قد وصلت إلى أهل مكة.
وعلى أىّ فإنه لم يكد المسلمون يفرغون من المشركين في معركة بدر، ويأخذون طريقهم إلى المدينة، وفي قلوبهم فرحة النصر، وفي أيديهم ما وقع لهم من مغانم- حتى يلقاهم على طريق المدينة من يخبرهم بما انتهى إليه أمر القتال الذي كان دائرا بين الفرس والروم، وأن الروم قد هزموا الفرس، وأخرجوهم من بيت المقدس، وما استولوا عليه من بلاد الروم، كما استولوا على كثير من مدن فارس وأقاليمها.. وبهذا جاءت فرحة المسلمين بهذا النصر الذي مكن لهم من رقاب المشركين يوم بدر- جاءت هذه الفرحة موقوتة بالوقت الذي نطقت به الآيات في قوله تعالى: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» أي أن يوم غلبة الروم للفرس، سيكون في هذا اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وتمتلىء قلوبهم فرحة بهذا النصر العظيم.. فالنصر الذي يفرح به المؤمنون حقّا، هو نصرهم على المشركين من أهل مكة، الذين سخروا منهم، وصبّوا عليهم ألوان البلاء، وأخرجوهم من ديارهم.. وهذا هو نصر الله الذي وعدهم به، ووقّت له غلبة الروم للفرس! وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى هذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، من التعبير عن الصراع بين الفرس والروم بالغلب والتغالب، على حين جاء التعبير عن غلبة المسلمين للمشركين، بكلمة «النصر» .. فهو نصر لدين الله،(11/481)
ونصر للحق في أعلى منازله.. إنه صراع بين إيمان خالص وشرك صريح.
فإذا غلب لإيمان الشرك، فهو نصر للحياة، وللإنسانية كلها، وحقّ له أن يضاف إلى الله: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» ..
أما الصراع الذي كان دائرا بين الروم والفرس، فلم يكن قتالا في سبيل الله، ولا انتصارا لدين الله، وإنما كان قتالا على سلطان، وتقاتلا على سلطة، تتنازعها لدولتان منذ قرون طويلة..
أما التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا الصراع، فلم يكن إلا ردّا على ما تنادى به المشركون في مكة، وما استقبلوا به أخبار انتصار الفرس وهزيمة الروم، فاتخذوا من الفرس جبهة لهم، على حين عدّوا جبهة الروم المهزومة جبهة للمسلمين.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» - جاء خبرا حياديّا، يحدث عن الواقع الذي سيقع بعد بضع سنين، ليقطع على المشركين فرحتهم التي اصطنعوها من هذا الخبر الذي جاهم بنصر الفرس، وليقول لهم: لا تفرحوا لأمر تستقبلون أوله، ولا تدرون ما يقع في آخره.. فهذا الغلب الذي تفرحون به، هو غلب موقوت ستعقبه هزيمة خلال بضع سنين! ولهذا جاه قوله تعالى بعد ذلك:
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فهذا للقول وإن كان تعقيبا واقعا على قوله تعالى: «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» فإنه يشير من طرف خفىّ إلى قصر أنظار المشركين، وأنهم لا تمدون أبصارهم إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولو أنهم أحسنوا النظر إلى هذا النبأ الذي جاءهم بغلبة الفرس، لما استبدّ بهم الفرح، ولعلموا أن الغلب(11/482)
قد تعقبه هزيمة، وأن الهزيمة قد يتلوها غلب ... هكذا تجرى أمور الناس فى هذه الحياة: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .. ولكن القوم- لجهلهم، وعمى بصائرهم- لا يقفون من الأمور إلا عند ظواهرها، ولا يأخذون منها إلا ما يلقاهم على يومهم.. وهذا شأنهم في دينهم الذي يدينون به.. إنهم أحلوا أنفسهم من كلّ شىء يشغلهم عن حياتهم الدنيا، فهى يومهم الذي لا يوم لهم بعده.. أما الآخرة، فلا شأن لهم بها.. إنهم في غفلة عن كلّ أمر يصلهم بها، وفي صمم عن كل حديث يلقى إليهم عنها..
قوله تعالى:
«غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» .
المراد بأدنى الأرض، أقربها، وهى أقرب البلاد من مملكة الروم الشاسعة، إلى جزيرة العرب، وهى تلك البلاد الواقعة في المناطق الشرقية من مملكة الروم.. كدمشق وبيت المقدس وغيرها..
«فِي بِضْعِ سِنِينَ» ..
هو تحديد للوقت الذي يقع فيه هذا الخبر.. والبضع من السنين ما بين الثلاث إلى العشر..
«لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» أي أن الأمر كله لله، من قبل الغلب ومن بعده.. فما غلب الغالبون إلا بأمر الله، وعن إرادته ومشيئته.. وما سيغلب المنهزمون إلا بأمر الله، وعن إرادته ومشيئته «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (78: النساء) .
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» .
أي في هذا الوقت الذي يقع فيه هذا الخبر، وهو غلبة الروم للفرس، سيقع أمر أهمّ وأعظم، وهو انتصار المسلمين على المشركين، حيث يمدهم الله بنصره،(11/483)
ويمنحهم عونه وتأييده، فتمتلىء بالفرحة صدورهم، وتخفق بالرضا والسرور قلوبهم..
«يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. فالنصر بيد الله وحده، ليس لأحد شركة مع الله فيه، فهو العزيز ذو القوة والبأس، الرحيم الذي يوسع من رحمته لعباده المؤمنين، فيعزهم بعزته.
«وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
«وَعْدَ اللَّهِ» مفعول به لفعل محذوف، تقديره: صدّقوا وعد الله، أو استيقنوا وعد الله. ونحو هذا.
وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أي لا يعلمون هذه الحقيقة، وهى أن الله لا يخلف وعده.. والمراد بأكثر الناس هنا هم المشركون والضالون، الذين لا يؤمنون بالله.. فهؤلاء هم أكثرية الناس.. وهم لا يصدقون ما تتحدث به إليهم آيات الله، عن الله، لأنهم لا يقدرون الله حق قدرة، ولا يعلمون ما ينبغى أن يكون له سبحانه من صفات الكمال والجلال..
«يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» .
هذا هو علم المشركين، والضالين المكذبين بالله.. إن علمهم محصور فيما يتعلق بأمور الدنيا، وما هم فيه من لهو ومتاع بها..
وفي قوله تعالى: «ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» - إشارة إلى أن العلم في ذاته مطلوب، لكل أمر يعالجه الإنسان.. وأن العلم- حيث كان- نور يهدى صاحبه، ويكشف له معالم الطريق إلى الخير والحق.. هذا إذا كان العلم قائما على نظر سليم، وإدراك صحيح، وإلا فهو سراب يخدع صاحبه، ويضله عن سواء السبيل..(11/484)
وعلم هؤلاء المشركين، الضالين، المكذبين بالله- مع أنه مقصور على هذه الحياة الدنيا- هو علم يقف عند ظاهر الأمور فيها، ولا ينفذ إلى الصميم منها.. ومن هنا ينخدع هؤلاء الضالون بهذا العلم الذي لا يمسك من الأشياء إلا ببريقها، ولمعانها، فيندفعون به إلى مواقع الهلاك، كما يندفع الفراش إلى النار، مأخوذا بضوئها، مبهورا بألسنة لهيبها..
أما العلم الحقيقي بالحياة الدنيا، وبما فيها من آيات الله المبثوثة في كل ذرة من ذراتها، وما أودع الله سبحانه في الكائنات من أسرار، فذلك علم من شأنه أن يفتح مغالق العقول، ويضىء جوانب البصيرة، ويهدى صاحبه إلى كل ما هو حق وخير..
وبهذا العلم، يرى العالم قدرة الله، ويتعرف إلى بعض ماله- سبحانه- من علم وحكمة، فيؤمن بالله، ويؤمن بما أرسل الله من رسل، وما أنزل من كتب.. وبهذا العلم يصل العالم بين الدنيا والآخرة، فيعمل لهما معا.. إذ لا تعارض بين الدنيا والآخرة، عند من يعلم حقيقة الدنيا، ومكانها من الآخرة..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» .
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الغافلين عن الحياة الآخرة، أن يتفكروا فى أنفسهم وما قام عليه خلقهم.. وكيف كان الإنسان ترابا، ثم نطفة، ثم صار رجلا.. فإن أقرب شىء إلى الإنسان هو ذاته، وهذا يوجب عليه أن يتعرف إلى أقرب قريب إليه، قبل أن يمد بصره إلى ما وراءه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» .
فإذا نظر الإنسان إلى نفسه، نظرا سليما واعيا، عرف بعض ما للخالق سبحانه(11/485)
وتعالى، من عظمة، وجلال، وعلم، وقدرة.. حتى يخرج من هذا التراب الهامد، هذا الإنسان العاقل، المدرك، المتكلم! وبهذا يعلم الإنسان أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- لم يخلق إلا بالحق، ولم يخلق لهوا وعبثا ... وأن كل مخلوق في هذا الوجود هو بعض منه، وأنه لن تنتقض لبنة من بناء هذا الوجود أبدا.. فكل كائن فيه- وإن صغر- دوره الذي يقوم به في وحدة هذا النظام الممسك بالوجود، وله فلكه الذي يدور فيه، كما تدور النجوم في أفلاكها ... تشرق، وتغرب.. ولكنها لا تفنى، ولا تندثر! والإنسان كائن من الكائنات ذات الشأن العظيم في هذا الوجود، فكيف يقع لعقل عاقل أن تنتهى حياة هذا الإنسان بتلك الدورة القصيرة التي يدورها في فلك الوجود، والتي هى سنوات معدودة يقضيها في هذه الدنيا؟ ألهذا خلق الإنسان؟ ولهذا كان خلقه على تلك الصورة العجيبة التي استحق بها أن يكون خليفة لله في هذه الأرض؟.
كلا، إن الإنسان لن تنتهى حياته بهذه الدورة القصيرة على الكوكب الأرضى، وإن له لحياة أخرى، أعظم، وأبقى ... ولكن كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون.. لا يصدقون بأنهم مبعوثون بعد الموت، وأنهم ملاقون ربهم، يوم يقوم الناس لرب العالمين ...
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .(11/486)
هؤلاء المشركون الضالون، إذا لم يكن لهم نظر في أنفسهم، أو كان لهم نظر ولكنه لم يكشف لهم مواقع الحق فيما رأوا منها- أفما كان لهم نظر إلى ما بين أيديهم، وتحت أبصارهم، من بقايا هذه الأمم التي كانت تعمر تلك الأطلال البالية، وهذه القرى الغارقة في أحضان البلى؟ ثم ألا رأوا في هذه المخلفات ما كان عليه أهلها من حياة عامرة، زاخرة، وما كان لهم من قوة وبأس شديد ... ؟ ثم ألا أعادوا النظر مرة أخرى، فرأوا كيف تبدلت الحال، وكيف ساء المصير؟ لقد كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، فأوقع الله بهم عقابه، وأخذهم ببأسه، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
لقد ظلموا هم أنفسهم، فحادوا بها عن طريق الهدى، وأوردوها موارد الهلاك.
- وفي قوله تعالى: «أَثارُوا الْأَرْضَ» إشارة إلى أنهم قلّبوا وجوهها، واستخرجوا خبأها.
قوله تعالى:
«ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» .
السّوءى: أي العاقبة السيئة، وهى ضد الحسنى.. كما يقول الشاعر:
أنّى جزوا عامرا سوءا بفعلهم ... أم كيف يجزوننى السوءى من الحسن؟
وهى اسم كان مرفوع، وخبرها «عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا» والتقدير: ثم كانت السوءى عاقبة الذين أساءوا.. أي جزاهم الله سوءا لفعلهم السيّء..
كما يقول سبحانه: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ، وهو من باب المقابلة، وذلك لأن ما يجزون به، إنما هو سوء بالنسبة لهم، لأنه يسوءهم ويؤذيهم.. أما الجهة التي توجهت به إليهم، فهو ليس منها، وإنما هو فعلهم، عاد إليهم، فالأمر لا يعدو أن يكون فعلا وردّ فعل!.(11/487)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
وقدم الخبر على الاسم، وأخر الاسم، لإثارة حب الاستطلاع إليه، بحجبه قليلا وراء الخبر، فإذا طلع على أهله لم يجدوا فيه إلا ما يسوء!! وقوله تعالى: «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» - هو تعليل لهذا الجزاء السيّء الذي جوزوا به، أي لأنهم كذبوا بآيات الله ولم يقفوا عند حد التكذيب بها، بل اتخذوها هزءا وسخرية، ومادة للعبث والبذاءة- كان هذا جزاؤهم السيّء.
الآيات: (11- 19) [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 19]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
هو تعقيب على ما دعت إليه الآيات السابقة، من التفكر في النفس، أي(11/488)
فى الذات الإنسانية، وما أودع الخالق العظيم في الإنسان من قوى وملكات ثم النظر في خلق السموات والأرض.. ثم السير في الأرض، والوقوف على أطلال الأمم الغابرة ليروا ما حلّ بالظالمين من بأس الله وعذابه.
فهذا التفكر والنظر والتدبر، فى داخل النفس وخارجها، من شأنه أن يفتح للإنسان طريقا إلى الحق، وأن يدلّه على الله سبحانه وتعالى، وما له جلّ شأنه من قدرة لا يعجزها شىء ... فكان قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» - هو الحكم الذي يقضى به النظر فى هذا الوجود، والذي إن لم يستدل إليه الإنسان بنظره، ثم جاءه من يحدثه به، كان جديرا بأن يقبله، إذ كان على امتداد النظر، وفي مواجهة الفكر.
فإن أنكر الإنسان معطيات حواسه، ومدركات عقله، ثم كذّب ما يحدّثه به أهل الصدق والعلم، فلن يهتدى إلى حق أبدا، ولن يحصل على خير أبدا، ولن يصير إلا إلى أسوأ مصير.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ» .
هو تهديد وإزعاج لهؤلاء المشركين، الذين أنكروا البعث، ولم يتلقوا قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» - لم يتلقوه بالقبول، والإيمان ... إنهم مجرمون.. والمجرمون وإن رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فإنهم سيلقون يوم القيامة هوانا وبلاء، حيث يشتمل عليهم الهول، مما يرون من عذاب الله، فيبلسون، أي يحمدون في أماكنهم، وتجمد حواستهم، مما يطلع عليهم من أهوال ومفزعات.
قوله تعالى:
«وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» .(11/489)
أي لم يكن لهؤلاء المجرمين من شافع يشفع لهم، ويجيرهم من عذاب الله، وأن معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، قد ضلّت عنهم، وقد كانوا من قبل على يقين بأنهم سيشفعون لهم عند الله، كما يقول الله تعالى عنهم:
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) - وقوله تعالى: «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» .. أي وكان هؤلاء المشركون، من أهل الكفر والضلال، بسبب شركائهم هؤلاء الذين عبدوهم من دون الله ... فهم بعبادة هذه المعبودات لبسوا ثوب الكفر، وكانوا من الكافرين ... وللكافرين عذاب مهين.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» .. أي أنه إذا كان بين هؤلاء المشركين وبين معبوداتهم ولاء، هو ولاء التابع للمتبوع- ثم كان بين بعضهم وبعض، اجتماع وائتلاف، على عبادة هذه المعبودات، والدفاع عنها، ودفع كل يد أو لسان يمتد إليها بسوء- فإنه في يوم القيامة، ستتقطع بينهم جميعا الأسباب، فلا يلتفت المعبودون إلى عابديهم، ولا ينظر عابد في وجه عابد أو معبود.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .. «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» .
قوله تعالى:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» .
الحبر، والحبور: السّرور والغبطة، والرضوان.. والروضة: الجنة.
أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا يحزنهم هذا اليوم، ولا يضرّهم التفرّق، إذ كان مع كل مؤمن عمله، الذي يؤنسه، ويذهب وحشته،(11/490)
ويملأ قلبه طمأنينة وأمنا، بما يرى من بشريات الإيمان والأعمال الصالحة، التي بين يديه.
إن المؤمنين الذين عملوا الصالحات سينزلون في هذا اليوم أكرم منزل..
إنهم في روضات الجنات، ينعمون بما أعد الله لهم فيها من موائد فضله وإحسانه..
قوله تعالى:
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» .
هؤلاء هم الفريق الآخر، الشقىّ التعس يوم القيامة ... إنهم هم الذين كفروا وكذّبوا بآيات الله، وأنكروا البعث والحساب والجزاء، فلم يقدّموا ليومهم هذا شيئا.. فليس لهم في الآخرة إلا النار..
وفي قوله تعالى: «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» .. إشارة إلى أنهم يساقون إلى العذاب سوقا، ويدفعون إلى البلاء دفعا.. إنهم يودّون أن يفرّوا من هذا البلاء الذي بين أيديهم، ولكن هناك من يمسك بهم على هذا البلاء، ويدفعهم إليه، فى قوة قاهرة مدلة، لا يملكون لها دفعا.
قوله تعالى:
«فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» .
هو خبر، يراد به الأمر.. أي سبّحوا الله، وعظّموه، وأقيموا وجوهكم إليه بالدعاء والعبادة..
والخطاب دعوة للناس جميعا.. مؤمنين، وكافرين ...
أما المؤمنون، فقد رأوا الجنة ونعيمها- وأما الكافرون، فقد عاينوا(11/491)
النار ولظاها.. فالمؤمنون يسبّحون الله، ليبقى عليهم ما أراهم من رحمته ...
والكافرون يسبّحون الله، ليدفع عنهم ما أراهم من عذابه.
- وقوله تعالى: «حِينَ تُمْسُونَ» أي تدخلون في المساء «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أي تدخلون في الصباح ...
- وقوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» اعتراض بين مطلوب الدعوة بالتسبيح لله سبحانه، من الناس، وذلك ليرى الناس أنهم ليسوا وحدهم الذين يسبّحون الله، فالسموات والأرض ومن فيهن تسبّح بحمد الله، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .
وقوله تعالى: «وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» معطوف على قوله تعالى:
«فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» لأنه بمعنى: سبّحوا الله مساء وصبحا، وعشيّا، وحين تظهرون.
وفي هذه الآيات إشارة إلى الصلوات الخمس المفروضة، وأوقاتها..
ففى المساء.. صلاة المغرب والعشاء. وفي الإصباح.. صلاة الصبح، وفي العشى، صلاة العصر.. وفي الظهيرة.. صلاة الظهر..
قوله تعالى:
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» .
فى هذه الآية استعراض عام، كاشف، لبعض قدرة الله، الذي يدعى العباد إلى تسبيحه، وعبادته ... فالذى يسبّح الله مجرد تسبيح، ويعبده عبادة منقطعة عن التعرف على ما لله سبحانه من جلال وعظمة، لا يحدث له هذا التسبيح، ولا تلك العبادة، حالا من اللقاء بربّه، لقاء تشرق به الروح،(11/492)
ويأنس به القلب، وتصفو به النفس، الأمر الذي من شأن العبادات أن تترك آثاره في العابدين.
- وفي قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» دعوة إلى القراءة الواعية في صحف الطبيعة، وما فيها من آيات الخلاق العظيم.. ففى كل نظرة يلقيها الإنسان على أي موقع من مواقع الحياة، يرى حياة تخرج من موات، ومواتا يخرج من حياة.. الشيء وضدّه، يتبادلان موقفهما.. فالميت يأخذ مكان الحىّ، والحىّ يحل مكان الميت، حتى لكأنهما كائن واحد لا فرق بينهما، فى حالى الحياة والموت..
وهذا من عجيب قدرة الله، وبسط سلطانه على المخلوقات.
وفي قوله تعالى: «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» إشارة إلى أن خروج الموتى من القبور، لا يخرج عن أن يكون صورة من تلك الصور، التي تخرج فيها الحياة من عالم الموات ... وأقرب مثل لهذا، الأرض الجرداء الجديب، ينزل عليها الماء، فتهتزّ وتربو وتنبت من كل زوج بهيج..
فهل تعجز قدرة الله أن تنفخ في هذا التراب الهامد، الذي احتوى أجساد الآدميين، فإذا هم بشر ينتشرون؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» (17- 18: نوح) ..
فلم ينكر المنكرون البعث؟ ولم يجادلون فيه؟ إنه ليس عن إنكار لقدرة الله، فما ينكر عاقل على هذه القدرة أي شىء.. ولكنه هروب من المسئولية، وفرار من مواجهة الحساب يوم القيامة، وإخلاء النفس من مشاعر الإيمان بالحياة الآخرة، لتنطلق كما تشاء، لاهية عابثة، تنفق كل شىء في سبيل حظوظها الدنيوية، لا تستبقى للآخرة شيئا! .. وهكذا يغرر المرء بنفسه، ويخدع عقله، ويستجيب لداعى هواه، فلا يرى من حقائق الأمور إلا ما يتفق وهواه..(11/493)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
الآيات: (20- 27) [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
التفسير قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» .
هذه الآية معطوفة على الآية قبلها: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» . فهذا من آيات الله ... أي ومن آياته كذلك أن خلق الناس من تراب، ثم إذا هم بشر ينتشرون..(11/494)
وقضية خلق الإنسان، كما جاء بها القرآن، تلتقى مع العقل، فى كل طور من أطواره، صعودا، أو نزولا..
ففى القرآن الكريم عشرات من الصور التي خرج بها الإنسان إلى هذا العالم.. وهذه الصور وإن اختلفت مظهرا، فإنها تلتقى جميعا في مضمونها ومحتواها.
فالعقل في أدنى مستوياته يلتقى مثلا مع قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» (13: الحجرات) وتلك حقيقة لا يستعلى عليها العقل في أعلى منازله، ولا يستغنى عن الأخذ بها..
فإذا ترقى العقل شيئا كان له لقاء آخر مع قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» (1: النساء) .
ثم ما يزال العقل يلتقى مع آيات الله، آية آية.. فيجد في كل آية منها لونا جديدا، تزداد به الصورة وضوحا، وعمقا..
ومن هذه الآيات:
- «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» (20- 21 المرسلات) .
- «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) .
- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» (12: المؤمنون) .
- «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» (14: الرحمن) .
- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (26: الحجر) .
- «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (45: النور) .
فهذه الآيات، وكثير غيرها مما جاء في خلق الإنسان، تضع العقل أمام قضايا، ومقررات، كلها تحدث عن خلق الإنسان، وبعضها واضح جلى،(11/495)
يعرف بأدنى نظر، وبعضها دقيق خفى، لا ينال إلا بنظر دقيق، وإدراك سليم، مع قدر كبير من العلم والمعرفة..
ومع هذا، فإن التقاء هذه الآيات في أي عقل مؤمن لا يحدث صداما بينها، ولا يدعو إلى انفصال في وحدتها، وذلك بحمل الخفي عليه منها، على الجلىّ، والمتشابه- عنده- على المحكم.. ثم يبقى مع هذا للعقل- على امتداد الزمن- مكانه من الآيات الخفية، ينظر في وجهها، ويدور باحثا عن أسرارها.. وفي كل يوم يجد العقل من هذه الآيات جديدا من العلم، ومزيدا من المعرفة، وكثيرا من الأسرار.. وإذا التراب، والطين والصلصال، والحمأ المسنون، والماء، والنبات.. وكل هذه المواد التي تحدث عنها القرآن في خلق آدم- هى العناصر التي شكلت هذا المخلوق العجيب، والتي أقام منها الخالق العظيم، هذا البناء، فى أحسن تقويم..! وحتى ليجىء العلم الحديث متخاضعا بين يدى القرآن الكريم، مستسلما ومسلما لما ضمت عليه آيات الله من أسرار، لم ير هذا العلم بكل وسائله إلا لمحات منها، فيما قررته علوم الحياة من تلك الصلة الوثيقة التي تصل الإنسان بالأحياء، وتجعله حلقة من حلقات سلسلتها الممتدة، الضاربة في أعماق الطبيعة «1» .
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .
الخطاب هنا للناس عموما، رجالا، ونساء.. وليس للرجال، كما فهم ذلك كثير من المفسدين.. فكما خلق الله سبحانه للرجال من أنفسهم
__________
(1) انظر في هذا، المبحث الخاص الذي عرضنا فيه قصة خلق آدم، فى الكتاب الأول من هذا التفسير.(11/496)
أزواجا، خلق سبحانه للنساء من أنفسهن أزواجا.. فكان الوفاق وكان الائتلاف بين المتزاوجين..
والمراد بقوله سبحانه: «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» أي من جنسكم، وطبيعتكم..
وهذا من شأنه أن يؤلف بين الزوجين، وأن يجمع بينهما على الأنس، والمودة.. إذ أن الكائن الحي، ينجذب بطبيعته إلى ما يشاكله من الأحياء..
فكل جنس يجتمع إلى جنسه، ويجد الطمأنينة، والأمن، والسكينة في جواره.
سواء في هذا، الإنسان، والطير، والوحش، والذر.. حتى النبات.. فإنه يزكو، وبنضر، ويزهو في المغارس التي نجمع الجنس منه إلى الجنس.
وفي قوله تعالى: «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» بيان لهذه النعمة، وكشف عن وجه الحكمة فيها، وهى أنه باجتماع الإنسان إلى الإنسان، والذكر إلى الأنثى، تستريح النفس، وتسكن المشاعر، وتطمئن القلوب.. وإنه لا نعمة أجل ولا أعظم من نعمة تفيض على الإنسان الأمن والسكينة.
وفي قوله تعالى: «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» - إشارة إلى أن المودة والرحمة أمران يتولدان من الألفة والسكن، وأنه لولا السكن والائتلاف، ما قامت مودة ورحمة.. لهذا جاء النظم القرآنى مفرقا بين الأمرين، فجعل المشاكلة في الطبيعة البشرية بين الناس، ذكورا وإناثا- خلقا، أي في أصل الخلقة، على حين جعل المودة والرحمة، عرضا من أعراض هذه الطبيعة، وثمرة من ثمراتها، فعبر عنها بلفظ «الجعل» . «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ..
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي يتجلى في روعة أسلوبه، وجلال صدقه..
إذ ليس كل لقاء بين طبيعتين متماثلتين يحدث الرحمة والمودة، وإن كان من شأنه أن يجمع، ويقرب.. فإن المودة والرحمة ثمرة احتكاك، وتجاوب، بين النفوس، وجهد مبذول، ومعاناة معطاة من كل نفس، وعلى قدر هذا الجهد(11/497)
وتلك المعاناة تكون الثمرة.. وما أكثر الأشجار التي لا تعطى ثمرا!! وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» دعوة إلى الزوجين أن يدبرا تفكيرهما إلى هذه الآية من آيات الله، وأن يحققا الثمر المرجو منها. فإن لم يتحقق لهما هذا، كان عليهما أن يرجعا إلى نفسهما، وأن يصححا الوضع الذي هما عليه، حتى يحىء الثمر المطلوب من الزواج، وهو السكن، والمودة، والرحمة.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» .
فى الجمع بين خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، إشارة إلى هذه الظاهرة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس، من اختلاف ألسنتهم وألوانهم. إنها- وهى التي لا يكاد يلتفت إليها أحد- لا تقل عن خلق السموات والأرض، وما فيهما من أجرام وعوالم، فى الدلالة على قدرة الخالق، وجلاله، وعظمته، وعلمه، وحكمته.
إن كل إنسان من الناس هو عالم قائم بذاته، فى ظاهره، وباطنه، جميعا.
ففى كل إنسان آية متفردة من آيات الخلق، وقدرة الخالق. فعلى حين يبدو الناس وكأنهم ثمار شجرة واحدة، إذ هم ثمار مختلفة الطعوم، ولألوان، والأشكال.. كل ثمرة لها طعمها، ولونها، وريحها.
إن العين لتأخذ الناس جميعا، وكأنهم كائن واحد. فإذا عاد النظر إليهم، فردا فردا، كان كل واحد كائنا قائما بذاته، بماله من سمات،(11/498)
وخصائص.. فلكل إنسان نبرات صوته، ومخارج كلماته، وطبقات أنغامه، التي تميزه عن غيره، فلا تختلط نبرة بنبرة، ولا يشتبه مخرج بمخرج، ولا تتماثل طبقة مع طبقة، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هناك تماثلا وتشابها، بين صوت وصوت، ونغم ونغم، فإن الحقيقة غير هذا، حيث توجد فروق دقيقة، وخطوط هندسية غاية في الدقة، تفصل بين صوت وصوت، وتحجز بين نغم، ونغم. وكذلك الشأن في الألوان والأشكال، والصور.. إن يد القدرة القادرة المحكمة، قد أقامت كلا منها في موضعه، وجعلت بينها حاجزا، فلا يبغى بعضها على بعض.. تماما كما حجزت بين البحرين: «هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» هذا، فى ظاهر الإنسان.. أماما في باطنه، فالأمر أعجب وأغرب..
فمنازع التفكير، ومناحى العواطف، ومسارب المشاعر، وخلجات الضمائر، ووسوسات الأهواء- إنها أمواج متدافعة على صدر محيط لا حدود له..
ومع هذا فلا تختلط موجة بموجة، ولا يضيع تيار في عباب تيار..!
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» - إشارة إلى أن عين العلم هنا، هى التي تكشف هذه الأسرار، وتطّلع على هذه الآيات..
[الليل.. وما وسق]
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» .
ومن دلائل قدرة الله، أن أليس الإنسان لباس النوم، ليجد فيه الجسم سكنه وراحته، مما يعالج في يقظته من أعمال، وما يحمل من أعباء.. فكان النوم واليقظة خلفة، يدوران في فلك الإنسان، كما يدور الليل والنهار في فلك(11/499)
الوجود.. وبهذا التوارد للإنسان على موارد النوم واليقظة، يعرف نعمة الله عليه، وإحسانه إليه، ويجد للنوم طعمه الهنيء في كيانه، كما يجد لليقظة مساغها العذب في كل جارحة من جوارحه.
- وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وفي تقديم النوم، على اليقظة التي يدل عليها قوله تعالى: «وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» - فى هذا إلفات إلى نعمة النّوم، التي قلّ أن يلتفت إليها كثير من الناس، إذ كان في النوم عزل للإنسان عن الحياة، وقطع للصلة بينه وبين ذاته، حتى لكأنه قد فقد وجوده.. ومن هنا كانت نظرة كثير من الناس إلى النوم على أنه عارض دخيل على الإنسان، أشبه بالآفات التي تعرض للجسد..
وهذا فهم خاطئ هذه النعمة العظيمة التي تضيفها يد الرحمة الإلهية على الإنسان! ..
وندع النظر إلى النوم- كظاهرة جسدية- وإلى وظيفته العضوية في كيان الجسد الإنسانى وتنظر إلى ما يقع للإنسان في رحلة النوم، وما يصادفه على طريقه من رؤى وأحلام، حيث تنطق قوى الإنسان الخفية، وتسبح في عوالمها، وتحقق قليلا أو كثيرا من مطالبها التي أمسكتها عنها يقظة الجسد، وقيدتها دونها جوارحه.
ففى رحلة النوم، وفيما بين اليقظة والنوم، يسبح الإنسان بعقله وروحه، فيما وراء هذا العالم المادي.. حيث لا قيود ولا سدود.. وحيث يحقق الإنسان فى هذا العالم ما عجز عن تحقيقه في عالمه المادىّ، فيجد في هذا ما يجد الجوعان بعد الشبع، والظمآن بعد الرىّ! فكم من محروم، طعم في نومه من كل طيّب كانت تشتهيه نفسه، وتقصر عنه يده؟ وكم من مظلوم، اكتوى بنار الظلم من يد ظالمه، ثم جاء إليه(11/500)
فى عالم الأحلام، صاغرا ذليلا، فكال له الصاع صاعين، وشفى ما بنفسه من قسوة الظلم ومرارته؟.
وكم من محبّ باعد الزمن بينه وبين حبيبه، وانقطع بينهما حبل اللقاء، بغربة نائية في عالم الأحياء، أو عالم الموتى.. وإذا هما في الكرى على لقاء، يتساقيان كئوس الحبّ مترعة، ويرتشفان راح المودة صافية؟.
وكم من عالم وقف به علمه أمام معضلة لم يجد لها حلّا، حتى دبّ اليأس فى صدره، وغربت شمس الرجاء من أفقه، وإذا هواتف الرؤى تناديه، وتبوح إليه في نومه بما ضنت به عليه في يقظته.. وإذا الحقيقة بين يديه سافرة، والمعضلة بديهة!! وكم؟ وكم؟ وكم؟
إننا في عالم النوم لنجنى من الثمرات العقلية، والروحية، والنفسية، ما لا نحصل عليه في يقظتنا، بمدركاننا، وحواسنا.
ذلك أن النوم إذا قطع صلتنا بعالم الحسّ، وصلنا بعالم الروح.. وكما تأخذ أجسادنا حظّها من طعام وشراب، من عالمها المادي، فإن أرواحنا، ونفوسنا، وعقولنا تتزود في رحلة النوم، من عالم الروح بكل ما تستطيع الوصول إليه منه.
فالنوم ليس إلا حبسا للجسد، وإطلاقا للروح. وهو بهذا إنما يعطى الجانب الروحىّ من الإنسان حظه، من التحرر والانطلاق من كثافة المادة، وضغوطها، وظلامها.. وإلّا، فإنه لو ظنّت الروح حبيسة في كيان الجسد، تقوم على حراستها في داخل هذا السجن المظلم- الحواسّ والمدركات- لاختنقت، وانطفأ نورها، ومات شعاعها.
وماذا يبقى للإنسان أو من الإنسان إذا عطبت روحه، وانطفأ هذا المصباح الإلهى المشتعل في كيانه؟ إنه لا إنسان بغير روح، وإنه لا وجود لإنسانية(11/501)
فقدت روحها، وإن لم تفقد حياتها.. ومن هنا نستطيع أن نفهم قول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» .. فهذا يعنى أن الروح قد تخلصت بالموت تخلصا تاما من الجسد، وخرجت بوجودها كلية من سجنه المطبق عليها، وعندئذ بحد الإنسان وجوده كاملا.. فالإنسان في حقيقته روح، وما الجسد إلا منزلا نزلته الروح في مرحلة من مراحل السفر في هذا الوجود! ومن هنا نستطيع أيضا أن نلمح أن البعث بالروح لا بالجسد ... ولهذا مبحث خاص سنعرض له- إن شاء الله! فالذين يستخفون بالنوم، ويمدونه ضرورة من الضرورات الثقيلة المفروضة على الطبيعة البشرية، ويحسبونه داء من تلك الأدواء التي تلحق الإنسان، وتطغى على وجوده، كالطفولة، والشيخوخة- هؤلاء مخطئون أشد الخطأ، إما لجهلهم، الذي يقصر بهم عن إدراك ما لا تلمسه أيديهم، وتذوقه أفواههم، وإما لأنهم ماديون، لا يرون إلا المادة، ولا يتعاملون إلا بها، ولا يجدون في الإنسان إلا أنه حيوان، مخلف بهذا الخلاف المادي من العظم واللحم! وإذا كان «النوم» - على ما رأيت- نعمة جليلة، فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل الليل الذي هو الظرف الطبيعي للنوم- نعمة جليلة أيضا، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (72: القصص) ..
فالليل، ستار يغشى الكائنات الحية، ومنها الإنسان، فيسلمها ذلك إلى السكن، ثم النوم!.
إن لليل سلطانا قاهرا كسلطان النهار على الأحياء.. هذا النوم، وذاك(11/502)
لليقظة ... ذلك للموت، وهذا للبعث.. «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى.. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» (60: الأنعام) .
وقد كان الليل، لسلطانه هذا، إلها، يناظر النهار، ويقاسمه حكم هذا العالم.. فدان كثير من الناس بهذه الديانة المثنوية، فجعلوا الآلهة اثنين، إلها للنور، وآخر للظلمة.. واعتقدوا في إله النور الخير، على حين كان معتقدهم فى إله الظلام أنه شر، وأن الحرب دائرة بينهما، وأن على المؤمنين أن ينتصروا لإله الخير، وأن يرقبوا خلاص العالم، من الظلام، والشر، على يديه ... وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تحدّث أن المانوية تكذب
فهو يجد في الليل طيف محبوبه يلمّ به، ويسعده، فى زورة من زورات الأحلام، وهذا يحدث عن الليل بما يكذب المانوية، التي تعتقد أن الليل شر لا يجىء منه خير! بل إن المتنبي ليجد هذه اليد الكريمة لليل عنده في عالم اليقظة حيث يتخذ من الليل ستارا يخفيه عن أعين الرقباء، فيقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لى ... وأنثنى وبياض الصبح يغرى بي
وكم تغنى الشعراء بالليل؟ وكم حدا الحداة وهم سائرون في عبابه، مأخوذون بهيبته وجلاله؟.
وكم ناجى العبّاد ربهم بالليل، وقطعوا آناءه حمدا وتسبيحا، وركوعا وسجودا؟
إن الليل، وإن لم يستول على الإنسان سلطان النوم فيه، فإن في ظلامه غرصة تحجز الحواس عن الانطلاق، وتمسكها عن العمل، وعندئذ تصحو(11/503)
شاعر الإنسان، وتستيقظ روحه، ومن هنا يكون مهيئا للانصال بالعالم العلوي، والوقوف على موارده، والري من مشاربه..!
ولأن الليل هو الظرف الطبيعي للنوم- كما قلنا- فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به، وسمى سورة من القرآن الكريم به، تنويها بقدره، وإشارة ترفع تلك الغشاوة التي تنظر إليه نظرة باردة، أو شاردة، أو متهمة.. فقال تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» (1- 2 الليل) وقال سبحانه: «وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» (1- 4: الشمس) وقال سبحانه: «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» (17: الانشقاق) .
- وفي عطف النهار على الليل في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» - تقرير لتلك الحقيقة الواقعة، وهى أن الليل، وإن كان هو الظرف الطبيعي للنوم، فإن ذلك لا يمنع أن يكون النهار ظرفا للنوم أيضا، حيث ينام الناس بالليل، وينامون كذلك بالنهار، وإن كان النوم بالليل أصلا، والنوم بالنهار فرعا ... ولهذا قدم الليل على النهار في هذا المقام..
ومن جهة أخرى، نجد في قوله تعالى: «وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وإن جاء مجاورا للنهار، فإنه معطوف على قوله تعالى: «مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ» .. وهذا يعنى أن النهار، وإن كان الظرف الطبيعي للسعى والعمل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الليل ظرفا للسعى والعمل! كما هو واقع في الحياة. فالناس يعملون بالنهار، ويعملون بالليل، كما ينامون بالليل، وينامون بالنهار..
وعلى هذا يكون مفهوم النظم القرآنى هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله، بالليل والنهار.
ولكن أين هذا من ذاك؟ هذا كلام، وذاك قرآن..!(11/504)
وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» وفي استدعاء السمع هنا، دون حواس الإنسان وملكاته الأخرى- فى هذا إشارة إلى أن السمع الذي يحقق إدراكا، ويعطى فهما، ثم يعطى لهذا الفهم، وذلك الإدراك، ثمرة- هو السمع الذي يخلى له الإنسان حواسه كلها، ويعطيه وجوده كله، على ما يكون عليه الإنسان في الليل، وقد اشتمل عليه، وأمسك كل حواسه، فلم يبق الإنسان إلا سمعه المرهف، الموجه إلى العالم الخارجي، وما يجىء منه ... وذلك ما يكون عليه الإنسان، حين يقع تحت حكم الآية:
«وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» ، فيحتويه الليل، ويبسط عليه سلطانه.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .
مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنهما جميعا في معرض الدلالة على قدرة الله سبحانه، والكشف عن أنعمه وآلائه.. ثم إن البرق إنما يظهر سلطانه على أئمّه، حين يلمع بالليل الذي جاء ذكره في الآية السابقة.
ورؤية البرق، إشارة دالة على الرحمة المرسلة من عند الله، على يد هذا السحاب الذي ينطلق البرق من خلاله.. فإذا لمع البرق توقع الناس الغيث، واختلفت توقعاتهم له بين يأس ورجاء، وخوف وطمع.. وذلك أن البرق وإن كان رسولا من رسل الغيث، إلا أنه قد يحىء بالغيث، وقد لا يجىء.. فهناك برق يسمى برق الخلّب، وهو الذي يبرق ولا يصحبه مطر.. ومن هنا كان قوله تعالى: «خَوْفاً وَطَمَعاً» - إشارة إلى أن لمعان البرق، وإن طلع على(11/505)
الناس بما يبشر بالغيث، فإنّه يضع المشاعر المترقبة للمطر، المتلهفة عليه، فى موضع متأزم، بين الخوف والرجاء.. بل إن الخوف ليغلب على الرجاء، وخاصة إذا كانت الحاجة إلى المطر شديدة، والطلب له ملحا وهذا هو بعض السرّ في تقديم الخوف على الطمع.. إذ كانت الآية الكريمة منجهة أوّلا إلى من يقيمون حياتهم على ماء المطر، مثل سكان الصحارى، ونحوها. فهؤلاء إذا تأخر نزول المطر أياما، وأمسكت السماء رحمتها قليلا عنهم، فزعوا، واضطربوا، وتعلقت أنظارهم بالسماء، يرقبون السحب، ويرصدون مسيرتها.
فإذا لمع البرق، بدا لهم منه الوجه الضاحك المبشر بالخير، فقرحوا، واستبشروا..
ولكن سرعان ما يطلع عليهم شعور أسود كالح، يقطع عليهم هذه الفرحة، كأنه يقول لهم: وما يدريكم أن وراء هذا البرق مطرا؟ ألا يجوز أن يكون برفا خلبا؟ وهنا يأخذ الخوف مكان الصدارة على مشاعرهم، شأن الحريص على الشيء، المتلهف إليه ... يغلب عليه الخوف على فقده أكثر من الطمأنينة إلى بقائه!.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» قيام السماء والأرض بأمر الله، هو حفظ نظامهما، والإمساك بهما على هذا النظام الذي أوجدهما الله سبحانه وتعالى عليه.. وأمر الله، هو سلطانه وقدرته.، وهذا يعنى أنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يضيف هذا الوجود، فى أرضه وسمائه إلى غير الله سبحانه، كما يقول بذلك الملحدون من الطبيعيين الذين ينسبون الموجودات إلى الطبيعة، ويقولون إن الأشياء وجدت هكذا بطبيعتها- نقول إنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يقول مثل هذا القول،(11/506)
فكيف يسوغ له أن يقول إن هذا التجاوب بين الموجودات، وهذا النظام الذي يمسك بها، ويولّف منها نغما موسيقيا منسجما- هو من عمل الطبيعة ذاتها؟ إن هذا يعنى أن الطبيعة عاقلة، حكيمة، مدبرة، عالمة، قادرة.. وهذه هى بعض صفات الألوهية.. فلم تسمّى إذن الطبيعة طبيعة، ولا تسمى إلها؟
إن المسافة قريبة جدا هنا بين الطبيعة وبين الإله.. وإنه لأقرب إلى العقل والمنطق أن يقوم على الموجود مدبّر واحد، يولف بين وحداته، ويجمع بين أشتاته، بدلا من قيام مدبرات تقوم في وحدات الطبيعة، وتجعل منها نظاما واحدا! - وفي قوله تعالى: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» .
إشارة إلى أن أمر الله وسلطانه، الذي تقوم به السموات والأرض، أن تدعوا من القبور بعد موتكم، دعوة واحدة، فإذا أنتم قيام تنظرون..
وهذا يعنى أن البعث بعد الموت، نظام قائم في هذا الوجود، أشبه بنظام دوران الكواكب في أفلاكها، والليل والنهار في فلكهما.
وفي العطف «بثم» إشارة إلى أن هذه الدعوة التي يدعى بها الموتى لم يجى وقتها بعد، وأنها أمر مستقبل، لا يعلم أحد متى يكون.. وإن كان من المعلوم أنها لا تقع إلا بعد أن يموت الناس جميعا.. وفي تصدير الجملة الخبرية «إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» بأداة المفاجأة «إذا» - إشارة إلى أن البعث من القبور سيعقب الدّعوة مباشرة، بلا مهل ... كما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) . والفجاءة إنما نقع على أولئك الذين لا يرجون بعثا، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة..
ولهذا فهم إذا بعثوا أخذهم الدهش والعجب، وقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «يا وَيْلَنا.. مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» (52: يس) ..(11/507)
قوله تعالى:
«وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» .
القانت: الخاضع المستجيب لغيره، طوعا.
والآية تعقيب، على الآية السابقة، وأن هذا الوجود في سمائه وأرضه، هو خاضع لأمر الله، مستجيب له.. وأن الموتى إذا دعوا من قبورهم لا يملكون إلا أن يستجيبوا لما دعاهم إليه سبحانه وتعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وفي التعبير عما في السموات والأرض من مخلوقات، بلفظ «من» التي للعقلاء- إشارة إلى أن هذه الموجودات، محكومة بنظام، مسيّرة بحكمة وعلم، حتى لكأن في كل كائن منها عقلا مدبّرا، وموجّها.. فهى بهذا الاعتبار، عاقلة، مدركة! ..
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
وهذه الآية تعقيب كذلك على الآية السابقة، وهى تقرر أن من له من في السموات والأرض، هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده كما بدأه..
والمراد بالخلق هنا، المخلوقات كلها.. وهذا يعنى أن الوجود في حركة دائمة، وفي هدم وبناء مستمرّين.. وأن الوجود في أية لحظة، هو على غير صورته في اللحظة السابقة أو اللاحقة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» .. فمعنى الهلاك هنا هو التحول، والتبدل، وتغاير الصور والأشكال، وليس معنى الهلاك الفناء المطلق ... إذ أن المادة لا تفنى، وإنما تتبدّل وتتحول، وتأخذ قوالب مختلفة! وكذلك ما جاء في(11/508)
قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» هو من هذا المعنى، وأن الفناء هو زوال صور الأشياء، وقوالبها وأخذها صورا وقوالب أخرى.. فعملية الخلق مستمرة دأبا، وتقابلها من جهة أخرى عملية الموت، أو البلى، أو الفناء، أو الهلاك..
وكلها هنا بمعنى واحد، وهو التحول والتبدل، لا الفناء المطلق الأبدى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» (104: الأنبياء) .
وقوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .
«أهون» صيغة تفضيل، وأصله من هان الأمر، أي خف بعد ثقل، وأمر هين: خفيف الحمل، قليل المئونة، ومنه قوله تعالى: «قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» .
وليس بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ما هو هين، وأهون منه.. فكل شىء في قدرة الله، لا يعجزه سبحانه، شىء في الأرض ولا في السماء.. لا يتكلف- سبحانه وتعالى- لأمر جهدا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .. يستوى في هذا كبير الأمور وصغيرها.. السموات والأرض ومن فيهن، هى في قدرة الله كالذرة أو البعوضة.. «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» .
فهذا التفضيل «أهون» - منظور فيه إلى قدرة الإنسان، وإلى ما يقوم على صنعه من أشياء.. فاختراع الشيء، لا يتوصل إليه الإنسان إلا بعد جهد، ومعاناة، وتبديل وتغيير، وتسوية، وحذف وإضافة، حتى يستقر الشيء على الصورة التي يرتضيها.، فإذا انتهى الإنسان إلى تلك الصورة، كان حلها وتركيبها، أمرا هينا عنده، لا يتكلف له جهدا.. إن مثال الصورة قائم بين يديه، وحاضر في تفكيره، وما عليه إلا أن يضع الأجزاء(11/509)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
التي تناثرت أشلاؤها، فى هذا القالب، فإذا الصورة قائمة على ما كانت عليه ...
- وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى أن قوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» هو من قبيل التمثيل، بضرب هذا المثل الله، منتزعة صورته من أفعال الخلق، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فهو سبحانه: «العزيز» الذي تعنو لعزته وسلطانه كل عزة، وكل سلطان، ويستجيب لقدرته كل موجود في هذا الوجود..
«الحكيم» الذي تقوم عزته، ويعمل سلطانه، ويمضى حكمه- بالحكمة والعدل، والإحسان.
الآيات: (28- 32) [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(11/510)
التفسير:
قوله تعالى:
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .
هذا مثل آخر، ضربه الله سبحانه، من واقع الناس، وعلى مستوى وجودهم فيه، ليروا من خلال هذا المثل ما ينبغى لله من كمال.
ففى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» مثل مضروب من واقع الناس في حياتهم، وهو أن تشكيل الأشياء على صورة معروفة للناس، أهون عليهم من ابتداع هذه الصورة، واختراعها.. وكذلك- مع بعد ما بين قدرة الله وقدرة الناس- يكون بعث الموتى من قبورهم، وإعادتهم إلى الصورة التي كانوا عليها، ليس أمرا مستبعدا، حتى ينكره المنكرون، ويمارى فيه الممارون، إذ كان ذلك البعث إعادة للشىء إلى ما كان عليه، وإعادة الشيء- كما هو معروف عندهم ومسلّم به لديهم- أهون وأيسر من خلقه ابتداء..
وفي هذه الآية مثل للذين يجعلون لله أندادا، ويتخذونهم أربابا، يحبونهم كحب الله، بل ويؤثرونهم بالحب والولاء ... !
وفي هذا المثل يطلب إلى المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى الوضع الذي بينهم وبين عبيدهم، وما ملكت أيمانهم.. أيرضى هؤلاء السادة أن يسلّموا لعبيدهم- وهم بشر مثلهم- أن يشاركوهم فيما أتاهم لله من مال ومتاع؟
وأن يقفوا منهم موقف الند والشريك؟ وأن يحاسبوهم فيما يجرون عليه من(11/511)
تصرفات في هذا المال وذلك المتاع؟ أيقبل السيد أن يكون لعبده يد على ما ملكت يده فلا يتصرف في شىء حتى يأخذ رضاه وموافقته؟ ذلك مالا يرضاه ولا يقبله سيد! وإلا فأين السيادة؟ وأين سلطانها المبسوط على ما بين يديها؟.
هذا، والأمر يجرى بين مخلوقين لله، من سادة وعبيد، وفي مال الله، وفيما رزق، وأنعم من نعم!.
فكيف إذا خرج هؤلاء المشركون عن دائرة أنفسهم، ينقلب هذا المنطق، حتى تنعكس هذه الصورة، وحتى يجعلوا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، شركاء له، فيما ملك ملك خالص له، لم يفده من أحد، ولم يتلقه من مخلوق؟ كيف يقبل هذا الضلال عقل، ويطمئن إليه عاقل؟ ..
فهل مع هذا البيان الواضح المبين، ومع هذه الحجة الدامغة القاطعة، يقبل المشركون أن يكون مع الله شريك، يرجون رحمته، أو يخافون عذابه؟
قد يكون! وهو كائن فعلا، فما أكثر المشركين الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، فلم يروا، فى هذا البيان المبين، ولا في تلك الحجة القاطعة، ما يقيم لهم طريقا إلى الله..
وماذا تجدى الآيات، وماذا تغنى الحجج، إذا لم تجد الآذان المصغية، ولا العقول المدركة المستبصرة؟ «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
فالعقلاء وحدهم، هم الذين ينتفعون بآيات الله، ويهتدون بهديها، يتلقون العبرة والعظة منها ...
قوله تعالى:
«بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ؟.(11/512)
هو إضراب على ما يتلقاه المشركون من آيات الله المفصلة.. إنهم لا ينتفعون بها، ولا يجنون من ثمرها المبارك الطيب شيئا، بل يظلون على ما هم عليه من ضلال وشرك.. إنهم منقادون لأهواء غالبة عليهم، متسلطة على عقولهم.. ومن كان هذا شأنه، فلن ينقاد إلا بمقود هواه، ولا يستجيب إلا لنداء شيطانه..
وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. إشارة إلى أن هذا الهوى المتسلط على المشركين، هو هوى أعمى عمى مطبقا، لا تنفذ إليه شعاعة من ضوء النهار الساطع ... فقد يكون الإنسان متبعا هواه، ثم إذا نبّه تنبّه، وإذا أرشد رشد ... شأن كثير من المشركين، الذين عاشوا في شرك الجاهلية، مستسلمين لأهوائهم، فلما أدركهم الإسلام، وطلعت عليهم شمسه، صحوا من نومهم، واستقبلوا نور الله، فأبصروا من عمى، واهتدوا من ضلال ...
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» .. إشارة إلى هؤلاء المشركين الذين جمدوا على شركهم، وأقاموا على ضلالهم، وأنهم لن يتزحزحوا عما هم عليه من ضلال، ولن يخرجوا عما هم فيه من شرك، لأن الله سبحانه وتعالى قد أركسهم في هذا الضلال، وأغرقهم في هذا الشرك، وخلّى بينهم وبين أهوائهم: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» .. إنهم لن يقبلوا هدى، ولن يطبّ لدائهم طبيب.. وهكذا يعيشون في ضلالهم، ويموتون به ... فإذا جاء وعد الله، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، لم يكن لهم من جزاء إلا النار: «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» يدفعون عنهم بأس الله.
قوله تعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» :.(11/513)
هو أمر للنبىّ الكريم، أن يمضى على طريقه، وأن يدع هؤلاء المشركين وما أركسوا فيه..
وإقامة الوجه للدّين هو، اتجاه القاصد إليه، بكل كيانه، من غير التفات إلى شىء غيره.. والخطاب، وإن كان خاصا للنبىّ، فإنه عام، يدخل فيه كل مؤمن.
- وقوله تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» هو جملة تفسيرية، للدين الحنيف.. ففطرة الله، منصوب بفعل محذوف تقديره، أعنى، أو أريد، أو نحو هذا.. فالدين الحنيف، وهو الإسلام، هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، وخلقهم على استعداد فطرى لقبول هذا الدين، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه» .
وهذا التأويل- والله أعلم- هو أولى من نصب «فطرة الله» على الإغراء، بتقدير لزم فطرة الله، أو نحو هذا.. لأن ذلك يقطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة الله، ويجعل كلا منهما كيانا مستقلا، على حين يجعلهما التأويل الذي تأولناه، شيئا واحدا.. وهو الأولى! وفطرة الله، هى ما أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان من قوى عاقلة، وطبيعة سليمة، فى أصل الخلقة، تقبل الطيب، وتنفر من الخبيث.. وهذا هو ملاك أمر الدين، دين الله، الذي ارتضاه لعباده..
وهذه الفطرة، تعرض لها عوارض كثيرة تشوّه معالمها، أو تفسد طبيعتها، شأنها في هذا شأن حواس الإنسان، من سمع، وبصر، وذوق، ولمس، وشم ... وكما أن لما يعرض للحواس من آفات، دواء تداوى به، كذلك جعل الله سبحانه للفطرة ما تتداوى به، إذا هى أصيبت بآفة من(11/514)
الآفات، وذلك بما يحمله رسل الله من آيات الله، وما في هذه الآيات من هدى ونور..
- وقوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. هو خبر، مراد به الأمر..
والتقدير، لا تبدّلوا خلق الله، وهو الفطرة، ولا تفسدوا هذا الخلق السوىّ، بما تدخلون عليه من أهواء، بل عليكم بحراسة هذه النعمة، وعرضها على هدى الله، إذا طاف بها طائف من الضلال.
- وقوله تعالى: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. الإشارة هنا إلى الدين، فى قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» .. والدين القيم، هو الدين المستقيم على فطرة الله التي فطر الناس عليها..
- وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. الناس هنا هم المشركون، الذين عموا عن أن يروا هذه الحقيقة، وأن يقع لعلهم أن هذا الدين هو الدين المطلوب للفطرة، المتجاوب معها.
قوله تعالى:
«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ- مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ..
المنيب: الراجع إلى الله، المتجه إليه، المقيم وجهه لدينه، مجافيا كلّ دين غيره..
و «منيبين» .. كلام مستأنف، هو إجابة عن سؤال مقدّر، دلّ عليه ما سبق، وهو قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. وذلك أنه لما كان قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» خبرا يراد به الأمر، أي لا تبدّلوا خلق الله- وقع في نفس الذين سمعوا هذا الأمر، وأرادوا الاستجابة له، سؤال، هو: كيف نتصرف حتى لا نبدّل خلق الله؟ فكان الجواب: أنيبوا(11/515)
إلى ربكم، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين» ..
فقوله تعالى: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ..» هو في تقدير أنيبوا إلى الله، ولذا عطف عليه فعل الأمر: «وَاتَّقُوهُ» ..
هذا، وإذا كانت قواعد النحو لا تتسع لهذا التحريج، فإن أسلوب القرآن لا تحكمه قوالب النحو، على ما انتهى إليه اجتهاد المجتهدين في ضبط قواعده..!
وإذا كان لا بد من احترام هذه القواعد، فإن في مجال التخريج متسعا، لقبول كل شارد ووارد.. وبهذا فإن لنا أن نقول: إن «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» منصوب بفعل محذوف تقديره: كونوا «منيبين إليه» أو نحو هذا..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
معطوف على «منيبين» الذي هو في قوة فعل الأمر، أو على فعل أمر مقدر..
والإنابة إلى الله، هى الرجوع إليه، وذلك بتصحيح الفطرة، ومعالجة كل ما عرض لها من آفات، ولهذا جاء بعد ذلك، الأمر بتقوى الله، وإقامة الصلاة حيث يلتقى هذا الأمر مع فطرة سليمة، أناب أصحابها إلى الله، ورجعوا إليه، بعد أن بعدت بهم الطريق عنه.
وقدّم الأمر بالتقوى على إقامة الصلاة، لان التقوى، وهى خوف الله وخشيته، هى التي تجعل للصلاة ثمرتها.. فالصلاة، وأية عبادة من العبادات، أو قربة من القربات، لا محصّل لها إلا إذا كانت عن إيمان بالله، ومعرفة به، وولاء وخشوع لجلاله وعظمته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» وقوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» .(11/516)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
وقوله تعالى:
«مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ..
هو بدل من قوله تعالى: «مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. أي ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيه، حتى تفرقهم شيعا وأحزابا.. لأنهم يدينون بالباطل، والباطل وجوه كثيرة، وطرق متشعبة، فبعضهم يعبد هذا الضم أو ذاك، وبعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد الشمس والقمر.. ولكل جماعة مع معبودها أسلوب عبادة، وطقوس صلوات وقربات، وهى عند نفسها أنها على الهدى، وأن كل ما سواها في ضلال وخسران..
وليس هكذا الحق، فإنه وجه واحد، وطريق واحد..!
الآيات: (33- 40) [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)(11/517)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» .
تشير الآية الكريمة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هى حظ مقسوم في الناس جميعا، يولدون بها كما يولدون على هذه الصورة الإنسانية، وما فيها من جوارح، وما في كيانها من قوى عقلية، ونفسية، وروحية، ثم تمضى بهم الحياة، فيختلفون أشكالا، ويتعددون صورا وأنماطا، فى ألسنتهم، ومدركاتهم، ومشاعرهم..
وهناك حال واحدة، تأخذ فيها الفطرة مكانها في الناس جميعا، حتى أولئك الذين أفسدوا فطرتهم بكفرهم وضلالهم- تلك الحال هى ما يلبس الناس من ضر، وما ينزل بهم من بلاء وكرب.. ففى تلك الحال، يعود الإنسان إلى فطرته، أو تعود إليه فطرته، وإذا هو- من غير حساب أو تقدير، وعلى غير وعى أو إدراك- قد فزع إلى الله، ولاذبه من وجه هذا البلاء المطل عليه..
وفي هذه التجربة التي يمر بها كل إنسان مرات كثيرة في حياته، شاهد يقوم في كيان الإنسان، يشهد بأن الله في ضمير كل إنسان، وفي وجدان كل(11/518)
كافر، ومشرك، وإن كان هو ينكر ذلك، ولا يعترف به.. ولكن إذا مسه الضر، وكربه الكرب، أخذته صحوة كصحوة الموت، وإذا نفسه قد أشرقت بنور الحق، فعرف الله ومد يده إليه.. ولكن سرعان ما يخبو هذا النور، ويطغى عليه ظلام كثيف، حين تزال عنه هذه الغاشية، وتزايله تلك الصحوة، وإذا هو على ما عهد عليه نفسه من كفر وضلال ...
وقوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» تقرير لهذه الحقيقة التي أشرنا إليها، وأن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم على سواء في اللّجأ إلى الله، والضراعة إليه، حين ينزل بهم الضر، ويحتويهم البلاء.. ثم تختلف بهم الحال بعد هذا، كما كانت حالهم مختلفة من قبل.. فالمؤمنون على اتصال بالله في السراء والضراء، وعلى إيمان به وولاء له، فى اليسر والعسر.
أما غير المؤمنين فإنهم لا يعرفون الله، ولا يؤمنون به، إلا حين تضطرب بهم سفينة الحياة، ويغشاهم الموج من كل مكان..
هنالك يدعون الله مخلصين له الدين، كما دعا فرعون ربه، وآمن به حين أدركه الغرق!.
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» .
تصوير لحال هؤلاء الكافرين بالله، حين يرفع عنهم البلاء، وتتداركهم رحمة الله.. إنهم لا يكادون يخرجون من يد الهلاك، حتى ينسوا ربهم الذي دعوه من قبل، وكأنهم لم يكن بينهم وبينه شىء! وفي العطف «بثم» بين الفزع إلى الله، وبين الغوث، واستجابة الدعاء، إشارة إلى أنه ليس في كل غوث يغاث المستغيثون.. فذلك مرهون بتقدير الله وحكمته، وفيما قضى به في عباده..(11/519)
ثم إن الاستجابة، إذا وقعت لا تقع على حسب تقدير الإنسان لحدود زمانها، ولا للصورة التي تقع عليه.. فذلك أيضا، مرهون بتقدير الله، وعلمه، وحكمته.. وهذا مما يبتلى به العباد.. فالمؤمنون يدعون الله تضرعا وخفية، ولا ييأسون من روح الله ورحمته أبدا.. حتى أنه إذا لم يستجب لهم، ووقع ما يكرهون، أصبح هذا المكروه عندهم محبوبا مستساغا، لأنه من عند الله، وبتقدير الله، وبإرادته فيهم.. أما الذين لا يؤمنون بالله، فلا يزيدهم ذلك إلا كفرا بالله، وبعدا عنه..
- وفي قوله تعالى: «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» - «إذا» هنا فجائية، وهى ذات دلالتين:
أولاهما: مبادرة المشركين والضالين، وإسراعهم إلى ما كانوا عليه من شرك وضلال:
وثانيتهما: أن ذلك خروج على غير المنتظر، من قوم كانوا إلى لحظات قليلة يتجهون إلى الله، ثم إذا هم يحولون وجوههم عنه، لا لسبب، إلا ما ساق إليهم الله من خير، وما مسهم به من رحمة!! وهذا أمر يثير العجب، والدهش والاستغراب.. أفهكذا يقابل الإحسان، ويستقبل الفضل؟ ولكن متى كان للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟
وفي قوله تعالى: «مِنْهُمْ» أي من الناس، والمراد بالفريق، المشركون الضالون.
وفي إضافة المشركين إلى «ربهم» - إشارة إلى فداحة هذا الظلم، الذي ركبه هؤلاء المشركون، فجحدوا نعمة ربهم، الذي استجاب لهم، ودفع البلاء عنهم!.(11/520)
قوله تعالى:
«لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» .
اللام في «ليكفروا» هى لام التعليل، فشركهم بالله، هو علّة لكفرهم بما آتاهم الله من نعم، فهم بهذا الشرك. ينكرون نعم الله عليهم، ولا يضيفونها إليه، بل يجعلونها لمعبوداتهم التي يعبدونها من دون الله..
وفي قوله تعالى: «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» انتقال من الغيبة إلى الخطاب، حيث يواجه هؤلاء المشركون بهذا الوعيد من ربّهم.. فليتمتعوا بما هم فيه، وسوف يعلمون ما يجره عليهم كفرهم وشركهم من بلاء شديد، وعذاب أليم.
قوله تعالى:
«أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» .
السلطان: الحجة، البرهان..
وفي الآية إضراب عن خطابهم، وعن الحديث إليهم، وإبعادهم من مقام الحضور، بعد أن تلقوا هذا الوعيد الشديد.. ثم التفات إلى من هم أهل للخطاب من المؤمنين، ليحاكم هؤلاء المجرمون أمامهم.. إنهم أشركوا بالله، فما الحجة التي بين أيديهم على هذا الشرك؟ أأنزل الله عليهم كتابا ينطق بهذا الضلال الذي هم فيه؟ أم قام فيهم رسول من عند الله يدعوهم إلى هذا الذي يدينون به؟ ما برهانهم على هذا؟ وما الحجة التي بين أيديهم والتي يعبدون هذه المعبودات عليها؟ إنهم مطالبون بأن يقيموا على هذه المعبودات حجة، من عقل، أو كتاب، أو رسول ... وإلّا فهو الضلال المبين، والمصير المشئوم. «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117 المؤمنون) .(11/521)
قوله تعالى:
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» .
الناس هنا، هم مطلق الناس.. فإن من شأن الإنسان من حيث هو إنسان، إذا أذاقه الله من رحمته، وأفاض عليه من نعمه.. فرح، ورضى.. وإن أصابه سوء تكرّه، وساء ظنّه، وطاف به طائف اليأس والقنوط! «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (19- 23 المعارج) والناس في هذا درجات متفاوتة.. فالمؤمنون، على حال غير حال المشركين والكافرين..
ثم إن المؤمنين ليسوا على حال واحدة.. بل هم درجات.. والدرجة التي يتحقق بها إيمان المؤمن على صورة سويّة محمودة، هى ألا يستبدّ به الفرح إذا لبسته نعمة، وألا يدخل عليه اليأس والقنوط من رحمة الله إذا مسّه ضرّ، وأصابه سوء.. فهو على رجاء أبدا من رحمة الله، وإنه- وهو في البلاء- ليستسيغ طعمه، وينزله منزل الرضا والتسليم من نفسه.. مفوضا أمره إلى الله، راضيا بما قسم الله له..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
الرؤية هنا بصرية، وعلمية معا.. أي أنها رؤية بالنظر في وجوه الحياة وفي أحوال الناس، ومن هذه الرؤية يجىء العلم الذي يرى منه المبصرون أن(11/522)
الله سبحانه لم يجعل الناس على سواء، فيما قدّر لهم من أرزاق في هذه الدنيا، كما يقول سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا..» (32: الزخرف) فهذا العلم الذي يجىء به النظر في أحوال الناس، وفي اختلاف أرزاقهم- يدلّ على أن ذلك لم يكن إلا بإرادة عليا، وعن تقدير لمالك الملك، المتصرف فى العباد.. فيبسط الله الرزق ويوسعه لبعض الناس، ويضيّقه ويقدره لآخرين، بحكمة وتقدير.. فالأرزاق بيد الله، يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ذلك ما يعرفه المؤمنون بالله، ويرضون بما قسم الله لهم، فلا يبطر المؤمن إذا أصابته نعمة، ولا ييأس، أو يحزن، إذا قدر الله عليه رزقه.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. أما غير المؤمنين فإنهم لا يرون لله في ذلك شيئا.. وإنما هى الدنيا، يقتتل فيها الناس، ويتخاطفون ما عليها، كما تتخاطف الذئاب فريسة وقعت لها.. فمن وقع ليده أو فمه ما يشبعه رضى واطمأن، ومن لم يقع ليده أو لفمه شىء، أغتمّ وحزن، ومات أسى وحسرة! وهذه الآية، هى أشبه بتعقيب على الآية التي قبلها، وهى قوله تعالى:
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» .. ذلك أنه لو نظر الإنسان إلى أحوال الدنيا وتقلبات الأيام، وتبدّل الأحوال بالناس، ثم كان له من هذا النظر عبرة وموعظة- لكان له من ذلك موقف رشيد حكيم مع ما يبتلى الله سبحانه، العباد، من نعم ونقم..
فإذا ساق الله تعالى إليه مزيدا من النعم والإحسان، لم يستبدّ به الفرح، ولم يأخذه الغرور، لأنه يعلم أن ذلك إنى تبديل، وتحويل، وزوال.. وأنه إذا مسه سوء، وأصابه ضرّ، لم يقتله الجزع، ولم يخنقه اليأس والقنوط، لأنه يعلم- بإيمانه بالله- أن تلك الحال لن تدوم، وأن مع العسر يسرا، وأن بعد(11/523)
الضيق فرجا وسعة، كما يقول سبحانه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» وكما يقول جل شأنه «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
قوله تعالى:
«فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» وهذه الآية كذلك تعقيب على سابقتها، لأنه إذا علم الإنسان علما يقينيا، أن الله هو الذي بيده كلّ شىء، وأنه هو سبحانه الذي يجرى أرزاق العباد كما شاء وقدّر- إذا علم الإنسان هذا العلم، سخت نفسه بالعطاء والبذل، وسمحت يده بالإحسان ببعض ما آتاه الله، وخاصة ما كان متعلقا بذي القربى، واليتامى والمساكين.. فهؤلاء لهم حقوق في أموال ذوى المال، وقد أوجبها الله لهم، فى تلك الأموال وجعل أداءها فرضا واجب الأداء، لا تبرأ الذمة إلا بأدائه.
وشتان بين إنسان يعلم أن هذا المال الذي في يده، ليس له فيه شىء، وأن سعيه وكدّه لم يحصّل له إلا ما قدّره الله، وبين من يرى أن هذا المال الذي جمعه هو ثمرة عمله وكدّه، حتى ولو كان وارثا له.. إنه ابن المورّث وكفى!.
فالأول لا يحرص كثيرا على هذا المال، ولا يضنّ به على الحقوق الواجبة لله فيما أعطاه الله.. لأنه إنما يعطى مما أعطاه ربّه، ولا يرى هذا المال الذي فى يده إلا وديعة لله عنده، يأكل منه بالمعروف، ويؤدّى ما أمره به الله تعالى فيه.. إنه ينظر إلى هذا المال على ضوء ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (7: الحديد) فهو خليفة لله» ووكيل(11/524)
عنه، فى هذا المال الذي أعطاه الله، وليس للخليفة أن يخرج عن أمر من استخلفه، وما كان للوكيل أن يذهب مذهبا غير الذي رسمه له موكّله.
وأما الثاني، الذي يرى أن المال الذي معه، هو من جمعه، وكده، فإنه يتصرف في هذا المال تصرف المستبدّ بما يملك ملكا خالصا، لا يرى لأحد شيئا معه.. كذلك فعل قارون، وكان جوابه على من دعاه أن يبتغى بما آتاه الله الدار الآخرة، أن قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي!» (78: القصص) وقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» - الإشارة هنا إلى البذل والإنفاق، على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.. أي هذا الإنفاق فى هذا الوجه، هو خير مدخر، للذين يريدون بما أنفقوا وجه الله، ويبتغون مرضاته، بامتثال أمره، وهؤلاء هم المؤمنون بالله.. أما غير المؤمنين، فإنهم إذا أنفقوا في هذا الوجه، فلا ينالون بما أنفقوا خيرا، لأنهم لم ينفقوا ما أنفقوا وهم ناظرون إلى الله، مؤمنون به، ممتثلون أمره، وإنما أنفقوا ما أنفقوا إرضاء لنزعات نفوسهم، ووساوس خواطرهم..
وقوله تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - الإشارة للمنفقين المؤمنين، الذين يريدون بما أنفقوا وجه الله، فهؤلاء يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم ما أنفقوا، ويضاعف لهم الجزاء الطيب عليه.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27: المائدة) وكما يقول جل شأنه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (26: يونس) وكما يقول سبحانه: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» (37: سبأ) .(11/525)
قوله تعالى:
«وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» .
الربا: هو الزيادة والنماء.. يقال ربا الشيء يربو، أي نما وزاد، ومنه الربوة، وهى ما ارتفع على ما حوله من الأرض.
والربا، فى لسان الشريعة الإسلامية، هو القرض في مقابل عوض..
وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» - معطوف على قوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - فهو في تقدير، ما أنفقتم من خير، وما آتيتم من مال لذوى القربى واليتامى والمساكين تريدون به وجه الله، فهو خير عند الله، تجزون به خيرا وتلقون فوزا وفلاحا.. وما آتيتم من مال تريدون به أن يربو ويزداد في أموال الناس، فلا يقبله الله، ولا يزكيه.. وقد سمى هذا المال المعطى، ربا، لأنه أعطى وهو منظور إليه على أنه يربو ويزيد، ثم يعود إلى صاحبه أضعافا مضاعفة..
- وفي قوله تعالى: «لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» - إشارة إلى أن ربا هذا المال، إنما يربو ويزداد بما يأكل من أموال الناس.. لأنه إنما يربو ويزداد من أموال من أخذوه، ويرعى في أموالهم، ويلتهمها التهاما.. فهو آفة تدخل على الذين يأخذونه، فيغتالها، ويعيث فسادا فيها، ويرعى كل صالحه منها..
وهذا يعنى أن الذين يقترضون بالربا إنما يجنون على أنفسهم، بهذا الوباء الذي يدخلونه عليهم، ويخلطونه بأموالهم..
- وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ(11/526)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
الْمُضْعِفُونَ»
- أي أن ما يعطى من مال قرضا حسنا، بلا مقابل وعوض، هو عمل من أعمال البر، يتقبله الله ويضاعفه للمقرضين، فيبارك عليهم هذا المال، فى الدنيا، ويجزيهم الجزاء الحسن عليه في الآخرة.. هذا إذا كان مرادا به وجه الله، ومعطى من يد مؤمنة بالله، تريد بهذا القرض، تفريج كرب المكروبين، وسدّ حاجة المحتاجين.. أما إذا كان القرض لغير هذا الوجه، فلا مكان له في الصالحات من الأعمال عند الله..
الآيات: (40- 45) [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .(11/527)
عادت الآيات، تتحدث عن المشركين، وتضعهم موضع المساءلة مرة أخرى، لتكشف لهم عما هم فيه من سفه وضلال.. وأنهم وقد طولبوا من قبل أن يأتوا بحجة وبرهان على ما يعبدون من دون الله.. إذ يقول سبحانه..
«أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» ؟.
وأما وقد خلت أيديهم من هذا السلطان المطالبين به، من كتاب سماوى أو رسول إلهى- فقد جاءتهم آيات الله تدعوهم إلى أن يبحثوا عن هذا السلطان في داخل أنفسهم، وأن يدبروا عقولهم- إن كانت لهم عقول- إلى مظاهر الوجود وحقائقه.. فإن في كل مظهر من مظاهره، وفي كل حقيقة من حقائقه، سلطانا، وبرهانا على المعبود الحق الذي يجب أن يعبد..
إنه الله، الذي خلق الخلق ورزقهم، وإنه الله، الذي يميتهم ثم يحييهم.. فهل من معبودات المشركين من يفعل شيئا من ذلك؟ هل من آلهتهم تلك، من له مشاركة في خلقهم؟ وهل من آلهتهم تلك، من له مشاركة في رزقهم؟ وهل تملك آلهتهم تلك، إماتتهم أو بعثهم بعد موتهم؟.
هذه أسئلة ينبغى أن يجيبوا عليها.. فإن كان جوابها إيجابا- وهيهات- كان ذلك حجة لهم، وبرهانا مبينا، يعبدون به تلك الآلهة عليه، ويعطون ولاءهم خالصا لها.. وإن كان الجواب سلبا، وهو- الواقع- فقد سقطت الحجة، وضل البرهان، وكان عليهم أن ينفضوا أيديهم من تلك الآلهة، وأن يجلوها عن عقولهم، وأن يلفظوها من مشاعرهم.. وإلا فهو الضلال والعمى، وهو الضياع، والهلاك..
إنها قضية منطقية.. قامت مقدمتها على فرض، هو: هو أن الألوهية لمن يخلق ويرزق، ويميت ويحيى.. والله هو الذي يخلق ويرزق، ويميت ويحيى.. فهل من معبوداتكم من يفعل شيئا من هذا؟ إنها لا تفعل شيئا..(11/528)
وإذن فلا مدخل لها إلى الألوهية.. وإذن فالله وحده هو المتفرد بها، لا شريك له.. «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي تنزه سبحانه، وتعالى علوا كبيرا عن أن يكون له ندّ من هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دونه..
قوله تعالى:
«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .
هذا الفساد الذي ظهر على هذه الأرض، وشمل برّها وبحرها، هو من صنع الناس، لأنهم هم الخلفاء عليها، وهم أصحاب الإرادات العاملة، فيها.. إن كل ما على هذه الأرض من كائنات، إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها، دون أن تخرج عليها..
ولهذا كان كل نوع من الكائنات على طريق واحد، لا اختلاف فيه بين فرد وفرد.. والإنسان وحده، هو الذي يعيش في الجماعة الإنسانية ذاتا مستقلة، لها تفكيرها، ولها أسلوبها في الحياة..
ومن هنا كان التغيير والتبديل في المجتمعات الإنسانية، وكانت الحروب الدائرة بينها، وكانت هذه الانحرافات والضلالات في العقائد والمعاملات، من كفر بالله، وكذب، وغش، وخداع، ونفاق.. إلى غير ذلك مما تمتلىء به دنيا الناس من مساوئ ومقابح..
وفي قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» - إشارة إلى أن هذا الفساد طارئ على هذه الأرض، لم تكن تعرفه قبل ظهور الإنسان فيها..
فلما ظهر الإنسان، ظهر الفساد..
وليس معنى هذا أن الإنسان هو عنصر الفساد في هذه الأرض، إذ لو كان(11/529)
ذلك كذلك، لما استحق أن يكون خليفة الله فيها.. ولكن هذا يشير إلى أن أصل الخلقة الموجودات كلها، ومنها الأرض، قائم على الصحة والسلامة، شأنها في هذا شأن الإنسان في أصل خلقه، وما أودع فيه الخالق- جل وعلا- من فطرة سليمة.. وكما أفسد كثير من الناس فطرتهم، أفسد الناس كذلك فطرة الطبيعة، واتخذوا كثيرا من أدواتها الصالحة النافعة أدوات للإفساد، والتدمير.. وإلى هذا المعنى يشير المتنبي بقوله:
كلّما أنبت الزمان قناة ... ركّب المرء في القناة سنانا
ومع هذا، فإنه لا ينكر فضل الإنسان وآثاره العظيمة في هذه الدنيا، وما أقام على وجه الأرض، من عمران، وما أحدث، من حضارات.
وقوله تعالى: «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» - إشارة إلى أن هذا الفساد والاعوجاج الذي ظهر على هذه الأرض، هو مما كسبته أيدى الناس، فهو من صنعهم، ومن فعل إرادتهم الحرة.. ولهذا، فهم محاسبون عليه، مؤاخذون به.. فالباء هنا للسببية، أي بسبب ما كسبت أيديهم ...
وفي قوله تعالى: «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» - تقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يعمله الناس، هو محسوب عليهم، مجزبّون به، من خير أو شر ...
وليس كذلك ما تعمله الكائنات الأخرى التي تعيش مع الناس على هذه الأرض.. إن ما تعمله لا إرادة لها فيه، شأنها في هذا شأن البذرة تدفن في الثرى، فيخرج منها ما في طبيعتها من زهر وثمر..
ومن هنا كانت مسئولية الإنسان عن كل عمل يعمله، ليذوق ثمر ما يعمل، حلوا كان أو مرا.. «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» (39: النجم) .(11/530)
والآية هنا، إنما تنبه إلى الأعمال السيئة، التي من شأنها، الإفساد في الأرض، والتي كان من شأن الإنسان العاقل أن يتجنبها، ويعمل ما هو خير، وما هو حسن ...
وفي قوله «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى- فضلا منه وكرما وإحسانا- لم يجز الناس بكل ما عملوا من شر، بل ببعض ما كسبوا منه، حتى يكون، لهم من ذلك زاجر يزجرهم، وأدب سماوى يأخذون منه العبرة والعظة، وليرجعوا إلى الله من قريب، ويستقيموا على طريق الخير والإحسان ...
ولو آخذ الله الناس بما كسبوا، لأهلكهم جميعا، بل وأهلك معهم كل دابة تدب على ظهر الأرض، وفي هذا يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) وإنه ليكفى أن يدين بعض الناس بغير دين الله، وأن يتخذوا من دونه أولياء، وأن يدعوا له ولدا، أو شريكا.. فذلك ذنب عظيم: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» (90: مريم) .
قوله تعالى:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» .
هو تهديد للمشركين من قريش، وأن مصيرهم، هو مصير المشركين من قبلهم، وما أخذهم الله به من عذاب، وما أرسل عليهم من مهلكات.
وفي قوله تعالى: «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» - إشارة إلى أن الذين ورد عليهم الهلاك في الأمم السابقة كان يغلب عليهم الشرك والضلال،(11/531)
وقليل منهم من آمنوا بالله، واستجابوا لرسل الله، كقوم نوح، الذين يقول الله فيهم: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (40: هود) وكقوم إبراهيم، الذي لم يؤمن من قومه إلا نفر قليل، منهم لوط.. وهكذا كان شأن قوم عاد، وصالح، وشعيب، ولوط.. وفي كل مرة، يهلك الله الضالين المكذبين، وينجّى النفر القليل من المؤمنين..
قوله تعالى:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» .
هو التفات إلى النبي الكريم، وإلى أن يلتفت إلى نفسه، وإلى المؤمنين معه، وألا يشغله أمر هؤلاء المشركين عن طلب النجاة لنفسه، ولمن معه، بالإقبال على الله، وإخلاص العمل له، وذلك ليكون مستعدا للقاء ربه على ما يرضى ربه، من قبل أن يجىء يوم الجزاء والحساب، وهو يوم لا مردّ له من الله، أي لا يملك أحد ردّ هذا اليوم، أو تأخيره عن وقته الموقوت له..
والدين القيم، هو الإسلام، الذي هو أصل كل دين سماوى، ومنبع كل شريعة إلهية، وبهذا كانت له القوامة على كل دين، والهيمنة على كل شريعة، وعلى كل كتاب..
وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» أي في هذا اليوم، وهو يوم الجزاء والحساب، يتصدع الناس، وتتفرق جماعاتهم، فلا يلتفت أحد منهم إلى أحد..
قوله تعالى:
«مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» .. فمن أقام وجهه(11/532)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
للدين القيم، فقد مهد لنفسه مهادا طيبا، وأعد الدار التي ينزلها في الآخرة..
أما من أعرض وكفر؟ فعليه وزر إعراضه وكفره.
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ..
التعليل هنا، هو لقوله تعالى: «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» ..
أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد توسّلوا بهذه الوسيلة إلى مرضاة الله، ليجزيهم الجزاء الحسن، من فضله وإحسانه.
وجاء التعبير بالظاهر «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» بدلا من المضمر «ليجزيهم» - للتنويه بهم، بذكر الصفات الطيبة التي اتصفوا بها، والتي كانت سببا فى رضا الله عنهم، وإسباغ فضله وإحسانه عليهم..
وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» إبعاد للكافرين من مواقع إحسان الله وفضله، لأنه لا يحبّهم، ولا يقرّبهم منه، على حين أحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنزلهم منازل القرب والرضوان.
الآيات: (46- 53) [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)(11/533)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
عادت الآيات بعد هذا العرض الموجز ليوم القيامة، وما يلقى المؤمنون هناك من فضل الله وإحسانه، وما يجد الكافرون من حرمان وطرد من موقع الرحمة- عادت الآيات لتذكّر النّاس- مؤمنين وكافرين- بما لله سبحانه من نعم لا تحصى، يعيشون فيها، ولا يكادون يلتفتون إليها، إذ كانت نعما عامة شاملة، تسع الناس جميعا: كالماء، والهواء، والنور، وغيرها.. فهذه النعم، إذ كانت حظا مشاعا في الناس، لا يتكلفون لها ثمنا، بل تأتيهم عفوا صفوا بلا حساب- إذ كانت كذلك- فإنهم قلّ أن يلتفتوا إليها، وأن يعدوها نعمة من نعم الله عليهم.. إن الإنسان إنما ينظر إلى نفسه خاصة، ويلتفت إلى(11/534)
الأشياء التي تعنيه وحده، وتقع ليده دون غيره، ويكاد يستأثر بها، أو تلك التي يتمايز فيها الناس، وتختلف حظوظهم منها، والتي هى مجال تنافس بينهم.
- وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ، إشارة إلى هذه النعمة العظيمة، العامة الشاملة، وهى الرياح التي يرسلها الله مبشرات، تسوق بين يديها السحاب، الذي يحمل الحياة للناس، والدواب، والأنعام، والأرض، بما ينزل منه من ماء.. فهو الرحمة التي ينزلها الله على عباده، ويذيقهم منها طعوم فضله وإحسانه.
وفي عطف «لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» على مبشرات، إشارة إلى أن البشرى التي تحملها الرياح إلى الناس، فيها سعادة، ورضا، وتهيؤ لاستقبال هذا الخير الوافد..
وقوله تعالى: «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» آية أخرى من آيات الله، فى هذه الرياح المرسلة من عنده.. إنها تدفع السفن على ظهر البحار والأنهار، وتسيرها حيث يريد الناس، وذلك بأمر الله وقدرته، ولو شاء لأمسك الريح، فظلت السفن رواكد على ظهر الماء، لا تتحرك إلى أي اتجاه، كما يقول سبحانه:
«إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (33: الشورى) .
وقوله تعالى: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» آية من آيات الله في هذه الرياح المرسلة، التي تدفع السفن إلى حيث يتجه بها الناس.. فتحركها على ظهر الماء، هو في ذاته آية تدل على قدرة القادر العظيم.. وما يحصله الذين يركبون هذه السفن من منافع، هو آية أخرى من آيات الله، فيما يجرى بين الناس من تبادل المنافع.
وقوله تعالى: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. هو آية أخرى من آيات الله(11/535)
فى هذه الرياح المرسلة من عنده، التي تحدث هذه الآثار العظيمة في حياة الناس..
وهذه الآية هى تحريك ألسنة العباد بحمد الله والثناء عليه، وإقامة مشاعرهم على الولاء له، وإفراده بالعبودية.. ولكن أكثر الناس لا يقيمون وجوههم إلى الله، ولا يذكرون له هذه النعم.. وهذا هو السرّ في تصدير الشكر بحرف الرجاء «لعلّ» .. الذي يفيد الدعوة إلى هذا الأمر المحبوب، المطلوب، ولكن قليل هم أولئك الذين يقع لهم، أو منهم.. هذا الأمر..
وانظر في وجه الآية الكريمة مرة أخرى، وتأمل هذه «الواوات» التي تقوم على كل مقطع من مقاطعها، وكأنها رسل من رسل الله، يحمل كلّ رسول منها الآية المرسل بها في هذا العرض العظيم لآيات الله، وكأنه يقول لمن يمرّ به: قف، وخذ حظك من النظر فيما أحمل إليك من آيات ربك!.
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ.. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ.. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
ألا خسىء وخسر من لا يسجد لجلال الله، ويعنو لعظمته، وينقاد لدعوته!! قوله تعالى:
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» .
هو تعقيب على الآية السابقة، التي حملت بين يديها آيات كثيرة، من دلائل القدرة الإلهية وكمالها، فلم تتفتح لها قلوب كثير من المشركين، كما لم تتفتح لدعوة الحق قلوب كثير من أهل الضلال في الأمم الماضية، الذين كذّبوا رسلهم، واستخفّوا بما حملوا إليهم من آيات الله.
وفي هذا التعقيب عزاه للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من قومه من جحود وصدود.. إنه ليس وحده هو الذي كذّب من بين رسل الله(11/536)
جميعا.. بل إن رسل الله جميعا قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا من سفهائهم.
- وفي قوله تعالى: َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
تهديد للمشركين، وعرض لهم على المصير الذي هم صائرون إليه.. فكما انتقم الله من الضالّين في الأمم السابقة، سينتقم كذلك من هؤلاء المجرمين..
- وفي قوله تعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
وعد كريم من الله سبحانه للنبىّ، بنصره ونصر المؤمنين معه.. فعلى حين يخزى الله الكافرين، ويكبت الضالين المجرمين- فإنه ينصر المؤمنين، ويعزّهم، ويجعل العاقبة لهم.. فقد أوجب سبحانه على نفسه- فضلا وكرما- أن ينصر المؤمنين، ويجعل لهم الغلب على أعدائهم، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» .
وتعود الآيات لاستكمال هذا الغرض الذي تكشف فيه عن آيات الله، ودلائل قدرته، بعد هذه اللفتة الرحمانية من الله سبحانه إلى النبي الكريم في قوله تعالى: َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ..»
والآية هنا، تعرض هذه الظاهرة التي تتشكل من حركة الرياح، وما تثير من أمواج، وبخار، وسحاب، وما ينزل من السحاب من ماء، وما يدخل منه على الناس من بشر وغبطة، بعد يأس ووجوم!.
ويلاحظ أنه في آية سابقة، قد جاء ذكر الرياح، وما تسوق من بشريات،(11/537)
وذلك في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
وقد يبدو لمن لا يحس نقد الكلام، ولا تذوق البلاغة، أن هذا من التكرار، الذي يعاب على أرباب البيان، ويعدّ قصورا في البلاغة، وفقرا فى المعاني التي يملكها الأديب..
ولكن أهكذا- حقا- يكون حساب التكرار إذا ورد في القرآن الكريم؟.
لندع المشاعر الدينية، حتى يمكن أن نجيب على هذا السؤال، إجابة قائمة على ميزان النقد البلاغى، وعلى اعتبار أن هذا كلام، لا يقوم وراءه سلطان العقيدة، ولا تزكّيه مشاعر الإيمان..
ونعرض أولا الآيتين في سياق واحد.. هكذا.
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ..»
«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» ..
وننظر في الآيتين الكريمتين، فنجد:
أولا: أنه يمكن أن تتصل تلاوتهما معا، دون أن يحس القارئ أو السامع أن هناك تكرارا في الصورة، وأن الآيتين يحققان معا صورة واحدة، لهذه الظاهرة الرائعة من ظواهر الطبيعة.. ومع هذا، فقد فصل النظم القرآنى بين الآيتين بآية أخرى، ليس فيها لون من ألوان تلك الصورة التي رسمتها الآيتان..(11/538)
وثانيا: فى الآية الأولى من الآيتين. نرى «الرياح» آية من آيات الله، مندرجة مع تلك الآيات تولدت عنها، فكانت آيات قائمة بذاتها..
فما أن تظهر آية الرياح، حتى تختفى، وتأخذ آية أخرى مكانها.. وإذا الذي كل ما للرياح في هذه الآية هو قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ» .
وثالثا: فى الآية الثانية نرى «الرياح» التي لمحناها في الآية السابقة لمحا، وأنها مجرد شىء منطلق- نراها هنا- وقد اهتزت وربت، فكانت منها الآيات الرائعة، المعجبة.. انظر:
الرياح.. تثير سحابا، فيبسطه الله في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفا، أي قطعا متراكمة، وسرعان ما يتفتق هذا السحاب عن ودق، أي مطر، يدق الأرض، ويترك عليها آثاره، وإذا الذين يستقبلون هذا المطر، قد لبسوا ثوب البشر، ونزعوا ما كانوا قد لبسوا من قبل، من همّ وكرب! «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .
إن الرياح هنا، هى التي أثارت السحاب، وهى التي قبل أن تثيره قد أثارت وجه البحار وحركت أمواجها، وحملت ما على وجهها من أبخرة إلى السماء، فإذا هى ضباب، وسحاب.. ثم ضربت هذه السحاب بعضه ببعض، فانقدح منه هذا الشرر الذي ولد الرعد، والبرق، والمطر! هذه هى آية الرياح، التي أشارت إليها الآية الأولى، قد كشفت عن وجهها في الآية الثانية، فكانت هذا العطاء الجزيل من آيات الله، ودلائل قدرته..(11/539)
وعلى هذا يمكن أن يرجع البصر كرة أخرى، إلى تلك الآيات في قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» .. ففى كلّ آية آيات، لو وجدت النظر الذي ينظر إليها، ويكشف عن بعض معطياتها..
ففى قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» تتمثل تلك الصورة التي يفعلها المطر حين ينزل الأرض، فيسفر به وجهها، ويهزّ له كيانها، وإذا هى وقد كانت جرداء، ميتة موحشة، قد لبست أثوابا قشيبة مختلفة الألوان والأصباغ، وإذا هى حياة دافقة، وشباب نضير.. وهكذا في جريان الفلك، وفي الابتغاء من فضل الله.. فيهما مجال فسيح للنظر، ومراد واسع للفكر، ومسبح رائع للخاطر..
وفي قوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» - إشارة إلى ما يكون عليه الناس، حين تنقطع عنهم موارد الماء، ويغبّر وجه الأرض، ويتهددهم القحط والموات.. ففى هذه الحال يغشى الناس همّ ثقيل، وينزل بهم كرب كارب، فإذا هم وقد أبلسوا، وجمدوا في أماكنهم، فلا حسّ، ولا حركة.. قد أسلموا أنفسهم ليأس قاتل.. فإذا طلعت عليهم رحمة الله، بعثوا بعثا جديدا، وسرت في أوصالهم ريح العافية، فانتشوا نشوة صاحية، ذاقوا منها حلاوة النعمة، وعرفوا قدرها..
قوله تعالى:
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.. إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى.. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
الأمر هنا، دعوة إلى كل ذى نظر أن ينظر إلى آثار هذه الرحمة المنزلة من الله، مع هذا الماء المنزل من السماء..(11/540)
وليست الدعوة إلى النظر لمجرد النظر، وإنما هى دعوة إلى نظر متدبّر، متأمل، يأخذ العبرة والعظة مما يقع له.. فمن هذه الرحمة المنزّلة من السماء، تغيّر وجه الأرض، وسرت الحياة في أوصالها الميتة، وإذا هى أمّ ولود، تلد مواليد عجبا من كل جنس، وكل لون.. ثم إذا امتد نظر الإنسان إلى أبعد من هذا وجد أن هذه الحياة التي قامت من هذا التراب الهامد، ليس بالمستغرب ولا المستبعد أن تلبس هذه الأجسام التي ضمها التراب في كيانه، وجعلها بعضا منه.. «إِنَّ الَّذِي أَحْياها.. لَمُحْيِ الْمَوْتى» (39: فصلت) .. فهذا من ذاك سواء بسواء..
- وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى» - الإشارة هنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي الإشارة إليه سبحانه، إشارة إلى قدرته، وإلى مقامه، وإلى تفرده وحده سبحانه بهذا الأمر، وهو إحياء الموتى.
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» .
إشارة إلى أن هذه الرياح التي أرسلها الله بشرا بين يدى رحمته، وساق بها الحياة إلى عباده، يمكن أن يسوقها إليهم، وقد صفرت يداها من كل خير، بل ربما حملت معها السّموم والغبار.. فهذا وذاك بيد الله، ومن فعل الله..
وقد كان من الإيمان بالله، والرضا بمقدوره، أن يستقبل الناس هذه الريح العقيم بالصبر على قضاء الله، وبالطمع في رحمة الله، التي تعقب هذا البلاء..
ولكن كثيرا من الناس ينكرون الله في هذه الحال ويسخطون على ما أصابهم به! والضمير في قوله تعالى «فَرَأَوْهُ» يعود إلى الناس جميعا، حيث يغلب(11/541)
عليهم في تلك الحال، اليأس، والقنوط من رحمة الله، وقليل منهم من يعتصم بإيمانه، ويرضى بما أراد الله له..
والريح المصفرة: هى الريح المحملة بالسموم، قد ذهبت حرارتها بكل ما في الهواء من بخار الماء، فاصفرّت كما يصفر الزرع حين يجف ماؤه وتذهب خضرته..
«فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» .
الفاء في قوله تعالى «فَإِنَّكَ» سببية، وما بعدها مسبب عن فعل محذوف تقديره- والخطاب للنبى-: اصرف نظرك عن هؤلاء المشركين، أو دع هؤلاء المشركين وما هم فيه من ضلال.. أو نحو هذا.. «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» وهؤلاء موتى، وإن كانوا أحياء..
إنهم موتى المدركات، والمشاعر.. وإن أردت أن تحسبهم في الأحياء، بما لهم من صور آدمية متحركة- فإنهم صم لا يسمعون، لأن ما يلقى إليهم من كلمات الله لا تصغى إليه آذانهم، ولا تقبله عقولهم.. لقد تعطلت منهم حاسة السمع فلا يسمعون خيرا، ولا يستجيبون لخير..
ثم إنه قد لا يستمع الإنسان لغيره، ولا يتقبل نصح ناصح، ولا هداية هاد، ويكون له مع ذلك، نظر يهديه، ويكشف له معالم الطريق إلى الحق والخير.. ولكن هؤلاء المشركين، عمى لا يبصرون شيئا، ولا يسلمون أيديهم إلى المبصرين، حتى يأخذوا بهم إلى طريق مستقيم، فلا يضلون، ولا يتعثرون..(11/542)
وفي تعدى اسم الفاعل: «هاد» بحرف المجاوزة «عن» - إشارة إلى أنهم عاكفون على الضلال، لا يتحولون عنه أبدا، ولا يتجاوزون حدوده، ولهذا ضمّن الفعل «هدى» معنى الفعل، صرف، أو أبعد، أو نحو هذا، مما يحتاج إلى مدافعة ومعاناة.. وهذا يعنى أنه ليس من شأن النبي أن يحمل هؤلاء العمى حملا على أن ينقادوا له.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» محددا وظيفة النبي، وضابطا منهج دعوته.. وهو أن يعرض دعوته، ويتلو آيات ربه، ويسمع كلمات الله، بإبلاغها إلى الناس، فيسمعها، ويستجيب لها، من هو مستعد للإيمان، لم تفسد فطرته، ولم يختم الله على سمعه وقلبه، ولم يجعل على بصره غشاوة.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى «فَهُمْ مُسْلِمُونَ»
تعقيبا على قوله تعالى سبحانه: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» ليكشف عن السبب في استماعهم لآيات الله، وإيمانهم بها. وهو أنهم مسلمون بفطرتهم، واستعدادهم، قبل أن يلتقوا بالدعوة النبوية، وقبل أن يدعوا إلى الإسلام فلما التقوا بالنبي، وبدعوة الإسلام، صافح الإسلام الذي في فطرتهم، الإسلام الذي دعو إليه..
«وإن» فى قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» نافية، بمعنى «ما» .. أي ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، أي من هو مستعد بفطرته للإيمان..
المندسّ في كيانه.. أما من فسدت فطرته، فلن تجاوز كلمات الله أذنه.
وفي عود الضمير على الاسم الموصول: «من» مفردا وهو فاعل (يؤمن) ، ثم عوده إليه جمعا هكذا: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان شأن من شئون الإنسان خاصة، فهو الذي يحصّل الإيمان بنظره الشخصي وبتقديره الذاتي، وبما يقع له من اقتناع عقلى، واطمئنان قلبى..
فإذا آمن، شارك غيره في صفة الإيمان، وكان واحدا من جماعة المؤمنين(11/543)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
يدخل معهم فيما تحمل شريعة الإسلام إلى المسلمين من أوامر ونواه، فيكون واحدا في صفوف المصلّين، أو جنديا في جيش المجاهدين.. إنه منذ دخل فى الإسلام لم يعد كائنا مفردا مستقلا بذاته، منعزلا بدينه، بل هو منذ أول يوم يدخل فيه في الإسلام، يصبح لبنة في بناء الجماعة الإسلامية، وعضوا فى الجسد الاجتماعى، الذي يجمع المسلمين جميعا.
فالمسلم إذ يدخل الإسلام، يدخله مفردا، بعد أن ينظر فيه ببصره هو ويدركه بعقله هو، ويستشعره بوجدانه هو، ويفتح باب قلبه بيده هو، من غير أن يكون واقعا تحت إكراه، أو إغراء، ومن غير أن يكون متابعا أو مقلدا.. فإذا دخل الإسلام على تلك الصفة أصبح مسلما، وأصبح بهذا صالحا لأن يكون في جماعة المسلمين..
الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)(11/544)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» .
عادت الآيات مرة أخرى، لتصل العرض الذي تجلّى فيه آيات الله، وتعرض فيها دلائل قدرته على الناس، من مؤمنين وكافرين، فيجد فيها المؤمنون نظرا مجدّدا إلى قدرة الله، وإلى علمه، وحكمته، فيزداد إيمانهم تمكينا في قلوبهم، وإشراقا في نفوسهم، على حين تقوم على المشركين والضالين من هذه الآيات حجة أخرى، إلى جانب ما قام عليهم من حجج، بكفرهم وضلالهم.
وفي الآية الكريمة صورة من الصّور الحسّية التي يعيش فيها الناس، ويمرّ بها كل فرد من أفرادهم، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم.
فبدء حياة الإنسان تكون صورة باهتة من صور الحياة، لا يكاد يرى ظلّها إلا البصر النافذ، حيث يبدأ خلق الإنسان من نطفة، لا تبدو في مرأى العين أكثر من سائل مختلط، أشبه بالمخلط.. ثم يتدرج الإنسان من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم يكسو هذا العظام..
ثم إلى وليد ينشقّ عنه رحم الأم، وإذا هو إنسان يأخذ مكانه في المجتمع البشرى، وبتدرج في مدارج الحياة، من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب والكهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهرم.
هذا هو بعض ما لله في الإنسان.. فلينظر الإنسان ممّ خلق؟ ثم لينظر كيف دار دورته في الحياة، كما يدور القمر في دورته من الهلال إلى المحاق!(11/545)
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وهذا الإنسان الذي خلق من ضعف، والذي تعهدته القدرة الإلهية، فأخرجت من هذا الضعف، قوة وعقلا، وبصرا، وسمعا- هذا الإنسان قد كفر بخالقه، وأبى أن يجعل ولاءه له وحده، فاتخذ من دونه شركاء، وإذا حشود كثيرة في جميع الأزمان والأمكنة، تجتمع على الكفر بالله، وتعيش فى هذا الضلال، لا تعمل ليوم الجزاء والحساب، ولا تؤمن به، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة، وراجعوا حسابهم مع دنياهم التي أفنوا حياتهم فيها، وجدوا أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، بل لقد بلغ بهم الأمر أن أيقنوا هذا، وتحققوا منه، فأقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة.. ولا شك أن هذا غير الواقع، وأن الوهم هو الذي يحيّل لهم قصر الزمن الذي مضى.. فقد عاش كل منهم سنين في الدنيا، لا ساعة، ولا يوما، ولا شهرا.. ولكن هكذا الدنيا، التي اتخذها الضالون المشركون، لهوا ولعبا، فلم يعمروها بالتقوى والأعمال الصالحة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» مكذّبا مقولتهم تلك، وإنها إفك من إفكهم، وضلال من ضلالهم، الذي كانوا عليه في الدنيا.. ذلك أنهم وهم في الدنيا قد رأوا الحق باطلا، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. ووقع في وهمهم أنهم على الحق، وأن ما يمسكون به من ضلال هو الهدى.. وقد صحبهم هذا الإفك في حياتهم الآخرة، فأقسموا هذا القسم الكاذب، أنهم ما لبثوا في دنياهم غير ساعة! وقوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .(11/546)
هو ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين أقسموا هذا القسم، وأنهم ما لبثوا غير ساعة، وفي هذا الرد تصحيح لما وهموه من لبثهم في الدنيا.. وهذا التصحيح إنما يجيئهم من أهل العلم والإيمان الذين يقولون لهم: «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ» .. وكتاب الله، هو علمه الذي حدّد به آجال الناس، وأزمانهم، وأودع فيه أعمالهم، وما هو كائن في هذا الوجود..
وقوله تعالى: «فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» - هو خبر يراد به التقريع والنّخس لهؤلاء المجرمين، فهم يعرفون أن هذا اليوم الذي هم فيه هو يوم البعث، وإخبارهم به هو تذكير لهم بما كان منهم من إنكار له، وسخرية واستهزاء بمن كانوا يحدّثونهم به، والذين كانوا يغرسون في الدنيا ليجنوا ثمار ما غرسوا فى الآخرة، وفي ذلك ما يزيد في آلام المكذبين ويضاعف حسرتهم.
وفي قوله تعالى: «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تقريع بعد تقريع، ونخسة بعد نخسة! وفي قرن العلم بالإيمان، إشارة إلى أن العلم الذي لا يثمر عملا لا قيمة له، وكثير من الذين أوتوا العلم لا يؤمنون بالله، بل تغلب عليهم شقوتهم، ويصبح العلم الذي علموه حجّة عليهم، يضاعف لهم به العقاب، وفي هذا يقول الله تعالى في علماء بنى إسرائيل: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71: آل عمران) ويقول سبحانه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (144: البقرة) ويقول جل شأنه: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75: البقرة) .. فالعلم الذي لا يعمل صاحبه بمقتضى ما علم، هو شؤم على صاحبه، لأنه لا يهتدى معه إلى(11/547)
خير أبدا. على خلاف الذي لا علم عنده، فإنه قد يطلب العلم، وقد يجد الهدى مما علم.
قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .
أي أنه في يوم القيامة، لا يقبل من معتذرين عذر، ولا يطلب منهم أن يقيموا عذرا لما كان منهم من ضلال وكفر.. لقد جلّ الأمر عن العتاب.. إذ أنه إنما يعاتب من يرجى منه إصلاح ما أفسد.. وأما وأنه لا عمل بعد اليوم، فإنه لا عتاب، وإنما حساب وجزاء..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» .
هو بيان لانقطاع عذر المعتذرين، وعتاب المستعتبين، الذين يطلبون المعاتبة.. وذلك لما جاءهم في دنياهم من آيات الله، وما حمل إليهم القرآن الكريم من دلائل وبراهين بين يدى دعوتهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد ضربت لهم الأمثال على وجوه مختلفة، فما انتفعوا بها، ولا أخذوا العبرة والعظة من مهلك القوم الظالمين في الأمم الغابرة..
وقوله تعالى: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» . إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين المشركين، لن تنفعهم الآيات المادية التي كانوا يطالبون النبىّ بها، ويتحدونه بأن يأتى بمعجزة من تلك المعجزات المحسوسة التي كانت بين يدى الرسل من قبله.. ففى كل ما جاء به القرآن من آيات، وما ضرب من أمثال، معجزات قاهرة بيّنة، لمن يطلب(11/548)
الهدى أو يقبله، إذا عرض عليه.. وهؤلاء المشركون لا يطلبون الهدى، ولا يستجيبون له إذا دعوا، لما ركب في طبيعتهم من فساد.
قوله تعالى:
«كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .
الإشارة هنا إلى ما تضمنته الآية السابقة، من استغلاق مدارك المشركين عن أن يدخل عليها هدى، وذلك لأن الله قد طبع على قلوبهم.. وإنه مع ما ضرب الله سبحانه من أمثال، وما حملت هذه الأمثال من شواهد واضحة وآيات بينة، فإن أهل الضلالات والأهواء لم ينتفعوا بها، ولم يروا إشارة مضيئة من إشاراتها، تعدل بهم عن طريق الكفر الذي يركبونه، إلى طريق الإيمان الذي يدعون إليه، وهذا شأنهم أبدا مع كل آية من آيات الله.. وهذا لا يكون إلا عن فساد فطرة، وعمى بصيرة، وزيغ قلب، وهذا ما عليه حال أولئك الذين شغلتهم دنياهم عن أن يقفوا على آيات الله، وأن ينظروا فيها، وأن يحصلوا علما منها، فخذلهم الله، وخلّى بينهم وبين أنفسهم كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5 الصف) قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وهى تحمل إلى النبي الكريم دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى الصبر على ما يلقى من قومه من مكاره، مستعينا على الصبر، واحتمال المكروه، بما وعده ربه من نصر لدين الله الذي يدعو إليه، ومن تمكن له وللمؤمنين معه في هذه الدنيا، ومغفرة من الله ورضوان(11/549)
فى الآخرة، هذا، إلى ما يلقى هؤلاء المشركون الضالون من خزى وخذلان فى الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.
وفي قوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» - إشارة لافتة إلى ما قد يرد على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من تلك الخواطر التي تساور بعض النفوس، من المؤمنين الذين اشتدت عليهم وطأة البلاء، وطال بهم الانتظار لملاقاة ما وعدهم الله من نصر، ففى ساعات الضيق والعسرة، قد يتسرب إلى بعض المؤمنين شىء من القلق، وربما شىء من الشك والريب، ذلك أن للنفس البشرية حدا من الاحتمال والصبر على المكاره، إذا بلغته زايلتها القدرة على الاحتمال، وآذنها الصبر بالرحيل، وعندئذ تنحلّ العزيمة، ويضعف اليقين، وتبرد حرارة الإيمان، وفي هذا يقول الله تعالى:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (214: البقرة) .. فهذه حال تعرض المؤمنين، ولن يعصهم منها إلا التحصن بالإيمان، واللّياذ باليقين الذي يدفع كل شك في قدرة الله، وفي تحقيق ما وعد المؤمنين به، من نصر، وعافية مما هم فيه من بلاء.
فقوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» دعوة للمؤمنين أن يوثّقوا إيمانهم بالله، وأن يمتحنوا هذا الإيمان على محك الشدائد والمحن، فعلى هذا المحك يظهر معدن الإيمان، وتعرف حقيقته..
والاستخفاف: أصله من الخفة، والمراد به التحول من حال إلى حال، والانتقال من وضع إلى وضع، عند كل خاطرة، ولأية مسة.. فإن(11/550)
الخفيف من الشيء، هدف سهل لكل عارض يعرض له، ويريد زحزحته عن موضعه الذي هو عليه..
والآية، إذ تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا من الموقنين بالله، والمستيقنين بنصره، فإنها تدعو النبي إلى أن يثبت في موقفه من الإيمان بربه، والثقة فيما وعده به، حتى ترتدّ عنه العوارض التي تعرض له داخل نفسه أو خارجها، حين تجده جبلا راسخا، لا تصادف أية خفة في أي جانب منه.. وقد كان صلوات الله وسلامه عليه على هذا اليقين الذي تزول الجبال ولا يزول.. حتى ليقول لعمه أبى طالب، وقد جاء يدعوه إلى مهادنة قومه، على أن يحتكم بما شاء فيهم، من مال أو سلطان، فيقول:
«والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه» ..(11/551)
31- سورة لقمان
نزولها: مكية.
عدد آياتها: أربع وثلاثون آية..
عدد كلماتها: خمسمائة وثمان وأربعون..
عدد حروفها: ألفان، ومائة، وعشرة..
مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الروم، بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .. وفي هذا الختام- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- دعوة للنبىّ، وللمؤمنين معه إلى الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد، على طريق لإيمان، وذلك بما يمتلىء به القلب من إيمان بالله، ومن يقين راسخ في لقاء ما وعد الله النبىّ والمؤمنين من نصر وإعزاز وتمكين، وأنهم إذا كانوا على يقين من الفوز والرضوان في الآخرة، فليكونوا على هذا اليقين من النصر والتمكين في الدنيا، وأنه إذا طال انتظارهم لما وعدوا به في الدنيا، فهو- على أي حال- أقرب مما وعدوا به في الآخرة.. فليصبروا إذن، حتى يلقوا ما وعدهم لله به في الدنيا، ليزداد يقينهم بما وعدهم الله به فى الآخرة.
هذا، هو ما ختمت به سورة «الروم» ، وهو يلتقى لقاء تامّا بما بدئت به سورة لقمان.. وهو قوله تعالى:
«الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
وذلك على ما نرى عند تفسير هذه الآيات.(11/552)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 11) [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
«الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» قوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير: تلك هى آيات الكتاب الحكيم.. والمشار إليه، يمكن أن يكون(11/553)
«الم» بمعنى أن آيات الكتاب الحكيم، مؤلفة من هذه الحروف المقطعة، التي لا مفهوم لها عندكم.. فمن هذه الحروف وأمثالها جاء نظم القرآن على هذا الأسلوب المحكم المعجز.. إن مادة القرآن هى تلك الحروف المقطعة، وهى بين أيديكم أيها الناس عامة، وأيها المشركون الضالون خاصّة، فأقيموا منها آيات كآيات هذا القرآن، إن استطعتم، ولن تستطيعوا.. ويمكن أن يكون المشار إليه ما تقدّم من آيات القرآن في سورة الروم، وفي غيرها مما كان قد نزل من القرآن.. والإشارة إلى الآيات، تنويه بها، وإلفات إلى جلال قدرها، وعلوّ سلطانها..
- قوله تعالى:
«هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» - أي أن هذا الكتاب الحكيم الذي جاءت آياته على هذا النظم المعجز المحكم، قد أنزله الله سبحانه لهداية الناس ورحمتهم.. فقوله تعالى: «هُدىً» مفعول لأجله، وقوله تعالى:
«وَرَحْمَةً» معطوف عليه.
وخصّ المحسنون بالتزود بما في الكتاب من هدى ورحمة، لأنهم هم الذين يردون موارده، وينتفعون بما يقدرون على تحصيله وحمله من هداه ورحمته.. أما غير المحسنين، وهم الضالون والمكذبون، فإنهم لن ينالوا شيئا من هدى هذا الكتاب ورحمته.. شأن الكتاب في هذا شأن كل خير بين أيدى الناس، لا يناله إلا العاملون، الذين يسعون إليه، وينقّبون عنه، ويأخذون الوسائل التي تمكنهم منه.. فما أكثر الخير المخبوء في كيان الطبيعة، وما أقلّ الذين طرقوا أبوابها، وفتحوا مغالقها، وعرفوا أسرارها.
والمحسنون، هم أهل الإحسان في القول والعمل.. وهو إحسان مطلق، يتناول كل شىء.. فكل شىء مهيأ لأن يلبس ثوبا من القبح أو الحسن،(11/554)
والإنسان هو الذي ينسج له الثوب الذي يلبسه إياه.. وهكذا يتنازع الناس هذين الوجهين من كل شىء، فيذهب بعضهم بالحسن الطيب من الأشياء، على حين يذهب آخرون بالقبيح الرذل منها.
والحسن هو الحسن، فى القول والعمل، وفي أمور الدنيا والدين جميعا..
ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الإحسان دعوة مطلقة، غير محصورة في أمر، أو جملة أمور، بل إنها دعوة تتناول الأمور كلّها، وتشمل ظاهر الإنسان وباطنه جميعا، وفي هذا يقول الله تعالى: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (195: البقرة) ومن الإحسان، التقوى، وهى تجنّب الإساءة.. وذلك أن من تجنب السيّء من الأمور، فإنه يكون على إحدى منزلتين: إما أن يفعل الحسن، المقابل لهذا السيّء الذي تجنّبه، وهذا هو الأحمد، والأحسن.. وإما ألا يفعل شيئا، وإن كان بتجنّبه القبيح، قد فعل شيئا، وهو تجنب هذا القبيح، وقد كان من الممكن أن يفعله.. وهذا الفعل- وإن كان سلبيا- هو حسن في ذاته وحسب الإنسان منه أن يكون قد احتفظ بفطرته على السلامة والبراءة..
ولا شك أن هذه منزلة دون المنزلة الأولى، منزلة المحسنين العاملين، حتى لقد أنكر بعض الحكماء على أهل زمانه أن يكون حظهم من الإحسان هو ترك القبيح، فيقول:
إنّا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس، إحسان وإجمال
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .
هو بيان للإحسان في منزلته العليا، التي يتجاوز فيها المحسن ترك القبيح،(11/555)
وتجنب السيّء، إلى مباشرة الإحسان، والتلبس به، فكان من أعمالهم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة..
وفي قوله تعالى: «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» - إشارة إلى أن إقامتهم الصلاة وإيتاءهم الزكاة، ليس عملا تلقائيا، وإنما هو عمل مرتكز إلى عقيدة، هى الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان بالله، إيمانا محققا، مستيقنا، لا يتلبس به شك أو ارتياب. وبهذا الإيمان الوثيق الذي يقوم في ظله العمل، يجىء العمل على صفة كاملة، حيث يعطيه المرء كل مشاعره، فلا يلحقه ضعف أو فتور.
وقصر الإشارة هنا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من بين جميع الأعمال الحسنة، للدلالة على أنهما رأس الأعمال الحسنة كلها، والقطب الذي يدور عليه كل حسن..
فالصلاة رياضة للنفس، وإعداد لها لتقبل الأعمال الصالحة، والزكاة تطبيق عملى لكل عمل صالح.. إذ كان المال والتصرفات الدائرة حوله، هو المحك الذي تظهر به أخلاق الناس، لما للمال من سلطان على النفوس، فى جمعه، وفي إنفاقه.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
الإشارة هنا إلى هؤلاء المحسنين، الذين ذكرتهم الآية السابقة، ووصفتهم بأنهم هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون باليوم الآخر، إيمانا مستيقنا..
وهؤلاء المحسنون، إنما أحسنوا، لأنهم على هدى من ربهم، إذ أنهم أقبلوا على الله طالبين الهدى، فأقبل الله سبحانه عليهم، وأمدهم بما طلبوا،(11/556)
وأقامهم على طريق الهدى، وبهذا كان حظهم الفلاح، والفوز برضوان الله.
قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .
«من» هنا للتبعيض، والمراد من هذا، بيان حال أولئك الذين لم يطلبوا الهدى، ولم يلتمسوا الأسباب التي تفتح لهم الطريق إليه.. فالناس فريقان:
فريق طلب الهدى، فهداه الله، وكان من الفائزين المفلحين، وفريق لم يرفع إلى الهدى رأسا، بل أقام وجهه على الضلال، وسعى حثيثا إليه، وأمسك بكل ما يحول بينه وبين الاتجاه نحوه.. وبدلا من أن يغشى مجلس الإيمان، ويستمع إلى آيات الله، ويتلقى منها النور الذي يضىء جوانب نفسه المظلمة، ويجلّى عنها غواشى الضلال- بدلا من هذا، شغل نفسه، بتلك الأحاديث اللاهية التافهة، يترضى بها أهواءه، ويشبع بها جوع نزواته، فضلّ بذلك عن سبيل الله، واتخذ آيات الله التي يسمعها هزوا، لأنها ترد على إنسان قد غرق في اللهو، وسكر بما يتعاطاه من كئوس الضلال، فلا يرى فيها إلا ما اعتاد أن يراه، ويتعامل به من لهو وضلال.. فهذا الضال ومن على شاكلته، لا جزاء لهم إلا النار.
والضمير في قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَها» يمكن أن يعود إلى آيات الكتاب فى قوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» كما يمكن أن يعود إلى سبيل الله في قوله تعالى: «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. إذ كانت سبيل الله هى التي أقامتها آيات الله، وكشفت للناس معالم الطريق إليها..
وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» - إشارة إلى أن ضلال هذا الضال لم(11/557)
يكن عن نظر، وتدبر، وتقدير، وإنما كان عن جهل، وغباء، وتسلّط أهواء. فقد يطلب الإنسان الهدى، ثم لا يهتدى إليه، لسبب أو لأكثر، ومثل هذا الإنسان لا بد أن يجد الطريق إلى الهدى في يوم من الأيام، ما دام جادّا في الطلب والبحث.. أما من ترك لنفسه الحبل على الغارب، وأخذ بكل ما يلقاه، فإنه لن يجد إلا ما تميل إليه نفسه من أهواء وضلالات..
وفي إفراد الضمير في قوله تعالى: «يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» ثم جمعه في قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - إشارة إلى أن تحصيل الهدى، أو الضلال، إنما هو أمر ذاتى، يتعلق بذات الإنسان وحده، ويحاسب عليه وحده.. أما حين يقع الحساب، فإنه يجتمع مع من هم على شاكلته.. فإن كان من أهل الإيمان، والإحسان، اجتمع إليهم، وشاركهم النعيم الذي هم فيه، وإن كان من أهل الهوى والضلال، اجتمع مع أهل الهوى والضلال، وشاركهم ما يلقون من نكال، وعذاب.
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً.. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .
هو بيان كاشف لحال هذا الذي يتخذ لهو الحديث، ليصل عن سبيل الله، ويتخذ آيات الله وسبيل الله هزوا. فهذا الضال إذا تليت عليه آيات الله، أعرض عنها، مستكبرا أن يتلّقى ما يلقى إليه من النبي، ومستنكفا أن يلقاه أحد بنصح أو إرشاد.
وفي قوله تعالى: «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» - إشارة إلى أنه يمضى في طريقه، حين تتلى عليه آيات الله، كأن شيئا لم يطرق سمعه، فلا يتلفت إلى مصدر هذا الذي(11/558)
يلقى إليه، ولا يتوقف ليسأل: ماذا هناك؟ وماذا يراد منه؟ .. هكذا شأن الذين استبدّ بهم الكبر، وركبهم الغرور..
وفي قوله تعالى: «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» .. الوقر: الصمم..
وفي هذا توكيد للصورة التي صورت بها حال هذا الضال الذي أعرض عن آيات الله، ولم يأبه لما يسمع منها، حتى لكأن في أذنيه صمعا.. إذ هو والأصم على سواء، فى هذا الموقف..
وفي قوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» وعيد لهذا المتكبر، العنيد، الأثيم إنه لا يلقى إلا العذاب الأليم، ولا يسمع بعد هذا الإعراض، إلا ما يخرق أذنيه من نذر العذاب والبلاء.. وأنه إذا كان قد أصم أذنيه عن سماع الهدى، فإنه لن يستطيع أن يصمّها عن هذه البشرى التي تزف إليه..
فإن أحدا لا يصمّ أذنيه عن حديث يحمل إليه بشرى مسعدة.. ويا لها من بشرى.. إنها العذاب الأليم! وفي إقامة البشرى مقام النّذير، الذي يفتضيه المقام، إعجاز من إعجاز القرآن.. حيث يستدعى بهذه البشرى، ذلك الذي أصم أذنيه عن سماع آيات الله، ومضى إلى حيث يأخذ مكانه في مجلس اللهو والضلال.. ثم ما إن يتوقف عند سماع كلمة البشرى ويفتح أذنيه لها، حتى تحمل إليه معها ما يسوؤه، فيسمعه مكرها.
فقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ» هى اليد القوية التي أمسكت به، وهى المعجزة القاهرة التي فتحت أذنيه، وألقت فيها بهذا النذير: «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .(11/559)
وعلى حين يسمع هذا الضال ما سمع.. مكرها- من هذا النذير الذي أمسك به، وفتح أذنيه، فإنه يسمع- مكرها أيضا، وما زالت أذناه مفتوحتين- هذه البشرى المسعدة حقا، ولكنها ليست له، وإنما هى لأعدائه، الذين يسوءه أن ينالهم خير.. فهؤلاء الأعداء، هم المؤمنون، وقد أعدّ الله لهم جنات النعيم، خالدين فيها.. وذلك ما وعدهم الله به، وهو وعد حق، لا يتخلف أبدا، لأنه من الله العزيز، الذي يعنو لعزته كل شىء، الحكيم الذي يقوم أمره على الحكمة، فلا إفراط، ولا تفريط..
و «وعد» منصوب بفعل مقدر، تقديره: وعد الله وعدا حقا.. وقد جاء النظم القرآنى على تلك الصورة الموجزة المعجزة، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى فاعل الفعل.
قوله تعالى:
«خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .
فالله العزيز الحكيم، الذي وعد عباده المؤمنين جنات النعيم، لن يخلف وعده، لأنه ذو السلطان الذي يقوم على كل شىء، وأنه لن يعجزه شىء حتى يخلف ما وعد به.. وإن من دلائل عزّته، ونفوذ سلطانه، أنه خلق السموات، وأقامها بغير عمد، وهذا أبلغ في الدلالة على القوة والعزة، والسلطان.
وقوله تعالى: «تَرَوْنَها» يمكن أن يكون حالا من السموات.. كما يمكن أن يكون في محل جر صفة لعمد، أي بغير عمد مرئية لنا، ويكون المراد بالعمد، الأسباب التي أقام الله بها السماء، والتي تقوم مقام العمد في تقديرنا.
وقوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» .. الرواسي(11/560)
الجبال، وإلقاؤها: نزولها من أعلى، وأخذها مكانا بارزا فوق الأرض، كما يقول تعالى: «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها» (10: فصلت) ..
والميد، والميدان: الاضطراب..
فكما أن السماء تقوم على عمد غير مرئية، تقوم الأرض كذلك مرتكزة على عمد مرئية هى الجبال.. ولولا ذلك لاضطربت الأرض، وزالت عن مكانها، وضاعت معالمها.. وفي هذا إشارة إلى أن السموات محمولة على أعمدة من قدرة الله، لا تراها الأبصار، وإنما تعرفها البصائر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» (41: فاطر) .
والمراد بالسماوات، هو العالم العلوىّ، الذي يقوم فوق عالمنا الأرضى..
فحيث كان الإنسان من الأرض، فهو واقع تحت العالم العلوىّ.. وفي هذا العالم كواكب ونجوم، لو اقتربت من الأرض، أو اقتربت منها الأرض، لما كانت الأرض إلا نملة في ظلّة من الجبال، قائمة بلا عمد! .. هذا ما تراه عين العلم الحديث فيما بين السماء والأرض.. فإذا حجبت عن العيون هذه الرؤية الكاشفة، فإنها ترى السماء قائمة على الأرض، كأنها السقف المرفوع.
وقوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .
فى العدول من الغيبة في قوله تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» إلى الخطاب في قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .. فى هذا استدعاء للجاحدين الكافرين أن يشهدوا جلال الله، وأن يروا آياته في هذه الظاهرة التي تطلع عليهم في كل حين، وأنهم إذا كانوا يجدون وجها للمحاولة في خلق السموات والأرض، وأن يقولوا: هكذا قامت السموات والأرض من غير مقيم لهما، فإنهم لا يجدون ما يقولون في إنزال الماء من السماء، وفي إخراج النبات من الأرض.. إن ذلك خلق متجدد يحدث كل لحظة من لحظات الزمن.. فإذا سألوا من أنزل هذا الماء؟ أو من أخرج(11/561)
هذا النبات؟ لم يكن ثمّة إلا جواب واحد، هو الله ذو الحول والطول، الذي خلق السموات والأرض.
فإنزال الماء من السماء، وإنبات النبات من الأرض، شاهد قريب حاضر، على وجود الله وقدرته، يستدل به على شاهد بعيد أشبه بالغائب، هو خلق السموات والأرض.. فناسب ذلك أن يكون ضمير الغيبة مع خلق السموات والأرض، وأن يكون ضمير الحضور مع إنزال الماء وإنبات النبات..
وقوله تعالى: «فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» الضمير في «فيها» يعود إلى الأرض، وفي التعبير عما تخرج الأرض من ثمرات، بالزوج الكريم- إشارة إلى أن كل ما يجىء من ثمرات طيبة كريمة، هو نتيجة لمزواجة بين ذكور النبات وإناثه، كما يتزاوج الناس، والحيوان.. وإن أي ثمر لا يتولد عن لقاح بين الذكر والأنثى، هو ثمر خسيس ردىء، كما تتوالد بعض الحيوانات الدنيا بانقسام الخلية.
قوله تعالى:
«هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآية السابقة، من آيات صنع الله، وآثار رحمته..
والخطاب المشركين، الذين يعبدون غير الله..
وفي هذا الخطاب، استدعاء للمشركين، أن ينظروا إلى هذا الوجود، الذي قام بقدرة الله، ثم لينظروا ما لمعبوداتهم من خلق.. وهنا يسقط في أيديهم حيث لا يجدون لمبعوداتهم أثرا.. بل إنهم ليجدون معبوداتهم بعضا من خلق الله.. ثم إنهم مع هذا لا يزالون متعلقين، بمعبوداتهم تلك، مقيمين وجوههم إليها(11/562)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وذلك هو الضلال المبين، الذي لا يرجى لصاحبه أن يجد الهدى أبدا.. وإن الذي يقف هذا الموقف، ويركب هذا الطريق المهلك، لهو ظالم لنفسه، جائر على فطرته..
الآيات: (12- 19) [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
التفسير قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(11/563)
اختلف في «لقمان» هذا، اختلافا تناول الزمان والمكان اللذين عاش فيهما، كما تناول الصفة التي كان عليها، وهل كان نبيا، أم كان حكيما؟
وهل هو من بنى إسرائيل، أم من غير بنى إسرائيل؟.
والقرآن الكريم، لم يصرح بأنه كان رسولا، ولم يذكره فيما ذكر من أنبياء ورسل، ولم يصله بنسب إلى إبراهيم، كما وصل أنبياء بنى إسرائيل به..
ومع هذا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون لقمان نبيا، فقد آتاه الله الحكمة، وهى نعمة عظيمة حلّى الله تعالى بها أنبياءه، فقال تعالى في داود عليه السلام: «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» (251: البقرة) .
وقال تعالى في شأن الحكمة، وجلال قدرها: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (269: البقرة) .
ومما يرجّح الرأى عندنا بأن لقمان كان نبيا، أن القرآن الكريم سمى سورة باسمه، كما سمى سورا باسم إبراهيم، ومحمد، ويونس، وهود، ويوسف، ومريم.. وهذه التسمية تشير إلى ما للمسمى من شأن وقدر، سواء في مقام الخير أو في مجال الشر.. كما سميت سورة باسم أبى لهب، إذ كان علما بارزا من أعلام الضلال والكفر.. فهو في مجتمع الضلال إمام الضالين، كما أن النبي فى مجتمع المؤمنين، هو إمام المؤمنين..
ثم إن الحكمة التي أوتيها لقمان، حكمة ربانية، وليست من الحكم المكتسبة، التي يحصلها الحكماء والفلاسفة، بالبحث والنظر، وإنما هى فضل من فضل الله، كالرسالة، والنبوة. اللذين لا تكتسبان بتحصيل واجتهاد..(11/564)
- وقوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» .. أن هنا تفسيرية، والجملة بعدها مفسرة للحكمة التي آناها الله لقمان، وهى أن يكون عبدا شكورا لله.. فشكر الله هو رأس الحكمة، إذ لا يكون الشكر إلا عن إيمان وثيق بالله، وعن رضا مطلق بكل شىء يصيب الإنسان، ولهذا كان شكر الله من أعظم الصفات التي يخلصها لله سبحانه وتعالى، على المرضىّ عنهم من عباده، كما يقول سبحانه فى إبراهيم: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (120- 121: النحل) .
كما كان الشكر دعوة من دعوات الله إلى رسله وأنبيائه، كما يقول سبحانه، لداود: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ... وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) .
فالشكر، ثمرة الإيمان، ومن حرم الشكر، فقد خلا قلبه من الإيمان..
ولهذا قرن القرآن الكريم الشكر بالإيمان، وجعلهما على كفتى ميزان، سواء بسواء.. فقال تعالى: «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (172: البقرة) .
وقال سبحانه: «وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» (152: البقرة) .. وهذا ما جاء عليه قوله تعالى في هذه الآية: «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» .. أي أن عائد الشكر، إنما يعود إلى الشاكر نفسه، ليس لله منه شىء، فإن الله غنى عن العالمين، لا ينفعه شكر من يشكر، ولا يضره كفر من يكفر، كما يقول سبحانه: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (7: الزمر) .
قوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(11/565)
هو معطوف على قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» .. فإن قوله تعالى:
«أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» يفهم منه أنه شكر لله، بما آتاه الله من حكمة، فكان بهذه الحكمة من المؤمنين بالله، الشاكرين له، وهو إذ كان حكيما إذ آمن بالله وشكر له، فإنه كان حكيما كذلك إذ نفع بهذه الحكمة أقرب الناس إليه، وآثرهم عنده، وهو ابنه، فدعا ابنه إلى الإيمان بالله، وإلى إخلاء قلبه من الشرك، حتى يلحق بأبيه، ويكون من الشاكرين لله، ثم حذّره مغبة الشرك، وما يقع على الإنسان منه من ظلم عظيم، إذ يصيبه في مقاتله، ويورده موارد الهالكين..
قوله تعالى:
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
جاءت هاتان الآيتان معترضتين وصية لقمان لابنه، وذلك لتكتمل بها الحكمة، التي كان من أولى ثمراتها وأطيبها، شكر الخالق المنعم، ثم تكون الثمرة الثانية، وهى شكر الوالدين، وذلك ببرهما، والإحسان إليهما إذ كان لهما على الولد فضل الولادة، والتربية، والرعاية، ومن حق كل ذى فضل أن يشكر ويحمد ممن أحسن إليه.. وفي المأثور: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» ..
ووصاة الله للإنسان بوالديه، هى أمر، وعزيمة، وتكليف، إذ كثيرا ما ينكر الإنسان هذا الحق الذي لوالديه عليه، كما أن كثيرا من الناس يكفر بالله، ويجحد إحسان الله إليه، وفضله عليه..(11/566)
- وفي قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» إشارة إلى أخفى لون في الصورة التي نبت منها الولد، ونشأ في حجر والديه، وإلفات للولد إلى هذا الخيط الواهي من الحياة التي كانت له، والتي أمسكت به الأم، نطفة ثم علقة.. ثم ما زالت تمسك بهذا الخيط في حرص وحذر، وتفرز له من عصارة حياتها ما يزيده على الأيام قوة ونماء، حتى تفتق عنه رحمها وليدا، طفلا، ثم ما زالت به تحمله بين يديها، وتضمه إلى صدرها، وترضعه من لبنها، حتى يفطم، ويرفع فمه عن هذا الينبوع الذي يمتص منه رحيق الحياة، ليستقبل بعد هذا ما يمده به والداه من طعام، حتى يشب ويكبر، ويستطيع أن يسعى سعيه في الحياة!.
إنها رحلة استمرت نحو عامين، قطعها هذا الإنسان دائرا في فلك أمه، بين حمل ورضاعة.
والوهن: الضعف.. ووهنا على وهن: أي ضعفا على ضعف.. وهو حال من الفاعل والمفعول معا في قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ» .. فالضعف الذي تبدأ به حياة الجنين، تتلقاه الأم، فيصيبها منه ضعف، هو ضعف معاناة الحمل..
فيجتمع ضعف الجنين، مع ضعف الأم الوارد عليها منه..
والفصال: الفطام، حيث يفصل الطفل عن جسد أمه، الذي يظل ملصقا به نحو عامين، فى بطنها، وعلى صدرها، وبين ذراعيها..
- وفي قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» تفسير للفعل «وَوَصَّيْنَا» ..
إذ الوصاة تحمل دعوة إلى هدى وخير، ومضمون الوصاة هنا هو الشكر لله وللوالدين.. وقدم شكر الله على شكر الوالدين، لأن الله سبحانه هو الخالق وحده، وإذا كان للوالدين شىء هنا فهو لله أيضا، فما هما إلا من خلق الله،(11/567)
وما هما إلا أداة من الأدوات العاملة بقدرة الله وبأمره.. ومع هذا، فإن ذلك عمل من عملهما، يجزيهما الله عليه، وهو حق لله جعله الله لهما على أبنائهما، فضلا منه- سبحانه- وإحسانا.
وقوله تعالى: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، له كلّ شىء في هذا الإنسان الذي ولد لهذين الأبوين، وأن هذه المشاركة التي تبدو للوالدين في إيجاد الولد، ليست إلا مشاركة ظاهرية، إن أعطت الوالدين حقّ الإحسان إليهما، والبرّ بهما، فلن تعطيهما حقّ العبادة، على نحو ما كان عليه معتقد أولئك الضالين، الذين يعبدون أصولهم من آباء وأجداد! ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» تنبيه إلى هذا الحق الذي للوالدين على الولد، وأنه إذا قصّر في أدائه لهما، فإنه سيحاسب عليه يوم الحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويعرضون عليه.. لا تخفى منهم خافية.
- وفي قوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» - إشارة إلى موقف آخر، مختلف عن الموقف الأول، الذي يكون فيه الابن مؤديا حق والديه، قائما ببرّهما والإحسان إليهما.. وفي هذا الموقف يكون الأبوان على غير الطريق المستقيم، على حين يكون ابنهما على طريق الهدى والإيمان.. إنهما مشركان بالله، وهو مؤمن.. وقد رأيا في إيمان ابنهما بالله خروجا على طاعتهما، واستخفافا بدينهما لذى يدينان به، وخروجا على تقاليدهما الموروثة عن الآباء والأجداد..
وهنا يقع الصدام، ويكثر الشد والجذب.. فالأيوان يؤرّقهما هذا الذي استحدثه ابنهما من دين، والابن على يقين من أمره، وعلى بصيرة من دينه، وإنه لا سبيل إلى أن يجمعه وإياهما طريق، إلا أن يؤمنا بالله، وهيهات..!
والابن المؤمن هنا، بين حقين يتنازعانه.. حق الله، وهو الإيمان به، وحق(11/568)
الوالدين، وهو طاعتهما، والامتثال لما يدعوانه إليه من شرك وضلال.
وإنه لا خيار.. فإن حق الله أولى وألزم.. إنه يجبّ كل حق، ويعلو على كل واجب.. ولكن مع هذا، فإنه يبقى- مع الاحتفاظ بحق الله، والوفاء به- اللطف، والرفق، والمحاسن.. فإن ذلك لا يجور على حق الله ولا يؤثر في الإيمان الذي عمر به القلب: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما.. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» .. فهذا هو أعدل موقف يأخذه الإنسان هنا، فيحتفظ فيه بحق الله، ولا يجحد بعض ما لأبويه من حقوق.
روى عن سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه- أنه كان يقول «كنت رجلا برّا بأمى، فلما أسلمت قالت يا سعد: وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟
لتدعنّ دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتغيّربى، فيقال:
يا قاتل أمه!! قلت لا تفعلى يا أمّه، فإنى لا أدع دينى هذا لشىء.. فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها.. فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت دينى هذا لشىء..
فإن شئت فكلى، وإن شئت لا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت» ! - وقوله تعالى: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» توكيد لما جاء في قوله تعالى:
«فَلا تُطِعْهُما» ومعطوف عليه.
وسبيل من أناب إلى الله، هو سبيل المؤمنين، كما يقول سبحانه: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) .
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» قطع لهذا الجدل،(11/569)
وذلك الخلاف حول الإيمان والشرك، فيما يدور بين الابن وأبويه، وإحالة لهذا الخلاف إلى الله سبحانه وتعالى، ليحكم فيه، ويجزى كلّا بما عمل.
قوله تعالى:
«يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» .
المثقال: ما يوزن به.. وحبة الخردل: بذرة نبات الخردل..
عادت الآيات، لتصل ما انقطع من عظة لقمان لابنه.. وقد حذرته الآية السابقة من أعظم خطر يتهدد الإنسان، ويقضى عليه، وهو الشرك بالله.
وفي هذه الآية، يكشف لقمان لابنه عن علم الله، وبسطة سلطانه، حتى يعبده عن علم به، ومعرفة بما ينبغى له من كمال وجلال.
فالله سبحانه، الذي يستحق أن يعبد، وأن يفرد بالعبادة، هو المالك لهذا الوجود، العالم بكل صغيرة وكبيرة فيه. حتى الحبة من الخردل، وهى من الصغر بحيث لا تكاد تمسك بها الأصابع.. هذه الحبة، إن تكن في أي مكان فى هذا الوجود.. إن تكن في صخرة، أىّ صخرة من صخور الأرض، أو تكن في السموات التي لا حدود لها، أو تكن في الأرض، على أي عمق منها، وفي أي مكان فيها- هذه الحبة الضالة الغارقة في بحر هذا الوجود، يأتى بها الله، ويخرجها من هذه الأعماق السحيقة في أحشاء الكون.. «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» ينفذ نور لطفه إلى كل شىء، «خبير» متمكن من كل شىء، ويعلم كل شىء علما كاشفا..
قوله تعالى:
«يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» .(11/570)
وبعد أن كشف لقمان لابنه عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته، دعاه إلى عبادته، حتى إذا عبده كانت عبادته عن علم ومعرفة بمن يعبد.. وذلك مما يعطى العبادة مفهوما صحيحا، فيخشع لها القلب، وتسكن بها الجوارح، وتنتعش بها المشاعر.. أما العبادة التي لا تقوم على علم، فهى كالزرع الذي لا يقوم على سوق، أو جذور.
والصلاة، هى رأس العبادات في كل شريعة، وهى عمود الدين، فى كل دين.. ولهذا كان مقامها هنا هو المقام الأول: «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ..» ..
ثم جاء بعد ذلك، ما تعطيه الصلاة من ثمر، وهو إصلاح كيان الإنسان، وتنقيته من الشوائب والأدران، فيصبح رسولا كريما من رسل الهدى والخير فى الناس، حيث ائتمر بالمعروف، وانتهى عن المنكر، وهذا ما يدعوه إلى أن يكون داعيا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، إن لم يكن بلسانه، فيعمله، وبما يجد الناس فيه، من الأسوة الطيبة والقدوة الصالحة!! فمن ائتمر بالمعروف وانتهى عن المنكر، كان أشبه بالمرآة الصقيلة يرى الناس عليها وجه الخير والإحسان، فيتمثلونه ويتخذونه قدوة لهم.
وقوله تعالى: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» .. إلفات إلى هذا الزاد الطيب الذي يتزود به الإنسان في الحياة، ويستعين به على الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، وذلك الزاد، هو الصبر.. فإنه إذا قل حظ الإنسان من الصبر، فلن يجد العزم الذي يمضى به التكاليف ويقضى به الحقوق.
ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الصبر دعوة مؤكدة، حيث يستدعى الصبر عند كل عظيمة، ويهتف به عند كل أمر ذى شأن.. ففى ميدان القتال.. لا عدّة للمؤمن أعظم ولا أقوى من الصبر.. «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ(11/571)
الصَّابِرِينَ»
.. (46: الأنفال) .. «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (125: آل عمران) «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .. إنه لا عاصم للإنسان من الخسران، إلا أن يعتصم بالإيمان، والصبر..
والصبر، مع أنه مطلوب في كل حال، فإن الحاجة إليه أشد، والطلب له أقوى وألزم، حين يواجه المرء ما يكره من عواقب الأمور.. فهنا يكون الإنسان أمام امتحان قاس لإيمانه بربه وتوكله عليه، وتفويض أمره كله إليه..
فإن لم يجد من الصبر ما يمسك عليه إيمانه، ويقيم وجهه على الرضا والتسليم لله، استبدّ به الجزع، وقتله الهمّ، ووقعت بينه وبين ربه غيوم من التهم والظنون..
وهذه أول مزالق الشرك والكفر بالله..
- وفي قوله: «إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» - الإشارة «ذلك» إلى الصبر..
أي إن ذلك الذي تدعى إليه، وهو الصبر، هو من عزم الأمور، أي من جدّها، وصميمها، ولبابها.. وأنه مما ينبغى أن يحصّله الإنسان، ويربّى نفسه عليه، ويروضها على احتمال أعبائه.. إنه لن يرتفع الإنسان عن مستوى هذا التراب، إلا إذا حلّق بهذين الجناحين: الإيمان، والصبر..
قوله تعالى:
«وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» .
الصّعر: ميل الخدّ كبرا وتعاليا..
والمرح: الخفّة عن تيه، وعجب..(11/572)
وإنه من كمال الإنسان أن يجمّل ظاهره، كما يجمل باطنه.. إذ كان الظاهر هو بعض ما يقرزه الباطن، وينضح به..
وليس صعر الخد، والتبختر في المشي، إلا من مشاعر التعالي، والعجب، وذلك مما يعزل الإنسان عن الناس ويعزل الناس عنه، ولا يكون من هذا إلا الجفاء، ثم العداوة والبغضاء..
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» - إشارة إلى أن صاحب الكبر، والتيه، كما يلقى الكراهية، والنفور من الناس، فإنه يلقى البغض من الله، والبعد عن مواقع رضاه.. لأن الكبر مفتاح كل رذيلة، وباب كل شر وضلال.. وما أوتى المشركون الذين تحدّوا رسالة الإسلام، وعموا عن مواقع الهدى منها- إلا من كبرهم، وعجبهم بأنفسهم، وبما زينت لهم أهواؤهم..
قوله تعالى:
«وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ.. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» هو من بعض ما يجىء من التيه والكبر من شر.. حيث يخرج الإنسان في مشيه عما اعتاد الناس في مشيهم، فيصرع أو يبطىء لغير داعية، إلا أن يرى الناس أنه على غير شاكلتهم.. كذلك رفع الصوت، وإطلاقه على مداه، من غير سبب، هو استخفاف بالجماعة، وخروج على مألوفها، وإلفات لهم بهذا الصوت المدوى، إلى مصدره!.
والقصد في المشي، هو الأخذ بالوسط منه، فلا إسراع ولا إبطاء، ما دام الإنسان على حال لا تقتضى هذا أو ذاك، ولا تستدعيه.
- وفي قوله تعالى: «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» إشارة إلى كسر حدة الصوت(11/573)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
حياء من الناس أن يأتى هذا المنكر- وهو رفع الصوت- أمامهم، تماما، كما يغض الإنسان بصره عن الأمور المنكرة، حياء من الله، وحياء من الناس! - وفي قوله تعالى: «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» تنفير من رفع الصوت والخروج به على حدود الحديث المدار بين الجماعة- ولكأن هذا الذي يطلق صوته على مداه في مجلس من المجالس، هو حمار، أطلق صوته، فقطع على الجماعة حديثها.. فليكن مثل هذا الحمار إن شاء!.
الآيات: (20- 28) [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)(11/574)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» .
كانت قصة لقمان، وما آتاه الله من حكمة، عرف بها ربه، وأقام كيانه كله على حمده وشكره، ثم ما كان من وصاته لابنه، ورسم معالم الطريق إلى الخير، والهدى، له- كانت هذه القصة معرضا للمشركين يرون فيه مواقع رحمة الله في عباده، وما يسوق إليهم من نعمة العلم الذي يعرفون به ربّهم فيما جاءهم به رسول الله من آيات الله..، إن ذلك هو خير ما يصيب الإنسان فى حياته، وما يحصّل من رزق في دنياه.. وليس المال، ولا الجاه، بالذي يرفع منازل الرجال، وينزلهم منازل الرضوان عند الله، وإنما العلم- والعلم وحده- هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويعلى مقامه في الناس.
وها هو ذا رسول الله، يحمل الحكمة إلى هؤلاء المشركين، ويكشف لهم بها الطريق إلى الله ولكنهم مع هذا، يأبون أن يقبلوا هذا الخير المساق إليهم، وأن ينتفعوا به..
والآيات هنا تعرض صورا من مظاهر قدرة الله، فيها الحكمة، لمن يعنيه أن يكون من أهلها..
فهؤلاء المشركون، تظلّهم نعم الله، بما سخر في السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وتغمرهم آلاؤه بما سخر لهم في الأرض من حيوان، وما أجرى فيها من ماء، وما أخرج منها من نبات- ومع هذا فإنهم لا يلتفتون إلى شىء(11/575)
من تلك النعم، وإن التفتوا إلى شىء منها لم يكن لهم منه عبرة وعظة..
بل هم على ما هم عليه من ضلال وعمى، لا تزيدهم الآيات إلا كفرا وعنادا، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا..
- وقوله تعالى: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» .
الإسباغ: الإفاضة والشمول، عن سعة وكثرة.. والنعم السابغة:
الكثيرة المتعددة- ودرع سابغة: أي ضافية، كاسية، ومنه قوله تعالى:
«أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» (11: سبأ) .
والنعم الظاهرة: ما يعرفها الإنسان، ويلمسها بحواسه، أو يدركها بعقله..
والنعم الباطنة، هى ما لا يعلمه الإنسان من أسرار هذا الوجود الذي يعيش فيه..
والنعم الظاهرة قليلة لا تكاد تذكر إلى جانب النعم الباطنة، التي تغمر الإنسان ولا يشعر بها، ولا يعلم من أمرها شيئا.. وما كشف عنه العلم من أسرار الحياة، لا يعدو أن يكون سطورا من مقدمة كتاب الوجود، وما فيه من أبواب وفصول ...
- وفي قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» إشارة إلى هؤلاء المشركين، وما هم فيه من لجاج، وعناد، مع ما يتلى عليهم من آيات الله.. إنهم يجادلون ويجادلون، وكل ما معهم من أسلحة في هذا الميدان هو الجهل والعناد.. إذ ليس معهم «علم» حصّلوه بالنظر والتأمل، ولا «هدى» تلقوه من الرسول الذي جاءهم بالبينات من رب العالمين ولا «كتاب منير» تلقوه عن رسول من رسل الله، وانتفعوا بما فيه من علم وهدى.. ومع هذا فهم يجادلون في الله، وفي تصورهم لذاته وصفاته، على هذا النحو من التصور الفاسد، الذي يجعل الله على مستوى بشرى، كشيخ قبيلة،(11/576)
أو ملك من ملوك فارس أو الروم، أو أمير من أمراء الأمصار على تخوم مملكتى فارس والروم!.
- وفي قوله تعالى: «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» - إشارة إلى ما بين يدى أهل الكتاب من كتب سماوية، كان من شأنها أن تكون كتبا منيرة لهم، تكشف ظلمات الجهل، وتبدو غياهب الضلال، ولكن أهلها غيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي فيها، وأوقعوا الناس منها في حيرة وعمى!.
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» .
هذا موقف من مواقف الضالين في مواجهة الحق، وفي لقاء من يدعوهم إليه.. وهم في هذا الموقف إنما يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. فإذا دعوا إلى الله، وإلى اتباع ما أنزل الله، «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا..» .. تلك هى حجتهم، وهذا هو مستندهم.. إنهم أوفياء لآبائهم، حريصون على الاحتفاظ بتراثهم، وليس شأنهم شأن من يتنكر لقومه، ويخرج على تقاليد الآباء والأجداد، فذلك فوق أنه عقوق: هو عدوان على تلك الجامعة العصبية التي تجمع أبناء القبيلة تحت راية واحدة، سواء أكانت راية حق أو باطل..
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا
إنه لا منطق ولا عقل، ولا دليل ولا برهان.. وإنما هى عصبية عمياء، كما يقول سبحانه وتعالى، على لسانهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (23: الزخرف) .(11/577)
- وقوله تعالى: «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» - هو استفهام توبيخى لهؤلاء المشركين الذين يتلقون معتقدهم عن آبائهم، دون أن يكون لهم نظر أو رأى فيما تلقوه، ودون أن يتعرفوا إلى حقيقة هذا المعتقد، وما فيه من حق أو باطل، ومن خير أو شر، وإنما يأخذونه كما هو، عادة من العادات، وتقليدا من التقاليد..
فلو أن آباءهم هؤلاء جاءوا إليهم على صورة شياطين يدعونهم إلى جهنم ويفتحون لهم أبوابها، لاستجابوا لهم، ولاقتفوا آثارهم، دون وعى، أو التفات إلى النار التي هم مدفوعون إليها، إنه التقليد الأعمى، والمتابعة الحمقاء، التي يسلّم فيها المرء وجوده كله لغيره، دون أن يجعل لعقله حق النظر والاختيار.
وإنه لعدوان أثيم على الجانب الروحي في الإنسان، وذلك بحرمانه من أن يذوق بوسائله الإدراكية، والشعورية، والوجدانية، ما يغذّى هذا الجانب ويرضيه تماما كما يفعل الإنسان فيما يتصل بغذائه الجسدى، فهو الذي يتخير طعامه، ويذوقه، ويمضغه، فإن استساغه تركه يأخذ سبيله إلى جوفه، وإن مجّه، أو استخبثه، ألقى به من فيه. وحمى جوفه من سوء ما ينحم منه.
فكيف يقبل الإنسان أن يدع لغيره اختيار ما يغذّى روحه ومشاعره، ووجدانه؟ إن ذلك أشبه بالتغذية الصناعية، التي يعيش عليها الأطفال أو المرضى، لا يفيد منها الجسم إلا بالقدر الذي يمسك عليه الحياة.. هذا إذا كان الغذاء الصناعى طيبا سليما.. فكيف به إذا كان خبيثا فاسدا؟.
قوله تعالى:
«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .(11/578)
وإذا كان هؤلاء المشركون قد أسلموا وجههم للشيطان، وأعطوه أيديهم، فأخذوا طريقهم معه إلى جهنم، فإن المؤمنين الذين أسلموا وجوههم إلى الله، فآمنوا به ثم أتبعوا إيمانهم بالعمل الصالح، الذي يقتضيه منهم إيمانهم- هؤلاء قد أمسكوا بحبل النجاة، الذي يعصمهم من الغرق، ويسلمهم إلى شاطىء السلامة والأمن..
وفي تعدية الفعل «يسلم» بحرف الجر «إلى» بدلا من اللام، كما في قوله تعالى «فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» - فى هذا إشارة إلى أن في هذا الإسلام معاناة، وصراعا داخليا في كيان الإنسان، حتى إن المرء ليقود نفسه ويدفعها دفعا إلى الله.. وذلك ما كان في أول الإسلام، حيث كان المسلمون تحت ظروف قاسية قاهرة..
والعروة: ما يناط به الشيء، ويعلق به، ومنه عروة القميص، وهى ما يدخل فيه لزر.. وجمعها عرى..
والوثقى: القوية، المتينة.. مؤنث الأوثق.. ومنها الثقة: وهى الشعور بالاطمئنان للشىء الموثوق به.
وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» أي إلى الله سبحانه المرجع والمآل، لكل أمر، فما يفعله الناس، وما يتلبسون به، من إيمان أو شرك، ومن خير أو شر، فإن إلى الله مرجعه، وعند الله الجزاء عليه..
قوله تعالى:
«وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
فى هذه الآية مواساة للنبى، وعزاء له في قومه، الذين أبوا أن(11/579)
يستجيبوا له، وأن يمسكوا بحبل النجاة الممدود لهم..
- وفي قوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين الذي ظلوا على شركهم، بعد أن جاءتهم دعوة الحق، قد كانوا أهل فترة قبل الدعوة، أي غير واقعين تحت دينونة الحساب والجزاء، فلما بلغتهم الدعوة ولم يستجيبوا لها، لزمهم هذا الوصف، وهو الكفر، ووقعوا تحت دينونة الحساب والجزاء.. فكأنّ هذا الكفر الذي وصفوا بهم طارئ عليهم، مستحدث فيهم! ولهذا جاء الخطاب على أسلوب الشرط، الدال على الاستقبال والتجدد معا..
- وفي قوله تعالى: «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» تهديد لهؤلاء المشركين الكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي هو الجزاء لأهل الشرك والكفر..
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. بالانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، وإن كان عند المشركين والكافرين، غائبا عنهم، لا يشهدون جلاله، ولا يستحضرون عظمته وقدرته، فإنه عليم بما توسوس به النفوس، وما تكنّه الصدور..
قوله تعالى:
«نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» ..
هو وعيد بعد وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا تركوا وما هم فيه من أمن وسلامة، وعافية في أموالهم وأنفسهم، فذلك ظل زائل، لا يلبث أن يزول،. ثم إنهم بعد هذا ليساقون سوقا، ويؤخذون قهرا إلى المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، وهو العذاب الغليظ يوم القيامة..(11/580)
ووصف العذاب بالغلظ، كناية عن شدته، وقسوته..
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
أي أن هؤلاء المشركين، لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض، لما وجدوا جوابا إلا جوابا واحدا، ولقالوا: - اضطرار أو اختيارا- خلقهن الله! فإنهم لن يستطيعوا أن يضيفوا خلق السموات والأرض إلى غير الله.. فهذه حقيقة أكبر من أن يتسع لها مراء الممترين، وافتراء المفترين.. إن المشركين ليعلمون أن لهذا الوجود خالقا، ولكن علمهم هذا قد تلبس بأوهام وظنون، واختلط بجهالات وضلالات، فلم يكشف لهم هذا العلم الطريق إلى الله، ولم يطلعهم على بعض ما لله سبحانه من كمال وجلال.. ولهذا كان الطريق بينهم وبين الله ضيقا، مظلما، معوجا، تقوم عليه، وعلى جانبه المزالق والمعاثر.
- وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» - هو دعوة إلى النبي، وإلى كل مؤمن، بالتعقيب على هذا الجواب بحمد الله، الذي خلق السموات والأرض، فهذا الخلق- ومنه خلق الإنسان- نعمة تستوجب الحمد والشكر للخالق.. كما يقول سبحانه:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» (1: الأنعام) وكما يقول سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (1: فاطر) ..
فبين يدى كل نعمة جليلة يجىء حمد الله، منبها إلى قدر هذه النعمة، ومذكّرا بما ينبغى على العباد إزاءها من حمد وشكران.. «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» (1: الكهف) . «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (2: الفاتحة) .
- وقوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - هو إضراب عن كلام سابق(11/581)
محذوف، دل عليه المقام، وهو لم لم يحمد المشركون الله مع إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، فكان الجواب: لأنهم مستكبرون، ثم أضرب عن هذا الجواب بقوله: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» وذلك ليدل على أن استكبارهم هذا كان عن جهل مطبق.. ولو كان معهم شىء من العلم لأسلمهم هذا الاعتراف إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة غير الله، ثم لحمدوا الله مع الحامدين، وشكروا له مع الشاكرين..
وفي إطلاق نفى العلم: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى أنهم لا يعلمون شيئا، أي شىء، من أي شىء.. علما نافعا، كاشفا.
قوله تعالى:
«لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» هو إبعاد للمشركين عن الله، وقطع للظنون التي تدور في رءوسهم، حين يدعون إلى الإيمان بالله، وإلى إفراده- سبحانه- بالعبادة، واختصاصه بالحمد، فيخيل إليهم من ظنونهم الفاسدة تلك، أن ذلك الإلحاح عليهم بالدعوة إلى الله، هو لحاجة الله إليهم، وافتقاره إلى عبادتهم.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
فالله «سبحانه» له ما في السموات والأرض.. وإنه ليملك من هؤلاء المشركين ما لا يملكون هم من أنفسهم.. إن كل شىء فيهم، ولهم، ومعهم، هو من عند الله، وإلى الله مصيره.. فكيف يكون الخالق في حاجة إلى المخلوق؟ وكيف يكون المعطى في حاجة إلى من أعطاه؟ «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» (27: ص) .
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» توكيد لاستغناء الله عن خلقه، وأن إيمانهم أو شركهم، وحمدهم أو كفرهم، لا ينفعه ولا يضره.. فهو «الغنى»(11/582)
غنى مطلقا، وهو «الحميد» المستحق للحمد، حمدا مطلقا، لكل ما كان منه في خلقه، من تقدير وتدبير..
وقوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .
ومما يكشف عن غنى الله الغنى المطلق، واستحقاقه الحمد، حمدا مطلقا، هو سعة ملكه الذي لا حدود له، وما لله من تصريف في هذا الملك، كيف شاءت إرادته.. لا معقب لحكمه.
فلو تصور متصور أن كل ما في الأرض من شجر كان أقلاما، وأن كل مياه البحار قد أصبحت مدادا.. ثم أخذت هذه الأقلام تستملى من هذا المداد، وتكتب- من غير توقف- ما تتلقّى من كلمات الله- لما نفدت كلمات الله! وكلمات الله، هى مقدراته التي يقوم بها الوجود، وينشأ عنها كل موجود.
فبالكلمة، خلق الله كل شىء.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .
- وفي قوله تعالى: «مِنْ شَجَرَةٍ» - إشارة إلى استغراق كل ما في الأرض، شجرة شجرة، من كل جنس، وكل صنف من أصناف الشجر..
ولو جاء النظم القرآنى «من شجر» بالجمع بدلا «من شجرة» بالإفراد، لما دلّ على هذا الاستغراق، الذي يشمل كل شجرة في الأرض ولكان فيه متأول يتناول بعض الشجر دون بعض، أو الشجر الذي تستعمل منه الأقلام دون غيره مثلا..
وفي التعبير بكلمات الله- وهو جمع قلّة- بدلا من «كلام» الذي هو جمع(11/583)
كثرة، إشارة إلى أن القليل من كلام الله، وهو الكلمات، لا ينفذ، ولو فنيت فى كتابتها الأقلام من كل شجر الأرض، وجفّت في مدّ هذه الأقلام بالمداد كلّ بحار العالم..! فكيف بالكثير من كلام الله.
هذا، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (109: الكهف) .
وفي هذه الصورة، لم تذكر الأقلام التي تستملى من هذا البحر، اكتفاء بما جاء هنا من ذكر الأقلام.. فالصورتان تكمل إحداهما الأخرى، وليست إحداهما تكرارا للأخرى، كما يبدو ذلك في ظاهر الأمر.
ويلاحظ أن البحر هنا يمدّه من بعده سبعة أبحر، على حين أنه في سورة الكهف يمدّه بحر مثله.. وقد يبدو أن في هذا تناقضا عند من يأخذ بظاهر الأمور، ولا يتعمق النظر فيها..
إن الأمر قائم على الفرض، وكثير من مادة الفرض وقليلها سواء فى تحقيق المطلوب منه، وهو الدلالة على سعة علم الله، وبسطة سلطانه، وامتداد ملكه، الذي لا ينفد، وأن بحرا واحدا، أو جزءا من هذا البحر ليكفى عند التجربة في الكشف عن سعة هذا العلم، وبسطة ذلك السلطان، وامتداد هذا الملك..
فالبحر الذي يمده من بعده سبعة أبحر، يواجهه الحكم بقوله تعالى:
«ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» مع السكوت عن نفاد ماء البحر.
والبحر الذي يمده بحر مثله، يواجهه الحكم بقوله سبحانه: «لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» .(11/584)
ففى كل صورة من الصورتين احتمال ترفعه الصورة الأخرى.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة الكهف: «لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» هو أنه يمكن أن تنفد كلمات الله، لو جىء بمثلى هذا البحر، مددا، أو بثلاثة أمثاله.. وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى فى سورة لقمان: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» .
والاحتمال في قوله تعالى في سورة لقمان: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» - هو أن الأبحر لم تنفد، وأن كلمات الله لم تنفد، وأنه لو نفدت الأبحر لنفدت كلمات الله، وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة الكهف: «لَنَفِدَ الْبَحْرُ» ..
وعد إلى الآيتين مرة أخرى:
«وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» .. (لقمان) «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (الكهف) واجعل من الآيتين آية واحدة، تجد الأبحر قد نفدت، وما نفذت كلمات الله، وتجد كلمات الله لا نفاد لها، ولو مدّ البحر، لا ببحر واحد مثله، بل بسبعة أبحر!.
هذا كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه..
«وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» .
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» توكيد لسلطان الله، وتمكنه تمكن العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تجرى أحكام عزّته على العدل(11/585)
والإحسان، لا العسف والجبروت، شأن كل عزّة لا تحكمها الحكمة.
قوله تعالى:
«ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .
كانت الآية السابقة معرضا فسيحا لقدرة الله، وإنه لا يحسن النظر فيه، والإفادة منه، إلا من أوتى بصرا نافذا، وبصيرة مشرقة، ثم كان معه- مع هذا- قلب مؤمن..
وفي هذه الآية، معرض محدود من معارض هذا الوجود، وهو معرض الخلق والبعث.. ثم أجمل هذا العرض في وحدة من وحدات الخلق، وهى الإنسان، فى ذات واحدة، ونفس واحدة..
فهذا الإنسان، فى خلقه، وبعثه، يكفى النظر إليه وحده، فى الاستدلال على قدرة الله، وعلى أنه هو الخالق لهذا الوجود الذي لا حدود له..
فمن نظر إلى الإنسان، وإلى أصل نشأته، وكيف تنقل في الخلق، من حال إلى حال، حتى صار هذا الكائن القوىّ، العاقل، الذي يمخر عباب البحر، ويغوص في أعماق المحيط، ويحلق في أجواء السماء، بل ويطأ القمر بقدميه- من نظر إلى هذا الإنسان الذي تخلق من نطفة، تخلقت من من أخلاط مختلفة، ثم نظر إليه في قوته وجبروته، ثم أعاد النظر إليه وقد ردّ إلى الشيخوخة والهرم- رأى كمال قدرة الله، وعلمه، وحكمته، وأنه وحده سبحانه، القادر على كل شىء، قدرة مطلقة لا يعجزها شىء.. وأن الذي خلق الإنسان، قادر على أن يخلق الناس جميعا، وأن الذي خلق الناس، قادر على أن يخلق السموات والأرض.. ففى القليل ما يدل على الكثير، وإن قطرة الماء لتحمل في كيانها خصائص ما في البحار كلها من مياه..!(11/586)
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . إشارة إلى شمول سمع الله لكل شىء، وإحاطة بصره بكل شىء، يستوى في هذا خفيض الأصوات وجهيرها، وقريب الأشياء وبعيدها.. وأقرب مثل لهذا- ولله المثل الأعلى- السمع والبصر، فى كيان الإنسان.. فالسمع السليم، يستقبل ويسمع جميع الأصوات الواقعة تحت دائرة حسه، لا فرق في ذلك بين كلام الإنسان، وأصوات الحيوان، وحفيف الأشجار، وهدير الرعد، وخرير الماء.. وكذلك البصر السليم، يرى كل المرئيات التي تقع في دائرته، سواء في ذلك الجميل والقبيح، والأبيض والأسود، والمتحرك والثابت.
فإذا كان سمع الإنسان وبصره، يتّسعان لأكثر من شىء في وقت واحد، أفلا يكون في قدرة الله أن يسمع كل شىء، ويبصر كل شىء؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يتخذ من الوسائل ما يرى بوساطتها الأشياء البعيدة التي لم تكن تراها عينه، ويسمع الأصوات الخفية التي لم تكن تسمعها أذنه- أفلا يكون ذلك مما تطوله القدرة الإلهية وتعمل به؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن ينقل الأصوات والمرئيات، لسمعه وبصره، من أطراف الأرض كلها في لحظة، أفلا تستطيع القدرة القادرة أن تفعل الكثير الذي لا حدود له في هذا المقام؟
وإذا كان بين العلماء الذين يملكون هذه الوسائل، وبين من يعيشون في حدود حواسهم الطبيعية- هذا المدى البعيد في مدركات السمع والبصر- أفلا يكون بين الله سبحانه وتعالى وبين خلقه، ما لا نهاية له من فروق؟ وإذن فما الفرق بين الخالق وما خلق؟ «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» (17: النحل) .(11/587)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الآيات: (29- 34) [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .
وهذا معرض آخر من المعارض الدالة على قدرة الله، وسعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى جانب تلك المعارض التي عرضتها الآيات السابقة.(11/588)
فهنا- فى هذا المعرض- نشهد تلك الحركة الدائبة التي يدور في فلكها الليل والنهار، على هذا النظام الدقيق البديع، الذي لا يتوقف لحظة، ولا ينحرف قيد أنملة.
وولوج الليل في النهار، مغيبه فيه، ودخوله في كيانه، وكذلك ولوج النهار فى الليل، هو مغيبه في الليل، وتواريه في داخله..
ومن هذه الصورة نرى الظلام مستكنّا في أحشاء النور: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» ثم نرى النور مطويّا في كيان الظلام: «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» ..
فمن أحشاء النور يخرج الظلام، ومن أحشاء الظلام يولد النور.. وهذا من دلائل القدرة القادرة، التي تؤلّف بين الأضداد.. «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ.. ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟» (95: الأنعام) .
ومن آياته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر، وأجراهما على هذا النظام المحكم، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا، فتتجلّى آية الشمس في النهار، ونتجلى آية القمر في الليل: «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» (61: الفرقان) .. ولكلّ من الشمس والقمر فلكها الذي تدور فيه، من غير أن ينحرف أىّ منها عن مداره: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) .
وقوله تعالى: «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» . الأجل المسمى، هو الزمن المحدد لدورة كلّ من الشمس والقمر، أو هو الأمد المحدد لهما الجريان فيه، ثم إذا انتهى هذا الأمد توقّفا، أو أخذا اتجاها آخر.. شأنهما في هذا شأن كل مخلوق..
فلا دوام لحال أبدا..
- وقوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» معطوف على قوله تعالى:(11/589)
«أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ... » وكأنه تعقيب عليه.. وذلك أن الذي ينظر متأملا في نظام الوجود، وفي قدرة الله الممسكة به، لا بد أن يؤدّيه هذا النظر المتأمل، إلى إدراك هذه الحقيقة، وهو أن الله عليم بكل ما نعمل، فلا تخفى عليه خافية من أعمالنا، دقيقها وعظيمها، خيرها وشرّها.. إنه علم العليم الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .
الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآيات من مظاهر قدرة لله، وسعة علمه..
والجار والمجرور في قوله تعالى: «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» متعلق بمحذوف، يدل عليه السياق وتقديره: يقضى، أو يقطع. ونحو هذا.. أي أن ذلك الذي يراه الراءون في هذا الوجود من آيات القدرة، ومظاهر العلم- يقضى، ويقطع بأن الله هو الحق، أي الإله الحق، الذي يتفرد بالألوهة، من غير شريك، كما يقضى بأن تلك الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله، هى الباطل كله، لا شىء من حق فيه أبدا.. وذلك من شأنه أن يقضى ويقطع بأن الله هو «العلىّ» ، المنفرد بالعلوّ والسلطان، «الكبير» الذي له الكبرياء وحده، وأن مادونه دون ضئيل، لا وزن له، ولا قدر!.
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .(11/590)
وهذه نظرة أخرى، بعد هذه النظرات التي دارت في هذا الوجود، ورأت ما رأت من آيات الله، وكشفت ما كشفت من جلاله، وعظمته، وقدرته. وهذه النظرة تتجه إلى تلك الفلك التي تجرى في البحر.. إن جريانها آية من آيات الله، لا يراها إلا كل «صبار» على ما يلقى من شدائد، فلا ييأس من روح الله، ولا يجحد حكمته فيه، وإحسانه إليه، وابتلاءه بالخير والشر.. فيصبر على البلاء، ويشكر على العافية..
- وفي قوله تعالى: «بِنِعْمَتِ اللَّهِ» - إشارة إلى أن الفلك تجرى مدفوعة بنعمة الله، ومسيّرة بقدرته.. فالباء هنا للاستعانة، كما تقول: استدفأت بالنار، وتطهرت بالماء..
وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى: «تَجْرِي» وتكون نعمة الله، هى الريح، التي تدفع الفلك.. ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا متعلقا بمحذوف، وتقديره، تجرى محملة بنعمة الله، أي بما تحمل من تجارات، تنقلها من مكان إلى مكان..
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» - إشارة إلى أن آيات لله، لا يراها، ولا ينتفع بها إلا أهل الإيمان الوثيق بالله، الذين إذا أصابهم الضرّ صبروا، وإن أصابهم الخير شكروا..
وصبار: صبغة مبالغة: أي كثير الصبر، وذلك في جميع الأحوال، التي يبتلى فيها الإنسان بما يكره..
والشكور: للمبالغة أيضا.. أي كثير الشكر، الذي يستقبل كل نعمة من نعم الله بما تستأهل من حمد وشكران..(11/591)
قوله تعالى:
«وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» .
هو تعقيب على قوله تعالى في الآية السابقة: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ..
والآية هنا تعرض حالا من أحوال الناس، وخاصة أولئك الذين لم يتصفوا بهذا الوصف الذي أشار إليه قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. أي إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، يوجّهون وجوههم إليه وحده، يطلبون الخلاص والسلامة، فإذا استجاب الله لهم، ونجاهم مما هم فيه، لم يكونوا على حال واحدة، بل كانوا فريقين، فريق منهم «مقتصد» أي غير مسرف على نفسه في الكفر بنعمة الله، والجحود لفضله، وفريق آخر، كافر، جاحد، مسرف في كفره، وجحوده..
- وفي قوله تعالى: «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» مقابلة لقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. فالصبار الشكور، هو المؤمن الذي يصبر على البلاء، ويشكر على العافية، و «الختار الكفور» هو الكافر، الذي يلجأ إلى الله في ساعة الشدة، وينكره ويكفر به في أوقات العافية..
والختّار: المخادع، الذي يمكر بآيات الله، فلا يعرف الله إلا وقت المحنة والضيق..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ(11/592)
وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» .
يجزى: أي يتحمل الجزاء عن غيره، ويستقلّ به دونه..
الغرور: ما يغرّر الإنسان، ويدفع به إلى مواطن البلاء، والشر.. من شيطان، أو مال، أو سلطان..
وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة.. وفي هذا الختام دعوة عامة للناس جميعا إلى الله، وإلى الإيمان به، والخشية له، واتقاء عذابه يوم القيامة، حيث تجزى كل نفس بما كسبت، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا..
فهنالك تتقطع الأنساب، ويشغل كل امرئ بنفسه، «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.» (34- 37: عبس) .. «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (88- 89: الشعراء) .
- وقوله تعالى: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وعد الله هنا هو يوم القيامة، حيث وعد الناس بالبعث من بعد موتهم، ليلقوا جزاء ما عملوا.. وهذا وعد حق..
«وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» (6: الروم) .
- وقوله تعالى: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» تحذير من الغفلة عن هذا اليوم، ومن عدم العمل له، والحذر مما يشغل الإنسان عنه، من متاع الحياة الدنيا وزخارفها، ومن المغربات التي تزين للإنسان الشر، وتدفعه عن مواقع الإحسان، بما يوسوس له به الشيطان، وما تزين له به النفس.
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي(11/593)
نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»
..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد جاءت داعية إلى الإيمان بالله، وإلى خشية عقابه يوم القيامة.. وقد جاء فيها قوله تعالى: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ليؤكد وقوع هذا اليوم، وأنه آت لا ريب فيه، إذ كان وعدا من الله.. والله لا يخلف وعده..
وهنا في هذه الآية، تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لوقوعها كما وعد الله..
وذلك أن أكثر ما أضل الضالين، هو إنكارهم ليوم القيامة، أو تشككهم فى وقوعه، إذ كان أمرا بعيدا عن متناول الحس، والإدراك، بعيدا عن التصور، إذا قيس بمقاييس المادة..
فجاءت هذه الآية لتؤكد هذه الحقيقة، ولترى أن هناك أمورا حاضرة يعمل فيها الإنسان، ثم هى مع هذا محجوبة عنه، إن عرف مبتداها، لم يعرف منتهاها، وإن أمسك بأولها، أفلت منه آخرها، ومن ذلك اتجاه مسيرة الإنسان في الحياة، وما يقرر له من رزق فيها.. إن أحدا لا يستطيع أن يخطّ المصير الذي هو صائر إليه، ولا يدرى ماذا ستطلع به الأيام عليه من خير أو شر.. فإذا كان ذلك كذلك، فلم يجادل الإنسان في أمر الآخرة؟
ولم يشكّ في وقوعها إذا كان علمه قاصرا محدودا، لا يستطيع أن يكشف به ما يلقاه في عده؟
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» أسلوب قصر، مؤكد، ويراد به قصر علم الساعة على الله وحده. وعلم الساعة هو كل ما يتصل بها، من اليوم الذي تجىء فيه، وما يقع فيها من أحداث، وما يلقى كل إنسان من جزاء..(11/594)
- وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» معطوف على خبر إنّ، وهو قوله تعالى:
«عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» فهو جملة بمعنى يعلم.. أي إن الله يعلم الساعة، وينزل الغيث.. أي أنه سبحانه هو الذي ينزل الغيث بأمره وقدرته.. يسوقه إلى حيث يشاء، وينزله حيث يشاء، ومتى يشاء.. وليس يعترض على هذا بما يصطنعه العلم اليوم من مطر صناعى، فإن هذا المطر إنما يصطاده العلم اصطيادا، من بخار الماء الذي أنزله الله.. وإنه لا يعدو أن يكون أشبه بقطرات الماء التي تتكاثف على سطح إناء مملوء بماء مثلوج، أو قطرات الندى التي تتساقط من الهواء على النبات في الليل!.
وإذا كان للعلم أن يقف لهذه الحقيقة، فليصطنع الهواء أولا، ثم ليصطنع الماء ثانيا، ثم ليجمع بين الماء والهواء ثالثا.. وعندئذ يقال إن العلم إنما يعمل فيما هو له.. أما أن يعمل العلم فيما هو لله، فهو لا يعدو أن يكون نفسه مادة من تلك المواد التي يعمل فيها.
- وقوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» معطوف على قوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» .. وقد عرضنا لتفسير هذه الآية عند تفسير قوله تعالى: «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ» (8: الرعد) .
وعلم الله تعالى لما في الأرحام، هو علم شامل يكشف عما في الأرحام كلها، فى الإنسان والحيوان، وما في كل رحم من ذكر أو أنثى، وما يكون لهذا المخلوق من حياة، وما يقدّر له من رزق!.
وقد وقف أكثر المفسرين بمفهوم هذا العلم على نوعيّة الكائن في الرحم، أهو ذكر أم أنثى؟. وهذا مفهوم قاصر لا يناسب علم الله الواقع على ما في الأرحام..
إن علم الله علم كاشف لكل ما في الأرحام، ما كان منها، وما سيكون، ثم هو علم كاشف لكل مولود يولد منها، والصورة التي سيكون عليها، والمكان(11/595)
الذي يأخذه في الحياة، والخطّ الذي يسير عليه المولود من مولده إلى مماته..
هذا، وقد انزعج إيمان كثير من المؤمنين حين جاءتهم أنباء العلم، بأن العلماء قد استطاعوا- أو هم على وشك أن يستطيعوا- معرفة ما في رحم الأمّ.. من ذكر أو أنثى! ونقول لهؤلاء المشفقين على إيمانهم من هذا الذي دخل به العلم على الدين متحديا قدرة الله- كما يتصورون- نقول لهم: ليس الأمر على ما تتصورون..
فلا تضيقوا بالعلم ذرعا، ولا تنظروا إليه شزرا، بل دعوا العلم ينطلق إلى أبعد غاياته، وشاركوا في موكبه الفاتح المظفر.. فما هو إلا ضوء من أضواء الحق، تكشف عن بعض آيات الله، وعلمه، وقدرته..
وماذا على الدّين من أن ينظر العلم في آية من آيات الله، كهذه الأجنّة التي أودعها الخالق في الأرحام، فعرف العلم منها ماذا أودع الله فيها؟ وماذا على الدين من أن ينظر العلم إلى البعوضة بالمجهر، فيرى فيها كائنا سوىّ الخلق، ذا فم، وعين، وأجنحة، وأرجل.. ثم أعمل فيها مبضعه تحت المجهر، فرأى لها أجهزة للهضم والتنفس! وجوارح للسمع والبصر، والشم، والذوق؟ وماذا على الدين من العلم، لو نظر إلى الشمس، ووضعها تحت مقاييسه، فرأى فيها أنها ليست هذه الكرة الصغيرة المضيئة، التي نراها، بل رآها كونا عظيما، ملتهبا، يبلغ حجمه مليونا وربع مليون من مثل حجم الأرض؟ وماذا على الدين لو نظر العلم في المجرة فرأى فيها ملايين من الشموس التي تكبر شمسنا حجما وأثرا؟
ماذا على الدين من فتوحات العلم هذه؟
إن العلم هنا هو خير داعية إلى الله، وإلى الإيمان به، وملء القلوب والعيون جلالا وهيبة وإعظاما لله!(11/596)
إن العلم إنما يعمل هنا فيما خلق الله، لا فيما خلق العلم..
فليغرس الماديون الذين يجهلون قدر العلم، كما جهلوا قدر الله.. إن من صفات الله سبحانه أنه العليم، وأن العلم هو أجل نعم الله على عباده، وهو الذي ترجح به موازين الناس، وترتفع به منازل بعضهم على بعض: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ..» (9: الزمر) .. وإنه ليكفى العلم قدرا وجلالا، أن يرفع الله قدر أهله، وينزلهم منازل رضوانه، بقدر ما حصّلوا من علم، وما حققوا من إيمان.. فيقول سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» (11: المجادلة) .. بل يكفى أن نظم الله سبحانه وتعالى العلماء في عداد الملائكة، فقال سبحانه: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ» (18: آل عمران) .
- وقوله تعالى: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» هو من بعض علم الله في خلقه، وأنه سبحانه، هو الذي يقدّر الأرزاق، كما يقدّر الأعمار.. فلا يدرى إنسان ماذا قسم الله له من رزق، وماذا كتب الله له من عمر.. كما لا يدرى أحد على أي ميتة يموت، ولا في أي موضع يموت! «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .. فهو سبحانه الذي يعلم كل هذا علم الخبير بما يعلم.(11/597)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
32- سورة السجدة
نزولها: مكية عدد آياتها: ثلاثون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون.. كلمة عدد حروفها: ألف وخمسمائة وتسعة وتسعون.. حرفا مناسبتها لما قبلها جاء في آخر السورة السابقة- سورة لقمان- قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .. وقد تضمنت هذه الآية أمورا خمسة، جعلت علمهن مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه وليس لعلم الإنسان سبيل إليهن..
وقد جاء في هذه السورة- سورة السجدة- بيان شارح لهذه الأمور..
ومؤكد لتقريرها.. كما سنرى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)(11/598)
التفسير:
قوله تعالى:
«الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
«الم» مبتدأ. وقوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» خبر محذوف، لمبتدأ آخر، دل عليه ما قبله، والجملة من المبتدأ المقدّر وخبره، خبر «الم» ..
وتقدير هذا: «الم» ذلك «تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين» - أي على هذا الأسلوب نزل كتاب الله.. مجملا ومفصلا، محكما ومتشابها.
فألف، لام، ميم.. حروف مفصلة، و «الم» كلمة واحدة..
وألف، لام، ميم، محكمة، إذ لكل حرف منها دلالته.. و «الم» متشابهة، إذ لا يعلم تأويلها في هذه الصورة المركبة، إلا الله، والراسخون في العلم.
ومعنى «تنزيل» أي النزول الذي نزل القرآن على صفته من رب العالمين.
- وقوله تعالى: «لا رَيْبَ فِيهِ» جملة حالية، من الكتاب.. وهى بمنزلة(11/599)
الصفة للكتاب، بمعنى أن الكتاب الذي نزل من عند الله، «لا رَيْبَ فِيهِ» .
أي ليس فيه موضع لريبة أو شكّ، لأنه الحق الذي لا شبهة فيه.. ويجوز أن يكون معنى «لا ريب فيه» نفى الريب والشك عن نزوله من الله، أي لا ريب فى أنه نزل من عند الله.
- وقوله تعالى: «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» متعلق بقوله تعالى: «تَنْزِيلُ» أي أن ذلك الكتاب منزل من رب العالمين.. وكفى بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى، جلالا وشرفا لهذا الكتاب.. وفي إضافته إلى «رب العالمين» إشارة إلى ما يحمل إلى الناس جميعا من فضل ربهم وإحسانه إليهم، فهو- سبحانه- الرب، وهم المربوبون له، المنشّئون في ظل رعايته..
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .
الضمير في «يقولون» يعود إلى المشركين، وهم وإن لم يجر لهم ذكر، مذكورون في هذا المقام، الذي لا يرى فيه غير أهل الشرك والضلال والعناد، الذين ينكرون الحق، ويمارون فيه..
- وفي قوله تعالى: «افْتَراهُ» عدول من الخطاب إلى الغيبة، وهذا على غير ما يقتضيه النظم، إذ كان قوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» خطابا للنبى، لأن القرآن كله خطاب من ربه إليه، ثم ما جاء بعد ذلك فى قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» يقضى بأن يكون مقام النبي هنا مقام حضور، لا مقام غيبة..
والسؤال هنا: ما سر هذا الاختلاف في النظم؟ ولم خوطب النبي- صلوات الله وسلامه عليه- خطاب غيبة في قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ(11/600)
افْتَراهُ»
؟ ولم لم يجر الخطاب على هذا النسق في قوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ..؟»
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه لما كان الافتراء، مما لا يليق بمقام النبوة، ولا يصح أن يطوف بحماها، فقد كان إكرام الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، وإحسانه إليه، ورفعه لقدره، أن عزل سمعه عن أن يواجه بهذا المكروه من القول الذي يقوله المشركون فيه، وحتى أنهم وإن أرادوا النبي به، فإنما هو مصروف عنه إلى غيره، ممن يصح أن يكون منه افتراء.. وهذا- فوق أنه تكريم للنبى، وإعلاء لقدره- هو أدب سماوى، وإعجاز قرآنى، فى تصوير الوقع، وضبطه على أحكم ميزان، وأعدله، وأقومه..
أما حين يكون الأمر مما يخص النبي، ويتعلق برسالته، ويحقق صفته، فإنه يكون من مقتضى الحال أن يواجه النبي بالخطاب، وأن يتلقى ما يخاطب به فى مشهد وحضور، فذلك أرضى لنفسه، وأهنأ لقلبه.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .
- وقوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» هو إنكار لتلك المقولة المنكرة التي يقولها المشركون في كتاب الله.. فهم في هذه القولة، يرتكبون جنايتين:
أولاهما: اتهام النبي بالكذب والافتراء.. وهم على علم بأنهم كاذبون مفترون، إذ أنهم يعرفون صدق هذا النبي، الذي لم يعرف الكذب في حياته، ولم يجربوا عليه كذبة منذ عرفوه، صببا، وشابا، وكهلا.. وثانيتهما: أنهم يفترون الكذب على هذا الكتاب، وهم يرون بأعينهم آيات الحق مشرقة في كل كلمة من كلماته، ومع كل آية من آياته! فلو أنهم اتهموا النبي لردّهم عن هذا ما رأوا من صدق الكتاب نفسه، ولو أنهم اتهموا الكتاب لصدّهم عن ذلك ما عرفوا(11/601)
من صدق النبي.. ولكنه العناد الذي يورد أهله موارد الضلال، ويرمى بهم فى مواطن السوء.
- وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» .. إضراب على مقولتهم تلك، واعتبارها من لغو الكلام، وسقط القول، وإزالة هذا القول المنكر من هذا المقام، وإقامة الحق مقامه.. «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» .
- وقوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» يتعلق بقوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي أن هذا الكتاب المنزل من ربك بالحق، إنما أنزل إليك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.. والقوم هنا هم قوم النبي.. وفي ذكرهم هذا الذكر المنكر «قوما» بدلا من إضافتهم إلى النبي هكذا: «لتنذر قومك» .. إشارة إلى أنهم كانوا على حال من الضلال والضياع، بحيث كادت تذهب معالمهم، وتضيع إنسانيتهم، وفي هذا ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، وإلى البحث عن وجودهم الضائع، حتى يجدوه في ضوء هذا النور المرسل إليهم.
- وقوله تعالى: «ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» .. إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لم يأتهم نبى قبل هذا النبي يحمل كتابا من عند الله، يدعوهم به إلى دين الله.. وليس يرد على هذا ما كان من مقام إبراهيم وإسماعيل في هؤلاء القوم، وما كان لآبائهم الأولين من اتصال بهذين النبيين الكريمين، ومن الإيمان بهما، والأخذ عن شريعتهما، وذلك لأمرين:
أولهما: أن إبراهيم عليه السلام- لم يلقهم لقاء مباشرا، ولم يكن من شأنه معهم أن يبشر فيهم بشريعته، وإنما أقام البيت الحرام، مع إسماعيل، وترك لإسماعيل مهمة القيام على هذا البيت، ودعوة من يلمّون به، إلى الإيمان بالله،(11/602)
والأخذ بشريعة أبيه إبراهيم.. وقد كان من هذا أن تابع إسماعيل على شريعة أبيه، كثير من العرب، وعبدوا الله حنفاء مخلصين له الدين.
وثانيهما: أنه لما طال العهد بهؤلاء القوم، تفلتوا من شريعة إبراهيم شيئا فشيئا، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ظلال باهتة، وإلّا رسوم دارسة، وحتى لقد زحف الشرك على موطن الإيمان، وأجلاه من مواقعه، وأصبح بيت الله مجمعا لآلهة الضلال التي جلبوها إليه، من أصنام وأنداد.
وعلى هذا تكون رسالة إسماعيل إلى العرب، رسالة قاصرة، محدودة الزمن، قد أدت دورها في فترة، لم تتجاوز جيلا أو جيلين، ثم غربت شمسها، إذ لم يكن وراءها كتاب، يقوم في القوم مقام الرسول بعد موته.
وبهذا يكون المراد بالقوم في قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم هؤلاء المخاطبون من المشركين، ويدخل معهم في هذا الخطاب آباؤهم الأقربون، إذ لو كان قد جاء إلى آبائهم الأقربين رسول، لكانوا محسوبين مع آبائهم هؤلاء، داخلين في دعوة الرسول الذي لقى آباءهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» (6: يس) .
- وفي قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . إطماع لهؤلاء المنذرين في الاهتداء إلى الله، وانتفاع بهذا الكتاب الذي يتلى عليهم، وأنه كتاب يرجى منه الهدى لكثير منهم، الأمر الذي تحقق فيما بعد، فآمن كثير منهم به، ودخلوا فى دين الله أفواجا..!
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى(11/603)
عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» .
هذا من بعض ما يحمل الكتاب من نذر ينذر بها الرسول قومه..
ففى هذا النذير إلفات إلى قدرة الله، وإلى سلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض، وقام بسلطان قدرته عليها، وعلى تصريف كل شىء فيهما.. فليؤمنوا إذن بهذا الإله المتفرد بالألوهة، وليتركوا ما هم عاكفون عليه من أصنام.. فإن لم يفعلوا أخذهم الله بعذابه الذي لا يدفعه عنهم «ولىّ» أي قريب أو حليف، ولا يشفع لهم من بأس الله «شفيع» من تلك المعبودات التي يعبدونها من دونه، ليقربوهم إلى الله زلفى..
- وقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» . قد عرضنا لتفسيره من قبل، فى غير موضع، وقلنا إنه ليس المراد بالستة الأيام هنا اشتغال الله سبحانه وتعالى بعملية الخلق طوال هذه المدة، كما فهم ذلك كثير من المفسرين، نقلا عن التوراة، وما جاء في أول سفر التكوين منها، من أن الله خلق المخلوقات في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع..
تقول التوراة: «فى البدء خلق الله السماوات والأرض..»
ثم تقول وهى تعرض ما خلق الله في السموات والأرض: «وكان مساء وكان صباح.. يوما واحدا.. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا وكان مساء.. وكان صباح يوما ثالثا.. وهكذا إلى اليوم السادس، ثم تقول:
«فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل» !! وهذا فهم خاطئ لقدرة الله، وتحديد لتلك القدرة، ومقايسة لها بقدرة(11/604)
المخلوقين، حتى إنه سبحانه- ليعمل في كل يوم عملا، ثم يستريح بعد أن يعمل، وحتى لكأنّ العمل قد أجهده وأتعبه.. وتعالى الله عما يقول الضالون علوا كبيرا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .
وقد قلنا إن هذه الأيام، هى العمر الذي نضج في بوتقته خلق السموات والأرض، تماما كما يتخلّق كل مخلوق في زمن محدد.. من النطفة إلى الوليد، ومن البذرة إلى الثمرة.. فلكل جنين زمن يتم فيه تكوينه، ولكل ثمرة وقت تبلغ به تمامها ونضجها.. وهكذا كل مخلوق مما خلق الله!.
أما حصر الخلق في الستة الأيام هذه، فذلك شأن من شئون الله في خلقه، لا يسأل عما يفعل.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» (68: القصص) .
- وفي قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ما يسأل عنه: ألم يكن الله سبحانه وتعالى عرش يستوى عليه قبل أن يخلق السموات والأرض؟ ألم يكن هناك سلطان لله قبل أن يخلق ما خلق؟.
ومع أن هذا التساؤل لا محل له، لأنه مما يتعلق بذات الله، ومما لا تناله العقول، ولا تدركه الأفهام.. فالسؤال شطط، والجواب عنه إمعان في هذا الشطط- مع هذا، فإننا لكى نرضى هذا التطلع والفضول منا، نقول: إن سلطان الله قائم أبدا، وجد هذا الوجود أم لم يوجد.. فالعلم، والقدرة، والحكمة، والسمع، والبصر، وغير ذلك من صفات الله، هى صفات أزلية قائمة بالذات، سواء ظهرت آثارها أو لم تظهر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) .. فهداية(11/605)
الله للمخلوقات قائمة قبل الخلق، ولكنها تتجلى حين يظهر المخلوق، ويأخذ الانجاه الذي توجهه قدرة الله، وعلمه، وحكمته إليه..
ومثله قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (40: الروم) .
فهذا الخلق، ثم الرزق، ثم الإماتة، ثم الإحياء، كلها واقعة في علم الله، مقدورة لقدرته، ولكنها تتجلى في كل مخلوق، حالا بعد حال، وزمنا بعد زمن، حسب علم الله وتقديره.
واستواء الله سبحانه وتعالى على العرش، هو تجلّيه سبحانه على هذه المخلوقات التي خلقها، وإجراؤها على النظام الذي قدره لها..
قوله تعالى:
«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .
تدبير الأمر، قضاؤه، والأمر بإنفاذه..
والمراد بالسماء هنا، الإشارة إلى متنزل هذا الأمر المدبر، وهو أنه من سلطان عال متمكن..
والمراد بالأرض: الإشارة إلى ما يقضى به الله في شأن الناس، وما يتصل بعالمهم الأرضى، إذ كانوا هم المخاطبين بهذا، والمدعوين إلى النظر فيه، وتلقّى العبرة منه..
وعروج الأمر إلى الله، هو الرجوع إليه، بعد أن يقع على الصورة التي أرادها، فيعلمه سبحانه على الصورة التي وقع عليها، وهذا العلم ليس(11/606)
حادثا، بل هو علم قديم، لأمور حادثة.. فكل الأمور تصدر عن الله، ثم تعود إليه، بعد أن تدور دورتها المقدورة لها، كما يقول سبحانه:
«أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» (53: الشورى) .
- وقوله تعالى: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» - اختلفت الأقوال في هذا اليوم، وهل هو يوم القيامة، أم هو يوم من أيام الله في هذه الدنيا..
واليوم، هو وحدة من وحدات الزمن عند الناس، فى هذه الدنيا، وهو محدود بأربع وعشرين ساعة، تدور فيها الأرض دورة كاملة حول الشمس، من الغرب إلى الشرق.
وقد ورد في القرآن الكريم موازنة بين أيام الدنيا هذه، وأيام أخرى عند الله، فكان من تلك الأيام ما يوازى ألف سنة من أيام دنيانا، كما يقول الله تعالى في هذه الآية، وكما يقول جل شأنه في آية أخرى:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47: الحج) .
وجاء في موضع آخر من القرآن الكريم، أن من الأيام عند الله ما يعدل خمسين ألف سنة من أيامنا.. كما يقول سبحانه: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (4: المعارج) .. وهناك أيام تعدل ما لا حصر له من أيامنا في دنيانا تلك..
والذي نطمئن إليه في تأويل هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة، واليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- هو أن هذين اليومين يوقّتان دورتين من دورات الأجرام السماوية في أفلاكها، وأن اليوم الذي مقداره ألف سنة من(11/607)
أيام الأرض، هو يوم كوكب من الكواكب السماوية، حيث تتم دورته فى فلكه في ألف سنة.. ويمكن أن يكون هذا الكوكب في السماء الدنيا..
ويكون في الحديث عن هذا الكوكب، أو عن يومه وطوله بالنسبة ليوم الأرض- إشارة إلى قصر الحياة على هذه الأرض، ومع هذا، فإن الناس يستعجلون مقامهم فيها، ويستحثون مطاياهم للارتحال عنها: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» .
وإذا كان في الكواكب ما يتمّ دورته في يوم. مثل فلك الأرض، وكان فيها ما يتم دورته في ألف سنة، مثل كثير من الكواكب- فإن هناك من الكواكب ما يتم في دورته في خمسين ألف سنة.. وهناك ما يتم دورة في آلاف آلاف من السنين..
فهناك أيام كثيرة في علم الله، لدورات الكواكب والنجوم المبثوثة فى ملك الله.. ولعل هذا هو السرّ في تنكير «يوم» فى المواضع الثلاث التي جاء فيها تحديد الزمن اليومي، بألف سنة، وبخمسين ألف سنة.. فكل يوم منها، هو بعض أيام الله، فلله سبحانه أيام لا تحصى في النظام الذي أقام عليه حركات الكواكب والنجوم، التي لا يعلمها إلا الله.
قوله تعالى:
«ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .
الإشارة هنا إلى الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة من أيام دنيانا وهو الله سبحانه وتعالى..
وقوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي ذلك المشار إلى قدرته في تدبير الأمور، هو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الرحيم(11/608)
وقدم علم الغيب على الشهادة، للإشارة إلى أن علم الله علم مطلق، لا تحدّه حدود، فيستوى لديه القريب والبعيد، والظاهر والخفىّ، إذ لا قرب وبعد، ولا خفاء وظهور.. لأن ذلك إنما يكون بالإضافة إلى العلم القاصر المحدود، الذي يتناول شيئا ويقصر عن شىء.. أما العلم الكامل المطلق، فحقائق الأشياء كلها واقعة في دائرة هذا العلم كحقيقة واحدة!.
وفي وصف الله سبحانه بالعزة والرحمة، إشارة إلى أن عزته سبحانه وتعالى، عزة رحمة وإحسان، وليست عزة تسلط وقهر، فإن من شأن العزة القهر والجبروت، وفي المثل: «من عزّ بزّ» .. وتعالت عزة العزيز الحكيم عن ذلك علوا كبيرا..
قوله تعالى:
«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» .
أي أن من عزة الله ورحمته قيام هذا الوجود على أحسن نظام، وأكمله..
والمراد بالحسن هنا ليس مجرد حسن السورة، وإنما هو الحسن الذي يتجلى فى إحكام الصنعة، ودقة التنسيق، وروعة التأليف، وتجاوب النغم، ووحدة الغاية، وإن اختلفت الاتجاهات، وتعددت الأنغام.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. فدبيب النملة على مسارها، وجريان الشمس في فلكها، وتدفق النهر في مجراه، وحفيف الأوراق على أشجارها، وكل همسة، وكل حركة في هذا الوجود، فى أرضه وسماواته، تؤلّف جميعها لحنا علوىّ النعم، يروع القلب جلاله، ويأسر الفؤاد حسنه وجماله.. سواء أنظر الإنسان إليها في اجتماعها أو افتراقها، وسواء استعرضها على تفصيلها أو إحمالها.
- وفي قوله تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» إلفات إلى وحدة من وحدات هذا الخلق، وإشارة إلى مواطن هذا الحسن منه، وهو خلق الإنسان من طين ...(11/609)
ففى هذا الطين الذي قد تنبو عنه العين، ويتحاشاه النظر حسن رائع، وجلال مهيب، إذا استطاع الناظر أن ينفذ إلى ما وراء هذا الظاهر الذي يراه، وأن يتجاوز هذه القشرة السوداء المعتمة من الطين.. فإن وراء هذه القشرة، عالما يموج بألوان زاخرة، زاهية من الحياة.. فما هذه الأناسىّ التي تتحرك على ظهر الأرض، وتملأ الحياة حركة وعمرانا، إلا بعض هذا الطين الذي نمشى عليه، وننطلق فوقه!! .. وإذا عجز إدراك الإنسان عن أن يرى في مرآة هذا الطين صورته، ويعرف الرّحم الذي تفتق عنه، فلينظر في وجوه الأرض، وما عليها من ألوان الزهر، وأصناف الشجر، وأنواع الثمر.. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (4: الرعد) .
فهذا الطين، ليس في عين ذوى البصائر طينا، جامدا، صامتا، كئيبا، وإنما هو الجمال كله، والحسن كله، تفتقت عنه- بقدرة العزيز الرحيم- هذه الحياة المتدفقة من إنسان، وحيوان، ونبات! فبدء خلق الإنسان من طين، هو نقطة الابتداء، التي يبدأ العقل مسيرته منها، إلى حيث يلتقى بالإنسان في أكمل صورته، وأعظم مواقفه.. وعندئذ يرى كيف تدبير الله، وقدرته، وكيف علمه، وإحسانه، ورحمته.. فما أبعد ما بين الطين والإنسان، فى عين من لا يحسن النظر، ويمعن التفكير، وما أقرب ما بين الطين والإنسان، فى عين من ينظر، فيحسن النظر بعقله وبقلبه جميعا.. فمن هذا الطين، كان الأنبياء والرسل، والقادة، والمصلحون، والعباقرة.. ومن هذا الطين كانت تلك الشموس المضيئة التي زينت الأرض كما زينت الكواكب والنجوم وجه السماء!(11/610)
قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ..
وهذه لفتة أخرى إلى قدرة العزيز الرحيم، يرى فيها الإنسان نفسه، لا في هذا الطين، الذي ربما كانت كثافته حائلا بينه وبين نظره الكليل أن يرى وجوده فيه.. فهناك النطفة، التي يعلم الإنسان- كل إنسان- عن يقين أنه ثمرتها، وأنها البذرة التي جاء منها.. فأين تلك النطفة.. من هذا الإنسان؟
«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» . (5- 7 الطارق) .
وفي وصف النطفة بأنها ماء مهين، إشارة إلى أنها شىء رخيص مبتذل، لا يرى فيها الإنسان شيئا ذابال، فما هى إلا ماء مستقذر.. هكذا يبدو في ظاهر الأمر.. ولكن إذا نظر إليه نظرا متأملا متفحصا، رأى أنه هو هذا الإنسان، قد أجمل في هذه القطرة من الماء! ثم فصّل فكان هذا الخلق السّوىّ، الذي توّج بتاج الخلافة من الله على هذه الأرض! قوله تعالى:
«ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .
وهذه أيضا لفتة أخرى، يرى فيها الناظر إلى الإنسان في مسيرته من النطفة إلى الوجود البشرى- يرى كيف تحركت هذه النطفة، وكيف نمت كما ينمو النبات، حتى إذا بلغت في رحم الأمّ مرحلة محددة، نفخ فيها الخالق من روحه، فبعث فيها الحياة، حتى إذا تم نضجها، دفع بها الرحم إلى هذه الدنيا، قطعة من لحم، مصورة في هيئة بشر، لا سمع، ولا بصر، ولا إدراك.. ثم لا يلبث هذا الوليد حتى يكون له السمع والبصر والإدراك.. وإذا هو هذا الإنسان، كما هو في كل موقع من مواقع الحياة..(11/611)
وقدّم السمع على البصر، لأنه أسبق من البصر ظهورا في الكائن الحي بعد الميلاد، حيث تبدأ وظيفة السمع في كيان الطفل، قبل أن يبدأ البصر في أداء وظيفته- وهذا من إعجاز القرآن، الذي كشف عنه العلم- ثم يجىء بعد هذا دور الوعى والإدراك! وفي إفراد السمع، وجمع البصر، والفؤاد، إشارة إلى أن معطيات السمع تكاد تكون واحدة عند الناس جميعا، وذلك على خلاف البصر، الذي يختلف من إنسان إلى إنسان، حيث يكون النظر عند بعض الناس مجرد عين ترى الأشياء رؤية حيوانية لا تتجاوز ظاهر المرئيات، على حين يكون النظر عند بعض آخر بصيرة نافذة، تبلغ الأعماق، وتصل إلى اللباب.. وكذلك الشأن في الفؤاد، وهو موطن المدركات! وذلك أظهر من أن يكشف عنه.
- وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» أي قليل منكم من يعرف لله قدره، ويذكر له إحسانه وفضله، فيؤدى الشكر لله، إيمانا به، وإفرادا له بالألوهة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) قوله تعالى:
«وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» .
الضلال في الأرض: الضّياع، والفناء في ترابها.. وذلك بما يحدث للأجساد بعد الموت من تحلل وفناء.
والحديث هنا عن المشركين، الذين ينكرون البعث، ويرون أن انحلال أجسادهم بعد الموت، وتحولهم إلى تراب من تراب الأرض، يجعل من المستحيل أن يعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، إذ ما أبعد ما بين هذه الأجساد(11/612)
التي أبلاها البلى، وبين الحال التي ستصبح عليها لو صحّ أنهم سيبعثون..
ولو أنهم نظروا إلى ما دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، من النظر في قوله تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» .. وفي قوله: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» - لوجدوا أن لا فرق بين هذا التراب الذي جاءوا منه، أو تلك النطفة التي تخلقوا منها، وبين هذا التراب الذي صارت إليه أجسادهم.. بل إن فى أجسادهم الغائبة تحت التراب، إشارات تشير إليهم، وتاريخا يحدث عنهم! إنهم- وهم في التراب- أشبه بغائب ترجى له عودة، وهم لم يكونوا من قبل شيئا! وشىء يعود إلى أصله، أقرب في التصور من توقع وجود شىء من عدم! - وفي قوله تعالى: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين على ضلال في حياتهم الدنيا.. قد فتنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، وأطلقوا لهواهم العنان يذهب بهم كلّ مذهب.. وهذا ما أوقع في تفكيرهم أن لا حياة بعد الموت، وأن لا حساب ولا جزاء ... لأن ذلك يعنى أن يعملوا حسابا لهذا الحساب، وأن يتخففوا كثيرا مما هم فيه من ضلال، وأن يستبقوا من يومهم شيئا لما بعد هذا اليوم.. وإنه ليس لهم إلى ذلك من سبيل، وقد غلبتهم أهواؤهم، واستولت عليهم دنياهم.. وإذن فلا يوم بعد هذا اليوم، ولا حياة بعد هذه الحياة.. إنهم- والحال كذلك أشبه بالجند في ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، حتى الصباح، ينفقون فيها كل ما معهم.. ثم ليكن في الغد ما يكون!! قوله تعالى:
«قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» .
توفية الشيء: استيفاؤه وأخذه كاملا وافيا، وعبّر عن الموت بالتوفى،(11/613)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
لأنه لا يكون الموت حتى يستوفى الحىّ ما قدر الله له من حياة، دون زيادة أو نقصان.
- وفي قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» - إشارة إلى أن الموت الذي يحلّ بهم، ليس أمرا يقع من تلقاء نفسه، اعتباطا، كما يظنون وكما يقول شاعرهم:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطىء يعمّر فيهرم
وكلّا، فإن الموت بيد الله الحكيم العليم، الذي جعل لكل نفس أجلا محدودا، فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. ثم إن الموت يقوم به رسول من رسل الله، مهمته هى قبض الأرواح من الأجساد، بعد أن تستوفى أجلها.. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي إليه الموت، له أيضا الحياة قبل الموت، وبعد الموت.. فمن أعطى الحياة، ثم سلبها، لا يعجز أن يعطى ما سلب! «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) .
الآيات: (12- 21) [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 21]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)(11/614)
التفسير قوله تعالى:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» .
هذا عرض لحال من أحوال المشركين والضالين، يوم القيامة، وما يلقون من ذلة وهوان، وما يذوقون من بلاء وعذاب..
وهم في هذا الموقف، قد سيقوا إلى ساحة الحساب بين يدى الله سبحانه وتعالى، وقد نكست رءوسهم ذلة وخزيا، وخضعت أعناقهم همّا وغمّا، يضرعون إلى الله أن يردوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، ليصلحوا ما أفسدوا، وليستقيموا على طريق الحق والهدى، بعد أن أبصروا من عمى، وسمعوا من صمم، وشهدوا الحق الذي أنكروه، وعاينوا البعث الذي كفروا به، وأيقنوا أنهم كانوا في ضلال مبين..(11/615)
وفي هذا الاستفهام فضح لهؤلاء المجرمين، واستدعاء لكل ذى نظر أن يشهدهم وهم على موقف الهوان، وفي ثياب الذلة والصغار، وهم كانوا السادة الذين ورمت أنوفهم كبرا، وصعّرت خدودهم تيها وعجبا! وقوله تعالى:
«وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها.. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .
هو ردّ ضمنى على ما طلب المجرمون من أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى..
والمعنى: أن الهدى بيد الله، وفي قيد مشيئته.. وأنه سبحانه لو شاء لهدى الناس جميعا، ولكنه سبحانه جعل للجنة أهلها ولها يعملون، وجعل للنار أهلها ولها يعملون.. وأن مما قضى الله به في خلقه أن يملأ النار ويعمرها بمن جعلهم من أهلها، من الجنة والناس! وأن هؤلاء المجرمين الذين رأوا مشاهد القيامة، وعاينوا أهوالها، وتمنوا العودة إلى الدنيا، ليستقيموا على طريق الحق والهدى- هؤلاء المجرمون، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، ولركبوا نفس الطريق الذي كانوا عليه من قبل، ولماتوا على الكفر والضلال، ولكانوا في أصحاب النار، وذلك لأن قضاء الله فيهم قد سبق، وأنهم لن يخرجوا عما قضى الله فيهم! ويسأل سائل: لماذا إذن كانت دعوات الرسل؟ ولماذا إذن كان العمل؟
وكان الإيمان والكفر؟ لم هذا، وقد سبق القضاء، ونزل كل إنسان منزله من الجنة والنار منذ الأزل؟ والجواب على هذا، قد عرضنا له في مبحث خاص من هذا التفسير، تحت عنوان: مشيئة الله ومشيئة العباد «1» .
__________
(1) انظر التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الرابع.. ص 263 [.....](11/616)
وفي كلمة موجزة نقول: إن لله قضاء سابقا في خلقه- هذا حقّ.. فللجنة أهلها، وللنار أهلها، ولن يتحول إنسان أبدا عما أراد الله له.. ولكن- مع هذا- فإن هذا القضاء محجوب عن الناس، فلا يدرى أحد أهو من هذا من الفريق أو ذاك، وذلك مما قضت به حكمة الله، حتى يظل باب العمل مفتوحا لكل عامل.. فهناك طريقان: طريق الإيمان، والهدى، وطريق الكفر والضلال.
والأول موصّل إلى الجنة، والآخر منته إلى النار.. والإنسان مخيّر في اختيار أحد الطريقين.. هكذا يبدو الأمر في ظاهره، فلا قسر ولا قهر، وإن كان لله الأمر كله.. فمن كان من أهل الجنة، يسّره الله لها، ومن كان من أهل النار أخلى الله طريقه إليها.. وكلّ ميسّر لما خلق له! ولا تسأل بعد هذا: لم اختار الله هذا الفريق للجنة، واختار ذاك الفريق للنار؟ إنه خلقهم، لم يشاركه أحد في الخلق، وإنه أقامهم حيث أقامهم، فلا اعتراض على المالك في تصرفه فيما ملك..!
والله سبحانه وتعالى يقول: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (2: التغابن) .
قوله تعالى:
«فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو ردّ مباشر على هؤلاء المجرمين، بعد أن تلقوا الرد الضمنى في الآية السابقة، وأنهم من أصحاب النار، ولن يعدل بهم عنها عودتهم إلى الدنيا مرة ومرة ومرات.. فليخسئوا، وليذوقوا عذاب السعير.. إنهم من أصحاب النار..(11/617)
- وفي قوله تعالى: «بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الباء للسببية، أي ذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم هذا اليوم، وكفركم به! وقد عبّر عن كفرهم، بيوم القيامة بالنسيان، ليكشف عن مدى استخفافهم به، وإخلاء أنفسهم من كل شعور يصل بينهم وبينه.
وقوله تعالى: «إِنَّا نَسِيناكُمْ» هو على سبيل المجازاة.. وأنهم كما استخفّوا بهذا اليوم، فقد استخفّ الله بهم، ولم ينظر إليهم بعين الرحمة..
فهم باقون في هذه النار لا يخرجون منها، حتى لكأنهم قد نسوا فيها.. كما يقول الله سبحانه: «كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» (126: طه) .
قوله تعالى:
«إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» .
هو أيضا ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين لا يؤمنون بآيات الله أبدا..
لأنهم على غير صفات أهل الإيمان.. فأهل الإيمان إذا ذكّروا بآيات الله، تفتحت لها قلوبهم، واستنارت بها بصائرهم، فعرفوا ربهم، وانقادوا لجلاله وعظمته، وخشعوا لعزته وجبروته، وسجدوا مع الساجدين، وسبحوا بحمده مع المسبحين، فى ولاء لا يطوف به كبر، وفي خضوع لا يخالطه استعلاء! قوله تعالى:
«تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .
ومن صفات المؤمنين، أنهم مشغولون بذكر الله، لا ينامون إذا نام الناس،(11/618)
كما يقول الله: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (17- 19 الذاريات) .
- وقوله تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً» هو حال من أحوال هؤلاء المؤمنين، الذين يهجرون مضاجعهم ليذكروا الله، ويدعوه، خائفين من عذابه، طامعين في رحمته.
- وقوله تعالى: «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» هو حال من أحوالهم أيضا، وهو أنهم إذ يقومون بحق الله عليهم في أنفسهم، عبادة، وصلاة، ودعاء، فإنهم يقومون بحقه تعالى عليهم في أموالهم، بذلا، وإحسانا في كل وجه من وجوه الخير والبر..
قوله تعالى:
«فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
فى هذا التجهيل لنعيم الجنة الذي أعده الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين- إطلاق له من القيود والحدود، فهو نعيم مطلق، بلا حدود ولا قيود، فيه كل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين.. كما في الحديث القدسي: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله «1» ما أطلعتكم عليه» .
- وفي قوله تعالى: «ما أُخْفِيَ لَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا النعيم، لا يخطر
__________
(1) بله: اسم فعل أمر، بمعنى، دع، أو اترك، والمعنى أن الله سبحانه قد أعد لعباده الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك غير ما أطلعهم الله عليه وعرفوه في الدنيا من ألوان النعيم.(11/619)
على بالهم، ولا يقع في تصورهم، لأنه مما لا شبيه له، فيما يعرف الناس من نعيم الدنيا.. فهو- والحال كذلك-.. أشبه بالشيء الخفي، الذي لا تعلم حقيقته..
- وقوله تعالى: «مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» .. أي مما تسر به العين، وترتاح له، وتجد فيه أنسها وحبورها.. وخصّت العيون بهذا، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها مشاعر الإنسان، وترتسم على نظرتها خلجاته وخطراته.. من فرح أو حزن، ومن حب أو بغض، ومن رضا أو سخط.. ولهذا فإنه قد كان للناس نظر بالعيون إلى العيون، وحديث من العيون إلى العيون..
وكان للعيون لغة أبلغ من لغة الكلام، وكان لهذه اللغة علماؤها، وأصحاب القدم الراسخة فيها، عطاء وأخذا، وإرسالا واستقبالا..
وفي الشعر العربي ما يكشف عن هذه الحقيقة من أمر العيون، وما تنفث من سحر البيان والدلال معا.. يقول الشاعر:
والعين تعلم من عينى محدّثها ... إن كان من أهلها أو من أعاديها
ويقول آخر:
إذا كاتمونا الهوى نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف
ويقول ثالث:
ومراقبين تكاتما بهواهما ... جعلا القلوب لما تجنّ قبورا
يتلاحظان تلاحظا فكأنما ... يتناسخان من العيون سطورا
وهكذا تحدّث العيون عما تطوى النفوس من خير أو شر، يقول السيد المسيح: «سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيّرا، وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلما» .(11/620)
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ .. لا يَسْتَوُونَ» .
هو تعقيب على الآيات السابقة، التي كشفت عن وجوه المجرمين، وساقتهم إلى موارد الهلاك والبلاء، كما كشفت عن وجوه المؤمنين، وأرتهم ما أعدّ لهم من نعيم ورضوان.. ثم هو تمهيد لما ستكشفه الآيات التالية بعد هذا، من موقف الفريقين، ومن الجزاء الذي يلقاه كل فريق..
والاستفهام هنا يراد به النفي.. ولهذا جاء جوابه منفيا.
وفي الاستفهام من توضيح الحكم وتأكيده، ما ليس في الخبر التقريرىّ، الذي يجىء بالحكم صريحا مواجها، يلقى به إلقاء، على سبيل الإلزام والتحكم!.
ففى الأسلوب الاستفهامى، دعوة إلى العقل أن ينظر في هذه القضية، وأن يشارك في الحكم المناسب لها، وفي البحث عن الحيثيات التي تدعم هذا الحكم وتسنده..
«أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟» .
هذه هى القضية..
فماذا يؤدّى إليه النظر فيها؟ ولأى طرفى الخصومة فيها يحكم العقل؟
أهما على سواء، فلا فاضل ولا مفضول؟ ذلك بعيد.. إذ لو كانا على حال واحدة من جميع الوجوه، لكانا شيئا واحدا، ولم يكونا شيئين متقابلين..
وإذ كان الأمر كذلك، فهما غير متساويين..
هذه بديهة لا تحتاج إلى كثير من النظر.. ولهذا جاء قوله تعالى:(11/621)
«لا يَسْتَوُونَ» جوابا مطلقا، على هذه البديهة.. إنهما غير متساويين..
هذا ما لا سبيل إلى المماراة أو الخلاف فيه..
فالمؤمن غير الفاسق.. والفاسق غير المؤمن.. وإذ كانا غيرين، فهما غير متساويين.. ويبقى بعد هذا، الفصل في أىّ من هذين غير المتساويين أرجح كفة، وأثقل ميزانا؟.
قد يرى أهل الضلال أن الفاسق أرجح ميزانا، وأهدى سبيلا من المؤمن.. فليكن ذلك حكمهم.. أما الحكم الحق والقضاء الفصل، فهو هذا الذي سمعوه من قبل إن كانوا قد سمعوا وعقلوا، وهو هذا الذي يسمعونه الآن، إن كانوا يسمعون أو يعقلون.
«أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
«وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .
هذا هو الحكم الفصل، فيما بين المؤمن والفاسق..
ويلاحظ أن القرآن لم يأت بالحكم صريحا، ولم يقل إن المؤمن خير من الفاسق.. ولكنه جاء بفحوى هذا الحكم وبالآثار المترتبة عليه.. ثم ليكن الحكم على هذه الآثار، التي هى أظهر من أن تختفى التفرقة بينهما على ذى مسكة من عقل..
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم جنات «المأوى» أي السكن والاستقرار «نزلا» أي منزلا كريما يأوون إليه، وينزلونه، حيث يجدون(11/622)
فيه الحياة الطيبة الهنيئة: «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» من أعمال طيبة، فى هدى من الإيمان بالله، وعلى نور من شريعة الله..
وأما الذين «فسقوا» أي خرجوا عن طريق الإيمان، وركبوا طرق الضلال، «فَمَأْواهُمُ النَّارُ» .. تلك هى دارهم، وهذا هو نزلهم..
«كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها» فرارا من وطأة العذاب «أُعِيدُوا فِيها» وردّوا إليها، وحيل بينهم وبين ما يشتهون.. «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. فهم لا يردون إلى النار وحسب، بل يلقاهم مع هذا الرد من يسمعهم ما يسوءهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، فيقول لهم:
«ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. إنما يذوقون عذاب النار فعلا، ولكن الحديث إليهم بما يسوءهم، وقرع أسماعهم بهذا المكروه- هو مضاعفة للبلاء، ومزاوجة بين المكروه والمكروه، كما أن للحديث عن المحبوب لذة في السمع، ووقعا في القلب، إلى ما له من لذة في مرأى العين، ومذاق اللسان.. وقد كشف أبو نواس عن هذا، فيما يجد من لذة وانتشاء، عند سماع كلمة الخمر وهو يشربها، إلى ما يجد لها من مذاقها على لسانه، ومن دبيبها فى مفاصله، حتى يمتع حواسه كلها.. فيقول:
ألا فاسقنى خمرا وقل لى هى الخمر ... ولا تسقنى سرّا متى أمكن الجهر!
وأبو نواس، وإن كان هنا على إثم، فإنه يلذ طعم اسم هذا الإثم ويستمرئه..
ولو كان في هذا الموقف غيره، ممن يتأثمون هذا الإثم، ثم يكرهون إكراها على تعاطيه، فإن ذكر الخمر باسمها عند صبّها في أفواههم، هو عندهم بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب!(11/623)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قوله تعالى:
«وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» العذاب الأدنى: هو العذاب القريب في زمنه، القليل في آثاره، بالنسبة إلى العذاب الأكبر.. والمراد بهذا العذاب الأدنى هو ما يلقاهم في دنياهم من خزى وخذلان، على يد المؤمنين، وذلك بما يصابون به من قتل وأسر في ميدان القتال، وما يجدون في أنفسهم من وقدة الحسد، لما يفتح الله به على المؤمنين من أبواب رحمته، وبما يمكّن لهم في الأرض..
والعذاب الأكبر: هو عذاب يوم القيامة..
وقوله تعالى: «دُونَ» أي قبل.
وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» إشارة إلى أن هذا العذاب الذي يقع للمشركين، الفاسقين، فى هذه الدنيا، قد يكون لبعضهم فيه عبرة وموعظة، فيرجع عن غيه وضلاله.. وهذا هو بعض السر في تصدير هذا الحكم بحرف الرجاء «لعل» ..
الآيات: (22- 30) [سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 30]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)(11/624)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها.. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» .
المراد بالاستفهام هنا النفي.. أي أنه لا أحد أكثر ظلما من ذلك الذي تعرض عليه آيات الله ليهتدى بها، ثم يعرض عنها..
وفي قوله تعالى: «ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» إشارة إلى أن آيات الله التي يتلوها الرسول على الناس إنما هى لتذكرهم بما نسوه من الإيمان الذي كان في فطرتهم..
فلما أهملوا فطرتهم، وأفسدوها بما ساقوا إليها من آفات الهوى والضلال، لم يعودوا يذكرون شيئا من هذا الإيمان، فكانت بعثة الرسول بآيات الله يتلوها عليهم تذكيرا لهم، بأصل فطرتهم، وإيقاظا لهم من غفلتهم.. ومن أجل هذا، فقد كانوا أظلم الظالمين، لأنهم ظلموا أنفسهم مرتين، ظلموها أولا بإطفاء جذوة الإيمان التي أودعها الله فطرتهم، وظلموا أنفسهم ثانيا، إذ أبوا أن يستجيبوا لمن يدعوهم إلى تعاطى الدواء الذي يشفى هذا الداء الذي مكنوه منهم، فأفسد فطرتهم..(11/625)
- وفي قوله تعالى: «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» .
هو تهديد ووعيد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله، وأنهم في معرض الانتقام من الله، لأنهم مجرمون، ظالمون.. مجرمون في حق أنفسهم، ظالمون بإعراضهم عن الخير الممدود إليهم.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد ذكرت- ضمنا- القرآن الكريم، الذي أعرض عنه الظالمون الذين ذكروا به.. فناسب أن يذكر موسى في هذا المقام، إذ كان مع موسى آيات ظاهرة محسوسة، وكانت تلك الآيات مما يشغب بها المشاغبون من المشركين، على النبي، ولا يقبلون منه آيات كلامية يتلوها عليهم، ويقولون مكذبين النبي، ومتحدين له: «لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى؟» .. وقد رد الله عليهم بقوله: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» . (48: القصص) وبقوله سبحانه: «وَكُذِّبَ مُوسى» (44: الحج) .
ثم إنه مع هذه الآيات الظاهرة المحسوسة، قد جاء موسى بكتاب من عند الله، هو التوراة، وبهذا الكتاب دان اليهود الذين يعرفهم أولئك المشركون، ويقولون: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» .
(157: الأنعام) .
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» خطابا للنبىّ، ويكون الضمير في قوله تعالى: «مِنْ لِقائِهِ» مرادا به القرآن الكريم المذكور ضمنا في الآية السابقة..
والخطاب إلى النبىّ، هو إلفات للمشركين إلى القرآن الكريم، وإلى(11/626)
هذا الشك والافتراء الذي يدور في رءوسهم منه.. إنه كتاب من عند الله، مثل الكتاب الذي جاء به موسى، والذي كانوا يتمنّون أن يكون لهم كتاب مثله.
وفي قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» .. تحريض للمشركين على أن يقبلوا على الكتاب الذي جاءهم من عند الله، ويهتدوا به.. فهذا الكتاب هو كتابهم، وهو الهدى الذي يهتدون به، كما كان كتاب موسى كتابا لبنى إسرائيل، ومعلم الهدى الذي يهتدون به..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» .
هو تحريض بعد تحريض للعرب، من مشركين ومؤمنين، أن يلوذوا بحمى هذا الكتاب، الذي أنزله الله بلسانهم، وجعلهم مستفتح دعوتهم إلى دين الله.. فإنهم إن فعلوا، واستجابوا لدعوة الله، وآمنوا به، وصبروا على ما يلقون على طريق الإيمان من ضر وأذى- جعل الله منهم أئمة يدعون إلى الهدى، ويقومون في الناس مقام الأنبياء..
فالحديث هنا خبر عن بنى إسرائيل، يراد به سوق العبرة والعظة إلى المشركين..
قوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
هو إجابة عن سؤال يعرض لمن يستمع إلى قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» .. وهذا(11/627)
السؤال هو: وهل اهتدى بنو إسرائيل بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى؟ وهل كان منهم أئمة هداة؟ وكيف يكون هذا وهم على ما يشهد الناس منهم من خلاف فيما بينهم- ثم ما سيشهدون من خلاف بينهم وبين النبي؟ وكيف يصح أن يكون الكتاب الذي جاء به موسى، لا يلتقى مع الكتاب الذي جاء به محمد، وكلا الكتابين من عند الله؟.
فكان قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» جوابا على هذه التساؤلات.. ثم هو إعلام بما سيكون من اليهود من كفر وضلال، حين يواجههم النبي بالقرآن الكريم، ويدعوهم إلى تصديقه، والإيمان به.
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ» .
الحديث هنا إلى المشركين، حديث مواجه مباشر، بعد أن كان الحديث إليهم في الآيات السابقة حديثا من وراء حجاب، هو اليهود..
وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» استفهام إنكارى، ينكر على المشركين أنهم لم يروا فيما بين أيديهم من ديار الأقوام الظالمين قبلهم، وما اشتمل عليها من خراب- ما تحدّث به هذه الديار من عبر، وما تنطق به من عظات! وإنهم لو عقلوا لعلموا أنهم مأخوذون بما أخذ به أصحاب هذه الديار، ماداموا سائرين على طريقهم، آخذين مأخذهم..
وفي قوله تعالى: «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» إشارة إلى أنهم قد خلفوا(11/628)
هؤلاء الظالمين أصحاب تلك الديار، وورثوا ما كانوا عليه من كفر وضلال..
وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ» - إشارة إلى أن السمع طريق من طرق الاهتداء.. سواء كان هذا المسموع من كلمات الله، أو من الأخبار الصحيحة والعظات النافعة.. فالكلمة الطيبة، إذا تلقتها أذن واعية، واستقبلها قلب سليم، أينعت، وأثمرت، كما تينع وتثمر البذرة الطيبة، فى الأرض الطيبة..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ» .
الأرض الجرز: أي الجديب، التي لا نبات فيها..
وتلك آية من آيات الله، تتملاها العين، فترى فيها قدرة الله، كما ترى فضله وإحسانه..
فهذا الماء الذي يسوقه الله تعالى محمولا على أجنحة السحاب، فينزل في الأرض الجديب، ويحيى مواتها، ويخرج من صدرها حبا ونباتا، وجنات ألفافا، تحيا عليها الأنعام، ويعيش فيها الناس- فى هذا عبرة لمعتبر، وذكرى لمن يتذكر.
وقدمت الأنعام على أصحاب الأنعام، دلالة على أنه ليس للناس شىء فى تقدير هذا الرزق الذي يسوقه الله إليهم وإلى أنعامهم.. وإنما هو من عند الله، وأن الأنعام والناس سواء في الاحتياج إلى الله، وأنهم إنما يرزقون(11/629)
كما ترزق الأنعام.. «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (6: هود) .
قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
الفتح: الفصل فيما بين النبي وبين المشركين من خلاف، فيما يدعون إليه من حق، وفيما هم فيه من باطل..
والاستفهام من المشركين، استهزاء، وتكذيب واتهام.. إنهم لا يؤمنون بأن هناك حسابا، ولا جزاء..
قوله تعالى:
«قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» وقد جاء الجواب بما لا ينتظره السائلون..
إنهم كانوا لا ينتظرون جوابا.. وإذا كان ثمة جواب فليكن مؤقتا بالوقت الذي يقع فيه ما أنذروا به.. متى هو؟
ولم يجب القرآن على: «متى هو؟» وإنما أجاب على: «كيف هو؟ وعلى أية صورة يقع؟.
أما وقوعه فهو أمر لا شك فيه..
وأما الصورة التي يقع عليها، فإنها بلاء على المشركين، يوم يقفون وجها لوجه بين يدى هذا اليوم للحساب والجزاء.. حيث لا يقبل منهم إيمان في هذا اليوم، ولا يؤخر حسابهم ليوم آخر، حتى يصلحوا ما أفسدوا..
«ولا هم ينظرون» فقد انتهى أجلهم، وطويت صحف أعمالهم، على ما ضمّت عليه من كفر وضلال..(11/630)
قوله تعالى:
«فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ.. إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» .
بهذه الآية تختم السورة.. وبهذا الأمر القاطع ينحسم الموقف بين النبي وأهل الشرك من قومه.. إنه بلغ رسالة ربه، وبالغ في إبلاغها..
مبشرا ومنذرا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وإذن فليطو النبي كتابه، وليعرض عنهم، فلا يأبه لسفهائهم، ولا يقف عند ما يلقون إليه من أذى، كما يقول سبحانه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) ثم لينتظر حكم الله، وما يقضى به بينه وبينهم، ولا يعجل، فإنهم منتظرون، لا يملكون التحول عما يريد الله فيهم..(11/631)
33- سورة الأحزاب
نزولها: مدنية..
عدد آياتها: ثلاث وسبعون آية..
عدد كلماتها: ألف ومائتان وثمانون كلمة..
عدد حروفها: خمسة آلاف وسبعمائة وستة وستون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
مع أن هذه السورة مدنية، ومع أن السورة التي قبلها (السجدة) مكية، ومع الفاصل الزمنى الممتد بينهما، فقد اتصلت السورتان بعضهما ببعض، والتقى ختام السابقة منهما ببدء التالية، حتى لكأنهما سورة واحدة.. وهذا مما يدل على أن ترتيب السّور في المصحف توقيفى كترتيب الآيات في السور.. وهذا يعنى أن الصورة التي نزل عليها القرآن تختلف جمعا وترتيبا- وإن لم تختلف مادة وموضوعا- عن الصورة التي انتظم عليها نظام القرآن، بعد أن تم نزوله، فى العرضة الأخيرة التي كانت بين جبريل وبين النبىّ- صلوات الله وسلامه عليهما- على ما سنرى ذلك عند تفسير السورة.
وهنا يلقانا أمر نحبّ أن نقف عنده، وننظر فيه، وفي الآثار التي تنجم عنه..
[فتنة الترتيب النزولى للقرآن] فهناك دعوة جديدة محمومة بدأت تظهر في آفاق مختلفة في محيط العالم الإسلامى، وفي خارج هذا المحيط، تدعو إلى إعادة نظم القرآن وجمعه على حسب ترتيب نزوله.. بمعنى أن يكون المصحف القرآنى المقترح، مبتدئا بأول آية تلقاها(11/632)
النبي الكريم، وحيا من ربه، ثم الآية التي تليها، وهكذا آية آية، وآيات آيات، حتى آخر آية نزلت على النبي..
وهذا أمر يبدو في ظاهره أنه دراسة من الدراسات التي تخدم القرآن، مثل تلك الدراسات التي قامت حول الكتاب الكريم، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والنهارى والليلى، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالسفر، وما نزل بالحضر، إلى غير ذلك من تلك الدراسات الكثيرة، التي تدور في فلك القرآن، ولا تمس الصميم منه..
ومن هنا كان خطر هذه الدعوة، التي قد ينخدع لها كثير من المسلمين، والتي ربما اندفع في تيارها، بعض العلماء، عن نية حسنة، ومقصد سليم، إذ كان الأمر في ظاهره دراسة في كتاب الله، وفتحا جديدا، يعد كشفا من كشوف العلم الحديث في دراسة القرآن..
ويبدو الخطر الذي يتهدد القرآن من الفتنة، ماثلا من وجوه:
فأولا: استحالة ضبط صورة القرآن على حسب الترتيب النزولى لآياته..
حيث لم يعرف الترتيب النزولى إلا لعدد محدود من آيات القرآن، لا تمثل إلا أقل القليل منه.. قد لا تتجاوز بضع آيات، أو عشرات من الآيات على أكثر تقدير.. وحتى هذا القليل الذي يقال إنه معروف الترتيب، لم يقع الإجماع بين العلماء عليه، وحتى أنهم لم يتفقوا على أول ما نزل به الوحى، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل به.. فبينما يقول أكثرهم إن أول ما تلقى النبي من وحي، هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - بينما يقول أكثرهم هذا، يقول بعضهم- كما في صحيح مسلم- إن أول ما نزل من القرآن «المدثر»(11/633)
كما يقول آخرون، إن أول ما نزل من القرآن «الفاتحة» ثم نزل بعدها المدثر، ثم الآيات الثلاث الأولى من سورة «نوح» .
وبينما يقول أكثر العلماء، إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3:
المائدة) إذ يقول آخرون إن آخر ما نزل من القرآن هو: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» ويقول غيرهم إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» (281: البقرة) وفي البخاري أن آخر القرآن نزولا:
«يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» (176: النساء) .
فإذا كان المسلمون لم يتفقوا على أول آيات نزلت من القرآن، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل منه، فكيف يقع اتفاقهم فيما وراء ذلك؟ والمعروف أن أوائل الأمور، وأواخرها أكثر إلفاتا للناس وشدّا لانتباههم، وإيقاظا لمشاعرهم، وتعلقا بذاكرتهم، من غيرها! ثانيا: لو سارت هذه الفتنة إلى غايتها، وسلّم لأصحابها أن يمضوا بها كما يشاءون- ومع افتراض النية الحسنة فيهم- فإن الذي سيحدث من هذا هو أن تتغير صورة القرآن تغيرا كبيرا، لا يصبح معه القرآن قرآنا، بل سيكون هناك عشرات، بل مئات وألوف من المصاحف التي تسمى قرآنا، والتي لا يلتقى واحد منها مع آخر.. وكل ما فيها أنها آيات القرآن، انفرط عقدها، وتناثرت آياتها، كما تتناثر أجزاء آلة من الآلات الميكانيكية أو الكهربية، ثم تتناولها أيدى أطفال، يجمعونها ويفرقونها كما يشاءون! ونضرب لهذا مثلا من القرآن، لصورة من تلك الصور التي يمكن أن نجىء عليها سورة كسورة العلق مثلا، وهى التي يكاد يتفق العلماء على أن الآيات الأولى منها كانت أول ما نزل من الوحى.. وهى قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ(11/634)
رَبِّكَ»
إلى قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. ثم نصل هذه الآيات بما قيل إنه كان أول ما تلقاه النبي بعدها من آيات، وهى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» ثم لنصل بها ما كان تاليا لها في النزول، وهى الآيات الثلاث من أول سورة «نوح» .
ونقرأ هذا القرآن:
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
هذه صورة، أو سورة، مما يمكن أن يقرأ عليه القرآن، لو أخذ بالترتيب النزولى، الذي تدعو إليه تلك الفتنة، وذلك على قول واحد من تلك الأقوال الكثيرة المختلفة في هذا الترتيب ... فكيف لو أخذ بكل قول؟ ثم كيف لو أخذ بالأقوال المختلفة كلها في القرآن كله، فى ترتيب نزوله؟ إنه- والأمر كذلك- لا تكاد تجتمع آية إلى آية، حيث لا تلتقى رواية على رواية، ولا يتفق قول مع قول.. وبهذا يكون أىّ ترتيب لآيات القرآن، صالحا لأن يقبل أي دعوى تدّعى أنه الترتيب الذي نزل عليه.. وتستوى في هذا جميع الدعاوى التي تدعى، إذ كانت كلها ترجع إلى غير مستند صحيح، يعول عليه..
ومن هذا يتسع المجال للكيد، وتنفسح السبيل للأهواء.. وإذا الذي في أيدى(11/635)
المسلمين أعداد لا تحصى من كتاب الله.. حتى ليكاد يكون لكل مسلم قرآن يقرؤه على الترتيب الذي يراه..
وانظر، ماذا يكون وراء هذا من بلاء، وفتنة! فمثلا إذا قرأ قارئ آية، ثم أتبعها أخرى، وجد مئات، وألوفا من الخلاف عليه، هذا يقول: إن الآية التالية هى كذا، وذاك يقول إنها هكذا.
وثالث، ورابع.. إلى مئات المقولات وألوفها.. وحسب المسلمين من هذا فرقة وشتاتا..! مع أن هذا أقل ما يرد عليهم من شرور هذه الفتنة، إذا كان هذا الخلاف في غير آيات الأحكام.. أما إذا وقع ذلك في آيات الأحكام، وهو واقع لا محالة، فهيهات أن تقوم للمسلمين شريعة، أو ينتظم لهم له رأى في حكم من أحكام دينهم..
وخذ مثلا لهذا، الآيات الواردة في الخمر، أو الربا، والتي روعى في نزولها أخذ المسلمين بالرفق والحكمة، فى تحريم هذين المنكرين.. فجاء الحكم في تحريمهما متدرجا، من التنزه والتعفف، إلى الكراهية، ثم إلى التحريم..
إن لقائل أن يقول: إن آيات الخمر نزلت على هذا الترتيب:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ(11/636)
تَتَفَكَّرُونَ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .
وإن لقائل هذا القول لمنطقا، إذ أن له أن يقول، إن آيات الخمر نزلت جملة واحدة، جمعت أطراف الأمر كله! وعلى هذا يكون النظر في حرمة الخمر وحلّه.. ثم إن له أن يقول- وإن لقوله لمنطقا-: إن الخمر ليس حراما حرمة مطلقة، إلا أن يسكر منه شاربه، ثم يصلى وهو سكران! ويقال: مثل هذا كذلك في الربا، على اعتبار أن آخر الآيات نزولا هى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» .. فالربا لا يكون- على هذا الاعتبار حراما إلا إذا كان أضعافا مضاعفة.
وهكذا يمكن أن تعرض أحكام الشريعة كلها على آيات القرآن، وتستدار لها الآيات على أي وجه يقيمه الناس عليه..
وثالثا: لو سلّم جدلا، بإمكان ترتيب القرآن ترتيبا زمنيا بحسب نزوله- وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة- فما جدوى هذا؟ وماذا يعود على دارسى القرآن منه؟
لقد أشرنا إلى بعض الأخطار المزلزلة التي تهدد الإسلام- شريعة وعقيدة- من هذه الفتنة فهل وراء هذه المجازفة شىء من الخير، يقوم إلى جوار هذه الشرور العظيمة الناجمة منها؟ إن كل شر يقوم إلى جواره بعض الخير، الذي قد يجعل للشر وجها يحتمل عليه، ويبّرر الأخذ به..
فهل في هذا الشر أية لمحة من لمحات الخير؟.
والذي نقطع به أن هذا العمل شر محض، وإن زين أهله ظاهره بهذا(11/637)
الطلاء الزائف، تحت شعار الدراسة التاريخية للقرآن، على نحو الدراسة الجغرافية، أو الدراسة النفسية، أو غير ذلك من الدراسات التي تضاف إلى القرآن، وتدور في فلكه، دون أن تمس الصميم منه..
ولا نقف طويلا في مواجهة هذه الفتنة، ولا نمعن النظر كثيرا في وجهها الكئيب المشئوم.. وننظر في كتاب الله، الذي في أيدينا، نظرا مباشرا، على ما تركه فينا من أنزل إليه هذا الكتاب- صلوات الله وسلامه عليه- فهذا هو القرآن الذي أمرنا بالتعبد به تلاوة، والعمل بأحكامه، وآدابه على ما نتلوه عليه.. فهذا هو قرآننا، وهذا هو ديننا الذي نتلقاه من كتابنا.. وإن أية تلاوة تقوم على غير هذا الوجه، هى كلام، لا قرآن، وإن أية شريعة تقوم على غير هذه التلاوة ليست من شريعة الإسلام، ولا من دين الله، سواء التقت مع شريعة الله أو لم تلتق معها، وسواء أوافقت دين الإسلام، أو خالفته..
نقول هذا، ونحن على علم، وعلى إيمان بأن القرآن الكريم نزل منجما، ولم ينزل جملة واحدة، وأنه كان في مرحلة نزوله، على ترتيب غير هذا الترتيب الذي انتهى إليه، بعد أن تم نزوله!.
فهناك دوران قام عليهما بناء القرآن الكريم.. دور الدعوة.. ثم الدور الذي تلاها.. ولكل من الدورين أسلوبه، وغايته.
القرآن في دور الدعوة:
ونزول القرآن في دور الدعوة، قام على أسلوب خاص، من حيث تنجيم النزول، وترتيبه معا..(11/638)
فمن حيث التنجيم.. لم ينزل القرآن جملة واحدة.. بل نزل آية آية، وآيات آيات، حسب مقتضيات الدعوة، ومستلزمات أحداثها.. وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة في هذا، فقال تعالى: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» (106: الإسراء) كما زاد ذلك بيانا في قوله سبحانه: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً؟ .. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33 الفرقان) .
ومن حيث ترتيب النزول.. فقد نزل القرآن لغاية تحقق أمرين:
أولهما: اقتلاع الشرك، الذي كان قد استولى على الحياة الإنسانية كلها، واغتال مواطن الإيمان في كل بقعة منها.. ليقيم في الأرض مكانا للإيمان بالله، حتى يعتدل ميزان الإنسانية، ويكون لها نهار يدور في فلكها، مع هذا الليل الطويل الذي تعيش فيه..
وثانيهما: إقامة شريعة في تلك المواطن التي قام فيها الإيمان، حتى تثبت أصوله، وتطلع ثمراته، فيكون منها زاد طيب لأهل الإيمان، يعيشون فيه، وتطيب لهم وللناس الحياة معه..
ولتحقيق الأمر الأول، كانت معركة الإسلام الأولى منحصرة في ميدان الشرك.. ومن هنا كانت آياته التي تنزل في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، جندا مرسلة من الله، تدكّ معاقل الشرك، وتهدم حصونه، وتفتح للعقول والقلوب، الطريق إلى الله..
وقد استغرقت هذه المرحلة الجزء الأكبر من الدعوة الإسلامية، فى إقامة الحجج على وجود الله، وكشف البراهين على وحدانيته، وما له سبحانه من(11/639)
صفات الكمال والجلال.. ثم في فضح الشرك، وتعرية آلهة المشركين من كل ما ألقوه عليهم من أوهام وضلالات..
وفي أثناء هذا الدور كانت تتنزل بعض الآيات في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وفي إقامة مشاعر الناس على الأخوة الإنسانية، وعلى الصبر، والرفق، والإحسان إلى غير ذلك مما يليق بمن يعرف الله، ويؤمن به، ويدخل في زمرة عباده الذين يبتغون مرضاته، ويرجون وحمته..
فلما انكسرت شوكة الشرك، وأوشكت دولته أن تدول، أخذت آيات الله تتنزل بأحكام الشريعة التي تقوم عليها الحياة الروحية والمادية لهذا المجتمع الذي آمن بالله، وأجلى الشرك من موطنه، فكان ما ينزل من آيات الله في هذا الدور، يكاد يكون مقصورا على بناء أحكام الشريعة، من عبادات، ومعاملات، وحدود، ومن سلم، وحرب، وغنائم، وغير ذلك مما ينتظمه قانون الشريعة الإسلامية..
وكان من مقتضيات حكمة الشريعة القائمة على اليسر، ورفع الحرج، أن جاءت كثير من أحكام الشريعة متدرجة في تكاليفها من السهل إلى الصعب، لأنها كانت تتعامل مع أناس قطعوا شطرا كبيرا من حياتهم في الجاهلية، ورسب في نفوسهم، واختلط بمشاعرهم كثير من ضلالاتها..
فكان مما اقتضته الحكمة الإلهية أخذ هؤلاء الذين لقيهم الإسلام على أول دعوته- بالرفق، والتلطف، حتى بألفوا هذا الدين، ويتعقلوا أحكامه، ويأخذوا أنفسهم بها.. ولو أخذوا بغير هذا الأسلوب، لتغير موقفهم من الشريعة، ولما أحدثت فيهم هذه الآثار العظيمة التي أخرجت منهم خير أمة أخرجت للناس.
هذا هو الخطّ الذي قامت عليه سيرة الدعوة الإسلامية، وعلى هذه(11/640)
المسيرة كانت تتنزل آيات الله بالزاد الذي تحتاج إليه كل مرحلة.. حتى كانت آخر آية نزلت من كتاب الله، كانت الدعوة قد بلغت غايتها، وآتت الثمر المرجو منها.. فنزل قوله تعالى:
«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ.. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» مؤذنا بمصافحة السماء للأرض، مصافحة وداع، بعد أن أودعت فيها هذا الزاد العتيد.. ثم كانت آية الختام: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» !.
القرآن بعد دور الدعوة:
وإلى هنا كان الرسول، قد تلقى القرآن الكريم كله من ربه، وحفظه فى قلبه، كما حفظه كثير من المسلمين معه، كما كان كتّاب الوحى قد استكملوا كتابته.
والسؤال هنا: على أية صورة كان القرآن عند آخر آية نزلت؟ وهل كان على ترتيب النزول، أم على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن؟.
والجواب على هذا:
أولا: من المقطوع به أن القرآن عند ما نزلت آخر آية منه لم يكن على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن، كما أنه لم يكن على ترتيب النزول.. وذلك أن الرسول- بوحي من ربّه- كان خلال العشرين سنة أو تزيد، التي نزل فيها القرآن، يرتب الآيات، فيضع- بوحي من ربّه- آيات مدنية في سور مكية، كما يضع آيات مكية في سور مدنية.. فكانت عملية النقل هذه تغيّر من صورة السّور، طولا وقصرا، فينقل من هذه السورة آيات إلى تلك، ومن تلك إلى أخرى، وهكذا في اتصال دائم بدوام نزول القرآن.(11/641)
وثانيا: بعد أن تم «نزول القرآن» ، ولم تعد ثمة آيات أخرى يوحى بها، كان عمل الوحى، مع النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، هو ترتيب القرآن على هذا الترتيب الذي أراده الله سبحانه وتعالى عليه، وهو ما نجده بين دفتى المصحف، كما تركه الرسول، بعد تلك العرضة أو العرضتين أو الثلاث، التي كانت بين جبريل وبين النبىّ.
وثالثا: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم- هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى كان صحابة رسول الله، وحتى كان كتّاب الوحى، قد أخذوا الصورة الكاملة، فى تحديد دقيق، للقرآن الكريم، وعرفوا مكان كل آية من سورتها، ومبدأ كل سورة وختامها، وما بين بدئها وختامها..
ومن الموافقات العجيبة، التي نعدّها نفحة من نفحات القرآن الكريم، أننا نعرض لهذا البحث- من غير تدبير- فى سورة الأحزاب.. ففى سورة الأحزاب هذه مقولات تقال، وروايات تروى..
ففى مسند أحمد عن رزين بن حبيش، قال: قال لى أبىّ بن كعب كائن (أي كم) تقرأ سورة الأحزاب، أو كائن (أي كم) تعدّها؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية ... فقال (أي أبىّ) : لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة.. ولقد قرأنا فيها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع..!!
ولقد بنى على هذه الرواية أن قرآنا كثيرا نسخ تلاوة، وأن قرآنا آخر نسخ تلاوة ولم ينسخ حكما، كهذه التي يقال إنها كانت آية قرآنية: «الشيخ والشيخة» .. وقد عرضنا لموضوع النسخ في أكثر من موضع.. فلا نعرض له هنا..(11/642)
وإنما الذي نقف عنده من هذا الخبر- على اعتبار صحته- هو: كيف كانت سورة الأحزاب تعادل سورة البقرة؟ فما تأويل هذا؟ وكيف أصبحت سورة الأحزاب ثلاثا وسبعين آية بينما سورة البقرة تبلغ مائتين وستا وثمانين آية؟
والجواب على هذا، أن سورة الأحزاب كانت تعدل في طولها أو امتدادها سورة البقرة، وأنه في العرضة أو العرضات التي كانت بين جبريل، وبين النبي أخذت كثير من الآيات في سورة الأحزاب مواضعها من سور القرآن المكّى، أو المدنىّ، حتى صارت على هذه الصورة التي هى عليها..
وعلى هذا فلم يكن قرآن رفع منها، رفع نسخ، تلاوة وحكما، بل الذي كان هو قرآن رفع منها إلى مواضع أخرى من القرآن.. كما حدث ذلك في كثير من آيات القرآن..
ونعود إلى ما كنا فيه من ترتيب القرآن بعد دور الدعوة، فنقول: إنه وقد انتهى دور الدعوة، وأدى الرسول رسالة ربه، ودالت دولة الشرك، ودخل الناس في دين الله أفواجا- كان لا بد أن ترتب آيات الله، على هذا الترتيب الذي أمر الله به، بعد أن نزلت آخر آية من القرآن الكريم.. فقد كان الترتيب النزولى مقدّرا بحاجة الدعوة في مسيرتها من مبدئها إلى ختامها، وموقوتا بهذا الوقت الذي يكمل فيه نزول القرآن.. فلما تم نزول القرآن، وختم الرسول دعوته، أخذ القرآن هذا الترتيب السّماوى، الذي يعيش في ظله، مجتمع مسلم، آمن بالله، وبآيات الله، ورسول الله.. ولم بعد من تدبير القرآن أن يواجه الناس آية آية، أو آيات آيات، أو يلقاهم حالا بعد حال، وحدثا إثر حدث، وإنما الذي يلقاهم منذ ختام الرسالة كتاب الله جميعه.. كأنه آية واحدة هى شريعة الله، ودستور المسلمين..(11/643)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
لقد كان القرآن في دور الدعوة يعمل في أكثر من جبهة، فهناك جبهة المشركين.. ثم جبهة أهل الكتاب وخاصة اليهود، ثم جبهة المنافقين.. ثم قبل هؤلاء وأولئك جميعا جبهة المؤمنين، الذين يتلقون هدى السماء، وينشّئون فى حجر الإسلام.. فكان للقرآن مع كل جبهة موقف، وإلى كل طائفة قول، فلما أتم القرآن رسالته، لم تعد إلا جبهة المؤمنين، هى وحدها التي يعنيه أمرها، وهى التي ستصحبه، وتعيش في ظله.. جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فكان هذا الترتيب الذي رتب عليه القرآن بأمر الله، إلغاء لعنصر الزمن، الذي يحدد بدء القرآن ونهايته، ومولده وفطامه.. فهو كلام الله، القديم أزلا، الخالد أبدا..
وبعد، فإن هذه الفتنة أخطر سلاح يحارب به الإسلام، ويرمى به في الصميم منه.. وأنه لو قدر لها- لا قدّر الله- أن تجد في المسلمين من يستمع لها، أو يغمض العين عنها، لأتت على الإسلام، ولنالت منه ما لم تنله السيوف والحراب التي وجهها أعداء الإسلام من يوم أن ظهر الإسلام، إلى يوم الناس هذا.. فليتنبه المسلمون إلى هذا الخطر، وليرصدوا له كل ما لديهم من إيمان بالله وبكتاب الله، وليضربوا على الأيدى التي تمتد إلى كتاب الله بهذه الفتنة، بكل ما يملكون من أموال وأنفس: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 5) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)(11/644)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
ختمت سورة «السجدة» بقوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» وهو أمر للنبى بالإعراض عن المشركين، والاتجاء إلى وجهة أخرى، حيث لم يجد مع هؤلاء المشركين، هذا الوقوف الطويل الذي وقفه معهم، منذرا ومبشرا..
وفي قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» تأكيد لهذا الأمر.. وذلك بأن يثبت النبي على تقوى الله، وأن ينظر إلى نفسه أولا، وألا يشغله أمر المشركين، والحرص على هداهم، عن أمر نفسه، كما أنهم مسئولون عن أنفسهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (54: النور) .(11/645)
- وفي قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» هو كشف عن هذا البلاء الذي يحيط بالكافرين والمنافقين.. وفي هذا تنبيه للنبى إلى أن يأخذ حذره، وأن يتوقّى هذا الداء الذي يغتال هؤلاء المصابين به.
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» تعقيب على هذا الأمر الذي تلقاه النبي من ربه، فهو أمر من العليم الحكيم، الذي يقوم أمره على علم وحكمة، فيعلمه سبحانه كشف هذا الخطر الذي يتهدد النبي من استجابته للكافرين والمنافقين إلى ما يدعونه إليه من أن يعبد ما يعبدون، وأن يعبدوا هم ما يعبد، وبحكمته- تعالى- أمر بتجنب الخطر قبل الوقوع فيه.. فإن توقّى الداء خير وأسلم من علاجه.
قوله تعالى:
«وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» - هو أمر من لوازم النهى الذي جاء في قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» فمن لازم هذا النهى أن يتبع النبي ما أوحى إليه من ربه..
وفي هذا الأمر، كما في النهى السابق عليه، تأكيد لما بين النبي وبين الكافرين والمنافقين من بعد بعيد، وأن كلا منهما على طريق، فلا يلتقيان أبدا، إلا إذا حاد هؤلاء الكافرون والمنافقون عن طريقهما، وسلكوا طريق النبي واتبعوا سبيله.. أما النبي، فهو ماض على ما معه من آيات ربه، لا يلتفت يمينا أو شمالا..
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» تهديد للكافرين والمشركين، وأن الله سبحانه مطلع على ما هم فيه من منكر، وسيجزيهم بما كانوا يعملون.(11/646)
قوله تعالى:
«وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» .
هو تثبيت للنبى، وإيناس له من ربه، بالتوكل عليه وحده، وأنه لا وحشة ولا خوف عليه من قطيعة الكافرين والمنافقين، الذين يساكنونه، ويعيشون بين جماعة المسلمين.. فإنهم وإن كانوا كثرة في العدد، ووفرة في المال، فإنهم أخف ميزانا، وأضعف شأنا ممن يسند ظهره إلى الله، ويسلم أمره إليه..
«وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» .
قوله تعالى:
«ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» ..
تقرّر الآية الكريمة حقيقة واقعة، هى أنه «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» إذ أن ذلك من شأنه أن يفسد نظام الجسد، إذ يقوم في كيانه قوتان، تعمل فيه كل قوة عمل الأخرى، ومن هنا تعمل كل منهما على إجلاء الأخرى من مكانها، فيقع الجسد نهيا لهذا الصراع بينهما، إذ كل منهما تريد أن يكون لها السلطان عليه.. وبينى على هذه الحقيقة أمور:
أولا: أنه لا يجتمع في كيان إنسان ولاء الله، وولاء لأعداء الله.. فذلك من شأنه أن يفسد الأمرين معا، لأنه جمع بين النقيضين: فإما ولاء الله، وإما ولاء لأعداء الله.. وفي هذا يقول السيد المسيح: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحقر الآخر» ..(11/647)
وثانيا: أنه كما لا يجتمع في جوف إنسان قلبان، كذلك لا يجتمع في ذات امرأة أن تكون أما وزوجا في آن واحد.. ومن ثمّ فإن معاملة الزوجة كأم في الحرمة، وذلك في قول الرجل منهم لامرأته: «أنت علىّ كظهر أمي» - هذه المعاملة التي تجعل الزوج أمّا، فيها قلب للأوضاع، وتعمية وخلط للحقائق.. فالزوج زوج، والأم أم، لا يجتمعان في ذات واحدة، لشخص واحد..
وثالثا: وكما لا تكون زوج الرجل أمّا، كذلك لا يكون متبنّاه ابنا له.. فهذا غير ذاك، ولا يجتمع متبنى وابن في ذات واحدة، لرجل واحد..
ومن ثمّ فإن ما كان يتخذه الجاهليون من تبنى أبناء غيرهم، ومعاملتهم معاملة الأبناء من الصلب، فى الميراث وغيره- هو تضييع للأنساب، وتزييف للواقع، وجمع بين ما هو باطل وما هو حق.
وقد كان العرب في جاهليتهم- تحت ظروف الحياة التي تعتمد على الاستكثار من الرجال- يعملون جاهدين على إلحاق غير أبناءهم بهم، ممن يتوسمون فيهم القوة والشجاعة.
فلما جاء الإسلام، وأقام حياة الناس على العدل، ودفع بأس بعضهم عن بعض- لم تعد ثمة داعية إلى الإبقاء على هذه العادة، ولكن كان هناك كثير من الحالات أدركها الإسلام وقد أخذت وضعها في المجتمع، ولم يكن من اليسير التخلص منها بعمل فردى، ومن أجل هذا فقد جاء التوجيه السماوي بإنهاء هذه العلاقة المصطنعة، التي كانت قائمة بين الأدعياء والآباء، وإقامة علاقة أخرى مقامها، أوثق عرى، وأقرب قرابة، هى علاقة الأخوّة فى الدين، وقرابة الولاء لله بين المؤمنين.(11/648)
وقد كان للنبى صلى الله عليه وسلم متبنّى هو «زيد بن حارثة» الذي كان مولى للسيدة خديجة- رضى الله عنها- فلما تزوجها النبي، وهبته زيدا، ولما علم أبو «زيد» أن ابنه في يد النبي، جاء يطلبه- وكان قد أسره بعض العرب، وباعه، فوقع ليد السيدة خديجة، ثم ليد النبي- فخيّر النبي زيدا بين أن يلحق بأبيه أو يقيم معه، فاختار أن يقيم مع النبي، فأعتقه النبي، وألحقه به، فكان يدعى زيد بن محمد..
فلما نزلت الآية: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» أصبح زيد يدعى زيد بن حارثة.. وهكذا تبع المسلمون النبي في هذا، وتخلوا عن نسبة أدعيائهم إليهم..
- وقوله تعالى: «ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» - الإشارة «ذلكم» إلى الظّهار، وإلى التبني، وأن ذلك ليس من الحق في شىء، وإنما هو قول يقال، ولا مستند له، ولا حجة عليه..
- وفي قوله تعالى: «بِأَفْواهِكُمْ» - إشارة إلى أن الكلمة إذا لم تكن عن وعى وإدراك، ولم تقم على منطق وحجة- كانت لغوا، وهذرا، لا وزن له.
- وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ» يقوله سبحانه دائما.. فكل قول لله، هو الحق المطلق..
- وقوله تعالى: «وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» بكلماته، وآياته.. فمن استمع إليها، واستجاب لها هدى إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى:
«ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ(11/649)
فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .
هو التطبيق العملي، لما كشفت عنه الآية السابقة، من بطلان التبني..
فيترتب على هذا أن يلحق الأدعياء بآبائهم، وأن ينتسبوا إلى من ولدوا في فراشهم، فذلك هو الحق، والعدل: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» أي هذا العمل هو المقبول عند الله، لأن الله حق، ولا يقبل إلا حقا..
وفي تعدية الفعل «ادعوهم» باللام، إشارة إلى تضمنه معنى الفعل: انسبوهم، أو ردّوهم، ونحو هذا.
- وقوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» أي إن لم يكن لأدعيائكم آباء معروفون لكم ولهم، فادعوهم إخوانا لكم في الدين، وأولياء لكم مع جماعة المؤمنين، كما يقول الله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» وكما يقول سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .
(71: التوبة) .
- وقوله تعالى: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ.. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» هو تفرقة بين ما يقع على سبيل الخطأ والسهو، وما يقع عن تعمد وقصد، فيما يقع بعد تطبيق هذا الأمر، ودعوة الأدعياء لآبائهم فما وقع من خطأ في دعوتهم لمن كانوا آباء لهم بالتبني، فهو مما تجاوز الله عنه، وما كان عن عمد، فهو مما يقع موقع المؤاخذة، ولكن الله غفور رحيم، لمن رجع إلى الحقّ، وأصلح ما كان منه.(11/650)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
الآيات: (6- 8) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كشفت عن زيف علاقات أقامها الجاهليون بين الأشياء، على غير الحقّ، إرضاء لهوى، أو استجابة لتصور فاسد.. مثل معاملة الزوجة معاملة الأم في تحريمها بالظهار، وفي إقامة الدعىّ مقام الابن في النسب والإرث..
وفي هذه الآية، يقيم القرآن علاقات بين ذوات متباعدة في النسب، ويجعل بينها من التلاحم، والتوادّ، ورعاية الحرمات، أكثر مما تقضى به دواعى النسب والقرابة..!
فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وإن لم يكن بينه وبين المؤمنين علاقة نسب وقرابة، هو أقرب إليهم من كل قريب، وآثر عندهم من كل قرابة،. بل إنه لأولى بهم من أنفسهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ(11/651)
تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ»
(24: التوبة) ويقول سبحانه: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» (120: التوبة) ..
إن النبىّ هو الأب الأعظم للمؤمنين، هو الذي أحيا مواتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فكان له بهذا سلطان مطلق على وجودهم الرّوحى، الذي لا وجود لهم إلّا به.. يقول النبي الكريم: «والذي نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين» ..
ويقول أيضا: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه» ..
وطبيعى أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا يبغى بهذا الحب الذي يؤثره به المؤمنون- لا يبغى به سلطانا على النفوس، ولا تسلطا على الناس، وإنما يبغى به توثيق إيمان المؤمنين بالله، وإخلاص ولائهم وحبهم لله، لأن من أحبّ الله أحبّ رسوله..
وأزواج النبي، هنّ من حرماته، التي ينبغى أن يرعاها المؤمنون أكثر من رعايتهم لحرماتهم.. فهنّ أمهات لكل مؤمن، ولهنّ- بهذا- من التوقير والاحترام ماللأم من التوقير والاحترام.. وكما لا يحل للابن أن يتزوج أمه، كذلك لا يحلّ للمؤمن أن يتزوج امرأة تزوج بها النبىّ، لأنها أمه.
وفي قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» - تأكيد لخصوصية النبي في هذا الحكم، دون الناس جميعا.. فلا يصح أن يقاس عليه ملك، أو أمير، أو ذو سلطان دينىّ أو دنيوى..
ومن أجل هذا، فقد جاء قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ(11/652)
فِي كِتابِ اللَّهِ»
ليقرّر أن الخصوصية التي للنبى، لا تنقض ما بين ذوى القربى من صلات قام عليها نظام الحياة الاجتماعية، وأقرها الله سبحانه وتعالى في كتابه- أم الكتاب- وفي الكتب المنزلة.. فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوادّ، والتواصل، والتوارث..
- وفي قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ» .. من هنا بيانية، لأولى الأرحام، أي وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..
أي أنه إذا قام بين المؤمنين ولاء الأخوة في دين الله، وقام بين المهاجرين ولاء الإيمان بالله، والهجرة في سبيل الله، فإنه يقوم بين ذوى الأرحام ولاء الرحم إلى جانب ولاء الإيمان والهجرة.. وبهذا يظل لذوى الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ولاء الرحم، فهم أحق بالتوارث فيما بينهم.. وعلى هذا فإن التوارث بين ذوى الأرحام على ما قرره القرآن قائم بينهم، فيحجب ولاء الرحم، ولاء الإيمان وولاء الهجرة، إذا اجتمعا معه..
وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» إلا هنا للاستثناء، وهو استثناء من عموم الأحوال، التي دل عليها إطلاق الحكم- فى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» ، أي أن هذا الحكم مطلق في جميع الأحوال، إلا في حال واحدة، وهى الحال التي ترون فيها أن تفعلوا معروفا إلى ذويكم من المؤمنين والمهاجرين، من غير ذوى الأرحام، الذين لهم نصيب في الميراث.. ففى هذه الحالة لكم أن توصوا من ثلث ما لكم إلى من ترون الوصية له من المؤمنين والمهاجرين..(11/653)
- وقوله تعالى: «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» .
الإشارة «ذلك» إشارة إلى المعروف في قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» .. فهذا المعروف هو مما دعا الله إليه، وحثّ المؤمنين عليه فى غير آية من آيات الكتاب..
قوله تعالى:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» .
هو عطف حدث على حدث، وجمع شأن إلى شأن..
والحدث المعطوف عليه هو قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» .
والحدث المعطوف، هو ما بين الأنبياء من رحم، تجمعهم على ولاء بعضهم لبعض، ومناصرة بعضهم لبعض.. وأنه إذا كانت بين ذوى الأرحام، وشائج القربى، ولحمة الدم، فإن بين الأنبياء جامعة الإيمان بالله، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله. فهم جميعا- المتقدمون والمتأخرون منهم- على طريق واحد، وفي مواجهة معركة واحدة، بين الإيمان والكفر والهدى والضلال.. وأن أي لبنة من لبنات الحق يضعها نبى من أنبياء الله على هذه الأرض هى دعم للحق، وإعلاء لصرحه.. ولهذا يقول الرسول الكريم:
«الأنبياء أبناء علّات «1» .. أمهاتهم شتى ودينهم واحد» ..
والميثاق الذي أخذه الله على النبيين، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في
__________
(1) أبناء العلات: هم الأخوة لأب، من أمهات شتى.(11/654)
قوله: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ.. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا.. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (81: آل عمران) .
وهذا الميثاق، يمكن أن يكون قد أخذ على الأنبياء في عالم الأرواح، فشهدوه جميعا.. كما يمكن أن يكون قد أخذ على كل واحد منهم على حدة، حين اختاره الله للنبوة..
وفي قوله تعالى: «مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» هو وصف كاشف للنبى الذي يصدقه الأنبياء وينصرونه، وهو أن يكون نبيا حقا، لا دعيّا.. فما أكثر أولئك الذين يدّعون النبوة.. وآية صدق النبي أن يكون طريقه طريق النبوة، التي لا طريق لها إلا الدعوة إلى الإيمان بالله، وإفراده سبحانه بالألوهة، ومحاربة الشرك الظاهر والخفي، فى كل صوره وأشكاله، مع معجزة متحدية تكون بين يديه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، ما قد رأيت..
أما مناسبتها لما بعدها، فإن الآيات التي تأتى بعد هذا ستذكر غزوة الأحزاب، التي اجتمع فيها اليهود مع أهل مكة على حرب النبي.. وأنه إذا كان المشركين أن يحاربوا النبي: فإنه ما كان لليهود- وهم أهل كتاب، وأتباع نبى من أنبياء الله- أن ينحازوا إلى جبهة الشرك، وأن يكونوا معهم حربا على المؤمنين.. إن الحق يقتضيهم أن يكونوا على ولاء مع المؤمنين، إذ كان نبيهم على ولاء مع هذا النبي.. ولكنهم خرجوا على هذا الولاء الذي يطالبهم به دينهم، فكفروا بما في الكتاب الذي في أيديهم، بغيا وحسدا. وفي هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا(11/655)
الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ»
(187: آل عمران) .
وقدم النبي، على الأنبياء جميعا.. لأنه خاتم النبيين، ولأن رسالته هى مجتمع رسالات الأنبياء.. فالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وإن سبقوه زمنا، هم متأخرون عنه صلوات الله وسلامه عليه- رتبة.. فهو إمامهم الذي انتظم عقدهم بمبعثه..
قوله تعالى:
«لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» ..
هو تهديد ووعيد لأهل الكتاب، الذين نقضوا الميثاق الذي أخذه الله على نبيهم بأن يصدق بالنبي وينصره، إذا التقى به.. وقد التقى به نبيهم في أشخاصهم، وكان عليهم أن يمضوا هذا الميثاق مع رسول الله، وأن يصدّقوه وينصروه.. وقليل منهم من آمن بالنبي وصدقه، وأكثرهم نقضوا هذا الميثاق، فكذبوا النبي، وكانوا حربا عليه..
- وفي قوله تعالى: «لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» - إشارة إلى أن هناك مساءلة وحسابا على هذا الميثاق..
وسؤال الصادقين عن صدقهم، يكشف عن أنهم أهل وفاء وإيمان، فيجزون جزاء المؤمنين الموفين بعهدهم..
وقوله تعالى: «وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» هو الجزاء الذي يلقاه أهل الغدر والخيانة من أهل الكتاب، من عذاب أليم، أعده الله لهم فى الدنيا والآخرة.. إنهم كافرون، وليس للكافرين إلا العذاب الأليم.(11/656)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
الآيات: (9- 20) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)(11/657)
التفسير فى هذه الآيات مقطع من غزوة الأحزاب، المعروفة بغزوة الخندق..
وكان يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، قد حرّضوا قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقد جاء إلى مكة نفر من رؤساء اليهود، وقالوا لقريش إنا سنكون معكم حتى نستأصله، ونخرجه من المدينة، فنشطت قريش لذلك، وأخذت تستعد للحرب، وتدعو لها أحلافها..
ثم جعل اليهود يثيرون القبائل لهذه الحرب، فاستجابت لهم قبائل كثيرة..
فلما استكملت قريش عدتها، خرجت هى وحلفاؤها في جيش كثيف، يقوده أبو سفيان.. وكان ذلك في شوال من سنة خمس من الهجرة..
أما اليهود، فقد استعدوا في داخل المدينة، ليأخذوا النبي والمسلمين من ظهورهم، إذا التحم القتال بينهم وبين قريش..
ولما علم النبي- صلى الله عليه وسلم- بما أجمع عليه القوم من هذه الأحزاب المتحزّبة على حربه، استشار أصحابه، فيما يلقى به هذه الجيوش الكثيفة.. فاستقر الرأى على أن يقيم المسلمون خندقا حول المدينة، وقيل إن هذا الرأى كان من سلمان الفارسي..
وبدأ المسلمون في حفر الخندق، وقد عمل معهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون، بهذا الرجز:(11/658)
سمّاه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا
وكان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إذا بلغوا «عمرا» قال معهم عمرا، وإذا بلغوا «ظهرا» قال معهم ظهرا..
وجعيل هذا، هو جعيل بن سراقة الضمري، وكان رجلا صالحا من قدماء المهاجرين، ومن الذين شهدوا المشاهد كلها مع النبي، وقد غيّر الرسول اسمه هذا، فسماه عمرا.. ولما قسم الرسول غنائم حنين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، ولا كثيرا من المهاجرين، وفرقها في قريش والمؤلفة قلوبهم، ليثبتوا على الإسلام- كان جعيل ممن حرم العطية، وكان من فقراء الصحابة، فكلم سعد بن أبى وقاص النبي في ذلك، وقال يا رسول الله، تحرم جعيلا مع ما تعلمه من خلّته، وتعطى عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلانا وفلانا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» ..
هذا، وما كاد الرسول يفرغ من حفر الخندق، حتى أقبلت قريش، وحتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة.. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا إلى جانب أحد..
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خرج بالمسلمين، وجعل ظهورهم إلى جبل سلع، وضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وكان قد اجتمع له نحو ثلاثة آلاف من المسلمين..
وطال انتظار قريش أمام الخندق، تفكر في وسيلة تدخل بها على المسلمين المدينة.. واستمر ذلك نحو شهرين، وفي خلال تلك المدة استطاع بعض فرسان(11/659)
قريش عبور الخندق، وكان منهم عمرو بن ودّ العامري، وعتبة بن أبى سفيان..
وقد طلب عمرو بن ود المبارزة، وكان من فرسان العرب المعدودين، ويقال إنه كان يحسب بألف فارس.. وتحرك على بن أبى طالب إلى مبارزة عمرو، فرده النبي إشفاقا عليه منه، وكان علىّ لا يجاوز العشرين من عمره، ولم يستكمل قوته بعد.. وكرر عمرو النداء، وأخيرا أذن النبي لعلى في لقائه، وألبسه النبي درعه، وعمّمه، ودعا له.. والتقى على بعمرو، ولم يلبث أن قتله على، فكبّر وكبر المسلمون.. واهتزت أرجاء المدينة، وغمر البشر والفرحة أهل المدينة من المسلمين، على حين اغتم المشركون واليهود، وعلاهم الخزي والهوان..
وفي أثناء ذلك انكشفت للمسلمين وجوه أهل النفاق، ومن في قلوبهم مرض، ونزلت آيات القرآن تحدث بما كان عليه هؤلاء وأولئك، من مواقف منحرفة، ساعة العسرة وحين البأس..
ثم أوقع الله سبحانه بين المشركين وحلفائهم من اليهود، فاتّهم كل منهما صاحبه في الوفاء بالتزاماته نحوه، فانقصم ما بينهما من ائتلاف، وأعطى كل منهما ظهره لصاحبه.. ثم كان من تدبير الله بعد هذا أن أرسل على معسكر المشركين ريحا عاصفة في ليلة شديدة البرد، فاقتلعت الخيام، وأطفأت النيران، وأطلقت الإبل والخيل من مرابطها.. وكأنها تؤذّن في القوم بالرحيل، وتسبق بالعمل المشاعر التي كانت تدور في صدورهم، فلم يمد أحد منهم يده إلى نصب خيمته التي اقتلعتها العاصفة، ولم يمسك أحد منهم بمقود فرسه، أو خطام ناقته، يعيدها إلى مربطها.. بل لقد بدا لهم هذا الذي حدث، أنه نفير العودة إلى مكة.. فأخذوا وجهتهم إليها، تدفعهم نحوها ريح عاتية، تضربهم بأجنحتها القوية المغموسة بالرمال والغبار!: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» (25: الأحزاب) ..(11/660)
هذا هو مجمل القصة لغزوة الأحزاب، أو الخندق كما تسمّى، والتي كانت الآية السابقة حديثا عن المقطع الأول منها..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» .
هو صورة مجملة للقصة كلها.. فهناك جنود قد جاءوا إلى المسلمين، يريدون حربهم، والقضاء عليهم، فدفعهم الله عنهم، وتلقاهم بجنود من عنده..
وهذه نعمة من نعم الله على المؤمنين، تستوجب الشكر والحمد لله رب العالمين..
- وفي قوله تعالى: «وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها» - إشارة إلى أن الريح التي أرسلها الله سبحانه على المشركين، هى جند من جند الله التي رآها المسلمون عيانا، ورأوا أفعالها في عسكر المشركين..
وهناك جنود أخرى لم يرها أحد، كانت تعمل في تلك المعركة، حتى أوقعت الهزيمة بالمشركين، فانقلبوا بشرّ منقلب..
وهذه الجنود غير المرئية كثيرة لا حصر لها.. «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» وقد يكون منها هذه المشاعر التي تسلطت على المشركين من الخوف والقلق، ومن سوء ظن بعضهم ببعض، وقد تكون وساوس وخواطر، تمشّى بها بعض العقلاء بين الجماعات المتحالفة، فأفسد ما بينهم.. وقد تكون ملائكة من ملائكة الرحمن جاءت مع الريح، فضاعفت من أفاعيلها، وبالغت فى آثارها..
وفي قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» - إشارة إلى مالله(11/661)
سبحانه وتعالى من علم لا يعلمه أحد، وإلى أن الناس لا يعلمون من علم الله شيئا، حتى هذه الأمور المتصلة بهم، كتلك الجنود الخفية التي أحدثت هذه الآثار، على حين أن الله سبحانه يعلم من أمر الناس ما يسرّون وما يعلنون، علم مشاهدة.. «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» .. فهو على كاشف لكل شىء، كالعلم الذي يقع عن نظر وشهود بالنسبة لنا، على خلاف العلم المطلق، فقد يقع عن حدس وظن.. وهذا هو بعض السر في جعل فاصلة الآية: «بصيرا» بدل «عليما» ..! فعلم الله سبحانه، علم شهادة: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» .
قوله تعالى:
«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» .
هنا تبدأ الآيات في تفصيل ما أجملته الآية السابقة من أحداث هذه القصة..
فهؤلاء الجنود الذين جاءوا إلى المسلمين، قد جاءوهم من فوقهم، أي من نجد، ومن أسفل منهم، أي من تهامة.. وهذا يعنى أنهم قد أطبقوا على المسلمين من كل جهة، فتمكنوا منهم، وسدّوا منافذ النجاة عليهم..
وفي قوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» تصوير للحال التي استولت على المسلمين من هذا الخطر الزاحف عليهم..
وزيغان الأبصار، كناية عن الكرب الذي دخل على المسلمين، حتى اضطرب لذلك تفكيرهم، وغابت وجوه الرأى عنهم، فلم يتبينوا ماذا يأخذون أو يدعون من أمرهم..
وبلوغ القلوب الحناجر، كناية أخرى عن هذا الكرب، وأنه أزال القلوب عن مواضعها، بما أحدث فيها هذا الكرب من اضطراب وخفقان.(11/662)
وفي قوله تعالى: «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» .. وفي التعبير عن هذا الحدث يفعل المستقبل، دون الفعل الماضي، الذي جاء تعبيرا عن الحدثين:
«زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» - فى هذا ما يشير إلى أن زيغان الأبصار، واضطراب القلوب، إنما هما حال لبست المسلمين مرة واحدة، عند استقبالهم لهذا المكروه.. أما الظن بالله، فهو أحوال متجددة، تعاود المسلمين حالا بعد حال.. حيث يترددون بين الرجاء واليأس، وبين اليقين والشك، حسب الأحوال النفسية، أو المادية، التي تعرض لهم!.
وفي جمع «الظنون» - إشارة إلى أنها ظنون كثيرة مختلفة، تعاود الشخص الواحد، كما أنها تختلف من شخص إلى شخص.. فهناك من المؤمنين من هم على يقين من أمر ربهم، فلا يظنون إلا خيرا، وأن الله منجز لهم ما وعدهم في عدوهم.. إن لم يكن في هذه المعركة ففى معارك أخرى قادمة، إن لم يشهدوها هم، فسيشهدها من بعدهم من إخوانهم.. وهناك من المؤمنين من لم يعصمهم إيمانهم من ظنون السوء، فظنوا بالله غير الحق، ظن الجاهلية..
قوله تعالى:
«هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» .
الإشارة هنا إلى هذا الموقف الذي واجه فيه المؤمنين الأحزاب.. ففى هذا الموقف ابتلى المؤمنون، وامتحنوا، فى إيمانهم بالله.. وكان الابتلاء شديدا، والامتحان قاسيا، لا يصبر عليه، ولا يخلص منه، ناجيا بدينه، سليما في معتقده، معافى في إيمانه، إلّا من اطمأن قلبه بالإيمان، وعرف ما لله في عباده من ابتلاء، «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (37: الأنفال) .
وقوله تعالى: «وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» بيان لما في هذا الابتلاء من شدة،(11/663)
هزّت كيان المسلمين هزا، ومخضت مشاعرهم كما يمخض اللبن، حتى تنكشف الرغوة عن الصريح.. كما يقول سبحانه: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» (154: آل عمران) .
قوله تعالى:
«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» ..
العطف هنا على قوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» فهذه حال من تلك الأحوال التي عرضت للمسلمين يومئذ، وهى أن المنافقين ومن في قلوبهم مرض من المؤمنين، قد كانوا من الذين ظنوا بالله ظن السوء.. فكان قولهم في مواجهة هذا الابتلاء، هو الكفر الصريح:
«ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» .. أي أكاذيب وأباطيل، وأمانىّ من من الخداع، والتغرير.. وهكذا تكشف الشدائد والمحن عن معادن الناس، وعن مطويات الضمائر، وما تخفى الصدور..
قوله تعالى:
«وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» ..
هو معطوف على ما قبله، وهو بيان لمقولة طائفة من طوائف هؤلاء المنافقين ومن في قلوبهم مرض.. إنهم لم يقفوا عند حدّ هذه الوساوس السوء من الظنون، بل جاوزوا هذا إلى إذاعتها في الناس، وإلى تيئيسهم، وزعزعة إيمانهم.. فينادون في الناس بهذا النداء الشيطاني المشئوم: «يا أَهْلَ يَثْرِبَ(11/664)
لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا»
أي ماذا تنتظرون؟ وما متعلقكم بهذه الأمانى الباطلة؟
إنكم مخدوعون.. فما مقامكم فيما أنتم فيه؟ ارجعوا إلى دياركم وأهليكم، حيث الأمن والسلامة، وحيث الراحة من هذا العبث الذي لا شىء وراءه..
وفي مناداتهم بيا أهل يثرب، دعوة إلى ردّة، يريدون بها دفع هذه المشاعر الجديدة التي عاش بها المسلمون في مجتمعهم الجديد، حيث اتخذت المدينة في ظل الإسلام اسما جديدا، هو المدينة، بدلا من اسمها «يثرب» الذي عاشت فيه مع الكفر والشرك! إنهم يريدون بهذا النداء، أن يجلو عن المشاعر هذا الاسم الكريم، كما أرادوا أن يجلو عنها الدين الحنيف! قوله تعالى: «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» ..
معطوف على محذوف، هو استجابة لهذه الدعوة التي دعا بها بعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض، واستجاب لها بعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض..
ودعوتهم هى: «يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» .. واستجابة المستجيبين لهذه الدعوة كانت على أسلوبين: أسلوب الرجوع بغير استئذان من النبي، وأسلوب الرجوع بعد الإذن منه.. أي أن هؤلاء الذين استجابوا لتلك الدعوة من المنافقين ومن في قلوبهم مرض كانوا فريقين: أحدهما استجاب للدعوة فورا، فلم يلتفت إلى شىء، ولم يراجع نفسه، أو يرجع إلى النبىّ.. والآخر، أراد أن يدارى نفاقه ويستر ضعف إيمانه، بهذا العذر الذي يعتذر به للنبى، وهو أن بيته مهدد بمن يعتدى عليه، ويهتك ستره.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى حكاية لقولهم: «يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» أي معرضة للعدوان عليها من المشركين أو غيرهم..
وفي قوله تعالى: «وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ» تكذيب لهذه القولة الفاجرة.. إن بيوتهم ليست عورة، بل هى في حمى المسلمين جميعا، وما يجرى على بيوت المسلمين يجرى على بيوتهم.. فلو دخل المشركون المدينة، لما استباحوا(11/665)
بيوت هؤلاء المعتذرين وحدهم، بل لاستباحوا بيوت المسلمين جميعها.. «إن يريدون إلا فرارا» أي ما يريد هؤلاء المعتذرون إلا فرارا من هذا الموقف الذي هم فيه، وإلا ضنّا بأنفسهم عن أن يشهدوا القتال، وأن يكونوا في المقاتلين.
قوله تعالى:
«وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً» .
هو بيان لضعف إيمان هؤلاء المعتذرين، وأنهم يحرصون على حياتهم أكثر من حرصهم على إيمانهم، أو حرمات بيوتهم..
فلو دخل المشركون على هؤلاء المعتذرين بيوتهم من كل مدخل منها، ثم دعوهم إلى الخروج منها لخرجوا منها، ونزلوا عنها لهم من غير أن يدافعوا عنها، ويؤدوا حق حرمتها عليهم..
- وفي قوله تعالى: «دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ» بالبناء للمجهول، إشارة إلى أن هؤلاء المعتذرين- لحرصهم على الحياة- يسلمون بيوتهم لأى داخل عليهم، فرارا بأنفسهم..
وفي قوله تعالى: «ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ» إشارة إلى أن ما يسألونه، ويطلب إليهم الخروج منه، وهو بيوتهم، هو فتنة، وبلاء عظيم، أشبه بالفتنة في الدين، لأن حرمة البيوت- عند الأحرار تعدل حرمة النفس، والدين، وغيرهما من المقدسات التي يحرص عليها الأحرار.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» (66: النساء) فقد جاء الخروج من الديار موازنا لقتل النفوس.. ويقول سبحانه وتعالى:
«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» (191: البقرة) فمن الفتنة، الإخراج من الديار.(11/666)
وفي قوله تعالى: «وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً، - إشارة إلى مبادرة هؤلاء المستخفّين بالحرمات، إلى الخروج من ديارهم، وتسليمها ليد طالبيها منهم، دون إمهال أو تلبث،.. وحسبهم أن ينجوا بجلدهم!! فهؤلاء الذين فتنوا في دينهم، بموقفهم المتخاذل في مواجهة العدو، ثم فرارهم من ميدان المعركة، وخروجهم من دينهم في غير تردد، هم أنفسهم أولئك الذين ينزلون عن ديارهم، ويخرجون منها في غير تردد أو تلبث أيضا..
وهكذا الإنسان، فى موقفه من حرماته.. إن من يفرط في أي حرمة من الحرمات، هو مستعد للتفريط فيها كلها.. إنّ الحرمات، هى كيان واحد، وإن تعددت صورها، وأشكالها..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» .. أي أن هؤلاء الفارين من ميدان القتال، قد نقضوا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه من قبل، حين دخلوا في دين الله..
وهذا العهد، هو أن يطيعوا الله والرسول، وأن يجاهدوا في سبيل الله، وألّا يولّوا الأدبار.. وفي هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15- 16: الأنفال) .. فهذا هو عهد الله الذي أخذه على المؤمنين، وقد دخلوا في دين الله على هذا العهد..
وفي قوله تعالى: «وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن عهد الله أشبه بكائن حىّ مجسد، وأنه يقوم في الناس مقام الرسول المبلّغ عن ربه..(11/667)
ولهذا فهو يسأل عمن أوفى به، ومن نكث، كما يسأل الرسل عمن آمن بهم ومن كفر، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ» (109: المائدة) .. وفي هذا تعظيم لعهد الله، وما ينبغى أن يكون له في الناس من إكبار وإجلال.
قوله تعالى:
«قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .
هو قطع لتلك الآمال الكاذبة التي يعيش فيها أولئك الذين فروا من ميدان القتال، ظانّين أن ذلك يحفظ عليهم حياتهم، ويرد غائلة الموت عنهم..
وهم في هذا مخدوعون، قد غطّى على أبصارهم حبّ الحياة، حتى لقد أنساهم ذلك، تلك الحقيقة الماثلة أمامهم، وأنهم مقضى عليهم بالموت المحكوم به على كل حى..
فهذا الفرار من الموت- على أي صورة من صوره، حتفا، أو قتلا- إلى أين ينتهى بهم الطريق الذي يركبونه فارين منه؟ إنه منته بهم إلى الموت حتما..
إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد.. إنه آت لا شك فيه، طال الطريق أم قصر.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» (8: الجمعة) ويقول سبحانه: «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» (78: النساء) .
وفي قوله تعالى: «مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ» بيان للصورة التي يقع عليها الموت، وهو إما أن يكون موتا طبيعيا، أو في حدث من الأحداث، كالحرب وغيرها..(11/668)
- وفي قوله تعالى: «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» - أي أن هذا الفرار لا يعصمكم من الموت الذي يترصدكم، ويتربص بكم الساعة التي تنتهى فيها آجالكم. «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (34: الأعراف) ..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .
إشارة إلى أنه لا وجه يفرّ إليه هؤلاء الفارون من قضاء الله فيهم.. إن ذلك الفرار سوء ظن منهم بسلطان الله وقدرته.. ولو علموا بعض ما الله من علم وقدرة وسلطان، لما تحولوا عن هذا الموقف الذي هم فيه، مقدرين أن ذلك ينجيهم من الموت، ويمد لهم في آجالهم التي يخيل إليهم أن القتال، سيختصر مقامهم في هذه الدنيا، ويحصد حياتهم قبل أوانها..
وفي قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا صح أن الإنسان يطلب معتصما يعتصم به حال الضر والسوء.. فكيف يصح أن يطلب معتصما حين يراد به الخير والرحمة؟ وإذا صح أن يفر الإنسان من مواطن الخطر والشر، فهل يصح أن يفر من مواطن الخير والإحسان؟ .. وإذا فما تأويل قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» ؟.
والجواب على هذا من وجهين:
فأولا: أن الإنسان لا يملك مع أمر الله شيئا.. وأن ما يساق إليه من سوء أو رحمة، هو من عند الله.. وعلى هذا، فإنه إذا رأى بلاء الله واقعا به، وطلب(11/669)
معتصما يعتصم به، وملجأ، يلجأ إليه، من هذا البلاء، فلن يجد.. كما أنه إذا أراد الله به خيرا ورحمة، فإن هذه الرحمة وذلك الخير لا بد أن يصلا إليه مهما حاول هو- عن جهل وغباء- أن يفر منهما.
وثانيا: أن تقدير الإنسان للأمور لا يقع على وجه صحيح في كل حال، فقد يفر الإنسان من أمر، ويعرض عنه، متكرها له، طالبا السلامة منه، وهو في صميمه خير له، وبركة عائدة عليه.. وأن الله سبحانه، لو كان يريد به الخير لأمسكه على هذا المكروه، ولما صرفه عنه.. ولو أراد به سبحانه السوء لخلىّ بينه وبين ما يريد، فيقع في المكروه الذي يتوقع النجاة منه بإعراضه عنه، وفراره منه، وذلك بما يفوته من الخير المطوىّ فى هذا المكروه..
وهذا هو حال هؤلاء الفارّين من ميدان القتال.. إنهم تكرهوا هذا الأمر، وفروا منه، وهو في صميمه خير ورحمة وبركة.. وإذ لم يرد الله بهم خيرا، فقد خلّى بينهم وبين ما أرادوا.. على حين أنه سبحانه أمسك على هذا المكروه، من أراد بهم الخير والرحمة من عباده المؤمنين..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» (23: الأنفال) ..
وفي قوله تعالى: «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» - ما يسأل عنه أيضا، وهو: لماذا اختلف النظم، فكان خطابا في قوله تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» ..
ثم كان غيبة في قوله تعالى: «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ؟ ..(11/670)
والجواب على هذا، هو أن هذا الخطاب كان لهؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض، وهم في حضور مع المؤمنين في ميدان القتال.. يعيشون بتلك الخواطر المريضة، والمشاعر الكاذبة، ويديرون في كيانهم وجوه الأعذار التي يعتذرون بها للفرار من هذا الموقف.. هذا هو حالهم قبل أن يفروا.. فلما اجتمع لهم الرأى على الفرار، وفرّوا- كان الحكم عليهم غيابيا، فى مواجهة المؤمنين.. فلا يستمعون هم إلى هذا الحكم، ولا يدرون ماذا يريد الله بهم، حتى يفجؤهم العذاب، وينزل بهم البلاء، وهم في غفلة عنه.. وفي هذا بلاء فوق البلاء، وعذاب فوق العذاب..
قوله تعالى:
«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» .
المعوقون: هم الذين يمسكون غيرهم عن الخروج مع المؤمنين إلى القتال، بدءا، بعد أن فعلوا هذا بأنفسهم أولا.. فهم لم يخرجوا إلى القتال، ثم ثبّطوا غيرهم، وزينوا لهم القعود.
والقاتلون لإخوانهم هلمّ إلينا.. هم الذين قعدوا عن القتال، ولم يخرجوا، ثم سعوا إلى تحريض الذين خرجوا إلى القتال، وزينوا لهم أن يعودوا إليهم، وأن يقعدوا معهم كما قعدوا هم، قائلين لهم.. «هَلُمَّ إِلَيْنا» - أي أقبلوا إلينا..
وهلم اسم فعل أمر، يلزم حالا واحدة في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، فيقال للاثنين: هلم، وللجمع: هلم..
والبأس: القتال..
و «قد يعلم» .. بمعنى قد علم الله.. لأن علم الله سبحانه وتعالى قديم..
والتعبير عن العلم بفعل المستقبل، إنما هو بالنسبة لما سيقع من أصحاب هذه(11/671)
المواقف الخاسرة. فهو تحذير لهم من أن يقعوا في هذا المحظور المنكر، قبل أن يقع..
والآية تكشف عن موقفين من مواقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض، الذين تخلفوا ولم يخرجوا للقتال ابتداء، أثناء هذه المواجهة التي كانت بين المسلمين، والأحزاب، على حافتى الخندق الذي أقامه المسلمون حول المدينة..
فهؤلاء الذين قعدوا، لم يقفوا عند هذا الحدّ.. بل كان منهم المعوّقون، الذين أمسكوا غيرهم معهم عن الخروج، وزينوا لهم القعود مع القاعدين..
وكان منهم الذين أرادوا إفساد أمر الذين خرجوا.. يلقون إليهم بما يحسبونه نصحا لهم، وإشفاقا عليهم، فيقولون لهم فيما يقولون: عودوا إلينا.. «لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» .
- قوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» .
المفسرون على قول واحد، فى أن هذا المقطع من الآية، هو وصف من أوصاف هؤلاء المنافقين، الذين تهدّدهم الله سبحانه وتوعدهم بقوله: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا» وهو عندهم، إما معطوف على صلة الموصول في قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ» أي الذين يعوقون غيرهم منكم، ويقولون لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا.. وإما أن يكون حالا من الضمير في اسم الفاعل «والقائلين» .
والرأى عندنا- والله أعلم- هو أن قوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» حال من الضمير في «إخوانهم» .. وهذا الحال هو وصف كاشف لإخوان المنافقين، الذين يدعوهم المنافقون إليهم، ويطمعون في أن يستجيبوا لهم.. فهؤلاء الذين يطمع المنافقون في استجابتهم لهم، هم من ضعاف الإيمان، الذين يعرف المنافقون موطن الضعف فيهم، ولهذا سماهم القرآن «إخوانهم» .(11/672)
فهم على حال مقاربة، سواء منهم من قعد، ولم يخرج، أو من خرج مع المؤمنين..
إنه لا غناء فيه، ولا نفع للمسلمين منه، فى موقفهم من عدوهم.. إنهم «لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» .. والمراد بالقلة هنا قلة الغناء في الحرب، وضعف الأثر الذي لهم في القتال.. فهم وإن شهدوا الحرب، إنما يشهدون بنفوس مريضة، وقلوب واجفة، وأبصار زائغة.. أما إخوانهم الذين قعدوا من أول الأمر، ولم يخرجوا مع المسلمين، فإنهم لا يأتون البأس، قليلا أو كثيرا.. والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إنما يستدعون من صفوف المسلمين من لا خير فيه، ولا نفع يرجى منه، بل إن قعوده خير المسلمين من خروجه.. والله سبحانه وتعالى يقول في المنافقين: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ» (47: التوبة) قوله تعالى:
«أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ.. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» ..
الأشحة: جمع شحيح، وهو البخيل بما يملك، الضنين به..
أي أن هؤلاء المنافقين الذين يشهدون الحرب بتلك النفوس المريضة، يضنون على المسلمين بأى جهد يبذلونه معهم في سبيل النصر، وكسب المعركة.
وقوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» حال أخرى بعد الحال في قوله تعالى:
«وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» أي أن هؤلاء المنافقين لا يأتون الحرب إلا قليلا،(11/673)
ضانين بأنفسهم على أن يبذلوها في سبيل الله، فهم إذ يضنون على المسلمين إنما يضنون على دين الله، الذي يجاهد من أجله المجاهدون..
- وقوله تعالى: «فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» وصف كاشف لهؤلاء المنافقين الذين يشهدون القتال، بعد أن فضحت الآيات السابقة ما في قلوبهم من زيغ، وما في نفوسهم من مرض.. فهم إذا جاء الخوف، أي حضر البأس والقتال.. وقد عبر القرآن عنه بالخوف، بالإضافة إليهم، لأن القتال يطلع عليهم بما يملأ نفوسهم خوفا وهلعا.. أما المؤمنون، فإنهم إذا جاء القتال قالوا: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» ..
(22: الأحزاب) .
وفي إقامة الخوف مقام القتال، إشارة إلى أن المنافقين أجبن الناس، وأشدهم حرصا على الحياة، وأن مجرد ذكر كلمة الحرب عندهم تملأ قلوبهم فزعا ورعبا- فالحرب بالإضافة إليهم، خوف متجسد..
- وفي قوله تعالى: «رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» تصوير للحال التي تستولى على هؤلاء المنافقين ومن في قلوبهم مرض حين تتحرك أمامهم أشباح الحرب، وتلوح لهم جيوش العدو، فكيف يكون حالهم من الفزع والرعب، حين يلقون العدو، وتسل السيوف وتشرع الرماح؟ إنهم يموتون بصعقات الخوف، قبل أن يموتوا بضربات السيوف، وطعنات الرماح!! والخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. ونظرة المنافقين إلى النبي نظرة مذعورة، يائسة، تطل من أشباح مضطربة متهالكة متهاوية..
«كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» ! وهذا مثل قوله تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ(11/674)
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»
(20: محمد) .
- وقوله تعالى: «فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» أي أنه إذا خرج المنافقون من هذا الكرب، أطلقوا لألسنتهم العنان في النبي والمسلمين، بكل بهتان من القول، وخبيث من الكلم..
والسلق بالألسنة: الرمي بالهجر من القول منها..
والألسنة الحداد: أي الألسنة المسعورة الجارحة، الذلقة في الحديث..
فالمنافقون، أحدّ الناس ألسنة، وأكثرهم قولا، وأقلهم فعلا.. إن بضاعتهم كلها من زيف الكلام، وباطله، ينفقون منه في سخاء بلا حساب! - وقوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» أي أنهم أسخياء في الثرثرة باللغو من القول، والباطل من الحديث، على حين أنهم أشحاء على الخير، قولا وعملا، فلا ينطقون بقولة حق يقولونها، ولا يسمحون بكلمة خير تخرج من أفواههم..
- وقوله تعالى: «أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا» تشهير بهم، وفضح لهم على الملأ، وتعرية لهم من الإيمان الذي لبسوه ظاهرا، ولم يفسحوا له مكانا فى قلوبهم..
- وقوله تعالى: «فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» أي لم يتقبل الله منهم عملا، حتى ما كان صالحا.. لأن الإيمان هو المدخل الذي تدخل منه الأعمال الصالحة إلى مواطن القبول من الله.. وهؤلاء لم يكونوا مؤمنين، فلا عمل يقبل منهم أبدا، ولا يقوم لهم بنيان، ولا يصلح لهم أمر مما يبيتون ويدبرون.(11/675)
- وقوله تعالى: «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .. الإشارة هنا إلى ما يقع على أعمالهم من إحباط لها كلها، فلا ينجح لهم كيد، ولا يستقيم لهم تدبير..
إنهم يكيدون لله، ويحاربون ربهم بهذه الأسلحة الباطلة، والله لا يصلح عمل المفسدين.. «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» . (26: النحل) قوله تعالى:
«يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» .
أي أن هذا الخوف الذي استولى على هؤلاء المنافقين من موقف القتال، وحال الحرب التي كانت متوقعة بين المسلمين وبين الأحزاب- قد لصق بهم، وصار كائنا يعيش فيهم، ووسواسا يملأ عليهم وجودهم، ويملك تفكيرهم، حتى أنهم- وقد ذهب الأحزاب، وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا- لم يصدقوا أنهم ذهبوا، إذ ما زال شبحهم مطلا عليهم.. هكذا يفعل الخوف بالجبناء، الذين يحرصون على الحياة، ويبيعون من أجلها الشرف، والمروءة، والرجولة..
- وقوله تعالى: «وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ» أي ولو فرض أن الأحزاب عادوا مرة أخرى، وأخذوا مثل هذا الموقف من المسلمين، لتمنّى هؤلاء المنافقون أن ترمى بهم الأرض في مطرح غير ما هم فيه، وأن يكونوا من سكان القفار والبوادي..
- وقوله تعالى: «يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» ..
كلام مستأنف، يكشف عن حال من أحوال المنافقين، وهو أنهم- لما ركبهم(11/676)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
من خوف، يسألون عن أنباء المسلمين في جبهة القتال، لا اطمئنانا على المسلمين، ولكن استكشافا للأمر، وتعرفا على الموقف، حتى يأخذوا العدّة لأنفسهم على الوجه الذي يرونه، فإن جاءتهم الأنباء بأنّ المسلمين رجحت كفتهم وهبّت عليهم ريح النصر، انحازوا إليهم، وخلطوا أنفسهم بهم.. وإن كان الأمر على غير هذا، فلن يعدموا وسيلة يتوسلون بها إلى الأحزاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف المنافقين: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (141: النساء) .
- وقوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» هو إنكار على المنافقين أن يسألوا عن أنباء هذا الموقف، وهم بمعزل عنه، وكان الأمر يقتضيهم أن يشاركوا في القتال، وأن يكونوا بين المقاتلين، إن لم يكن ذلك دفاعا عن الدين، فليكن عن الأهل والدار والوطن!! ومع هذا، فإنه لم يفت المسلمين خير كثير من تخلّف هؤلاء المتخلفين، لأنهم لو شهدوا القتال لما قاتلوا، أو قاتلوا قتال المنحرفين، الذين يطلبون السلامة لأنفسهم قبل كل شىء: «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ» أي لو شهدوا القتال معكم «ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» أي لم يكن لهم إلا قتال هزيل لا أثر له.
الآيات: (21- 27) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 27]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)(11/677)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» .
الأسوة: التأسى، والاقتداء..
والأسوة في الرسول، هى التأسى به في موقفه من أمر ربه، وامتثاله له، وجهاده في سبيل الله، وقيامه على رأس المجاهدين..
وفي وصف الأسوة بأنها أسوة حسنة، إشارة إلى أن هناك أسوة سيئة، يقوم على رأسها كبير من كبار المنافقين، يدعو إلى النكوص على الأعقاب والفرار من مواجهة الأحزاب..
والدعوة هنا عامة للمؤمنين أن يتأسوا برسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وأن يكونوا من ورائه جندا مجاهدين في سبيل الله، فذلك هو طريق الخير، والفوز، لا ييسره الله، إلا لمن كان يؤمن بالله ويرجوا ما عنده،(11/678)
من جزاء في الدنيا والآخرة، وكان ذكر الله دائما ملء قلبه، حتى يجد من هذا الذكر ما يستحضر به عظمة الله، وفضله، وإحسانه، فيصبر على البلاء، ويستخف بالحياة الدنيا في سبيل رضوان الله في الآخرة..
قوله تعالى:
«وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» .
هذه صورة من صور التأسّى برسول الله، يراها الذي ينظر إلى المؤمنين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فهؤلاء المؤمنون حين رأوا الأحزاب لم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم ترهبهم كثرة العدوّ، ولم يفزعهم الموت المطلّ عليهم من كل مكان.. فالموت في هذا الموطن هو أمنيتهم التي كانوا يتمنونها على الله، ويقدمونها ثمنا لإعزاز دين الله، وإعلاء كلمة الله.. ولهذا فإنهم حين رأوا الأحزاب، رأوا فيهم تحقيق ما وعدهم الله ورسوله به، من الابتلاء والبلاء على طريق الجهاد في سبيل الله.. فالمؤمنون دائما على طريق الجهاد، وعلى توقّع الصّدام مع العدوّ، الذي يتربص بهم وبدينهم، الدوائر وإن المؤمن في مرابطة مستمرة، لحماية دين الله، ولدفع ما يرمى به من سوء، وردّ ما يراد به من كيد..
- قوله تعالى: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» يمكن أن يكون من كلام المؤمنين، معطوفا على مقول قولهم: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ..
ويمكن- وهو الأولى عندنا- أن يكون تعقيبا على قولهم، من الله سبحانه وتعالى، أو بلسان الوجود الّذى إذا سمع قولهم: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» !.
نطق بلسان واحد: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .
- وقوله تعالى: «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» فاعل الفعل «زادهم»(11/679)
يدلّ عليه الفعل «رأى» أي ما زادهم ما رأوه من الأحزاب وكثرة عددهم وعدتهم، إلا إيمانا بالله، وتصديقا لوعده، وتسليما بما يقضى به الله بينهم وبين عدوّهم.
قوله تعالى:
«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» .
أي من المؤمنين الذين سلموا من النفاق، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. إذ ليس كلّ المؤمنين على درجة واحدة في إيمانهم.. بل هم درجات فى الإيمان، كما أنهم درجات عند الله..
وحرف الجرّ «من» هنا للتبعيض.. أي من بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وفي قوله تعالى: «رجال» إشارة إلى أنهم أناس قد كملت رجولتهم، وسلمت لهم إنسانيتهم.. فكانوا رجالا حقّا، لم ينتقص من إنسانيتهم شىء.. فالكفر، والشرك، والنفاق، وضعف الإيمان، كلّها أمراض خبيثة، تغتال إنسانيّة الإنسان، وتفقده معنى الرجولة فيه.. فالرجل كلّ الرجل، هو من تحرّر عقله من الضلال، وصفت روحه من الكدر، وسلم قلبه من الزيغ.. ثم لا عليه بعد هذا ألا يمسك بيده شىء من جمال الصورة، أو وفرة المال، أو قوة السلطان.
وفي تنكير «رجال» معنى التفخيم، والتعظيم، كما يقول الله تعالى:
«يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (36: 37 النور) وكما يقول سبحانه:(11/680)
«لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (108 التوبة) .
- وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» : النحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضى فلان نحبه: أي وفي بنذره، والمراد به انقضاء الأجل..
أي من هؤلاء الرجال من مات، وهو على إيمانه الوثيق بالله، وفي موقف الجهاد في سبيل الله، قد وفى بما نذره الله، وعاهد الله عليه.
- وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» أي من ينتظر قضاء الله فيه، موتا، أو استشهادا في ميدان القتال، فهو على ترقب وانتظار لليوم الذي تتاح له فيه الفرصة للوفاء بنذره وعهده.
- وفي قوله تعالى: «يَنْتَظِرُ» إشارة إلى أن المؤمن الصادق الإيمان، ينتظر لقاء ربّه، وهو في شوق إلى هذا اللقاء، يعدّ له اللحظات، ويستطيل أيام الحياة الدنيا، فى طريقه إلى ربه.. شأن من ينتظر أمرا محبوبا هو على موعد معه..
- وقوله تعالى: «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» .. إشارة إلى أن إيمانهم بالله، ويقينهم بلقائه لم يزايل مكانه من قلوبهم لحظة، ولم ينحرف عن موضعه أي انحراف.. فهم على حال واحدة من أمر ربّهم، ومن الثقة بما وعدهم الله على يد رسوله.. على حين أن كثيرا ممن كان معهم ممن أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، قد بدّلوا مواقفهم، وكثرت تحركاتهم بين الإيمان والكفر ...
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .(11/681)
اللام في قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ» هى لام العاقبة لقوله تعالى: «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» .. أي أنهم فعلوا ذلك ليجزيهم الله بصدقهم في إيمانهم، وبوفائهم بعهودهم.. وقد أقيم الظاهر مقام المضمر فجاء النظم القرآنى «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ» بدلا من: «ليجزيهم الله بصدقهم،» وذلك للتنويه بهم، ولإلباسهم هذه الصفة التي حققوها في أنفسهم وهى الصدق، فكانوا الصادقين حقا.. ولم يذكر القرآن ما يجزيهم الله به، إشارة إلى أنه جزاء معروف، وهو الإحسان.. فما يجزى المحسنون إلا إحسانا، كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ..»
فهو جزاء لا يحتاج إلى بيان.
وقوله تعالى: «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .. هو الجزاء الذي يلقاه أولئك الذين بدّلوا موقفهم من الإسلام، وهم المنافقون، الذين انحرفوا عن الطريق الذي كانوا عليه..
فالمؤمنون الذين لم يبدّلوا موقفهم، ولم يحيدوا عن طريقهم الذي استقاموا عليه- هؤلاء لهم من جزاء إيمانهم وإحسانهم، ما هم أهل له، من الإحسان والرضوان.. والذين بدّلوا، ونافقوا، ولم يصدقوا في إيمانهم بالله- هؤلاء إما أن يعذّبهم الله، إذا هم مضوا على نفاقهم، ولم تدركهم رحمة الله، فتخرجهم من هذا النفاق، وتعيدهم إلى الإيمان، وإما أن تنالهم رحمة الله، فيتوبوا من قريب، ويدخلوا في المؤمنين الصادقين..
وفي قيد العذاب بالمشيئة الإلهية، إشارة إلى أن مشيئة الله في هؤلاء المنافقين الذين كتب عليهم الشقاء والعذاب، هى التي أمسكت بهم على طريق النفاق، وخلّت بينهم وبين ما في قلوبهم من مرض، وأن رحمة(11/682)
الله هى التي أدركت بعض هؤلاء المنافقين، وعدلت بهم عن طريق النفاق..
وإذن فليطلب المنافق من هؤلاء المنافقين السلامة لنفسه، وليسع سعيه ليكون ممن يتوب الله عليهم.. وليعلم أن في هؤلاء المنافقين من هو من أهل العذاب، وأن عليه أن يحذر ما استطاع أن يكون منهم..
ثم ليعلم قبل هذا كله، أن الأمر لله سبحانه وتعالى، من قبل ومن بعد، وأن المطلوب منه، هو أن يعمل على سلامة نفسه، وأن يطلب الخير لها..
وليس له أن يعلم ما الله سبحانه وتعالى قاض فيه! فذلك لله وحده، لا شريك له فيه.
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» إطماع في رحمة الله، وفي مغفرته للعصاة والمذنبين، أيّا كان ما هم فيه من ضلال.. فرحمة الله واسعة، ومغفرته عامة، لمن طمع في رحمته ومغفرته، وعمل على مصالحة ربّه، والتوب إليه.
قوله تعالى:
«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» .
«الواو» للاستئناف، ومتابعة عرض الأحداث لقصة الأحزاب، بعد هذا الاعتراض بتلك التعقيبات على ما ذكر من أحداثها..
فقد ردّ الله الأحزاب «بغيظهم» فهذا الغيظ هو محصّلهم من هذه الغزوة التي كانوا يمنّون أنفسهم فيها بالنصر والغنيمة.. فبدلا من أن يعودوا إلى أهليهم محمّلين بالغنائم، وبأهازيج الفرح والزهو، عادوا يحملون الغيظ والكمد، ويتلفعون بالخزي والذلة..(11/683)
- وقوله تعالى: «لَمْ يَنالُوا خَيْراً» تأكيد لما أصاب الأحزاب من خزى وكمد، وأنه لم يكن لهم في كيدهم هذا الذي كادوا، أىّ وجه من وجوه النفع، بل كان شرّا خالصا، وبلاء محضا..
- وقوله تعالى: «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» .. هو إظهار للمنّة التي امتنّ الله بها على المؤمنين يدفع هذا المكروه الذي نزل بساحتهم، وأوشك أن يشتمل عليهم، دون أن يكون منهم قتال..
- وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» بيان لما الله سبحانه وتعالى من سلطان قاهر، وقوة غالبة.. فلا يملك أحد مع سلطان الله سلطان، ولا مع قوة الله قوة.
قوله تعالى:
«وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» .
فى الآية السابقة بيّن الله تعالى، ما نزل بفريق من الأحزاب، وهم «الكافرون» .. وهم مشركو قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب..
وفي هذه الآية.. بيان لما أخذ الله به الفريق الآخر من الأحزاب، وهم يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، الذين ظاهروا المشركين، أي كانوا ظهرا لهم في هذا الكيد الذي أرادوه بالنبيّ والمسلمين..
فهؤلاء اليهود، أنزلهم الله من صياصيهم، وأزالهم من أماكنهم التي تحصنوا فيها «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» أي ملأ قلوبهم فزعا ورعبا، وأراهم أنهم قد أصبحوا في يد النبىّ والمسلمين بعد أن انقلب المشركون مدحورين، مذمومين..(11/684)
والصياصي: الحصون التي كان يتحصن فيها اليهود، بالمدينة.. وكانت حصونا حصينة، يعيش فيها هؤلاء القوم، ويجدون في ظلها الحماية من كلّ عدو يريدهم، قبل الإسلام، وفي الإسلام.. وهى جمع صيصية.. وبها تسمى قرون الظباء والبقر.. لأنها حصونها التي تدفع بها العدو عنها..
- وقوله تعالى: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» هو بيان لما انتهى إليه أمر اليهود في هذه الغزوة.. فقد مكن الله سبحانه وتعالى النبىّ والمسلمين منهم، فنزلوا على حكم النبىّ فيهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر..
ذلك أنه بعد أن زايل المشركون الخندق، ورفع الحصار عن المدينة، وأمن المسلمون شرّهم، عاد النبىّ والمسلمون معه إلى دورهم، ثم إنهم ما كادوا يضعون أسلحتهم، حتى جاء جبريل إلى النبىّ يؤذن بحرب اليهود، الذين لم تعد مجاورتهم للمسلمين في المدينة مأمونة العاقبة، بعد أن صرح الشرّ منهم، وأصبحوا جبهة من الجبهات التي أعلنت الحرب سافرة على الإسلام والمسلمين..
إنهم الآن وقد سفرت عداوتهم للمسلمين لم يكن بدّ من أن يخرجوا من المدينة، أو يخرج المسلمون منها.. إذ لا يستقيم للمسلمين بعد هذا الأمر، وهذا العدوّ يعيش معهم، يراقب حركاتهم وسكناتهم، ويكشف مواطن الضعف التي يدخل عليهم العدو منها..
وأذّن مؤذن النبىّ في المسلمين، بعد أن تلقّى أمر ربه، ألا يصلّى المسلمون العصر- أي عصر هذا اليوم- إلا في بنى قريظة.. فسار المسلمون إلى حيث كان يتحصن بنو قريظة في حصونهم من المدينة. وكانت صلاة العصر قد دخل وقتها.. فكان المسلمون على رأى مختلف في أداء الفريضة في وقتها حيث وجبت أو الانتظار بوقتها حتى يبلغوا بنى قريظة.. وكان ذلك موضع اجتهاد منهم.. فرأى بعضهم أن يمتثل أمر النبىّ من غير تأويل، وألا يصلّى العصر إلا في بنى قريظة، ولو تأخر الوقت إلى العشاء..(11/685)
ورأى بعض آخر، أن يصلّى العصر، حين وجب وقتها، وقبل أن يخرج هذا الوقت، ودلّهم على هذا الرأى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لم يرد بهذا الأمر إلا المبادرة والإسراع إلى حيث أمرهم، وأن الصلاة لا تفوّت عليهم هذه المبادرة..
وقد علم النبىّ بما كان من المسلمين، فلم ينكر على أىّ من الفريقين رأيه..
إذ كان كل منهم إنما يتحرى الخير، ويطلب رضا الله ورسوله.. إن أحدا منهم لم يمل مع هوى، ولم ينظر إلى ذات نفسه في هذا الأمر.. وإذ كان ذلك كذلك لم يكن المقصد إلا طلب الخير، وتحرّى الوجه الذي يلوح منه..
وفي طلب الخير، وتحرّى وجهه، يتساوى الذين يبلغونه، والذين لا يصلون إليه.. فليست العبرة بالأمر في ذاته، وإنما العبرة بالنيّة القائمة عليه، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إنما الأعمال بالنيات.. وإنما لكل امرئ ما نوى» .. ولهذا لم يكشف النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- عن وجه الصواب في هذا الأمر الذي اختلف فيه أصحابه.. إذ لا شك أن فريقا أصاب، وفريقا أخطأ.. فالأمر إما صواب وإما خطأ، ولا يحتمل الوجهين معا..
ولكنّ المعتبر هنا ليس الأمر في ذاته، إذ هو شىء عارض، وإنما المعتبر هو النيّة التي تقوم وراء هذا الأمر.. لأن النيّة شىء ذاتى، والذاتي مقدم على العرضي.
وقد حاصر النبي والمسلمون اليهود في حصونهم مدة، حتى إذا اشتدّ عليهم الحصار، نزلوا على حكم النبىّ.. فأمر يقتل كل من بلغ الحلم من الذكور، وسبى الأطفال، والنساء، بعد أن استولى على ما كان مع القوم من سلاح..
وهكذا ذهب هذا الداء الذي كان يعيش في كيان المدينة، ويموج بالفتن فيها..(11/686)
وهكذا نفت المدينة خبثها.. ولبست اسما جديدا لها هو «طيبة» .. إذ قد طابت الحياة للمسلمين فيها بعد ذهاب هذا الخبث عنها..
قوله تعالى:
«وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» هو إخبار بما كان الله من نعمة على المسلمين بعد أن أجلوا اليهود عن المدينة..
فقد ورث المسلمون ما كان للقوم من أرض، وديار وأموال.. وهذا فضل من فضل الله على المؤمنين، يجب أن يذكروه، ويشكروا لله فضله وإحسانه..
- وفي قوله تعالى: «وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها» .. إشارة إلى ما سوف يورّث الله سبحانه وتعالى المسلمين بعد هذا، من أرض لم يطئوها من قبل.. وهى تلك الأرض التي وراء حدود الجزيرة العربية، مما ستمتد إليه فتوح المسلمين، وتطلع عليه شمس الإسلام.. في مشارق الأرض ومغاربها.. وفي الحديث إلى المسلمين بالأرض التي سيرثونها، مع أن المخاطبين لم يرثوها بعد، وإنما ورثها المسلمون من بعدهم- فى هذا إشارة إلى أن المسلمين كيان واحد، وأن ما يرثه المسلمون في أي زمان ومكان، هو ميراث المسلمين جميعا.. لأن هذا الميراث ليس في حقيقته لذات أنفسهم، وإنما هو لدين الله الذي يجاهدون في سبيله..
- وفي قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» تطمين لقلوب المؤمنين على مستقبل الإسلام، الذي وعدهم الله بنصره وإعزازه، والتمكين له في الأرض..
فإن هذا الوعد من الله القوى العزيز، الذي بقوته وعزته يجعل من هؤلاء القلّة من المسلمين كثرة، ومن ضعفهم قوة تنهار أمامها قوى أعظم دولتين كانتا تسيطران على العالم في هذا الوقت، وهما دولتا الفرس والروم.. هذا، وفي الآية(11/687)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
الكريمة، إشارة إلى ما أراد الله سبحانه وتعالى باليهود من إذلال وامتهان، فقد عرضهم سبحانه وتعالى في معرض الاستباحة والاستخفاف بدمائهم وأموالهم وإغراء المسلمين بهم.. ففى قوله تعالى: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» استباحة لدمائهم وإراقتها بغير حساب.. وفي قوله تعالى: «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» دعوة للمسلمين إلى تمكين أيديهم من هذا الذي كان في يد القوم، فالمسلمون أحق به منهم، وأولى..
الآيات: (28- 30) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
(المرأة والرجل.. في بيت النبوة) يكثر المفسرون في إيراد أسباب النزول لهذه الآيات.. ومن هذه الأسباب أن أزواج النبي- صلوات الله وسلامه عليه، قد وجدن في المعيشة التي كن يعشنها مع النبي، ضيقا في العيشة، لاقين فيه كثيرا من الضيق، ووددن لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أخرجهن من هذا العيش الخشن إلى حياة يجدن فيها بعض ما يجد غيرهن من النساء، من لين، ورقه.. وتمضى الرواية، فتقول إن نساء النبي جئن إليه مجتمعات بهذا الطلب، وأنه صلى الله عليه وسلم وجد شيئا من الضيق بهن، فنزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ.. الآية»(11/688)
- وهذا الخبر وما يدور في مداره، هو في نظرنا غير معقول على صورته تلك، وإن كان قد ورد في كتب السنة الصحاح، مثل صحيح مسلم..
وذلك لأمور:
أولا: أن نساء النبىّ كنّ في هذا المستوي الرفيع، من شفافية الروح، وصفاء النفس، يملأ قلوبهن الإيمان بالله.. وكيف لا يكون هذا شأنهن، وهن يرين وحي السماء ينزل في بيوتهن، ورسول لله يملأ بأنفاسه الطاهرة الطيبة حجراتهن؟ وأين إذن ما يكون للرسول الكريم من نفحات وبركات إذا لم تنل أقرب الناس إليه، وأكثرهن مخالطة له، وحياة معه؟
ثانيا: كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- الأسوة الحسنة، لنسائه وللمؤمنين جميعا، فى تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها في مطعمه، وملبسه، ومنامه.. فقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- ينام على حشية من ليف، ربّما ثناها في الليلة الباردة ليتغطى ببعضها، كما كان له وسادة من ليف أيضا.. وكانت تمرّ به الليالى ذوات العدد، لا يوقد في بيته نار، كما تحدث بذلك السيدة عائشة.. ومعنى هذا أن لا خبز يخبز، ولا لحم ينضج.. وكان- صلوات الله وسلامه عليه- يخيط ثوبه، ويخصف نعله، فكيف- مع هذا- تجد واحدة من نسائه لسانا تحدّث به الرسول هذا الحديث عن العيش اللّين، والحياة الرافهة؟ ثم كيف يتحول هذا الحديث إلى أن يكون بهذا الصوت الجماعى الجهير؟
ثالثا: فى حياة أزواج النبىّ مواقف تشهد لهن بهذه العظمة الإنسانية، التي كانت من بعض نفحات الرسول، وبركاته عليهن.. فكنّ بهذا جديرات بأن يكنّ زوجات لواحد الإنسانية وعظيمها، وكن على ما أشار إليهن سبحانه وتعالى بقوله: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» .
فهذه أم حبيبة- رضى الله عنها- إحدى أزواج النبىّ، وبنت(11/689)
أبى سفيان- ينزل عليها أبوها قبل أن يدخل في الإسلام، وقد جاء إلى المدينة، ممثلا لقريش، ليلقى النبىّ في شئون بين المسلمين، وبين مشركى قريش..
نقول: نزل أبو سفيان عند ابنته أم حبيبة- رضى الله عنها- فلما أراد أن يجلس على حشية كانت هناك، ردّته أم حبيبة بغير شعور، وبلا رفق.. وعجب أبوها لهذا أشدّ العجب، واستحال كيانه كلّه علامة إنكار تطلب تفسيرا لهذا الأمر الغريب.. وتلقاه أمّ حبيبة بما يكاد يذهب بعقله: «أنت مشرك..
نجس. فلا تمس فراش رسول الله!!» ولم يصدّق أبو سفيان ما سمعت أذنه، كما لم يصدق ما رأت عينه، وخيّل إليه أنه في حلم مزعج.. ولكن الواقع كان أقوى من أن تعيش في ظله الأحلام طويلا، فصحا الرجل صحوة مذعورة، وانطلق مسرعا ليهرب من هذا الموقف الذي كاد يختنق فيه.
وأم حبيبة هذه على شظف العيش الذي كانت تنعم في ظله بهناءة الروح، وروح النفس- لم تر أن تنعم وحدها بهذه النعمة العظيمة التي تجدها في رحاب رسول الله، وألا يكون لأحتها «رملة» بنت أبى سفيان حظ من هذا الخير الوفير، فتعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتزوج أختها، فتقول:
يا رسول الله.. هل لك في أختى بنت أبى سفيان؟ فيقول الرسول الكريم:
«أفعل ماذا؟» فتقول: تتزوجها! فيقول- صلوات الله وسلامه عليه:
«أو تحبين؟» فتقول: «لست بمخلية «1» وأحبّ من يشاركنى في الخير أختى!» فيجيبها الرسول الكريم: «فإنها لا تحلّ لى» والمثل في أم المؤمنين «حبيبة» بنت أبى سفيان يغنينا عن كثير من الأمثلة التي نجدها في سيرة أزواج النبي- رضى الله عنهن- وما بلغ بهن زهدهن في متاع الحياة الدنيا، وترفعهن عن زخارفها وزينتها، من مكانة لم تكن إلا للمصطفيات
__________
(1) أي أنها لا تخلى مكانها ليتزوج النبي بأختها، حيث يحرم الجمع بين الأختين.(11/690)
من عباد الله- إذا كانت أم حبيبة بنت سيد قريش، وصاحب غيرها ونفيرها ...
فليس بصحّ بعد هذا أن يسمع لقول يقال بأن أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- شكون يوما من ضيق العيش في جناب الرسول، وأن واحدة منهن مدت عينها إلى شىء وراء هذا العالم الروحي الذي كانت تعيش فيه، وتجد منه ما يملأ عليها وجودها سعادة ورضا..
وعلى هذا نستطيع أن ننظر في الآيات السابقة، من غير أن نقف على أسباب النزول التي قيل إنها لا بست نزولها، وحسبنا أن نأخذ بعض ما يعطيه منطوق هذه الآيات من دلالات، وما لهذه الدلالات من علاقة بالآيات السابقة أو اللاحقة لها..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» - هو خطاب للنبىّ، وأمر له من ربه، أن يلقى نساءه بهذا القول الذي أمره ربه أن يلقاهن به، وأن يعرف رأيهن فيه، وموقفهن منه: «إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» .. إنه تخيير لهن من الرسول- بأمر ربه- بين أن يطلق الرسول سراحهن ويمتعهن متعة المطلقات، لتأخذ كل واحدة منهن حظها الذي تقدر عليه من متاع الحياة الدنيا خارج بيت النبوة، وبين أن يرضين الحياة مع رسول الله، على تلك الحال التي هن فيها..
فى بيت النبي!(11/691)
وفي هذا التخيير دلالة واضحة، وإشارة صريحة إلى ما ينبغى أن تقوم عليه الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة.. فليس للرجل أن يحمل المرأة على الحياة معه، وهى متكرهة لهذه الحياة، غير راغبة فيها، حتى ولو كانت تلك الحياة على أعلى مستوى من الكمال والإحسان.. فأيّا ما كان واقع الأمر في الحياة الزوجية، فإن ذلك لا يحرم المرأة حقها في اختيار الحياة التي ترضاها لنفسها، وتجد فيها ما تستريح له، ولو كان على غير جادة الطريق.. إنها كائن رشيد يحمل أمانة التكليف، ويتلقى جزاء ما يعمل من خير أو شر.. إن المرأة كالرجل فى حمل التكليف، وفي الثواب والعقاب، وإن في إمساكها في بيت الزوجية على غير ما تريد، حجرا على إرادتها، واعتداء على إنسانيتها..
ولو أنه كان من تدبير الشريعة الإسلامية، أن تجعل للرجل سلطانا مطلقا على المرأة يمسكها به في بيت الزوجية، من غير رضاها- لكان أولى الناس جميعا بذلك، هو رسول الله- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- فإنه لن تجد المرأة أبدا ظلا كهذا الظل الطيب الكريم، تأوى إليه، وتغذّى فيه إنسانيتها بأنوار السماء، وتعطر منه روحها بأنفاس النبوة وكمالاتها..
إن في إلزام المرأة وقهرها أن تحيا في هذا الوضع الكريم في بيت النبوة، هو خير محض لها، وإحسان عظيم إليها، وربح خالص لا شك فيه لها.. ومع هذا، فإن الله سبحانه أمر رسوله الكريم، بتخيير نسائه، وإعطائهن هذا الحق الذي لهن، والذي ربما كان يمنعهن الدين ومقام الرسول في نفوسهن، من النظر إليه، أو التفكير فيه! فجاء هذا العرض وذلك التخيير، أمرا من السماء، يرفع عنهن الحرج، ويفسح لهن الطريق إلى ما يردن.
وطبيعى أن يكون هذا موقف الإسلام من المرأة، ومن تحرير مشاعرها(11/692)
من كل خوف، وإخلاء وجدانها من كل قيد، فى الصلة التي تقوم بينها وبين الرجل ...
وهذا التحرير لإرادة المرأة، وإعطائها الحق في الإمساك بعقد الحياة الزوجية أو نقضها. فوق أنه اعتراف بحق الجانب الإنسانى في المرأة، وحراسة من كل عارض يعرض له- فى الوقت نفسه- هو اعتراف ضمنى بقداسة الرابطة الزوجية، ورفعها إلى مستوى العقيدة الدينية.. سواء بسواء..
فالعلاقة التي تقيمها الشريعة الإسلامية بين الزوجين علاقة مقدّسة، لها حلالها، ولها خطرها، فى بناء المجتمع، وفي تماسك وحداته. إنها علاقة نفوس، واتصال أرواح، وارتباط مشاعر، وتلاقى قلوب.. ولن يكون ذلك على كماله وتمامه، أو على شىء من الكمال والتمام، إذا لا بسه شىء من القهر أو الإكراه، أو الحرج..
والشريعة الإسلامية، التي تأبى أن يستجيب لها أحد بغير رضاه، أو يدخل إليها داخل عن طريق القهر والقسر. حتى ليقول الله سبحانه، لنبيه الكريم: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (256 البقرة) ويقول له: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .. ويقول له: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (22: الغاشية) ويقول له: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) - هذه الشريعة التي تقف هذا الموقف من دعوتها، ليس غريبا عليها أن تقف هذا الموقف من المرأة، ومن إمساكها على الحياة الزوجية..
ولا ندرى كيف أخذت المرأة هذا الموضع الذليل المهين في الأسرة الإسلامية، وفي علاقتها بالرجل، حتى لقد كادت- فى وقت ما- تتحول إلى متاع من أمتعة الرجل.. فيمسكها كارهة له، بل ويمسكها وهو كاره(11/693)
لها.. كيدا، وإعناتا!! ولا ندرى من أين جاءت تلك القوانين المعنونة بعنوان الدين، تحكم على المرأة بالطاعة، وتدخلها بالقوة القاهرة هذا البيت البدعىّ المعروف ببيت الطاعة؟ وأية طاعة تلك التي تقوم على سلطان القانون، وضربات السياط؟ وهل لسلطان القانون- أي قانون- أن يقيم في النفوس ولاء، وفي القلوب حبا ومودة ورحمة؟ والحياة الزوجية، فى شريعة الإسلام، إنما ملاكها الرحمة والمودة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) لقد فهم الطلاق في الإسلام، بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة- على أنه حق مطلق للزوج، وهو فهم خطأ.. فللطلاق دواع وأسباب إذا لم تجتمع له، كان عملا عدوانيا، يؤثّمه الإسلام، ويبغض مرتكبه.. إنه رخصة لا تباح إلا عند الضرورة، ومحظور لا يحل إلا عند الحرج، وفي هذا يقول الرسول الكريم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .. فهو حلال بغيض، لا يستعمل إلا بقدر ما يدفع الضرر، ويرفع الحرج.. تماما كحلّ الميتة ولحم الخنزير، عند الاضطرار..
وعن هذا الفهم الخاطئ للطلاق، قام مفهوم آخر، هو خطأ أيضا، لأن ما بنى على الخطأ خطأ..
وهذا المفهوم، هو أنه ليس للمرأة في ربط الحياة الزوجية أو حلّها أي شىء! إن الأمر كله في يد الرجل.. إن شاء أبقى على الحياة الزوجية، وإن شاء قطعها..
ولو نظر ناظر إلى الشريعة الإسلامية من خلال هذا المفهوم الخاطئ(11/694)
للطلاق، وما تفرع منه، لساء ظنه بها، ولاتهم الإسلام في عدالة أحكامه، وإنسانية تشريعه..
والحق أن الإسلام قطع على الناس وساوس الظنون به، وأخرس ألسنة الذين يتهمونه في عدالة أحكامه، وإنسانية تشريعه، فى أي موقع من مواقع الحياة، سواء بين المرأة والرجل، أو بين الناس والناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين..
أتريد لهذا شاهدا، فيما بين المرأة والرجل؟.
استمع إلى قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» (128- 130: النساء) .
فالقضية في هذه الآيات الثلاث، هى قضية المرأة، والشأن الأول فيها هو شأن المرأة..
إن المرأة هنا، قلقة في بيت الزوجية، لا تجد سكينة النفس، ولا أنس الروح.. سواء أكان ذلك الشعور ناجما عن سوء تقديرها وتفكيرها، أو واردا عليها من سوء تصرف الرجل معها وسوء عشرته.. إن الأمر سواء..
فهى- على أي حال- غير مستريحة إلى زوجها، وغير مطمئنة إلى الحياة معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «خافَتْ مِنْ بَعْلِها» .. فالخوف هنا، هو الشعور بالقلق، وعدم الاستقرار والاطمئنان.. وفي قوله تعالى: «نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» ما يكشف عن وارد هذا الخوف، الذي تجده المرأة، وهو(11/695)
إما أن يكون عن نشوز منها هى، ونفور من الحياة الزوجية، وإما أن يكون من إعراض الرجل عنها، ونفوره منها..
هذه هى صورة تلك الحياة الزوجية التي تشير إليها الآيات، وهذا هو إحساس المرأة بها، وشعورها نحوها.. أما شعور الرجل وإحساسه هنا، فلا معتبر لهما، لأن في يده ما يحسم به أمره، ويأخذ به الوضع الذي يستريح إليه، وهو «الطلاق» ! ..
والسؤال هنا: ماذا تملك المرأة إزاء هذا الشعور الذي تعيش به في بيت الزوجية؟ وهل أعطاها الإسلام من الحق ما تملك به التصرف بمقتضى الشعور؟.
ونعم، نعم.. فإن الآيات صريحة في أن تأخذ المرأة الطريق الذي تختاره، وأن لها أن تفارق زوجها، إن لم يكن برضاه، فلولىّ الأمر أن يطلقها عليه.. ففى قوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» فهذا التفرق هو عن رغبة المرأة التي عرضت الآيات مشاعرها، وما تجد من ضيق، وقلق، وخوف..!
وليس الذي حملته الآيات من علاج للأمر قبل حسمه بين الزوجين بالطلاق، وذلك بما يجرى بينهما من مناصحة ومصالحة، واستدعاء لمشاعر الخير فيهما- ليس هذا إلا حرصا على هذه الرابطة المقدسة، وإبقاء على مشاعر المودة والرحمة التي من شأنها أن تكون على أتم صورة وأعدلها بين الزوجين ...
وقد جاءت السنة المطهرة شارحة عمليا لما جاء به القرآن الكريم، فى هذا الأمر.. فأعطى النبي الكريم المرأة حقها في الطلاق من زوجها، إذا هى لم تردّ الحياة معه..(11/696)
روى أن «جميلة» امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت يا رسول الله: لا أجد في ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقى مجاراته» فسألها الرسول الكريم، هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها.. إذا هو طلقها؟
فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها..
وبهذا التدبير الحكيم تتعادل كفتا الميزان للحياة الزوجية، وبهذا التعادل، يتم التوافق، والتواد، ويجد كل من الزوجين معنى السكن الذي أشار إليه قوله تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) .
هذا، والمناسبة الداعية إلى هذا الموقف الذي وقفه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أزواجه، وخيّرهنّ فيه بين الحياة معه، إيثارا لله ورسوله، وبين الحياة المطلقة من رباط الزوجية- المناسبة الداعية إلى هذا هو ما فتح الله على النبي والمسلمين في غزوة الخندق، بما ساق إليهم من غنائم اليهود، من بنى قريظة وبنى النضير، بعد أن ردّ الله عنهم الأحزاب خائبين خاسرين..
وهنا أمام هذه الغنائم الكثيرة، تتحرك شهوات النفوس، وتتدافع الرغبات، وتتطلع العيون.. إنه المال الكثير، من جهة، والحرمان الشديد، من جهة أخرى.. وإنها الفتنة، تطل برأسها على الناس، وتلقاهم على جوع بالغ، وحرمان طويل.. والناس هم الناس.. أيّا كانوا.. فلن تموت فيهم توازع الحياة، وحب البقاء، ولن يختفى من كيانهم ما ركب في فطرتهم من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث!!(11/697)
وإذا كان الإسلام بتعاليمه، وبهدى رسوله، قد استطاع أن يقهر هذه الشهوات في النفوس، ويخفت صوت الأهواء الداعية إليها، فإنه لن يستطيع- وما كان من همّه أن يفعل- اقتلاع هذه الشهوات من جذورها، لأنه إنما يعمل بتعاليمه، وبهدى رسوله، فى حقل الإنسانية، وفي محيط الإنسان باعتباره كائنا بشريّا، من خصائصه أن يرغب، ويشتهى..
لهذا، كان من تدبير الدعوة الإسلامية أن لقيت المسلمين على أول الطريق، وهم في مواجهة هذه الفتنة التي وردت عليهم من أموال اليهود، وما ورّثهم الله إياه من ديارهم وأرضهم، وذراريهم ونسائهم.. وكان من تدبير الإسلام الحكيم أيضا، أن يكون النبىّ صلى الله عليه وسلم أول من يلقى هذه الدعوة، وأول من يأخذ نفسه بها، فى نفسه وفي أهله.. فكان أن تلقّى أمر ربه بتخيير نسائه في الحياة معه على ما ألفن من شظف العيش في بيته، وألا ينتظرن شيئا من تغيير هذه الحال، مهما كثرت الأموال التي تساق إلى المسلمين من غنائم الحرب، سواء ما كان منهما حالا، أو مستقبلا! فإن هن رضين هذا، فذلك مما يجزيهن الله عليه الثواب العظيم، والأجر الكبير.. وإلّا فلهن أن يطلبن سعة العيش، ومتعة الحياة الدنيا في غير بيت النبىّ.. أما بيت النبىّ فلا تجتمع فيه النبوّة، ومتاع الحياة الدنيا..!
وهكذا تلقّى المسلمون جميعا هذا الدرس الحكيم، الذي أشرف عليهم من أعلى قمة في الحياة، فلم يبق بيت من بيوتهم إلا استنار بشعاعاته، واستدفأ بضوئه! فخنست في النفوس تطلعاتها، وانجحرت في الصدور وساوسها، ورأى المسلمون- رجالا ونساء- أنهم مطالبون- وإن لم يطلب إليهم- بما أخذ به النبىّ نفسه وأهله- إذ كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أسوتهم(11/698)
ومثلهم الأعلى الذي يتمثلونه.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى، قبل هذه الآيات، وكأنه مقدمة لها: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» !.
والأسوة هنا إن لم يفرضها الدين، أوجبها العرف، وقضى به واقع الحياة فى الناس.. فالنبىّ، بمكانه الديني، هو رأس المسلمين، وسيّدهم، وإمامهم الذي ينفرد بمقام السيادة والإمامة، وولاية الأمر فيهم..
والنبىّ بمكانه الاجتماعى من المسلمين، هو قائدهم، وملكهم، والمتفرّد بالسلطان عليهم..
ومن هنا لم يكن لأىّ من المسلمين، بل ومن المنافقين ومن في قلوبهم مرض أن يجد سبيلا إلى غير الأسوة بالنبيّ في هذا المال الحاضر بين أيديهم، أو فيما سيقع لأيديهم منه في مستقبل الأيام..
فالمؤمنون حقا يجدون في محمد النبىّ الأسوة في الحياة الطيبة الكريمة العزوف عن زخرف الحياة ومتاعها..
والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، يرون في محمد، القائد، والملك والسلطان، وقد نقض يديه من هذه الغنائم، فلم يمدّ يده إلى شىء منها هو أو أهل بيته، فلا يجرؤ أحد منهم أن يمدّ بصره إلى أكثر مما امتدّ إليه بصر الرسول إزاء هذا المال..
موقف لم يكن منه بدّ، وتدبير لم يكن عنه معدّى إلى سواه، إذا كان هذا الدين الذي جاء به «محمد» دينا حقا، وكان من أمر هذا الدين أن يقيم مجتمعا إنسانيا على تعاليمه، ويمسك به على شريعته..
وتعالت حكمة الله، وجلّ جلاله، وتبارك شأنه..!
يقع هذا التدبير في بيئة كان الانتهاب، والسلب والخطف شريعة سائدة(11/699)
فى كل أحيائها.. ثم يعرض على الأنظار فيها هذا المال الكثير الذي اكتنزه اليهود خلال قرون طويلة، وجمعوه من كل وجه- فلا تطمح إليه نفس، ولا تمتد إليه عين أو يد!! إنه انقلاب مزلزل في البيئة العربية.. وإنه لأكثر من انقلاب أن يبدأ القائد بنفسه، ويأخذها بهذا الحكم، ثم يدع للمسلمين أن يأخذوا حظوظهم من هذا المال، وأن يقتسموه بينهم.. وقد كان المتوقع أن يدور الأمر على عكس هذا، فيستأثر القائد بكل نفيس غال من هذا المغنم، جريا على ما اعتاد العرب فى غاراتهم على أعدائهم.. فلقائد الجماعة المنتصرة الغانمة أن يصطفى ما يشاء، من الغنيمة قبل قسمتها، وأن يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ثم يذهب بالربع مما بقي، ويدع ثلاثة الأرباع تقسم بين المحاربين.. وفي هذا يقول شاعرهم مخاطبا قائد الحرب:
لك المرباع فينا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
وإذا لم تكن كتب السيرة قد التفتت كثيرا إلى هذا الحدث، ولم ترصد آثاره في البيئة العربية كلها- فإن الذي لا شك فيه أنه أثار هزة عنيفة فى المجتمع العربي كله، مسلمين، وغير مسلمين.. والذي لا نشك فيه كذلك أنه أدار تفكير الناس جميعا إلى الإسلام، وإلى الغاية التي يقصد إليها، وأن كثيرا ممن لم يدخلوا في الإسلام، والذين كانوا على غيرة وحسد للنبىّ أن يعلو عليهم بسلطان، وأن يستطيل عليهم بدعوته وما يجمع لها من أنصار- كثير من هؤلاء قد استخزوا أمام أنفسهم، وأطفئوا بأيديهم نيران الحقد والحسد على الدين الجديد، وعلى صاحب الدعوة به فيهم.. وإن الذي يمدّ بصره إلى ما بعد هذا الحدث ليرى أن الطريق مفتوح إلى فتح مكة وإلى دخول الناس في دين الله أفواجا، فقد كان لهذا الحدث أثره العظيم في كسر حدّة العداوة والعناد للنبىّ(11/700)
ولدعوته، فى نفوس المشركين من قريش! إذ أن أكثر ما كان يحجز المشركين عن الاستجابة للنبىّ، هو نفورهم وإباؤهم من أن يقعوا تحت يد سلطان، يعلو عليهم، ويستبدّ بوجودهم، فلما جاءت الأحداث تخبر بأن محمدا ليس ملكا ولا أميرا، ولا طالب ملك أو إمارة- عرف المنكرون أن دعوى النبوة التي يدّعيها محمد، هى دعوة حق، لا شك فيه..
قوله تعالى:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .
تجىء هذه الآية، بعد تخيير النبىّ أزواجه.. وقد اخترن الله ورسوله، ورضين الحياة في ظلال النبوة.. فهن الآن- وبعد هذا الاختبار العملي لما في قلوبهن من إيمان- أهل لاحتمال والتبعات الملقاة على من يخالط النبي ويعاشره.. وإن فهن على غير ما عليه النساء.. إنهن نساء النبي، وعليهن من الواجبات فوق ما على النساء لأزواجهن.. وأنه إذا كان على المرأة أن ترعى حقوق الزوجية، وأن تحفظ حرماتها، فإن على نساء النبي أن يرعين هذه الحقوق رعاية مطلقة وأن يحفظن حرماتها حفظا مبرأ من كل شائبة، بعيدا عن كل شبهة.. وألا فليسمعن كلمة الله إليهن:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .
والفاحشة: الأمر المنكر..
والمبينة: الكاشفة عن هذا المنكر..
والمراد بالفاحشة المبينة هنا، ما يخلّ بالمروءة والشرف، قولا وفعلا..(11/701)
وفي الآية إشارة إلى مقام نساء النبي، وأنهن مؤاخذات بما يعفى عنه من غيرهن.. لأنهن في موقع الهداية، وفي مطلع النور، فلا عذر لهن فيما يقوم لغيرهن من عذر.. ومن هنا كانت صغائرهن كبائر.. ومن هنا قيل: «سيئات المقربين حسنات الأبرار» .
ومضاعفة العذاب ضعفين، ليس ظلما في هذا الوضع، بل هو الجزاء المناسب للذنب، المقدور بقدره.. وإنما هو مضاعف بالنسبة لغيرهن، ممن ليس لهن هذا الوضع الذي هن فيه.. فعذاب غيرهن مراعى فيه التخفيف، فهو دون ما يستحقه الذنب، إذ كان مع غيرهن أكثر من عذر.. من جهل، أو غفلة، ونحو هذا، أما هن فلا عذر لهن..
وقد يبدو أن هذا التحذير لنساء النبي، يمكن أن يلزم منه، وقوع إتيان الفاحشة المبينة من بعضهن، كما يرى ذلك بعض المفسرين.. وهذا غير مراد من الآية الكريمة، وإنما المراد هو الإشارة إلى هذا المقام الكريم الذي لهن عند الله، وعند المؤمنين.. وأن لهن مكانا خاصا، وحسابا خاصا..
وذلك مثل قوله تعالى للنبى الكريم: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) . وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. (116: الأنعام) وهذا ما لا يكون من النبي أبدا، كذلك لا يكون من زوجان أن يأتين بفاحشة أبدا، وهنّ في حمى النبوّة، وفي حراسة السماء التي تظل بيت النبىّ..(11/702)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
الآيات: (31- 35) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» .
هو مقابل قوله تعالى في الآية السابقة: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» .(11/703)
فهذا مقام، وذاك مقام.. هذا في مقام الإحسان، وذاك في مقام الإساءة..
وكما أن زلّة أهل الإحسان كبيرة ومؤاخذتهم عليها أكبر، فإن إحسانهم عظيم وجزاءهم عليه أعظم..
والقنوت: الولاء والخشوع..
وفي عطف الرسول على الله سبحانه وتعالى، تكريم عظيم للرسول، وإشارة إلى مقامه العظيم عند ربه..
وقوله تعالى: «وَتَعْمَلْ صالِحاً» معطوف على قوله تعالى: «يَقْنُتْ» ..
وفي هذا إشارة إلى أن القنوت- وهو الولاء والخشوع- من عمل القلب.. وأنه لكى يكون لهذا القنوت أثر، ينبغى أن يخرج إلى مجال العمل، فالعمل هو المحكّ الذي يظهر عليه ما في القلب من مشاعر ومعتقدات..
وإيتاء الأجر مرتين، هو مضاعفة الثواب لأهل الإحسان، فضلا من فضل الله، وإحسانا من إحسانه إلى أهل ودّه.. «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (261: البقرة) قوله تعالى:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» تكشف الآية هنا عن السبب الذي من أجله كان حساب نساء النبي في مقام الإحسان أو الإساءة على هذا الوجه الذي أشارت إليه الآيات السابقة، وذلك أنهن لسن مثل غيرهن من النساء.. إنهن نساء النبي.. قد فرض عليهن أن يزهدن في الحياة الدنيا ومتاعها، إذا شئن أن يحسبن في نساء النبي.(11/704)
ثم جعل حسابهن في مقام الإحسان أو الإساءة، على غير ما يقوم عليه حساب النساء جميعا..
- وفي قوله تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ» استدعاء لهن بتلك الصفة الرفيعة التي حلّاهن الله سبحانه وتعالى بها في بيت النبوة، وتذكير لهن بتلك النعمة العظيمة التي لبسنها بإضافتهن إلى النبي..
- وقوله تعالى: «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» .. نفى الشّبه عن نساء النبي هنا هو في المقام الذي حللنه في المسلمين.. فهن في هذا المقام أمهات المؤمنين، لهن ما للأمهات عند الأبناء من توقير وتقدير، فهن بهذا الوضع لسن كمطلق النساء، وعمومهن، بل إن لهن خصوصية لا يشاركهن فيها غيرهن من النساء- وقوله تعالى: «إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» الخضوع بالقول مضغ الكلام، ولينه، تدلّلا.. وهذا من المرأة أشبه يكشف العورة، وإبداء الزينة، إذ كان الصوت من بعض مفاتنها.. وصوت المرأة إذا كان على طبيعته لا شىء فيه، ولكن التصنع هو الذي يجعل من صوتها داعيا يدعو إلى الريبة، وإثارة شهوة الرجال.. ولهذا تغزل الشعراء بمثل هذا الصوت الذي يجىء من المرأة عن دلال وصنعة..
ويعدّ المتنبي مضغ الكلام ولينه من بدع الحضارة الذي لا يعجبه فيقول:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
وقوله تعالى: «وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» أي تحدثن حديثا، واضحا صريحا، بعيدا عن التكليف والصنعة، مجانبا، الغمز والإشارة..
فهذا أدب يباعد بين نساء النبي، وبين أن يطوف بهن طائف من الريب، وهو أدب ينبغى أن يكون لنساء المؤمنين جميعا.. فلهن في نساء النبي أسوة حسنة..(11/705)
قوله تعالى:
«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .
قرن في بيوتكن: أي أقمن في بيوتكن، والزمن الحياة فيها.. وهو من القرار والسكن، وأصله: اقررن في بيوتكن.
والتبرج: التهتك، وإظهار الزينة..
والجاهلية الأولى: أي الجاهلية العريقة في الجهل..
والآية، أمر لنساء النبي، أن يلزمن بيوتهن، وألا يغشين المجالس والطرقات.. إذ أن بيوتهن، هى مساجدهن التي رضين أن يعشن فيها بعيدات عن صخب الدنيا، وعن زخرفها ومتاعها..
وهذا القرار في البيوت، لنساء النبي- أمر طبيعى، بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.. فما لهن بعد هذا مطلب يطلبنه خارج بيوتهن، من لهو أو تجارة أو نحوها.. ولهذا كانت الدعوة إليهن بالقرار في البيوت مقترنة بالدعوة بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله.. فهذا هو دأبهن في الحياة.. الاتجاه إلى الله، والعمل لما يرضى الله، ورسول الله..
- وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .
أي إن هذا لذى يدعى إليه نساء النبي من أدب السماء، هو لما يريد الله سبحانه وتعالى لهن من طهر، يتناسب مع مقامهن، ويتلاقى مع انتسابهن إلى النبي..(11/706)
«وأَهْلَ الْبَيْتِ» منادى، وفي النداء تذكير لنساء النبي بهذا النسب الكريم الذي ينتسبن إليه، وأنهن أهل بيت النبي.
- وقوله تعالى: «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» توكيد لهذا الطهر الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يضفيه على أهل بيت النبي.. فهو طهر خالص، لا تعلق به شائبة من دنس، أو رجس..
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» .
آيات الله، هى القرآن الكريم، والحكمة: هى السنة المطهرة.
والمراد بذكر آيات الله والحكمة، هو تذكرها، والعمل بها.. ففى ذكر آيات الله، وسنة الرسول، تذكير بما فيهما من أحكام وآداب.. وفي هذا التذكير حثّ على العمل، وتحرّ لما يرضى الله ورسوله، من قول أو فعل!.
وقوله تعالى: «بُيُوتِكُنَّ» إشارة إلى أن بيوت نساء النبي هى الآفاق التي تطلع منها آيات الله، وسنة الرسول.. إذ كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- على تلاوة دائمة لآيات الله آناء الليل أو النهار، فى أي بيت من بيوت نسائه..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» - دعوة إلى ما ينبغى أن يصحب الذاكر لآيات الله وسنة الرسول من يقظة الوجدان، واستجماع المشاعر والمدارك لاستقبال ما يتلى من آيات الله والحكمة، فذلك هو الذي يمنح القدرة على استشفاف بعض ما ضمّت عليه كلمات الله، وهدى رسوله، من حكمة وموعظة، وعلى التعرف على بعض ما حملت من علم ومعرفة..(11/707)
- «إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» .. ومن لطف الله وخبرته يقبس عباد الله المقربون، المكرمون..
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» ..
كانت الآيات السابقة دعوة لنساء النبي من الله سبحانه وتعالى، إلى ما يحفظ عليهن مقامهن الكريم عند الله، ومنزلتهن العالية في نفوس المسلمين..
وقد وعدهن الله سبحانه وتعالى على ذلك أجرا عظيما..
ورحمة الله الواسعة وفضله العظيم، يسعان الوجود كله، وينالان البرّ والفاجر من عباده.. فكيف بالمؤمنين الذين استجابوا الله، وأخلصوا دينهم وولاءهم له؟ إن لهم مزيدا من الرحمة، وأضعافا مضاعفة من الفضل والإحسان..
وفي الآية الكريمة تسوية بين الرجل والمرأة في مقام التكليف والجزاء..
وهذا ما يجعل للمرأة وجودها الكامل مع الرجل، إذا ارتبطا برباط الزوجية..
وإلا فإن أي حيف يدخل على وجودها- بحكم الشريعة- يحلها من الالتزام بأحكام هذه الشريعة وآدابها، إذ كانت- والأمر كذلك- غير- مالكة أمرها على الوجه الذي تحقق فيه ذاتيتها، وتحرر فيه إرادتها، وتمضى به مشيتها.. وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.. الآية» .(11/708)
وقد ذكرت الآية هنا عشرة أوصاف للرجال والنساء، من حققها من أىّ من الرجال والنساء، استحق ما وعد الله به من المغفرة والأجر العظيم..
ويلقانا مع الآية الكريمة سؤالان:
أولهما: هل اجتماع هذه الأوصاف شرط في تلقّى الجزاء الذي وعد الله سبحانه وتعالى به، فى هذه الآية، أم أنه يكفى أن يحقق المرء وصفا واحدا منها، فيكون أهلا لتلقى هذا الجزاء؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلم تعددت هذه الأوصاف إذا كان واحد منها مغنيا عن غيره؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن أي وصف من هذه الأوصاف إذا حققه المرء تحقيقا كاملا، كان في الوقت نفسه، محققا، جامعا للأوصاف الأخرى كلها..
فمثلا.. المسلم.. إذا حقق معنى الإسلام على تمامه وكماله، كان مؤمنا، وكان قانتا، وكان صادقا، وكان صابرا، وخاشعا، ومتصدقا، وصائما، وحافظا لفرجه، وذاكرا لله كثيرا.. وهكذا.. المؤمن.. يكون مسلما، ويكون قانتا، وصادقا، وصابرا، وخاشعا، ومتصدقا، وصائما، وحافظا لفرجه، وذاكرا لله كثيرا..
ومثل هذا كل وصف تحققه المرء من هذه الأوصاف على وجهه كاملا، فإنه تتحقق معه الأوصاف التسعة الأخرى.. لأن كماله إنما يقوم على هذه الأوصاف كلها..
هذا هو الأصل في كل وصف من تلك الأوصاف، إذا تم وكمل! وتمام أي وصف من تلك الأوصاف، وكماله، يكاد يكون أمرا غير ممكن إلا في أفراد قلة من عباد الله المصطفين المكرمين.. فقد يكون المرء(11/709)
مسلما، ومع هذا فلن يكون مؤمنا، أوقاتنا، أو صادقا.. إلى غير ذلك من الصفات الأخرى.. إذ الإسلام في أدنى درجاته، هو نطق باللسان بشهادة أن لا إله إلا الله.. ثم هو في أعلى درجاته جامع لتلك الأوصاف المذكورة كلها.. وهذا ما يشير إليه. قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» (14: الحجرات) فالإسلام هنا قولة باللسان، لا أكثر ولا أقلّ.. وتلك القولة إذا وقف بها المرء عند هذا الحدّ، فلن يكون محققا الوصف الذي لها، ومن ثمّ لن يكون مسلما بالمعنى الذي ينتظم به في هذا الموكب الكريم، الذي يجمع المؤمنين، القانتين، الصادقين..
إلى آخر ما ينتظمه هذا الموكب..
وكذلك الإيمان.. هو في أدنى درجاته إقرار باللسان، وتصديق بالقلب ثم يرتفع هذا الإيمان درجات، ويعلو منازل، بما يصحبه من أعمال، كالصدق والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم.. إلى آخر تلك الأوصاف..
وقل مثل ذلك، فى الصدق.. فقد يكون الصدق طبيعة، لا تستند إلى إيمان أو إسلام.. وكذلك الصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم، وحفظ الفرج.. فقد يصدق الإنسان، مروءة وترفعا.. وقد يصبر شجاعة وجلدا.. وقد يخشع تواضعا وتألّفا.. وقد يتصدق، سخاء وكرما.. وقد يصوم، رياضة للروح أو صحة للبدن.. وقد يحفظ فرجه تعففا واستعلاء.. قد يفعل كلّ هذا غير ناظر إلى الله، وغير مرتبط بشريعة، أو دين.. إنه يعمل لحساب نفسه.. فلا يقام لشىء من ذلك وزن عند الله، الذي لا يقبل عملا من عامل إلا إذا كان مقصودا به وجهه، وامتثال أمره.. ثم قد يذكر الله(11/710)
ذكرا كثيرا بلسانه، دون أن يتصل شىء من هذا الذكر بعقله أو قلبه، ودون أن يظهر لذلك أثر في قوله أو فعله..
وأوضح من هذا أن هذه الأوصاف يغذّى بعضها بعضا، ويمسك بعضها ببعض، فتبدو كأنها صفة واحدة، إذا نظر إليها باعتبار، وتبدو كأنها أوصاف إذا نظر إليها باعتبار آخر.. إنها أشبه بالجسد الحىّ.. إذا نظرت إليه مجملا وجدت ذلك الإنسان، المشخّص بذاته، وصفاته، وإذا نظرت إليه مفصلا، وجدته ذلك الإنسان المشخّص بذاته وصفاته.. وملاك الحياة في هذا الجسد هو القلب، كما أن ملاك تلك الأوصاف، هو الإيمان المستقر فى هذا القلب! والسؤال الثاني، الذي يلقانا من هذه الآية الكريمة، هو: هل هذا الجمع لتلك الصفات منظور فيه إلى شىء أكثر من مجرد الجمع والحصر، دون مراعاة للترتيب، والتقديم والتأخير؟ وإذا كان هناك نظر إلى أكثر من مجرّد الجمع والحصر، فهل هذا الترتيب تصاعدى أم تنازلى؟
والجواب- والله أعلم- أن جمع هذه الأوصاف إنما هو من تدبير الحكيم العليم، وتعالت حكمة الله، وجلّ علمه عن أن يجىء تدبير من تدبير الله عن غير حكمة وعلم..!
فالإسلام- الذي جاء بدءا- هو أول درجات السّلّم، الذي يرقى فيه المرء إلى منازل الشريعة، وهو المدخل، الذي يدخل منه إلى دين الله..
والإيمان.. هو العروج بالإسلام إلى موطنه من القلب.
والقنوت.. هو استجابة القلب، وتقبله لهذا الإيمان الذي استقر فيه واطمأن به.(11/711)
والصدق.. هو نبتة نبتت من بذرة الإيمان في القلب..
والصبر.. هو الغذاء الذي تغتذى منه تلك النبتة، حتى تقاوم الآفات التي تعرض لها، وحتى تعطى الثمر المرجوّ منها..
والخشوع- وهو الولاء لله، والامتثال لأمره- هو أول ما تفتّح من زهر بيد الصبر..
هذا ويلاحظ أن هذه الأوصاف الستة إنما يكتسبها الإنسان من داخل نفسه، وفي حدود ذاته، فيما بين اللسان والقلب.. وهى في مجموعها، الرصيد المودع في قلب الإنسان من قوى الإيمان، ومنها ينفق فيما يعالج من شئون يستكمل بها تلك الأوصاف العشرة، ويوفّى منها مطلوب دينه وشريعته، منه..
فالصوم. والتصدق، وحفظ الفرج، وذكر الله.. هى أعمال تستلزم سلطان القلب، وخدمة الجوارح..
وبهذا نرى أن هذه الصفات بناء متكامل، يقوم بعضه على بعض، ويستند التّالى منه إلى السابق، بمعنى أنّ هذا الترتيب الذي جاءت عليه هو أمر لازم، لكى يتألف منها هذا النغم المتساوق الذي يقيم في كيان الإنسان إيمانا صحيحا، مثمرا..
وليس يعنى هذا، أن الإنسان يلقى هذه الصفات واحدة واحدة، وأنه كلّما حصل على صفة منها مدّ يده، أو فتح قلبه، إلى صفة أخرى.. كلا، وإنما الذي يعنيه هذا الجمع، وهذا الترتيب معا، هو أن المؤمن الجدير بهذا الوصف، المستحق للجزاء الموعود به المؤمنون من ربّهم، هو الذي يحقق هذه الصفات، فيكون مسلما، مؤمنا، قانتا.. إلى آخر الأوصاف العشرة.. فليست(11/712)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
هذه الصفات، بمعزل عن بعضها، وإنما هى- كما قلنا- صفة واحدة مجملة، أو صفات عشر مفصلة، وهى في إجمالها وتفصيلها على سواء.
ولا ننظر كثيرا إلى التفاضل بين هذه الصفات، وإلى رجحان بعضها على بعض، إذ كانت كلها لازمة في بناء الإيمان السّوىّ في كيان المؤمن، تماما كبناء الجسد، كل عضو فيه- وإن قلّ شأنه- ضرورى لهذا الجسد، وفي فقده نقص وعيب.
ومع هذا، فلا بد لنا من نظرة إلى أول هذه الأوصاف، وهو الإسلام، وإلى آخرها وهو ذكر الله..
فالإسلام- كما قلنا- هو أول خطوة يدخل بها الإنسان في دين الله..
وذكر الله كثيرا، هو القمّة التي يرقى إليها هذا الذي دخل بالإسلام في دين الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (45: العنكبوت) والمراد بذكر الله هو ملء القلب باستحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما لله من صفات الكمال والجلال.. فبهذا الذكر يكون المؤمن دائما في أنس من ربّه، وقرب من جلاله وعظمته.. فلا يعمل إلا تحت هذا الشعور المراقب لله، والخائف من عقابه، الطامع في رحمته.
وهكذا يستطيع الناظر في هذه الأوصاف أن يرى منها رؤى لا حصر لها، من آيات الله وشواهد الإعجاز في آيات الله وكلماته..
الآيات: (36- 40) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)(11/713)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة ذكرت الأوصاف التي تجمع صفات المؤمن الكامل الإيمان..
ومن شأن الإيمان الصحيح أن يقيم في كيان صاحبه ولاء خالصا لله، الذي آمن به، ولرسوله، الذي بلّغه رسالة ربّه، وشريعة دينه.. وإنه لا إيمان مطلقا، إذا لم يكن هذا الولاء ركيزة له، وأساسا يقوم عليه..
فهذه الآية إذن تعقيب على تلك الأوصاف العشرة السابقة، وإشارة إلى أن تلك الصفات، لا محصّل لها- مفردة ومجتمعة- إلا إذا قامت في ظلّ(11/714)
الولاء لله ورسوله، والتسليم المطلق لأمر الله ورسوله.
فإذا قضى الله ورسوله أمرا، لم يكن لمؤمن أن ينازع في هذا الأمر، أو يتوقف في إمضائه، أو يبدّل في صفته.. وإلّا فهو ليس من الإيمان في شىء.. إنه حينئذ يكون عاصيا لله ولرسول الله، خارجا عن سلطانهما..
«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» .
أما مناسبة الآية الكريمة لما بعدها فهو ترشيح لما ستقرره الآيات بعدها من مقررات، وبما تقضى به من أحكام لله ولرسول الله، وأن على المؤمنين تلقى هذه المقررات وتلك الأحكام بما ينبغى لها، من طاعة وولاء مطلقين، من غير تعقيب أو تردّد..
فالآية في موضعها هنا، تعمل- مقدّما- على إخلاء شعور المؤمن من أية لفتة إلى غير ما يقضى به الله ورسوله من أمر.. وبهذا يستقبل المؤمن- فى ولاء وامتثال- ما تحمل إليه الآيات التالية من أمر الله ورسوله.. كما سنرى..
قوله تعالى:
«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» .
[زينب.. وقصة زواج النبىّ منها] فى هذه الآية والآيات الثلاث التي بعدها، حدث من أحداث الإسلام، غرب به وجه من وجوه الحياة الجاهلية، وانتهى به أسلوب من أساليب نظامها الاجتماعى الموروث.(11/715)
فقد كان الجاهليون يتخيّرون من يرون من أبناء غيرهم، ثم ينسبونهم إليهم نسبة الولد إلى أبيه، وقد كان هؤلاء المنتسبون إليهم بالتبني، فى حكم أبنائهم من أصلابهم، يضافون إليهم إضافة أبوة، ويرثونهم إرث الابن لأبيه..
ويحرّمون التزوج من نساء هؤلاء الأبناء تحريما مطلقا.. وقد أبطل الإسلام هذا التبنّي بقوله تعالى في أول هذه السورة: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ.. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» ..
ومن حكمة الله، أن كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم ابن بالتبنّي، هو زيد ابن حارثة.. وذلك ليكون في إبطال هذا التبنّي مثل يراه المؤمنون في النبىّ، حين يبطل نسبة زيد إليه، فلا يكون لمؤمن بعد هذا متعلّق بنسبة من كان منتسبا إليه من أبناء من غير صلبه.. وبهذا ينحسم الأمر في غير مهل أو تردد، إذ كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو أول من نفذ هذا القانون السّماوىّ، وأول من ألغى التبنّي الذي كان قائما بينه وبين أحبّ الناس إليه، زيد بن حارثة.. الذي كان يدعى زيد بن محمد، ويدعوه المسلمون زيد حبّ رسول الله.. ولو كان في هذا الأمر استثناء لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، إذ لم يكن له ولد ذكر، ولكان هذا الاستثناء من خصوصيات النبي فيما كانت له- صلوات الله وسلامه عليه من خصوصيات. وهذا يعنى أن هذا الأمر حكم واجب على كل مسلم، وأنه أمر لا يرد عليه استثناء أبدا.
بقيت مسألة تحريم الزواج من نساء الأبناء بالتبنّي.. التي كان يلزم بها الجاهليون أنفسهم، تمكينا لهذا النسب بينهم وبين أدعيائهم، وجعله على قدم المساواة في كل شىء، مع أبناء الأصلاب.(11/716)
وكان لا بدّ للقضاء على هذه العادة من مثل عملىّ يراه المسلمون في رسول الله، فيقتدون به، ولا يقع في صدورهم حرج من الخروج على هذا الإلف القديم.
ومن حكمة الله في هذا، أن كان زيد بن حارثة (متبنّى النبىّ) متزوجا من زينب بنت جحش الأسدية، وهى ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خطبها الرسول لزيد، وزوجها إياه، ولم تستطع زينب ولا أهلها مراجعة رسول الله في هذا الزواج، الذي كانت تراه زينب- ويراه أهلها معها- غبنا لها، إذ كانت ترى- ويرى أهلها معها- أنها أشرف من زيد بيتا، وأكرم نسبا.
ويتمّ الزواج، ويدخل زيد بزوجه.. ولكن لم يقع التوافق بينهما، إذ كانت زينب- كما عرفنا- تعيش مع زوجها بهذا الشعور المتعالي، وكان زوجها- إذ يجد منها هذا الشعور- يلقاها بما يحفظ عليه مروءته وأنفته كعربىّ، وبما يعطيه القوامة عليها كرجل، وكمسلم.. معا..
ولا شك أن هذا الزواج الذي لم يقم على التوافق من أول الأمر.. إنما هو تدبير من الحكيم العليم، وقد اصطنعه النبىّ بأمر من ربه، لحكمة ستكشف عنها الأيام فيما بعد..!
كان لا بد أن يمضى الأمر الإلهى في حلّ الزواج من زوجات الأبناء المتبنّين، بعد انتهاء الزوجية.. بأمر، أو بآخر..
وكان لا بد أيضا أن يكون النبىّ في هذا هو القدوة والأسوة، حتى يأخذ المسلمون بهذا الأمر، ولا يتحرجون منه.. وبهذا يقضى على عادة التبني، وما اتصل بها، فى فوريّة وحشم..
وذلك لا يتم على تلك الصورة إلا إذا كان للنبىّ متبنّى.. وقد كان..
وأن يكون هذا الابن متزوجا.. وقد كان هذا أيضا..!!(11/717)
ثم يبقى بعد ذلك أن يطلّق هذا الابن زوجه، حتى تحلّ للنبىّ بعد انقضاء عدتها.. وقد كان ذلك أيضا.. فطّلق زيد زوجه.. ثم لما انقضت عدّتها تزوّجها النبىّ! ولا نقف من هذا الزواج أكثر من أنه أمر أمر الله نبيّه به، وألزمه إياه..
فالله سبحانه هو الذي زوج النبىّ بأمره من مطلقة متبنّاه، كما يقول سبحانه:
«فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها.. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» .. فهذه هى حكمة هذا الزواج..
والذي يجب أن نقف عنده، ونطيل النظر إليه، هو «الطلاق» ..
طلاق زينب من زوجها، أو تطليق زيد لزوجه..
هل كان هذا الطلاق بأمر سماوى، تلقاه النبىّ من ربه، ثم آذن به زيدا فأطلاع فيه أمر ربه وطلق زوجه؟
هذا ما لم يكن، ولن يكون من تدبير سماوى، وفي شريعة قامت على العدل والإحسان، وعلى رفع الحرج عن الناس.. ولو كان ذلك بأمر سماوى، لكان فيه إعنات، بل وجور على حقّ إنسان لم يأت أمرا يقضى بهذا الحكم عليه، فضلا عما في ذلك من قطع لعلاقة مقدسة، بين الزوج وزوجه، كان الإسلام، وكانت شريعة الإسلام، أحرص ما يكون على توثيق الرباط القائم بين الزوجين، وعلى التماس كل الوسائل الممكنة في الناس، للحفاظ عليه، وحياطته من دواعى الوهن والانحلال..
ثم كيف يكون من حكم الشريعة، أن تجعل أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ثم تعود، فتأمر به، وتحمل الناس عليه حملا؟
هذا ما لم يكن، ولن يكون!(11/718)
فهل كان هذا الطلاق عن رغبة من رسول الله، وعن إرادة له في الزواج من زوج مولاه زيد، بعد أن رآها في حال من أحوالها، فوقعت من نفسه، كما يتخرص بذلك المتخرصون، من أهل الضلال والنفاق، ومن أهل العداوة والكيد للإسلام ورسول الإسلام؟ وكما تمضى هذه الفرية، فتقول إن زيدا حين شعر بما لزينب في نفس رسول الله، اصطنع هذه المخاصمة بينه وبين زوجه، كى يطلقها، إرضاء للنبىّ، ومسارعة إلى إيثاره بأحبّ شىء في يده!! ومن عجب أن ينخدع كثير من المفسّرين لهذه الفرية المسمومة، ويجدون لها مساغا بهذا الظاهر الذي يلوح منها، والذي يمثّل وجها من وجوه الحبّ والإيثار لرسول الله في نفوس المسلمين، وتخلّيهم له عن أحب ما يحبون ويؤثرون.. فنراهم يتأولون على هذا قوله تعالى:
«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ.. اللَّهَ.. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.. وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» ويذهبون فى تأويلهم إلى أن النبىّ- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- إذ يقول لزيد: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» إنما يقولها ونفسه متطلعة إلى زينب، مترقبة لطلاقها.. ثم يتأوّلون قوله تعالى: «وَاتَّقِ اللَّهَ» أنه خطابّ للنبىّ، يحمل إليه عتابا من ربه، ودعوة إلى تقواه، لأنه- ومعاذ الله- أخفى ما بقلبه من حبّ لزينب، وقال لمولاه زيد: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ! ولهذا جاء العتاب بعد العتاب، بل اللوم بعد اللوم في قوله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» ! ونسأل أولئك الذين يستقيم لهم هذا الفهم من الآية الكريمة: على أية صورة يتصورون رسول الله، وأمينه على رسالة السماء؟ أيجوز على رسول من رسل الله الدّهان والمخادعة؟ إن ذلك مما يسقط مروءة أي إنسان في الناس، فكيف(11/719)
برسول الله ... سيد الناس، وأكملهم كمالا، وأجمعهم جميعا لمكارم الأخلاق كلها في أعلى مستواها، وأرفع منازلها؟
مستحيل إذن استحالة مطلقة، أن يكون شىء من هذا طاف برسول الله، أو ألمّ به في أي حال من أحواله، أو عرض له في خطرة نفس، أو طرفة خاطر! وننظر الآن في هذا الطلاق، وكيف وقع! إن الزواج الذي تمّ بين زينب وزيد، كان- كما قلنا- من عمل النبي، بأمر من ربه.. وهو زواج قام من أول الأمر على غير توافق، أو تكافؤ..
والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- إذ قام بهذا الزواج بعلم هذا، والسماء تعلم هذا قبل أن يعلم النبي..
والسؤال هنا: لماذا إذن هذا الزواج؟ وما حكمته؟
إنه زواج، يجرى في ظاهره، وعلى مستوى النظر البشرى- على ما يجرى عليه كثير من حالات الزواج، التي تعرض لها عوارض الشقاق والخلاف، ثم الطلاق، وذلك بعد أن يتم الزواج، ويعايش الزوجان كل منهما الآخر..
أما قبل الزواج، فلم يكن أحد يدرى ما سيقع من خلاف، وطلاق، إلا رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- مما أنبأ به ربه، لأمر أراده الله سبحانه، ولم يقع بعد..
فلما تم زواج زيد وزينب، وعاشر كل منهما صاحبه، وظهرت أعراض الخلاف بين الزوجين، وشقى كلّ منهما بصاحبه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الزوجين إلى إصلاح ما فسد من أمرهما، متجاهلا، الحكم المقضى به في أمر هذا الزواج، وهو الفراق الذي لا بد منه، وغير ملتفت إلى القدر المقدور على هذا الزواج، كما علم من ربه.!!(11/720)
إن النبي إنما يعمل هنا، على مستوى الحياة البشرية، ويعالج أمرا بين شخصين لم ينكشف لهما من حجب الغيب ما انكشف له منه، وكان من مقتضى هذا أن يدعو كلّا من الزوجين إلى المياسرة والمحاسنة.. أما ما يؤول إليه أمرهما بعد هذا، فأمره إلى الله.. «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ، وعلى هذا المفهوم ننظر في قوله تعالى:
«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» .
ننظر في كلمات الله هذه، فنرى:
أولا: أن «زيدا» يوصف بأنه من الذين أنعم الله ورسوله عليهم.. فقد أنعم الله سبحانه وتعالى عليه بالإسلام، وأنعم الرسول- صلى الله عليه وسلم- عليه بالحرية.. حين أعتقه، وهداه إلى الإسلام.
ثانيا: قول النبي، لزيد كما حكاه القرآن، وهو: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مما يقضى به تمام الإحسان إلى زيد.. فهو موضع نعمة النبي، ورعايته، وحبه، وبهذه النعمة والرعاية والحب، يتوجه إليه بالنصح في أمر فيه صلاح حياته مع زوجه.. فضلا عن رسالة الرسول في الناس عامة من النصح والإرشاد والتوجيه..
وثالثا: قوله تعالى: «وَاتَّقِ اللَّهَ» .. يمكن أن يكون من قول النبي لزيد معطوفا على قوله له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ» أي واتق الله في الرابطة التي بينك وبينها.. ويمكن أن يكون خطابا للنبى من ربه، وفيه لطف بالرسول من ربه، ورفق به من هذا الإرهاق الذي يرهق به نفسه، فى إصلاح(11/721)
أمر يعلم- مما أعلمه ربه- أنه مقضىّ فيه.. كما يقول الله تعالى في ختام الآية:
«وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» .. فليتق النبي الله في نفسه وليرفق بها، ولا يحاول إصلاح أمر، لن يصلح.
ورابعا: قوله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» - إشارة إلى ما كان يخفيه النبي من أمر الله في هذا لزواج، وأنه منته إلى الفراق.. فقد أخفى النبي هذا الذي علمه من ربه، ولكن الله سبحانه وتعالى سيبديه في حينه، وذلك حين يقع القدر المقدور، ويتمّ الطلاق..
وخامسا: قوله تعالى: «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» .. وإنّ الذي كان يخشاه النبي، هو ما يعقب هذا الطلاق، وهو أن يتزوج مطلقة متبناه، وما يتقوّله المنافقون ومن في قلوبهم مرض في هذا الزواج.. إنه امتحان للنبى فيما امتحن به على مسيرة الدعوة التي قام عليها، فليصبر على هذا الامتحان به وليحتمل ما يجىء إليه من أذى، فى سبيل إنفاذ أمر الله، وإمضاء مشيئته، دون التفات إلى تخرصات المتخرصين، وشناعات المشنعين.
ولا ندع النظر في أمر «الطلاق» الذي وقع هنا، دون أن نشير إلى أنه لم يدخل على حياة زوجية كانت قائمة على أسس متينة من أول أمرها، بل إنه دخل على حياة زوجية- وهذا من تدبير السماء- كانت تحمل في كيانها دواعى الفرقة، لأمر أراده الله.. وفي هذا ما يشير إلى حرص الإسلام على سلامة الحياة الزوجية السليمة.. وأنه حين أراد أن يتخذ من الطلاق حكما شرعيا، عمد إلى حياة زوجية، لم يجتمع لها شمل، ولم تنعقد عليها القلوب!(11/722)
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى:
«فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها» - مشيرا إلى ما كان يخفيه النبي فى نفسه، وهو أن يتم زواج النبي من مطلقة متبناه بأمر من ربه، وذلك بعد أن يكون قد عاشرها زيد معاشرة الأزواج، لا أن يكون قد عقد عليها ولم يدخل بها.. فالطلاق بعد الدخول، هو الذي يعطى الزواج صفته الكاملة.. وبهذا يكون من باب أولى زواج مطلقة المتبنى التي لم يدخل بها.
ثم يجىء قوله تعالى:
«لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» - بيانا كاشفا عن الحكمة من هذا الأمر السماوي للنبى بالزواج من مطلقة متبناه، وهو أن يدفع الحرج عن المؤمنين في التزوج من مطلقات أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.. وذلك أنه إذا كان النبي قد فعل هذا، فلا حرج إذن على المؤمنين أن يفعلوا ما فعل، وأن يتأسوا به.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» .
ثم تختم الآية بقوله تعالى:
«وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» .. وفيه ما أشرنا إليه من قبل، من نفاذ الأمر، الذي يقضى الله به في خلقه، وأنه- سبحانه- لا معقب لحكمه، ولا رادّ لما قضى به..
وأمر الله هنا، هو ما قضى به الله سبحانه من الفرقة بين زيد وزوجه، ثم زواج النبي من مطلقة زيد هذه..
وفي الحكم على الأمر بأنه مفعول، إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه(11/723)
وسلم سيفعل هذا الأمر، وإن كان يجد في نفسه حرجا منه..
وقوله تعالى:
«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» هو نفى للحرج، ودفع لما يجد النبي منه، فى زواجه من مطلقة متبناه..
إن ذلك أمر من الله، والنبي إذ يفعله إنما يمضى به أمر ربه، وينفذ مشيئته..
فلا شىء من الحرج في هذا، إذ كان الأمر قائما على الصحة والسلامة، موزونا بميزان العدل والإحسان، لأنه حكم الحكيم العليم، ربّ العالمين..
وفي قوله تعالى: «فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» إشارة إلى أن كل ما يفرض الله للنبى، ويبيحه له، لا حرج فيه، ولا التفات معه إلى أي قول يقال، من عدو أو صديق..
وقوله تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» السنة هنا: الحكم والشأن.. والذين خلوا: هم الذين سبقوا من رسل الله.
وسنة منصوب.. مفعول لفعل محذوف.، تقديره سننّا بك سنة الذي خلوا من الرسل.
والمعنى أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل في الأخذ بأمر الله، وامتثاله على وجهه، دون التفات إلى مقولات الناس، ودون خشية لما يتخرص به المتخرصون، فقد سبقك إلى هذا عباد مكرمون، هم إخوانك الكرام من رسل الله، فقد كانوا ولا يخشون في الله لومة لائم.. كما تشير إلى ذلك الآية التالية..(11/724)
وقوله تعالى: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» .. أي أن ما فرض الله للنبى، هو قدر من قدر الله، وأنه لا بد أن ينفذ هذا القدر كما قدّره الله، وإذن فليوطّن النبي نفسه على ذلك، وليمض لما أراد الله له.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ.. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» .. هو بدل من قوله تعالى: «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» ..
فالذين خلوا من قبل، هم أولئك الذين يبلغون رسالات الله كما بلّغهم الله إياها، دون التفات إلى أحد، ودون نظر إلى ما يكون من الناس إزاء هذه الرسالات المبلغة إليهم، من استجابة لها أو إعراض عنها.. إنهم يبلغون رسالات الله على وجهها، ولا يعملون حسابا لما يلقاهم به السفهاء والجهال من لوم، أو سفه، وإنما همهم كلّه هو حسابهم عند الله، وما يكون لهم من جزاء..
«وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» فهو سبحانه وحده الذي يخشى حسابه، ويرجى ثوابه..
قوله تعالى:
«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» .
هو تقرير لهذه الحقيقة الواقعة، التي تدفع كل باطل، وتفضح كل زيف، وهى أن محمدا- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن أبا لأحد، أبوة نسب.. فقد كان له صلوات الله وسلامه عليه- أولاد، ولكن هؤلاء الأولاد ماتوا صغارا، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ الرجال ... وزيد بن حارثة هذا، الذي بلغ مبلغ الرجال، وتزوج، وهو في هذا النسب الذي أضيف به(11/725)
إلى النبي ابنا له- زيد هذا ليس ابنا لمحمد.. «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» .. تلك حقيقة واقعة لا يمارى فيها أحد، أما هذا النسب الذي أضيف إليه زيد، فهو نسب مصطنع، فلا معتبر له، ولا نظر إليه..!
وهكذا الشأن في كل نسب جاء على تلك الصفة..
أما أبوة النبي للمؤمنين، فهى أبوة روحية، يدخل فيها كل مؤمن ومؤمنة..
وقوله تعالى: «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» هو استدراك للنفى الذي شمل عموم نسبة الأبوة لأى رجل من الرجال إلى «محمد» .. وليس معنى هذا قطع الصلة بين «محمد» وبين الناس..
فهو- صلوات الله وسلامه عليه- وإن انقطعت أبوة النسب بينه وبين أي أحد من الرجال، فإن المؤمنين جميعا ينتسبون إليه نسبا أولى وأقرب من هذا النسب، بحكم أنه رسول الله فيهم، ومبلّغ رسالة الله إليهم.. فهو بهذه الصفة أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهذا أعظم وأشمل مما تعطيه أبوة النسب..
وفي قوله تعالى: «وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» إشارة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه أب لكل مؤمن ومؤمنة، من كل دين، حيث أنه- صلوات الله وسلامه عليه- وارث النبيين جميعا، والمهيمن برسالته على رسالات الرسل كلهم، فلا رسول بعده إلى يوم الدين.. لقد ختمت به- صلوات الله وسلامه عليه- رسالات السماء، وأضيفت شعاعاتها كلها إلى شمس شريعته، فأصبحت تلك الشعاعات، مضمونا من مضامينها، وقبسا من أقباسها..
فلا هدى بعد هذا إلا من هداها، ولا نورا إلا من نورها.. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ..»(11/726)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
وبهذه الآية تختم قصة زواج النبي صلوات الله وسلامه عليه، من زينب بنت جحش، مطلقة مولاه، ومتبناه، زيد بن حارثة.. وقد شغب عليها المشاغبون، وبنوا حولها من أوهامهم وضلالاتهم، أساطير من واردات الكذب والكيد للإسلام، ولنبىّ الإسلام، حتى لقد صوروا النبي- صلوات الله وسلامه عليه- رجلا استبدت به الشهوة، حتى لقد كاد يتخلى عن رسالته التي أقامه الله عليها، ويشغل نفسه بالجري وراء إشباع شهواته..
وآيات القرآن الكريم- لمن يؤمنون بأنه من عند الله- صريحة فى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه- كان ممتحنا من ربه بهذا الزواج الذي لم يكن يدور في خاطره في أية لحظة من لحظات حياته، وذلك ليقضى بهذا الزواج على تلك العادة المتمكنة في المجتمع العربي، والتي دخلت الإسلام مع المسلمين بهذا السلطان المتمكن، الذي كان لها على النفوس..
فإذا نظرنا إلى ماوراء آيات القرآن الكريم، نجد أن زينب بنت جحش هذه لم تكن غريبة عن النبي، بل كانت ابنة عمته، وكانت تحت نظره من مولدها إلى أن خطبها هو- صلوات الله وسلامه عليه- لزيد بن حارثة..
فماذا كان يمنع النبي من أن يتزوجها لو أنها وقعت من قلبه موقعا؟
ولو أنه كان للنبى أية رغبة فيها أكان يخطبها ويزوجها لمتبناه، فتحرم عليه إلى الأبد، كما كان هو الحال في زوجات الأبناء الأدعياء قبل أن ينزل القرآن بما يقضى على التبنىّ وأحكامه! أذلك مما يستقيم أبدا مع عقل أو منطق؟
«ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ.. هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» ..!
الآيات: (41- 48) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)(11/727)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» مناسبة هذه الآية لما قبلها من آيات، هى أن الآيات السابقة عليها تضمنت حكما من الأحكام، كان مبعث ظنون، ومثار شغب عند المنافقين والذين في قلوبهم مرض ... وليس يحمى المؤمنين من غبار هذه الظنون، ودخان هذا الشغب، إلا أن يعتصموا بالله، وأن يذكروا جلاله وعظمته، وأن يستحضروا علمه وقدرته، فذلك هو الذي يحفظ عليهم إيمانهم، ويدفع عنهم غواشى الشكوك والريب، التي يسوقها إليهم الكافرون والمنافقون..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» .
هو إعراء للمؤمنين بذكر الله، وتسبيحه بكرة، أي صباحا، وأصيلا،(11/728)
أي مساء، كما يقول سبحانه: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» (17: الروم) .
فالله سبحانه وتعالى إنما يذكر بالرحمة والرضوان، عباده الذين يذكرونه، ويصلى على من يصلون له ويسبحونه، وفي هذا يقول الله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (152: البقرة) والمراد بالذكر هنا ذكر الرحمة والإحسان.
وصلاة الله على المؤمنين هى رحمته لهم، وإحسانه إليهم، ورضاه عنهم..
وصلاة الملائكة، هى الاستغفار للمؤمنين، كما يقول سبحانه وتعالى:
«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (7: غافر) .
وقوله تعالى: «لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» إشارة إلى أن ذكر المؤمن ربه وتسبيحه بحمده، يدنيه من ربه، ويقربه من منازل رحمته، ويصله بعباده المقربين من ملائكته، وبهذا يستقيم على طريق الله، ويخرج من عالم الظلام والضلال، إلى عالم النور والهدى..
وفي قوله تعالى: «وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» مزيد فضل وعناية من الله سبحانه وتعالى بالمؤمنين، وأنهم هم الذين ينالون رحمة الله، ويختصون بفضله وإحسانه..
قوله تعالى:
«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» .
هو بيان لرحمة الله بالمؤمنين وإحسانه إليهم، وأنهم حين يلقون الله يوم القيامة، تلقاهم ملائكته لقاء كريما، بهذه البشرى المسعدة لهم، حيث يلقونهم(11/729)
بهذه التحية: سلام عليكم. فتذهب عنهم تلك التحية، هذه الوحشة، ويزايلهم هذا الخوف، فى هذا الموطن الجديد، الذي حلّوا به بعد مفارقة الحياة الدنيا.
ويوم لقاء الله هنا، هو اليوم الذي يفارق فيه الإنسان دنياه.. حيث يزايل آخر منزل له من منازل الدنيا، ويحل في أول منزل من منازل الآخرة..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (32: النحل) .
وقوله تعالى: «وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» هو بيان لما يلقى المؤمنون في الآخرة من جزاء كريم من الله..
وفي إعداد هذا الأجر، إشارة إلى أنه أجر عظيم، قد هيىء لهم، ورصد للقائهم من قبل أن يلقوه، وفي هذا مزيد اعتناء بهم، بهذا الاستعداد للقائهم.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» .
هو إشارة إلى مقام النبي عند ربه، وإلى مكانته في المؤمنين، وأنه هو المرسل من عند الله، شاهدا على الناس، بما كان منهم من إيمان أو كفر، ومبشرا المؤمنين بالأجر الكريم، ومنذرا الكافرين بالعذاب الأليم.. وأنه يدعو إلى الله، وإلى شريعة الله، بما يأذن له به الله، فلا يقول شيئا من عنده، وهو- بما يدعو به من آيات ربه- يكشف للناس طريق الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور..
وفي قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» إشارة إلى ما كان من أمر الله(11/730)
للنبى- بالتزوج من مطلقة متبناه.. فهو بهذا الزواج شاهد يرى فيه المسلمون القدوة والأسوة..
وفي قوله تعالى: «وَسِراجاً مُنِيراً» - إشارة أخرى إلى هذا الزواج، أنار للمسلمين طريقهم إلى الحق في هذا الأمر الذي كان قد اختلط فيه الحق بالباطل.. وهذا القيد للشهادة وللسراج المنير، هنا، لا يمنع من إطلاقهما، فالنبى شاهد قائم على كل حق وخير، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- سراج منير، يكشف كل باطل وضلال..
قوله تعالى:
«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» هو معطوف على محذوف تقديره: هذا فضل الله عليك، فاهنأ به، وبشر المؤمنين كذلك بأن لهم من الله فضلا كبيرا.. فهم أتباعك، وأولياؤك.. فإذا كان لك- أيها النبي- هذا العطاء الجزيل من ربك، فإن للمؤمنين حظا من عطاء ربهم، وما كان عطاء ربك محظورا..
قوله تعالى:
«وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ.. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
وفي هذا العطف أمور:
أولا: قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» يفهم منه ضمنا، وأنذر الكافرين والمنافقين بأن لهم عذابا أليما.
وثانيا: قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» يفهم منه ضمنا(11/731)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
كذلك، واستجب للمؤمنين واستمع لهم، واقترب منهم، وشاورهم في الأمر..
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» لا تستمع إليهم، ولا تأمن جانبهم..
وقوله تعالى: «وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي لا تحفل بما يأتيك منهم من أذى، بالقول أو الفعل، «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» فهو الذي يتولى حراستك وحفظك مما يكيدون لك به «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» فلا وكالة أقوى ولا أمنع ولا أحفظ من وكالته.. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3: الطلاق)
الآيات: (49- 52) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)(11/732)
التفسير قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت حالا من أحوال الطلاق والزواج، وهو طلاق امرأة الابن المتبنّى، ثم زواجها من أبيه المتبنّى له.. فناسب أن يذكر حكم المرأة المطلقة، من حيث العدة، والنفقة..
فالمرأة المعقود عليها عقد نكاح، ولم يدخل بها الزوج، ولم يمسّها، ولم يختل بها خلوة شرعية- ليس عليها عدة، لمن طلقها، وإنما تحل لمن يريد الزواج منها بمجرد طلاقها.. إذ كانت غير مشغولة بما للرجل عليها من حق، وهو استبراء الرحم..
والمراد بالمسّ هنا المباشرة، ومعاشرة الرجل للمرأة معاشرة الزوجية..
وفي قوله تعالى: «إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ» - إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يقصر نفسه على زواج المؤمنة، وإن كان قد أبيح له التزوج بالكتابيات، فإن الزواج من المؤمنات أفضل وأولى..
وفي قوله تعالى: «فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» - إشارة إلى ما توجبه الشريعة السمحاء، من الرفق، والمياسرة، والإبقاء على الصلات الإنسانية، عند انفصام الحياة الزوجية.. والمراد بالمتعة، هو ما يعطيه الرجل(11/733)
مطلقته من مال أو متاع، جبرا لخاطرها، وتأمينا لحياتها المستقبلة، التي كان هذا الطلاق سببا في اضطرابها..
والسراح الجميل، هو الانفصال بالمودة والإحسان، من غير كيد ومضارّة.. كما يقول سبحانه: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» مناسبة لهذه الآية للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة قد جاءت بأمر انتقض به بناء من أبنية الجاهلية التي قامت على الضلال، وهو تبنّيهم أبناء غيرهم، ثم تجاوزوا هذا إلى تحريم مطلقات هؤلاء الأبناء الأدعياء، عليهم..
تمكينا لهذه البنوّة المدعاة، ومعاملتها معاملة بنوّة النسب، سواء بسواء..
وقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن يكون للنبىّ ابن متبنّى، وأن يكون هذا الابن متزوجا، ثم يجىء حكم الله أمرا بإبطال هذا التبني، وبإلزام النبىّ أن يتزوج مطلقة متبناه، بعد أن طلقها وانقضت عدتها.. وكان ذلك مدعاة للكافرين والمنافقين أن يشنعوا على النبىّ، وأن يكثروا من الأقاويل الباطلة، والأحاديث المفتراة..
وقوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» .(11/734)
فهذا الإخبار بحلّ الأزواج، إنما هو تأكيد لحلّهن، ووصف كاشف للحال التي هن عليها، ومنهن زينب مطلقة متبنىّ النبىّ.. وفي هذا ردّ على الكافرين والمنافقين، الذين جعلوا زواج النبىّ من مطلقة متبناه مادة للغمز والاتهام.. وكان الردّ إفحاما للكافرين والمنافقين، وكبتا لهم، إذ قد جاء قول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» داعيا النبىّ إلى ألا يشغل نفسه بمقولات المبطلين، وأن يتمتع بما أحلّ له من طيبات، فهو من قبيل قوله تعالى «فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (4: النساء) .
ثم إنه لكى يزداد أهل الضلال والنفاق غمّا إلى غمّ، ذكر الله سبحانه وتعالى فى هذا المقام، ما اختص به نبيه الكريم، مما لم يكن لغيره من المسلمين، من سعة في الحياة الزوجية..
فأولا: كان في يد النبىّ من النساء اللاتي تزوجهن بمهر، عند نزول هذه الآية تسع نسوة.. ونصاب المسلم لا يتجاوز أربعة.
وثانيا: جاء في قوله تعالى: «وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ» من بيان لصنف آخر من النساء، أبيح للنبىّ التمتع بهن، وهن من يملكه النبىّ منهن من الفيء والغنائم، وهذ حكم عام للمسلمين جميعا.. على أن للنبىّ من الغنائم ما يصطفيه من السّبى، قبل قسمة الفيء.. وهذا من خصوصيات النبىّ هنا.
وثالثا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ» مشيرا إلى صنف ثالث أبيح للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- التزوج به، وهن بنات العم وبنات العمات. وبنات الخال وبنات الخالات.. اللاتي هاجرن، مع المهاجرين فرارا بدينهن، وإيثارا لله ورسوله.. فهؤلاء المهاجرات هن ممن أبيح للنبى التزوج بهن، إلى أزواجه التسع اللاتي كن معه..(11/735)
ولا بد أن يكون الأمر هنا منظورا فيه إلى بعض المهاجرات من أقارب النبىّ، ممن تستدعى حالهن البر والمواساة، فى تلك الغربة..
ورابعا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» مبيحا للنبىّ التزوج من صنف رابع من النساء، على أسلوب لا يحلّ لغيره من المسلمين، وهو أن تهب المرأة- غير المتزوجة- نفسها للنبى..
وفي قوله تعالى: «مُؤْمِنَةً» إشارة إلى أن هذه الهبة إنما أرادت بها المرأة المؤمنة التقرب إلى الله، والاستظلال بظل رسول الله، والظفر بالقرب منه، والفوز بلقب أم المؤمنين.. أما غير المؤمنة من الكتابيات فإنها لا تهب نفسها للنبىّ إلا طلبا لمرضاة نفسها، بأن تكون زوجا لهذا الإنسان العظيم، الذي له هذا السلطان لروحى الذي لا حدود له على المسلمين، ولو أنها كانت تحبّ النبىّ حقّا لآمنت به، ولدخلت في دين الله..
وفي قوله تعالى: «إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها» تعليق للزواج على رضا النبىّ، وقبول الهبة ممن وهبت نفسها له..
وقوله تعالى: «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» أي فاتخذها زوجا لك، على أن يكون ذلك حكما خالصا لك من دون المؤمنين، لا يشاركك فيه أحد..
وفي العدول عن الخطاب إلى الغيبة، وفي إظهار النبىّ، بدلا من الضمير فى قوله تعالى: «إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ» تعظيم لشأن النبىّ، بذكر اسمه، ثم بتكرار هذا الذكر.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في ذكر النبىّ بصفته وهى النبوّة إشارة إلى أن هذا الحكم إنما هو خاص بمن كان في هذا المقام، مقام النبوّة، لا أي مقام آخر غير هذا المقام.(11/736)
فهذه الأصناف الأربعة من النساء، قد أحلّ الله للنبىّ ضمّهن إلى بيت الزوجية واتخاذهن شريكات للحياة معه..
وواضح أن هذه التوسعة على النبىّ في الحياة الزوجية، لم تكن لمجرد قضاء الشهوة، كما يقول بذلك أهل الضلالات والكيد للإسلام.. بل إن هذه الخصوصيات التي للنبىّ، إنما كانت في مقصدها الأول علاجا لحالات نفسية واجتماعية، واقتصادية، لا تجد لها الدواء الناجع إلا في ظلال النبىّ.. كما رأينا ذلك في زواجه صلوات الله وسلامه عليه من زينب مطلقة متبناه، والذي كان من حكمته رفع الحرج عن المسلمين في التزوج من نساء أدعيائهم.. وكما في زواجه- صلوات الله وسلامه عليه- من صفية، بنت حيىّ بن أخطب، وكان أبوها سيدا من سادات اليهود، ورأسا من رءوسهم، فلما وقعت في السّبى، استنقذها النبىّ الكريم، وحفظ كرامتها بزواجه منها.. وهكذا نجد مع كل زواج تزوجه النبىّ، حكمة قائمة وراءه، أسمى وأعظم من طلب المتعة وقضاء الشهوة..
وسنعرض لهذا في مبحث خاص.. إن شاء الله..
وفي قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» - إشارة إلى أن تلك الخصوصيات هى للنبى، وأنه ليس للمسلمين أن يتأسوا بالنبي فيها، فقد عرفوا ما فرض الله عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، فليس لهم أن يتجاوزوا هذا الذي بيّنه الله لهم..
وقوله تعالى: «لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ» تعليل لهذه الأحكام التي بيّنها الله للنبىّ في شأن ما أحلّ له من نساء.. فهذا البيان هو من عند الله، وتلك الأحكام هى أحكام الله، فليأخذ النبىّ بها، غير متحرّج، ولا ناظر إلى قولة كافر أو منافق.(11/737)
- وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من مغفرة ورحمة، تسع أولئك الذين تجرى ألسنتهم بقولة سوء فيما اختص الله نبيه الكريم به، ثم تابوا من قريب، ورجعوا إلى الله، واستغفروا لذنبهم «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» .
قوله تعالى:
«تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ.. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً» الإرجاء: الإمهال، والإنظار..
والإيواء: الضمّ، والجمع.
والآية، ترسم السياسة التي يأخذ بها النبىّ هذا العدد الكثير من النساء اللائي جمعهن إليه.
إنّهن إذا حاسبن النبي محاسبة الزوجات لأزواجهن، واقتضين حقوق الزوجية كاملة منه- كان ذلك عبئا ثقيلا على النبىّ، الذي يحمل أعباء ثقالا تنوء بها الجبال، فى إقامة بناء المجتمع الإسلامى، وإرساء قواعد الدّين..
فكان من رحمة الله برسوله، وإحسانه إليه، أن أخلى يديه جميعا من تلك الواجبات المفروضة على الرجال قبل أزواجهم في المعاشرة، والمباشرة، وذلك حتى يفرغ النبىّ للمهمة العظيمة التي أقامه الله عليها..
فللنبىّ أن يرجىء من يشاء من نسائه، بمعنى أن يتجنبهن تجنبا مؤقتا من غير طلاق، وله- صلوات الله وسلامه عليه- أن يضمّ إليه من يشاء من(11/738)
نسائه، وأن يقسم بينهن كيف يشاء.. ثم إن له بعد هذا أن يضمّ إليه من أرجأ منهن.. إذا رغب فيها..
فذلك كله، تخفيف عن النبىّ، ورفع لإعناته وإرهاقه بعد أن حمل هذا العبء الثقيل من النساء، إلى جانب ما حمل من أعباء ثقال..
وفي قوله تعالى: «ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ» إشارة إلى أن هذا التدبير الذي من شأنه أن يجعل نساء النبي كلهن إلى يده، عن قرب أو بعد- فيه إرضاء لهن جميعا، القريبة منهن لقربها، والبعيدة لصلتها بالرسول، وانتسابها إليه، وعدّها من أمهات المؤمنين، وحسبها بهذا قرّة عين، وروح روح، وسكن فؤاد.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً» .. علم الله سبحانه وتعالى بما في القلوب، داعية إلى أن تكون القلوب مستودع خير وعدل وإحسان، حتى يرى الله منها ما هو خير وعدل وإحسان، فيثيب أهلها بما هم أهل له من ثواب جزيل وأجر كريم..
والقلوب في تلك المواطن التي تجمع بين الرجال والنساء في حياة زوجية، هى ملاك الأمر في إصلاح هذه الحياة، وازدهارها، وإرواء النفوس من ينابيع الرحمة والمودة.. وذلك إذا صلحت القلوب، وخلصت النيات..
أما إذا انطوت القلوب على فساد، وتلاقت على غش وخداع، فلن تثمر الحياة الزوجية إلا ثمرا نكدا، يطعم منه الزوجان ما يشقيهما، ويضنيهما.
ويزرع العداوة والشنآن بينهما..
وفي وصف الله سبحانه وتعالى بالحلم، دعوة إلى كل من الأزواج والزوجات إلى الأناة والرفق، وإلى الصبر والاحتمال، لما يقع في الحياة الزوجية من(11/739)
أمور يضيق بها أحد الزوجين أو كلاهما.. فالحياة يسر وعسر، واستقرار واضطراب، واستقامة وعوج.. ومن أرادها على الوجه الذي يحبّ فإنما يريد أمرا غير واقع أبدا..
قوله تعالى:
«لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» .
اختلف في المحذوف المضاف إليه «بعد» .. وهل هو قيد لتلك الأصناف الأربعة التي أحلّها الله للنبى في قوله «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية» .. أم أنه قيد لتلك الحال التي تلقى فيها النبي هذا الحكم؟
فعلى التقدير الأول، يكون المعنى، لا يحلّ لك التزوج من النساء بعد هذه الأصناف الأربعة، ويكون المراد بالبعديّة البعدية الوصفية لا الزمانية، أي لا يحلّ لك غير هذه الأصناف الأربعة التي عرفت صفاتها، وهذا من شأنه أن يبيح للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتزوج غير نسائه التسع اللاتي كن معه، عند نزول هذه الآية- ولكن ذلك التزوج محصور في صنفين من النساء، هما:
ولا: بنات عم النبىّ، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، أي كن من المهاجرات، لا بمعنى أنهن صحبنه في هجرته.
وثانيا: أي امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبىّ.
أما غير ذلك من النساء فلا يحل له التزوج منهن.(11/740)
أما على التقدير الثاني، فيكون المعنى أنه لا يحلّ للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتزوّج بعد نزول هذه الآية من أية امرأة أخرى.. بل يقف عند هذا الحدّ.. أما ما ملكت، أو تملك يمينه بعد هذا من نساء فهنّ حلّ له، على الإطلاق..
وهذا هو الرأى الذي نعوّل عليه، ونأخذ به، وذلك لما يأتى:
أولا: هذا الأمر للنبىّ بالوقوف عند هذا الحدّ من التزوج بالنساء، هو فى الواقع تخفيف عن النبىّ، ورفع للحرج الذي يجده من حمل نفسه على التزوج ممن يهبن أنفسهن له، وهنّ كثيرات، طامعات في رضا الله بالقرب من الرسول والعمل على مرضاته.. وكذلك الشأن فيمن هن قريبات له، وتعرض لهنّ ظروف قاسية، تدعو النبي إلى موساتهن بضمهن إليه، كمن يستشهد أزواجهن فى سبيل الله..
فهذا لا شك تخفيف عن النبىّ، ودفع للحرج، بهذا الأمر السماوي الذي لا يجعل له سبيلا إلى التزوج بمن تهب نفسها له، أو بمن تدعو الحال بضمها إليه، وتزوجه منها، من بنات عمه أو بنات عماته، أو بنات خاله أو بنات خالاته..
وثانيا: فى الإبقاء على حل ما ملك أو يملك النبي من إماء، هو أيضا من باب التخفيف ودفع الحرج عن النبىّ.. وذلك لأن مئونة الإماء أخفّ، إذ ليس لهن ما للحرائر الزوجات من حقوق تقابل ما للرجال عليهن من واجبات..
وثالثا: وعلى هذا يكون ما جاء في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية» هو إقرار للأمر الواقع، ووصف كاشف للحباة الزوجية في بيت الرسول، وما ضمّ من تلك الأصناف الأربعة التي ذكرتها الآية من أصناف النساء.. ويكون قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ(11/741)
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ»
أمرا للنبىّ بالوقوف عند من تزوج بهن إلى وقت نزول هذه الآية، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- ليس له أن يتزوج أية امرأة أخرى غير اللاتي كن معه..
أما ما ملكت أو تملك يمينه، فيبقى على أصل الإباحة له..
وفي قوله تعالى: «وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» تطيب لخواطر نساء النبي، وتطمين لقلوبهن، ألا يدخل عليهن من النساء من يشاركهن الحياة مع النبي، والسّكن إليه في بيت النبوة.. وأنهن في أمان من أن يخرجن من هذا الجناب الكريم أو يفارقن النبي بالطلاق..
وهذا جزاء عاجل من الله سبحانه وتعالى لهن إذ اخترن الله ورسوله، ورضين الحياة الرّوحية مع رسول الله، مؤثرات ذلك على الحياة الدنيا وزينتها..
وأما ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» فهو على الإباحة التي تضمنها، من أن يتزوج النبي من أية امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، ويقبل النبي هذه الهبة.. وذلك الحكم موقوت إلى أن نزل قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» فلما نزلت هذه الآية، توقف العمل بهذه الرخصة ...
وعلى هذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من أية مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، بعد نزول هذه الآية.
وليس هذا من النسخ، كما يبدو في ظاهره، ولكنه إنهاء لحكم رخصة موقوتة، جاء قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» محددا نهاية هذا الوقت.. وهذا يعنى أنه قد كان بين نزول الآيتين فسحة من الوقت، بحيث(11/742)
كان من المؤمنات غير المتزوجات من وهبن أنفسهن للنبىّ، فقبل منهن من قبل.
هذا، ويرى بعض المفسرين، أن هذه الآية: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» منسوخة بالآية التي قبلها: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ..
الآية» ..
وهذا يعنى، أن المنسوخ يسبق الناسخ، وأن الحظر جاء أولا، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحظر عليه التزوج من بنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه أو من أية مرأة مؤمنة تهب نفسها له، وذلك إلى أن لحق صلوات الله وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى..
ونحن على رأينا، من أنه لا نسخ، ولا تناسخ بين الآيتين.. وأن الآية الأولى ظلت عاملة إلى أن نزلت الآية الثانية، فأقرت الأوضاع التي انتهى إليها بيت النبوة، وما ضمّ عليه من أزواج النبي: وبقيت الآيتان تمثلان دورين من أدوار التشريع، للنبى خاصة، من حياته الزوجية.. وهذان الدوران، يسبقهما دور ثالث، هو الإباحة المطلقة للنبى، بالتزوج ممن يشاء من النساء، بأى عدد شاء منهن..
وعلى هذا كانت مراحل التشريع للحياة الزوجية للنبى ثلاثا:
المرحلة الأولى: الحلّ المطلق في الزواج من أية امرأة مؤمنة، يحل زواجها فى الشريعة الإسلامية، دون تقيد بعدد..
المرحلة الثانية: وفيها يتقرر ما يأتى:
أولا: الوقوف بالعدد من الزوجات عند الحد الذي كان موجودا عند نزول الآية.. وهو تسع نساء..
وثانيا: إن أراد النبي أن يتزوج على من عنده من النساء، فلا يجوز له أن(11/743)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
يتزوج من غير صنفين من النساء: بنات عمه أو بنات عماته، وبنات خاله أو بنات خالاته.. ثم من أي امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، وهذا صنف جديد جاءت بحلّه هذه الآية، خاصا بالنبي..
المرحلة الثالثة: وفي هذه المرحلة تستقر الأوضاع للحياة الزوجية في بيت النبوة، فلا يدخل عليها جديد من النساء، ولا يخرج منها أحد ممن هن فيها..
وهذا- كما أشرنا إلى ذلك- تخفيف عن النبي، ورفع للحرج عنه، من تلك العيون الكثيرة المتطلعة إلى الصهر إليه أو الزواج منه..
الآيات: (53- 55) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)(11/744)
التفسير:
فى هذه الآيات الثلاث، أقام الله سبحانه وتعالى حراسة على حرمات النبي من خارج بيت النبوة، وداخله، حتى لا يشغل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- نفسه بهذا الأمر الذي من شأن الرجل أن ينظر إليه، ويهتم له.. وذلك حتى يفرغ النبي للدعوة القائم عليها، ولا يلتفت لفتة إلى ما وراءها..
فأولا: نهى الله المؤمنين أن يدخلوا بيوت النبي إلا بعد استئذان، وإذن.. فإذا كان الدخول استجابة لدعوة إلى طعام، فلا يتعجلوا الحضور قبل أن ينضج الطعام، وذلك حتى لا يطول مكثهم في بيت النبي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» أي غير منتظرين إنضاجه..
فإذا دعوا إلى هذا الطعام، فليدخلوا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.. فإذا طعموا فلا يتلبثوا، بل يخرجوا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» ..
ثانيا: نهى الله المؤمنين عن أن يسألوا نساء النبي شيئا من متاع أو نحوه إلا من وراء حجاب.. والحجاب هنا هو الباب الذي يدخل منه إلى بيوت النبي..
ثالثا: أمر الله نساء النبي أن يقمن الحجاب بينهن وبين غير محارمهن من الرجال، وأذن لهن في أن لا يحتجبن عن المحارم من آباء وإخوة، وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، كما أمرهن بالحجاب عن النساء غير المعروفات لهن، القريبات منهن، العاملات في قضاء حوائجهن، وغير ما ملكت أيمانهن.. وذلك سدّا لذرائع الفتنة التي قد تجىء من النساء الواردات من موارد مختلفة لا يعرف وجهها..(11/745)
هذا، ويلاحظ أنه لم يبح لنساء النبي لقاء محارمهن على إطلاقه، بل وقف به عند الآباء، والإخوة، وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، دون الأعمام، والأخوال، وذلك للتخفيف من الضغط على بيت النبي، بالإقلال من الذين يطرقونه، ويغشونه.. فلو أنه قد فتح بيت النبي لذوى القرابات من محارم نسائه، لما خلا من زائر، رغبة في لقاء النبي وإرواء لظمأ النفوس المتعطشة إلى لقائه في خلواته.. الأمر الذي لا يتيح للنبى فرصة للراحة والكن..
هذه هى الحراسة التي أقامها الله على بيت النبي، وهى حراسة تتيح له- صلوات الله وسلامه عليه- شيئا من الراحة النفسية والجسدية، هو- صلوات الله وسلامه عليه- أشد ما يكون حاجة إليهما في هذا الجهاد المتصل، نهارا مع المسلمين، وليلا مع ذكر الله..
وفي الآيات، ما يحتاج إلى بعض الإيضاح..
ففى قوله تعالى: «وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» - إشارة إلى ما يدعو الذين يدخلون بيوت النبي إلى إطالة المكث فيها، وهو الأنس بالرسول، والمتعة الروحية بالحديث إليه.. وهذا وإن كان مما يستحب من المسلم، ويحبّ له، إلا أن هذا ليس مكانه.. حيث جعلت البيوت للسكن والراحة.. والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بشر يحتاج إلى الراحة، والهدوء، والانفراد بالنفس..
وفي قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» - إشارة إلى ما كان يجده النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أذى وتضرر، فى تزاحم المسلمين على بيته، وطول مكثهم فيه.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- يحتمل هذا صابرا، ويمنعه الحياء النبوي أن يظهر ضيقا أو ضجرا..
وفي قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» - إعلام من الله سبحانه(11/746)
وتعالى بما لم يصرح به النبي، وإن كان حقا.. فالنبى- كإنسان طبع على الحياء- تمنعه إنسانية من أن يصارح الناس بما يسوءهم، ما دام ذلك لا يجور على حق من حقوق الله، وإن كان فيه جور على نفسه.. ولهذا فقد دافع الله عن النبي الكريم، وتولى سبحانه حمايته، ودفع هذا الأذى عنه..
وفي قوله تعالى: «وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً» - استبعاد من أن يقع من أحد من المؤمنين بالله، أن يؤذى رسول الله بالنظر إلى نسائه، نظر اشتهاء.. فذلك ما لا يجتمع معه إيمان أبدا..
وإذن فهذا الذي يأمر به الله سبحانه وتعالى المؤمنين في قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ..» ثم في قوله تعالى بعد ذلك: «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» هذا الأمر ليس اتهاما للمؤمنين في توقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي اتخاذهم نساء النبي أمهات لهم، لا ينظر أحدهم إليهن نظرة رببة أو اشتهاء..
وإنما هذا الأمر هو من باب سد الذرائع، وقطع ألسنة السوء التي تصطاد المفتريات، وتنسج الأباطيل من الأوهام والظنون.. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على ذلك: «ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» مشيرا إلى أن هذا الاحتياط في الحديث إلى نساء النبي من وراء حجاب، هو أطهر للقلوب الطاهرة، وأزكى للنفوس الكريمة الزكية..
وفي قوله تعالى: «وَاتَّقِينَ اللَّهَ» دعوة إلى نساء النبي بتقوى الله، بعد دعوتهن إلى ضرب الحجاب بينهن وبين غير من ذكرن من محارمهن..
إذ ليسب العبرة في العفة بضرب الحجاب، وإن كانت أمرا لازما لسد الذرائع، وإنما العبرة بما في القلب من تقوى الله، وخشيته، والعمل على مرضاته.(11/747)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
الآيات: (56- 59) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .
مناسبة هذه الآية هنا، هو أن الآيات السابقة عرضت لأمور هى من خصوصيات النبيّ- صلى الله عليه وسلم- وبهذه الخصوصيات التي اختصّه الله سبحانه وتعالى بها، كحلّ التزوج بعدد من النساء لا يحلّ لغيره من المسلمين التزوج بهن، وكالتزوج ممن يهبن أنفسهن له، من غير مهر، وكتلك الحراسة التي أقامها الله على بيت النبوّة من خارج ومن داخل- نقول بهذه الخصوصيات يعرف بعض ما لرسول الله من منزلة كريمة، ومقام عظيم، عند ربه..
وإذ عرف المسلمون هذا، فليعرفوا أيضا أنّ ذلك ليس هو كلّ ما للنبىّ عند ربّه.. بل إن له عند ربّه أكثر وأكثر.. «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» .. فهذه صلاة خاصة بالنبيّ، غير تلك الصلاة العامة التي للمؤمنين،(11/748)
والتي جاءت في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .. إنها صلاة من الله وملائكته، اختص بها النبىّ وحده.. وإذا كان ذلك كذلك فإن على المؤمنين جميعا أن يشاركوا في الصلاة على النبىّ، والتسليم له، تسليم ولاء، وخضوع، وامتثال..
وصلاة الله سبحانه وتعالى- كما قلنا- هى الرحمة، والإحسان، والرضوان..
وصلاة الملائكة، هى الدعاء والاستغفار.. أما صلاة المؤمنين على النبي فهى دعاؤهم الله سبحانه أن يصلى عليه، وأن يديم هذه الصلاة، ويضاعفها..
فيضاعف من رحمته وإحسانه ورضوانه على رسوله..
وأما التسليم من المؤمنين على النبي، فهو تسليم عليه وتسليم له.. تسليم عليه بالدعاء له بالأمن والسلام من الله: «السلام عليك أيها النبي» .. والتسليم له من المؤمنين بالطاعة والولاء..
فهذه الصلاة، وهذا التسليم من المؤمنين هو بعض ما يجزى به المؤمنون النبىّ من إحسان فى مقابل الإحسان العظيم الذي أحسن به إليهم، إذ هداهم إلى الإيمان، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وسلك بهم الطريق إلى رضوان الله، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم.. فما أقلّ ما يجزى به المؤمن، هذا الإحسان الذي لرسول الله في عنقه! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» .. وإذا كانت الصلاة على النبىّ، والتسليم عليه وله من المؤمنين، هى بعض المطلوب منهم، جزاء إحسان النبىّ إليهم، فإن بعض الناس لا يجزون هذا الإحسان بالإحسان، بل يلقونه بالمساءة والضر..
وقد توعّد الله سبحانه هؤلاء الذين يؤذون رسول الله، باللعنة في الدنيا(11/749)
والآخرة، وبالعذاب المهين، يوم الحساب والجزاء..
- وفي قوله تعالى: «يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» تعظيم لشأن الرسول، وتغليظ للجرم الذي يقع في ساحة حرمه، من الكافرين، والمنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. فهذا الذي يسوء النبىّ ويؤذيه من أقوال أهل الضلال وأفعالهم، يؤذى الله سبحانه وتعالى.. فكيف تكون نقمة الله ممن يؤذيه؟
ذلك ما لا يمكن تصوره! قوله تعالى:
. «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» .. إن أهل السّوء مؤاخذون بجناياتهم، أيّا كان موقع هذه الجنايات.. ولكنها حين تكون في حق النبي تكون جنايات غليظة، وعدوانا آثما، إذ كان النبىّ داعية خير، ورسول هدى ورحمة.. فإذا لم يكن- والحال كذلك- ثمة جزاء بالإحسان، لقاء هذا الإحسان، فلا أقلّ من ألا يكون بغى وعدوان.. فإذا كان بغى وعدوان، فهو البلاء المبين، والإثم العظيم..
والمؤمنون والمؤمنات، هم أولياء الله، وهم جنده في الأرض، ورسله بين الناس.. والعدوان عليهم- بغير ما اكتسبوا- عدوان على الحقّ، واجتراء على حرم الله.. ومن ثمّ، فإن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد احتملوا بهتانا، أي افتراء وعدوانا على الحق، وباءوا بإثم عظيم، يلقون جزاءه عذابا ونكالا..
وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» احتراس من الأذى الذي ينال المؤمنين والمؤمنات بما كسبت أيديهم.. فهذا الأذى لا يدخل في الحكم الذي ينال من يؤذونهم لغير ذنب ارتكبوه.. فالمؤمن والمؤمنة، قد يسرقان(11/750)
فتقطع أيديهما.. وهذا أذى لهما، ولكنه أذى لا يؤاخذ عليه من أقام الحدّ عليهما.. وهكذا كل أذى يقع على المؤمن والمؤمنة في مقابل ذنب..
هذا، ولم يجىء هذا الاحتراس في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» حيث لا يتصور أن يكون من رسول الله كسب يستحق عليه أذى.. ومعاذ الله! فقد حرسه الله من كل سوء، وحماه من المعاثر والمزالق.. وأكثر من هذا فقد جعله الله في ضمانه، إذ ضمه إلى جنابه، وجعل أذاه أذى له! قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .
ومن سدّ الذّرائع ألّا يعرّض المؤمن نفسه للشّبه، وألا يدع سبيلا لقالة السوء فيه، بل ينبغى أن يتجنب مواقع التّهم، حتى لا يتعرّض للأذى، ويعرّض غيره للوقوع فيه.
وفي قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ.. الآية» دعوة لنساء النبىّ وبناته ولنساء المؤمنين عامة أن يحموا أنفسهم من ألسنة السوء، وذلك بأن يدنين عليهن من ثيابهن، وأن يرسلنها حتى تكسو أجسامهن إلى مواقع أقدامهنّ.. وهذا هو لباس المحتشمات، على خلاف ما كان عليه لباس المتبرجات، الداعيات للرجال إلى أنفسهن.. وبهذا الزىّ ينعزل نساء النبىّ، وبناته، ونساء المؤمنين، عن غيرهن، ممن لا يسوءهن قول، أو فعل.
وفي قوله تعالى: «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ» إشارة إلى أن هذا الزّى(11/751)
السائر الذي يتزيا به نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، هو معلم من معالم المرأة الحرّة العفيفة التي لا مطمع لأحد فيها.
وفي قوله تعالى: «أَدْنى» .. إشارة إلى أن هذا الزىّ ليس وحده بالذي بقي الحرائر والعفيفات من ألسنة أهل الفجور والفسق، ولكنه- على أي حال- وقاء يجمّل الحرّة ويزيّن العفيفة، ويضفى على طهرها طهرا، وعلى عفتها جلالا وعفة، فهو وإن لم يكن الكمال كلّه، فهو من سمات الكمال، وإن لم يكن العفة كلّها، فهو مظهر من مظاهرها.
فستر الظاهر وتجميله، مطلوب، أيّا كان الباطن وما يختفى وراءه مما تنطوى عليه الصدور، وتسرّه السرائر.. فإن كان الباطن سيئا كريها، فالأولى بصاحبه أن يستره، ويجمّله بهذا الستر الذي يلقيه عليه من المداراة، والتحفظ.. وإن كان الباطن طيبا كريما، كان تهتّك الظاهر إزراء بقدره، وعدوانا على جلاله وبهائه..
روى أن عابدين من عبّاد البصرة، أحدهما أعور، والآخر أعرج..
تقابلا، فقال الأعرج للأعور:
هل لك في أن تكسب أجرا؟
فأجابه صاحبه: وما ذاك؟
قال: نتماشى معا، فيرانا الناس، فيقولون: أعور وأعرج.. فنؤجر ويأثمون!! فرد عليه صاحبه: وهل لك في خير من ذلك؟
قال: ماذا؟
قال: لا نفعل.. فنسلم ويسلمون!» إن الغنيمة حقّا، هى في أن يسلم الإنسان من النّاس.. وذلك بألا يمكنهم(11/752)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
من نفسه بما يبدى من عيوب، أو ما هو بمظنّة عيب.. ففى ذلك سلامته من الناس، وسلامة الناس منه..
الآيات: (60- 71) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا» .(11/753)
مناسبة هذه الآية هنا، هى أن الآيات السابقة كانت دستورا سماويا للحياة الروحية في بيت النبىّ، ولحراسة هذا البيت من العيون الفاجرة، والألسنة البذيئة.. وفي المدينة منافقون كثيرون، ومؤمنون لم تخلص قلوبهم بعد للإيمان، ومن هؤلاء وأولئك تهب ريح خبيثة على المجتمع الإسلامى الطهور، الذي أقامه النبىّ في المدينة.. فكان من الحكمة، وقد حصن الله قلوب المؤمنين، وأقامهم على طريق الإيمان والتقوى، أن يعزل عنهم هذا الداء الخبيث الذي يتمشى في أجواء المدينة، من المنافقين وممن في قلوبهم مرض من المؤمنين..
وفي قوله: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» إنذار مزلزل لهؤلاء المنافقين ومن انضوى إليهم، بأن يسلط الله عليهم النبىّ، فيلقى بهم خارج المدينة، بعيدا عن هذا المكان الطهور الذي لا يجد الخبث حياة له فيه..
والمرجفون: هم الذين يثيرون الشائعات الكاذبة، ويطلقون الأراجيف المصطنعة، ليشغلوا الناس بها، ويفسدوا عليهم حياتهم..
وقوله تعالى: «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» أي لنسلطنك عليهم، فتخرجهم من المدينة على أسوأ حال، كما خرج اليهود من قبلهم.
وقوله: «ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا» - إشارة إلى أن هؤلاء المنافقين وإخوانهم، إذا سلّط عليهم النبىّ، لن يجدوا القوة التي يدفعون بها بأسه وقوته.. بما مكن الله له في الأرض، وبما جمع له من جند الله وأنصاره..
«وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» (6: الحشر) .
قوله تعالى:
«مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» .(11/754)
«ملعونين» حال من فاعل محذوف تقديره: يخرجون منها ملعونين، أي تصحبهم اللعنة.
- وقوله تعالى: «أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» كلام مستأنف.
أي أنهم بهذه اللعنة التي خرجوا بها من المدينة، لن يجدوا مأوى يؤوون إليه، ولا معتصما يعتصمون به.. فأينما ثقفوا أي وقعوا ليد النبىّ والمسلمين «أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» أي أصبحوا في عداد الأسرى، وليس لهم بعد الأسر إلا القتل، لأنهم عرب، لا تقبل منهم فدية، أو يهود ائتمروا مع المشركين على حرب النبىّ، فجرى عليهم حكم المشركين من العرب.
قوله تعالى:
«سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» أي سنسنّ بهم سنة الذين سبقوهم من قبل، ونأخذهم بما أخذنا به أمثالهم من أهل الضلال والنفاق.. فهذا هو حكم الله في المفسدين في الأرض، وهو حكم قائم لا يتبدل أبدا..
والمراد بالذين خلوا من قبل هنا هم اليهود- من بنى قريظة وبنى النضير- الذين وقع بهم بأس الله، فأخرجوا من ديارهم، وقتل رجالهم، وسبى نساؤهم وذراريهم..
ويجوز أن يكون «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» - هم أمثال هؤلاء المنافقين من أهل الضلال في الأمم السابقة، ويدخل فيهم ضمنا يهود المدينة.
قوله تعالى:
«يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» .
هو تذكير بالساعة، وإلفات إلى يوم القيامة، فى هذا الموطن الذي تهددت فيه الآية السابقة جماعات المنافقين، ومن في قلوبهم مرض، وهم صنّاع(11/755)
الأراجيف والشائعات.. وذلك ليرجعوا إلى الله، وليخلوا قلوبهم من النفاق، وليطهروها من تلك الآفات الخبيثة التي استوطنتها..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» هو تهديد لتلك الجماعات التي إن لم تصحح إيمانها، أصبحت فى عداد الكافرين، وليس للكافرين عند الله إلا اللعنة وسوء الدار، حيث ينزلون أسوأ منزل في جهنم، لا يخرجون من عذابها المطبق عليهم أبدا، ولا يجدون وليّا يقف إلى جانبهم، ولا نصيرا ينصرهم، ويدفع عنهم هذا البلاء المشتمل عليهم.
قوله تعالى:
«يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» .
فى الآية عرض لصورة من صور العذاب التي يلقاها الكافرون يوم القيامة..
إنهم يقلبون على وجوههم في جهنم، وهم أحياء.. كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، ألوانا، وليطعموه حميما وغسّاقا.. وهم في هذا العذاب لا يملكون إلا صرخات الندم والحسرة، على خلافهم لله والرسول، فيقولون: «يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» .. وأنّى لهم أن يصلحوا ما أفسدوا؟ لقد فات الأوان!.
قوله تعالى:
«وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» .
أي أن من مقولاتهم التي يقولونها، ويعتذرون بها هو قولهم: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» .. إنهم يلقون باللائمة على سادتهم وكبرائهم، وقد كانوا تبعا لهم، فأوردوهم هذا المورد الوبيل..(11/756)
فقوله تعالى: «وَقالُوا» هو حكاية لما سيقولونه يوم القيامة، وعبّر عنه بالفعل الماضي، لأن هذا القول واقع في علم الله القديم..
وتلك حجة داحضة، وعذر غير مقبول..! لقد باعوا أنفسهم لسادتهم، وعطلوا العقل الذي وهبه الله إياهم، فلم يصغوا إلى آيات الله، ولم يستمعوا إلى دعوة الرسول، ولم يلتفتوا بعقولهم وقلوبهم إلى هذا النور الذي غمر الآفاق من حولهم.. بل تركوا لغيرهم مقودهم، وأسلموه زمامهم ... فإذا دفع بهم قائدهم إلى الهاوية، فهم الملومون، ولا لوم على أحد.
قوله تعالى:
«رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» .
هذا هو الجزاء الذي يجزى به الضالون سادتهم، ورؤساء الكفر والضلال فيهم.. إنهم لا يملكون أن ينتقموا لأنفسهم منهم بغير هذا الدعاء إلى الله أن يضاعف لهم العذاب، الذي يلقاه هؤلاء الأتباع.. فهم رؤساؤهم الذين كانوا يذهبون بالنصيب الأوفر من متاع الدنيا، فليذهبوا كذلك بالنصيب الأوفر من العذاب واللعنة في الآخرة..!
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» ..
أشاع اليهود في المدينة جوّا خبيثا من الدس والنفاق، وخلق الأراجيف وإذاعة الشائعات، واتخذوا من هذا كله أسلحة يحاربون بها الدعوة الإسلامية، ويدخلون منها على من في قلوبهم مرض من المسلمين، فيفتنونهم في دينهم،(11/757)
ويتخذون منهم أبواقا لترديد الأكاذيب، وإشاعة الأراجيف.. وقد أخزى الله اليهود، ونكّل بهم، وكفى المسلمين شرهم، وطهر المدينة من رجسهم..
وبقي بعد هذا أشتات من الناس، قد تمكن فيهم النفاق والكيد الذي ورثوه عن اليهود، فجاء قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا» - جاء منذرا هؤلاء المخلفين من صنائع اليهود، بأن ينزعوا عما هم فيه، وإلا أصابهم ما أصاب أصحابهم من قبل..
وفي قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» - إلفات للمسلمين عامة، وإشارة إلى المنافقين، ومرضى القلوب وضعاف الإيمان منهم، خاصة، إلى أن يعتزلوا اليهود عزلة شعورية، وأن يقطعوا كل ما كان بينهم من صلات قائمة على التشبه بهم، والجري على أساليبهم، لأنهم شر خالص، وبلاء محض..
كالداء الخبيث إن لم يقتل صاحبه، أفسد عليه حياته، ونغّص معيشته..
وإنه لا سلامة للمسلمين من اليهود إلا إذا تخلصوا من كل أثر مادى أو نفسى كان لهم فيهم.. وأما وقد جلا اليهود عن المدينة إلى غير رجعة، ولم يبق إلا ما تركوه في بعض الناس من آثار، فى أساليب الحياة، وصور التفكير، فإنه لكى يأمن المسلمون على سلامتهم في أنفسهم وفي عقيدتهم- ينبغى أن يتخلصوا من كل مخلفات اليهود فيهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا..
والتطاول على مقام الرسل، والافتنان في إيذائهم والكيد لهم، طبيعة غالبة على اليهود..
وقد قص القرآن الكريم على المسلمين كثيرا من مواقفهم اللئيمة(11/758)
المنحرفة مع رسل الله.. فقال تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) .
وقال سبحانه وتعالى متوعدا إياهم: «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87: البقرة) .
«وموسى» الذي يدين اليهود بشريعته وبالتوراة التي تلقاها من ربه- قد لقى من كيد اليهود وأذاهم في شخصه حيّا، وفي شريعته، بعد موته، ما لقى الأنبياء منهم، من ألوان الكيد والأذى..
وقولهم الذي قالوه في موسى هو ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قولهم لموسى: «أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» (129 الأعراف) وكان ذلك ردّا على قوله لهم: «اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (128: الأعراف) .
فهذا القول هو اتهام له، وتكذيب بالوعد الذي وعدهم إياه بأمر ربه..
وكان في هذا الاتهام أذى له، خاصة وهو في مواجهة فرعون، وفي معمعة الصراع المحتدم بينهما.. إنهم يكذبون موسى، ويتهمونه بالخداع لهم بهذه الأمانى التي يحدثهم بها..
وقد برأ الله موسى من هذا الاتهام الوقح، فصدقه الوعد الذي وعده، ونجّى القوم على يديه من فرعون، وأراهم من آيات الله عجبا..
والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، هم المعنيون بهذا الأمر الذي تحمله الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .. فلقد كذب إخوانهم(11/759)
اليهود موسى، واتهموه فيما وعدهم به من الخلاص من يد عدوهم، ومن التمكين لهم في الأرض، وقد صدق الله وعده، وأنجز لموسى ما وعده في قومه.. وكما صدق الله وعده موسى في قومه، سيصدق الله وعده «محمدا» فى قومه، فيكبت عدوّهم، ويمكنّ لهم في الأرض.. وكما كان موسى وجيها عند الله، ذا منزلة عالية عنده، سيكون محمدا وجيها عند ربه، فى مقام رفيع عنده..
فليكن للمنافقين والذين في قلوبهم مرض في هذا عبرة وموعظة، وليقتلوا في نفوسهم تلك الشكوك وهذه الريب في صدق الرسول.. فإنهم إن فعلوا سلمت قلوبهم من النفاق، وصحّت من المرض، وأصبحوا في عباد الله المؤمنين، الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وخلت مشاعرهم من الشكوك والتّهم، فلم تنطق ألسنتهم بالزور والبهتان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية، والآية التي بعدها.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» فهذه هى صفات المؤمنين حقّا، وذلك هو منطقهم، وتلك هى سبيلهم..
إنهم على إيمان وثيق بالله، قد امتلأت قلوبهم بتقواه، وخشيته، فلا يقولون زورا، ولا ينطقون بهتانا، وإنما قولهم الحق، ومنطقهم الصدق.. وبهذا يصلح الله أعمالهم، ويتقبلها منهم، ويغفر لهم ذنونهم.. وهذا لا يكون إلا لمن أطاع الله ورسوله: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» .. إذ أنه لا فوز أعظم من النجاة من عذاب الله، والفوز بدخول الجنة: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185: آل عمران)(11/760)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
الآيتان: (72- 73) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
التفسير:
(الأمانة التي جملها الإنسان.. ما هى؟) بهاتين الآيتين تختم السورة.. وبين بدء السورة وختامها تلاق وتجاوب، بحيث يرى وجه أحدهما في الآخر، كما يرى الشيء وصورته في مرآة مجلوّة..
ففى بدء السورة جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ..» وفي ختامها جاء قوله تعالى: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» ففى تحذير النبىّ من الكافرين والمنافقين، حراسة له ولكل من اتبع سبيله- من هذا الخطر الداهم، وهذا البلاء النازل من موالاة الكافرين والمنافقين أو مهادنتهم..
وبعد بدء السورة بقليل جاء قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» وقبل ختام السورة بقليل جاء قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» ففى قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» - إشارة إلى أنه كما لا يجتمع في الجوف قلبان، يبطل كل منهما عمل الآخر، كذلك لا يجتمع(11/761)
فى القلب شيئان ينقض أحدهما ما يبنيه الآخر ... فلا يجتمع في القلب إيمان وكفر، ولا يسكن إليه إيمان يخالطه نفاق..
وفي قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» - إشارة إلى أن الأمانة هى مما يحمل القلب، وأنه كما انفرد القلب بالسلطان على الجسم، كذلك تنفرد الأمانة بالسلطان على القلب.
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفهم «الأمانة» على أنها التكاليف الشرعية التي ائتمن الله سبحانه وتعالى الإنسان عليها، ودعاه إلى رعايتها وحفظها، وأدائها على وجه مقبول.. فيثاب على أدائها، ويعاقب على خيانتها وعدم الوفاء بها..
والعقل هو مناط التكليف.. حيث لا يقع التكليف على غير قادر مريد، مدرك لما كلّف به.. وبغير العقل لا يكون إدراك، ولا تجتمع إرادة، ولا تتحرك قدرة..
وإذ كان الإنسان هو الكائن الذي أوتى عقلا وإدراكا، من بين الكائنات، فقد كان هو الكائن الذي اختصّ بالتكليف، وبحمل أمانة ما كلّف به.
فالعقل هو المتلقى لتلك الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها..
وتلقى العقل للأمانة، هو بإدراك مالله سبحانه وتعالى من كمالات، وبهذا استحق الإنسان أن يخاطب من الله خطاب تكليف، وأن ينظر بعقله فيما كلّف به من أمر أو نهى، وأن يتعرف به ما أحل الله وما حرم، وأن يميز به الطيب من الخبيث.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ(11/762)
أَمْشاجٍ.. نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً»
أي لأجل أن نبتليه جعلناه سميعا بصيرا، أي يسمع بعقل، ويبصر بإدراك، وهذا هو السر في العدول عن سامع ومبصر، إلى صيغة المبالغة «سَمِيعاً بَصِيراً» .
والإنسان- بهذا العقل المدرك المميز للأشياء- سلطان على نفسه، مالك التصرف كيف شاء.. فله أن يؤمن أو يكفر، وله أن يطيع أو يعصى، وله أن يتقدم أو يتأخر.. وليس هذا شأن الكائنات الأخرى، حتى الملائكة- إنها جميعها على وجه واحد، لا تستطيع، بل لا تحاول أصلا، أن تخرج عن هذا الوجه الذي أقامه الله عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» .. (11: فصلت) إن الله سبحانه وتعالى يعرض الأمانة هنا على السموات والأرض.. وإنه سبحانه يدعوهما إلى أن يمتثلا أمره.. إما طوعا، وإما كرها.. والطوع، هو التسليم المطلق منها لأمر الله.. والكره هو أن يكون لهما الخيار في إمضاء مشيئة الله فيهما، وهذا الخيار لا يصير بهما آخر الأمر إلا إلى حيث أراد الله فهو خيار في ظاهره، إكراه في باطنه، فهى مكرهة في صورة طائعة.. وقد أبت السماء والأرض قبول الأمانة.. فقالتا: «أَتَيْنا طائِعِينَ» أي مستسلمين، لا إرادة لنا مع إرادة الله، ولا اتجاه لنا إلى غير ما أقامنا الله عليه..
أما الإنسان، الذي حمل الأمانة، فهو- كما يبدو في ظاهره- عالم، مريد، يعمل بعلمه، وبإرادته.. وهما صفتان من صفات الله سبحانه وتعالى، استحق بهما أن يكون خليفة لله في الأرض.. الأمر الذي لم تنله الملائكة حين قالوا: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» وقد ردّهم الله سبحانه بقوله: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» .(11/763)
والعلم الذي يستمده الإنسان من عقله، هو الحارس الأمين على الأمانة التي حملها الإنسان، فبالعلم يعرف الإنسان ربّه، وما له سبحانه من صفات الجلال والكمال.. وبالعلم يدرك التكاليف التي كلفه الله بها، فيما أمر ونهى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (27: الأنفال) وننظر في قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» فنجد:
أولا: عرض الله سبحانه وتعالى «الأمانة» على السموات والأرض والجبال..
فما معنى العرض هنا.؟
إنه- والله أعلم- عرض امتحان لهذه العوالم وما فيها ومن فيها- فى مواجهة الإنسان، حتى يظهر عجزها، ويبين فضل الإنسان عليها.. وهذا مثل عرض الأسماء على الملائكة، امتحانا لهم، فى مواجهة آدم.. فلما ظهر عجزهم- والله يعلم هذا علما أزليّا- اعترفوا لآدم بماله من فضل استوجب سجودهم له!! وفي هذا يقول الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (31- 33: البقرة) وثانيا: إباء السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة..
فما معنى هذا الإباء؟.(11/764)
نقول- والله أعلم- ليس معناه الرفض، عصيانا وخلافا.. وإنما معناه عدم موافقة طبيعة هذه العوالم لقبول هذا الأمر المعروض عليها.. فهو إباء عجز وقصور، كما عجز الملائكة عن قبول العرض في التعرف على أسماء الأشياء المعروضة عليهم.. وهكذا إذا اجتمع أمران لا توافق بينهما، ثم أريد اجتماعهما وتآلفهما من غير إرادة قاهرة- لم يجتمعا، ولم يأتلفا.. وهذا ما يشير إليه الشاعر فى قوله:
أبت الروادف والثّدىّ لقمصها ... مسّ الظهور وأن تمسّ بطونا
فهو إباء محكوم بالطبيعة، لا دخل للإرادة، أو التصنع فيه.. فحسن أن يشبه هذا الواقع منها بأنه إباء وامتناع.
وثالثا: إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة..
فهل هذا الأشفاق عن شعور وإحساس، وإدراك لفداحة الأمر وخطره؟
وإذا كان ذلك كذلك، فهناك إذن إدراك! وإذا كان إدراك لم يكن الإباء عن حمل الأمانة، إلا عصيانا وخلافا.. فكيف هذا؟.
الجواب- والله أعلم- أن هذا الإشفاق ليس عن إدراك وتقدير، وإنما هو- حركة يقابل بها الكائن- أي كائن من حيوان أو- جماد- ما يدخل عليه من شىء غريب يخرج به عن طبيعته التي أقام الله سبحانه وتعالى عليها وجوده..
فالمشفق من الشيء ينفر منه، وينقبض عنه..
وهذا- والله أعلم- هو السر في التعبير القرآنى: «وَأَشْفَقْنَ مِنْها» بدلا من «خفن منها» لأن الخائف مضطر إلى أن يتحرك، ويبتعد عن مصدر الخطر الذي يتهدد وجوده، بخلاف المشفق، إذ لا خطر يتهدده.. إنه أشبه بحلم مزعج من أحلام اليقظة!.(11/765)
وهذه الكائنات لم تكن في عرض الأمانة عليها في مواجهة خطر يتهددها، إذ أنه مجرد عرض، لا إلزام معه.. فهى إما أن تقبل بطبيعتها الأمانة، وتستجيب لها، وإما ألا تقبلها، ولا تتجاوب معها.. ومع هذا فإن مجرد هذا العرض المجرد، قد هزها هزّا عنيفا بالغا، أشبه بما يكون من العين عند دخول جسم غريب إليها..
ورابعا: قوله تعالى: «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» .
ما معنى «الواو» فى «وحملها الإنسان» ؟ هل هى واو عطف؟ فأين المعطوف عليه؟ أم هى واو الحال؟ فمن صاحب الحال؟ وما المعنى إذن؟
إذا قيل إنها واو العطف- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- كان المعطوف عليه قوله تعالى «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها» وحملها الإنسان..
المعنى على هذا، أن الإنسان كان داخلا في هذا العرض، وأنه بعض موجودات هذه الأكوان التي عرضت عليها الأمانة، وقد عجزت جميعها عن حملها، وأشفقت منها، إلا الإنسان وحده من بينها، فإنه قبل حملها بمشهد من الوجود كله في هذا الامتحان العام.
وإذا قيل إنها واو الحال- وهذا ما نراه- فيكون قوله تعالى: «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» جملة حالية، ويكون صاحب الحال الضمير العائد على الأمانة في قوله تعالى: «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها» .. ويكون المعنى: أننا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها» والحال أن الإنسان قد حملها!! وهذا المعنى يحقق أمورا:
أولها: أن قبول التكليف وحمل الأمانة طبيعة في الإنسان وأنه حال من(11/766)
أحواله على حين أن عدم قبول التكليف وحمل الأمانة، ليس من طبيعة الكائنات الأخرى ولا من شأنها..
وثانيها: أن هذه الطبيعة القابلة للتكليف وحمل الأمانة، قد انفردت من بين المخلوقات بالقدرة على ما تعجز عنه المخلوقات كلها، فى السماء وفي الأرض.. وفي هذا تكريم للإنسان، وإعلاء لقدره، ووضعه في ميزان ترجح فيه كفته على سائر المخلوقات مجتمعة..
وثالثها: أن هذا التكريم للإنسان يلقى عليه عبئا ثقيلا، يتطلب منه التفاتا قويا إلى نفسه، باستعمال القوى المدركة المودعة فيه، وحراستها من الآفات التي تعرض لها، حتى يؤدى ما اؤتمن عليه، ويثبت للوجود أنه كما وصفه الله:
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» وأنه هذا الكائن المصطفى من بين الكائنات، كما يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» فآدم صفوة خلق الله جميعا، ونوح صفوة أبناء آدم، وآل إبراهيم وآل عمران صفوة أبناء نوح..
فإذا غفل الإنسان عن هذا المقام العظيم الذي رفعه الله إليه، وانطفأت فى كيانه تلك الشعلة المقدسة، وهى العقل الذي أودعه الله فيه- لم يكن إلا ترابا من تراب هذه الأرض، وكان كما وصفه الله: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» .
وخامسا: قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» .
ما معنى هذا الوصف الذي وصف به الإنسان؟ وهل يتفق وصفه بالظلم والجهل، مع هذا الفهم الذي فهمنا الآية الكريمة عليه، وأنها تحدث عن الإنسان هذا الحديث الذي يقيمه على قمة الوجود كله؟.
والجواب على هذا- والله أعلم.. أن هذا الوصف ليس واقعا على(11/767)
الإنسان في جنسه كله، وإنما هو واقع على من خان الأمانة من بنى الإنسان، ونزل عن هذا المقام الرفيع الذي له في الكائنات، وبهذا استحق أن يوصف بأنه «ظلوم» أي عظيم الظلم، لأنه ظلم نفسه، فلم يقدرها قدرها، ولم يحفظ عليها مكانتها.. وإنه ليس أظلم ممن يظلم نفسه، ويبخسها حقها، وهو «جهول» لأنه لم يعرف قدر نفسه، ولم يحتفظ بهذا السلطان الذي له في هذا العالم.. ومن جهل نفسه فهو أجهل الجاهلين..
فوصف الإنسان بأنه ظلوم جهول، هو في الواقع إشارة إلى تلك الخسارة العظيمة، التي خسرها الإنسان بتضييع الأمانة التي كانت بين يديه، والتي حين تخلّى عنها فقد كلّ شىء، ونزل من القمة إلى القاع..
وهذا أسلوب من أساليب البلاغة في إظهار عظمة الشيء، بذم من فرط فيه وقصر في حفظه، وحراسته.. كما يقال عن إنسان كانت بين يديه فرصة عظيمة مسعدة، فأضاعها بإهماله وتواكله، فلا يجد إلا من يلوم ويقرّع بمثل هذه الكلمات: غبى!! حيوان! جاهل! ..
وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» - لا يكون تعقيبا على قوله تعالى: «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» .. وإنما هو تعقيب على محذوف، تقديره وحملها الإنسان فلم يحسن حملها، ولم يؤدها على وجهها.. وإنه بهذا التقصير كان ظلوما جهولا..
هذا هو ما اطمأن إليه القلب، واستراحت له النفس، فى فهم الآية الكريمة.. وهناك مقولات كثيرة في كتب التفسير في هذا المقام، وهى على كثرتها وتضاربها، لا تخلو من فائدة لمن ينظر فيها..(11/768)
قوله تعالى:
«لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
هذا تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ.. الآية» فمقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، هو أن يؤديها كما اؤتمن عليها.. فإن هو قصر في أدائها، أو ضيعها جميعا، كان في موضع المساءلة والعقاب.. وإن هو حفظها على قدر ما استطاع ظل محتفظا بمكانه الذي أقامه الله فيه، وهو مقام كريم في جنات النعيم..
والذي ينبغى أن يلتفت إليه هنا، هو تقديم الحساب والجزاء لمن كان منه التقصير في أداء الأمانة- تقديمه على التوبة على المؤمنين والمؤمنات..
وذلك أن الأداء للأمانة، هو المطلوب أولا، وهو الشأن الذي إذا فات الإنسان، كان في معرض الخروج من عالم الإنسانية، والنزول عن المكان الرفيع الذي وضع فيه.. وهذا هو عقابه وجزاؤه.. وهو العذاب الأليم، إذ لا عذاب أشد ولا أقسى من أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويعيش في غير بيئته..
كما ينبغى أن يلاحظ أيضا، اختصاص المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات بالعذاب هنا، لأنهم هم الذين ضيعوا الأمانة كلها، ولم يبق في أيديهم شىء منها.. إنهم جميعا على الكفر بالله.. فالمنافق.. منافق وكافر، والمشرك..
كافر ومشرك..
- أما قوله تعالى: «وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» فهو مقابل لقوله تعالى: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وكان(11/769)
مقتضى النظم أن يجىء هكذا مثلا: «ويدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات النعيم» .
والذي جاء عليه النظم القرآنى يحقق أمرين:
أولهما: أن حمل الأمانة، وأداءها كاملة، مما لا يكاد يتحقق على وجهه كاملا، إلا في صفوة مختارة من أنبياء الله ورسله..
وإذن فالمطلوب من الناس، حتى في أعلى منازلهم، وأرفع درجاتهم، أن، يقاربوا وأن يسدّدوا، وأن يأتوا من الأمر ما استطاعوا.. فإذا وقع منهم تقصير- وهو واقع حتما- فإن رحمة الله ومغفرته من وراء هذا التقصير، إذا هم تابوا، ورجعوا إلى الله، واستغفروه: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
..
وثانيهما: أن الإيمان بالله، هو ملاك الأمانة.. فمن آمن بالله، وأقر بوحدانيته، وشهد بقلبه ولسانه: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقد أمن أن يكون في المنافقين أو المشركين، وكان في المؤمنين الذين يتوب الله عليهم.. وبالتوبة تمحى السيئات، وتغفر الذنوب، وترجى النجاة من عذاب الله. «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .(11/770)
34- سورة سبأ
نزولها: مكية عدد آياتها: أربع وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وثمانون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
مناسبة السورة لما قبلها ختمت سورة الأحزاب السابقة بهذه الآية الكريمة: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» .
ثم كانت الآية التي بعدها تعقيبا عليها.. فكأنّها وما بعدها آية واحدة.
وفي هذه الآية أو الآيتين، بيان لمقام الإنسان في هذا الوجود، وأنه الكائن الذي استقلّ وحده بحمل أمانة التكليف من بين الكائنات جميعها.. وإنه لن يمسك به في مقامه هذا إلا الإيمان بالله، إيمان وعى، وإدراك، وفهم، لجلال الله وعظمته، وقدرته، وماله من تصريف في ملكه، لا معقب له، ولا شريك معه.
وتبدأ سورة «سبأ» بقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» تبدأ بهذا الاستفتاح بحمد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض..
وكأنها بهذا الاستفتاح تضع بين يدى الإنسان المفتاح الذي يحفظ به ما استودع من أمانات الله.. وهو حمد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
فحمد الله، هو ثمرة الإيمان بالله، والمعرفة بجلاله، وعظمته، وما له في ذات الإنسان، من آيات الإحسان، وسوابغ النعم.. فمن آمن بالله حق الإيمان، كان لسان ذكر وحمد وشكر، لله ربّ العالمين، وذلك فيما يرى على ضوء هذا الإيمان من فضل الله، وإحسانه.(11/771)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 9) [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)(11/772)
التفسير:
قوله تعالى:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» الحمد لله من الله سبحانه، هو حمد لذاته من ذاته.. فهو سبحانه المستحق للحمد، وإن لم ينطق بذلك لسان.. فالوجود كلّه مسبح بحمده سبحانه، إذ كان الوجود- فى ذاته- نعمة، على أية صورة كان عليها الوجود، وعلى أي وضع قام عليه.. فهو خروج من عدم.. والعدم سلب، والوجود وجوب..
الوجود شىء، والعدم لا شىء.. والوجود صفة من صفات الله، به تتحقق ذاتية الذات، وتتحدد ماهيته.. ومن هنا كان.. الحمد لله، تسبيح كل موجود وصلاة كل مخلوق: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» إشارة إلى ما استوجب الله سبحانه وتعالى من حمد فوق حمد الوجود، وهو حمد البعث، بعد الموت، الذي هو أشبه بوجود جديد للإنسان، وإمساك به من الذهاب إلى العدم الذي كان وشيكا أن ينتهى إليه بعد الموت.
- وفي قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارتان.. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، الذي ملك هذا الوجود بسلطانه المطلق، لم يكن في هذا السلطان المطلق جور، أو استبداد، لأنه سلطان في يد الحكيم الذي أحسن كل شىء خلقه، وأقامه في المقام المناسب له.. والإشارة الأخرى إلى سوء ظن الكافرين والمشركين، وأهل الضلال، بالله سبحانه وتعالى، وقصور إدراكهم لما لله(11/773)
سبحانه وتعالى من علم، وأنهم لو علموا بعض مالله من قدرة، وعلم، وسلطان، لخافوا بأسه، ولما جرءوا على عصيانه، إذ لا يجرؤ على مخالفة أمر ذى الأمر، والخروج على سلطان ذى السلطان، إلا من وقع في تصوره أن عين صاحب الأمر لا تراه، أو أن سلطان ذى السلطان لا يقدر عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (22- 23: فصلت) قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» .
هذه الآية، هى شرح وبيان لصفة «الخبير» التي وصف الحق بها ذاته، فى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» .
فالخبير، هو العالم علما كاشفا لكل شىء.. وعلم الله هو العلم الكامل كمالا مطلقا، حيث تنكشف به حقائق الأشياء كلها، إذ كان كل شىء هو صنعة الله، من مبدأ وجود المخلوق إلى كل ما يطرأ عليه من تبدل وتحول في كل لحظة من لحظات الزمن.. ولهذا وصف علم الله بالخبرة، إذ كان علما عاملا، بحيث لا يقع شىء في الوجود إلا عن علم، وعن تقدير بمقتضى هذا العلم.. فكان علمه سبحانه على هذا التمام والكمال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) - وفي قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها» . إشارة إلى بعض علم الله، فيما بين أيدى الناس، وهو هذا العالم الأرضى الذي يعيشون(11/774)
فيه.. فهذه الأرض، يعلم الله سبحانه ما يلج فيها، أي ما ينفذ إلى باطنها، ويتسرب إلى أعماقها.. فالولوج معناه دخول الشيء في الشيء، ومنه قوله تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فهو سبحانه يعلم كل حبّة في باطن الأرض، ويعلم مستقرها ومستودعها، ويعلم سبحانه ما يجرى في باطن الأرض من ماء..
كذلك- ومن باب أولى في حسابنا- يعلم سبحانه ما يخرج من الأرض من نبات، وما يتفجر من عيون..
- وفي قوله تعالى: «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها» إشارة أخرى إلى علم الله سبحانه بما فوق هذا العالم الأرضى، وهو السماء.. فهو سبحانه يعلم ما ينزل من السماء من ماء، وملائكة، وهو يعلم ما يعرج في السماء، أي ما يصعد إليها من عالم الروح الذي نزل إليها..
وفي قوله تعالى: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» - إشارة إلى أن ما يلج في الأرض وما يخرج منها، هو هذه الرحمة التي تنزل ماء من السماء، فتلج في الأرض، فتخرج منها حبّا ونباتا وجنات ألفافا.. وفي هذا حياة كل حىّ، طعاما وشرابا.. ثم إشارة أخرى إلى ما ينزل من السماء من آيات الله وكلماته، يحملها أمين الوحى إلى المصطفين من عباد الله لرسالته، فيكون فيها حياة الأرواح، وتزكية النفوس.. ثم إشارة ثالثة إلى ما يعرج في السماء، ويصعد إليها من أعمال النّاس.. وقليل منها طيب، وكثير هو الخبيث.. ومع هذا، فإن الله سبحانه لا يمسك رحمته عن النّاس، ولا يعجل لهم الجزاء، بل يوسع لهم من مغفرته ورحمته، فيغفر للمذنبين التائبين، ويرحم العصاة الفارّين بذنوبهم إلى الله: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ(11/775)
لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ»
العطف هنا في قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» - هو عطف على مضمون الآيتين السابقتين ... فهذا المضمون هو قول الوجود كلّه، وهو قول المؤمنين من النّاس.. وكأن المعنى هو:
قال الوجود كله وقال المؤمنون من عباد الله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ..» الآية وما بعدها..
هذا ما قاله الوجود، والمؤمنون.. وقد اقتضى هذا الإقرار من المؤمنين أن يؤمنوا بالآخرة وأن يعملوا لها.. أما غير المؤمنين، فلم يقولوا هذا القول، ولم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر..
والصورة إذن هى: قال الذين آمنوا آمنا باليوم الآخر، وبأن الساعة آتية لا ريب فيها، «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» ..
وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يردّ عليهم هذا الزعم الباطل، وأن يكذّب هذا الادعاء الفاسد، فقال تعالى:
«قُلْ.. بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» .. «وبلى» جواب لإثبات المستفهم عنه بالنفي، وإيجابه..
ففى قولهم: «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» نفى في طيه استفهام إنكارى، وكأنهم يقولون: «ألا تأتينا الساعة» مبالغة منهم في إنكارها، وفي تحدّى من يؤمن بها..
وقد جاء الردّ عليهم مثبتا لما نفوه، موكدّا له، قاطعا به: بهذا القسم باسم الربّ العظيم «وربّى» وبهذا التوكيد للفعل باللام والنون «لتأتينّكم» ..(11/776)
وفى القسم بالربّ، (بلى وربى) إشارة إلى ربوبية الله سبحانه، لهؤلاء الذين ينكرونه، وينكرون ما تقضى به الربوبية من الولاء الله، والتصديق برسله..
فهو إنكار غليظ، فى مواجهة الربوبية التي لا تنقطع فواضل إحسانها وإنعامها لحظة واحدة عن أي موجود، ولو انقطع ذلك لما كان لموجود وجود! - وقوله تعالى: «عالِمِ الْغَيْبِ» .. صفة للرب- سبحانه وتعالى- الذي يعلم الغيب فى السموات والأرض، ويعلم ما عليه هؤلاء الكافرون من محادّة الله..
فهو سبحانه- وقد علم منهم هذا الضلال- لن يدعهم يذهبون من غير حساب ولا جزاء، بل سيبعثهم سبحانه، ويردهم إليه، ويجزيهم بما كانوا يعملون..
- وقوله تعالى: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ» أي لا يغيب عن علمه- سبحانه- وزن ذرة، كائنة فى السموات أو فى الأرض، ولا أصغر من الذرة- وهى ما هى فى الصغر- ولا أكبر ... فكل ذلك عنده سبحانه وتعالى فى كتاب مبين، قد استودع مكنونات علمه..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» إشارة إلى حصر الموجودات كلها صغيرها وكبيرها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي مفصل فيه كل شىء تفصيلا واضحا محددا.. فما وقع فى ظن الكافرين بالله أن شيئا من هذا غائب عن علم الله إلا كان هذا فى كتاب مبين..
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» .
اللام فى قوله تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» هى لام العاقبة، أي أن عاقبة هذا العلم من الله سبحانه وتعالى لما يعمل الناس من خير أو شر، هو(11/777)
الحساب والجزاء، فيجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، جزاء حسنا..
ويجزى الذي أساءوا السّوءى وعذاب الجحيم..
وقد أطلق الجزاء الذي يجزى به الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلم يقيد بأنه جزاء حسن للدلالة على أنه أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.. إذ ليس للإحسان جزاء إلا الإحسان كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60: الرحمن) وفى الإشارة إلى المؤمنين بقوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» رفع لقدرهم، وتنويه بمنزلتهم العالية فى مقام التكريم والإحسان.. وفى الضرب عن صفة الجزاء للذين سعوا فى آيات الله معاجزين، إشارة إلى التعجيل بالجزاء السيّء لهم، ومواجهتهم به بمجرد أن يعرضوا على الحساب.. إنه عذاب من رجز أليم..
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» فضح لهم وكشف عن موقفهم الذليل فى مقام الخزي والهوان..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى أنهم كانوا يخوضون فى آيات الله خوضا، بغير حساب، استخفافا بها، وسخرية منها.. وهذا بعض السر فى تعدية الفعل «سعى» بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية.
وقوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» حال لبيان الغاية من هذا السعى الآثم فى آيات الله، وأنه لم يكن سعيا للإفادة منها، والاهتداء بهديها، وإنما هو سعى لحجبها عن الناس، ولتعجيزها، وإعجاز الناس عن الوصول إليها..
قوله تعالى:
«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .(11/778)
المفسرون يكادون يجمعون على أن هذه الآية مدنية، من بين آيات السورة المكية كلها.. ولا نجد لهم مستندا لهذا القول إلا ما تشير إليه الآية من الحديث عن الذين أوتوا العلم.. وإذا كان الذين أوتوا العلم هنا هم أهل الكتاب- وخاصة علماء اليهود- وإذا كانت السورة مكية، والقرآن المكي لم يخاطب أهل الكتاب بعد، فيكون من مقتضى هذا، أن الآية من القرآن المدني الذي نزل فى مواجهة أهل الكتاب بعد الهجرة!! .. هكذا كان تقدير القائلين بأن هذه الآية مدنية..
ولا معوّل- عندنا- على هذا الاستنتاج الذي لا يسنده خبر صحيح.. وعلى هذا، فالآية مكية مثل آيات السورة كلها.
وأما الإشارة إلى الذين أوتوا العلم، وليكن المراد بهم أهل الكتاب، فإن هذا لا يمنع من أن يتحدث القرآن عن أهل الكتاب، وأن يستدعيهم الشهادة على ما يعلمون من آيات الله، وأنها الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك قبل أن تلتقى بهم الدعوة، وتلقاهم لقاء مباشرا..
وسواء أشهد أهل الكتاب أم لم يشهدوا، وسواء أكانت شهادتهم حقا أو باطلا، فإن هذه الإشارة إليهم، هى مطالبة لهم بأن يقولوا ما عندهم من علم عن هذا الرسول، وعن الكتاب الذي بين يديه، وأن ينطقوا بألسنتهم ما كتموه فى صدورهم ... فإن لم يفعلوا فقد أثموا، وأدينوا، لأنهم خالفوا ما أمرهم الله به، ونقضوا الميثاق الذي أخذه عليهم، كما يقول سبحانه «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» (187: آل عمران) ثم إن فى هذا إرهاصا بما سيكون لهذه الدعوة من شأن مع أهل الكتاب، وأنهم سيدعون إليها، ويطالبون بالايمان بها، وذلك حين يجىء دورهم..(11/779)
وقوله تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» .. والمراد بالرؤية هنا، العلم..
- وقوله تعالى: «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» «الذي» مفعول أول للفعل يرى، بمعنى يعلم، ومفعوله الثاني هو قوله تعالى: (الْحَقَّ) .. والضمير (هو) (ضمير فصل يشير إلى القرآن الكريم. ويلفت إليه، وينوه به.. وفى تعريف «الحق» ما يفيد القصر، وذلك بتعريف ركنى الجملة إذ أن أصل الكلام هو: «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» .. أي الذي لا حقّ وراءه.. فهو وحده الحق، وما سواه خارج عليه، فهو الباطل..
وقوله تعالى: «وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. معطوف على المفعول الثاني «الحقّ» .. فهو جملة فى محل نصب.. أي ويعلم الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك من ربّك يهدى إلى صراط العزيز الحميد..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» .. أي أن الذين أوتوا العلم رأوا، ما أنزل إلى النبىّ من آيات ربه، فعلموا أنها الحقّ، وقالوا- بلسان الحال- آمنا به، وبما حدّث به عن البعث والحساب والجزاء.. وكان قول الذين كفروا هو الاستهزاء والسخرية برسول الله، والتكذيب لآيات الله.. فقالوا ساخرين مستهزئين منكرين:
«هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ..
إنهم يتنادون فيما بينهم، ويدعو بعضهم بعضا إلى هذا العجب الذي يحدّثهم به النبىّ صلى الله عليه وسلم، من أمر البعث والحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونار..(11/780)
قوله تعالى:
«أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» هذا هو مجمل ما يجيب به بعضهم بعضا، على هذه التساؤلات التي يتساءلونها فى أمر هذا الخبر العجيب الذي يحدثهم به النبىّ عن البعث.. إنهم ينتهون إلى أن يضعوا النبىّ بين أمرين، لا ثالث لهما: إما أن يكون رجلا افترى على الله الكذب فيما يحدثهم به، ويقول عنه إنه من عند الله.. فهذا الحديث- عندهم- لا يكون من الله، لأن الله لا يعقل منه أن يقول مثل هذا القول غير المعقول.. وإما أن يكون هذا الرجل مجنونا، يلقى الكلام كما يصوّره له جنونه.. وإذن فعلى كلا الأمرين، لا يسمع له، ولا يلتفت إليه..
وفى قولهم على «رجل» إمعان منهم فى الاستصغار لشأن النبي، وأنه أقلّ من أن يذكر باسمه أو صفته.. ولهذا ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» .. فأضرب الله على كلامهم وأبطله، ثم ألقى بهم فى العذاب، وألبسهم لباس العمى والضلال..
وقدّم العذاب على الضلال، مع أن العذاب الذي سينالهم هو من ثمرة ضلالهم- قدم هذا، استعجالا لما يسوءهم، واستحضارا للبلاء الذي ظنوا أنهم فى مأمن منه..
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ»(11/781)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين كانوا يسخرون من رسول الله.
ويكذبون بآيات الله، ولا يرجون لقاء الله.. فهؤلاء وقد توعدهم الله بالعذاب الأليم فى الآخرة، إن كانوا قد شكوا فى هذا الوعيد، أو استبعدوا يومه، فلينظروا فيما حولهم، وفيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض.. من يمسك السماء أن تسقط عليهم؟ ومن يحفظ الأرض أن نخسف بهم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ ذلك ما لا سبيل إلى إنكاره.. وإذا كان ذلك كذلك وقد عصوا الله، وحادوا رسوله- أفلا يمكن أن يعاجلهم الله بالعقاب فى الدنيا؟
أهناك من يعصمهم من بأس الله إذا جاءهم؟ أهناك من يردّ مشيئة الله لو شاء سبحانه أن يخسف بهم الأرض، أو يسقط عليهم حجارة من السماء؟
وفى قوله تعالى «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» إشارة إلى أن هذا الذي تحدث به الآية عن قدرة الله وعن بأسه الذي لا يرد، لا يلتفت إليه ولا ينتفع به إلا من كان ذا عقل متفتح، وبصيرة نافذة، وقلب سليم، إذا رأى الحق عرفه، وإذا عرفه آمن به، وعمل على هداه، فإن كان كافرا آمن بالله، وإن كان عاصيا تاب إلى الله ورجع إليه من قريب، أما من أنام عقله، وأغلق قلبه، فإنه يظل مجمدا على حال واحدة، لا يتحول عنها، ولا يرجع عن الطريق الذي ركبه، وإن كان فيه مهلكه.
الآيات: (10- 14) [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)(11/782)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
أوبى معه: أي سبحى معه ورددى ما يقول من آيات الشكر والحمد لله..
السابغات: الدروع الضافية، الكاسية.. ونعمة سابغة: أي كثيرة عامة شاملة، تغنى صاحبها، وتستر حاجته، وتسد خلّته..
وقدر فى السرد: أي اعمل بحساب وتقدير فى نسج الدروع من الحديد، ووصل حلقات بعضها ببعض. ومنه قوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» .. أي أوجدها فى دقة وإحكام..
ومناسبة الآية لما قبلها، أن الآية السابقة عليها ختمت بقوله تعالى. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» فجاءت هذه الآية لتكشف عن صورة كريمة للإنسان الذي يحقق معنى الإنابة، على التمام والكمال، وهو داود عليه السلام.
وإذا كان داود وسليمان قد خلع الله سبحانه وتعالى عليهما هذه الخلع العظيمة(11/783)
من نعمه، فإن هذه النعم لا يقام بحقها، ولا يؤدّى بعض ما لله على عباده منها، إلا إذا كانت النعم ابتلاء من الله.. كالنقم سواء بسواء، فمن لم يصبر على مراقبة الله فيما حوله من نعم، ضل وانحرف، وفى قارون مثل بيّن فى هذا.. ولهذا جاء قول سليمان، فيما حكاه الله عنه، بعد أن طلب عرش ملكة سبأ فوجده بين يديه، جاء قوله. «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» كاشفا عن تلك الحقيقة من أمر النعم، وأنها قد تدعو من لا يحرص على مراقبة الله فيها.
إلى الكفر والضلال.. وقد كان داود عليه السلام فى حراسة دائمة لنفسه.
وفى مراجعة لكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وأنه كلما وجد من نفسه ما لا يرضاه فى صلته بربه، بادر بإصلاح ما كان منه، وصالح ربّه بالتوبة والاستغفار..
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى عنه: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» .
- وقوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» بيان لما أنعم الله به على عبده داود من فواضل إحسانه وكرمه.. وفى تقديم متعلق الفعل وهو الجار والمجرور «منّا» على المفعول به «فضلا» تعظيم للمنعم. وإشارة إلى علو المقام الذي جاء منه الإحسان، فيقطع العقل بأنه إحسان عظيم قبل أن يكشف عن الإحسان.
- وقوله تعالى: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» .. هو مقول لقول محذوف.. والتقدير فشكر لنا هذا الفضل، وسبح بحمدنا على هذا الإحسان، فقبلنا منه شكره وحمده، وقلنا «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» أي سبحى، وأعينيه على حمدنا وشكرنا، إذ كانت نعمنا عليه كثيرة، لا يستطيع أحد شكرها، مهما اجتهد فى الشكر، وبالغ فى الحمد.. فمن فضل الله على عباده أن يحسن إليهم، ومن تمام هذا الإحسان أن يعينهم على شكره، ومن مضاعفة العون أن يسخر غيرهم ليكونوا ألسنة من ألسنة الشكر لله معهم على ما أنعم الله عليهم.(11/784)
فالجبال هنا مأمورة من الله سبحانه أن تسبّح مع داود، وأن تقوم إلى جانبه شاكرة لله، وكأنها من صنعة داود، وغرس يديه.. وهذا إحسان من الله على عبده داود، فوق إحسان، وفضل فوق فضل.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» أي زيادة فى الإحسان، ومزيدا من النعم، يفضل بهما كثيرا ممن أنعمنا عليهم من عبادنا..
والتأويب: الترديد والترجيع، فهو من الأوب، والرجوع.. وتأويب الجبال مع داود، هو ترديد تسبيحه، فيكون ذلك أشبه بالصدى للصوت، حيث، يرجع الصوت فى هذا الصدى إلى مصدره الذي جاء منه.
وقوله تعالى: «وَالطَّيْرَ» .. الواو هنا واو المعية، والطير مفعول معه..
والتقدير: وقلنا يا جبال أوّبى معه، مع الطير التي تسبح معه.
وعلى هذا يكون الأمر من الله سبحانه وتعالى، متجها إلى الجبال، وإلى الطير، لتشارك داود التسبيح لله، ولتعينه على حمد الله وشكره..
واختيار الجبال، والطير، من بين الكائنات كلها، إنما هو- والله أعلم- لأن الجبال أبرز وجوه الأرض، فهى أشبه بالسلطان القائم عليها، والطيور هى ملوك السماء، وأبرز ما يحلّق فى أجوائها من ذوات الأجنحة، كالذباب، والبعوض، وغيره..
وقوله تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» أي أخضعناه لسلطانه، وجعلنا له القدرة على التصرف فيه، وتشكيله على الوجه الذي يريد..
والذي يجمع عليه المفسرون، أن الله قد ألان الحديد ليد داود، وغيّر طبيعته، فجعله فى يده مثل العجين، يشكّله كيف يشاء، كما يشكل المرء صورة من الطين أو العجين..(11/785)
والرأى عندنا- والله أعلم- أن إلانة الحديد لداود، إنما كانت جارية على سنن الحياة، وأن الله سبحانه قد علّمه الأسلوب الذي يلين به الحديد، وهو عرضه على النار، والنفخ فى النار حتى يحمّر، ويقبل الطرق..
وذلك ما لم يكن معروفا للناس فى ذلك الزمن.. ولهذا كان داود أول من صنع من الحديد دروعا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» (80: الأنبياء) .. وبهذا يكون داود عليه السلام، أول من طرق الحديد، متوسلا إلى ذلك بما علمه الله، من عرض الحديد على النار، حتى يلين، ويقبل الطرق..
وقوله تعالى: «أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» أي وأوحينا إليه أن عمل دروعا سابغات..
وقوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي أحكم السرد، واضبطه.. وهذا توجيه من الله سبحانه وتعالى بإتقان العمل، وإحسانه، وضبطه على أحسن وجه له..
وقوله تعالى: «وَاعْمَلُوا صالِحاً» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي أحسن الصنعة وأحكمها.. وأحسنوا أيها الناس جميعا كلّ عمل تعملونه، وأخرجوه على الوجه المرضىّ.. فإن إحسان العمل مما يحسب فى الصالحات للإنسان.. فليس الإحسان فى العمل مطلوبا من الأنبياء وحدهم، وإنما هو مطلوب من كل إنسان.. «وَأَحْسِنُوا.. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وقوله تعالى: «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى مطلع على عمل كل عامل، وأنه سبحانه بصير بما يعمل العاملون، يكشف ما فى العمل من عيب أو عوج..(11/786)
ويجازى المحسن على إحسانه، والمسيء بإساءته.. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» .
قوله تعالى:
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» ..
الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» أي:
«ولقد آتينا داود منا فضلا، وسخرنا لسليمان الريح..» !
وقوله تعالى: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» .
الغدوّ: أول النهار، وفيه تغدو الكائنات إلى حيث تطلب رزقها وغذاءها..
والرواح: آخر النهار، حيث ترجع الكائنات الغادية، وتروح إلى مراحها الذي ترتاح فيه، بعد عمل يومها..
ومعنى غدوها شهر ورواحها شهر، أي أن مسيرة الريح المسخّرة لسليمان، فى غدوة، تقدّر بمسيرة شهر، سيرا على القدم، كما أن مراحها، ورجوعها من غدوتها، يعدل مسيرة شهر.. كذلك..
أما ما يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الريح كانت تنطلق شهرا غادية، وشهرا رائحة، فى حدود مملكة سليمان- فهذا بعيد، لأن رقعة مملكة سليمان لم تكن تتجاوز حدود فلسطين، وهذه الرقعة هى التي يمكن أن تقطعها الريح فى غدوة أو روحة من نهار.. وأقرب شاهد لهذا ما جاء فى القرآن الكريم من أن سليمان لم يكن يعرف مملكة سبأ حتى أخبره(11/787)
الهدهد بخبرها.. فلو كان ملك سليمان مما يتسع لجريان الريح شهرا فيه، لكان ذلك ملكا يسع معظم العالم كله، ولكانت سبأ داخلة فى سلطان هذا الملك، من باب أولى..
وقوله تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» أي النحاس.. والنحاس أشد من الحديد إباء على النار.. فهو يحتاج فى صهره إلى قوة حرارية أكثر مما يحتاج إليه الحديد..
وإذا كان داود قد عرف كيف يليّن الحديد، فإن سنة التطور تقضى بأن يتعرف ابنه سليمان على القوة الحرارية التي يتمكن بها من إلانة النحاس وصهره..!
والتعبير عن الحديد بالإلانة فى قوله تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» ، وعن النحاس بالسيولة- فى قوله تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» - إشارة إلى اختلاف طبيعتى كلّ من الحديد والنحاس، وأن الحد يمكن تشكيله بالطرق إذا سخن ولان.. أما النحاس، فلا ينتفع به حتى ينصهر، ويتحول إلى مادة أقرب ما تكون إلى السوائل.. وهذا ما نجده فى قوله تعالى على لسان ذى القرنين. «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» .. فالحديد هنا قد عرض على النار حتى احمر وصار أشبه بالجمر.. ثم جاء بالقطر- وهو النحاس الذائب- فأفرغه على هذا الحديد، وصبّه فوقه، كما يصب الماء على النار!! وعين القطر، هو الخالص منه.. فهو نحاس خالص، لم يختلط بشىء، مما يسمى «الشّبه» أي شبه النحاس..
وقوله تعالى: «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» أي وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ويستجيب لأمره من غير مراجعة.(11/788)
والجنّ عالم غير مرئى، يعيش معنا على هذه الأرض، كما تعيش كثير من المخلوقات، غير المرئية، كالديدان فى باطن الأرض، وكأنواع كثيرة من الأسماك فى أعماق المحيطات.. وكوننا لا نرى هذه الكائنات، لا يدعونا الأمر إلى إنكارها، أو الشك فى وجودها..
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنّ، وأنزل سورة باسمهم، وقصّ علينا شأنا من شئونهم، وأعلمنا أن منهم المؤمنين، وأن منهم الفاسقين.. فيلزمنا التصديق بهم.. كما تحدث القرآن عنهم..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» إشارة إلى أن سلطان الله سبحانه وتعالى قائم على هذه الكائنات، وأنه سبحانه قد سخّرها لتخدم عبدا من عباده، هو سليمان- عليه السلام- فهى واقعة تحت هذا الحكم، لا تخرج عنه. ومن خرج عنه منها، عذبه الله عذابا أليما..
وليس كل الجن سخّر لسليمان، وإنما بعض منهم، كما يفهم من قوله تعالى:
«وَمِنَ الْجِنِّ» أي ومن بعض الجن..
قوله تعالى:
«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» ..
أي أن هذه الجماعة من الجن، التي سخرها الله لسليمان، تعمل له ما يشاء: «من محاريب» أي بيوت عبادة، فالمحراب هو مكان العبادة، كما قال تعالى:
«فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ» .. «وتماثيل» أي صور كائنات وأشياء مجسدة، يزين بها ما يبنى من دور وقصور، وبيوت عبادة، «وجفان كالجواب» الجفان جمع جفنة، وهى القصعة الكبيرة يوضع فيها الطعام للآكلين.(11/789)
والجواب: جمع جابية وهى حوض كبير يجتمع فيه الماء، ومنه جبيت الخراج، أي جمعته، «وقدور راسيات» : القدور جمع قدر، وهو ما يطبخ فيه الطعام، وينضج على النار «وراسيات» أي ثابتات كالجبال، لا تنتقل لضخامتها.
وفى وصف الجفان بهذه الضخامة والاتساع، ووصف القدور بهذه الأحجام العظيمة- دليل على سعة ملك سليمان، وما بسط الله له من رزق، حتى ليطعم على مائدته هذه الأعداد الكثيرة من الناس، التي أعدت لها تلك الأوانى والأدوات، لتهيئة الطعام لها..
وقوله تعالى: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» .. أي اعملوا عملا، تقدمونه شكرا لله، بما أسبغ عليكم من نعم، وما أضفى عليكم من إحسان..
فالشكر المطلوب هنا من آل داود، هو شكر بالعمل، بعد شكرهم باللسان، كما جاء ذلك فى قوله تعالى: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» .. وهذا ما يشير إلى أن هذه الجفان التي كالجواب، وتلك القدور الراسيات كالجبال، إنما كانت لإطعام الفقراء والمساكين، وأن قوله تعالى: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» هو حثّ لهم على الاستزادة من هذا الإحسان، الذي قبله الله منهم، ورضيه لهم..
وقوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» هو تحريض لآل داود على أن يستزيدوا من شكر الله بهذا الذي يعملونه، وأنه إذا كان فى الناس كثير من الشاكرين لله، فإن قليلا منهم من يستحق وصف الشكور.. فتلك منزلة عالية فى مقام الإحسان، وآل داود أولى بهم أن يبلغوها، ويصبحوا من أهلها.
وهنا ملحظ لا بد منه، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد كان من نعمه على سليمان أن سخر له الجن لتعمل له فيما تعمل- «تماثيل» منحوتة من صخر، أو منجورة من خشب، أو مصبوبة من حديد ونحاس.. وهذا يعنى أن صناعة(11/790)
التماثيل ليست مما يقع فى دائرة التحريم، أو الكراهية، وإلا لكان نبىّ الله سليمان أبعد الناس عن ملابسة هذه الصناعة، والانتفاع بها..
بقي بعد هذا أن نسأل:
لماذا قامت هذه الجفوة بين المسلمين وبين ممارسة فنّ النحت، والتصوير، والرسم، وغيرها من الفنون الجميلة؟
ولا نجد لهذا الجفاء مستندا من كتاب الله، ولا من السنة الصحيحة.. بل إن عكس هذا هو الصحيح.. إذ كانت دعوة الإسلام دعوة تلتقى بالإنسان عن طريق عقله وقلبه، وتخاطبه فى مواجهة مدركاته، ومشاعره ووجداناته..
ودعوة على هذا الأساس لا يمكن أن تحجر على ملكات الإنسان، أو أن تكبت مشاعره، وتحول بينه وبين أي فن جميل يثير المدارك، ويغذى المشاعر والعواطف..
والذي يمكن أن يكون من الإسلام فى أول أمره، أنه لم يفتح صدره لفنّ النحت، ولم يفتح للناس طريقا إليه، خاصة وأن المجتمع الإسلامى يومئذ، كان خارجا من جاهلية اتخذت من النحت غاية لا تتجاوز صناعة الأصنام وعبادتها..
فكان من الحكمة أن تخفّ فى الإسلام موازين النحت، الذي لم يلد على يد المجتمع الجاهلى إلا هذا الإثم الذي عكفوا على عبادته.. وهذا الموقف يشبه موقف الإسلام من الشّعر، الذي كان يحمل قدرا كبيرا من الضلال والإفك..
وقد كان من الطبيعي أن يردّ إلى النحت والتصوير والرسم، وغيرها، اعتبارها، بعد أن ماتت فى النفوس عبادة الأصنام، واختفت شخوصها إلى الأبد..
ولكن الذي حدث، هو الإمعان فى الجفوة لهذه الفنون، لا لسبب إلا أنها(11/791)
لم تكن من مادة الحياة فى عصر النبوة أو فى عصر الخلفاء الراشدين.. وقد فات الذين ينظرون إلى هذه الفنون من خلال عصر النبوة، أن هذا العصر كان يعالج النفوس، والقلوب والعقول، من آفات كثيرة علقت بها، وأنه لم يعرض للجوانب السليمة المعافاة من الأدواء فى كيان الإنسان، بل تركها تجرى على طبيعتها، وبقدر ما تحمل من طاقات وملكات! قوله تعالى:
«فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» .
تكشف هذه الآية عن حقيقة الجن، وتصحح تلك الصّور المشوهة التي وقعت فى أوهام الناس لهم، بنسبة الخوارق إليهم، وأنهم يقدرون على كل شىء قدرة مطلقة، وأنهم يعلمون الغيب، ولهذا يلجأ كثير من الناس إلى محاولة الاتصال بالجن، كما يفعل العرافون والسحرة وغيرهم، ففى قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» - إشارة إلى أن سليمان حين حان أجله، وقضى الله عليه الموت، أي أوجب عليه الموت حين جاء وقته، وكان سليمان حين مات، قائما بين الجنّ وهم بين يديه يعملون له- لم يعلموا بموته، وظلوا يعملون فيما أمرهم به..
ولم يدلّهم على أنه قد مات إلا دابة الأرض، التي كانت تأكل منسأته، أي عصاه التي كان يتكىء عليها.. فلما عبثت دابة الأرض بالعصا، زايلت موضعها، وسقطت على الأرض. وخر سليمان على الأرض كذلك.. وهنا علم الجن أن سليمان قد مات.. فأخلوا مكانهم، ومضوا إلى حيث يشاءون!! ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أن سليمان قد مات، ولو كان بعيدا عنهم، فكيف وهو تحت سمعهم وبصرهم؟(11/792)
إن الجن كائنات محدودة القدرة، واقعة فى قيد العجز عن كثير من الأمور، شأنها فى هذا شأن الإنسان.. الذي يقدر على القليل، ويعجز عن الكثير.
وقد كثرت الأقوال فى دابة الأرض، وفى المدة التي قضتها حتى أكلت العصا، وأتت عليها.. والرأى الذي عليه المفسرون أنها الأرضة، وهى دودة تتسلط على الخشب، فتنخر فيه وتفسده، وتسمّى «السوس» .. وأنها ظلت تفعل هذا مدة طويلة، بلغ بها بعضهم سنة! والذي حمل المفسرين على القول بأن الدابة هى الأرض- هو- في ظننا- إضافة الدابة إلى الأرض.. أي أنها صغيرة ضئيلة، ملتصقة بالأرض..
كبعض الحشرات..
والرأى عندنا، أن الدابة، كل ما دبّ على الأرض.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» فكل ما دبّ على الأرض، من إنسان وحيوان، فهو دابة، وكونها فى الأرض، أو على الأرض، لا يغير من الأمر شيئا، وأنه إذا كان لإضافتها إلى الأرض هنا شأن خاص، فهو- والله أعلم- المبالغة فى الإشارة إلى جهل الجنّ بعلم ما فى الغيب، وأن دابة من دوابّ الله فى الأرض، أعلم منهم، حيث دلتهم، وكشفت لهم عما عجزوا وهم عن كشفه، وهى مما على الأرض، فكيف بما فى السماء من عوالم المخلوقات؟
وليس ببعيد أن تكون الدابة التي كانت تأكل من عصا سليمان، شيئا أكبر من الأرضة، وليس ببعيد ألا تكون الدابة واحدة، بل أعدادا كثيرة من نوع هذه الدابة.. فإن اللفظ يحتمل هذا..
وعلى هذا، فالذى يمكن أن تفهم عليه دابة الأرض، هو أن تكون هذه الدابة حيوانا كبيرا مما يدب على الأرض، ويمكن أن يتناول العصا بفمه، ويحاول الأكل منها، كبعض الحيوانات آكلة العشب، مع احتمال أن تكون(11/793)
عصا سليمان من بعض أغصان الزيتون الخضراء، التي لم تجفّ بعد.. فليس ببعيد- والأمر هكذا- أن تكون هناك شاة أو نحوها قد تمسّحت به، ومدت فمها إلى العصا، تريد الأكل منها، فوقعت العصا وخرّ سليمان إذ كان ميتا..
أما أن يظل سليمان هذا الزمن الطويل الذي يتجاوز الأيام إلى الأسابيع والشهور، وهو نائم، دون أن يفتقده أحد من رعيته، وأعوانه، ووزرائه، وقواده، فذلك ما لا يقبله العقل، وإن قيل أن جثته لم تتغير ولم تتحلّل خلال هذه المدة!! إنه من غير المعقول الذي يرتفع إلى درجة المستحيل، أن يغيب سليمان عن تدبير مملكته أياما، ثم لا يلتفت إليه أحد!! إن أي إنسان ذى شأن، لا يمكن أن تغفل عنه العيون يوما أو بعض يوم، فكيف بصاحب هذا السلطان العظيم؟
ويمكن كذلك أن تكون الأرضة قد كانت متسلطة على عصا سليمان، وهو لا يعلم، وأنه كان يحمل تلك العصا وقد عاث السوس فيها، حتى إذا كان متكئا عليها فى مجلس من مجالسه، لم تتحمل طول اتكائه عليها، فانكسرت به حين مات وثقل جسمه، كما هو الشأن فى كل ميت! والسؤال هنا: هل كان الجن لا يعلمون أنهم لا يعلمون الغيب حتى وقعت هذه الواقعة، وانكشف لهم منها أنهم معزولون عن علم الغيب؟
والجواب- والله أعلم- أنهم كانوا بما لهم قدرة على الحركة والانطلاق فى آفاق فسيحة، يظنون أنهم أقدر من الإنسان على النظر البعيد الذي يكشف ما سيأتى به الغد، بالنسبة للإنسان الذي لا يرى مثل هذه الرؤية البعيدة. فمثلا إنسان على طريق سفر يمكن أن تراه الجنّ، وتخبر عنه، وعن حاله على هذا الطريق، والحديث الذي يتحدث به، والأمتعة التي معه، وبعدكم من الزمن سيصل إلى المكان الذي يتحدث فيه أهله عنه.. كل هذه الأمور وكثير(11/794)
غيرها يمكن أن يعلمها الجن، قبل أن يعملها الإنسان الذي فى الطرف الآخر من هذه الوقائع.. وهو فى الواقع ليس من علم الغيب، وإنما هو مشاهدة، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأى العين.. فهو حضور بالنسبة للجن، ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث.. حيث يرى الجن- ولا نرى نحن البشر- ما وراء الأبواب المغلقة، أو الجدر القائمة، ونحوها..
وهذا غيب بالنسبة لنا، ولكنه حضور بالإضافة إلى الجن..
أما الغيب بالنسبة للجن، فهو الأحداث التي لم تولد بعد، ولم تخرج إلى عالم الشهود، كمقدّرات الله فى خلقه، وما يلقون على طريق حياتهم من خير أو شر.. كالعمر، والرزق والذرية، وغير ذلك مما هو مقدر على الإنسان..
ومثل الإنسان فى هذا سائر المخلوقات، وما قدّره الله لكل مخلوق.. فهذه المقدرات التي هى فى حالة كمون، لم تتحرك بعد إلى الظهور، لا يعلمها إلا علام الغيوب، وإلا من اصطفى من رسله، فأظهره على بعض ما انطوى فى صحف الغيب.
وموت سليمان بالنسبة للجن هو غيب، إذ أن الروح التي كانت تلبس سليمان وتضفى عليه الحياة، هى سر من أسرار الله، وغيب من غيوبه، وأمر من أمره، لا يعلمه إلا هو، فلما زايلت مكانها من سليمان، لم يشعر الجن بها، ولم يعلموا من أمرها شيئا، وحسبوا سليمان- وهو ميت- أنه فى غفوة، أو فى سنة من النوم.. فلما سقطت العصا التي كان يتكىء عليها، وخرّ ميتا دون حراك، علم الجن أنه مات، وتبين لهم من ذلك أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أمر الروح التي زايلت سليمان، ولعلموا أنه مات، ولما لبثوا فى قيد التسخير والعمل يوما أو بعض يوم.. إنه عذاب مهين لهم، وإذلال لسلطانهم، وقهر لجبروتهم.(11/795)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
الآيات: (15- 21) [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
التفسير بدأت السورة بحمد الله، الذي له ما فى السموات والأرض، ودعت الناس إلى حمده سبحانه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ كان- سبحانه- المتفرد بالخلق والإحسان..
وقد كشفت الآية فى هذا المقام عن الناس، فإذا هم فريقان، حامد مؤمن بالله واليوم الآخر، وجاحد بكفر بالله وبالبعث وبالحساب والجزاء..
ثم عرضت الآيات بعد هذا، صورة للحامدين الشاكرين المؤمنين بالله وباليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم العظيمة، والسلطان العريض.. وذلك فيما كان من داود وابنه سليمان، عليهما السلام.. ففى ذلك آية لأولى الألباب..(11/796)
وفى هذه الآيات التي نحن بين يديها- عرض للجاحدين، الكافرين بالله واليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم السابغة والخير الوفير.. وفى هذا آية أخرى.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
وقوله تعالى:
«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ» - إشارة إلى هذه الجماعة التي كانت تسكن تلك البقعة، الخصيبة المعطاءة للخير.. وهى سبأ من أرض اليمن..
والمراد بسبأ هنا هم أهلها.. والمراد بمسكنهم، الحياة التي كانوا فيها..
و «آية» اسم كان، ولسبأ خبرها..
وقوله تعالى:
«جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» بدل من «آية» .. والتقدير: أنه كان لأهل سبأ آية، هى جنتان عن يمين وشمال.. وقد كان لهم فى هذه الآية منطلق إلى الإيمان بالله، والقيام بحمده وشكره.. ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الآية، بل زادتهم كفرا وإلحادا، ومحادّة لله.
والمراد باليمين والشمال: كثرة الخير من حولهم، حيث يملئون أيديهم منه، وحيث يتناولونه من قريب، إن أرادوه بيمينهم وجدوه، وإن أرادوه بشمالهم تناولوه، دون أن يجهدوا أنفسهم بالتحول من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين.. وهذا مثل قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» (48: النحل) ومثل قوله سبحانه: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» (37: المعارج) ..
فالمراد بهذا كله الإحاطة من كل جانب..
وقوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ» أمر يراد به الإلفات إلى هذه النعم العظيمة التي أسبغها الله على القوم، وليس المراد به الأمر بالأكل على إطلاقه.(11/797)
وقوله تعالى: «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ» :.. المراد بالبلدة الطيبة كثرة خيرها، ووفرة عطائها.. فهم فيها فى نعم كثيرة، وخير موفور.. ومن تمام هذه النعم وذلك الخير، أن المتفضل بهذا كله هو «ربّ غفور» .. يتجاوز عن السيئات، ويقبل التائبين، ويعفو عنهم.. وبهذا تطيب النعمة، ويتّسع للإنسان مجال التمتع بها، على خلاف ما لو كان ربّ هذه النعم، يحاسب على الصغير والكبير، ويأخذ أصحابها بكل ما اقترفوا، فذلك مما يقيم الإنسان على حذر متصل وخوف دائم، فلا يهنؤه ما بين يديه من نعم! قوله تعالى:
«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ» أي أنهم أعرضوا عن أمر ربهم، بالأكل من هذا الرزق، والحياة مع هذه النعم، فى ظلّ من الإيمان بالله، والحمد له.. فتنكروا لهذه النعم، وجحدوا هذا الإحسان، ونسوا ربهم، ولم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا.. فكان أن أخذهم الله بما يأخذ به الظالمين، فأرسل عليهم سيلا عارما جارفا، أتى على جنتيهم، وأفسد كل صالحة فيها.. ثم أعقبهم جدبا وقحطا، فأمسك الماء عنهم، ونبت مكان هاتين الجنتين ما ينبت فى الأرض الجديب، من خسيس النبات والشجر، ومن ردىء الفاكهة والثمر..
وفى مقابلة الجنتين الطيبتين، بهذه الصورة الكئيبة لما تنبت الأرض، وفى وصف هذه الصورة بالجنّتين- ما يكشف عن مدى هذا التحول الذي أصاب القوم فى حياتهم، وعن الحسرة التي تملأ قلوبهم، حين ينظرون إلى جنتيهم الذاهبتين، ثم إلى هاتين الجنتين اللتين بين أيديهم.. فهذا هو ما يمكن أن يحصلوا عليه من جنات، إن كان يصحّ أن يكون ما فى أيديهم مما يطلق عليه(11/798)
هذا الاسم..!! إنه لا جنّة لهم غير هذا النبات الخسيس، الذي تعاف رعيه الأنعام! والمراد بالجنتين- هنا أو هناك- الامتداد والاتساع..
والخمط: الرديء من الثمر والأثل: شجر لا ثمر له..
والسّدر: شجر النّبق..
قوله تعالى:
«ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» ..
«ذلك» إشارة إلى ما حلّ بالقوم من نكال وبلاء.. وهو مبتدأ، محذوف خبره، وتقديره: ذلك ما جزيناهم به.. وقوله تعالى: «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا» بدل من هذا المحذوف المشار إليه، وعطف بيان له..
وقوله تعالى: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» أي لم يكن جزاؤنا لهم إلا بسبب كفرهم بنعمتنا، فما تحل نقمتنا، إلا بمن يكفر بنا وبإحساننا.. «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) والمجازاة غير الابتلاء.. فالمجازاة عقاب على ذنب اقترف، والابتلاه امتحان واختبار.. فقد يبتلى الله المحسنين بالضر، كما يبتلى المسيئين بالنفع..
ولهذا جاء التعبير القرآنى هنا: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» أي لا نعاقب إلا من يستحق العقاب من أهل الكفر والضلال.. فلا اعتراض إذن لما يصاب به أهل الإحسان فى أموالهم أو أنفسهم، فذلك ابتلاء من الله لهم، وامتحان لإيمانهم، يزدادون به درجة فى مقام الإحسان، إذا هم صبروا على هذا الابتلاء..
وليس ذلك الابتلاء من باب المجازاة لهم على ذنب اقترفوه..(11/799)
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ.. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» ..
الحديث فى هذه الآية عن أهل سبأ أيضا، وعما كان الله سبحانه وتعالى قد ألبسهم إياه من نعم.. فهو معطوف على قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» على تقدير قلنا لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له..
أي قلنا لهم ذلك، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة ...
والقرى التي بارك الله فيها، هى قرى أرض الشام، التي كان يرحل إليها أهل سبأ، ويتجرون معها، وسميت قرى مباركة، لأنها فى الأرض المباركة، المقدسة، كما يقول الله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» والقرى الظاهرة، التي كانت بينهم وبين القرى المباركة، هى ما كان يلقاهم على طريقهم من اليمن إلى الشام، من منازل، وقرى، حيث يجدون فيها الأمن والراحة..
وقوله تعالى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» أي جعلناها صالحة للسير فيها، والتنقل بينها، كما فى قوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي اضبطه، وأحكم أمره..
وقوله تعالى: «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» إشارة إلى هذه النعمة التي يجدها القوم على طريق تجارتهم إلى الشام، حيث يسيرون فى هذه القرى تلك المنازل ليالى وأياما، فى أمن وسلام، لا يعترضهم فى طريقهم ما يخيفهم، أو يفزعهم..
وهذه نعمة من النعم العظيمة، لا يدرك مداها إلا من عاش فى تلك المواطن(11/800)
فى هذه الأيام، حيث كان الانتقال من مكان إلى مكان، محفوفا بالمخاطر والأهوال، منذرا بالوبال والهلاك.. ولهذا امتن الله على قريش بأن آمنهم فى أسفارهم فى رحلتى الشتاء والصيف، فقال تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» فماذا كان من القوم إزاء هذه النعمة أيضا؟
لقد كفروا بها، وتنكروا لها، كما كفروا وتنكروا للخصب والرخاء، والخبر الكثير الذي أخرجته أرضهم.. فقال تعالى على لسانهم:
«فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .
لقد بطر القوم معيشتهم، فتنكبوا عن هذا الطريق الآمن المطمئن، والتمسوا طرقا أخرى إلى جهات بعيدة غير تلك الجهة التي ألفوها، وتبادلوا المنافع مع أهلها.. واستبدّ بهم الغرور، وأغراهم الطمع، فركبوا الأهوال ولمخاطر، لا لحاجة إلّا أن يرضوا هذا الغرور الذي ركبهم، إلا ليغذّوا مشاعر الاستعلاء التي استولت عليهم- فكان أن بدد الله شملهم، وبعثرهم فى الأرض، ومزقهم كل ممزق.. فأصبحوا أحاديث على ألسنة الناس، لما وقع بهم من بلاه، وما حل بديارهم من خراب..
وليس الذي ذهبنا إليه فى تأويل قوله تعالى: «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» من أنهم ركبوا الأهوال والمخاطر- ليس هذا بالذي يحظر على الناس أن تنزع بهم هممهم إلى أبعد مما هم فيه، وإلى أن يتقلبوا فى كل وجه من وجوه الحياة..
فهذا شىء، والذي كان من القوم شىء آخر.. إنهم خرجوا عماهم فيه بطرا(11/801)
واستعلاء، وكانوا أشبه بفرعون حين قال: «يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» .. إنه يحارب بهذا البناء ربّ الأرباب، وهذا هو الذي جعل بناءه وبالا ونكالا عليه، ولو النمس من هذا البناء أن يرصد الكواكب والنجوم، مثلا أو أن يتخذه مسكنا له يشهد منه عظمة الله، ويرى منه فضل الله عليه- لكان ذلك عملا مبرورا مباركا..
وهؤلاء القوم، لو كان مقصدهم من الضرب فى وجه الأرض، السعى فى طلب الرزق، وإقامة حياة قائمة على العدل والإحسان، لبارك الله عليهم سعيهم، ولحمد مسيرتهم.. ولكنهم كانوا يركبون شيطانا مريدا، يدفع بهم دفعا إلى الكفر بالله، وإلى السعى فى الأرض فسادا.
وليس بالذي يشفع لهم، هذا القول الذي استفتحوا به ما طلبوا، حين قالوا «ربنا» فهذا قولهم بألسنتهم، ولو كان لهذا القول مكان فى قلوبهم لكانوا مؤمنين بالله حقا، ولما كان منهم هذا الفساد، وهذا الضلال الذي هم فيه.
ولقد قالها إبليس من قبلهم، وهو فى موقف التحدّى لله، والإصرار على الإثم العظيم، فقال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيهم: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
فلقد انقادوا لإبليس، وأسلموا زمامهم له، وصدّق عليهم ظنه الذي ظنه فى أبناء آدم، حين قال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (39- 40: الحجر) .. فلقد استجاب هؤلاء المغوون لإبليس، وصدّفوا ظنه فيهم.. إلا فريقا قليلا من المؤمنين منهم، الذين ثبتوا على إيمانهم، ولم يجد إبليس سبيلا يدخل على إيمانهم منه، بالغواية والإضلال..(11/802)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
وقوله تعالى:
«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» .
أي أنه لم يكن لإبليس سلطان قاهر على هؤلاء الذين دعاهم فاستجابوا له، وقد كان أمرهم بأيديهم، إن شاءوا عصوه، وإن شاءوا اتبعوه.. وفى الفريق الذين عصوه، وثبتوا على إيمانهم، شاهد على هذا.. إن إبليس وما معه من مغريات ومغويات، ليس إلا بعض ما يبتلى الله به عباده من نقم.. ثم إن للناس- مع هذا- شأنهم فيما ابتلوا به.. وفى هذا الابتلاء تنكشف أحوال الناس، ويميز الله الخبيث من الطيب.. ثم إنه- بعد هذا كله، وقبل هذا كله- لا يقع شىء إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، وما قضى به فى خلقه «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» فكل شىء بيده وتحت سلطانه.. لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
والمراد بعلم الله هنا، هو علم ما وقع بعد أن يقع، وهو سبحانه، عالم به أزلا، ولكن لا يحاسب عليه إلا بعد أن يقع، ويصبح من كسب العباد..
واختصاص العلم هنا بالإيمان بالآخرة، أو الشك فيها، لأن الإيمان بالآخرة، وبالبعث والحساب والجزاء، هو ملاك الإيمان بالله، وبآيات الله، ويرسل الله.. فليس مؤمنا بالله، ولا بآيات الله ولا يرسل الله، إلا من كان مؤمنا باليوم الآخر..
الآيات: (22- 30) [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)(11/803)
التفسير فى هذه الآيات، التفات إلى هؤلاء المشركين، وكشف لهم عما هم فيه من ضلال، بعد أن تحدّثت إليهم الآيات السابقة عن مواقف الناس من الإيمان بالله.. فأرتهم فى داود وسليمان، صورة من صور الإيمان الوثيق، الذي لم تفسده نعم الله، ولم تغير من مكانه فى قلوب أهله.. كما أرتهم فى أهل سبأ، كفرهم بالله، ومحادتهم له، بما مكن الله لهم فى الأرض، وبما وسّع لهم فى الرزق..
وهؤلاء المشركون من أهل مكة، هم أشبه الناس حالا بأهل سبأ..
لقد أقامهم الله فى مكان أمين، وسط هذه الحياة المضطربة من حولهم، كما يقول سبحانه وتعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (67: العنكبوت) وكما يقول سبحانه: «وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ(11/804)
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ»
(57: القصص) ..
إنهم إذ ينظرون إلى أهل سبأ، وإلى ما حلّ بهم، وإلى هذا الخراب الشامل الذي يطلّ عليهم من مساكنهم التي يمرون بها فى رحلة الشتاء- ليجدون فى هذا الحديث إشارة إليهم، وتعريضا بهم، وتهديدا لهم، أن يحلّ بهم ما حل بإخوان لهم من قبل..
ولهذا جاءت آيات الله، تلقاهم، وهم متلبسون بتلك المشاعر، التي دخلت عليهم من هذا الحديث عن سبأ وأهلها..
وفى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» ..
فى هذا استدعاء للمشركين- وهم مشغولون بآلهتهم تلك عن الله- أن يستعينوا بمعبوداتهم هذه، وأن يستنجدوا بها، لتدفع عنهم بأس الله الذي يوشك أن يحلّ بهم، كما حل بأهل سبأ..
وها هم أولاء، ينظرون إلى معبوداتهم نظرا مجدّدا، إثر هذه الدعوة..
فماذا رأو منهما؟ إنهم لم يجدوا إلا أشباحا هامدة لا يجىء منها شىء أبدا..
من خير أو شر. «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» .
هذا ما ينطق به الواقع، وما يتحدث به إليهم لسان الحال عن آلهتهم..
«وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ» .. أي أنه ليس لهذه الآلهة ملك خالص مما فى السموات والأرض، ولو كان مثقال ذرة، كما أنه ليس لهم- ولو على سبيل الشركة- ما يعدل مثقال ذرة أيضا! وكما أنهم لا يملكون شيئا مما(11/805)
فى السموات والأرض ملكا خالصا، أو مشتركا، فكذلك لا يستعان بهم فى القيام على أي أمر، مما يقضى به الله فى السموات والأرض. «وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» .. والظهير: هو المعين الذي يسند ظهر من يستعين به.. فهم ليسوا شركاء لله، ولا أعوانا له، وإنما هم عبيد مسخرون لجلاله وقدرته..
فهؤلاء الآلهة معزولون عزلا مطلقا، عن كل شىء فى هذا الوجود..
لا ملك لهم فيه، ولو كان مثقال ذرة، ولا تصريف لهم فيما لا يملكون، على أي وجه من الوجوه..
قوله تعالى:
«وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ..
وقد يكون الإنسان ولا يملك شيئا، ولا يتصرف فى شىء، ثم يكون له مع هذا رجاء مقبول، أو شفاعة مستجابة، عند صاحب الملك. ولكن هؤلاء الآلهة لا يملكون شيئا، ولا يستعان بهم فى تصريف شىء، ولا يقبل منهم شفاعة فى أحد.. فماذا يرجى منهم؟ وبأى متعلق يتعلّق المشركون به منهم؟
إنه السفه، والضلال، والخسران المبين!!.
ومعنى نفع الشفاعة هنا، قبولها، والإذن لصاحبها بها..
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .
التفزيع عن القلوب، إزالة الفزع عنها، فهو تفزيع لهذا الفزع، وإجلاؤه من مكانه.. والذين فزع عن قلوبهم الفزع هم- والله أعلم- أصحاب الجنة، حيث يدفع الله عنهم الفزع الأكبر الذي يغشى الناس يوم القيامة، وهم(11/806)
الذين أذن لهم بالشفاعة من الله يوم القيامة، وقد عاد الضمير على الاسم الموصول جمعا، بعد أن عاد عليه مفردا، وذلك لأن الإذن بالشفاعة يكون لكل من يؤذن له على حدة.. ثم يتعدد أفراد المأذون لهم، فيكونون جمعا.. فهم أفراد فى أخذ الإذن، وجمع فى العدد المأذون له..
والمأذون لهم بالشفاعة، هم الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فقد أكرمهم الله بقبول الشفاعة فيمن ارتضى الله لهم الشفاعة فيه من أقوامهم، كما يقول سبحانه: «عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» (26- 28: الأنبياء) .
ومعنى الآية الكريمة: أن شفاعة المكرمين من عباد الله فيمن ارتضى شفاعتهم له، لا ينالها المشفوع لهم إلا بعد أن يتلقى هؤلاء الشفعاء الكرامة من ربهم، ويخلع عليهم الأمن فى هذا اليوم، ويدفع الفزع عن قلوبهم.. فهو يوم عظيم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها..
وهذا هو السر- والله أعلم- فى الحرف «حتى» الذي يشير إلى غاية بعده، هى الغاية لابتداء قبلها.. أي أن أهل المحشر يظلون موقوفين، حتى يخلص إليهم الرسل، وهنا يسأل كل رسول قومه: «ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟» فيقولون جميعا: من مؤمنين وكافرين: «قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. ففى هذا اليوم ينكشف وجه الحق، ويرى أهل الضلال أنهم كانوا على غير طريق الهدى، وأن ما كانوا فيه هو الباطل، وأن ما كان يدعوهم إليه رسلهم هو الحق..
هذا، ويمكن أن يكون للآية الكريمة مفهوم آخر.. وهو أن الضمير فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» يعود على المشركين، المخاطبين(11/807)
فى الآية، فى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ» .. أي أن المشركين حين سمعوا هذا القول، وما وصفت به آلهتهم من أنها لا تملك مثقال ذرّة فى السموات ولا فى الأرض، وليس لهم فيهما شرك، ولا تصريف، كما أنهم لا يملكون لهم شفاعة، كما كانوا يظنون ويقولون فيهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» - حين سمعوا هذا، فزعوا له، وهالهم الأمر، وركبتهم حال من الاضطراب والخوف من أن يصيبهم شىء من آلهتهم وقد استمعوا إلى هذا الحديث فيهم، حتى لقد عجزت ألسنتهم عن أن تنطق بشىء..
ثم ظلوا هكذا- لا ينطقون.. حتى إذا زايلتهم تلك الحالة، وفزع عنهم الفزع، بوارد من واردات الحميّة.. نطقوا، وقالوا للنبىّ، وللمؤمنين، ردّا على هذا القول الذي سمعوه، وإنكارا له، وتجاهلا لما سمعوه: «ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟» .. وكان جواب النبىّ والمؤمنين بلسان الحال، أو المقال، أو هما معا: «قالُوا الْحَقَّ.. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. فهذا هو قول ربّنا، وهذا هو ربّنا الذي نعبده.
وهذا الفهم هو أقرب عندنا، إلى القلب، وأرضى للنفس..
والله أعلم..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» سؤال آخر للمشركين، يوازنون فيه بين العلىّ الكبير، الذي يؤمن به المؤمنون، وبين آلهتهم التي أقاموها حجازا بينهم وبين الله، حتى لقد عموا عن النظر إليه، وحتى لقد أبت عليهم ألسنتهم أن ينطقوا به، وأن يضيفوا أنفسهم إليه، فقالوا للنبىّ والمؤمنين:
«ماذا قال ربكم؟» ولم يقولوا ربّنا..(11/808)
وفى هذا السؤال: يطالب المشركون بالكشف عمن يرزقهم، مما ينزل من السماء من ماء، وما يخرج من الأرض من نبات؟ أو من يرزقهم من أهل السموات من ملائكة، أو من أهل الأرض من آدميين وأشباههم؟
ولا جواب إلا هذا الجواب: «الله» .. فهو وحده المالك لكل شىء، المتصرف فى كل شىء، لا يملك أحد معه مثقال ذرة فى السموات أو فى الأرض..
وفى النطق عنهم بالجواب، إلزام لهم به طائعين أو مكرهين.. لأنه لا جواب غيره.. قبلوه، أو ردّوه..
وقوله تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» إشارة إلى أن الأمر- أىّ أمر- لا يعدو أن يكون حقّا أو باطلا، هدى أو ضلالا..
وقد قال النبىّ والمؤمنون معه، قولهم فى الله، وقال المشركون قولهم..
وإذا كان كلّ على طريق، فإن المقطوع به أن يكون أحد الفريقين على طريق الهدى، والآخر على طريق الضلال.. ولا يجتمعان..
وأصل النظم هكذا: «نحن أو أنتم على هدى.. ونحن أو أنتم فى ضلال مبين» .. أي أنه إذا نظر إلينا على طريق الحق لم يكن فيه إلا أحدنا، وإذا نظر إلينا على طريق الباطل، لم يكن فيه إلا أحدنا.. كذلك..
فريقان مختلفان.. مهتدون، وضالون..
وطريقان مختلفان.. هدى، وضلال..
وأهل الهدى على طريق الهدى، وأهل الضلال على طريق الضلال..
أما أين طريق الهدى ومن هم أهله؟ وأين طريق الضلال ومن هم(11/809)
أصحابه؟ فتلك هى القضية، والحكم فيها لا يحتاج إلّا إلى نظرة هنا، ونظرة هناك، وعندئذ يتبين الرشد من الغىّ، والضلال من الهدى! قوله تعالى:
«قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
أي أن كلّ إنسان يحمل مسئوليته، وعليه أن يتحرّى الخير لنفسه، ويطلب لها السلامة والنجاة.. فلا يسأل إنسان عن جناية إنسان، ولا يحمل عنه وزره.. بل كل إنسان وما حمل.. «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (18: فاطر) ..
وفى التعبير عن جانب النبي والمؤمنين بقولهم: «أَجْرَمْنا» وعن جانب المشركين بالعمل: «تعملون» وكان مقتضى النظم أن يجىء «أجرمتم أو تجرمون، بدلا من تعملون، أو أن يجىء: عملنا أو نعمل، بدلا من أجرمنا- فى هذا التعبير القرآنى محاسنة للمشركين، ورفق بهم، وإطفاء لحمية الجاهلية التي تعمّى عليهم السبيل إلى الهدى، وهذا هو الأسلوب الحكيم فى مخاطبة الجاهلين، وهو أسلوب الدعوة الإسلامية والصميم من رسالة رسولها.. كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (125: النحل) ..
قوله تعالى:
«قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» .
وإذ عجز المشركون عن أن يتبينوا من المحقّ ومن المبطل، ومن هم أهل الهدى ومن هم أصحاب الضلال، فى هذه الخصومة فى الله، القائمة بينهم(11/810)
وبين النبىّ وأصحابه- إذ عجزوا عن أن يحكموا فى هذه القضية فى الدنيا، فإن القضية ستحال إلى الآخرة، وسيفصل فيها أحكم الحاكمين، يوم يجمع الله الناس جميعا.. «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا» يوم القيامة «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» أي يحكم بيننا بالحق.. «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» أي الحكم العدل، الذي يحكم عن علم محيط بكل شىء.
قوله تعالى:
«قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ.. كَلَّا.. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» بعد هذه الدعوة الحكيمة الرفيقة، التي لانت- أو ينبغى أن تلين لها- القلوب من المشركين- كانت المواجهة مرة أخرى بين المشركين ومعبوداتهم، ليعيدوا النظر إليها، بعد هذا البيان المبين من آيات الله..
وقوله تعالى: «أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ» أي أين هم هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله؟. وماذا ترون فيهم إذا نظرتم إليهم؟ أترون غير خشب مسندة، وأحجار منصوبة؟ أهذه الدمى يصح أن تلحق بالله، وتضاف إليه، وتحسب شركاء له؟ «كلا» فما يقبل هذا منطق، ولا يستسيغه عقل..
«بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الذي عزّ فحكم، فلا يشاركه أحد فى ملكه، ولا يدخل معه أحد فى تدبيره..
هذا هو الإله الذي يجب أن يعبد.. أما من لا يستقلّ بسلطان هذا الوجود، ولا بالقيام عليه، فلا يصح أن يكون إلها.. فكيف بمن لا يملك مثقال ذرة؟
وكيف بمن كان دمية، لا تدفع عن نفسها لطمة يد، أو ركلة رجل؟.
لقد رأى بعض الأعراب ربّا من هذه الأرباب، وقد وقعت الطير على رأسه(11/811)
وتركت آثارها فوقه! ثم نظر فرأى الثعالب قد مرت به، وبالت عليه!! فلم يكن من هذا الأعرابى إلا أن ركل هذا الربّ برجله، ثم داسه بقدميه، وبصق عليه، وولاه ظهره، منصرفا عنه وهو يقول:
أربّ يبول الثّعلبان بوجهه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
[الرسول وعموم رسالته] قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
هذه الآية، هى تزكية من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، الذي أمره أن يقف من المشركين هذا الموقف، ويكشف لهم عن ضلالهم، ويزيل الغشاوة التي انعقدت على أبصارهم، فلم يتبينوا طريق الهدى..
وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» بيان لهذا المقام العظيم، الذي لرسول الله عند ربه، وهو مقام لا يطاول، ومنزلة لا تنال.. قد انفرد بها- صلوات الله وسلامه عليه- من بين رسل الله وأنبيائه جميعا..
فهو- صلوات الله وسلامه عليه- رسول الإنسانية كلها، والشمس التي تملأ آفاقها، وتدخل كل مكان فيها.. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بالسراج المنير، فقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45- 46: الأحزاب) .
والسّراج المنير، هو الشمس، كما يقول الله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» (61: الفرقان) .. وقد(11/812)
وصف الله سبحانه الشمس بأنها سراج وهاج، فقال تعالى: «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» (12- 13: النبأ) .
وفى وصف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالسراج المنير، دون السراج الوهاج، إشارة إلى أمرين:
أولهما: أنه صلوات الله وسلامه عليه، كالشمس فى علوّ منزلتها، وفى بسط سلطانها على الأرض كلها، فلا تغرب عنها أبدا، ولا يزايلها ضوؤها أبدا، بل إن هذا الضوء ليغمر نصف الأرض فى كل لحظة من لحظات الزمن..
وهذا يعنى أن رسالة «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ستبسط سلطانها على هذه الأرض، وأنها لن تزايلها أبدا، وأن أية رقعة منها لا تخلو من شعاعة من شعاعاتها..
وثانيهما: أنّ الشمس المحمدية، شمس، وقمر معا.. الشمس فى يمينه، وهى كتاب الله وآياته، والقمر فى شماله، وهو السنة المطهرة، المستمدة من كتاب الله، والمستنيرة من أضوائه..
وعموم رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه، مقررة فى كتاب الله، فى أكثر من موضع، فيقول سبحانه وتعالى «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (107: الأنبياء) .
ويقول سبحانه: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (158: الأعراف) .
فالذين يمارون فى عموم الرسالة المحمدية، أو يقفون بها عند مجتمع من المجتمعات، أو أمّة من الأمم، إنما يتأولون آيات الله على غير وجهها، ويخرجون بالكلمات الواضحة الصريحة عن مفهومها.(11/813)
وإذا لم تكن الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية كلها، لم يكن ثمّة معنى لأن تكون خاتمة الرسالات، وأن يكون رسولها خاتم الرسل..
إن الرسالة الإسلامية، هى الكلمة الأخيرة.. الكلمة الحاسمة فيما بين السماء والأرض، فليس بعدها كلام.. إنها الخاتمة.
وصاحب الرسالة، هو خاتم النبيين.. ليس بعده نبى، ولا وراءه بشير ولا نذير من ربّ العالمين..
وإذا كان ذلك كذلك، فإن لنا أن نقول: إن «محمدا» هو منتخب الإنسانية كلها، وهو مجتمع كمالاتها، فى أرفع درجاتها، وأعلى منازلها..
ذلك، لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- جاء إلى الإنسانية حين بلغت رشدها، وحين أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تستقلّ بوجودها، وأن تستقيم على الطريق الذي يمليه عليها تفكيرها..
إن الإنسانية- وقت البعثة المحمدية- كانت قد جاوزت طور الصبا، وبلغت أشدها ورشدها، وأصبحت بهذا جديرة بأن تستقل بنفسها، وأن تستهدى بما أودع الله تعالى فيها من عقل، وبما حملت إليها السماء من وصايا.
كانت رسالات الرسل- عليهم السلام- قبل البعثة المحمدية، رسالات «محلية» أشبه بالوصاية على الصغار.. يظهر الرسول فى جماعة من الجماعات، أو بيت من البيوت، يقيم لهم وجودهم المعوج، ويضىء لهم طريقهم المظلم، ثم لا يلبث أن يخلفه عليهم رسول، يخلفه رسول.. وهكذا.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأراد الله سبحانه للناس أن يستقلوا بوجودهم، وأن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم، بعد أن بلغوا رشدهم، وأصبحوا فى عداد الرجال- جاءت(11/814)
رسالة الإسلام، يحملها رسولها الأمين.. محمد بن عبد الله.. رسول الله، وخاتم النبيين..
ومن هنا ندرك السر فى أن الرسالة الإسلامية، كانت رسالة «عقلية» تخاطب العقل، وتجىء لإقناعه عن طريق الحجة القائمة على البراهين الاستدلالية، التي يستقيم عليها تفكير الناس جميعا.. عامتهم وخاصتهم على السواء..
إن الرسالة الإسلامية، لم تستند إلى معجزة قاهرة، تطغى على عقول الناس، وتغتال تفكيرهم، وتشل إرادتهم، وتضعهم أمام أمر ملزم لا فكاك لهم منه..
فماذا يفعل العقل إزاء عصا موسى- عليه السلام- وهو يضرب بها البحر، فتنشق من بطنه طريق يبس؟ أو ماذا يقول العقل إزاء هذه العصا حين يضرب بها الحجر- أىّ حجر- فتسيل منه عيون الماء، وتتفجر ينابيعه؟ وماذا يقول العقل فى كلمة عيسى عليه السلام، حين ينطق بها، آمرا الأكمه، أن يبرأ، فيبرأ، وداعيا الأبرص، أن يذهب عنه البرص، فيذهب؟ بل ماذا يقول العقل فى تلك الكلمة تخرج من فم عيسى فيحيى بها الموتى؟ إنه لا مكان للعقل هنا..
إنه لا مفر له من أن يستسلم ويذعن، إن كان قد بقي معه شىء من الوعى، أو أن يعيش فى اضطراب وذهول، ووجوم!! أما الرسالة الإسلامية، فقد استندت فى محاجتها العقل، وفى إقناعه- إلى الكلمة وما فيها من عقل ومنطق..! فلم تطلب إلى الناس أكثر من أن يفكروا فى أنفسهم وبأنفسهم، وأن يستخدموا عقولهم المعطلة، وأن يوجهوا حواسهم إلى هذا الوجود، وأن ينظروا فيما خلق الله فى السموات والأرض..
ثم أن يتقبلوا- فى غير عناد- ما ينكشف لهم من آيات الله، ودلائل قدرته وعظمته.. فإنهم إن فعلوا، فقد أدوا الأمانة التي حملوها، وهى التفكير،(11/815)
واستخدام العقل الذي أودعه الله فيهم! وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه الكريم:
«قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ.. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» (46: سبأ) .. هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية، وهذا هو ملاك أمرها..
استخدام العقل، واحترام معطياته، وذلك بالتفكير الفردى، والجماعىّ معا، تفكيرا حرّا مطلقا من كل قيد، محررا من كل تلقيات سابقة!.
فالعقل فى مواجهة الرسالة الإسلامية، محمول على أن يفكّر، وأن يتحرك فى جميع مجالاته، غير مقيّد بشىء، أو مشدود إلى شىء.. إن الرسالة الإسلامية لتغرى العقل إغراء على التفكير، بما تنادى به من دعوات عالية، إلى إيقاظ العقل، وبما تقدّم إليه من صور، وما تفتح له من مجالات، تدعو أكثر الناس بلادة وغباء إلى استخدام عقولهم، واستدعاء تفكيرهم: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ.. كَيْفَ خُلِقَتْ؟ وَإِلَى السَّماءِ.. كَيْفَ رُفِعَتْ؟ وَإِلَى الْجِبالِ.. كَيْفَ نُصِبَتْ؟ وَإِلَى الْأَرْضِ.. كَيْفَ سُطِحَتْ؟» (17- 20: الغاشية) .. «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ! تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ! وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ! رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً.. كَذلِكَ الْخُرُوجُ» (6- 11: ق) إنها دعوة إلى سياحة روحية، وعقلية، وجسدية، فى رحاب هذا الوجود، وفى استجلاء محاسنه، وملء العين والقلب من روائعه ومفاتنه.
وإنه بحسب المرء أن يصحب معه عقله فى هذه السياحة، فيهتدى إلى الحقّ، ويلتقى على طريق سواء مع محامل الدعوة الإسلامية، من عقيدة وشريعة.. فإن العقل بطبيعته- إذا خلا من آفات العناد والاستكبار- ينشد(11/816)
الحق، ويهتدى إليه، لأنه شرارة من نور الحق، وقبس من أقباسه!.
ذلك، على حين كان العقل قبل الرسالة الإسلامية بمغزل عن معجزات الرسل، وبمنقطع عنها، لأنها لا تستقيم على منطق العقل، ولا تدخل فى مجال التفكير، إنها أمور خارقة للعادة، لا تقع إلا على يد رسول مؤيد من عند الله، فيقع بها الإعجاز القاهر، ويقوم بها التسليم القائم على الدّهش والحيرة، والعجز.
وذلك الذي صنعته السماء، فى التدرج فى الدعوة إلى الله، هو الأسلوب الحكيم فى التربية.. فالصغير لا يحتمل عقله أحكام المنطق، ولا يخضع تفكيره لمعطيات ما بين الأسباب والمسببات من ارتباط.. وإنه لمن الخطأ وسوء التقدير، بل ومن القسوة عليه، أن يؤخذ بمنطق العقل، ويحمل على أحكامه، على حين أن الذي يصلحه ويصلح له، هو أن يخاطب بلغة الحسّ، وبمنطق المادة.. فإذا نما عقله شيئا، كان من التدبير الحكيم أن يخاطب بأسلوب المنطق العقلي والحسّى معا، وأن يزاوج له بينهما، بنسب تكثر فيها العناصر العقلية شيئا فشيئا، كلما نما عقله، واتسعت مداركه، حتى إذا بلغ مبلغ النضج والرشد، أمكن أن يكون عقله هو موضع الاعتبار فى مخاطبته ومحاسبته..
والإنسانية- فى تقديرنا- بدأت وجودها كما يبدأ كل كائن حى وجوده.. نبتة صغيرة، ثم شجيرة لا زهر فيها، ثم شجرة مزهرة.. ثم شجرة مزهرة مثمرة! وشواهد التاريخ تؤيد هذا وتشهد له.
والإنسانية فى زمن البعثة المحمدية كانت- كما قلنا- فى آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلي، والكمال الإنسانى.. كانت بمثابة طفل درج فى مدارج الحياة حتى بلغ مبلغ الرجال.. وكان عليه بعد هذا أن(11/817)
يستوفى حظه من الحياة، وأن يأخذ مكانه فيها، غير مستند إلى شىء غير ذاته..
ودع عنك ما يقال من أن الإنسانية كانت قد ارتكست وردّت على أعقابها زمن البعثة المحمدية، وأن الشرّ كان قد استشرى بالناس، وأن الظلام قد أطبق عليهم، ولفّهم فى قطع كثيفة من الجهل والضلال، وأن معالم الحضارات التي أقامتها الإنسانية فى وادي النيل على يد الفراعنة، وفى بابل وآشور على يد الكنعانيين والآشوريين، قد ذهبت معالمها، وضلّت فى ظلمات الجهل شواهدها، ومحيت آياتها.. وأن لمعات العقل اليوناني التي سطعت فى العالم القديم قد ذهب الزمن بها، وعقمت الحياة عن أن تلد سقراط، وأفلاطون، وأرسطو.. مرة أخرى..
دع عنك كل هذا، فالدنيا بخير، والحياة ولود، لا يصيبها العقم أبدا، وهى سائرة إلى الأمام، لا ترجع إلى الوراء بحال.. إنها سنّة التطور والارتقاء.. سنة الله فى خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
ولا نريد أن نقف طويلا هنا، ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لهذا.
وحسبنا أن نقول إن القرون الطويلة التي عاشتها الإنسانية، والتي تقدر بعشرات الألوف أو مئاتها من السنين- لم تمكّن لها قبل عصرنا هذا من أن تستخدم قوة البخار والكهرباء، ولم تفتح لها الطريق إلى تحطيم الذرّة، وإلى بناء المراكب الكونية، الكوكبية التي تدور فى فلك الشمس كما تدور الأقمار حولها.. بل وأكثر من هذا.. فإننا ونحن نكتب هذا الكلام يطلع علينا حدث عجب لم يكن يقع إلا فى الأحلام والخيالات، وهو وصول الإنسان إلى القمر، ووضع أقدامه عليه، يمشى فوق أديمه، ويتنقل بين ربوعه..!(11/818)
إن هذه الفتوحات العظيمة التي حققها العقل الإنسانى فى هذا العصر لهى الشهادة التي لا ترد، على أن الحياة الإنسانية تتجه دائما نحو الأمام، وأنها تضيف كل يوم معارف جديدة إلى معارفها السابقة، وأن رصيدها من المعرفة، يزداد مع الأيام، يوما بعد يوم! فإذا قلنا إن عصر النبوة المحمدية، كان هو العصر الذي بلغت فيه الإنسانية رشدها، وتخطت فيه مرحلة الطفولة والصبا، كان لقولنا هذا مستند من واقع عصرنا هذا الذي يعدّ امتدادا لعصر النبوة.. فإن أربعة عشر قرنا منذ البعثة المحمدية إلى يومنا هذا، لا تعدّ فى عمر الإنسانية إلا يوما من أيام حياتها، وإلا مرحلة أو بعض مرحلة من مراحل وجودها..
يتحدث الجاحظ فى رسالة «حجج النبوة» عن طبيعة الرسالة المحمدية، وأنها تتجه إلى مجتمع إنسانى يأخذ الأمور بمعيار العقل، وينظر فى أعقابها وما تؤول إليه.. فيقول:
«وكذلك وعيد «محمد» بنار الأبد، كوعيد موسى بنى إسرائيل بإلقاء الهلّاس على زرعهم، والهمّ على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوّهم.
«فكان تعجيل العذاب الأدنى- أي القريب- فى استدعائهم واستحالتهم، وردعهم على ما يريد بهم، وتعديل طباعهم- كتأخير العذاب الشديد على غيرهم.. لأن الشديد المؤخّر- من العذاب- لا يزجر إلا أصحاب النظر فى العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب فى المذاهب» .. اه..
ويريد الجاحظ أن يقول: إن دعوة محمد كانت إلى مجتمع عاقل، مدرك، ينظر فى عواقب الأمور، كما ينظر العقلاء الراشدون، وليست(11/819)
كذلك دعوة موسى، التي تتعامل مع مجتمع كان فى دور الطفولة والصبا، لا يأخذ من الأمور إلا جانبها الواقعي المعجل!!.
وننتهى من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى، وهى أن «النبىّ» الذي يجىء إلى الإنسانية فى هذا الطور من حياتها، ينبغى أن يكون أكمل الأنبياء، لأنه على قمة الإنسانية فى طورها الذي بلغت فيه رشدها، إذ كان النبىّ فى كل عصر، فى كل أمة، هو ممثل الإنسانية فى هذا العصر، وفى تلك الأمة، وهو خلاصة كل طيب وكريم ونبيل فيها.. وفى هذا يقول النبىّ صلوات الله وسلامه عليه «بعثت من خير قرون بنى آدم، قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» ؟
وعلى هذا، فإنه إذا كانت دعوات الأنبياء رحمات وبركات على الناس فى أجيالهم وأوطانهم- فإن رسالة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه رحمة عامة، وبركة شاملة للناس جميعا.. من كل أمة، ومن كل جنس، على مدى الأيام والدهور..
وإنها رسالة لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنتهى عند زمن الأزمان..
فهى ليست للعرب وحدهم، وليست لعصر النبوة وحده، فما العرب إلا لسانها وترجمانها، وما عصر النبوّة إلا مطلعها ومجلى أنوارها.. «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ.. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ.. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.. النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ.. الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ.. وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (158:
الأعراف) .
إن الرسالة الإسلامية، تدعو الناس جميعا إليها، ورسولها ينادى الناس كلهم، بهذه الكلمة العامة الشاملة، وبهذا النداء المطلق: «يا أَيُّهَا النَّاسُ»(11/820)
. «يا بَنِي آدَمَ» .. «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» .. ولم يتجه بدعوته أبدا إلى العرب وحدهم أو قريش وحدها، فلم يقل. يا أيها العرب، أو يا بنى إسماعيل، أو يا أبناء عدنان وقحطان.. كما كان ذلك شأن أنبياء الله فى رسلهم وأقوامهم، ومن أرسلوا إليهم.. فقد كان كلّ نبىّ يدعو قومه خاصة، ويقصر دعوته عليهم وحدهم.. فيقول «يا قوم» لا يتجاوزها.
. «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.: قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (1، 2: نوح) «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً.. قالَ يا قَوْمِ..» (84: هود) «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً.. قالَ يا قَوْمِ..» (50: هود) «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً.. قالَ يا قَوْمِ..» (61: هود) .
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ.. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ... » (5: الصف) . «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (6: الصف) وهكذا كان كلّ نبىّ يعمل فى محيط قومه، وفى حدود دائرتهم لا يتعداها، إذ كانت تعاليم رسالته وأحكامها، مقيسة عليهم، ودواء لداء متمكن منهم، لا يكاد يصلح لغيرهم.. حتى أن المسيح- عليه السلام- لم يكن ليقيم معجزة من معجزاته إلا فى بنى إسرائيل وحدهم.. وحتى إنه أبى- كما تحدث الأناجيل- أن يستجيب لتوسلات المرأة الكنعانية فى أن يشفى ابنها المجنون، وردّها قائلا، «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل»(11/821)
(إنجيل متى.. الإصحاح الخامس عشر) .. وليس ذلك ضنّا منه- عليه السلام- بالإحسان، وإنما لأنه لم يكن يريد بمعجزاته إلا إقامة الحجة على قومه، لا أن يشفى الأوجاع، ويبرىء الأمراض..
هذا عن رسل الله، ومحامل رسالاتهم..
أما خاتم النبيين.. محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وأما رسالة الإسلام خاتم الرسالات السماوية.. فللإنسانية كلها، وللناس جميعا.. أسودهم وأحمرهم على السواء.
كالبحر يهدى للقريب جواهرا ... منه ويرسل للبعيد سحائبا
إنها رحمة عامة شاملة، من ربّ الناس إلى الناس.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .. والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول:
«أنا رحمة مهداة» !! قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
أي يقول المشركون، منكرين، ساخرين: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» أي متى يوم القيامة التي تعدنا به فى قولك: «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» ..؟
متى يكون ذلك؟. أنبئنا به.. إن كنت من الصادقين.
وقوله تعالى:(11/822)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
«قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ» هذا هو الجواب الذي أمر الله النبي أن يلقى به المشركين، ردّا على هذا السؤال الجهول.. إنه يوم عند الله، يأتى به متى شاء، لا كما يشاء أصحاب الأهواء، وأرباب الضلالات.. فإذا حانت ساعة هذا اليوم، جاء، دون أن يتقدم ساعة أو يتأخر، ودون أن يتأخروا هم ساعة عن شهوده، أو يستقدموا.
الآيات: (31- 33) [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
التفسير قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(11/823)
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» .
المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت إليهم الآيات السابقة، هذا الحديث الذي انكشف لهم به وجه آلهتهم وبان لهم عجزها، وأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا..
وقد انتهى هذا الحديث بتقرير تلك الحقيقة، وهى أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس رسولا إليهم وحدهم، وإنما هو رسول إلى الناس جميعا، وأولى الناس بهذا النبىّ، وبالاستجابة له، هم قومه، الذين هم أعرف الناس به، وبآيات الله التي حملها إليهم بلسانهم.. ولكن الجهل والعناد أعماهم عن هذه الحقيقة، فلم يستجيبوا لرسول الله، ولم يفتحوا عقولهم وقلوبهم لكلمات الله وآياته، وقالوا فى إصرار وعناد: «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» أي لا نصدق بأن هذا القرآن الذي يقرؤه محمد علينا، هو كلام الله، وإذن فنحن لا نؤمن به، ولا نؤمن بما يحمل بين يديه من أحاديث عن البعث، والحساب والجزاء.. إنهم يكذبون به شكلا وموضوعا- كما يقولون- فهو ليس من عند الله أولا، ثم إن ما يحمل من أحاديث وأخبار، لا تصدّق ثانيا، لأنها لا تعقل! فالضمير فى قوله تعالى: «بَيْنَ يَدَيْهِ» ، يعود على القرآن، وما بين يدى القرآن، هو ما يحمل بين يديه من قصص الأنبياء، وأخبار الأمم الماضية، وما حل بالكافرين والمكذبين، من عذاب وبلاء..
وهذا الذي ذهبنا إليه، من القول بأن ما بين يدى القرآن، هو أخباره وقصصه، وجدله، وحججه- هذا الذي ذهبنا إليه، هو أولى من القول الذي يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الذي بين يدى القرآن هو التوراة والإنجيل، بمعنى أن المشركين لا يؤمنون بهذا القرآن، ولا بالتوراة والإنجيل..(11/824)
ذلك أن المشركين لم يدعوا إلى الإيمان بالكتب السماوية، السابقة، فهذا دور يجىء بعد الإيمان بالكتاب الذي يدعون إلى التصديق به أولا، فإذا، صدّقوا به، آمنوا بكل ما يدعوهم إليه..
ومن جهة أخرى، فإن المشركين، كانوا على اعتقاد بأن أهل الكتاب على دين سماوى صحيح، ولكنه خاص بهم وحدهم، ولهذا كان المشركون يتمنون أن يكون لهم كتاب خاص بهم مثل أهل الكتاب.. كما يقول الله سبحانه محدّثا عما يجرى فى خواطرهم: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (156- 157: الأنعام) قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» - انتقال بهؤلاء الكافرين المكذبين بآيات الله- إلى موقف الحساب والمساءلة فى لحظة خاطفة، حيث يطلع عليهم هذا الذي كذبوا به، وما تزال كلمات التكذيب على أفواههم..
ولم يجىء جواب «لو» الشرطية، بل ترك مكانه شاغرا، لنملأه التصورات المفزعة لهذا اليوم العظيم، وما يقع للمكذبين فيه من بلاء..
والتقدير: إنه لو اطلع مطلع على حال هؤلاء الظالمين، وهم موقوفون عند ربهم موقف المساءلة والحساب، لهاله الأمر، ولولّى منهم رعبا وفزعا، لما غشيهم من الكرب، وأحاط بهم من البلاء..
- وقوله تعالى: «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» هو جملة حالية، تكشف عن حال من أحوال هؤلاء الظالمين الموقوفين عند ربهم..
ورجع القول: ترديده، مثل رجع الصّدى..
وعبّر بالفعل «يرجع» اللازم، بدلا من يرجع، المتعدى لمفعوله- ليتضمّن(11/825)
الفعل معنى الإلقاء، والترامي والتراشق بالشيء نفسه.. فكأنهم يترامون بهذا القول، ويرجم به بعضهم بعضا..
وقوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» - بيان للقول الذي يترامون به، والتهم التي يلقى بها بعضهم على بعض.. وقد بدأ المستضعفون بإلقاء اللائمة على رؤسائهم، وسادتهم، الذين تولوا قيادة الحملة الضالة، ضد دعوة الحق والهدى، فجندوا هؤلاء الضعفاء، وقادوهم إلى المعركة، فكانوا فى الهالكين- بدأ المستضعفون بالرمي بالتهم، لأنهم هم المجنىّ عليهم من سادتهم ورؤسائهم..
- وفى قولهم: «لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الإيمان فطرة مركوزة فى الإنسان، وأنه لو ترك الإنسان وشأنه دون أن تدخل عليه مؤثرات من الخارج، تفسد عليه فطرته، وتشوش عليه رأيه- لامن بالله، عن طريق النظر العقلي، ولاستجاب لدعوة الهدى من غير تردد.
قوله تعالى:
«قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ.. بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» وألقى الكبراء القول إلى أتباعهم، وردّوا التهمة التي اتهموهم بها، وأنكروا أنهم كانوا سببا فى صدّهم عن الهدى: «أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟» إنا لم نقسركم على شىء، ولم نكرهكم على ما دعوناكم إليه..
وقد صدق هؤلاء المستكبرون، وكذبوا فى آن معا..
صدقوا، لأنهم لم يكن فى وسعهم أن يردّوا هؤلاء المستضعفين عن(11/826)
الإيمان، لو أنهم رغبوا فى الإيمان.. لأن الإيمان معتقد يقوم فى القلب، قبل أن يكون عملا يظهر على الجوارح.. فلو اعتقد هؤلاء المستضعفون الإيمان فى قلوبهم، لما كانت هناك قوة فى الأرض تستطيع أن تنزعه منهم..
ومن قبل قال الشيطان لأتباعه: «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (22: إبراهيم) وكذب هؤلاء المستكبرون، لأنهم كانوا دعوة من دعوات الضلال، وقوة من قوى الشرّ، تزين للناس الضلال وتغريهم به، وتعمل على جذبهم إليه، وضمهم إلى جبهته.. بما لهم من جاه وسلطان..
وفى قولهم: «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» . إشارة إلى ما فى طبائع هؤلاء المستضعفين من فساد، وأنهم بطبيعتهم منجذبون إلى الضلال، منصرفون عن الهدى.. فلو أنهم تركوا وشأنهم ما استجابوا للإيمان، وما قبلوه، فلما لاحت لهم دعوة الضلال من الضالين- استجابوا لها بطبيعتهم، وانجذبوا نحوها، كما ينجذب الفراش إلى النار.
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
لم يجد المستضعفون مقنعا فيما ردّ به سادتهم عليهم.. وحقّا إنهم لم يقسروهم قسرا على الكفر، ولكنهم أغروهم به إغراء، بما يملكون من وسائل الإغراء، وفى أيديهم المال، والجاه والسلطان، وكلها قوى ذات سلطان على الناس! - وقوله تعالى: «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» .. أي وحين طلع(11/827)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
عليهم العذاب، وجموا كلّهم وخرسوا، ولم ينبس أحد منهم جميعا ببنت شفة، وانجبست الكلمات فى صدورهم، وقد كان فيها متنفس لهم، وأمل يتعلقون به..
الضعفاء ليلقوا بالتهمة كلها على كبرائهم، والكبراء ليدفعوا هذه التهمة عنهم، وحسبهم جنايتهم على أنفسهم.. وهكذا ازدرد الجميع هذه الكلمات التي كانوا يلوكونها فى أفواههم، ثم يرمى بها بعضهم بعضا، فأصبحت سهاما يرمى بها كل منهم فى داخل نفسه، فتدمى القلوب، وتفرى الأكباد!
الآيات: (34- 39) [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
التفسير قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ»(11/828)
المترف: هو من أبطرته النعمة حتى خرجت به عن حد الاعتدال، وأفسدته، وقتلت فيه معانى الإنسانية.. والمترفون هم آفة المجتمع فى كل أمة، وفى كل جيل، إذ فيهم ينشأ الفسق، والمجون، وكل ما من شأنه أن يغذى العواطف الخسيسة، ويوقفا الغرائز البهيمية، على حساب المطالب الروحية والعقلية..
فليس الغنى فى ذاته- كما يبدو- هو الذي يفسد الأخلاق، وإنما شأنه فى هذا شأن الفقر، قد يفسد، وقد يصلح.. إنه خير وشر.. وداء ودواء..
فمن أحسن سياسة المال، وعرف قدره، والمكان الذي يوضع فيه- صلح به أمره، واستقام به شأنه.. ومن اتخذ من المال وسيلة يصطاد بها ما توسوس به نفسه، وما يدعوه إليه هواه- فسد كيانه، وتهدم بنيانه، وتحول إلى كومة متضخمة من الشحم واللحم. تهب منها كل ربح خبيثة، تفسد المجتمع وتزعجه! وحين تنجم دعوة من دعوات الخير، يكون المترفون هم أول من يلقونها بالنكير، ويرجمونها بكل ما يقدرون عليه.. وما جاء رسول من رسل الله يدعو قومه إلى الهدى، حتى يتصدى له المترفون من قومه، يعلنون الحرب عليه، ويجمعون الجموع للوقوف معهم فى وجهه.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
قوله تعالى:
«وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» .. هذا هو ردّ المترفين على كل دعوة إلى الإيمان بالله، وتلك هى حجتهم عند أنفسهم وعند الناس.. إنهم بما يملكون من كثرة فى الأموال، وما عندهم من كثرة فى الأولاد والرجال، لن يكونوا تابعين لغيرهم، ولن يجعلوا لأحد كلمة عندهم، حتى ولو كان(11/829)
رسولا من رسل الله، يدعوهم إلى الله، ويكشف لهم معالم الطريق إلى الحق والهدى!! إنهم أكثر أموالا وأولادا من هذا الرسول، فكيف يقوم فيهم مقام الناصح ذى الرأى والسلطان.. «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» (24: المؤمنون) وكيف يتفضل إنسان على من كان أكثر منه مالا وولدا؟
- وفى قولهم: «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» إشارة إلى أنهم بما لهم من كثرة فى المال والأولاد، لن ينزلوا عن مقام السيادة لأحد، ثم إنهم إذا عذّب غيرهم من الفقراء والمستضعفين لن يعذبوا هم.. فإن الله ما أعطاهم هذا الوفر فى المال والكثرة فى الأولاد، إلا لأنهم أهل للكرامة، وموضع للفضل عنده، وكما كانوا فى الدنيا فى هذا المقام بين الناس، فهم فى الآخرة- إن كانت هناك عندهم آخرة- فى هذا الموضع أيضا، حيث يعذب الفقراء والمستضعفون، أما هم فلن يعذّبوا، بل ينزلوا منازل الإكرام والإعزاز.. ذلك ظنهم بأنفسهم.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان واحد منهم. «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (50: فصلت) ويقول سبحانه على لسان صاحب الجنتين. «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (36: الكهف) قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
هو ردّ على هذا الفهم المغلوط الفاسد الذي فهمه المترفون، لما لله فى عباده من بسط الرزق أو قبضه.. فليس بسط الرزق أو قبضه من الله سبحانه وتعالى، يحسب منازل الناس عنده، وإنما منازل الناس عند الله بأعمالهم الصالحة،(11/830)
وبتزكية أنفسهم، وتطهيرها من خبائث الكفر والضلال.. أما بسط الرزق وقبضه فهو ابتلاء من الله، فيبتلى سبحانه من يشاء بالبسط، ويبتلى من شاء بالقبض، مؤمنا كان أو كافرا، محسنا أو مسيئا.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
قوله تعالى:
«وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ..»
هو ردّ آخر على ادعاء هؤلاء المترفين، بأن أموالهم وأولادهم هى التي تقربهم من الله، وتدنيهم من مرضاته.. وكلّا فإن الأموال والأولاد لا تقرب من الله إلا بقدر ما يكون لأصحاب الأموال والأولاد من إيمان بالله، وإحسان فى العمل.. فهؤلاء حقا لهم جزاء الضعف، أي جزاء مضاعفا، بما نعموا به فى الدنيا من جاء وسلطان، وبما قدموا للآخرة من عمل صالح يلقونه عند الله، فيجزون به الجزاء الأوفى، فى جنات النعيم..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» أي والذين يتخذون من أموالهم وأولادهم وجاههم وسلطانهم، أسلحة يحاربون بها الله، ويسعون لإعجاز الناس عن أن يتصلوا بآياته، أو لآيات الله أن تتصل بالناس.. «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» أي يجاء بهم من حيث كانوا إلى حيث يلقون فى جهنم، ويصلون العذاب الأليم فيها.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ.. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»(11/831)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
أعيد النظم القرآنى: «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ... الآية» ..
وذلك فى مقام غير المقام السابق.. فهناك كان المقام الداعي إلى ذلك، هو الكشف عن تلك الحقيقة التي جهلها أو تجاهلها المترفون، وهى أن بسط الرزق وقبضه هو ابتلاء من الله، وليس مقدّرا على منازل الفضل والرضوان من الله.
وهنا فى هذه الآية- بعد أن تقررت هذه الحقيقة- كان المقام مقام دعوة إلى البذل والإنفاق من هذا المال، لأنه من فضل الله.. وإذ كان الله سبحانه هو الذي يعطى، فلا خوف من الإنفاق، لأنه إنفاق فى سبيل الله، وهو بمنزلة القرض لله، ولن يضيع ما اقترضه الله، بل يعود إلى صاحبه مضاعفا: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» (245: البقرة) وهنا زيادة فى النظم وهى كلمة «عباده» وفيها إشارة إلى أن المدعوين إلى الإنفاق من أموالهم، والتي سيخلفها الله لهم، هم عباده، المؤمنون به..
الآيات: (40- 45) [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)(11/832)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» هو مساءلة فى الآخرة، ومواجهة بين عبدة الملائكة من المشركين، وبين عابديهم، الذين يقولون عنهم، إنهم بنات الله..
وقوله تعالى:
«قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» هذا جواب الملائكة.. إنهم ينزهون الله تعالى عن أن يتخذوا لهم وليا ونصيرا غيره.. إنهم لا يلتفتون إلى هؤلاء الأتباع، الذين عبدوهم على غير دعوة منهم إليهم.. إنهم فى غنى عنهم وعن عبادتهم.. فهم على ولاء مطلق لله.. فهو سبحانه وليهم، ومعتصمهم..
- وقوله تعالى: «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» - إشارة إلى ما يعبد هؤلاء المشركون من قوى غيبية خفية ومن تلك القوى، إلى جانب ما يعبدون من ملائكة، الجن.. كما يقول سبحانه: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» (6: الجن) .
قوله تعالى:
«فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» .(11/833)
أي فى هذا اليوم- يوم القيامة- لا يملك بعضكم لبعض- من عابدين ومعبودين- نفعا ولا ضرا، حيث تجزى كل نفس بما كسبت.. وليس للظالمين فى هذا اليوم من ولىّ ولا شفيع، بل يدعون إلى نار جهنم، ويلقون فيها، ثم يقال لهم: «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» وفى هذا القول إيلام لهم، فوق ما هم فيه من آلام، ومضاعفة للحسرة التي تملأ قلوبهم، على ما فاتهم من إيمان بالله فى دنياهم..
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
تعود هذه الآية بالمشركين إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن دعتهم الآيات السابقة إلى موقف الحساب والمساءلة، وذلك- كما قلنا فى أكثر من موضع- لتلتقى بهم الدعوة بعد هذه المشاعر التي دخلت عليهم من مشاهد هذا اليوم العظيم..
والآية هنا، تحدّث عن موقفهم مع آيات الله، ومقولاتهم فيها، بعد أن يتلوها الرسول عليهم..
إنها آيات بينات، تنطق بالحق المبين، بحيث يبدو للناظر إليها من أي جانب، ما يحدّث بأنها كلمات الله.. ومع هذا فإنهم يأبون أن يصدقوا ما يقع فى قلوبهم وعقولهم منها، ويحملهم الكبر والعناد على التكذيب، والبهت، والاتهام للرسول الذي يحملها إليهم..
وهذه المقولات التي يقولها المشركون فى آيات الله، هى مضمون ما تجمّع(11/834)
من مقولات كثيرة، قالوها فى القرآن الكريم، وفى الرسول الذي جاءهم به..
- «قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» .. وهم بهذا القول يستثيرون حمية الجاهلية فى صدور الجاهلين، بالحرص على موروثات الآباء، وما خلّفوا لهم من عادات وتقاليد، ومراسم..
- «وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» .. وهم بهذا القول يزكّون القول الأول، ويثبّتون دعائمه فى القلوب.. حيث أن الذي يدعون إليه، ويرادون على إحلاله محل ما يعبدون، وما كان يعبد آباؤهم- هو محض افتراء وزور..
فكيف يتركون ما هم عليه من حق إلى هذا الضلال المفترى؟ هكذا زيّن لهم الضلال الجاثم على قلوبهم..!
- «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. وبهذا القول يردّون على من وقع فى نفوسهم شىء من آيات الله، وتفتحت لها عقولهم وقلوبهم.. إنه سحر.. يخدع الناس، ويضللهم، ويريهم الأمور على على غير ما هى عليه..!!
قوله تعالى:
«وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ» ..
أي أن هؤلاء المغرورين المفتونين بأموالهم وأولادهم، المكذبين بآيات الله كبرا وبطرا- هؤلاء لم يكونوا أهل علم كما كان شأن كثير غيرهم من الأمم، ولم يأتهم رسول من عند الله قبل هذا الرسول.. فهم- والأمر كذلك- فى فقر عقلىّ وروحى، وهم لهذا أشد الناس حاجة إلى هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، على يد رسول كريم منهم..(11/835)
أما كثرة المال والأولاد، وفتنتهم بهما، وظنهم أنهم فى عصمة بما فى أيديهم من أموال وأولاد، من أىّ بلاء فى الدنيا، أو عذاب فى الآخرة، حتى لقد قالوا: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» - أما هذه الكثرة فى الأموال والأولاد، فهى شىء قليل لا يكاد يذكر إلى جانب ما كان لغيرهم من الأمم السابقة من وفرة فى المال وكثرة فى الرجال، ومع هذا فلم يغن عنهم ذلك من الله شيئا، بل إنهم حين كفروا بالله، وكذبوا رسله، أخذهم الله بذنوبهم، وأرسل عليهم الصواعق والمهلكات، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم.. فأين هم من قوم عاد، وقوم ثمود وما كان لهم من قوة وبأس، وجاه وسلطان؟ وأين هم من فرعون، وما ملك من بلاد وعباد؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية التالية، متوعدا هؤلاء المشركين ومهددا لهم بالعذاب الأليم..
«وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» .
أي لقد كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين، كفرعون، وعاد، وثمود- كذبوا رسل الله، وكانوا على جانب عظيم من الغنى والسلطان، حتى أن هؤلاء المشركين المفتونين بما أوتوا، لم يكن لهم معشار- أي عشر- ما لهؤلاء الذين سبقوهم.. وقد أهلكهم الله بذنوبهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.. فهل تغنى هذه الأموال والأولاد- وهى قليلة، وإن حسبوها كثيرة- هل تغنى عنهم من عذاب الله من شىء؟
وهل ترد عنهم بأس الله إذا جاءهم؟ لو كان ذلك لهم، لكان غيرهم، ممن هم أكثر أموالا وأولادا، أولى! ..
والنكير: الإنكار للأمر.. وإنكار الله للمنكر، يستتبع عقابه وعذابه لمن وقع منه المنكر..(11/836)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
الآيات: (46- 54) [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 54]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا.. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .
بعد هذا التهديد الذي أنذر به المشركون من أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين قبلهم- جاءت آيات الله تدعوهم إلى ما هو خير لهم، وتفتح لهم الطريق إلى النجاة والخلاص..(11/837)
والآية الكريمة، تكشف عن أسلوب الدعوة الإسلامية، القائم على مواجهة العقل، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، وإعطائه حقه فى طلب الدليل المقنع، والبرهان الواضح، ثم الاعتراف له بما يقضى به، بعد النظر السليم، المجرد من الهوى، المبرأ من التحدي والعناد..! فهذه هى رسالة الإسلام فى الإنسانية.. إنها تريد أولا وقبل كل شىء، أن تحرر العقل من العادات الفاسدة، والمعتقدات الباطلة، التي استولت عليه، وشلّت إرادة التفكير فيه..
فإذا تحرر العقل من هذه الآفات، وتخلص من تلك القيود، فقد كسب نصف المعركة فى صراعه مع الباطل، ثم كان عليه بعد هذا أن يكسب النصف الآخر، حتى يتلخص من الضلال، ويخرج من عالم الظلام إلى عالم الهدى والنور.. وهو أن يدير عقله على هذا الوجود، وأن ينظر فيه بعقله المتحرر هذا.. فإنه إن فعل، فلابد أن يهتدى إلى الله، ويتعرف إليه، ويؤمن به..
- فقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي إنما أنصح لكم بنصيحة واحدة، لا شىء غيرها.. إنها مجرد نصح، لا إلزام فيه، فإن قبلتم فذلك لكم، وهو حظكم، وإن لم تقبلوا فأنتم وشأنكم..
- والعظة الواحدة، هى: «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» .
والقيام لله، هو القصد، والتوجه إليه، وذلك بطلب البحث عنه بحثا جادّا.. فإن الإنسان الذي يريد أن يتخذ له معبودا يعبده، يجب أن يتعرف إليه، وأن يتحقق من آثاره وأفعاله، وما له من سلطان فى هذا الوجود..
ثم لا يقبل المعبود حتى يراه المالك لكل شىء، المنصرف فى كل شىء، والقيام لله مثنى وفرادى، هو أن يكون التفكير فى الله، حديثا إلى النفس أولا، بما يقع فيها من خواطر عن الله.. ثم مراجعة هذه الخواطر مع شخص آخر، يراه الإنسان صاحب نظر ورأى، حتى يستقيم له من تلك(11/838)
المراجعة، وتقليب الرأى بينه وبين صاحبه هذا- مفهوم لذات الله، وحتى يجتمع له تصور لعظمته وجلاله وقدرته، ثم تكون المرحلة الثالثة والأخيرة، وهى الرجوع إلى نفسه، وعرض هذا المفهوم وذلك التصور على عقله، حتى يهتدى إلى الرأى الذي يطمئن إليه، والتصور الذي يستريج له..
هذه هى مراحل التفكير، فى أي أمر ذى شأن بعرض للإنسان..
ففى المرحلة الأولى تظهر الفكرة فى صورة خاطرة أو وساوسة، يلوح فى سماء العقل، ويضطرب فى مخيلته..
ومثل هذا الخاطر أو الوسواس، يعيش قلقا مضطربا، لا يجد له مستقرا فى العقل، حتى يجد الأرض الصلبة التي يقف عليها.. وهنا تجىء المرحلة الثانية..
وفى المرحلة الثانية هذه، يبحث العقل عن عقل آخر يأنس به، ويقابل ما عنده من خواطر ووساوس بخواطره ووساوسه..
وفى هذا اللقاء بين العقلين، يكثر الأخذ والرد، والقبول والرفض، ثم ينجلى هذا المخض عن زبدة، هى الشرارة التي تنقدح من اللقاء بين العقلين، والتي تضىء بها جوانب النفس، وينكشف على ضوئها وجه الرأى فى الأمر المتداول بينهما.. وينتهى هذا الحوار، أو هذا اللقاء بين العقول، وقد ذهب كل واحد منها بما حصل عليه، من شك أو يقين.. وعندئذ يجد العقل أن ما حصل عليه ليس خالصا له، وإنما هو- على صورتى الشك واليقين- قسمة بينه وبين العقل الذي جرى معه هذا الشوط للوصول إلى تلك الغاية..
وهنا تجىء المرحلة الثالثة، التي يسوى فيها العقل حساب الأمر الذي بين يديه، على الوجه الذي يراه هو، مستقلا عن أي عون خارجى..(11/839)
وفى المرحلة الثالثة هذه، يخلو العقل بنفسه، ما شاء له أن يخلو، فيعيد عرض الأمر فى هدوء، ويقلب وجوهه فى سعة من الوقت، وحرية من العمل..
وقد يظل هكذا زمنا يبلغ عمر الإنسان كله، دون أن يصل إلى الرأى الذي يطمئن إليه، وقد تطلع عليه شمس الحقيقة فى لحظة خاطفة، وعلى غير انتظار! هذا، ويلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم- أن الآية الكريمة، لم تذكر المرحلة الأولى وبدأت بالمرحلة الثانية، وهى لقاء عقل الإنسان بعقل غيره، ومقابلة تفكيره بتفكير غيره وذلك، أن المرحلة الأولى، هى مرحلة مشتركة فى الناس جميعا، فإن أي إنسان عاقل، لا يمكن أبدا أن تخلو نفسه من خواطر، ووساوس، عن التفكير فى «الإله» .. أما الذي هو غير واقع فى الناس جميعا، فهو عرض هذه الخواطر والوساوس على عقول الآخرين..
فهناك كثير من الناس يعيشون مع ما يطرقهم من خواطر ووساوس، دون أن يعرضوها على أحد، بل يمسكون بها فى صدورهم حتى يموتوا بها، تماما كما يمسك بعض المرضى، بأمراضهم، دون أن يطبّوا لها، وأن يعرضوها على أهل الذكر والمعرفة بأدواء الأجسام وعللها..
كما يلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم أيضا- أن الآية الكريمة حصرت التفكير فى دائرة الفرد نفسه، ثم لم تتجاوز به أكثر من فرد وفرد.. وهذا يعنى أن العقل إنما يكون فى أحسن حالاته، حين يفكر وحده، أي حين ينفرد بالتفكير فيما تجمّع لديه من حصيلة من الأفكار والآراء، يردّها إلى نفسه، ويقلبها بين يديه.. فهذا الذي يحقق للعقل ذاتيته، ويعطيه وجوده، ويمكن له من سلطانه.. فإذا كان ولا بد من مشاركة أحد، فليكن ذلك فى أضيق الحدود، ومع عقل آخر، هو أشبه بالمرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته.. أما التفكير الجماعى، وخاصة فى أمر يتصل بالضمير، كالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يشوش على العقل،(11/840)
ويحجب عنه الرؤية الصحيحة لما هو ناظر إليه..
وقد كشف علم النفس، عن أن هناك عقلين، عقلا فرديا، وعقلا جماعيا، وأن العقل الجماعى، قد يقنع الإنسان بما لم يكن محلّ إقناع فى تفكيره الفردى.. وهذا إن صحّ فى الأمور العارضة، فإنه لا يصحّ فى أمر العقيدة، التي هى أمر شخصى محض..
- وقوله تعالى: «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .
هذا هو الحكم الذي يصل إليه العقل، إذا جرى على هذا الأسلوب الذي دعى إليه، من التفكير فى هذا الأمر الذي يدعو الرسول إليه، تفكيرا قائما على البحث الجادّ، والرغبة الصادقة فى الكشف عن الحقيقة.. إنه لو أخذ الإنسان- أي إنسان- بتلك العظة التي دعا القرآن إليها، وهى أن يقوم لله مفكرا وحده، أو مع غيره- لوصل إلى تلك الحقيقة، وهى أن هذا الرسول ليس به جنّة، وأن ما يدعو إليه هو الحقّ.. وأنه رسول الله، ونذير لهم بين يدى عذاب شديد، هو عذاب يوم القيامة..
قوله تعالى:
«قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» وهذه مادة من مواد التفكير، فى سبيل البحث عن الحقيقة التي يدعو إليها الرسول عقل ذوى العقل، فهذه المادة مما تعين على الكشف عن الحقيقة والتهدّى إليها.. وتلك المادة هى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه.. لم يطلب أجرا من أحد على ما يدعو إليه، وأنه لم يطلب بذلك(11/841)
جاها أو سلطانا: «ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» ! حتى أكون بموضع تهمة، بأننى إنما أدعو إلى ما أدعو إليه، ابتغاء كسب مادىّ لذات نفسى.. إنها دعوة بريئة من كل غرض شخصى، خالصة من كل مئونة تحملونها من أجلها..
فماذا يحجزكم عنها، أو يحملكم على التصدّى لها، والوقوف فى وجهها؟
- وقوله تعالى: «فَهُوَ لَكُمْ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» أي إن يكن هناك أجر وخير فى هذه الدعوة، فهو لكم.. أمّا أنا، فإن أجرى على الله..
فأنا أحمل رسالته إليكم خالصة، ولا آخذ منكم على هذا الحمل أجرا، وإنما أجرى على الذي حملنى رسالته..
ويجوز أن يكون الضمير «هو» فى قوله تعالى: «فَهُوَ لَكُمْ» عائدا إلى القرآن الكريم، الذي يدعوهم الرسول الكريم إلى الاستماع إليه، والنظر فيه، ثم الإيمان بما يدعوهم إليه من عقيدة وشريعة.. والقرآن وإن لم يجر له ذكر فى الآية، فهو- فى الحقيقة- المواجه للقوم، والمتحدث إليهم..
وعلى هذا يكون «ما» فى قوله تعالى: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» حرف نفى، بمعنى أننى لم أسألكم أجرا على هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم، فهذا الكتاب هو كتابكم، إنه لكم، هدى ورحمة من عند الله.. فكيف أطلب أجرا منكم على أمر هو لكم.؟ إنه لا أجر لى عندكم، إنما أجرى على الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» ! وقوله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (44: النحل) .. فالكتاب منزل إلى الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام هو المتلقى لهذا الكتاب من ربه، وهو الحامل لهذه الأمانة، المطلوب منه أداؤها إلى أهلها، وهم الناس جميعا..
وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» .. أي قائم على كل شىء،(11/842)
يراه رؤية شهود، فيعلم كل شىء علما كاشفا.. يعلم ما أنا عليه من قيامى برسالة ربى إليكم، ويعلم ما يكون منكم من قبول لهذه الرسالة، أو ردّها، وسيجزى كلّا بما عمل..
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .
والمراد بالقذف بالحق: رمى الباطل بالحق، حتى يصرعه.. فالقذف، هو الرمي الشديد، كما يقذف بالحجر أو نحوه، ليصيب مقتلا من عدوّ..
وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ.. فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (18: الأنبياء) ..
وقوله تعالى: «عَلَّامُ الْغُيُوبِ» بدل من قوله تعالى: «يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» .. أي أنه سبحانه لا يقذف بالحق هكذا خبط عشواء، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. إنه يقذف به عن علم، فيقع حيث يشاء، وحيث يصيب الباطل فى مقاتله..
قوله تعالى:
«قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» هو تعقيب على الآية السابقة، التي قررت أن الله سبحانه وتعالى لا ينزّل إلا ما هو حقّ، ولا يرمى إلا بما هو حقّ..
وها هو ذا الحقّ قد جاء فى هذه الدعوة التي يحملها الرسول الكريم فى آيات الله المطهرة.. وإنها لحق قذف به هذا الباطل الذي يعيش فى مجتمع الجاهليين.. وليس بعد هذا القذف إلا أن يلقى الباطل مصرعه، وتختفى أشباح الضلال، وأشياعه..(11/843)
فقوله تعالى: «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» .. إشارة إلى أن الباطل قد أصيب فى مقاتله، وأنه لن تقوم له بعد اليوم قائمة، ولن يكون له بعد اليوم صوت يسمع.. فالمراد بنفي البدء والإعادة لازمها، وهو عدم التأثير،. أي أنه الباطل يفقد كل آثاره وأفعاله، بعد أن يقذف بالحق، كما يقول سبحانه:
«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (18: الأنبياء) قوله تعالى:
«قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» وهذا الحقّ الذي جاء، إن ضللت عنه، ولم أتبع هديه- فإنما عاقبة هذا الضلال واقعة علىّ.. وإن اهتديت بهذا الهدى، واستقمت على طريقه، ففى هذا النجاة لى، والغنيمة التي أغتنمها منه..
وفى قوله تعالى: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» - إشارة إلى أن هدى القرآن هو الهدى، وأنه لا هدى إلا منه، وأن من التمس الهدى فى غيره ضلّ، وخاب وخسر..
وفى هذا إشارة أيضا إلى أن مصدر الهدى، هو الله سبحانه وتعالى، وأنه من هذا الهدى الإلهى، يهتدى النبىّ، ويهتدى المهتدون.. فالنبىّ- وهو رسول الله- إنما يلتمس الهدى من هذا القرآن، الذي هو حقّ للناس جميعا، ليس للنبىّ فيه، إلا ما للناس جميعا.. ومن هنا، فإنه لا حقّ له- صلوات الله وسلامه عليه- فى أن يطلب أجرا على شىء هو مشاع فى الناس، كالنور، والهواء، والماء.. وفى هذا أيضا دعوة إلى من يجدون فى أنفسهم أنفة أو كبرا أن يأخذوا من القرآن حظهم من الهدى إذ كان النبىّ هو الذي يحمله، ويدعو إليه- فى هذا دعوة لهم أن يتخففوا من هذا الشعور، وأن ينظروا إلى القرآن(11/844)
باعتبار المصدر الذي جاء منه، وأنه من عند الله، وليس من عند محمد، وأن محمدا يأخذ حظّه من هدى الله هذا، فليأخذواهم حظهم كذلك- فى غير حرج، وليرتووا من هذا النبع العذب، وألا يهلكوا أنفسهم، بسبب أن كان القائم على هذا النبع رجلا منهم! وقوله تعالى: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» أي ليس الله سبحانه وتعالى بعيدا عن هذا الهدى الذي يدعوهم إليه رسول الله.. إنه قريب منهم، سميع لهمسات شفاههم، وخفقات قلوبهم.. إنه سبحانه، أقرب إليهم، وإلى هذا الهدى من رسول الله، وأنهم إذا جاءوا إلى هذا الهدى وجدوا الله عنده.. فما لهم لا يتلقون الهدى من الله، إن أنفوا أن يتلقوه من رسول الله؟
إن فى هذه الحجة إلزاما لهم، وقطعا لكل عذر يعتذرون به.. ويبقى للرسول مع هذا مقامه من ربه، ومكانه من الدعوة إلى الله..!
قوله تعالى:
«وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» هو سوق لهؤلاء الضالين الذين أمسكوا بضلالهم، ولم يقبلوا هذا الهدى المعروض عليهم فى شتى صور العرض- هو سوق لهم إلى المصير المشئوم الذي ينتظرهم..
والصورة التي يراها هؤلاء الضالون لأنفسهم هنا والتي يراها الناس لهم، هى أنهم فى ساحة المحاكمة، يوم القيامة، وقد استولى عليهم الفزع من هذا الهول المحيط بهم، وهذا البلاء المشتمل عليهم، وقد أحيط بهم من كل مكان، فلا فوت ولا مهرب لهم..
وجواب الشرط للحرف «لو» محذوف، للدلالة على أنه لا يحيط به(11/845)
الوصف.. ومن صور الجواب، التي تقع فى التصور أن الذي يراهم فى تلك الحال، يرى أهوالا يموج فيها القوم، لا يستطيع الناظر أن ينظر إليها، وبملأ عينيه منها.. إنها شىء مخيف.. مفزع.. فظيع! والمكان القريب الذي أخذوا منه، هو دنياهم التي كانوا فيها.. وهى- أيّا كانوا منها- قريبة إلى الله، فكل شىء فى الوجود قبضته يده! قوله تعالى:
«وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» .. أي أنهم فى هذه الحال، يقولون «آمنا به» أي بالقرآن، أو بالرسول وبما جاء به..
- وقوله تعالى: «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» «أنّى» بمعنى كيف. وهو استفهام يراد به الاستبعاد..
والتناوش: التناول خطفا بأطراف الأصابع، حيث تقصر اليد عن تناول الشيء، فتلمسه، ولا تتمكن منه، فتكثر لذلك حركة اليد، قبضا وبسطا..
والمعنى أنهم إذ يقولون آمنا بالله، وبكتابه، يتعلقون بآمال كاذبة، ويمسكون بخيط من الوهم.. فقد بعدت بينهم وبين مطلبهم الشقة.. إنهم فى عالم غير هذا العالم الذي كان ينفعهم فيه هذا القول.. وإنه لمحال أن يعودوا إلى هذا العالم.. إنه مكان بعيد عنهم.. إنه الدنيا.. وهم فى الآخرة.. وما أبعد المسافة بين الدنيا والآخرة بالنسبة لهم!! وفى التعبير بالتناوش، عن الأمل الذي يراودهم فى هذا الموقف، بإعلان الإيمان- إعجاز من إعجاز القرآن، فى صدق الأداء، وروعته، ودقته.. فالأمل الذي يتعلقون به، لا يمسكون منه بشىء.. إنه لا يكاد يظهر حتى يختفى، ثم يظهر(11/846)
ويختفى، وهم يجرون وراءه حتى تتقطع أنفاسهم دونه، وفى هذا مضاعفة للعذاب الذي هم فيه.. «كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» (14: الرعد) ..
إنهم يمدون أيديهم وهم فى الآخرة، ليتناولوا هذا الأمل الذي فاتهم فى فى الدنيا، ويناوشونه مناوشة من بعيد، ولا تمسك أيديهم بشىء منه.
قوله تعالى:
«وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» ..
الواو، واو الحال، والجملة بعده حال من الكافرين، الذين قالوا آمنا به..
أي أنهم قالوا هذا القول عن القرآن فى الآخرة، وقد كفروا به فى الدنيا، وقد كانوا يقذفون بالغيب وهو ما يحدثهم به القرآن عن البعث فى الآخرة والحساب، والجزاء، وكلها غيب.. فلم يقبلوا هذا، وقذفوا به، ورموه، وهم فى مكان بعيد أي فى الدنيا.. وهم الآن فى الآخرة، فكيف لهم أن يلحقوا بهذا الذي قذفوه، ويمسكوا به؟.
قوله تعالى:
«وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ.. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ.. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» .
حيل بينهم وبين ما يشتهون: أي حجز بينهم وبينه.. فلا سبيل لهم إليه..
والذي يشتهونه، هو العودة إلى الدنيا، وأخذ ما فاتهم، واسترداد(11/847)
ما ضاع منهم فيها، من الإيمان بالله واليوم الآخر..
والأشياع: هم الأولياء، والأنصار.. وهم هنا من كان على شاكلة هؤلاء الكافرين من القرون الغابرة، والأمم الماضية، أو من جاء بعدهم ممن كانوا على الكفر فى الدنيا..
والمعنى أنه قد حيل بين هؤلاء المشركين، وبين ما كانوا يتمنونه، ويطمعون فيه من العودة إلى الدنيا، وإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، كما حيل بين كل كافر وبين هذه الشهوة التي يشتهيها فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان أهل الكفر والضلال فى الآخرة: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (27: الأنعام) .
- وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» - وصف لما كان عليه أهل الكفر والضلال فى الدنيا، وأنهم كانوا فى شك مريب من أمر الآخرة أي فى شك يقوم من ورائه شك. فلا يخرج بهم الشك إلا إلى شك، فلم يكن يقع منهم أبدا الايمان بالله، ولو ردوا إلى الدنيا- بما هم عليه من طباع- لعادوا إلى ما نهوا عنه..(11/848)
35- سورة فاطر
نزولها: مكية عدد آياتها: خمس وأربعون آية..
عدد كلماتها: سبعمائة وسبعون..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف ومائة وثلاثة وثلاثون.
مناسبتها لما قبلها بدأت سورة «سبأ» السابقة بالحمد لله، والثناء عليه، وإضافة ما فى السموات وما فى الأرض إليه سبحانه وتعالى، ثم ختمت بعرض الكافرين على جهنّم وما يلقاهم من ضنك وبلاء هناك، وما يتمنونه من العودة إلى الحياة الدنيا، وأن ذلك ما لا يكون أبدا، وأنهم لو ردّوا لما آمنوا، لأنهم يحملون طباعا لا تتعامل إلا مع الضلال والكفر.
وقد بدئت سورة «فاطر» هذه بحمد الله أيضا، والثناء عليه، وإضافة الوجود إليه إضافة إيجاد وخلق، بعد أن أضافته إليه سورة سبأ، إضافة ملك وتصريف..
ثم كان هذا الحمد ردّا على كفر الكافرين وشكّهم، وما جرّهم إليه هذا الكفر والشك من بلاء ونكال، فهو حمد من المؤمنين إذ عافاهم الله سبحانه وتعالى مما يلقى أهل النار من عذاب أليم.(11/849)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 7) [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
التفسير:
قوله تعالى:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
فاطر السموات والأرض: أي مبدعهما، وخالقهما، على أتم نظام وأكمله.
ومنه الفطرة، وهى ما ركّب الله سبحانه وتعالى فى الإنسان من غرائز وميول، يولد بها الإنسان، كصفحة بيضاء نقية..(11/850)
والجعل: إضافة على أصل الخلق، وهو العمل الوظيفى للمخلوق، حسب طبيعته.. كما يقول سبحانه: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» (5: يونس) ..
وقد شرحنا هذا المعنى فى مواضع أخرى..
فالحمد لله، من ذاته، ومن المخلوقات لذات الخالق، حمدا على الخلق والإيجاد، وعلى ما أمد به ما خلق، من أسباب البقاء، وعلى أن جعل الملائكة رسلا إلى الناس، تحمل إليهم رسالات السماء، بالهدى والنور، وتستغفر للمؤمنين بالله، وتصلى على رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه..
- وقوله تعالى: «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» صفة للأجنحة، وتدل هذه الصيغ على كثره المعدود، وأن الملائكة ذوو أجنحة، وأنهم فى ذلك ثلاثة أصناف، صنف له جناحان، وصنف له ثلاثة أجنحة، وثالث له أربعة أجنحة.. وهذه الأجنحة من نور، تتشكل من هذه الأنوار اللطيفة كما تتشكل صور الأشياء من عالم المادة..
وقوله تعالى «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» هو ردّ على من يتصور أن ذوات الأجنحة لا تكون إلا بجناحين، وأن الثلاثة لا يقوم بها نظام الطائر، كما أن الأربعة هى بمنزلة الجناحين.. وهذا فى تقدير الخلق، ولكن الخلاق العظيم المبدع، يخلق ما يشاء، ويزيد فى الخلق ما يشاء.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فإذا جعل لطائر، ثلاثة أجنحة، أو أربعة، أو ما شاء الله من أجنحة، كان ذلك بتقدير، وعلم، وحكمة.. «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» (7: السجدة) قوله تعالى:
«ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» أي إن القدرة كلّها بيد الله وحده، لا يملك أحد شيئا بقدر به على أن(11/851)
يجلب خيرا أو يدفع ضرّا، إلا بإذن الله وتقديره..
فما يرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس، من رحمة، أي من خير ورزق، لا يستطيع أحد رده، والحيلولة بينه وبين أن يصل إلى حيث أراد الله..
وما يمسك الله من شىء، فلا يستطيع أحد أن يرسله، ولا أن يزحزحه عن الموضع الذي هو فيه..
وقد قيّد ما يرسل من الله- سبحانه- بالرحمة، إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، وأنه رحيم بعباده، وأن رحمته وسعت كل شىء وأطلق ما يمسك، ولم يقيد بالرحمة أو غيرها، إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يمسك ما يمسك لاضنّا بما يمسكه، وإنما لحكمة وتقدير.. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الذي عز سلطانه فملك كل شىء، والذي قام ملكه على الحكمة، فلا يقع فيه شىء إلا بتقدير الحكيم العليم قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» وإذا كان الله سبحانه وتعالى، هو مالك الملك وحده، والمنصرف فيه بلا شريك يشاركه- فإن أي مخلوق يتوجه إلى غير خالقه، ويطلب الرزق منه، يكون قد ضل، ولن يبوء إلا بالخيبة والخسران.
- وقوله تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» استفهام إنكارى، ينكر على الذين يولّون وجوههم إلى غير الله، ويلتمسون الرزق من غيره- ينكر عليهم هذا الضلال، ويتبعهم إلى هذا المتجه الخاطئ الذي يتجهون إليه.. والإفك:
الافتراء والبهتان.(11/852)
قوله تعالى:
«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» .
هو عزاء كريم من الله سبحانه وتعالى، للنبى صلوات الله وسلامه عليه، فيما يلقى من قومه من تكذيب، فهو ليس وحده الذي كذّب من قومه، فإن إخوانه الأنبياء من قبله، قد لقوا من أقوامهم مثل ما لقى، من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى، وتكذيب الضالين والجاهلين..
- وقوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» تهديد لهؤلاء المكذبين، وبأن أمرهم إلى الله، وأنهم راجعون إليه، فيقضى فيهم بحكمه، ويجزى المسيء منهم بما عمل! ..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» وعد الله: هو ما وعد الله سبحانه فى آياته، وعلى لسان رسوله، من البعث والحساب.. والجزاء، والجنة والنار.
وهذا الوعد حق، وهو آت لا ريب فيه..
- وقوله تعالى: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» تنبيه للغافلين عن هذا اليوم، المتناسين أو الناسين لهذا الوعد، المشغولين عنه بما بين أيديهم من متاع الدنيا وزخارفها..
- وقوله تعالى: «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» الغرور: هو الشيطان، وسمى غرورا، لأن يغر الناس، ويخدعهم، ويزين لهم الضلال، فيأتونه وكأنه الهدى..(11/853)
وكل ما يشغل الإنسان عن الله، وعن العمل الصالح، هو غرور، لأنه يغرر بالإنسان ويخدعه،.. ومنه الغرر فى البيوع. وقد حرمه الإسلام لما فيه من مخاطرة وغبن.
قوله تعالى:
«إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» ..
هو وصف كاشف لهذا «الغرور» وهو الشيطان.. إنه عدو للناس، ومن الحكمة أن يحذر المرء عدوه، وألّا يأمن جانبه.. وهو عدو خفى، وهذا يقضى بالانتباه الشديد إلى هذا العدو، وإلى الأساليب والحيل التي يدخل بها على الإنسان..
فكل منكر، وكل ضلال، من ورائه شيطان يدفع الإنسان إليه، ويزين له الطريق نحوه..
فإذا واجه الإنسان منكرا، أو تلبس به، فليذكر أنه ضحية عدوه هذا، وأنه قد تمكن منه، ونال غايته فيه.. فليجتهد ما استطاع أن يخرج من سلطان هذا العدو، وأن يفسد عليه صنيعه به، وأن يشد عزمه وإرادته، وأن يستحضر جلال الله وعظمته، وأن يذكر أنه فى موقفه هذا، على الطريق إلى جهنم، والشيطان هو الرائد إليها، والداعي إلى عذاب السعير..
قوله تعالى:
«الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» .
وحزب الشيطان وأولياؤه هم الكافرون، والكافرون لهم عذاب شديد(11/854)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
أما أعداء الشيطان، فهم المؤمنون، الذين خرجوا عن سلطان هذا «الغرور» فاستجابوا لله، وآمنوا به، وعملوا الصالحات.. وهؤلاء «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» فالله سبحانه وتعالى يتفضل عليهم بالمغفرة لما وقع منهم من ذنوب، لأنهم إذا أساءوا أحسنوا، وإذا أذنبوا تابوا.. والله سبحانه وتعالى يقول فى عباده المؤمنين: «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (22: الرعد) ويقول النبي الكريم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» .
الآيات: (8- 14) [سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 14]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)(11/855)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» .
وقفت الآيات السابقة من المشركين موقف الناصح الداعي إلى الحق، الكاشف عن آيات الله، وآلائه، المحذّر من بأس الله وعذابه، المواسى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من تكذيب المشركين له.. فتلك هى سبيل الضالين مع رسل الله فى كل أمة..
وهنا فى هذه الآية، يتلقى النبي من ربّه عزاء جميلا، عن مصابه فى قومه، ودعوة كريمة إلى الرفق بنفسه، والترويح عنها، والإمساك بها بعيدا عن موطن الحزن والحسرة، على من لا يستحقون الأسى عليهم، والحزن لهلاكهم..
إن نفسه أعزّ على الله وأكرم من أن تشقى هذا الشقاء المعنّى، فى سبيل نفوس رخيصة ضائعة، لا يقام لها وزن..
- وفى قوله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» استفهام إنكارى، يراد به كشف هؤلاء المشركين للنبىّ، وأنهم قد زين لهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وأنهم من أجل هذا لن يتحولوا عمّا هم فيه أبدا..(11/856)
إنهم يرون الخير كلّ الخير، والحق كلّ الحقّ، فيما هم فيه.. ومن كان على هذا الرأى فيما عنده، فلن يقبل بحال أن يستبدل به غيره أبدا..
وفى النظم القرآنى كلام محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» أيستجيب لداع يدعوه إلى غير هذا الذي زيّن له؟ ذلك ما لا يكون.. وهؤلاء المشركون الذين أمسكوا بشركهم، قد زيّن لهم هذا الشرك، فرأوه حسنا.. وإذن فلا يرجى منهم أن يستجيبوا لك أبدا.. ومن هنا فإن الأسى عليهم، والجزع من المصير الذي هم صائرون إليه- لا محلّ له، إذ كان هو المنزل الذي تخيّروه ورضوا به، وإذ كان ذلك هو الزاد الذي لن يستسيغوا غيره. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» .!
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى قضاء الله فى هؤلاء المشركين، فإنهم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) قوله تعالى:
«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى، يبعث رسله بالرحمة إلى عباده، فيقبلها قوم، وبأباها آخرون. فهى أشبه بالغيث، ينزل من السماء، فتحيا بها أماكن منها، وتخرج الحبّ والثمر، على حين يتحول به بعضها إلى أحراش، تؤوي الهوام والحشرات.
- وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً» هو معطوف(11/857)
على الجملة الابتدائية فى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وذلك مثل قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» ..
والتقدير: إن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وهو سبحانه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً» واختلاف النظم فى «يَهْدِي» (بالفعل المتجدد) «وأَرْسَلَ» (بالفعل الماضي) .. إشارة إلى أن الإرسال يسبق الآثار المترتبة عليه، وهى الإهداء، أو الإضلال، والإحياء أو الإماتة.. فالإرسال سابق، ولهذا عبّر عنه بالفعل الماضي.. والآثار المترتبة عليه، مستمرة، لا تنقطع، ولهذا عبر عنه بفعل المستقبل «يهدى» .
- وفى قوله تعالى «كَذلِكَ النُّشُورُ» .. إشارة إلى قضية البعث، التي هى مبعث ارتياب المشركين، وتكذيبهم للرسول فى كل ما يدعوهم إليه..
وفى هذه الإشارة دليل مادىّ محسوس يشهد لإمكانية البعث، وأنه إذا كانت الأرض الميتة المجدبة، ينزل عليها الماء، فتلد هذه المواليد العجيبة، من النبات، والزهر، والثمر، فإن هذه الأرض التي أودع فى ترابها الناس، ليس ببعيد أن ينفخ الله فيها نفخة الحياة، فتخرج ما فى بطنها من آدميين! ..
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» .
أي أن هؤلاء المشركين إنما يتخذون هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله، ليكونوا لهم شفعاء عند الله، ولينالوا بهم عزا وجاها، كما يقول سبحانه(11/858)
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (81: مريم) ولقد أخطأ هؤلاء المشركون الطريق إلى العزة.. إن العزة لله جميعا، لا يملك أحد منها شيئا، فمن أراد العزة ولم يلتمسها من الله، فلن ينال منها شيئا..
- وقوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» .. إشارة إلى أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يرد موارد عزّته إلا الطيبون.. والمشركون نجس، وإذن فلا طريق لهم إلى الله، ولا شىء لهم من العزة التي هى ملك يمينه..
وأنهم إذا أرادوا أن يأخذوا طريقهم إلى الله، وإلى العزة التي بين يديه، فليتطهروا من شركهم، وليؤمنوا بالله، وبغير الإيمان بالله لن يكون لهم طريق إلى الله.. فالكلم الطيب هو كلمة التوحيد: «لا إله إلا الله» وقوله تعالى:
«وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» - إشارة إلى الإيمان بالله يقيم صاحبه على أول الطريق إلى الله، ثم تكون الأعمال الصالحة التي تقوم وراء الإيمان هى التي ترفع صاحبها إلى الله، وتدنيه منه.. فإن الإيمان- مجرد الإيمان- دون عمل صالح، هو خير معطل، أشبه بالنبتة الصالحة فى الأرض الطيبة، لا يصيبها ماء! فإذا أصابها الماء اهتزت لها الأرض وربت وأنبتت من كل زوج بهيج..
«فالعمل الصالح» يزكى الإيمان، وينميه، ويثبت دعائمه، ويرفع بنيانه وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» ..
مكر السيئات: تدبيرها، والاحتيال فى التمكين لها.
وفى هذا تهديد للمشركين الذي يغرسون فى مغارس السوء، ويعملون فى مجال الضلال، إنهم لا يجنون من غرسهم هذا إلا أنكد الثمر وأخبثه.. إنه العذاب الشديد فى الآخرة، والحسرة والوبال فى الدنيا..(11/859)
وفى قوله تعالى «وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» حكم قاطع على هذا المكر السيّء الذي يمكره المشركون بالنبي وبدعوته، بأنه إلى بوار وضياع، لا ينالون به من الذين يمكرون به، وهو هذا الدين الذين يدعون إليه- لا ينالون منه منالا، بل سيبطل الله مكرهم به، ويكتب لهذا الدين الغلب والنصر، ولأهله العزة والتمكين..
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو عرض لبعض سلطان الله، وقدرته، وأن له سبحانه العزة جميعا..
فهو- سبحانه- بقدرته، خلق الناس من هذا التراب الهامد. فهذا التراب هو الأصل الذي تخلقت منه النطف، التي تخلّق منها الأجنة فى بطون الأمهات، ومن الأجنّة كانت المواليد، وكان الناس..
وهذا التراب، الذي يبدو أنه أصل أول فى خلق الإنسان، هو فى حقيقته، قد مرّ فى أطوار كثيرة، حتى صار هذا التراب.. تماما كما مر الإنسان فى أطوار الخلق، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة.. إلى آخر ما هنا لك من صور وأطوار فى الخلق.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» إشارة إلى تنويع خلق الإنسان، فكان منه الذكر والأنثى.. كما يقول سبحانه وتعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (37- 39: القيامة)(11/860)
- وفى قوله تعالى: «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» - إشارة إلى أن قدرة الله سبحانه وتعالى، ليست واقفة عند هذا الحد من خلق هذا الإنسان من تراب، بل إن تلك القدرة قائمة على كل مخلوق، قبل خلقه، وبعد خلقه، وفى كل لحظة من لحظات وجوده وقبل وجوده.. فما تحمل من أنثى من حمل، ولا تضع من مولود، إلا وعلم الله قائم عليه، محيط به، ومقدر له العمر الذي يلبسه فى هذه الحياة، من طول أو قصر.. فهذا كله فى كتاب مبين، كتبه الله بعلمه، وأودعه فى كتاب مبين، هو اللوح المحفوظ..
والنقص من العمر، ليس نقصا فى العمر المقدّر فى كتاب الله للكائن الحي، وإنما هو نقص بالإضافة إلى من طال عمره.. فالذى قدر له أن يعيش أياما، أو شهورا، أو بضع سنين، إنما يعيش هذا العمر المقدر له فى علم الله، والمسطور فى كتابه، وهذا العمر، هو عمر يبدو ناقصا بالنسبة لمن يعيش عشرات السنين.. أما عمره فلم ينقص منه شىء.. وذلك كله يسير على الله، الذي لا يئوده حفظ هذا الوجود! قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ومن دلائل قدرة الله، وكمال عزته، أنه جمع بين البحرين، وفرق بينهما فى آن.. فهما فى واقع الحياة كائن واحد، يتشكل من مادة واحدة هى الماء.
ومع هذا فهما طبيعتان متغايرتان.. «هذا عَذْبٌ فُراتٌ» أي ماء حلو:
«سائع شرابه» أي تستبغ النفس شرابه، ويلذ لها طعمه.. «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ»(11/861)
أي كثير الملوحة ثم إنهما مع هذا الاختلاف، يثمران للإنسان ثمرا، يجنبه منهما على سواء، فمن الماء العذب والماء الملح، يأكل لحما طريا، هو ما يستخرج منهما من أنواع السمك.. كما يستخرج منهما حلىّ تلبس للزينة، كاللؤلؤ، والمرجان، وأنواع الصدف، وغيرها.. وعلى كلا البحرين- العذب والملح- تجرى السفن محملة بالبضائع والأمتعة، والناس وفى الآية الكريمة أكثر من إشارة.
فأولا: الناس، وأصلهم من ماء، كهذا الماء. هم هذه النطفة، وقد فرقت القدرة الإلهية بينهم، كما فرقت بين العذب والملح فهناك المؤمنون والكافرون، وهما غير متساويين، كما أن الماء العذب والماء الملح غير متساويين.
وثانيا: الماء العذب، بقا له المؤمن، والماء الملح، يقابله الكافر. والمؤمن طيب، مقبول فى الحياة الإنسانية.. إنّه الحياة التي تمسك بوجودها على الصحة والسلامة، كالماء العذب، فهو الذي يمسك حياة الأحياء، ويقيم وجودها..
وثالثا: الماء الملح، وهو على ما به من ملوحة لا تقبلها النفس، يشارك الماء العذب، فى استكمال حياة الناس، وفى جلب كثير من المصالح لهم. وكذلك الكافر، إنه- على ما به- يشارك فى بناء الحياة الإنسانية، ويمثلّ جانبا مهمّا منها. إنه الكفة الأخرى التي يعتدل بها ميزان الحياة.. وإنه لولا الكافر، ما استبان وجه المؤمن، ولا عرف فضله، ومقامه..
ورابعا: الماء الملح، هو الكثرة الغالبة فيما على الأرض من ماء، وكذلك الكفر، هو الوجه العريض فى دنيا الناس، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ- وَلَوْ حَرَصْتَ- بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وخامسا: أنه برسالات السماء، وهدى الرسل، يخرج المؤمنون من أحشاء(11/862)
هذا الكفر، وذلك بعد صراع ومعاناة.. تماما كما يخرج الماء العذب من صدر المحيطات، بفعل الرياح التي تثير أمواجها، وتخرج بخارها، وتعلو به فى طبقات الجو، ثم تشكلّه سحابا، تدفع به إلى حيث أراد الله، وإلى حيث قدر لهذا السحاب أن ينزل من ماء..
وهناك صور كثيرة لا تنتهى، يمكن أن يراها الناظرون فى الآية الكريمة، وفى النظر إلى الناس على ضوئها..
قوله تعالى:
«يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» ومن قدرة الله، وبسطة سلطانه، وكمال عزته.. أنه- سبحانه- «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» أي أنه سبحانه يدخل الليل، بظلامه الكثيف، فى أحشاء النهار، فيشتمل عليه النهار، ويستولى بسلطانه المشرق، على ظلماته المتراكمة..
فإذا الدنيا وقد خلعت هذا الرداء الأسود، ولبست ذلك الثوب النورانى، كما تلبس العروس ثوب زفافها.. وأنه سبحانه- بقدرته- «يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل هذا النور الساطع فى أحشاء الظلام، فيستولى الظلام بسلطانه على هذا النور.. وهكذا الحياة.. نور وظلام، وخير وشر، وعذب فرات وملح أجاج، ومؤمن وكافر..
- وقوله تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي ومن قدرته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر لسلطانه، وأجراهما بقدرته، كيف شاء، وأقامهما على هذا النظام المحكم الذي لا يدخل عليه أي اضطراب أو خلل:(11/863)
«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) - قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ.. لَهُ الْمُلْكُ» أي ذلك الذي أقام الوجود على هذا النظام، واستولى بسلطانه على كل شىء فيه- هو الرب، الخالق الذي لا رب سواه ولا خالق غيره.. فمن ابتغى ربّا غيره فقد ضل، ومن عبد معبودا سواه فقد هلك.. ذلك هو ربّ العالمين- له الملك، وله الخلق والأمر..
- قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» القطمير: هو القشرة الرقيقة التي تكون غلافا للنواة فى داخل الثمرة..
أمّا الذين يعبدهم المشركون من أرباب، فإنهم لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. ما يملكون جميعا قشرة من نواة.. فما أضلّ من يلتمس العزّة، ويرجو الخير ممن لا يملك شيئا..
قوله تعالى:
«إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» .
أي أن هؤلاء المعبودين الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله، إن يدعهم عابدوهم إلى أي أمر، ولأية حاجة- لا يسمعوا دعاءهم.. لأنهم أحجار صمّاء، ودمى خرساء.. «وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» أي لو قدّر لهم أن يسمعوا- فرضا- أو كان فيهم من يسمع- فعلا- كالملائكة والجنّ، وغيرهم ممن يعبدهم المشركون- ما استجابوا لهم، وما أسعفوهم بما يطلبون منهم.. إنهم يطلبون شيئا ممن لا يملك شيئا.. وفاقد الشيء لا يعطيه..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» .. وأكثر من هذا(11/864)