قوله تعالى:
«لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» ..
هو أيضا تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أن يكون كهذه الآلهة التي يعبدها هؤلاء الضالون.. فهذه الآلهة، هى من مخلوقات الله، وهى خاضعة لمشيئته فيها، يصرّفها كيف يشاء، ويحاسب العاقل منها على ما كان منه.. أما هو سبحانه، فلا يسأل عما يفعل.. إذ لا يسأله إلا من هو فوقه، وهو- سبحانه- فوق كل ذى فوق.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ.. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (68: القصص) .
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» ..
«أَمِ» هنا للإضراب، بمعنى بل..
والمعنى: أنه مع هذه البديهيّات التي تقع فى متناول كلّ عقل، والتي تقضى بما لا يدع مجالا للشك، بأنه لا يمكن أن يكون لهذا الوجود إلا إله واحد، يقوم عليه، ويدبّر أمره- مع هذا، فإن هؤلاء الضالين المشركين قد عموا عن هذه البديهيات، وقصرت أفهامهم عن إدراكها، وساغ لهم أن يعبدوا أكثر من إله، وأن يوزّعوا عقولهم وقلوبهم بين أرباب وأشباه أرباب، ولم يحاولوا أبدا أن يجيبوا على هذا السؤال: «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (39: يوسف) .. كما لم يحاولوا أن يقيموا دليلا يقبله العقل، ويرتضيه المنطق لعبادة هذه الآلهة المتعددة! وفى قوله تعالى: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» دعوة لهؤلاء المشركين أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يأتوا منها بالدليل والحجة على ما يعبدون من دون الله..(9/862)
«وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) ..
وقوله تعالى: «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» .. هو إشارة إلى القرآن الكريم، الذي بين يدى الرسول، وهو برهانه على الإله الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته.. وهذا القرآن كما هو حجة وبرهان للرسول الكريم، هو حجة وبرهان لهؤلاء المشركين الذين يدعوهم الرسول إلى الإيمان بالله، كما أنه حجة وبرهان على أهل الكتاب.. «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» .. فمن مع الرسول هم هؤلاء المشركون.. والذين من قبله هم أهل الكتاب.. والقرآن الكريم حجة على هؤلاء وأولئك جميعا..
وقوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.. فَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. هو اعتذار لكثير من هؤلاء المشركين، الذين عموا عن طريق الحق، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يستمعوا لداعى الحقّ، وأن يستجيبوا له.. ومن ثمّ، فإن الرسول قائم فيهم، لا يتخلى عن مكانه بينهم، ولا يمسك عن دعوتهم، وكشف معالم الطريق لهم، حتى يبصروا من عمى، ويهتدوا من ضلال..
وقد كان.. فما زال الرسول يغادى هؤلاء المشركين، ويراوحهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، على مدى ثلاث وعشرين سنة، حتى استنارت بصائرهم، وتفتحت قلوبهم، وما كادت تختم الرسالة، وتنزل آخر آية من آياتها، حتى آمن هؤلاء المشركون، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وكان مختتم الرسالة قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) .
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ»(9/863)
تلك هى ملاك دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهم بشر مثل هؤلاء البشر.. ودعوتهم جميعا هى أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده المستحق لأن يفرد بالألوهية والعبادة.. فكانت دعوة كل رسول إلى قومه مفتتحة بهذا النداء: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
قوله تعالى:
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.. سُبْحانَهُ.. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» .
هو إشارة إلى أهل الكتاب، الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى فى قوله:
«ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» فأهل الكتاب هؤلاء، من اليهود والنصارى، قد جاءهم رسولان، كريمان، بشران، من عباد الله هما: موسى، وعيسى، عليهما السلام، فدعواهم إلى الإيمان بالله وحده، ولكنهم قلبوا وجه هذه الدعوة، فجعل النصارى المسيح ابنا الله، وجعل اليهود عزيرا ابن الله. كما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» أي أن المسيح وعزيرا والأحبار والرهبان، هم من عباد الله، أكرم بعضهم واصطفاه لرسالته، كما أكرم واصطفى كثيرا من عباده ورسله بالنبوّة والرسالة، وكما أكرم كثيرا منهم بالإيمان.(9/864)
وقوله تعالى: «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» هو صفة لهؤلاء العباد المكرمين، الذين اتخذهم الضالون آلهة من دون الله، فهؤلاء الرسل، هم على طاعة مطلقة لله.. لا يسبقونه بالقول، فلا يقولون إلا ما يقال لهم من قبل الحق، ولا يعملون عملا إلا ما يأذن الله لهم به.. فكيف يكون من هذا شأنه إلها مع الله؟ وهل يكون إلها من لا يملك من نفسه الكلمة، ولا العمل؟
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» .
أي أن هؤلاء العباد المكرمين من رسل الله، لا يعلمون إلّا ما علمهم الله، ولا يملكون إلا ما يأذن الله لهم به.. وهو سبحانه يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، فيعلم «ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» أي ما لم ينكشف لهم من مسيرة حياتهم بعد، ويعلم «ما خَلْفَهُمْ» أي ما انكشف لهم من ماضى حياتهم قبل أن يتلبسوا به..
«وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» أي ولا يملكون الشفاعة لأحد، إلا لمن ارتضى الله سبحانه وتعالى لهم أن يشفعوا فيه، تكريما لهم، ومضاعفة لإحسانه إليهم. «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» أي وهم- مع هذا الإيمان، وهذا الولاء- على خشية وإشفاق من الله، ومن بأس الله وعذابه..
- وقوله تعالى: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ.. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» - هو استبعاد لأن يكون من رسل الله قول كهذا القول الذي يقوله فيهم الضالون، الذين اتخذوهم آلهة.. ولو فرض- وهو فرض محال- أن يقول أحد منهم إنى إله من دون الله، فلا يعصمه قربه من الله، وإكرامه إياه، من أن يؤخذ بما يؤخذ به أي عبد من عباد الله، يقول هذا(9/865)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
القول.. فهو ظالم من الظالمين، ولا مصير له غير مصيرهم..
فإذا كان هذا هو شأن المقربين إلى الله، فكيف يكون شأن غيرهم؟
إن ميزان العدل واحد للناس جميعا.. لا ترجح فيه كفة أحد على أحد إلا بالعمل الصالح..
«فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ» (6: 11: القارعة) .
الآيات: (30- 35) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه(9/866)
الضالين، من الكافرين والمشركين، وعرضت تصوراتهم المريضة، لجلال الألوهية وكمالها، حتى لقد بلغ بهم الإسفاف فى ضلال العقل، وسخف النظر، ما أوردهم هذا المورد الذي ينزلون فيه إلى هذا المنحدر من الضلال، فيعبدون أحجارا، وحيوانات، وأناسىّ، ويجعلونها آلهة، تخلق، وترزق، وتحيى، وتميت..!
فجاءت هذه الآية تلفت هؤلاء الضالين إلى ما هم فيه من ضلال وشرود عن عن الله، الواحد، المتفرد بالألوهية والملك والسلطان..
وفى اختصاص الذين كفروا بالذكر هنا، لأنهم هم الذين عمّوا عن هذه الآيات فضلّوا وكفروا، أما المؤمنون فقد كان لهم نظر دائم إلى هذا الوجود، وتفكير متصل فى أسراره وعجائبه، فهم كما وصفهم الله سبحانه فى قوله:
«يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191: آل عمران) ..
وفى قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى ما أبدع وصور فى هذا الوجود..
فالسموات والأرض، كانتا شيئا واحدا، وكتلة متضخمة من المادة..
«كانَتا رَتْقاً» أي منضما بعضهما إلى بعض، فلا سماء، ولا أرض.. بل كون لا معلم فيه.. ثم كان من قدرة الله ومن علمه، وحكمته، أن أقام من هذا الكون المتضخم، هذا الوجود، فى سمائه وأرضه، وما فى سمائه من كواكب ونجوم، وما على أرضه من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد.. «كانَتا رَتْقاً(9/867)
فَفَتَقْناهُما»
أي فصلنا بعضهما عن بعض.. فكانت السماء، وكانت الأرض.
ثم كانت من السموات ما فيهن من عوالم، وكان من الأرض ما فيها من مخلوقات..
كانت السموات والأرض كتلة، أشبه بالنطفة التي يتخلّق منها الجنين..
فمن هذه النطفة كان هذا الإنسان، بل هذا الكون الصغير، وكان هذا الخلق السوىّ الذي هو عليه..
وقوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» - إشارة إلى هذا العنصر العظيم من عناصر الحياة، وهو الماء.. فهو أصل كل حىّ، وبذرة كل حياة فى عالمنا هذا الذي نعيش فيه.. فالإنسان، والحيوان، والنبات، قوامها جميعا الماء، الذي به لبست ثوب الحياة، ومنه تستمد بقاءها، ووجودها.. فإذا افتقدت الماء عادت إلى عالم الموات..
وهذه الحقيقة قد أصبحت من مقررات العلم الحديث، الذي أثبت أن نشأة الحياة على هذه الأرض قد ظهرت أول ما ظهرت على شواطئ الأنهار..
فكانت أول أمرها ظلالا باهتة للحياة، وإشارة خافته إليها، ثم أخذت تنمو شيئا فى بوتقة الزمن على مدى ملايين السنين، حتى ملأت هذه الدنيا، فى صور متعددة، وأشكال مختلفة، لا تكاد تقع تحت حصر.
- وفى قوله تعالى: «أَفَلا يُؤْمِنُونَ» نخسة لهؤلاء الضالين، أن يتنبهوا، وأن يوقظوا عقولهم، ويفتحوا أبصارهم على هذا الوجود، وما أبدع فيه الخالق وصوّر..
فلو أنهم أداروا عقولهم على هذا الوجود، بقلوب سليمة، ومشاعر متفتحة لا نكشف لهم من أسراره ما يحدّثهم أبلغ الحديث عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته، المبثوثة فى كل ذرة من ذرات هذا العالم.. وإذن لآمنوا بالله،(9/868)
وأخبتوا له، ولا متلأت قلوبهم خشية ورهبة لسلطانه العظيم، الآخذ بناصية كل شىء، ولأفادوا من ذلك علما كثيرا يمكّن لهم فى الأرض، ويسخر لهم من قواها مازال متأبيا عليهم، بعيدا عن متناول أيديهم..
فالإيمان لا يقع من القلب موقع الاستقرار والاطمئنان، إلا إذا جاء عن علم بالله، وبما لله من صفات الجلال والكمال..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .
هو إلفات إلى ما صنع الله سبحانه وتعالى بالأرض، بعد أن فصلها عن مادة الوجود، وصورها على تلك الصورة.. فقد جعل الله سبحانه وتعالى فيها جبالا راسية ثابتة، تشدّها، وتمسك بها أن تميد وتضطرب، وجعل فى هذه الجبال فجاجا، أي فجوات، وهى سبل يسلكها الناس فى انتقالهم من جهة إلى أخرى.
ويجعلون منها معالم يتعرفون منها إلى الأماكن والجهات، حتى لا يضلّوا فى أسفارهم..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» .
وكما أوجد الله سبحانه الأرض على هذه الصورة، وجعل فيها رواسى، وفجاجا سبلا، كذلك أقام السماء كما نرى، سقفا محفوظا بيد القدرة، فلا يقع علينا..
وفى قوله تعالى: «وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» إشارة إلى ما فى السماء(9/869)
من آيات ناطقة بقدرة الله، شاهدة على علمه وحكمته.. ببنائها القائم، وبما تتزين به من كواكب ونجوم.. ولكن هؤلاء الضالين، المشركين، فى غفلة عن تلك الآيات الباهرة، لا يلقون إليها نظرا، ولا يديرون نحوها عقلا..
وفى إضافة الآيات إلى السماء، إشارة إلى عظمة هذا العالم العلوي، وأن السماء كون عظيم، وأن كل ما لاح فى هذا الكون، هو آية من آيات هذا الكون العظيم..
وفيما كشف العلم عنه من هذا العالم العلوىّ، ما يبهر العقول، ويعجز الخيال.. وهو إلى جانب ما لم ينكشف أشبه بذرة من عالم الرمال، أو قطرة من عالم الماء فأين العقول التي تنظر؟ وأين البصائر التي تستبصر؟
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» .
هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله، التي أشارت الآيات السابقة إلى بعض منها.. ومن مظاهر القدرة الإلهية خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، وإجراء كل منها فى فلك خاص به، ومدار لا يتعداه..
وفى التعبير عن حركة الليل والنهار، بالخلق، إشارة إلى ما لهما من وجود ذاتىّ غير عارض، وأن وجودهما مقصود لذاته، حيث يأخذان من الوجود ويعطيان، شأنهما فى هذا شأن الإنسان المكلّف، المطلوب منه رسالة يؤديها فى الحياة..
وشأنهما كذلك شأن الشمس والقمر، فهما أي الليل والنهار، وإن كانا مظهرا من مظاهر حركة الأرض حول نفسها، إلا أنهما صاحبا سلطان على كل ما يقع(9/870)
فى فلكهما، كما للشمس سلطان على كل ما يقع فى فلكها،. ولهذا جاء قوله تعالى: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» مسندا فيه الفعل إلى هذه المخلوقات بضمير العاقل، ليشير بذلك إلى أنها كائنات تسير على هدى، فلا تزلّ، ولا تنحرف، حتى لكأنها موجهة بإرادة عقل رشيد حكيم.. فهى وإن بدت لنا أنها غير عاقلة، فإن نظامها الذي تجرى عليه ليدلّ على أنها تتحرك بتوجيه قوة عاقلة حكيمة، إن لم تكن فى ذاتها فهى قائمة عليها..
أما حين لا تراد هذه المخلوقات لذاتها، وإنما تراد آثارها، أو بعض آثارها، فإن التعبير القرآنى عن ذلك يجىء بلفظ «الجعل» لا «الخلق» ..
مثل قوله تعالى: «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» (96:
الأنعام) وقوله سبحانه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (12: الإسراء) ..
وفى ضمير الجمع العاقل فى «يَسْبَحُونَ» إشارة إلى أنه وإن كان لكل مخلوق من هذه المخلوقات فلك يسبح فيه، فإنها جميعا ينتظمها فلك عام، هو فلك الوجود كله، الذي يحوى كل فلك! قوله تعالى:
«وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» .
كان المشركون يستثقلون مقام النبىّ الكريم فيهم، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه، وألوان الأذى، النفسي والمادي، فى نفسه، وفى أصحابه، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل.. فلما ضاقوا به ذرعا، وأعيتهم الوسائل فى صده عن دعوته إلى الله- كان ممّا يعزّون به أنفسهم، ويمنّونها الأمانىّ فيه، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره، وقد ذهب أكثره،(9/871)
ولم يبق إلا قليله، فقد التقى بهم الرسول الكريم وقد جاوز الأربعين، وها هو ذا صلوات الله وسلامه عليه، لا يزال بينهم وقد نيّف على الخمسين، وإذن فهى سنوات قليلة ينتظرونها على مضض، حتى يأتيه النون! وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30: الطور) .
فجاء قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» مسفّها هذا المنطق السقيم، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب فى أيديهم.. فالموت حكم قائم على كل نفس.. فإذا مات النبىّ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير، وإنما الناس جميعا، صائرون إلى هذا المصير.. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي؟ وكيف يكون سلاحا عاملا فى أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا فى يده، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة؟
ولهذا ردّ الله عليهم بقوله: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟» .. فما جوابهم على هذا؟ إنهم لن يخلّدوا فى هذه الدنيا، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ..
«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (30: الزّمر) .. إن المعركة بين حق وباطل، فما سلاحهم الذي يحاربون به فى هذا الميدان؟ إنه الباطل، وإنه لمهزوم مخذول: «إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» قوله تعالى:
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» هو جواب على هذا السؤال الذي جاء فى الآية السابقة: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» ؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ويشهد له الواقع.
وفى قوله تعالى: «ذائِقَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن للموت طعما، تجده النفوس حين تفارق الأجساد..
وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس.. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده،(9/872)
وتستسيغ طعمه، لما ترى فيه من خلاص لها من هذا القيد، الذي أمسك بها عن الانطلاق إلى عالمها العلوي، حيث تروى ظمأها، وتبرّد نار أشواقها، وتنعم فى جنات النعيم التي وعد الله المتقين..
أما النفس الضالة الآثمة، فإنما يحضرها عند الموت، حصاد ما عملت من آثام، وما ارتكبت من منكرات، وتشهد ما يلقاها من غضب الله وعذابه، فتكره الموت، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» (93: الأنعام) وقوله سبحانه: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (55: التوبة) .
وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» إشارة إلى ما يقع للناس فى دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا.. فذلك كله ابتلاء لهم، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع، ومع الخير من شكر أو كفر..
فما تستقبله النفوس مما يكره، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء الله، والتسليم له.. وما تستقبله مما يحبّ، هو امتحان لها كذلك، على الشكر والحمد لما آتاها الله من فضله وإحسانه..
فالنفوس المؤمنة، لا تجزع من المكروه، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب، لأن كلّا من عند الله، وما كان من عند الله فهو خير كله، محبوب جميعه.. هكذا تجده النفوس المؤمنة بالله، العارفة لجلاله، وعظمته، وحكمته..
أما النفوس الضالة عن الله، فإنها إن أصابها شىء من الضرّ، جزعت، وزادت كفرا وضلالا، وإن مسّها الخير، نفرت نفار الحيوان الشرس، واتخذت من نعمة الله سلاحا تحارب به الله، وتضرب فى وجوه عباد الله..(9/873)
وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» (19- 27: المعارج) .
ونحبّ أن نقف هنا وقفة، مع قضية «الخير والشرّ» .. نعالج فيها ما يدور فى بعض الرءوس من تساؤلات عن «الشرّ» وعن الحكمة فى أن يقع فى هذه الحياة، وعن ابتلاء الناس به، وعن نسبته إلى الله.. إلى غير ذلك مما سنعرضه مفصلا فى المبحث التالي:
[الخير.. والشر] التّلازم بين الخير والشر:
ينزع العقل دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور فى محيط تفكيره.. فلا يكاد أمر من الأمور يقع فى مجال النظر العقلي، حتى يستثير له العقل من عالم الواقع، أو عالم الخيال، كائنا آخر، يقف منه موقف التضادّ والعناد، ليرى فيه كل الصفات السلبية للأمر الذي بين يديه.. فإذا ذاق المرء طمعا حلوا، ذكر الطعم المرّ، وإذا لمس اللّبن استشعر الخشن، وإذا فكر فى الحق، تذكّر الباطل.. وهكذا تعيش الأشياء، من المعاني والمحسوسات، فى عالم الحسّ والفكر، مثنى.. مثنى.. الأمر وضدّه.
ومحال أن يعترف العقل فى عالم الواقع، بالوجود الفردىّ لشىء من الأشياء، أو معنى من المعاني.. حتى لكأن الأشياء والمعاني كائنات حيّة، لا يضمن بقاءها ووجودها، إلا هذه المزاوجة! التي تجمع بين الشيء ومقابله، كما تجمع فى عالم الأحياء بين الذكر والأنثى..!!(9/874)
إن الحقيقة الفردية لا وجود لها فى منطق العقل، فهو لا يعرف الشيء، ولا يعترف به، إلا إذا عرف المقابل له، ولو كان هذا المقابل عدما وسلبا.. فهو إن عجز عن أن يجد فى عالم الواقع ما يقابل أو يضاد الشيء الذي بين يديه، انتزع من صفات العدم والسلوب لهذا الشيء، مشخّصات يقيم منها شخصية تقابله مقابلة التضاد والعناد.. فالوجود يقابله العدم، والحياة يقابلها الموت.. وهكذا..
يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم چيمس» : «إننا لا ندرك تمام الإدراك القضية الصادقة، حتى نعلم مضمون ما يناقضها من قضايا كاذبة.. فالغلط ضرورى ليظهر الحقيقة على أحسن منوال، كما أن ظلام الجانب الخلفى- فى آلة التصوير- ضرورى ليظهر صفاء الصورة ونضارتها» .
ولعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- كلمته المأثورة: «من لم يعرف الشرّ جدير بأن يقع فيه» .
وعن طريق هذه الثنائية للأشياء، استطاع العقل أن يبعث الحياة فى الكائنات الجامدة، وأن يقيم من المعاني المجرّدة مشخصات، حين يجمع بين المتضادات، ويقابل بين المتناقضات، فتتعاند، وتتصادم، ويتولد من تعاندها وتصادمها واحتكاكها، شرارات المعرفة، التي تكشف للعقل عن حقيقتين فى وقت معا، عند معالجته لحقيقة واحدة.. هما: الشيء وضده، أو الشيء ومقابله.
وعن هذه الثنائية، نشأ هذا التلازم بين الخير والشر.. فإذا ذكر الخير، ذكر معه الشرّ، وظهرا معا فى مجال الفكر متقابلين، تقابل الصورة وسالبها فى عمل للصورة «الفتوغرافية» .
والسؤال هنا هو: هل هذا التلازم بين الخير والشر أمر واقع فى الحياة؟(9/875)
أم أنه مجرد عملية من عمليات العقل، وطريقة من طرائقه فى فهم الأشياء، وكشف الحقائق؟
وسؤال آخر.. هل هناك خير؟ وإذا كان.. فما هو؟ وهل الشر قائم إلى جانب الخير أبدا؟ وإن كان.. فما هو؟ وما الصلة بينه وبين الخير؟
الخير والشر.. وواقع الحياة:
ولعلّ أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس، كلمتا الخير والشر..
فما عرض لإنسان أمر، أو وقع له شىء، إلّا نظر إليه من جانبى الخير والشر، وإلّا أخذه بأحد الوصفين: الخير والشر.. إن هاتين الكلمتين، هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شىء يأخذه أو يدعه.. الخير فى كفة، والشرّ فى الكفة الأخرى.. هكذا تجرى حياة الناس، وهكذا تجىء تصرفاتهم وبقع سلوكهم، على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى.. فإذا تعادلتا، توقف الإنسان ووقع فى حيرة بين ما يأخذ وما يدع! إننا جميعا نقول بالخير والشر.. نعرفهما، ونعمل ونتعامل فى حدودهما، ونزن حظوظنا من كلّ شىء بهما..
ومع هذا، فإن من بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما، ولا يعترف بأن فى الحياة خيرا أو شرا..
فهل يقبل واقع الحياة هذا الرأى؟ وهل انطوت صفحات الخير والشر من هذا الوجود، إذعانا لهذا الرأى، ونزولا على حكمه؟
ولكن.. مهلا..
ما هو الخير؟ وما هو الشرّ؟(9/876)
إننا نتحدث منذ أخذنا فى هذا الحديث، عن الخير والشر، كأنهما حقيقتان واقعتان، متفق على ماهيتهما، متعارف على الحدود القائمة بينهما..
مع أن الواقع غير ذلك..
فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم فى تحديد الصورة، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا..
ما هى الضوابط التي تضبط معنى الخير؟ والتي إن تحققت فى أمر من الأمور عرف أنه خير؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه؟
إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس، وحسب ما يرون، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون، ولا فيما يحمدون أو يكرهون، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون.
ما الخير إذن؟
يكاد يكون الخير أمرا بدهيا، لكثرة إلف الناس له، وإحساسهم به..
فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود.. إنه مشاع فى الناس، واقع فى إحساسهم.. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه.. فيبدو لبعض الناس فى صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب، ولباس، وغير هذا مما هو من حظ الجسد، على حين يراه آخرون فى ألوان من الأدبيّات، التي تعلو بالروح، وتسمو بالوجدان.. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة، درجات لا تكاد تحصى، وتكاد تكون على تعداد الناس.. فردا فردا..
ولكن إذ قد اختلفت معابير الناس فى الخير- وهذا أمر طبيعى- لاختلاف رغباتهم، وتنوع مطالبهم، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير،(9/877)
وإنما هذا الاختلاف فى ذاته، دليل على وجوده! ولعل أول إحساس بالخير، جاء عن طريق إحساس مادىّ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية، التي تمسك عليه الحياة، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشىء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى، ويشبع جوعته- أيا كان هذا الشيء- هو خير وخير كثير..
من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، فى صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها..
ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان فى خطواته الأولى فى الحياة.. فعبد كل شىء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، فى مجال النفع والضر على السواء..
ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه- ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين: دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر..
فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها..
وهكذا انتهى الإنسان فى مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر فى دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر!(9/878)
فلسفة المثنوية:
وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد، واجتمعت له فيه، نفسه المشتتة، وعاد إليه فكرة اللاهث، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها..
ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل، وأن يطيل التأمل فى هذين الإلهين، اللذين احتويا جميع الآلهة، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود..
ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق فى هذين الإلهين، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال..
ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة فى العقيدة «المثنوية» هو نظر حكماء الفرس، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم، ويتحكمان فى مصيره، وهما: إله الخير، وإله الشر.. وقد رمزوا لإله الخير بالنور «يزدان» ولإله الشرّ بالظلام «أهرمن» .
وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر فى هذين الإلهين، وسلطان كل منهما فى هذا العالم، وفى الصدام والصراع الذي لا بد أن يقع بينهما، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر.
فذهب فريق منهم إلى أن «يزدان» - وهو النور- أزلىُّ قديم، وأما «أهرمن» - وهو الظلام- فحادث مخلوق..
وفى زمن متأخر جاء «زرادشت» بمذهب يخالف هذا المذهب، فقال: إن الله واحد قديم، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ.. وهو الذي خلق النور والظلام، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة.. ولكن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!!(9/879)
وهما- أي النور والظلام- يتقاومان، ويتغالبان، إلى أن يغلب النور الظلام، والخير الشرّ، ثم يتخلص الخير إلى عالمه..
والبارئ تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها فى التركيب.. ويرى «زرادشت» أن النور هو الأصل، وأن وجوده وجود حقيقى، وأمّا الظلمة فتبع له.. كالظل بالنسبة إلى الشخص.. ولما كان الباري يرى أنه موجود، وليس بموجود، فقد أبدع النور، وحصل الظلام تبعا.. لأن من ضرورة الوجود التضادّ» «1» .
ونلاحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثيرا ما تقول به التوراة فى سفر التكوين.. فما تحدّث به التوراة يكاد يكون نقلا حرفيًّا له! كما يلاحظ أيضا أن قول «زرادشت» بأن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدثت من امتزاج النور والظلمة- يلاحظ أن هذا القول يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول، بأن الخير والشر لا يوجدان خالصين.. فالخير ممتزج بالشر، والشرّ معه الخير..
«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» ..
الخير والشر فى معابير الفلسفة الحديثة:
ولا بد لنا من نظرة إلى عصرنا هذا، وإلى نظرته إلى الخير والشر، عند العلماء، والفلاسفة، ورجال الدّين والأخلاق..
فلقد عنيت الفلسفة الحديثة بالسلوك الإنسانى، وجعلت الإنسان موضوعا بارزا من موضوعات الدراسة والنظر فى منهجها.
كان ما وراء الطبيعة فى الفلسفة القديمة، هو كل ما يشغل الفلاسفة، ويسيطر على تفكيرهم.. فجاءت نظرياتهم تخطيطا لصور من المثاليات القائمة على
__________
(1) انظر الملل والنحل للشهرستانى.. ج 2 ص 69 وما بعدها.(9/880)
التصورات والفروض.. وطبيعىّ ألا يكون للإنسان حظ بارز فى هذه الفلسفة.
وكانت دعوة «أرسطو» إلى النظر فى عالم الواقع والحسّ، فى كلمته المشهورة: «اعرف نفسك» - كانت هذه الدعوة جديرة بأن تؤتى ثمارها، لو أنها تناولت الإنسان من حيث هو كائن حىّ من كائنات الطبيعة.. ولكن هذه الدعوة نقلت الفلسفة من النظر فى السماء، إلى النظر فيما وراء المحسوس من الإنسان.. من روح، ونفس، وعقل، ولم توجّه النظر إلى المادة، ومظاهر الطبيعة التي يعيش الإنسان فيها، بل ويعيش منها وعليها..
أما فى هذا العصر، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى، فقد فتن الناس بالواقع التجربي، الذي يقوم على الاختيار الحسىّ، وأصبحت المعامل التجريبية لعلوم الطبيعة وظواهرها، ميدان الصراع العقلي بين العلماء..
فتلون التفكير الفلسفي بالصبغة العملية، وتغير منهج الفلسفة.. فبعد أن كانت مراحل التفكير الفلسفي تبدأ من السماء، ثم تنتهى أو لا تكاد تنتهى إلى الأرض- أصبحت الفلسفة تبدأ من الأرض، ثم تنتهى أو لا تنتهى إلى السماء..!
وطبيعى أن يظفر الإنسان بالنّصيب الأوفر من عناية الفلاسفة المعاصرين..
إذ كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم، وكان الإنسان هو أعلى، وأعظم ظاهرة فيها..
ولما كان الخير والشرّ جانبين بارزين فى تكفير الإنسان، وفى سلوكه، فقد عنيت بهما الفلسفة، فيما عنيت به من شأن الإنسان، وحاولت الفلسفة جهدها أن تحدد «القيمة» لكل من الخير والشرّ، وأن تضع الموازين والضوابط لهما..(9/881)
وتصور.. كيف يكون الحال، لو عرف الناس ميزانا دقيقا يزنون به تصرفاتهم- قبل أن تقع- وتتبيّنوا جانب الخير، وجانب الشر منها؟ إن إنسانا لن يمدّ يده، أو يسعى برجله، إلى شر أبدا.. وكيف وقد استبان له وجه الخير والشرّ، على الصورة التي يقعان بها؟.
وقد تقول: إن كثيرا من الأمور يعرف الناس وجه الخير والشرّ فيها، ومع هذا، فإنهم يواقعون الشرّ وعيونهم مفتوحة له! فهناك شرّ صراح لا خفاء فيه، ومع هذا فإنه واقع فى سلوك الناس.. قد تقول هذا! ونحن نوافقك على هذا الاعتراض، ولكن على شرط أن تتفق معنا على أن مثل هذا الشرّ غير مصحوب «بالحتمية» التي تجعل وقوعه أمرا لازما، لا مفرّ منه، عند الذين يتلبّسون به على الأقل.. فإن هناك صورا من الاحتمالية تثور دائما فى وجه ما يبدو أنه شرّ محض! وهذه «الاحتمالية» هى الضباب الذي يخفى كثيرا من وجوه الشرّ، فيما هو شر، وهى السراب الخادع الذي يضلل الإنسان، ويغربه بفعل ما هو شر، وإن كان يراه رأى العين!! ولا شك أن رغباتنا، وعواطفنا، تلعبان دورا هاما، فى مجال العمليات الاحتمالية، فتقوبها أو تضعفها، على حسب ما عندنا من رغبات وعواطف نحو الشر الذي نقف إزاءه، وما عندنا من إرادة، وعزم، وثورة، على ضبط هذه الرغبات، وكبح جماح تلك العواطف!! ومع هذا، فإننا نقول: إنه من الخير أن يظلّ الخير والشرّ فى هذه السّحب التي تحجب الكثير من معالمها، فيكون «للاحتمالية» ومكانها فى الخير أن يكون شرا، وفى الشرّ أن يكون خيرا- وبذلك تقوم دواعى العمل، ويكون للحياة(9/882)
دورانها، وللناس سعيهم فى كل وجه، فيعملون فيما يحسبون أنه خير، وإن جاء بالشر!! «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ولو استبان للناس وجه الخير صريحا، لكان ركب الحياة كلّه متجها إلى هذا الوجه وحده، ولكان الناس على طريق واحد!! ولكن أي ركب هذا الذي يأخذ طريقا واحدا؟ إنه ركب جامد صامت لا حركة فيه.. إنه أشبه بالتيار الموجب فى القوة الكهربائية.. لا يعمل، ولا يتحرك، ولا تصدر عنه فاعلية فى إحداث حرارة أو ضوء، إلا إذا اتصل بالتيار السالب، وتفاعل معه!.
إن معالجتنا للأمور، لا تظهر نتائجها إلا بعد أن نفرغ منها، ونخرج من أيدينا، ولو استدارت لنا عواقب الأمور، فرأيناها قبل أن نعالجها، لكان شأننا فى الحياة غير هذه الشأن، فما أخطأ مخطئ، ولا خسر خاسر، ولا أصيب مصاب.. وهكذا، مما يقع للناس، مما يسوؤهم.. ولكان شاعرا كاين الرومىّ على غير ما كان عليه، من الخوف، والتردد، والعجز، عن لقاء الحياة.. ولما قال هذا القول، مصورا به نفسه:
أقدّم رجلا رغبة فى رغيبة ... وأمسك أخرى رهبة للمعاطب
ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى ... ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب!
ونعود فنقول إن الفلسفة الحديثة، وإن بدأت بالنظر إلى الإنسان، ممثلا فى المجتمع الإنسانى، فإنها انتهت بالإنسانية ممثلة فى الإنسان.. بمعنى أن الإنسان من حيث هو كائن له ذاتيته، وله مدركاته، ومشاعره- هذا الإنسان هو الذي أصبح مركز الدائرة التي تدور حولها الفلسفة الحديثة.. وإذا كان لها نظر إلى(9/883)
المجتمع الإنسانى، وإلى الروابط التي تربط الفرد بالجماعة، فهو نظر جانبى يحىء تبعا للنظرة المتجهة اتجاها مباشرا إلى الإنسان وحده.
ومن هنا كان الحكم على الخير والشر- فى تقدير الفلسفة الحديثة- قائما على أساس فردى بحت، بمعنى أن الفرد- والفرد وحده- هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شر، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجىء غيره فينقض عليه حكمه، فيرى ما رآه غيره خيرا، شرا، وما رآه شرا، هو عنده خير..
وعلى هذا، فهناك- عند الفلسفة الحديثة- خير وشر، ولكن لا ذاتية للخير أو الشرّ، بل هما أمران اعتباريّان، فالخير ما رآه الإنسان خيرا. والشر ما رآه شرا.. وإنه لا خير ولا شرّ فى حقيقة الأمر!! وفى هذا يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم جيمس» : «إن الإنسان هو مصدر الخير والشرّ، والفضيلة والرذيلة.. إن الخير خير بالنسبة له، والشرّ شر بالقياس إليه.. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم فى ذلك العالم، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو» !! ويمكن أن يكون هذا الرأى تلخيصا للفلسفة الحديثة، وإن دخلت عليه بعض الألوان والأصباغ، فإن اللون الغالب فيه هو هذا اللون الذي يجعل للإنسان وحده تقييم الأشياء، وتصنيفها، ووضع كل شىء منها فى موضعه من الخير والشر، والحسن والقبح..!
الخير والشرّ فى نظر الإسلام:
لا تحفل الشريعة الإسلامية بالنظر الفلسفي فى حقائق الأشياء، ولا تعنى بالجدل اللفظي حول ماهيتها، لأن غاية هذه الشريعة ليست تربية الملكات(9/884)
العقلية، ولا تخريج الفلاسفة والحكماء، وإنما رسالتها تقوم أساسا على تقويم السلوك، وتهذيب النفوس، وإقامة مجتمعات إنسانية على مبادئ الخير والعدل والإحسان.
ومن هنا، لا نجد فى الشريعة الإسلامية تلك التعريفات الجامعة المانعة- كما يقولون- للخير والشرّ، والحقّ والباطل، والحسن والقبيح، وغير ذلك من الصور التي عنى الفلاسفة والأخلاقيون، بتحليلها، والتعرف على عناصرها، وجمع الصفات المميزة لكل واحد منها..
فإذا قال الفلاسفة والأخلاقيون: «إن الحق هو كذا، والخير هو كذا، والحسن كذا- لم نجد فى كتاب الله ولا سنّة رسوله قولا عن الحق.. ما هو؟
والخير ما هو؟ والحسن ما هو؟ وإنما نجد دعوات إلى الحق، والخير، والإحسان، وإغراء بها، وتحريضا عليها، ورصدا للجزاء الحسن لمن استقام عليها.. كذلك نجد عكس هذا، إزاء كل ما هو باطل، وشر، وخبيث!.
ولم يكن إغفال الشريعة الإسلامية لرسم حدود الفضائل، وتقويم الأخلاق عن تهوين لشأنها، أو استصغار لخطرها.. وكيف وغاية الشريعة ومقصدها أولا وأخيرا، إنما هو تقويم الأخلاق، وتربيتها، وإقامتها على منهج سليم مستقيم! وكيف والنبىّ الكريم يجعل عنوان رسالته، ويحصر مهمة نبوته فى هذا المجال وحده: فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ؟
فليس عن تهوين إذن من شأن الأخلاق، ولا عن استصغار لخطرها، هذا الاتجاه الذي اتجهت إليه الشريعة فى إغفالها البحث عن «ماهية» الأخلاق.. إذ كان مقصد الشريعة وهدفها- كما قلنا- هو الجانب العملي(9/885)
للأخلاق.. الجانب السلوكى، الذي لا يغنى فى تعديله وتقويمه، الجدل الفلسفي، أو النظر المنطقي، وإنما الذي يرجى منه النفع فى هذا المقام، هو إثارة مشاعر السموّ النفسي فى الإنسان، ووصله بالمجتمع الإنسانى بصلات الأخوة، والحنان والرحمة.. فذلك هو الذي يقيم من الإنسان إنسانا صالحا فى بناء مجتمع صالح.
فالقرآن الكريم يحضّ على الأعمال الصالحة ويزكيها، ويرفع منازل أهلها، وبعدهم بجنات الله ورضوانه عليها..
يذكر القرآن الكريم «التقوى» فى مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» .. (70- 71: الأحزاب) فما هو العمل الصالح؟ وما هى التقوى؟ وما القول السديد؟ .. كل ذلك لم يشأ القرآن الكريم أن يعرض له بالكشف عن «ماهيته» ورسم حدوده..
نعم، هناك أمور واضحة صريحة فى باب الخير، كما أن هناك أمورا واضحة صريحة فى باب الشر.. ولكنها على هذا الوضوح، ومع تلك الصراحة، لا تقع من النفوس موقعا واحدا.. فإذا اتفقت النفوس على أن العدل جميل.. فإنه فى نفس عمر بن الخطاب مثلا، غيره فى نفس كثير من الناس.. هو خير لا شك فيه.. تدعو إليه الشريعة وتأمر به، وتثيب عليه.. ولكنها لا تستطيع أن تضعه فى معادلة جبرية. أو تحلله تحليلا كيماويا.. إنه العدل، وكفى! وإنه الخير وكفى! «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات» هكذا يقول الرسول الكريم.. وليست الشبهة فى الحلال فى ذاته، أو الحرام فى داته، وإنما تقع الشبهة فى الملابسات التي تلابس الحلال أو الحرام، وفى الوضع الذي يكون عليه الإنسان إزاء ما هو حلال وحرام..!
أتترك الأمور إذن بلا ضابط هكذا؟ ..(9/886)
كلا.. ومن قال هذا؟
إن ربّان السفينة إذا أدار محركها أو فرد قلوعها، هو هالك لا محالة، إذا هو لم يعرف الوجهة التي يتجه إليها، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أو ما يشبهها، ليستعين بها على معرفة الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أخرى أو ما يشبهها، يقيس بها الأعماق، أو يستدلّ بها على مهابّ الرياح! والإنسان هو سفينة فى محيط هذه الحياة.. ربّانه العقل، وقلوعه النفس، ونزعاته وأهواؤه، هى التي تملأ قلوعها وتدفعها..!
لا بد إذن من «بوصلة» تضبط سيره، وتحدد وجهته..
وما غفلت قدرة الحكيم العليم عن هذا.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وكيف، وهو الذي أعطى كلّ شىء خلقه.. ثم هدى» ؟
لقد أودع الخالق العظيم فى الإنسان أدقّ «بوصلة» وأضبطها.. إنها «القلب» .. وحسبك بالقلب السليم «بوصلة» عاملة فى سفينة الحياة! لقد اعتمد الإسلام على القلب فى تقويم الأخلاق، وفى التعرف على الخير والشر، والحسن والقبيح.. ووكل إليه الفصل فى خير الأمور وشرها، وحسنها وقبيحها..
إن القلب فى نظر الإسلام، هو العين الباصرة، التي تكشف للإنسان مسالكه، وتحديد المستقيم والمعوجّ من طرقه..
وفى القرآن الكريم آيات كثيرة تتجه إلى القلب وتتحدث إليه.. فيقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» (37: ق) ويقول(9/887)
سبحانه: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) .
والرسول الكريم، ينوّه بشأن القلب، ويكشف عن آثاره فى الإنسان، فيقول- صلوات الله وسلامه عليه- «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صالحات صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه.. ألا وهى القلب» ..
ويقول الرسول الكريم فى تعريف الخير والشر، وفى التعريف عليهما:
«البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس، وتردّد فى الصدر.. استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» ..
الإسلام إذن، يعترف بالخير والشرّ.. لأنهما أمران واقعان فى الحياة، يعيشان فى الناس، ويعيش فيهما الناس.. وقد جاءت الشريعة الإسلامية آمرة بالخير، ناهية عن الشر.. وأشارت إلى أمور بذاتها عدّتها خيرا، وأخرى اعتبرتها شرّا.. ثم جمعت الخير كله فى دائرة واحدة هى «المعروف» وطوت الشر كله تحت حكم واحد، هو «المنكر» : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» .
فالخير هو «المعروف» أو وجه بارز من وجوه المعروف، والشر هو المنكر، أو وجه كالح من وجوه «المنكر» .. والسؤال هنا- ونحن فى معرض البحث عن الخير والشر- إذا كان الخير أمرا محمودا، ودعوة من دعوات السماء إلى لقائه، والعمل به- فلم كان هذا الشرّ؟ وما حكمة وجوده؟
الشرّ موجود.. هذه حقيقة مسلّم بها، لا سبيل إلى إنكارها، أو تجاهلها! أمّا، لماذا وجد؟ وما حكمة وجوده؟ وهلّا محضت الحياة للخير، وخلصت الشرّ؟ ..(9/888)
أما هذا، فهو الذي يدور حوله الخلاف، ويكثر فيه الجدل..
وقد تجنب الإسلام- منذ قام- إيقاظ هذه الفتنة، فلم يطرق بابها من أية جهة، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد.. والحكمة فى هذا ظاهرة..
إذ لا جدوى من أن يقيم الإسلام لوجود الشرّ علة أو عللا.. إنه موجود..
وكفى.. «وحسبك من شرّ سماعه» ! .. والحزم كل الحزم فى توقّيه، ودفعه، والخلاص منه..
إنه لمن السفاهة الغليظة، والخسران المبين، أن يرى الإنسان حيوانا يريد أن ينقضّ عليه ويفترسه، ثم لا يطلب النجاة لنفسه، بل يستغرق فى تأملات سخيفة ليجيب على هذا السؤال: ما هذا الحيوان المؤذى؟ ولم كان؟
لم يرد الإسلام أن يسوق أتباعه إلى هذه المواقف الخاسرة.. بل صرفهم عنها صرفا، وخلّى بينهم وبين الحياة بخيرها وشرها بعد أن أراهم منازل الخير وثمراته، وأطمعهم فيه، ودعاهم إليه، ثم أراهم مزالق الشرّ، ومغباته، وخوّفهم منه، وتوعدهم على الاتصال به..
أليس ذلك هو النهج القاصد، والطريق المستقيم فى تقديم الأخلاق وتربية النفوس؟
لقد كان ذلك هو طريق الإسلام، وكان ذلك هو موقفه حيال هذه القضية.. لم يوقد نارها، ولم يلق لها وقودا..
ولكن حين اتصل المسلمون بالأمم المجاورة، وعرفوا شيئا من فلسفة اليونان والهند، وشيئا من معتقدات الفرس، تحركت فى نفوسهم هذه الفتنة «الخالدة» ..لماذا وجد الشر؟
وقد فتحت الإجابة على هذا السؤال باب فتنة، أخذ يتسع شيئا فشيئا،(9/889)
حتى دخله المسلمون جميعا، وانقسموا إلى فرق وطوائف، ولكل فرقة مقولاتها ولكل طائفة حججها.. حتى كان من ذلك الجدل محصول وفير من الكلام!! ولا نريد أن نعرض لهذا الجدل، فهو مبسوط فى كتب علم الكلام «1» .
والذي نحبّ أن نقرره هنا.. هو أن الإسلام يوجّه اهتمامه أولا وقبل كل شىء، إلى مجاهدة الشر الذي يعيش فى مجال الناس فعلا، وإلى محاولة التغلب عليه، والانتصار للخير، والانحياز إلى جانبه.. فذلك هو الجدير بالإنسان، من حيث هو إنسان، يحترم عقله، ويستهدى بقلبه، ومن حيث هو كائن اجتماعي، يعيش فى المجتمع الإنسانى.. ومن خيره وخير الجماعة أن يكون عضوا فى هذا المجتمع الكبير، يسعد بسعادته، ويشقى بشقائه..
إن الإسلام، لا يضع الشرّ فى مجال العدم بالنسبة للخير، بل يراه كيانا قائما بذاته إزاء الخير.. فللشر- فى نظر الإسلام- ذاتية قائمة فى الحياة، وعلى الناس أن يأخذوا حذرهم منه، وأن يعملوا له حسابا فى موازنة الأمور التي تعرض لهم.
لقد حاول كثير من مفكرى الإسلام، أن يهوّنوا من شأن الشرّ، وأن يجعلوا وجوده فى الحياة، شيئا عارضا، يجىء فى ثنايا الخير! وكأنهم أرادوا بهذا أن يبرّئوا صنع الله من هذا النقص، الذي يلحق بالوجود، إذا قيل إن الشرّ قد نجم فيه!! وهذا دفاع غير موفق.. إذ أنه ينكر أمرا واقعا يعيش فى الناس.. وهو الشرّ.. وكان خيرا من هذا الدفاع أن يعترفوا بالشر.. ولكنه شرّ لا يرتفع
__________
(1) انظر فى هذا كتابنا «القضاء والقدر.. بين الفلسفة والدين» .(9/890)
إلى أكثر من ضرورات الحياة.. الحياة الإنسانية، التي يعتبر الشرّ فيها عنصرا من العناصر العاملة فى دفع عجلة الحياة، ودوران دولاب العمل فيها..
يقول الجاحظ: «اعلم أن المصلحة فى ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها، والكثرة بالقلّة.. ولو كان الشرّ صرفا، لهلك الخلق، أو كان الخير محضا لسقطت المحنة، وتعطلت أسباب الفكرة..
ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير، ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التدبير، ولا دفع المضرّة، ولا اختلاف المنفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل فى جانب، ولا تنافس فى درجة، وبطلت فرحة الظفر، وعزّة الغلبة.. ولم يكن على ظهرها (أي الدنيا) محقّ يجد عزّ الحقّ، ومبطل يجد ذلّ الباطل، وموفّق يجد برد اليقين.. ولم يكن للنفوس آمال، ولم تتشعّبها الأطماع «1» » .
فالجاحظ هنا يكشف عن الدور، الذي يؤديه التفاوت بين الأمور، فى امتداد مجال التنافس بين الناس..
إن الاختلاف بين الأشياء فى مجال الخير والشرّ، هو الذي يملأ كل فراغ فى الحياة، ويفسح لكل إنسان مكانا فى قافلة الحياة، حسب استعداده، ونزعانه.. وهكذا تتحرك الحياة كلها، فى آفاقها الصاعدة والنازلة، على السواء!.
والذي ينظر إلى الحياة نظرة فردية جانبية، يرى هذا التفاوت بين الناس
__________
(1) الحيوان: للجاحظ.. جزء: 1 ص: 96.(9/891)
وأوضاعهم فى هذه الحياة.. فيرى قمما عالية، بينما يرى سفوحا، ومنحدرات، بل وحفرا.. ولكنه إذا نظر إلى الحياة عامة شاملة، لم ير إلا وحدة منتظمة، وإلّا سطحا مستويا، لا نجود فيه، ولا منحدرات.. كالذى ينظر من طائرة محلّقة فى آفاق السماء، إلى مدينة واسعة الأرجاء.. إنه يرى دورها وقصورها، وأكواخها، ونواطح سحبها- فى مستوى واحد.. كسطح أملس، لا فرق بين الأكواخ والقصور..
يقول الفيلسوف الأمريكى «بوردن باركرباون» : «إن أفراد الناس يؤثّر بعضهم فى بعض، وقد يعارض بعضهم بعضا.. لكن هذا التضادّ بينهم، وهذا الانفصال والتجزؤ، يذوب كله فى عنصر واحد يحويهم جميعا..
وما قد يبدو فى عالم الجزئيات تضادّا، إن هو فى حقيقة الأمر إلا اتساق، لو نظر إليه من أعلى نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها واحدة فى كلّ واحد» .
فهذا الفهم للحياة، لا ينكر وجود الشرّ وذاتيته فى واقع الحياة الإنسانية، ولكنه حين يرتفع بالنظر عن الحياة الإنسانية الفردية، وعن مستوى هذه الأرض، لا يرى إلا عالما مشرقا، يفيض بالحسن والجمال.
إن حواسّنا، ومشاعرنا، ومداركنا، مضبوطة على مستوى هذا الوجود الأرضى الذي نعيش فيه.. وهذا التناقض، والتضادّ، والتعاند، الذي نراه- هو مما يقتضيه وجودنا، وتولده حاجاتنا، وتحققه مدركاننا وحواسنا.
ويقول الجاحظ: «وأظنك ممن يرى الطاووس، أكرم على الله من الغراب، وأن الغزال أحبّ إلى الله من الذئب.. فإنما هذه أمور فرّقها الله الله تعالى فى عيون الناس، وميّزها فى طبائع العباد، فجعل بعضها أقرب بهم(9/892)
شبها، وجعل بعضها إنسيّا، وجعل بعضها وحشيّا، وبعضها عاديا، وبعضها قاتلا..
وكذلك الدرّة والخرزة، والنمرة، والجمرة.. فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يراك العقل..
«وللأمور حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول.. والعقل هو الحجة.. وقد علمنا أن خزنة النار من الملائكة، ليسوا بدون خزنة الجنة، وأن ملك الموت ليس دون ملك السحاب، وإن أتانا بالغيث، وجلب الحياة» «1» .
والذي يعنينا من هذا الكلام، أن الموجودات إنما تأخذ كيفيتها على حسب مدركاتنا، أو بمعنى أصحّ، أننا نكيّف الموجودات حسب وقوعها على حواسنا ومدركاتنا..
وإذا كان الإسلام قد جعل معيار الأخلاق وتقويمها إلى بصيرة الإنسان، يحتكم فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى ضميره- فإنه لم يغفل عن الجانب الضعيف فى الإنسان، ذلك الجانب الذي تهبّ من جهته الأهواء الذاتية، والشهوات الشخصية، فتثير الاضطراب فى كيان الإنسان، وتنذره بالهلاك الذي يتهدد سفينته الضاربة فى محيط الحياة.. ففى كيان الإنسان نفس أمّارة بالسوء، ورغبات نزّاعة إلى الهوى..
لهذا كانت تعاليم الإسلام، موجهة إلى تقوية هذا الجانب الضعيف فى الإنسان، ودعمه بكل ما يضمن للإنسان الأمن والسلام من هذا الجانب، لو أنه اتبع وصايا الشريعة، وعمل بها،
__________
(1) الحيوان.. للجاحظ. جزء 1 ص 197.(9/893)
ومما جاء به الإسلام فى هذا:
أولا: أنه جعل الخير خيرا فى ذاته، والشرّ شرّا فى ذاته، ولم يلتفت إلى تلك التصورات الذهنية الطبيعة الشر والخير، وإنما نظر إليهما على أنهما كائنان قائمان فى الحياة، يشعر بهما المرء، ويجد آثارهما فى نفسه..
فالنار إذ يستدفىء الإنسان بها خير، والنار إذ تحرقه، شر.. إنها خير وخير محض فى حال، وشر وشر محض فى حال.. هذا جانب الخير يراه الإنسان فى الأشياء حين يقيسها إلى نفسه، ويحكم عليها بما تقتضيه مصلحته.. ومثل هذا جانب الشر، الذي يراه الإنسان فى الأشياء، حين يأخذها بمعياره الشخصي الذاتىّ أيضا.
ولا تحسبنّ الإسلام يجعل الخير والشر محصورين فى دائرة الإنسان الذاتية، وفى الجانب الحسّىّ من هذه الدائرة.. أي جانب اللذة والألم..
وكلّا.. فهذا جانب وإن لم ينكره الإسلام فى تقويم الخير والشر، لأنه قائم فى الحياة، لا يستطيع الناس الانفصال عنه، إلا أن الإسلام- فوق هذا- يعلو بهذا الإحساس، فيرتفع، عن الجانب المادّى إلى الجانب الروحي، ومن جانب الذاتية الفردية فى الإنسان، إلى جانب المجتمع الإنسانى من أضيق حدوده إلى آخرها، امتدادا واتساعا.. ومن أجل هذا كانت دعوة الإسلام إلى التخفيف من متاع الدنيا، كما كانت دعوته إلى البذل، والإيثار، والتضحية، ثم كان وعده بالثواب والعقاب، والجنة والنار فى الآخرة.
وثانيا: كشف الإسلام للناس عن كثير من وجوه الخير والشرّ، إذ نصّ على كثير من الأمور اعتبرها خيرا، ودعا الناس إليها، وأمرهم بها، ووعدهم الجزاء الحسن عليها.. كالصدق، والصبر، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى الناس، بالقول والعمل، والوفاء بالعهد وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم(9/894)
بالعدل.. وكثير غير هذا، مما ثبت عند الناس خيره، ووجدوا آثاره الطيبة فى حياتهم الخاصة والعامة على السّواء.
وكما كشف الإسلام عن كثير من وجوه الخير، كشف كذلك عن كثير من وجوه الشرّ، كالقتل، والسرقة، والخمر، والميسر، والزنا، والربا، والكذب، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة، والنفاق، والغش، والظلم والبغي، والعدوان، وكثير غير هذا، مما جاء به القرآن، وبيّنته السنّة المطهرة..
ولا شك أن الإسلام إذ يكشف عن وجوه الخير والشر، فإنما ليؤكد ما استقرّ فى ضمير الناس، وما وقع لعقولهم وقلوبهم من هذه الوجوه كلها، وبهذا تلتقى فى قلب المسلم كلمة السماء، مع منطق العقل، وواقع الحياة.. فيقبل على الخير، ويعيش معه، وينأى عن الشرّ، ويحاذر الاتصال به! وإنه لا حجة لذى عقل على أن الله سبحانه هو الذي أوجد الشرّ، كما أوجد الإنسان الذي يتعامل معه، وإذن فلا يحاسب على لقاء شىء كتب عليه أن يلقاه- لا حجة لذى عقل على هذا، فإنه كما أوجد الله الشرّ، أوجد الخير، ثم دعا إلى الخير، وحذّر من الشرّ، وجعل للإنسان عقلا ينصرف به إلى الخير والشرّ. ثم جعل للخير أثرا طيبا فى عاجل الإنسان وآجله، وجعل للشر أثرا سيئا فى عاجله وآجله.. فإذا انصرف الإنسان عما ينفعه إلى ما يضرّه، وآثر ما يسوؤه على ما يسرّه، فهو الذي جلب على نفسه ما جلب من مكروه، لأنه هو الذي آثره، ورضى به! إن الحياة بخيرها وشرها، أشبه بمائدة ممدودة، عليها ألوان من الأطعمة، بعضها طيب، يفيد الجسم وينمّيه، وبعضها خبيث يعطب الجسم ويفسده. وعلى كل لون من ألوان الطعام لافتة تحدد صفته، وتكشف عن حقيقته، وأثره(9/895)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
فيمن يتناوله.. وليس هذا فحسب، بل إنه يقوم على هذه المائدة ناصح أمين، يدعو إلى الأكل من الطيب، ويحذر من مدّ الأيدى إلى الخبيث: «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً.. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (168: البقرة) على أنه ليس لهذا الناصح أن يمسك بأيدى الآكلين على هذا الطعام أو ذاك: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»
(14:
القيامة) .. «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) ..
إن الإسلام ليحترم الإنسان، ويرفع قدره، ويعلى منزلته، ويخرج به عن دائرة الطفولة إلى مجال الرشد، وحمل المسئولية.. وقد أمدّه الإسلام بأمداد الرعاية والهداية، بما بعث من رسول كريم، يحمل بين يديه آيات الله وكلماته وضيئة مشرقة، تجلو غياهب الرّيب، وتكشف وجوه المنكر، فالحلال بيّن والحرام بيّن.. وما على الإنسان إلا أن يجمع رأيه، ويحزم أمره على اختيار الطريق السوىّ.. طريق الخير، والحق، والإحسان.. واجتناب الطرق المليئة بالمعاثر والمهالك.. طرق الشر، والبغي، والعدوان..
أما التحكك بالمماحكات والسفسطات، فجدل عقيم لا يلد إلّا البوار والهلاك.. والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان، وتوقّى الشرّ قبل أن يقع فيه.
الآيات: (36- 47) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 47]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)(9/896)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» ..
مما كان يلقى به المشركون النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- الاستهزاء به، والسخرية منه، ورميه بقوارص الكلم، وفحش القول.. فذلك هو سلاح من أسلحة الجاهلين، الذين لا يحسنون غير السفاهة والفحش، حين تقهرهم الحجة، ويخرسهم البرهان..(9/897)
- وفى قوله تعالى: «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً..»
«إن» هنا بمعنى «ما» النافية، أي ما يتخذونك إلا هزوا.. وهذا تهديد لهؤلاء الكافرين، وفضح لما يدور فى رءوسهم، وتتلمظ به شفاههم، وتتغامز به عيونهم.. إنهم إذا رأوا النبىّ تحركت هذه الكلاب التي تنبح فى صدورهم، فأرسلوها نظرات حانقة، وأطلقوها كلمات محمومة مجنونة، ترمى النبىّ من بعيد ومن قريب.. فليست هناك كلمة طيبة تخرج من أفواههم، أو نظرة وادعة تطرف بها عيونهم..
- وقوله تعالى: «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» .. هو بعض ما يجرى على ألسنتهم من سفاهة.. والاستفهام هنا للاستهزاء والاستنكار، واستصغار قدر النبىّ الذي يتطاول إلى هذه الآلهة، فيذكرها بما يذكر من سوء عابديها! - وقوله تعالى: «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» جملة حالية.. أي أنهم يقولون هذا القول فى النبىّ وينكرون عليه أن يذكر آلهتهم وأن يجترىء على مقامهم، فى حال هم فيها قائمون على جرم غليظ، إذ كفروا بالرحمن، الذي وسعتهم رحمته، فلم يجعل لهم العذاب، وأفاض عليهم من فضله وإحسانه، فلم يقطع أمداده عنهم.. فما لهم يغارون على آلهتهم الصماء الخرساء، ولا يغارون على مقام الله «الرحمن» وقد أجلوه من قلوبهم، وأخلوا مشاعرهم من كل توقير له؟
قوله تعالى:
«خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» .
الإنسان هنا، هو مطلق الإنسان.. فكل إنسان مفطور على حبّ العاجل يتعجّل كل شىء.. الخير والشرّ.. كما يقول الله تعالى: «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» (11: الإسراء) .(9/898)
ولهذا كان مما دعت إليه الشرائع السماوية «الصبر» الذي هو الدواء الذي يخفّف من هذا الداء..
وفى هذا يقول سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» (45: البقرة) ويقول: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (سورة العصر) .
فالصبر هو زاد المؤمنين، وهو عدّتهم فى مواجهة الحياة..
أما من تحففوا من هذا الزاد، فإنهم أبدا فى همّ وقلق، تمرّ الأيام بهم بطيئة ثقيلة.. يريدون أن يجتمع لهم فى يومهم كلّ ما يمكن أن تطوله أيديهم، وتمتد إليه آمالهم.. إنهم يريدون حياتهم يوما واحدا أو ليلة واحدة، كليلة جنود الحرب، يقضونها ليلة صاخبة لاهية، يفرغون فيها كلّ ما فى جيوبهم، ويلقون فى وقودها كل ما معهم من مال ومتاع.. أما الغد فلا نظر إليه، ولا حساب له..
والمشركون يستعجلون كل شىء.. حتى الهلاك، والبلاء الذي أنذروا به، ويقولون فى إلحاح ولجاج: متى هو؟
- وفى قوله تعالى: «سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» هو الجواب على ما يستعجل به المشركون من عذاب الله، ومن الخزي الذي سيحل بهم يوم يجىء نصر الله والفتح.. وهو تهديد للمشركين، بما سيلقون على يد المؤمنين من هوان وذلة، يوم يرون آيات الله، ويوم تهزم الفئة القليلة الفئة الكثيرة! قوله تعالى:
«لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ..(9/899)
جواب الشرط هنا محذوف، وتقديره: لو يعلم الذين كفروا ما ينتظرهم من بلاء وعذاب يوم يأتيهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لما استعجلوا ما أنذروا به من عذاب الله.
- وفى قوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» إشارة إلى أنهم لن ينصروا فى هذه الدنيا، بل ستحلّ الهزيمة بهم، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة من ينصرهم من بأس الله إذا جاءهم.
قوله تعالى:
«بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» .
الضمير فى «تَأْتِيهِمْ» يراد به السّاعة التي يكذبون بها، ويستعجلونها..
فالساعة لا تأتيهم حسب تقديرهم، وحسب موعد معلوم لهم.. بل ستأتيهم بغتة، أي مباغتة، ومفاجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» أي تخزيهم، وتفضح معتقدهم فيها..
«فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» أي دفعها ومنعها.. إنها بلاء واقع بهم، ليس لها دافع.. «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» أي لا ينتظر بهم فى الدنيا، حتى يصححوا معتقدهم، ويهيئوا أنفسهم للقاء هذا اليوم..
قوله تعالى:
«وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
هو عزاء للنبىّ، وتسرية لما يلقى من قومه من أذى، وما يواجه به من استهزاء وسخرية.. فهو ليس وحده من بين رسل الله، الذي وقف منه قومه هذا الموقف اللئيم، بل إن كثيرا من رسل الله قد أعنتهم أقوامهم، وأغروا بهم السفهاء منهم..(9/900)
- وقوله تعالى: «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنه سيحيق بهم ما حاق بالمستهزئين من قبلهم برسل الله، وسيلقون حساب هذه السخرية عذابا ونكالا..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» .
الكلأ، والكلاءة: الحفظ والرعاية، والحراسة.. يقال: كلأه الله:
أي حرسه وحفظه.. ومنه الكلأ، وهو العشب الذي ترعاه الماشية، والذي عليه قوام حياتها..
والمعنى: من يكلؤكم أيها المكذبون الضالون المشركون، ويحفظكم من الله إن أراد بكم سوءا، أو أخذكم بعذاب من عذابه بالليل أو بالنهار؟ أهناك من آلهتكم ومعبوداتكم من يدفع عنكم بأس الله إن جاءكم؟ انظروا إلى هذه الآلهة وماذا يمكن أن يكون لها من حول وطول أمام حول الله وطوله؟ إنه لا شىء إلا العجز والاستخزاء..
وفى الآية الكريمة إشارتان:
الأولى فى قوله تعالى: «يَكْلَؤُكُمْ» وقد جاءت بمعنى يمنعكم، ويحرسكم..
وفى التعبير عن هذا بالكلاءة إشارة إلى أن الإنسان- مهما ملك من جاه وقوة وسلطان- هو كائن عاجز ضعيف، محتاج إلى قوة عليا، ترعاه، وتمدّه بأسباب الحياة والبقاء.
والإشارة الثانية فى قوله تعالى: «مِنَ الرَّحْمنِ» وقد جاءت هذه الصفة الكريمة من صفات الله سبحانه وتعالى، لتشير إلى واسع رحمته، وعظيم فضله، وأنّ هؤلاء المشركين الضالين، قد بالغوا فى غيّهم، وضلالهم، ومحادّتهم لله(9/901)
ورسوله، حتى إن رحمة الله- مع سعتها- تكاد تطردهم من رحاب فضلها وجودها..
- وفى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، قد شغلوا بما هم فيه من لهو ومتاع، وأنهم لهذا لا يذكرون الله، وأنه إذا جاءهم من يذكّرهم بالله، ويعرض عليهم آياته وكلماته، أعرضوا، وسفهوا.. وذلك غاية فى الضلال والخسران.. إذ أنه قد يغفل الإنسان عن الخطر الذي يتهدده، وينسى أو يتناسى المكروه الذي يترصده، فإذا هلك فى هذا الوجه، كان له بعض العذر عند نفسه أو عند الناس، أما من ينبّه إلى الخطر فلا ينتبه، ويحذّر من البلاء فلا يرعوى، فإنه إذا لقى مصيره المشئوم، لم يجد من يعذره، أو يرثى له..
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» .
هو مطالبة لهؤلاء المشركين الذين لجّوا فى ضلالهم وطغيانهم، أن يأتوا بمن يمنعهم من دون الله، ويدفع عنهم يأسه إن جاءهم.. فليسأل المشركون أنفسهم هذا السؤال: ألهم آلهة تمنعهم من دون الله؟ فإن هم عموا عن حقيقة آلهتهم، وقالو: نعم، إن لنا آلهة نعبدها، ونرجو نصرها وعونها- إن هم قالوا هذا الضلال، وجدوا فى قوله تعالى: «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» - ما يردّ عليهم هذا السّفه، ويبطل هذا الباطل.. فإن هذه الآلهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا ردّ السوء إذا وقع بها، فكيف تنصر غيرها، وتدفع السوء عنه؟.
- وفى قوله تعالى: «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين،(9/902)
لا يجدون من آلهتهم نصرا، كما أنهم لا يجدون من الله عونا، ولا نصرا..
إذ لا عمل يشفع لهم عند الله، ويردّ عنهم بأسه، فلا يصحبون من الله بعون أو نصر..
قوله تعالى:
«بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ» .
أي أن هؤلاء المشركين قد مدّ الله لهم، فى ضلالهم، ولم يعجّل لهم العذاب بل متعهم، كما متّع آباءهم المشركين من قبلهم، حتى استوفوا آجالهم..
وقد حسبوا- لضلالهم- أن الله غافل عما يعمل الظالمون، وأنهم بمنجاة من بأس الله، لما فى أيديهم من مال ومتاع.. وذلك ظنهم بربّهم هو الذي أرداهم..
لقد جهلوا قدر الله، ولم يرجوا له وقارا، ولم يخشوا له بأسا.. ولو نظروا فيما بين أيديهم وما خلفهم لرأوا كيف تأتى غير الله، وكيف يقع بأسه بالظالمين فكم أهلك الله قبلهم من قرون؟ وكم أذلّ من جبابرة؟ وكم بدّل من أحوال وأوضاع؟ فهل بقي حال على حاله، أو ظل ذو سلطان فى سلطانه؟ أم أنهم هم القوة التي لا تغلب ولا تنزل بها الأحداث والغير؟ «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» والاستفهام الأول للأمر، والثاني للتهديد..
والمراد بالاستفهام الأمرى: إلفات المشركين إلى ما يقع من غير الله فى الناس، وأنه سبحانه القوى القهار، يذلّ الجبابرة، ويرغم أنوف المتكبرين، فإذا هم فى لباس الذلة بعد العزة، وفى دار الهوان بعد الكرامة، وفى ضنك العيش بعد النعمة والرفاهية. هذه سنة الله فى هذه الدنيا، فلا شىء فيها يبقى على حال، بل كل شىء إلى زوال: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ(9/903)
أَطْرافِها»
؟ فالنقص لأطراف الأرض هو النقص فى النعم، من مال، ومتاع، وبنين، ومن قوة وصحة، ومن جاه وسلطان، يقابل ذلك زيادة فى هذه النعم، وذلك بما يقع من تبدل فى أحوال الناس.. حيث تنتقل هذه النعم من يد إلى يد، ومن جماعة إلى جماعة، ومن أمة إلى أمة، كما يقول سبحانه وتعالى:
«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .. فيلبس الفقير ثوب الغنى، كما يلبس الغنىّ ثوب الفقر، وهكذا الحال فى كل نعمة.. فالدنيا: حياة وموت، وغنى وفقر، وصحة ومرض.. إلى غير ذلك مما يتقلب فيه الناس من شئون..
وهذا هو السرّ فى التعبير القرآنى: «مِنْ أَطْرافِها» حيث أشار ذلك إلى أطراف من الأرض، أي جوانب منها. وهى الجوانب التي تمثل سلب النّعم، أما الجوانب الأخرى التي تساق إليها النعم، فهى مسكوت عنها فى هذا المقام، الذي هو مقام تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين طال عليهم العهد وهم فى تلك النّعم التي أنستهم ذكر الله، والتي هى على وشك أن ترحل عنهم، وتفلت من أيديهم.. فإنهم لا يستطيعون دفع بلاء الله إذا نزل بهم: «أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» .
وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن هذه الآية مدنية فى السورة المكية، وأقاموا معناها على أن نقصان الأرض من أطرافها، هو إشارة إلى ما يغلب عليه المسلمون من أرض المشركين والكافرين.. وأن المسلمين ينقصون الأرض التي فى أيدى الكافرين بالفتوحات الإسلامية، وبضمها إلى أيديهم..
وهذا المعنى بعيد فى نظرنا.. وذلك من وجوه:
أولا: أن فتح المسلمين للأرض، وضمها إلى حوزة الإسلام ليس نقصا للأرض، بل هو زيادة فيها، ونماء لها.. إذ كان ذلك الفتح مما يبارك على الأرض خيرها، وبضاعف ثمرها، بما ينشر فيها من عدل، وأمن، وسلام..(9/904)
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى أضاف هذا النقص للأرض من أطرافها- أضافه إليه، سبحانه..
وثالثا: أن المقام مقام تهديد للمشركين، بهلاكهم، وتبديل أحوالهم..
إن لم يكن ذلك ببلاء عاجل يأخذهم الله به، كان ذلك بحكم الزّمن وبسنن الله الكونية التي أجراها على الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» (4: ق) .
ورابعا: السورة كلها مكية، ولا معنى لأن يقال إن هذه الآية وحدها هى الآية المدنية فيها، حيث أن سياق النظم يجعلها قطعة من هذه السورة، مرتبطة ارتباطا وثيقا بما بعدها وما قبلها.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» .
هو تنبيه لهؤلاء المشركين الغافلين، الذين إذا ذكروا بآيات ربّهم أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من هدى وخير.. وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ الكريم أن ينخسهم بهذا الأسلوب الزاجر، وأن يقرعهم بتلك المقرعة الموجعة، حتى تتأثر لذلك قلوبهم القاسية، وتستشعر به مشاعرهم المتبلّده، وطباعهم الجافية الغليظة..
فهم يعرفون أن ما ينذرهم به النبىّ، هو وحي يوحى إليه من ربّه.. إذ هكذا يقول لهم، وهم لهذا يكذبونه، ويستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء..
- وفى قوله تعالى: «أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» - مع أن الأمر قائم بينهم وبين النبىّ على أن ما ينذرهم به هو الوحى- فى هذا التصريح بأن ما ينذرهم به هو الوحى تشنيع عليهم، وعلى الغفلة المطبقة عليهم، وعلى الظلام الكثيف المخيم على(9/905)
عقولهم وقلوبهم. فهذا الذي ينذرهم به النبىّ، هو من الإشراق والوضوح بحيث لا يخفى على ذى عقل ونظر أنه وحي من عند الله، ولكن أنّى للعمي أن يبصروا، وللصمّ أن يسمعوا، وللحمقى أن يعقلوا ويعوا؟ فكان لا بد أن ينخسوا هذه النخسة، وأن يقرعوا بتلك المقرعة، وأن يقال لهم عن هذا النور، إنه نور، وعن هذه الشمس، إنها الشمس!! قوله تعالى:
«وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» .
فهؤلاء المشركون، الذين غرّهم بالله الغرور، فأمنوا مكره، واستخفوا ببأسه- هم على حال من الضعف والاستخزاء يكادون يكحونون بها مثلا فريدا فى الناس.. فهم إذا مسّتهم نفحة من عذاب الله جزعوا، وانحلّت قواهم، وأكثروا من الصياح والعويل، ونسوا ما كانوا عليه من تشامخ وتعال.. ولم يجدوا شيئا من العزاء والصبر، على نحو ما يجد المؤمنون حين يبتلون من الله بشىء من الضر.
والمسّ: دون اللّمس.. والنفحة من العذاب: أهون شىء فيه وأقله، وهو بالنسبة للعذاب أشبه بالرحمة، ولهذا عبّر عنه بالنفحة، التي يغلب استعمالها فى الخير..
فهذا العذاب الذي يمسهم الله به، هو أقل العذاب، وهو يعتبر نعمة ورحمة بالنسبة إلى العذاب! فكيف إذا وقع بهم العذاب نفسه، لا نفحة منه؟
قوله تعالى:
«وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» .(9/906)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
القسط، والقسطاس: العدل.
ووضع الموازين: إقامتها، ونصبها لتوزن أعمال الناس فيها.. وحبة الخردل: حبة ضئيلة لا تكاد تمسك بها الأصابع.. والآية الكريمة. نذير لأولئك المشركين، الذين أشركوا بالله، وأعرضوا عن ذكر الرحمن، وظنوا أنهم فى حمى من بأس الله، بجاههم ومتاعهم.. وهب أنهم قطعوا العمر فى لهو ولعب، ونعموا بما فى أيديهم من مال وبنين، فإنهم لا بدّ ميتون، ثم إنهم لمبعوثون، ومحاسبون على ما عملوا من سوء.. فهناك حساب وجزاء، حيث تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا..
وفى جمع الموازين، إشارة إلى أن لكل إنسان ميزانا توزن به أعماله، فلا ينتظر غيره حتى يفرغ من حسابه ووزن أعماله.. بل إن الإنسان الواحد، له موازين كثيرة، بعضها لسيئاته، وبعضها لحسناته.. ولكل عمل من أعماله السيئة أو الحسنة ميزان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» (6- 9 القارعة) ..
- وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى وإلى ضبطه لأعمال الناس، ومحاسبتهم عليها، دون أن يفلت أحد من هذا الحساب، أو يقع فى حسابه خطأ، ولو كان مثقال حبة من خردل.. فسبحان من وسع كل شىء علما.
الآيات: (48- 73) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 73]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52)
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62)
قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)(9/907)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» ..
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد ذكّررت المشركين وما جاءهم به النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من هدى ورحمة، فعموا وصموا، وأعرضوا.. وفى ذكر موسى وهرون، وما آتاهما الله من كتاب، يكشف عن أمرين:
أولهما: أن النبىّ ليس بدعا فيما جاء به قومه من هدى السماء، بل إن أنبياء كثيرين، ومنهم موسى وهرون، قد جاءوا إلى أقوامهم بآيات الله وكلماته..
وثانيهما: أن اليهود، على رغم ما جاءهم من آيات الله الحسية إلى جانب آيات الكتاب، لم يستقيموا على دعوة الحق، بل كان لهم مكر بآيات الله، وكفر بها.. وفى هذا تعريض باليهود، وبأنهم على ضلال، وأنهم مدعوون إلى أن يصححوا عقيدتهم على ضوء هذا الكتاب الذي بين يدى الناس، والذي سيلقاهم به النبىّ بعد قليل..
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» ما يحتاج إلى بيان:
فما الفرقان؟ وما الضياء؟ وما الذكر؟
أهى شيء واحد؟ وأن الفرقان هو الضياء، وهو الهدى، وهو الذكر؟
أم هى الفرقان، والضياء، والذكر؟(9/909)
اختلف المفسرون فى هذا:
وذهب أكثرهم إلى أن «الْفُرْقانَ» هو الآيات الحسّية كالعصا واليد..
اللتين كانتا من آيات موسى.. وأن «الضياء» هو «التوراة» وكذلك «الذكر» ..
وذهب بعضهم إلى أن ثلاثتها شىء واحد، هى «التوراة» . فهى فرقان يفرق بين الحق والباطل، وهى ضياء يكشف معالم الطريق إلى الحق، والخير، والإحسان، وهى ذكر وموعظة، لمن يطلب الذكر والموعظة، ولمن كان فى قلبه إيمان وتقوى.. حيث يذكر فتنفعه الذكرى..
ونحن نميل إلى هذا الرأى، حيث أن الآيات المادية قد ذهبت آثارها، ولم يكن لها أثر إلا فيمن شهدوها، ورأوا آثارها بأعينهم..
ونسبة إتيان الفرقان لموسى وهرون، مع أن موسى هو الذي أوتى هذا الكتاب، لأن هرون كان مشاركا لموسى فى الدعوة إلى الله بهذا الكتاب كما قال الله تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» .
وفى قوله تعالى: «لِلْمُتَّقِينَ» تعريض باليهود، وبأنهم لا يتقون الله، ولهذا فهم لا ينتفعون بهذا الفرقان، والضياء والذكر، الذي فى أيديهم، ولا يوقرونه، بل لقد عبثوا به، وغيروا به وبدّلوا فيه..
- وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» صفة للمتقين.. وفى هذا الوصف تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على هذه الصفة، وأنهم ماديّون، لا يتعاملون إلا بالحسيات، ولهذا فهم لا يؤمنون بالله إلا إيمانا طفيفا، قلقا، ولهذا أيضا فهم لا يعملون للآخرة، ولا يشفقون مما يلقاهم فيها من عذاب الله.. إذ كان عذابها غير حاضر بين أيديهم.. إنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا يقيمون حياتهم على التعامل به..(9/910)
قوله تعالى:
«وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» .
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم.. والإشارة إليه بهذا، الذي يدل على قرب المشار إليه، إشارة إلى قربه من الأفهام، ويسر تناوله، ولانتفاع به، والاهتداء بهديه..
والضمير فى قوله تعالى: «أَفَأَنْتُمْ» قد يكون خطابا للمشركين، وفيه تهديد لهم، وتعريض باليهود..
أي أفأنتم منكرون لهذا الذكر، غير آخذين بهديه، كما هو الشأن عند اليهود مع كتابهم؟
وقد يكون الخطاب لليهود، والمعنى أفأنتم منكرون لهذا الكتاب، كما ينكره هؤلاء المشركون، وقد عرفتم وجهه بما عندكم من كتاب الله الذي فى أيديكم؟ ..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» ..
ومناسبة ذكر إبراهيم هنا، لأنه صاحب دعوة ورسالة كموسى، وهرون، ومحمد، ولأنه أبو هؤلاء الأنبياء.. ومن جهة أخرى، فإن موقف إبراهيم من قومه، هو نفس الموقف الذي يقفه محمد من قومه، وما يعبدون من أصنام.
وإتيان الله سبحانه وتعالى إبراهيم رشده، أي منحه الإدراك السليم، والقلب النقىّ، الذي يأبى بطبيعته قبول الرجس والخبث.(9/911)
- وقوله تعالى: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» .. متعلق بقوله تعالى: «عالِمِينَ» أي وكنا به عالمين، حين قال لأبيه وقومه هذا القول: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» ؟ فلقد أنكر عليهم ما هم فيه من عمى وضلال، إذ عكفوا على عبادة هذه التماثيل التي صوروها بأيديهم من خشب وأحجار.
والعكوف على الشيء: مداومة الاتصال به حالا بعد حال.
ويمضى الحوار بين إبراهيم وقومه ... وكلما جاءهم بحجة دامغة، التووا عليه، وردوا المنطق بالسفاهة.. يقول لهم: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» ؟.
وكان جديرا بهم- لو عقلوا- أن ينظروا إلى هذه التماثيل، وأن يتعرفوا على حقيقتها، وعن الآثار التي تجنى منها لمن يعبدها.. إنها لا تسمع، ولا تعقل، ولا تملك ضرا ولا نفعا،. فكيف يعطيها إنسان ولاءه، وينفق عمره فى سبيلها؟
ولكنهم لا ينظرون فى شىء من هذا، بل يريدون عليه، بداهة:
- «قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» !.
هذا هو كل ما عندهم.. إنهم أطفال صغار، لا حلوم لهم.. أو قرود تقلد ما ترى، فى غير إدراك. أو وعى لما تقلده!.
«قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
إنه ليس حجة أن يضل إنسان لأن من قبله كان على ضلال.. وما جدوى أن يكون للإنسان عقل ينظر به فى الأمور، ويتعرف إلى ما هو حق أو باطل، وخير أو شر!؟ ولم إذن يستعمل الإنسان عينيه، ولا يستغنى عنهما فى التعرف(9/912)
على الأشياء حوله؟ إن هذا المنطق يقضى بأن يغمض الإنسان عينيه، ثم يضع يده على كتف أي ذى عينين، ليقوده ويتبع خطاه! هكذا فى تهكم وسخرية، يلقون هذا المنطق المشرق.. وهكذا يستقبلون الجدّ بهذا الهزل الأحمق.
«قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .
لقد أضرب إبراهيم عن سخفهم هذا، وقطع عليهم الطريق إلى هذا الهزل الذي أرادوا أن يسوقوه إليه، ومضى يقرر الحق الذي يدعوهم إليه: «رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ» هذا هو الربّ الذي يجب أن يعبد، وإن كان لا يرى، فإن آثاره تدل عليه، وتشهد على عظمته، وجلاله، وقدرته وعلمه، وقد آمن إبراهيم بهذا الإله، وشهد شهادة الحق له..
«وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» ..
لقد أسرّ إبراهيم ذلك فى نفسه، وأراد أن يريهم هذا القول فى صورة عملية، بعد أن لم يجد القول آذانا تسمع، أو قلوبا تعى.. فهذا هو الأسلوب الذي يمكن أن يعامل به الأطفال، وصغار العقول من الرجال..
وقد صدّر إبراهيم النية التي انتواها فى شأن الأصنام، بالقسم، حتى يؤكد هذه النية التي صح عليها رأيه فى هذا الموقف، وحتى لا يرجع عنها إذا هو زايل موقفه هذا، وبردت حرارة الموقف!.
والكيد للأصنام، هو إعمال الحيلة، وإحكام التدبير فيما يريده بها.
«فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» .
وهكذا كان إبراهيم وتدبيره.. لقد دخل على مرابض الأصنام فى غفلة من عابديها، ثم أعمل فيها يده تحطيما، وتكسيرا، حتى جعلها «جُذاذاً»(9/913)
أي قطعا صغيرة متناثرة.. إلا كبير هذه الأصنام، فإنه أبقى عليه. لأمر أراده، سيكشف عنه فيما بعد.. وفى هذا يقول الله تعالى فى سورة الصافات:
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ.» (الآيات: 91- 93) «قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا.. إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..
وحين رأى القوم آلهتهم حطاما، وقد جاءوا إليها عابدين، أخذتهم الحيرة والدهشة، واستولت عليهم حال من الذهول والوجوم.. فلما زايلتهم تلك الحال، جعلوا يتساءلون: «مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟» يقولونها ولا يسألون أنفسهم:
كيف يفعل بآلهتهم هذا، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ما يكاد لها به؟ أآلهة تحتاج إلى من يحرسها ويحميها؟ لم يلتفتوا إلى شىء من هذا، بل مضوا يبحثون عن الجاني الذي فعل تلك الفعلة.. «إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ! «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» ..
والتفت القوم إلى من يحقر هذه الآلهة، ويبغض مقامها فيهم، فلم يجدوا غير إبراهيم، الذي أنكر عليهم عبادتها، وسخر من قبل بهم وبها! «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» ..
وجاءوا بإبراهيم، ووضعوه موضع المساءلة والاتهام، على أعين الناس، وبمشهد من الجموع الحاشدة، التي هزّها هذا الحدث العظيم! «قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» ؟.
«قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا.. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ؟» .
بهذا الأسلوب الساخر القاتل، يجيب إبراهيم على اتهام القوم له.
أنا لم أفعل هذا بتلك الأصنام، بل الذي فعله، هو كبيرهم هذا، الذي ترونه قائما على هذه الأشلاء! لقد قامت بينه وبين أتباعه معركة، وليس هذا ببعيد،(9/914)
فما أكثر ما يقع الخلاف بين المتبوع والتابعين، وما أكثر ما يملك المتبوع من القوة والسلطان ما يضرب به أتباعه الضربة القاضية.. وليس من المستبعد إذن أن يكون قد وقع خلاف بين هذا الصنم الكبير، وبين أتباعه، فأخذهم ببأسه، ونكّل بهم هذا التنكيل الذي ترون! فإن كنتم لا تصدقون.. «فَسْئَلُوهُمْ.. إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» أي إن كان فى قدرتهم أن ينطقوا، وأن يكشفوا عن الجاني الذي جنى عليهم، وحطم رءوسهم، ومزق أشلاءهم! ولم ير إبراهيم أن يسألوا هذا الصنم الكبير.. بل دعاهم إلى أن يسألوا المجنى عليهم، فهم أعرف بمن جنى عليهم، إن كان بهم قدرة على الكلام..
أما الجاني فقد ينكر جنايته، ولا يكشف عن فعلته.. وهذا هو السرّ فى أن طلب إبراهيم إليهم أن يسألوا المجنى عليهم لا الجاني..
هذا، وقد أكثر المفسرون فى الحديث عن اتهام إبراهيم للأصنام، ودفع التهمة عنه.. ودخلوا فى جدل طويل حول هذا الكذب، والمواطن التي يباح فيها للمرء أن يكذب، وعدّوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب المباح المتجاوز عنه.. لأنه من قبيل التقيّة، التي يجوز المؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تعرض للبلوى، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان..
والأمر لا يحتاج إلى شىء من هذا، فما قال إبراهيم هذا القول، وهو يقدّر أن القوم يصدقونه، أو يأخذون به.. وعندئذ يمكن أن يقال إن هذا كذب مباح ومعفوّ عنه.. وإنما قال إبراهيم ما قال، استهزاء بالقوم، وسخرية منهم، وكشفا لهم عن حقيقة هذه الأحجار.. ولهذا ردّوا عليه قوله: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ! أي إنك تقول هذا القول ساخرا مستهزئا، لأنك(9/915)
تعلم أنهم لا ينطقون.. وإذن فلا كذب من إبراهيم، وإنما هو الحق الصراح، فى أسلوب مجازى!! «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» .
أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا، ووقع فى أنفسهم هذا القول الذي قاله، أنه حق، وأنهم على ضلال، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى، وتلك الخشب المسندة.. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم، شيئا من العقل المستبصر، والبصيرة النافذة- لاشتعلت هذه الشرارة فى كيانهم، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم.. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق، حتى نفخ فيها الهوى، والضلال، فماتت فى مهدها، وخبت فى مكانها! «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ..
لقد صحّ وضع القوم فى الحياة، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم، وأراهم من آلهتهم ما هى عليه من ذلّة وضعف واستسلام، فرأوا وجه الحق مشرقا مضيئا.. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس، ونكسوا على رءوسهم، فرأوا الأشياء فى وضعها المقلوب، كما كانوا يرونها من قبل.. رأوا الحق باطلا، والباطل حقا.. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال: «لَقَدْ عَلِمْتَ.. ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ؟» «قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟(9/916)
هكذا كان ردّ إبراهيم على القوم، إنه ينكر عليهم هذا الضلال الذي هم فيه، حتى إنهم ليعترفون بألسنتهم على هؤلاء الآلهة بأنهم فى عجز ظاهر، وأنهم لا ينطقون.. «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» .. هكذا يقولونها فى بلاهة وغباء.. فيجبههم إبراهيم بهذا الردّ المفحم: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟» .. أفيصحّ بعاقل لعلم هذا العلم من أمر تلك الأصنام، ويعرّيها من كل قوة، ثم يعود إليها خاضعا ذليلا، يتخاضع بين يديها، ويعفّر وجهه بالسجود تحت أقدامها؟ إن ذلك لا يكون من إنسان فيه مشكة من عقل.. ولهذا أتبع إبراهيم هذا القول بقوله:
«أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ وربما قال إبراهيم هذا فيما بينه وبين نفسه، فبعد أن واجههم بهذا الإنكار: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟» رجع إلى نفسه، فأدار فيها هذا الحديث بينه وبينها..!
وكلمة «أُفٍّ» هنا، معناها: بعدا لكم ولما تعبدون من دون الله. فالتأفف من الشيء، يشير إلى التأذى منه، والضيق به.. وهو حكاية للصوت التي يحدثه الإنسان بأنفه وفمه، حين يشمّ ريحا خبيثة.. ثم أتبع ذلك بهذا الاستفهام الإنكارى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس، حتى تستسيغوا هذا المنكر، وتسكنوا إليه؟.
«قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» .
هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه! لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: «حَرِّقُوهُ» ! هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه..(9/917)
اهجموا عليه.. حرقوه..
وفى قولهم: «وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم فى هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده فى وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحلّ به من بلاء!! وفى قولهم: «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم..
أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر!! «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» .
وهكذا أمضى القوم حكمهم فى إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها.. ولكنّ رحمة الله تداركته، وعنايته أحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه..
وفى قوله تعالى: «عَلى إِبْراهِيمَ» .. بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير- فى هذا تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه! وانظر إلى قدرة الله.. النّار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم فى لهيبها المتضرّم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه! فكان قوله تعالى: «وَسَلاماً» هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشىّ بعد نهار قائظ..(9/918)
«وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» .
أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء..
فنجاه الله منهم، وألبسهم ثوب الخسران فى الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعدّ الله لهم فى الآخرة عذابا عظيما..
«وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» .
أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلّصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» . وقد نجّى الله معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما يقول سبحانه: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (26: العنكبوت) .
«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» .
أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن نجّى إبراهيم من قومه، أكرمه الله تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثّره، فكان أمة.. وفى قوله تعالى: «نافِلَةً» - إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب.
وفى قوله تعالى: «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد الله الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين..
«وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ» .(9/919)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
أي ولم يكونوا صالحين فى أنفسهم وحسب، بل كانوا دعاة صلاح، وأئمة هدى، يدعون الناس إلى الخير، ويهدونهم إلى طريق الفلاح.
وفى قوله تعالى: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» إشارة إلى أنهم كانوا رسلا، يوحى إليهم من عند الله. وبهذا الوحى يبشرون الناس وينذرونهم، ويدعونهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» أي أن ما أوحاه الله إليهم هو فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة..
وفى قوله تعالى: «وَكانُوا لَنا عابِدِينَ» إشارة إلى أن هؤلاء الرسل لم تلههم دعوة الناس إلى الهدى، عن ذكر، الله ولم يصرفهم ذلك عن أن يأخذوا حظهم كاملا من عبادة الله، وذكره فى كل لمحة وخاطرة.
الآيات: (74- 82) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 82]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78)
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)(9/920)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
لما كان لوط- عليه السلام- هو الذي استجاب لإبراهيم من قومه، واتّبعه وآمن به، فقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى عليه، أن اصطفاه للنبوة، وآتاه حكما وعلما، إذ كان هو النبتة الصالحة من بين هذا النبت الخبيث كله..
ثم نجاه الله سبحانه وتعالى من العذاب الذي أخذ به قومه وأهلك به قريته، التي كانت تعمل الخبائث، وتأتى المنكر جهارا.. وهكذا ينصر الله المتقين من عباده، ويفيض عليهم من كرمه وإحسانه، ويأخذ الظالمين المفسدين بالعذاب البئيس، جزاء بما كانوا يعملون..
قوله تعالى:
«وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» ..
«وَنُوحاً» معطوف على «لُوطاً» وهو عطف حدث على حدث، وقصة(9/921)
على قصة.. والتقدير ونذكر نوحا إذ نادى ربه من قبل هذا الزمن الذي كان فيه هؤلاء الأنبياء.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وهرون.. «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» أي أننا استجبنا دعاءه الذي دعانا به، على قومه..
ودعاء نوح على قومه، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (10: القمر) وفى قوله سبحانه: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (26: نوح) .
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لنوح، فأهلك قومه جميعا بالغرق، ونجاه هو ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل..
و «الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» : هو الطوفان..
وفى قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» - جاء حرف الجرّ «من» بدلا من «على» الذي يقتضيه الفعل، فإن «نصر» يتعدّى بعلى لا بمن تقول نصرت فلانا على فلان.. وذلك لأن الفعل هنا تضمّن، معنى الانتقام والانتصاف لنوح من قومه، إذ كانوا هم الذين اعتدوا عليه، وبادءوه بالسفاهة، وتوعدوه بالسوء، وتهددوه بالرجم- فكان نصر الله له انتصافا لنوح منهم، وانتقاما له من عدوانهم عليه.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي أخذنا له بحقه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، واعتدوا على رسولنا، وانتصفنا له منهم.
ولو جاء النظم القرآنى على ما يقضى به مطلوب الفعل «نصر» فكان النظم هكذا «نَصَرْناهُ» على القوم الذين كذبوا بآياتنا، لما أعطى الفعل هذا المعنى الذي أفاد النصر، والانتقام معا، والذي دلّ على أن القوم كانوا معتدين، ظالمين.. ولوقف بمعنى النصر عند حدود هذا المعنى المجرد، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه النصر على أنه نصر بين متخاصمين، لا يعرف منهما المحقّ من المبطل(9/922)
منهما.. وكثيرا ما ينتصر المبطل، ويهزم المحق، فى مرحلة من مراحل الصراع الدائر بين الحقّ والباطل! فسبحان من هذا كلامه، الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا..
قوله تعالى:
«وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» .
نفشت فيه غنم القوم: أي عاثت فيه فسادا، وانطلقت ترعى بغير ممسك يمسك بها على مكان معين من الحرث.. وأصل النفش: الانتشار، ومنه قوله تعالى: «كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» .. والحرث: هو الزرع، الذي هيئت له الأرض وحرثت، وبذر فيها الحب.. وليس هو الزرع الذي ينبت من غير جهد إنسانى.
وداود وسليمان، هما النبيان الكريمان، من ذرية إبراهيم، ومن أبناء يعقوب.. وداود هو الأب، وسليمان هو الابن.
وهذه الآية الكريمة تمسك بحدث من الأحداث التي وقعت لداود وسليمان.. وكان داود فى مجلس الحكم والفصل بين الناس، فيما يقع بينهم من خصومات.
وقد ذكر القرآن الكريم لداود قصة أخرى من قصص الفصل فى الخصومات وهى قصة الأخوين اللذين كان لأحدهما نعجة وللآخر تسع وتسعون نعجة..
وقد جاء فى أعقاب هذه القصة قوله تعالى: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (26: ص) .(9/923)
وفى هذه القصة، يشير القرآن إشارة لامحة إلى أن داود لم يعرف كيف يفصل فى هذه القضية، أو أنه فصل فيها فصلا لم يصب مقطع الحق منها.. وهذا لا يعيب داود عليه السلام، ولا ينقص من قدره، لأنه فصل بما أدى إليه اجتهاده.. فإذا أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.. هذا هو حكم المجتهد، الذي تجرد من هواه.. ولا شك أن داود كان أبعد ما يكون عن الهوى.
ففى قوله تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق فى هذه القضية، ووقع على الرأى الصحيح فيها.. وذلك بفهم آتاه الله سبحانه وتعالى إياه.. كما يقول سبحانه: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وقوله تعالى: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» هو تعقيب على قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من الله وأن داود قد حرم هذا الفهم، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم.. إذ أن كلّا من داود وسليمان، قد لبس من فضل الله ومن إحسانه حللا، وأن كلّا منهما قد أوتى من الله حكما وعلما.. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر، فالعلم درجات لا حدود لها والله سبحانه وتعالى يقول: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (76: يوسف) .
والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه..
ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا فى تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة، وهو أن الفصل فى الخصومات بين الناس أمر خطير، يحتاج إلى علم واسع، وبصيرة نافذة، ونفس تجردت من كل هوى، وإلا كان الخطأ والزلل، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس، وأغرى بعضهم ببعض.. ومن جهة أخرى(9/924)
فإنه مهما بلغ الإنسان من علم، ومهما أوتى من نفاذ بصيرة، ومن قدرة على التجرد من الهوى، ومهما تحرّى العدل واجتهد فى تحقيقه، فإنه قد يقع له أحيانا من المشكلات ما يغيم عليه فيه وجه الحق، ويغيب عنه وجه الصواب..
ومن هنا كان على من يقوم للفصل فى الخصومات، أن يكون على حذر دائما، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة، بل يقلب وجوه النظر كلها، ويعرض بعضها على بعض.. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما، هى قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها..» .
هذا- والله أعلم- هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة.. وهى فى هذا النظم الذي جاءت عليه، مؤدية- فى أكمل أداء وأتم صورة، وأعجز إعجاز وإيجاز- المقصد الذي قصدت إليه.
أما القصة، فهى- كما جاءت فى روايات المفسرين وأصحاب السير- تتلخص فيما يلى، وهو مما يروى عن ابن عباس: كان لجماعة زرع، وقيل كرم تدلّت عنا قيده، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم، فغفل عنها رعاتها، فانطلقت إلى الزرع، فانتشرت فيه، وعاثت فى أرجائه.
وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث! .. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فلما علم داود بذلك دعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!!(9/925)
وهكذا رأى داود وجه الحقّ، فأخذ به، ولم يمسك حكمه الذي استبان له أولا..
قوله تعالى:
«وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» .
«صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» : اللبوس هنا ما يلبس للحرب، من دروع وغيرها.
«لِتُحْصِنَكُمْ» أي تكون لكم حصنا ووقاية فى القتال.
«مِنْ بَأْسِكُمْ» : أي من عدوان بعضكم على بعض.. والبأس: الشدّة، والقوّة.
وهذه الآية هى تفصيل لمجمل قوله تعالى: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» ، وهى- من جهة أخرى- دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب لبعض العقول من قوله تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» والذي قد يقع منه فى الفهم. انتقاص لقدر داود عليه السلام..
فداود عليه السلام. نبىّ كريم عند الله، محفوف بفضله وإحسانه..
ومن فضل الله عليه أنه سخّر معه الجبال والطير، تسبّح جميعها بحمد الله، وتشكر له.. فإذا سبّح بحمد الله، وجد الوجود كله من حوله، من جماد وحيوان، يسبّح معه، ويأتمّ به فى هذا التسبيح، فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم، يملأ أسماع الكون، فتفيض به مشاعر داود، ويرتوى منه قلبه، ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد الله، مترنّما بتقديسه وحمده.
وفى قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» إشارة إلى أن هذه الكائنات، من جبال وطير، مسخرات من الله، لتسبيحه وتمجيده، كما سخّر داود من الله لتسبيحه وتمجيده، وأنها قد انضمت مع داود وتجاوبت معه، وائتلفت به.. وهذا ما جعل لداود هذا الإحساس بها، حين أزيل الحجاب بينه وبينها،(9/926)
الأمر الذي لا يشاركه فيه كثير من العابدين المسبّحين.. وإلّا فإن الوجود كله فى أرضه وسمائه، وفيما تحتوى أرضه سماؤه، يسبّح بحمد الله، ويصلّى له، ويمجّده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى:
«مَعَ داوُدَ» بدلا من «لداود» .. فالجبال والطير هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد، وليست مسخرة له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» (10: سبأ) .
وفى قوله تعالى: «وَكُنَّا فاعِلِينَ» - إشارة إلى أن هذا الفضل من الله سبحانه على داود، كان بتقديره، وبما أوجبه جلّ شأنه على نفسه من الإحسان إلى المحسنين من عباده.. وقد كان داود أحسن خلق الله صوتا.. وقد جعل «الزّبور» ترانيم، ذات نغم شجى، يسبح فيه بحمد الله.. فتتجاوب مع صوته الكائنات من جماد وحيوان..
قوله تعالى:
«وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» .
أي أن من فضل الله تعالى على داود، أن علمه صنعة الدروع. بعد أن ألان له الحديد، كما يقول سبحانه: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» (10، 11: سبأ) .
وفى قوله تعالى: «لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» إشارة إلى أن هذه الدروع، هى مما يدفع به الله بأس الناس، ويردّ به عدوان بعضهم على بعض.. وهى نعمة تستوجب من الناس الحمد والشكر لله رب العالمين.(9/927)
وهنا سؤال:
كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم الله، تستوجب الحمد والشكر، وهى أداة من أدوات الحرب، وعدّة من عدده؟ ثم هى من جهة أخرى، قد تكون قوة من قوى البغي والعدوان، يفيد منها أهل البغي والعدوان أكثر مما يفيد منها أهل الاستقامة، والسلامة؟
والجواب على هذا، من وجوه:
أولا: أن هذه الدروع فيها حصانة، وصيانة لكثير من الدماء التي كان يمكن أن تراق، وللأرواح التي كان يمكن أن تزهق فى القتال الذي يلتحم بين الناس.. فهى- كما ترى- عامل مخفف من ويلات الحرب، ودافع لكثير من شرورها.. فلو قدّر أن يلتقى فى ميدان القتال أعداد من المتقاتلين بدروع وآخرون مثلهم بغير دروع، لكان حصيد الحرب، وحصيلتها من الدماء والأرواح فى الميدان الأول، أقلّ بكثير جدا مما يقع فى الميدان الآخر..
إذ كان الأولون يقاتلون وهم فى هذه الحصون من الدّروع، على حين يقاتل الآخرون وهم فى معرض الهلاك مع كل طعنة أو ضربة!:: فهذه الدروع نعمة تستوجب الشكر من الناس جميعا، أقويائهم وضعفائهم على السواء..
ولا يدفع هذا، بالقول بأن هذه الدروع فد تغرى الناس بعضهم ببعض، وتدفع بهم إلى القتال، إذ يجدون فى أيديهم ما يدفع عنهم خطر الحرب، ويبعد من احتمال الموت فيها..
فهذا القول، وإن بدا فى ظاهره شيئا مقبولا، إلا أنه فى حقيقته قائم على غير هذا الوجه..
ذلك أن كل قوّة مستجلبة غير القوى الجسدية الإنسان، هى متاحة للقوىّ والضعيف منهم، وأن الضعيف، يستطيع بهذه القوى المستجلبة أن يبطل(9/928)
فضل صاحب القوة الجسدية عليه، وبهذا يتعادل الأقوياء والضعفاء، ويكون من ذلك أن يكبح جماح أصحاب القوى الجسدية، التي كانت أظهر قوة عاملة، فى مجال البغي والعدوان وفى تسلط الأقوياء على الضعفاء..
وننظر فى المجتمع الإنسانى اليوم، فنجد أن اختراع القنبلة الذرية، التي هى أشنع ما عرف من أدوات التدمير والإهلاك.. قد كانت فى أول أمرها يوم وقعت ليد أمة من الأمم، كانت مصدر خطر عظيم فى يد هذه الأمة، تكاد تهدد به العالم، ولكن سرعان ما سعت غيرها من الأمم إلى امتلاك هذه القوة الرهبية، وسرعان ما بطل مفعولها أو يكاد يبطل، حيث أنها نذير بالشرّ العظيم للأطراف المتحاربة بها جميعا.. وهنا نلمح إشارة مضيئة من قوله تعالى:
«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» - تشير إلى قوله تعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» فالقصاص إزهاق نفس، ولكن فيه حياة لنفوس، إذ أن القصاص يقتل فى نفوس، كثير من الناس ممن تحدثهم أنفسهم بالقتل- يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إلى القتل، خوفا من أن يقتل القاتل بمن قتله.. وكذلك الدروع التي يلبسها المتحاربون، هى وقاية لكل منهما من عدوان الآخر عليه..
وليس هذا شأن الدروع وحدها، بل هو شأن كل وسائل القتال، والدفاع.
فهى وإن كانت أداة تدمير وهلاك، هى فى الوقت نفسه عامل ردع وزجر..
بل إنها دعوة إلى السلام، وإخماد نار الحروب، إذا توازنت القوى بين الأمم.
وقد كان من تدبير الله تعالى، أن وضع هذه الدروع أول ما وضعها فى يد نبىّ كريم، لا يكون منه بغى أو تسلط.. ثم أصبحت ملكا مشاعا فى الناس جميعا..
وثانيا: أن القرآن الكريم فى حديثه عن الدروع، وعن أنها نعمة تستوجب الشكر، إنما يتحدث إلى المجتمع الإنسانى، الذي من طبيعته البغي(9/929)
والعدوان، والذي من شأن القوىّ فيه أن يبغى على الضعيف، والذي إن كفّ فيه بعض الناس أيديهم عن الناس، لم تكفّ الناس أيديهم عنهم.. وعلى هذا فإن حديث القرآن عن الدروع، هو حديث عن واقع الحياة، وعما يدور فى حياة الناس.. فامتلاك الناس لأدوات الحرب لا يغريهم بالحرب، ولا يفتح لهم بابا لم يدخلوه، فهم فى حرب دائمة.. وهذه الدروع وغيرها من أدوات الدفاع حماية للناس من الطعنات والضربات.
وثالثا: هذه الدروع أو لبوس الحرب، لها دور سلبىّ لا إيجابى، بمعنى أنها- فى ذاتها- تدفع الشر، وتردّه، ولا ينطلق منها شر إلى أحد..
كما هو الحال فى السيوف، والحراب، والمدافع، وغيرها.. إنها أداة دفاع، وليست أداة هجوم.. إنها تتلقى الضربات، ولا تضرب، ولا يضرب بها.
قوله تعالى:
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» .. أي وكذلك سخّرنا لسليمان الريح عاصفة.. وقد بيّنا فى الآية السابقة السرّ فى تعدية الفعل «سَخَّرْنا» بأداة المعية «مع» وعدم تعديته بلام الملك «اللام» وقلنا إن الجبال والطير لم تكن مسخرة لداود، بل كانت مسخّرة لتسبّح بحمد الله معه.. فهى مصاحبة له، فى التسبيح.. وليست مسخّرة لخدمته..
أما هنا، فإن الريح مسخرة لسليمان، خاضعة لأمره، قد جعلها الله سبحانه وتعالى، مطية ذلولا له، تجرى بأمره رخاء حيث شاء..(9/930)
وفى قوله تعالى: «عاصِفَةً» إشارة إلى قوة انطلاق هذه الريح، وأنها فى قوة العاصفة فى اندفاعها، ولكنها فى رقّة النسيم ولينه فى سيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» (36: ص) فهى عاصفة ورخاء معا!! هذا كلام الله!! - وفى قوله تعالى: «إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» إشارة إلى مسبح هذه الريح ومسراها، وأنها لا تتجاوز حدود الأرض المقدسة، ولا تعمل خارج سمائها..
وهذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» (12: سبأ) فقد تضاربت أقوال المفسّرين فى هذه الريح، وفى امتداد ملك سليمان بها، وأنها كانت تقطع به ملكه فى شهر ذاهبة، وشهر راجعة.. وهذا ما لا يتسع له ملك سليمان بحال أبدا..
والمعنى الذي تفهم عليه هذه الآية الكريمة، هو المعنى الذي يشعّ من قوله تعالى: «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» وهو أنها فى «غُدُوُّها» أي مسراها فى غدوة النهار، تقطع من المسافة ما يقطعه السائر على قدميه، أو على دابته فى شهر.. كذلك «رَواحُها» وهو رجوعها آخر النهار.. يقدّر بمسيرة شهر للراجل أو الراكب.. والغدوة قد تكون ساعة أو ساعتين، أو ثلاثا، أو أكثر، وكذلك الرّوحة.
قوله تعالى:
«وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» .
أي وسخرنا لسليمان «مِنَ الشَّياطِينِ» أي من بعض الشياطين لا كلّهم،(9/931)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
من يغوصون له فى البحار ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان وغيرها.. «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» أي أقل من هذا العمل، كأن يسخّروا فى البناء، وحمل الأحجار، وغير هذا.. كما يقول سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ» (37: ص) .
وفى قوله تعالى: «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» إشارة إلى أنهم محكومون بقدرة الله، وأن تلك القدرة هى الحافظة لهم، والممسكة بهم، على خدمة سليمان، وطاعة أمره.. ولولا هذا لتفلّتوا منه، وخرجوا عن طاعته، فليس سليمان هو الذي سخر هذه الشياطين، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي سخرها له..
الآيات: (83- 91) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 91]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)(9/932)
التفسير:
[أولياء الله وما يبتلون به] قوله تعالى:
«وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» وهو عطف قصة على قصة. أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه» .
وذكر أيوب فى هذا المقام، هو ذكر له دلالته العظيمة، وذلك من وجوه:
أولا: أن أنبياء الله وأصفياءه يبتلون بالضرّ، كما يبتلى الناس، بل وكما يبتلى شرار الناس.. وأنه كما يبتلى الناس بالخير والشرّ، كذلك يبتلى الأنبياء بالخير والشر..
فأنبياء الله وأصفياؤه، يبتلون من الله فيزدادون إيمانا وقربا منه، وطمعا فى رحمته.. وأعداء الله يبتلون فيزدادون بعدا من الله، وكفرا به، ومحادّة له.
وثانيا: أن أنبياء الله وأصفياءه، إذا ابتلوا فى شىء من أنفسهم أو أموالهم ضروا إلى الله، وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم، وطرقوا أبواب رحمته بالدعاء والرجاء.. فباتوا على أمن من كل خوف، وعلى طمع ورجاء من كل خير..
وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى، يتقبل من عباده المخلصين ما يدعونه به، فلا يقطع أمداد رحمته عنهم، ولا يخيّب رجاءهم فيه.
وانظر إلى هذا الأدب النبوي العظمى، فى مناجاة الخالق جلّ وعلا..
فأيوب- عليه السلام- مع هذا البلاء العظيم، الذي شمله فى نفسه وأهله وماله(9/933)
جميعا، لم يستبدّ به الجزع، ولم تستول عليه الحيرة، ولم تحرقه أنفاس الضيق والألم.. بل ظلّ مجتمع النفس، ساكن الفؤاد، رطب اللسان بذكر الله..
فلما اشتد به الكرب، ورهقه البلاء، وأراد أن يذكر نفسه، ويشكو لربّه ما يجد، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر، وبأنفاس نديّة بالإيمان:
«أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» وكان أن سمع الله دعاءه، واستجاب له..
«فَاسْتَجَبْنا لَهُ.. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» .
وهكذا يجزى الله المحسنين الصابرين.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .. لقد كشف الله عن أيوب الضر الذي أصابه فى جسده، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه..
وقوله تعالى: «رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين.
وقوله تعالى: «وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» معطوف على «رحمة» أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا «أَيُّوبَ» تذكرة وموعظة «لِلْعابِدِينَ» أي الذين يعبدون الله، ويحسنون عبادته، ويصطبرون عليها..
فالعابدون بما لهم من صلة بالله، ربّما يقع فى نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر، إذ لا يكاد يقع فى تصوّر الناس أن من وثّق طلته بالله، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه، هو فى مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى، فى نفسه أو ولده أو ماله.. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة، وما فضل الطائعين على العاصين، والأولياء على الأعداء؟(9/934)
هذا ما جاء قوله تعالى: «وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» لينبه إليه، وليصحّح مشاعر العابدين خاصة، بهذا الذي كان منه سبحانه لعبده أيّوب- عليه السلام- وما ابتلاه به، فى نفسه، وأهله، وماله، بما لم يكد يبتلى به أحد من عباد الله..!
وقد كان أيوب- عليه السلام- من خير العابدين المقربين إلى الله، حين مسّه الضرّ، كما كان من خير الصابرين على البلاء، الطامعين فى رحمة الله، المطمئنين إلى قضائه فى عباده، الواثقين بحكمته وبعدله.. بعد أن لبسه الضرّ وعاش فيه.
وإذن فليس المؤمنون، العابدون، الساجدون، بمعزل عن الابتلاء بالضرّ والأذى، بل إنهم أكثر الناس تعرضا للبلوى، وذلك ليبتلى الله ما فى صدورهم، وليمحص ما فى قلوبهم.. والله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» (186: آل عمران) ويقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (2: العنكبوت) .
فأولياء الله وأحباؤه هم أكثر عباد الله تعرضا للابتلاء، إذ كان ذلك هو الدواء المرّ، الذي تذهب الجرعة، منه بكثير من أمراض النفوس وعللها، وهو النار المحرقة، التي تنصهر فى حرارتها معادن الرجال، فتصفّى من الخبث وتنقّى من الغثاء والزّبد! وبهذا تظهر عظمة الإنسان، وتصفو موارده، ويصبح- على ما يبدو عليه من ضعف، وفقر- أقوى الأقوياء، وأغنى الأغنياء، ينظر إلى الدنيا، وحطامها، وما يتفاخر به الناس فيها من مال، وجاه، وسلطان- نظرته إلى أطفال يتلهون بلعبهم، ويزهون بالجديد من ثيابهم! ثم لعلك تسأل: أما كان غير هذا البلاء، أولى بهم، وهم أحباب الله وخلصاؤه؟ أو ما كان الإحسان إليهم بالخير أليق من التوجه إليهم بالمساءة(9/935)
والضرّ؟ وإذا لم يكن الإحسان.. فهلا كانت العافية من البلاء؟ وإذا كان هذا الابتلاء مرادا لغاية هى تطهير النفوس، وتزكيتها، وتخليصها من الآفات والعلل.. فهلا كان ذلك بالإحسان والإنعام.. وقدرة الله لا يعجزها شىء، ولا يحدّها حدّ، ولا يقيدها قيد؟
والجواب عن هذا كله:
أولا: أن الله سبحانه وتعالى كما ابتلى بالخير، ابتلى بالشر، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (35: الأنبياء) .. وقد ابتلى الله- سبحانه- سليمان عليه السلام بالكثير الغدق من النعم، فسخّر له الريح والجنّ، وعلّمه لغة الحيوان والطير، وجعلها جنودا من جنده، ووضع بين يديه من القوى الظاهرة والخفية، ما جعل له ملكا وسلطانا لم يكن لأحد من بعده كما يقول الله سبحانه وتعالى: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (35: ص) وقد أجاب الله سبحانه وتعالى ما طلب، فقال سبحانه: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (36- 39: ص) حتى إن سليمان نفسه ليستكثر هذا الإحسان الذي لا يكاد يتسع له وجوده، فيقول: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» (16: النمل) وحتى إنه ليجد نفسه عاجزا عن الوفاء بشكر القليل من هذا الفضل العظيم، فيقول: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» (19: النمل) .
فالابتلاء بالإحسان والخير، عند من يعرف قدر الإحسان، وفضل المحسن وجلاله وعظمته- لا يقلّ مئونة وعبئا، عن الابتلاء بالمساءة والضر.. إنه ابتلاء!(9/936)
وقد ابتلى الله سبحانه بعض أوليائه بالضر والمساءة، فكان ذلك- فى حقيقته- إحسانا إليهم، إذ سلك بهم مسالك الخير والإحسان، وزادهم من الله قربا ومن رضاه رضى وزلفى..
وانظركم لقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- وهو صفوة خلق الله وخاتم رسله- كم لقى على مسيرة دعوته، وفى سبيل رسالته، من أذى؟ وكم احتمل من مساءة وضرّ؟
أفرأيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج إلى ثقيف، يرجو عندهم من استجابة لله ورسوله، ما أبته عليه قريش، حتى إذا التقى بسادة ثقيف، وعرض عليهم الإيمان بالله، ردّوه أشنع رد، ثم أغروا به سفهاءهم، فرجموه حتى أدموه.. ثم أرأيت إلى رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وقد أخذ طريقه إلى خارج ثقيف، وهو يحمل هذا الهمّ الثقيل، حتى إذا بلغ إلى حيث انقطع عنه صوت الكلاب البشرية التي كانت تنبحه، أسند ظهره إلى ظل شجرة هناك، ومولاه زيد يضمد جراحه.. ثم ما كادت نفسه تهدأ، وأنفاسه تنتظم، حتى رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه، بتلك الكلمات الضارعة المشرقة، التي تنبض حياة بمشاعر الإيمان، وأنفاس التسليم والرضا..
استمع إليها..
«إلهى.. أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس! «يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى.
«إلى من تكلنى؟ .. إلى بعيد يتجهمنى؟ أو قريب ملّكته أمرى؟
«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى.
«غير أن عافيتك هى أوسع لى!(9/937)
«أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة- أن يحلّ علىّ غضبك، أو ينزل بي سخطك.
«لك العتبى حتى ترضى..
«ولا حول ولا قوة إلا بك..»
إنها مناجاة، يتنفس فيها النبي أنفاس العافية، ويطعم منها طعم الرضا، ولهذا طالت تلك المناجاة، ومشت كلماتها الهوينا على شفتى رسول الله، كأنها تحمل أثقالا من الهموم التي ألمت به، وتنطلق بها فى قافلة طويلة ممتدة بين الأرض والسماء!! ثم انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقد أحاط به المشركون، وتعاورته سهامهم ورماحهم، وكادت تصل إليه سيوفهم، وقد شجّ صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت ثنيتاه، واستشهد كثير من أصحابه، وأحبابه، ومن بينهم عمه، أسد الله، حمزة بن عبد المطلب. ومع هذا، فما قال النبي فى هذا المقام، إلا القولة التي لا يقولها إنسان غيره فى هذه الدنيا..
قال- صلوات الله وسلامه عليه: «اللهم اهد قومى، فإنهم لا يعلمون» !! وكما ابتلى الله سبحانه، أولياءه بالبأساء والضراء، ابتلى أعداءه بالنعماء والسراء، فكان ذلك بلاء عليهم، ونقمة من نقم الله بهم.. لقد زادتهم تلك النعم بعدا عن الله، وعمى عن الحق، وضلالا عن الهدى.
والقرآن الكريم يذكر لنا قارون، كمثل من أمثلة الابتلاء بالنعم، عند من لا يقدر على الوفاء بها، ولا يقدرها قدرها، فكان أن عجل الله له الهلاك فى الدنيا، ثم أعدّ له عذاب السعير فى الآخرة.. وكذلك فرعون، الذي بسط له فى السلطان، وأمدّه بموفور النعم، فما زاده ذلك إلا كفرا بالله، ومحادة له..
فمات تلك الميتة الشنعاء، وكان مثلا وعبرة لأولى الأبصار..(9/938)
أما فى الآخرة، فهو إمام من أئمة الضلال، وقائد من القواد إلى عذاب الجحيم.. «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (98: هود) .
وثانيا: لا شك أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعفى أولياءه من البلاء وأن يجعل ابتلاءهم بالسراء لا بالضراء، وأن يجعلهم طبيعة قائمة على الحمد والشكر، وفطرة مفطورة على الاحتمال والصبر.
ولكن هذا وإن كان مما يفعله الله ببعض عباده وأحبابه، كما كان ذلك لسليمان- فإن هناك درجة فوق تلك الدرجة، وهى درجة الابتلاء بالضراء، حيث يجد الإنسان نفسه وكأنه فى صراع ضار مع الحياة وخطوبها، وحيث يرى نفسه وكأنه جبل راسخ شامخ تتحطم على صخوره الصلدة، الأمواج الصاخبة، وتتكسر تحت أقدامه القويّة، العواصف العاتية.. وحيث يرى آخر الأمر وقد انتهى هذا الصراع، وانجلى غبار المعركة، وإذا به وبين يديه راية النصر، وعلى جبينه تاج الفوز والظفر! لقد كسب المعركة بهذا الجهد الذاتي، وبهذا الثمن الغالي الذي قدمه من ذات نفسه، عرقا متصببا وأرقا متصلا، وعملا دائبا..
وهذا ما يجعل للنصر هذا الطعم الحلو، الذي لا يعرف مذاقه إلا من ابتلى وصبر، وجاهد وبذل، وحرم نفسه النوم فى ظل الراحة والرفاهة، وبات ليله ساهرا، ونهاره عاملا..
وإنه لفرق كبير بين من يجد بين يديه طعاما طيبا حاضرا عتيدا، لم يبذل فيه جهدا، ولم يتكلّف له عملا، وبين من فرغت يده من كل شىء، فيجدّ ويعمل فى غير وناء أو فتور، وهو على ما به من حرمان ومسغبة، حتى إذا اجتمع له من سعيه ما يهيء به لنفسه طعاما، كانت عنده كل لقمة من هذا الطعام، أشهى وأطيب من تلك المائدة الحافلة بطيب الطعام(9/939)
والمثل لهذا، ما نجد فى حياة الوارث الذي يعيش على ما ورث، وبين العامل الذي يعيش من عرقه وكدحه وجهده..! فحياة الوارث حياة رتيبة مملة ثقيلة، ذات لون واحد، لا يتبدل، بينما حياة العامل خصبة مليئة بالحياة والحركة، وتغاير الطعوم والألوان.
ونجد هذا فى الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فأصحاب الرسالات الكبرى منهم، هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء.. وعلى قدر ابتلائهم كانت منزلتهم عند ربهم.
إبراهيم عليه السلام، ابتلى بإلقائه فى النار.. وبالأمر يذبح ولده إسماعيل بيده، فكان خليل الرحمن وأبا الأنبياء..
وموسى عليه السلام، ابتلى من أول حياته، بإلقائه فى اليم رضيعا، ثم بقتله المصرىّ، وطلب فرعون له، وفراره إلى مدين.. ثم بلقاء فرعون، ومواجهته بالدعوة إلى الإيمان بالله.. ثم كان ابتلاؤه الأكبر فى حياته بين بنى إسرائيل، وفى خلافهم عليه، وشرودهم منه.. فكان كليم الله.
وعيسى- عليه السلام- نشأ فى حجر الابتلاء ... تنعقد حوله، وحول أمه التهم والظنون، حتى إذا ظهر فى اليهود، كان بينه وبينهم هذا الصراع الطويل المرير، حتى لفّقوا له التهم، وقدموه للحاكم الرومانى، وطلبوا إليه أن يحكم عليه بالصلب، حسب شريعتهم، ولم يسترح لهم بال حتى حكم لهم بصلبه، وحتى شبّه لهم أنهم صلبوه.. وكان كلمة الله.
ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- قد لقى من قومه ألوان المساءة فى كل لحظة من لحظات تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها فى مكة قبل الهجرة.. فلما هاجر كانت حياته قسما مشاعا بين الدعوة إلى الله، والجهاد(9/940)
فى سبيل الله.. يقوم ليله، ويصوم نهاره.. وما شبع من طعام قط، ولا نام إلا على حشية من ليف.. وهو الذي كان يستطيع- لو أراد- أن يأكل فى صحاف من ذهب، وأن ينام على فراش من حرير.. فكان خاتم الأنبياء وصفوة الخلق..
وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء، فى ميزان الصياغة لمعادن الرجال، وصبّهم فى قوالب الكمال والإحسان.. ولهذا كان أولو العزم من الرسل، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان، وأثقل ابتلاء..
وثالثا: الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء الله وأحبابه وأصفيائه، ولكنه الشأن الغالب عليهم، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم، وأقرب إلى نفوسهم، لأنهم كلما ازدادوا من الله قربا انكشف لهم أمر الدنيا، ومتاعها الغرور، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار، لكل ما فيها ومن فيها، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها، زادهم ذلك إحقارا لها، وبعدا عنها.
فهذا الذي نرى فيه أولياء الله وأصفياءه، من فاقة، وضرّ، وحرمان، ونعدّه بلاء أو ابتلاء، هو- فى الواقع- مطلب لتلك النفوس العظيمة، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد الله..
إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس، راضين.. وإنهم ليجدون فى الحرمان، من الغبطة والرضا، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها..
وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها، ويطيب لها.. وشتان بين الكلاب والأسود.. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها..(9/941)
رابعا- يبتلى المحسنون والصالحون من عباد الله بما يبتلون به، وهم على وعد من الله سبحانه وتعالى، بأن وراء الضيق فرجا، وبأن مع العسر يسرا..
وأنهم إن صبروا اليوم على الضرّ والأذى، فإنهم لعلى موعد بلقاء غد ينجلى فيه الكرب، وتنقشع غمامات الضر.. «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (155- 157: البقرة) ..
وكما قيل، من أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فكذلك كل نعمة من نعم الله، لا يذوق حلاوة طعمها، ولا يعرف جلال قدرها إلا من حرمها، وطال حرمانه وافتقاده لها، فإذا لقيها بعد هذا، عرف كيف فضل الله عليه، وكيف إحسانه إليه، ومن ثم يعرف كيف يؤدّى لله بعض ما يجب له، من حمد وشكران..
قوله تعالى:
«وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
جاء ذكر إسماعيل، بعد ذكر أيوب، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من الله، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به.
فأيوب، قد كان فى عافية، وفى نعمة ظاهرة، ثم ابتلاء الله فى نفسه وماله وولده جميعا.. فصبر راضيا بحكم الله فيه، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه..
وإسماعيل.. قد رأى أبوه فى المنام أنه يذبحه بأمر من ربه، فلما أخبره بأمر الله، وطلب إليه رأيه، لم يتردد فى الجواب، وقال: «يا أَبَتِ افْعَلْ(9/942)
ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»
..
وقدّم أيوب على إسماعيل، مع أنه فرع من إبراهيم، وإسماعيل أصل..
لأن أيوب طالت محنته، وطال انتظاره فى موقف البلاء سنين، وهو صابر ومصابر، ولم يضجر، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة.. ومن جهة أخرى، فإن إسماعيل كان- فى مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما، لم يقع فى نفسه، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه.. ولهذا كانت البلوى، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم، وإن كان لإسماعيل حسابه، وهو حساب وإن قلّ- بالإضافة إلى أبيه- هو شىء عظيم رائع، ترجح به موازينه فى الصابرين من عباد الله.. وذلك على حين كان أيوب فى دور الرجولة، وفى حال لبس فيها الشباب، والصحة، وذاق حلاوة الغنى، وعرف طعمها، فكان انتزاع هذا كله منه، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء.
هذا وقد ذكر مع إسماعيل «إدريس» و «ذو الكفل» .
أما إدريس فهو ممن ذكرهم الله من أنبيائه، كما يقول سبحانه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا:» (56: مريم) .. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين.. فلم يكن له فى القرآن قصة كقصة، صالح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وغيرهم من رسل الله..
وأما «ذو الكفل» فلم يذكر إلا فى هذا الموضع، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين: إسماعيل وإدريس، وشاركهما فى صفة الصبر.. كما يقول سبحانه «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» ..(9/943)
وقد ذهب معظم المفسرين مذاهب شتى فى «ذى الكفل» وكان أضعف الآراء عندهم فيه، أنه نبى، من أنبياء الله..
والرأى عندنا والله أعلم- أنه نبىّ، وأن أبرز صفة فى حياته كانت صفة الصبر.. أما رسالته، وأما قومه، فشأنه فى هذا شأن إدريس، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما.. كما أننا نرجح أنه زكريا- عليه السلام- لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول الله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» وتسأل: ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن ذكرهما فى القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة.. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن، ونظمهما فى عباد الله المصطفين من أنبيائه ورسله..
وفى هذا تحقيق لأمرين:
أولهما: ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث، من إحسان الله سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده، بعد أن يتركوا هذه الدنيا، وذلك برفع ذكرهم، وتخليد آثارهم، وفى هذا ما يغرى بالإحسان، وبتمجيد المحسنين..
وثانيهما: ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان، حيث يصلّى المصلون على أنبياء الله، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا.
قوله تعالى:(9/944)
«وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» .
ذا النون: هو يونس- عليه السلام- والنون: هو الحوت، وجمعه نينان.. وقد نسب إليه يونس، لأنه عاش فى بطنه زمنا- كما سترى..
وقوله تعالى: «إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» إشارة إلى أنه اختلف مع قومه، فتركهم وذهب بعيدا عنهم، مغاضبا لهم.
وفى قوله تعالى: «مُغاضِباً» إشارة إلى أنه استجلب المغاضبة، واستعجلها، وأنه وإن ظهر له من قومه ما يثير الغضب، ويدعو إلى القطيعة، إلا أنه كان جديرا به أن يصبر، ويصابر، وألّا يأخذ القوم بأول بادرة، فيتخلى عن مقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، مخاطبا النبىّ الكريم، صلوات الله وسلامه عليه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (48: ن) .
ففى هذا تعريض بيونس- عليه السلام- وأنه لم يصبر الصبر المطلوب من الأنبياء..
وقوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أي ظن أن لن نقدر على محاسبته على هذا الموقف، وعقابه عليه..
ولم يكن من يونس عليه السلام هذا الظن بربه، وبقدرته، وإنما حاله التي كان عليها هى التي تعطى هذا الوصف له.. فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل، ثم لا يجد محاسبا على ما فعل..
قوله تعالى: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» .(9/945)
هنا كلام مضمر، يشير إليه العطف بالفاء «فَنادى» .. وهذا المضمر، قد ذكر فى آيات أخرى من القرآن الكريم، وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ»
(139- 142: الصافات) .
فحرف العطف «الفاء» يشير إلى هذه الآيات.. والمعنى أن يونس لما ذهب مغاضبا قومه، ظانّا أن لن نقدر عليه، أبق (أي هرب) «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»
أي الذي شحن وامتلئ بالناس والأمتعة، حتى فاض، وكاد يغوص فى الماء.. وإنقاذا للسفينة من الغرق رؤى أن يتخفف من أمتعتها، ثم من بعض الراكبين فيها، وقد ارتضى الركاب أن يقترعوا فيما بينهم على من يخلى السفينة، ويلقى بنفسه فى الماء، ولو كان فى ذلك هلاكه، إذ أن فى هلاكه نجاة كثيرين.
وقد وقعت القرعة على يونس فيمن وقعت عليهم، ليلقوا بأنفسهم فى البحر..
«فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
أي الساقطين، المخذولين.. وأرض دحض أي زلق، لا تمسك قدمى من يمشى عليها، وحجة داحجة: أي ساقطة، غير مقبولة..
فلما ألقى يونس بنفسه فى الماء، التقمه الحوت. «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» والمراد بالنداء، الدعاء، والتسبيح لله.. كما يقول سبحانه: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» و «الظُّلُماتِ» هى هذا الظلام الكثيف المشتمل عليه فى بطن الحوت، حيث لا ينفذ إليه شعاعة من ضوء.
وقد ذكر المفسّرون أن هذه الظلمات، هى ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل..(9/946)
وأنه لا حاجة إلى هذا التكلّف، لإيجاد وجه لجمع الظلمات.. والبحر نفسه هو ظلمات، وبطن الحوت ظلمات وظلمات.. فما الحاجة إلى الليل، حتى تصبح الظلمة ظلمات؟ وهل فى أعماق البحر، أو فى جوف الحوت، حساب للّيل أو النهار، والظلام والنور؟ .. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» (40: النور) إن ما فى أعماق البحر، ليست ظلمات وحسب، وإنما هى ظلمات، فوق ظلمات، فوق ظلمات! وقوله تعالى: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» أي أن الله سبحانه قد استجاب دعاء يونس، ونجّاه مما هو فيه من غمّ، وكذلك ينجى الله المؤمنين، مما ينزل بهم من سوء، وما يصيبهم من بلاء..
ويونس لم يدع إلا بقوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» .. فهو دعاء لم يطلب فيه نجاة أو خلاصا من هذا البلاء الذي هو فيه.. ففيم استجاب الله له؟
والجواب- والله أعلم- أنه دعا بأفضل دعاء يقتضيه حاله، ويطلبه موقفه.
إنه قد أتى من قبل نفسه، وإنّ نفسه هى التي أوقعته فى هذا البلاء، ودفعت به إلى هذا الموقف الذي هو فيه، فهو فى دعائه هذا يطلب البراءة من نفسه، والنجاة من شباكها، وذلك بإخلاص العبودية لله، والبراءة من كل شىء، حتى من نفسه هذه، والاستسلام لله الذي لا إله إلا هو..
وإنه إذا خلص من نفسه، وبرىء من أهوائها ونوازعها، فقد خلص من كل سوء، وأمن كل مكروه.. ومن هنا كان خلاصه من بطن الحوت، وكانت نجاته من هذا البلاء.. وهكذا كل من يضيف وجوده إلى الله،(9/947)
ويبرأ من نفسه وما توسوس له به.. إنه يكون أبدا على شاطىء النجاة!.
قوله تعالى:
«وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» .
وزكريا- عليه السلام- كان مبتلى بالحرمان من الولد، وقد طال انتظاره له، وتطلعه إليه، حتى بلغ من الكبر عتيّا.. فلما بلغ الحدّ الذي يقع عنده اليأس، لم يكن من اليائسين من روح الله، فدعا ربّه، وناجاه فيما بينه وبين نفسه، فقال: «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» .
- وفى قوله: «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» تعقيب على قوله: «لا تَذَرْنِي فَرْداً» أي إن لم تستجب لى، وتهب لى من يؤنسنى، ويرثنى من الولد، فتلك هى مشيئتك، وهى منّى بموضع الاستسلام والرضا، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى، فأنت خير الوارثين.. ترث الأرض ومن عليها..
- وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» إشارة إلى ما كان فى امرأته من عقم، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة، فأصلحها الله سبحانه وتعالى، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا..
- وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» .. الضمير فى «إِنَّهُمْ» يعود إلى زكريا، وزوجه، وولدهما يحيى.. فهم جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان بالله، والطمع فى رحمته، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله..
والرّغب: الرغبة، والطمع.. والرّهب: الخوف، والخشية.(9/948)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
قوله تعالى:
«وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» .
التي أحصنت فرجها، هى مريم ابنة عمران.. ولم تذكر باسمها لأنها لم تكن من الأنبياء، والمذكورون هنا جميعا أنبياء، ومنهم ذو الكفل- كما أشرنا إلى ذلك من قبل-.
وقد ابتليت مريم بهذا الابتلاء، الذي تكشّف عن نعمة سابغة، وفضل عظيم، لم يكن لأنثى غيرها..
لقد حملت بنفخة من روح الله، وجاءت بالمسيح عليه السلام.. وذلك بعد أن مرّت بهذا الامتحان القاسي، وواجهت من أهلها وقومها هذا الاتهام، الذي لم يكن ليدفعه عنها ما عرفت به فى قومها من طهر لا يحوم حوله شك، ومن عفة لا يطوف بها دنس.. ومع هذا فقد واجهت المحنة، واحتملتها فى صبر، مستسلمة لأمر الله، راضية بحكمه، وكان عاقبة أمرها أن كانت هى وابنها آية للعالمين، تتجلّى فيها قدرة الله، وما له فى عباده المخلصين من فضل وإحسان..
لقد كانت هى آية من آيات الله، إذ ولدت من غير أن تتصل برجل، وكان ابنها آية من آيات، الله إذ ولد بنفخة من روح الله، من غير أب.
الآيات: (92- 104) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 104]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101)
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)(9/949)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» .
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أولئك المصطفين من رسله وأنبيائه وعباده الصالحين.. من نوح الذي يعدّ الأب الثاني للإنسانية بعد آدم، إلى إدريس، الذي يقال إنه كان من ذرية نوح الأقربين، إلى إبراهيم أبى الأنبياء.. إلى مريم أمّ آخر نبىّ فى بنى إسرائيل- بعد ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء المكرمين من عباده، من ذكور وإناث، ومن بعيد عهده وقريبه- عقّب على ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ» . إشارة إلى أن هذا هو المجتمع الإنسانى،(9/950)
وتلك هى الأمة الإنسانية، التي يبعث الله فيها رسله، ويصطفى منها من يشاء من عباده.. فهذه هى الأمّ التي ينتسب إليها كل إنسان، وفيها هذه الوجوه المشرقة التي عرضتها الآيات السابقة، والتي ينبغى أن يقيم الناس وجوههم عليهم، وأن يقتدوا بهم، فهم جميعا من طينة واحدة، وإنما يكون التفاوت بينهم بالجهد الذي يبذله الإنسان منهم، لإعلاء إنسانيته، ورفعها عن هذا الطين!! وفى قوله تعالى: «أُمَّةً واحِدَةً» إشارة إلى تلك الوحدة التي تجمع الناس جميعا. وتجعل منهم مجتمعا واحدا، وإن اختلفوا ألسنة، وتباينوا ألوانا، وتناءوا ديارا وأوطانا..
وقوله تعالى: «وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ» أي أنه سبحانه ربّ جميع الناس، وراعيهم وكالئهم، فكلهم خلقه وصنعة يده، وكلهم غذىّ نعمته وإحسانه.. تقلّهم أرضه، وتظلهم سماؤه، وتغاديهم وتراوحهم نعمه..
وإذا كان هذا صنبعه بهم، وشأنه فيهم، فهو المستحق للعبادة والطاعة والولاء..
فمن شرد عن الله، وبعد عن مكانه الذي ينبغى ان يأخذه بين عباده، وأبى أن يستمع لناصح، أو يستجيب لداع، أو يحفل بنذير، فقد سعى بنفسه إلى حتفه، وأزهق روحه بيده..
وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ» تجد هذه المعادلة:
هذه أمتكم.. أمة واحدة.
وهذا أنا ربكم.. إله واحد.. لا ربّ لكم غيره.(9/951)
والنتيجة اللازمة لهذه المعادلة هى:
«فَاعْبُدُونِ» إذ أنتم مربوبون، وأنا الرّبّ..
أنتم العباد، وأنا ربّ العباد..
أنتم العابدون.. وأنا المعبود..
قوله تعالى:
«وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» .
واو العطف هنا تشير إلى معطوف عليه محذوف.. وهذا المحذوف هو من تفريعات الأمر الذي أمر به الناس فى قوله تعالى: «فَاعْبُدُونِ» .. وهو جواب عن سؤال مقدّر يقتضيه الحال وهو: ماذا كان من الناس إزاء هذا الأمر الذي أمروا به؟ فكان الجواب، لم يكونوا على طريق واحد، بل اختلفوا، وتقطعوا شيعا وأحزابا.. فكان منهم المطيع، وكان منهم العاصي. منهم المؤمن، ومنهم الكافر.. منهم عابد الرحمن، ومنهم عابد الشيطان.. «تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» .. وفى إضافة الأمر إليهم، إشارة إلى أنه الأمر الذي هو ملاك صلاحهم وفلاحهم، وهو الإيمان الله.
- وقوله تعالى: «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» أي أن كل فريق منهم راجع إلى الله، ومحاسب على ما كسب من خير أو شر..
قوله تعالى:
«فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ.. وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ» .
هو بيان لما يكون عليه الناس عند رجوعهم إلى الله يوم القيامة.. فمن عمل(9/952)
صالحا وهو مؤمن، تقبّل الله عمله، وكتبه له.. وسيجزيه عليه الجزاء الأوفى..
- وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» هو قيد لقبول الأعمال الصالحة، فلا يقبل من غير المؤمنين عمل وإن كان صالحا، إذ لم يزكّه الإيمان بالله، وكل عمل لا يزكّيه الإيمان بالله، هو باطل، لا وزن له.
قوله تعالى:
«وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» .
هو بيان للوجه المقابل للمؤمنين، وهو وجه الكافرين.. وقد جاء النظم القرآنى على هذا الأسلوب، ليكشف عن حال هؤلاء المجرمين فى الدنيا، والآخرة معا..
فهم فى الدنيا معرّضون للهلاك، الذي يعجّل للظالمين.. وهم فى الآخرة واقعون تحت عذاب الله، مسوقون إليه، يتمنّون أن يعودوا إلى الدنيا، ليصلحوا ما أفسدوا.. ولكن هيهات.. هيهات..
- وقوله تعالى: «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» أي ومحكوم على أية قرية هلكت ألا يرجع أهلها مرة أخرى إلى الدنيا، أو أن يفرّوا من هذا العذاب المعدّ لهم.
وفى التعبير عن الحكم بلفظ الحرام، تأكيد لهذا الحكم، وجعل عودتهم إلى الدنيا من المحرمات، التي إن ارتكبها المجرمون، فإنها لا تجىء من عند الله! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فكما كتب سبحانه على نفسه الرحمة، حرّم سبحانه على نفسه أن يرجع الموتى إلى الدنيا مرة أخرى، وإنما يبعثهم للحساب والجزاء.(9/953)
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» ..
يأجوج ومأجوج، وهم من الجماعات المفسدة فى الأرض، وقد ذكرهم الله تعالى فى قصة ذى القرنين، وقد أقام ذو القرنين فى وجههم سدّا، حتى لا ينفذوا منه إلى مواطن العمران، ويعيثوا فى الأرض مفسدين..
وفى هذا يقول ذو القرنين عن السدّ: «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» إشارة إلى انهيار هذا السدّ، وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إلى الأمم المجاورة لهم..
والحدب: المكان المرتفع، ومنه الأحدب، الذي برز ظهره، وعلا.
ثم انحنى.. ومنه الحدب، وهو الميل والعطف، وينسلون: أي يجيئون فى خفة وانطلاق.. كأنهم جراد منتشر..
هذا، وقد ربط القرآن خروج يأجوج ومأجوج بقرب الساعة..
والساعة قربت من يوم نزول القرآن، كما يقول تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» وكما يقول سبحانه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» .
وعلى هذا، فليس بالمستبعد أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا من هذا السدّ، بعد أن تداعى وانهار.. ومن يدرى؟ فلعلهم التتار الذين طلعوا على الدولة الإسلامية، وأتوا على معالم الحضارة، فى عاصمتها بغداد، وفى كل ما وقع لأيديهم من كل عامر، حتى لقد قيل إنهم ألقوا بما حوت الخزائن من كتب فى نهر دجلة، وكان هذا شيئا كثيرا سدّ به النهر! وربما كانت أمة الصين، التي كانت تعيش فى شبه عزلة عن العالم، وها هى ذى اليوم تتجمع وراء(9/954)
حدودها، وقد ملكت فى يدها القنبلة الذرية.. وإنه ليس ببعيد هذا اليوم الذي تغزو فيه العالم كلّه.. بهذا السلاح الرهيب..!
وقد تحدثنا عن يأجوج ومأجوج، وما قيل فيهم من مقولات، فى تفسير سورة الكهف.
قوله تعالى:
«وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» .
والوعد الحق.. هو يوم القيامة.. شاخصة أبصار الذين كفروا: أي جامدة، لا تطرف، من شدّة ما ترى من هول.
والآية معطوفة على محذوف، هو غاية «حتى» فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» .
والتقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، وقع الفساد والاضطراب، واقترب الوعد الحق. حيث هذا النذير الذي يقوم بين يدى هذا اليوم، وهو ذلك الهول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» إشارة إلى أن اقتراب الساعة، وظهور أماراتها، ومنها خروج يأجوج ومأجوج- يطلع منه على الكافرين ما تشخص به أبصارهم، فتظل الحدق معلقة فى الأعين، ثابتة لا تتحرك، للهول الذي يرونه.. إنهم فى طريقهم إلى الفزع الأكبر.. إلى جهنم، أعاذنا الله منها..
وقوله تعالى: «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» ..
هو حكاية لما يتنادى به الكافرون يومئذ، وهم فى فزع القيامة، وبين يدى(9/955)
يومها الموعود.. إنهم يدعون بالويل والثبور، ويندبون أنفسهم وهم على طريق الهلاك.
قوله تعالى:
«إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» .
هو صوت الإغاثة الذي يغاث به الكافرون، وهم يولولون، ويندبون..
وإنه لصوت مفزع، يدخل عليهم بما يزيدهم كربا وجزعا: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» أي إنكم الحصى الذي تحصب به جهنم، أي إنهم يلقون فيها هم وآلهتهم كما يلقى بالحصى فى حفرة، بلا وزن ولا حساب.
قوله تعالى:
«لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» .
أي لو كان هؤلاء الذين يعبدهم المشركون، آلهة ما وردوا جهنم، ولا دخلوها معهم.. إذ كيف يكون إلها من يلقى به فى جهنم؟ «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» أي كل من هذه الآلهة وعابديها، واردون جهنم وخالدون فيها..
وهؤلاء وأولئك جميعا يعانون من ألوان العذاب أهوالا، فأنفاسهم فى جهنم زفير متصل، مما يلفظونه من أجوافهم التي تغلى، وليس لهم فرصة يأخذون منها شهيقا وإن كان من لهب جهنم، وقد أصابهم الصمم من هذا الزفير المتلاحق، الذي لا يأذن لشىء يدخل إلى كيانهم.. والمعبودون هنا هم أولئك الضالّون المغرورون الذي دعوا الناس إلى عبادتهم وأقاموا أنفسهم آلهة عليهم.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ(9/956)
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» .
تعرض هذه الآيات الثلاث ما يلقى المؤمنون يوم القيامة من ربهم، من كرامة وتكريم.. وقد وصفوا بأنهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لأن إيمانهم بالله، وتوفيقهم للأعمال الصالحة، لم يكن إلا بما سبق من علم الله بهم، وإرادته فيهم، وأنهم كانوا فى علم الله، وبمقتضى إرادته من أصحاب اليمين..
هكذا خلقهم الله أزلا.. فلما جاءوا إلى هذه الدنيا، جروا على ما علم الله منهم، وعلى ما أراد لهم، فآمنوا، وعملوا الصالحات، وكانوا من عباد الله المكرمين..
فالإيمان والكفر، والهوى والضلال، وأصحاب الجنة وأصحاب النار..
كلّ ذلك فى علم الله القديم، وفى إرادته السابقة.. كما يقول سبحانه:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) وكما يقول جلّ شأنه: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) .
وقد شرحنا هذه القضية فى مبحث خاص تحت هذا العنوان: «مشيئة الله.
ومشيئة العباد» .
فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، هم مبعدون عن تلك النّار التي يتقلب على جمرها، ولهيبها، الكافرون والضالون.. فلا يخلص إلى المؤمنين شىء من حرّها، ولا يصل إلى أسماعهم حسّ من زفيرها وشهيقها «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» حتى لا تتأذى مشاعرهم بهذه الأصوات الرهيبة، المفزعة، «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ» أي أنهم يلقون فى الجنة ما تشتهى أنفسهم، من نعيم دائم لا ينقطع أبدا.. «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» أي أنهم لا يجزعون ليوم القيامة ولا يفزعون منه، إذ ملأ الله قلوبهم طمأنينة وأمنا، بما أراهم من فضله، وبما استقبلتهم به الملائكة من بشريات بهذا الفضل، إذ الملائكة(9/957)
يلقونهم على أول الطريق فى هذا اليوم، ويقولون لهم: «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» أي هذا اليوم يوم جزاؤكم، ونعيمكم، ورضوانكم، الذي وعدكم الله به، ولن يخلف الله وعده.. فهيّا استقبلوا ما وعدكم الله من رضوان، وجنات لكم فيها نعيم مقيم.
قوله تعالى:
«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» .
«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» لا يحزن الذين لهم من الله الحسنى، الفزع الأكبر فى هذا اليوم، الذي نطوى فيه السماء كطىّ السجل للكتب، وهو يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.. ويصح أن يكون هذا الظرف «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» متعلقا بقوله تعالى: «نُعِيدُهُ» أي نعيد الخلق كما بدأناه، وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب.
وطىّ الشيء، ضمه، ولفّه كما يلفّ البساط ويطوى.
وطى السماء، ضمها، ولفّها، فينكشف هذا السقف المعقود بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. فالسماء تطوى كما يطوى السّجلّ، بما كتب فيه، فهى تطوى بعوالمها كلها، من كواكب وشموس وأقمار..
والسجلّ: أصله الحجر، الذي يكتب عليه، ثم استعمل لكل ما يكتب عليه، من جلد وورق ونحوه.. وللكتب: أي على الكتب.. والكتب بمعنى المكتوبات.
وهذا التحول فى العوالم العلوية والسفلية، إنما هو تصوير لما يقع فى مفهوم(9/958)
الإنسان، حين ينتقل إلى الدار الآخرة، حيث يشهد الوجود على غير ما يقع لحواسه ومدركاته وهو فى هذه الدنيا.
وهذا يعنى أن الإنسان بعد أن يفارق هذا الجسد، يعود إلى عالم الرّوح، فينطلق من أسر هذا الجسد المحدود، ويسبح فى عالم ماوراء المادة، وهناك يرى الأرض، والسماء غير السماء.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (48: إبراهيم) .. فهذا التبدل هو تبدّل فيما يقع على تصورات الإنسان ومدركاته، بانتقاله من العالم المادي إلى العالم الروحي.. وإلا فإن العوالم ثابتة على ما أقامها الله سبحانه وتعالى، فى هذا النظام المحكم.
فالأمر إذن، ليس كما يتصور الذين أخذوا أوصاف يوم القيامة التي جاء بها القرآن، على هذا التصور الذي تذهب به معالم الوجود كلّه، وتنقلب أوضاع السموات والأرض..
وكلّا، فإن هذا الوجود العظيم، ليس للإنسان، ولا من أجل الإنسان، وإنما الإنسان ذرة من ذراته، وشىء من أشيائه.. وإن التغير والتبدل واقع عليه هو، فتتغير لذلك مدركاته، ويرى الوجود، والموجودات بعين غير التي يراها عليه، وهو فى هذا الكيان المادي.. وذلك يوم يكشف هذا العطاء المادىّ، الذي يحجب نظر الإنسان، ويحصره فى هذه الدائرة المحدودة الضيقة، وعندئذ يرى ما لم يكن ليراه فى عالمه المادىّ، كما يقول سبحانه: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .
وإذا صحّ الحديث الذي يروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» فهذا يعنى أن كل من مات وانتقل إلى العالم الآخر، يرى الوجود قائما على هذه الصورة التي يصوّر فيها القرآن مشاهد القيامة، وما يتبدل(9/959)
من معالم الوجود.. فهو تبدل فى مدركات الإنسان وفى تصوراته، بعد خلاصه من الجسد وتحرره من أسر المادة..
- وفى قوله تعالى: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» أي أننا نعيد الموتى وننشرهم كما خلقناهم ابتداء، فلا يصحّ للمشركين والكافرين، الذي يكذبون بيوم الدين، أن ينكروا هذا البعث، وأن يستبعدوه.. فهو أهون من الخلق ابتداء «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (78، 79: يس) - وفى قوله تعالى: «أَوَّلَ خَلْقٍ» وفى تنكير «خَلْقٍ» ما يفيد الاستغراق والعموم، فهو بمعنى أول كل خلق.. كما يفيد أيضا أن كلّ مخلوق له خلق خاصّ به، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا خاصَّ به، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (49: القمر) .
- وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» أي إن إعادة الموتى إلى الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء، هو أمر قضى الله به، ولا رادّ له..
وفى هذا يقول سبحانه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (15- 16: المؤمنون) ويقول جل شأنه: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7: التغابن) .
وهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده وقد أكّده سبحانه بقوله:
«إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» .. وهو وعد لا يحتاج إلى توكيد، عند المؤمنين، وإنما التأكيد منظور فيه إلى الكافرين، الذين يكذبون بيوم الدين.(9/960)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
الآيات: (105- 112) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 الى 112]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ..
المراد بالزّبور هنا- والله أعلم- الكتب السماوية، التي هى بعض الكتاب «الأم» ، كتاب الله، وهو مستودع علمه الذي لا ينفد..
وأصل الزبور: القطعة من الشيء وجمعه زبر، كما يقول تعالى: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» والذكر: على هذا التقدير، هو أم الكتاب.
والمعنى، أن الله سبحانه وتعالى كتب وقضى فى الكتب المنزلة على رسله بعد أن كان ذلك مسطورا فى الكتاب الأمّ- «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ..(9/961)
والمراد بميراثهم الأرض، أنهم هم الذين ينتفعون بحياتهم فيها، ويتزودون فيها الزاد الطيب، الذي يلقونه يوم القيامة، فيكون لهم مطية يجوزون بها النار إلى الجنة، حيث ينعمون ينعيمها الخالد.. فهذا كلّ ما يجنى من ثمر، وما يحصل من خير فى هذه الدنيا، وهو الذي يستحقّ أن يسمى ميراثا..
أما غير المؤمنين، فإنهم مهما ملكوا من هذه الدنيا، ومهما وقع لأيديهم منها من مال، وجاه، وسلطان- فلن يكون لهم من هذا شىء فى حياتهم الآخرة، بل سيكون عليهم وبالا وحسرة، على حين تمر بهم حياتهم الدنيا، وكأنها ضحوة يوم أو عشيته.. «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» . (46: النازعات) .
فالمراد بالميراث هنا، الميراث النافع، الذي يبقى لما بعد الموت، حيث يجده الإنسان، وكأنه فى حياته الثانية، قد ورث حياته الأولى.. أو كأنه هذا الحىّ فى الآخرة، الذي ورث هذا الميت الذي كان فى الدنيا.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بكلمة «يَرِثُها» ..
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ» ..
أي إن فى هذا الذي تحدّث به القرآن الكريم من قصص، وما فيه من عبر- لبلاغا، أي لبيانا كاشفا شافيا.. أو أن فى هذا الحكم الذي ضمّت عليه الآية الكريمة: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ..» - إن فى هذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة، يتلقى منها العابدون العبرة والعظة.
والمراد بالعابدين، المؤمنون، وقد ذكروا بالصفة الغالبة عليهم، وهى التعبد لله، والولاء له.. فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا عبد الله، وذكره، ذكرا متصلا..(9/962)
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .
الخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وأن الله سبحانه وتعالى إنما أرسله رحمة للناس جميعا.. كما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «أنا رحمة مهداة» ..
ويسأل سائل:
كيف يكون النبىّ صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعا. الناس كلّهم أسودهم وأحمرهم، وما بين أسودهم وأحمرهم، وقليل من كثيرهم أولئك الذين آمنوا به واهتدوا بهديه، وانتفعوا برسالته؟ كيف هذا، وقوله تعالى «لِلْعالَمِينَ» يفيد العموم والشمول؟
والجواب على هذا- والله أعلم- من وجوه:
أولا: أن الهدى الذي جاء به- صلوات الله وسلامه عليه- هو خير ممدود للناس جميعا، وهو رحمة غير محجوزة عن أحد، بل إنها مبسوطة لكل إنسان، أيّا كان لونه وجنسه.. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم:
«قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ..» (158: الأعراف) فهو صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة، يطرق بها باب كل إنسان، من غير أن يطلب لذلك أجرا، وليس على النبي- بعد هذا- أن يرغم المتأبّين عليه أن يقبلوا ما يقدمه هدية لهم.. إنه أشبه بالشمس، وهى رحمة عامة لكل حىّ.. ولكنّ كثيرا من الأحياء يعشون عن ضوئها، وكثير من الأحياء، إذا آذنهم(9/963)
ضوؤها انجحروا وقضوا يومهم فى ظلام دامس.. فآية النهار قائمة، ولكنها بالنسبة لهم منسوخة غير عاملة.
وثانيا: أن الذين آمنوا بهذا النبىّ، والذين يؤمنون به فى كل جيل من أجيال الناس، وفى كل أمة من الأمم، وفى كل جماعة من الجماعات، هم رحمة فى هذه الدنيا على أهلها جميعا، إذ كانوا- بما معهم من إيمان- عناصر خير، وخمائر رحمة، ومصابيح هدى.. وبهم تنكسر ضراوة الشر، وتخفّ وطأة الظلم، وترقّ كثافة الظلام.
وثالثا: هذا الكتاب الذي تلقّاه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحيا من ربّه، وهذه الآيات المضيئة التي نطق بها، والتي وعتها الآذان، وسلجتها الصحف.. كل هذا رحمة قائمة فى الناس جميعا، وميراث من النور والهدى، يستهدى به الناس، ويصيبون منه ما يسع جهدهم، وما تطول أيديهم من خير..
وعلى هذا، فالمراد بالعالمين، الناس جميعا، منذ مبعث النبىّ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَرْسَلْناكَ» الذي يفهم منه أن الرحمة كانت منذ إرساله ومبعثه، صلوات الله وسلامه عليه..
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .
هذه هى الرحمة التي يؤذّن بها النبىّ فى الناس، ويقدمها هدية لهم..
«أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» .. هذا هو مفتاح الرحمة، وذلك هو مفتاح الهدى.. فمن أمسك بقلبه هذا المفتاح، ثم أداره، فقد وضع يده على كنوز الخير كلها..(9/964)
- وفى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .. هو تحريض للناس جميعا على الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، التي خفّف محملها، وغلا ثمنها.. إنها كلمة واحدة: «لا إله إلا الله» فما أخفها على اللسان، وما أطيب بردها على القلب، وما أقوم سبيلها إلى العقل!! فهل يلتوى بها فم؟ وهل يضيق بها صدر؟
وهل يزورّ بها عقل؟ إن ذلك لا يكون إلا عن آفات تغتال فطرة الإنسان، وتفسد كيانه.
- وانظر فى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ؟ لقد طلب منهم الإسلام أولا، وهو الإقرار باللسان، بهذه الكلمة السمحة السهلة.. ثم إنها بعد هذا كفيلة بأن تفعل فعلها فى كيان الإنسان، وتؤتى ثمراتها الطيبة المباركة كلّ حين.. إنها هى الكلمة الطيبة التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى فى قوله:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (24، 25 إبراهيم) .
إنها كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .
وأنت ترى فى هذا سماحة الإسلام، وأسلوبه الرائع المعجز فى دعوة الناس إلى الهدى.. إنه يلقاهم بأيسر السبل، وأخفّ الأمور.. حتى إذا ذاقوا حلاوة الإيمان، واطمأنت قلوبهم بكلمة التوحيد، وجدوا فى أنفسهم القدرة على احتمال التكاليف الشرعية، والوفاء بها.. إنها المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإيمان.. ثم يغرس ما شاء أن يغرس من خير، ويجنى ما قدر الله له أن يجنى من ثمر!! ففى سنن أبى داود عن جابر بن عبد الله قال: «اشترطت ثقيف على النبىّ(9/965)
صلى الله عليه وسلم، أن لا صدقة «1» عليها ولا جهاد، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «سيتصدّقون ويجاهدون إذا أسلموا» ! ولا شكّ أن هذا أقوم أسلوب، وأعدل منهج فى التربية، حيث التدرج من السهل إلى الصعب.. خطوة خطوة، حتى يبلغ المرء مأمنه، وحتى يدخل الإيمان قلبه، ويخالط مشاعره.
قوله تعالى:
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ.. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» وهذا هو موقف النبي ودعوته، ممن لم يستمعوا له، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه.. «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» أي أعلمتم بما أرسلت به إليكم..
والأمر بينى وبينكم الآن، وبعد أن توليتم قد عاد إلى ما كنّا عليه من قبل..
أنا على دينى، وأنتم على دينكم.. وأنا لى عملى، وأنتم لكم عملكم.. أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون، وستعلمون عاقبة ما أنذرتكم به..
أما متى يكون هذا؟ فعلمه عند ربى، وما أدرى أقريب هذا أم بعيد؟ إن ربى الذي يعلم كلّ شىء، لا يخفى عليه من أمركم شىء.. سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به!.
قوله تعالى:
«وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» .
إن هنا هي المخففة من إنّ الثقيلة، وليست نافية، كما جاءت فى الآية
__________
(1) المراد بالصدقة هنا، الزكاة، وهى ركن من أركان الدين.(9/966)
السابقة: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ» .. على ما ذهب إليه المفسّرون..
والمعنى: إننى وإن كنت لا أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون، فإننى أدرى هذا الذي أنتم فيه من شرود عن الله بما فى أيديكم من مال ومتاع..
لعله فتنة لكم، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» وإنه «مَتاعٌ إِلى حِينٍ» أي متاع إلى أجل محدود لا تتجاوزونه.. فلستم خالدين فى هذه الدنيا، وليس فى أيديكم ضمان لهذا المتاع الذي معكم، فقد تصبحون وليس فى أيديكم شىء منه..
وقد جاء الخبر مصحوبا بلعلّ التي تفيد الرجاء، لأن ذلك الخبر ليس على سبيل القطع بالنسبة للمخاطبين جميعا.. فإن فيهم من يثوب إلى رشده، ويستجيب للدعوة، ويدخل فى دين الله..
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .
هو حكاية لقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، الذي يعقّب به على هذا الموقف الذي بينه وبين المشركين، الذين يقفون منه هذا الموقف المنادي فيدعو ربّه أن يحكم بينه وبين هؤلاء المشركين، والضالين «بِالْحَقِّ» فيعطى كلّا حقّه.. ماله، وما عليه.
والله سبحانه وتعالى لا يحكم إلا «بِالْحَقِّ» وفى قول النبىّ «احْكُمْ بِالْحَقِّ» تطمين لهؤلاء المشركين الضالين، وهو أنه إذ يدعوهم إلى الاحتكام إلى الله، فإنما يدعوهم إلى من يحكم بالحقّ، وهو لا يطلب من الله سبحانه محاباة له، إذ كان مؤمنا بالله وهم أعداء لله.. إنه لا يريد غير الحق، من الحق جل وعلا وهذا شأن الواثق من الحق الذي فى يده..(9/967)
ويجوز أن يكون المراد «بِالْحَقِّ» هنا، الحقّ الذي يعلمه النبىّ، وينتظره من ربّه.. فأل فى «الحق» للعهد، أي الحق المعروف، المعهود عند الله، وليس طلب النبىّ الحكم بالحق إلا إحالة للأمر الذي بينه وبين قومه إلى صاحب الأمر يقضى فيه بحكمه.
وقوله تعالى: «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .
هو خاتمة هذه السورة ...
وفى هذه الخاتمة ينهى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- موقفه مع قومه، مع الضالين والمعاندين، بأن يتركهم لحكم الله فيهم، وقضائه بينه وبينهم، وهو حكم عدل، وقضاء حق..
أما ما يجد النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من خلافهم عليه، واتّهامهم له، ورميهم إياه بتلك الرّميات الطائشة، كقولهم عنه: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه ساحر- فذلك مما يستعين الله على حمله منهم، من غير أن يحمل لهم ضغينة، أو يخرج به ذلك على غير ما يريده من الله لهم، من هداية، إلى أن يدعو عليهم، كما دعا كثير من الأنبياء على أقوامهم، فأخذوا بعذاب الله، ووقع بهم البلاء وهم ينظرون.. فما جاء صلوات الله وسلامه عليه إلا رحمة للعالمين، وهو بهذه الرحمة حريص على أن ينال قومه وأهله حظّهم منها.. فإن لم ينل المعاندين والمنكرين شىء من هذه الرحمة، فلا أقلّ من ألا يصيبهم عذاب فى هذه الدنيا، كما أصيبت الأمم الأخرى.. أمّا فى الآخرة فأمرهم إلى الله، يحكم فيهم بما شاء، وهو أحكم الحاكمين..
ولقد مضى النبىّ فى طريق دعوته، صابرا، مصابرا، يلقى المساءة بالإحسان(9/968)
والأذى بالمغفرة، حتى إنهم ليخرجونه من البلد الحرام، ويزعجونه من بيته وأهله.. ثم يجمعون جموعهم فى جيش لجب، يريدون أن يدخلوا عليه المدينة موطنه الذي هاجر إليه، فيلقاهم النبىّ بهذا العدد القليل من أصحابه فى بدر، فتكون الدائرة عليهم، وينصر الله النبىّ وأصحابه نصرا عزيزا.. ثم لا يأخذ القوم من هذا آية، ولا يتلقون منها عبرة وعظة، بل يعاودون الكرة فى العام التالي، ويجيئون إلى المدينة طالبين الثأر لبدر، وقد حشدوا للمعركة، ما يملكون من قوة.. ويلتقى بهم النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار فى أحد.. وينتصر المسلمون أولا، ثم يهزمون، ويصاب النبىّ ويسيل دمه، وتنكسر رباعيته، ويقتل نفر كرام من أهله وأصحابه، ومنهم عمّه حمزة، ويرفع رسول الله بصره إلى السماء، وفى قلبه أسى وحسرة، وكأنه يهمّ أن يسأل ربّه أن يأخذ له من هؤلاء المعتدين الآثمين.. ولكن تغلبه عاطفة المودة والرحمة، وإذا هذه الكلمات الحانية الودود تدفع من طريقها تلك الكلمات الثائرة الغضبى، وإذا شفتاه المباركتان، الطيبتان، المحسنتان، تردّدان فى ضراعة ضارعة: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» ..
فيا رسول الله، ويا خير خلقه، ويا صفوة أنبيائه، ويا خاتم رسله.. عليك صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته..
ويا رسول الله، ويا رحمته المهداة للعالمين. عليك صلوات الله وملائكته والمؤمنين «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .(9/969)
22- سورة الحجّ
نزولها: اختلف فيها، فقال بعضهم: إنها مكية إلّا آيات، وقال آخرون: إنها مدنية إلّا آيات.. ونحن نغلّب الرأى القائل بأنها مدنية إلا بعض آيات منها فمكية.. ويكفى أن تسمّى سورة الحجّ، والحجّ إنما فرض بعد الهجرة.
عدد آياتها: ثمان وسبعون آية.
عدد كلماته: ألفان ومائتان، وإحدى وتسعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة التي قبلها
كانت سورة الأنبياء- السابقة على هذه السورة- حديثا متصلا عن أنبياء الله ورسله، وما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به من ضرّاء وسرّاء، ثم كانت عاقبتهم جميعا إلى العافية فى الدنيا، وإلى رضا الله ورضوانه فى الآخرة..
وقد بدئت هذه السورة- سورة الأنبياء- بهذا الخبر المثير: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» ثم ختمت السورة بهذا البلاغ المبين، الذي جاء به قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ثم تلتها الآيات التي تحدث عن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه المبعوث رحمة للعالمين، وأنه لا يحمل الناس حملا على الهدى الذي بين يديه، فمن تولّى، فما على النبىّ من أمره شىء.. والموعد الآخرة، حيث يفصل الله بين العباد..
وقد جاءت سورة الحج فبدأت بهذا الإعلان، أو هذا النذير الصارخ:(9/970)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها.. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» .
وواضح ما بين بدء هذه السورة، وبدء سورة الأنبياء وخاتمتها، وما بين بدئها وختامها من تلاق وتلاحم.. بحيث يمكن أن تقرأ سورة الحج فى أعقاب سورة الأنبياء، من غير فاصل بالبسملة، وكأنها بعض منها، وتعقيب على مقرراتها.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 2) [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
التفسير:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... »
بهذا الإعلام الصارخ المدوى تبدأ السورة الكريمة، منذرة الناس بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، منبهة لهم من غفلتهم، ملفتة لهم إلى ما هنالك من أهوال تشيب منها الولدان..
والإعلان عام للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، المنتبه لهذا اليوم، والمعدّ نفسه له، ومن أنكره وكفر به، أو كان فى غفلة عنه..(9/971)
وذلك التعميم الذي يشمل الناس جميعا، إنما هو لأن أهوال هذا اليوم لا يكاد يتصورها أحد، لأنها تخرج عن دائرة التصور البشرى، وتجىء على صورة لم تقع للناس فى حياتهم الأولى، على رغم ما وقع لهم من أهوال، وما نزل بهم من بلاء.. ومن هنا كان الذين يؤمنون بالآخرة، ولا يعملون لها، مطالبون بأن ينتبهوا، وأن يعملوا أكثر مما عملوا.. فإنهم- على يقظتهم، وعلى خوفهم من لقاء ربّهم، وعلى إعدادهم ليوم اللقاء- إنهم مع هذا كله أشبه بالغافلين.. فإن الهول شديد، وأن الموقف لا يمكن تصوره.. ومن هنا أيضا كان المؤمن فى حاجة دائمة إلى تذكر هذا اليوم، وإلى الحياة معه، وإلى العمل له، وإنه مهما أكثر من عمل، فإنه قليل إلى المطلوب منه لهذا اليوم، لو علم هوله، وتصور صورته.
وقوله تعالى: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» هو عرض لهذا اليوم العظيم، وما يقع فيه من أهوال، وما يطلع به على الناس من مفزعات.. والزلزلة، الهزّة والرّعدة، وهى الإرهاصات التي تقوم بين يدى هذا اليوم.
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» .
هو «لقطات» من مشاهد هذا اليوم.. فمجرد رؤية ما يطلع فى هذا اليوم، يأخذ على الناس عقولهم، وأسماعهم وأبصارهم.. فتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حمل حملها.. حيث لا يملك أحد- مع هذا البلاء- شيئا من نفسه، فتتعطل فيه الأجهزة «العاملة» الإرادية منها وغير الإرادية..
ويصبح مجرد شبح يتحرك كما تتحرك الأشباح! والصورة هنا مجازية، فليس هناك مرضع حتى تذهل عن رضيعها، ولا حامل(9/972)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
حتى تلقى بما فى رحمها.. والمراد أنه لو طلعت الساعة على الناس فى دنياهم، وأرتهم زلزلة منها، لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ولألقت كل ذات حمل حملها.. ويجوز أن يكون المراد بوضع الحمل العموم والشمول، أي كل شىء يحمل، سواء أكان ما فى الأرحام من أجنة، أو ما مع الناس من أمور يشغلون بها، ويحرصون عليها.. وبهذا يكون المراد بذات الحمل: النفس.
ويمكن أن تكون هذه الصورة حقيقية، وأن من يشهد من الناس إرهاصات الساعة، ونذرها، قبل أن تقع، يقع لهم هذا.. فكيف بالساعة نفسها، حين ينكشف أمرها كله؟.
وقوله تعالى: «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» .
هو عرض لصورة من صور الساعة بين يدى نذرها.. فهذه النذر تقلب أوضاع الحياة، وتطلع على الناس بما لم يروه فى حياتهم من مذهلات.. وهذا ما بشير إليه قوله تعالى: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا.. بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» (97: الأنبياء)
الآيات: (3- 5) [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 5]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)(9/973)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها. أنها تعرض وجها من وجوه المشركين، المكذبين بيوم القيامة، التي جاءت الآيتان السابقتان منذرتين بها، محذرتين من أهوالها.. ومع هذه الأهوال العظيمة، والأحداث المزلزلة التي تلقى الناس يوم القيامة، فإن كثيرا من الناس لاهون عنها، مستخفّون بها، يأخذون كل حديث عنها مأخذ السخرية والعبث، بهذا الجدل العقيم، الذي يسلم المرء فيه عقله لهواه، فيرمى بالكلام على أي وجه يقع..
- وفى قوله تعالى: «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس، لا يسعى إلى تحصيل علم فى الأمر الذي يجادل فيه، وهو البعث، وكأنه أمر لا يعنيه، ولا يريد أن يدخل على نفسه أىّ شعور به، يزحزح تلك المشاعر التي ارتبط بها بالدنيا.. فهو منقاد لهواه، متبع لشيطانه.. وهو شيطان قوى بالنسبة لهذا الإنسان الأحمق، الذي التقى هواه مع هوى الشيطان! قوله تعالى:
«كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» .
هو وصف للشيطان، وهو أنه قد كتب عليه، أي حكم عليه من الله سبحانه وتعالى ألا يتولاه، ويستجيب له، إلا الضالّون الخاسرون من عباده:(9/974)
كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» (42 الحجر) . وكما يقول جل شأنه: «اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً» . (63: الإسراء)
الحياة.. وخالق الحياة
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» .
أكثر ما يكون الجدل فى قضية الإيمان يدور حول «البعث» حتى إن كثيرا من الذين يعترفون بوجود الإله الخالق، الذي بيده ملكوت السموات والأرض، يكذبون، أو يشكّون فى إمكان البعث ووقوعه. وهذا ناشىء عن فساد فى العقيدة، وعن قصور فى إدراك بعض ما لله سبحانه وتعالى من كمال مطلق، فى ذاته وصفاته.. وأن قدرته سبحانه مطلقة من كل حد وقيد..
وإذا كان للشك فى البعث ما يبرره عند الذين ينكرون الله، ولا يؤمنون بوجوده، فإنه ليس له وجه يقبل عليه من الذين يقولون إنهم يؤمنون بإله واحد!! وهذا شان اليهود، فإنهم مع إيمانهم بالله، فإن تصورهم المريض لجلال الألوهية وعظمتها، جعلهم ينظرون إلى الله، وكأنه كائن مادىّ محدود، لا يقدر على إعادة الأجسام بعد البلى والدثور.. ثم كان حبهم للحياة، وتعلقهم بها مباعدا(9/975)
بينهم وبين ذكر الموت، وتصوره، وتصوّر ما بعده.. فإنّ ذكر البعث لا يجىء إلا بعد الإيمان بالموت كحقيقة واقعة، ثم استحضاره والإعداد له ولما بعده..
فهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (96: البقرة) ..
فهم ومشركو العرب على سواء، فى تصورهم للبعث، فقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالله، ولكنه إيمان باهت مختلط بكثير من الضلالات، الأمر الذي جعلهم ينكرون البعث ويقولون: «ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» (24: الجاثية) .
وهذه الآية الكريمة تشرح قضية البعث، وتعرضها هذا العرض المحسوس الواضح، الذي تكاد تمسك به اليد، ومن هنا كان العرض عاما، يدعى إليه الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم:
- «يا أَيُّهَا النَّاسُ» .. اسمعوا هذا النداء، واشهدوا هذا العرض.. ثم احكموا بما ترون..
- «إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ» .. فانظروا أولا فى هذه الصورة، وتابعوا سيرها، خطوة خطوة، لتروا كيف بدأت، وكيف انتهت، ثم كيف كان البدء.. وكيف كانت النهاية:
- «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ» .. هكذا..
- «مِنْ تُرابٍ..» حيث كنتم بعض هذا التراب الذي ترون. لا وجود لكم ولا أثر يدلّ عليكم..
«ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ..» أي ومن هذا التراب نبتت شجرة إنسانية، هى الإنسان الأول.. ثم كان تناسلكم وتوالدكم، كما تتوالد، وتتناسل(9/976)
الكائنات الحية.. حيث يبدأ التناسل والتوالد بالنطفة، وهى ماء التناسل فى الكائن الحىّ..
«ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ» .. وهى صورة أولى من صور النطفة، حيث تنعقد النطفة.
«ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» هى صورة أولى من صور العلقة، حيث تتحول إلى قطعة من اللّحم، أشبه بلقمة مضغت حتى أصبحت أشبه بقطعة من العجين.. وهذه المضغة قد تكون مهيأة لاستقبال الحياة، فتعلق بالرحم، وتستقر فيه، حتى تستوفى مراحل نموّها، وتصبح جنينا، ثم وليدا يخرج إلى الحياة، وقد تكون غير مهيأة للحياة، فيلفظها الرحم..
- «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ..» أي هذه المراحل التي تحول بها التراب، إلى مادة تأكلونها، ثم تخلّق من هذا المادّة «النطفة» التي هى بذرة الحياة، ثم تحولت النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة.. وهذه المضغة تقف على عتبة الحياة، وتطرق بابها.. فإما أن يؤذن لها بالدخول، فتأخذ طريقها حتى تخرج من الباب الآخر كائنا حيّا، وإما أن تردّ، وتعود إلى عالم التراب، الذي جاءت منه- هذه المراحل الأولى هى إعداد للحياة، وتمهيد للأرض التي تنبت فيها..
تماما كالبذرة من الحبّ، تمهدّ لها الأرض، ثم تودع فى التراب، ثم يساق إليها الماء..
وإلى هنا تكون كل وسائل الإنبات مستكملة مستوفاة فى ظاهر الأمر..
وهذا هو المطلوب من الإنسان أن يعمله، وأن يستكمل أسبابه حتى يجىء المسبّب..!
ولكن بين الأسباب والمسبب، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر!(9/977)
فإذا كان الإنسان يملك أن يهيئ الأرض، ويبذر البذر، ويسوق إليه الماء.. فهل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب المهيأة، والتي هى كلها أدوات لم يكن من صنعه شىء منها، بل كل سبب منها مسبب عن أسباب..
وكل سبب من هذه الأسباب، مسبب عن أسباب أخرى.. وهكذا- نقول:
هل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب، فيخرج منها النبات الذي بذر بذرته، وانتظر ثمرته؟
وإذا كان الإنسان يملك أن يجد فى كيانه النطفة، ثم يهيئ المكان الذي يقذفها فيه، ثم يقذف بالنطفة فى هذا المكان المهيأ لها- فهل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة التي نزلت بمكانها المهيأ لها، ثم جهدت جهدها، فكانت علقة، ثم كانت العلقة مضغة- نقول: هل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة- وقد أصبحت مضغة- إلى أبعد من هذا، وأن ينفخ فيها نفخة الحياة، وأن يمسك بها فى الرّحم؟
جواب واحد، ينطق به الحال، ويشهد له الواقع، وهو: «لا» ! إنه لا حول للإنسان ولا طول له، فى هذا الأمر أو ذاك، وإنه ليس إلا العجز، والتسليم، ليد قادرة، خالقة، مبدعة.. لا حدود لقدرتها، ولا نهاية لإبداعها.
واستمع إلى قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟» (58- 59:
الواقعة) .
هذا، عن النطفة، وعن آيات القدرة القادرة، وآثارها فيها..
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» (63- 67:
الواقعة) ..(9/978)
وهذا عن النبات، وعن قدرة القادر، وصنعة الصّانع، فى أمر هو أقرب إلى الإنسان. وأيسر- فيما يبدو له- من عملية الخلق المعقدة، فى عالم الحيوان..
فهل له فى هذا أو ذاك يدان؟
وإلى هنا ونحن ما زلنا بعد على شاطىء الحياة، بعيدا عن أعماقها وأغوارها.!
فإذا غرق الإنسان وهو ما زال على اليبس، فكيف به إذا خاض الماء، أو غاص فى أعماقه؟
إنه لأسلم للإنسان إذن أن يقف حيث هو، وأن يظلّ على الشاطئ، يشهد ببصره، أو ببصيرته ما يرى من آيات الله، وآثار قدرته ورحمته فى تلك «المضغة» !.
وأيّة مضغة؟ إنها المضغة، المخلّقة، التي نفخ فيها الخالق النفخة الأولى للحياة..
أمّا المضغة غير المخلقة، فقد وقفت عند الشاطئ.. ترابا مع هذا التراب.
فلنبدأ إذن فى متابعة هذه النطفة «المخلقة» ، ولنرصد مسيرتها..
مرحلة مرحلة..
«وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» ..
فها هى ذى النطفة الآن فى سفينة الحياة.. وها هى ذى السفينة تتحرك رويدا على صدر هذا المحيط العظيم..
«ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» ..
وها هى ذى السّفينة تضرب فى ثبج المحيط، وتختفى رويدا رويدا عن(9/979)
الأنظار.. ثم ها هى ذى تعود بحملها، وقد ثقلت، وكادت تتقطع أنفاسها، وتسقط فى اليمّ بما حملت! ولكن يد القدرة القادرة تمسك بها، حتى تبلغ الشاطئ، وتلقى بما حملت! وما هذا الحمل الذي ألقت به على شاطىء الحياة؟ ومن أين جاءت به؟
إنه تلك النطفة، أو المضغة التي أقلعت بها من الشاطئ.. ثم دارت بها تلك الدورة الطويلة، فتخلّق من هذه المضغة هذا «الطفل» الذي هو صورة كاملة مصغرة من هذا الإنسان الذي دفع به إلى السفينة نطفة، ثم ها هو ذا يستقبله إنسانا! وما أبعد ما بين النطفة والإنسان، فيما ترى العين، ويشهد العقل.. وما أقرب ما بين النطفة والإنسان فى يد الخالق، المبدع، المصوّر!.
ثم ما هذا الطفل، أو ذلك الإنسان المصغر؟
إنه كائن لا يملك من أمره شيئا..
ولكن مهلا، فإن يد القدرة ممسكة بيده.. فانظر كيف تجعل من هذا الطفل رجلا، كما جعلت من النطفة طفلا! «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» .
فها هو ذا الطفل فى يد القدرة القادرة، تمدّه بأسباب النّماء والقوة، يوما بعد يوم وحالا بعد حال.. وإذا هذه الكومة من اللحم المتحركة فى كيانها المحدود، تحبو، ثم تقفز كما تقفز الضفدع، ثم تمشى على أربع كما تمشى الدواب، ثم تقوم منتصبة القامة، تمشى على رجلين.. ثم.. وثم، وثم.. حتى يبلغ أشده وبصير رجلا..(9/980)
وهذا هو الإنسان فى أتمّ صورة وأكملها.. لقد كمل جسمه، وعقله..
وبلغ أشدّه.
واللام فى قوله تعالى: «لِتَبْلُغُوا» هى لام العاقبة والغاية.. أي غاية النضج الإنسانى..
وهنا تبدأ لهذا الكائن مسيرة أخرى..
«وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» .
وإذ يبلغ الإنسان- مرحلة الشيخوخة- من العمر، يقف وقفة على عتبة الموت، أشبه بتلك الوقفة، التي وقفتها المضغة، على باب الحياة! فكما كانت المضغة هناك مخلّقة أو غير مخلّقة، يكون «الشيخ» هنا مخلّقا من حصاد الموت، أو غير مخلّف..
وهذا يعنى..
أولا: أن حدود الحياة الإنسانية، تنتهى غالبا عند مرحلة الشيخوخة..
حيث يستوفى الإنسان غايته، ويعطى الحياة كلّ ما عنده، ويأخذ منها كلّ ما هو قادر على أخذه منها.
وثانيا: أن هذا لا يمنع من أن يسقط على هذا الطريق كثير من الناس، قبل أن يبلغوا هذه المرحلة.. من أجنّة، وأطفال، وصبيان، وغلمان، وشباب.. تماما كما تتساقط بعض ثمار الفاكهة، زهرا، أو حصرما، أو رطبا.
كما لا يمنع أيضا من أن يجاوز الإنسان مرحلة الشيخوخة، فيكون من مخلفات الحياة.. تماما كمخلفات الثمر، الذي يجفّ، وهو لا يزال ممسكا بغصن الشجرة..(9/981)
وثالثا: إمساك الحياة ببعض «الشيوخ» حتى يبلغوا أرذل العمر، هو وجه مقابل لحياة الطفولة فى الإنسان.. حيث ينحدر الإنسان شيئا فشيئا، ويتدلّى قليلا قليلا حتى يقع على الأرض، فيصبح كومة من اللحم، يضرب برأسه على الأرض لتفتح له رحمها، وتهيئ له مكانا فيه.. تماما كالجنين، حين تفتّح له رحم أمه.. فخرج منه..
إنها دورة فى نصف دائرة.. أشبه بالشمس فى شروقها وغروبها..
ثم لا بد أن تتم هذه الدورة لتكون دائرة كاملة، فهذا هو نظام الكون فى أفلاكه جميعا، إنها تدور فى دائرة كاملة.. والإنسان ما هو إلا كون من هذه الأكوان.. يشرق، ثمّ يغرب، وبذلك يتم نصف دورته.. أما النصف الآخر فيقطعه وراء هذا العالم- عالم الظاهر- ثم يعود ليطلع من جديد فى عالم الظهور!.
وفى التعبير القرآنى عن امتداد العمر إلى ما بعد الشيخوخة بقوله تعالى:
«أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن هذه النهاية التي ينتهى إليها الإنسان فى مسيرة حياته، هى أرذل مرحلة، وأخسّها، وأسوؤها فى حياته.. إذ بها يتحول الإنسان إلى كائن هو مسخ لهذا الإنسان.. حيث تأخذ منه الحياة كل يوم شيئا، وتستردّ شيئا فشيئا ممّا كانت قد أعطته..
لقد استقبلته الحياة وليدا، فأرضعته من ثديها، النّماء، والقوة، والإدراك، والعلم، والمعرفة.. وما يزال هذا دأبها به حتى يبلغ غايته، ويستوفى كل ما يمكن أن تعطيه طبيعته.. وهنا تدعه الحياة ينفق مما أخذ منها، وفى كل يوم ينقص رصيده الذي ادخره، من النماء والقوة والإدراك والعلم والمعرفة.. وهكذا يتقلّص(9/982)
ظل هذا الرصيد شيئا فشيئا حتى يصبح ظلالا باهتة.. ثم يختفى، ويذوب، كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس..
وشتّان بين بدء الحياة وختامها.. بين وهج الطفولة وتوقدها، وخمود الشيخوخة وبرودتها.. بين إقبال الحياة وإدبارها.. بين الشروق والغروب، بين رحلة الحياة ورحلة الموت!! - وفى قوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» هو عرض لصورة الحياة والموت معا، فى هذا الإنسان الذي ردّ إلى أرذل العمر، ونكّس فى الخلق..
هو حىّ ميت، أو ميت حىّ.. إنه يعود من حيث بدأ، فقد جاء إلى الحياة لا يعلم شيئا، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً..» (78: النحل) وها هو ذا يعود طفلا «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» ..
والتعليل بقوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ» لا يتوّجه به إلى إنسان بعينه، وإنما هو موجّه إلى الناس عامة، وإلى منكرى البعث خاصة، ليروا فى هذا الإنسان، الشاهد الحىّ، الذي ينطق بأن الحياة والموت وجهان متقابلان، وأنه كما يموت الحىّ، يحيا الميّت..
وفى نظرة مشرقة صافية يمكن أن تتجلّى فى قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) صورة من صور إخراج الحىّ من الميت، وإخراج الميت من الحىّ، فى مسيرة الإنسان على طريق الحياة، من مولده إلى مماته.. أي من طفولته إلى أرذل عمره وتنكيسه فى الخلق..(9/983)
فهو فى بدء طفولته.. ميت حىّ.. وهو فى أرذل عمره حىّ ميت! وما أدقّ وأبرع قول المعرّى:
وكالنّار الحياة.. فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان
فالحياة- كما يصورها المعرى- جذوة من نار، تبدأ دخانا، وهو أول ما يكون من النار، ثم تنتهى إلى رماد، وهو آخر ما يكون منها..
وفى قوله تعالى: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» ..
عرض لصورة من صور الإحياء، والبعث، يراها أولو الأبصار، حالا بعد حال، فيما يسفر عنه وجه الأرض، من حياة متجددة عليها، ومن أثواب تلبسها، وحلى تتحلى بها، بعد أن كانت أرضا مواتا، لا معلم من معالم الحياة فيها..
فهذه الأرض الجديب القفر، يأخذها الإنسان بنظره اليوم، فإذا هى- كما يرى- موات فى موات، وصمت موحش رهيب، كصمت القبور.. ثم إذا أصابها الماء، وغاثها الغيث، «اهْتَزَّتْ» هزّة الحياة، ونبضت عروقها، وسرت الروح فى أوصالها.. «وَرَبَتْ» ونمت كما ينمو الطفل.. «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فإذا كرّ الناظر إليها بصره كرّة أخرى، رأى هذا الموات قد أصبح حياة مزهرة مثمرة، تملأ العين بهجة ومسرّة.
فماذا إذن ينكره المنكرون من بعث الموتى؟ وهل هذه القبور وما ضمّت عليه من جثث وأشلاء ورفات، تتراءى فيها صور الآدميين الذين عمروها- هل هذه القبور أبعد من بعث الحياة فيها، وإخراج خبئها- من الأرض الجديب الميتة، التي أحياها الله، فاهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؟ ذلك ما لا يقبله عقل، ولا يرضاه منطق!.(9/984)
تلك هى «قضية البعث» .. وهذه هى حيثياتها، يجدها الإنسان فى نفسه هو، من مولده إلى مماته.. فإن أعياه النظر إلى نفسه، وجدها فى الأرض التي يمشى عليها.. فإن عمى عن هذا وذاك، فهيهات أن يرى وجه الحقّ أبدا.
فإن ذلك العمى من عمى القلب، الذي ليس لمصاب به شفاء، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) ..
وهنا نحبّ أن نقف وقفة مع عملية «الخلق» وبعث الحياة فى المخلوقات.
فهذه العملية، عملية «الخلق» ، هى مما استأثر الله سبحانه وتعالى به، ليس لأحد من مخلوقاته أن يكون له معه شركة فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) .. هكذا على سبيل القصر..
فلله وجه- بلا مشاركة- «الْخَلْقُ» وهو الإيجاد، والتصوير، وبعث الحياة فى الموجودات والمصوّرات.. «وَالْأَمْرُ» وهو التقدير، لخلق ما يخلق وتصوير ما يصور.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» .
هذا، وتتطلع الإنسانية دائما إلى كشف هذا السرّ- سرّ الحياة- ويحاول العلماء والباحثون أن يصلوا إلى تلك الحقيقة، وأن يضبطوا قوانينها، وأن يضعوا أيديهم عليها، حتى يكون لهم أن يخلقوا ما يشاءون من مخلوقات، وأن يتحكموا فيما يخلقون.. من إناث أو ذكور، على اختلاف الألوان والصور!.
وقد أجرى كثير من العلماء تجارب عديدة فى هذا المجال، وزرعوا واستنبتوا فى مخابرهم خمائر للحياة.. ولكن ذلك كلّه لم يصل بهم إلى شىء(9/985)
مما أرادوا، وكلّ ما أمسكوا به فى أيديهم، هو صور باهتة، إن دلّت على شىء، فإنما تدلّ على تأكيد هذه الحقيقة، وهى أن «الخلق» لله وحده، وأن غاية العلم، لا تتجاوز أبدا أكثر من هذه الوقفة على شاطىء الحياة، بعيدا عن لمس بحرها العميق..
إن كلّ ما يجريه العلماء من بحوث، وما يضعونه من موادّ فى مخابيرهم وأنابيبهم، هو من عناصر الحياة نفسها، التي خلقها الخالق جلّ وعلا.. وأن هذه الأطياف من الحياة التي تطلّ على العلماء من مخابيرهم وأنابيبهم، إنما هى من بذور الحياة التي أوجدها الخالق، وقدّر لها سبلا تسلكها، لتثمر ثمر الحياة، فغيّر العلماء سبيلها، وعدلوا بها عن طريقها المرسوم، الذي خطّته لها القدرة الإلهية..!
فإذا نجح العلم فى هذا التدبير، واستطاع أن يصل إلى شىء من صور الخلق- وهيهات- فإن ذلك لا يعدو أن يكون نبتة من نبات تلك البذرة التي أوجدها الخالق، وكل ما كان من العلم والعلماء، هو أشبه بنقل نبات من تربة غير تربته، واستنبات نوع من النبات فى غير موطنه.
والذي نحبّ أن ننبه إليه هنا، هو أن الإسلام- شريعة وعقيدة- لا ينظر إلى تلك المحاولات التي يحاولها العلم فى حقل الحياة- نظرة متكرهة أو معادية، بل إنه يزكّى هذا البحث العلمي، ويطلق للإنسان العنان فى البحث والدرس، وإجراء ما يشاء من التجارب فى عملية الخلق، فهذا كله قراءة فى كتاب الكون، وتأمل وتدبّر فى آيات الله.. وما يصل إليه الإنسان من كشوف علمية، وحقائق كونية، هو منظور إليه من جانب الإسلام على أنّه رسالة العلم، فى الكشف عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. الأمر الذي يفتح للناس الطريق إلى الإيمان بالله، ويجلّى عن عقولهم وقلوبهم غياهب الشك والشرك(9/986)
والإلحاد.. وهنا يمكن أن يقوم العلم فى الدعوة إلى الله، مقام الرسل والأنبياء! ..
ومن جهة أخرى، فإن العلماء الذين يبلغ بهم علمهم هذا المدى الذي يطلعون منه على الناس بهذه الآيات المعجزة- هؤلاء العلماء هم فى الواقع آية من آيات الله.. فما هم إلا صنعة الخالق، الذي خلق فسوّى، فجعل من ابن الماء والطين، هذه القوة القادرة على أن تجىء بهذا الإعجاز العظيم..
فمر حى بالعلم، ومزيدا من آياته ومعجزاته.. فحصاد هذا كلّه، وثمر هذا كله، عائد إلى الإنسان، فى حياته المادية والعقلية والروحية.. وما كان لدين- أي دين- أن يعطل ملكات الإنسان، أو يقيد يديه عن العمل فى كل مجال يستطيع العمل فيه- سواء أخطأ أم أصاب، مادام يطلب الخير، ويلقى إليه، بشباكه فى الأرض أو فى السماء..!
على أن هناك حقيقة، نودّ أن نضعها بين يدى العلماء، دون أن نقطع الطريق عليهم فيما هم سائرون إليه، نحو البحث عن الحياة، واستيلاد الأحياء، أو خلقهم، ودون أن ندخل اليأس عليهم، ونوصد فى وجههم هذا الباب..
فنحن وإن كنا على يقين بأن العلم- فى عالم البشر- لن يخلق الحياة أبدا، فإننا ندعو إلى مزيد من البحث والانطلاق فى هذا المجال إلى أبعد غاية، فإن هذا البحث- فى الواقع- لن يضيع هباء، بل إنه سينمّى معارف الإنسان، ويزيده علما إلى علم..
ومن يدرى؟ فلعل العلماء إذا أخطأهم الوصول إلى «الحياة» وفاتهم الحصول على سرّها، لعلهم يجدون فى طريقهم أسرارا أخرى، هى أجدى على(9/987)
الإنسانية وأنفع لها، فيما يدفع عن هذه «الحياة» ما يعانيه الناس من غوائل الأوبئة والأمراض..
أما الحقيقة التي أريد أن أصارح العلماء بها، فهى ما صرّح به القرآن الكريم فى الجزء الأخير من هذه السورة، وهو قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» .
فهذه آية متحدّية، للناس، ولما يعبد الناس من مخلوقين يرونهم آلهة، بما فى أيديهم من سلطان مادى أو روحى..
فالناس، فردا فردا، وجماعة جماعة.. «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» .. وهو أضأل المخلوقات وأضعفها.. «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» .. واحتشدوا له من أقطار لأرض كلها، وجاءوا بكل ما معهم من علم..
والذباب لا يعدو أن يكون دودة متخلّقة من مخلقات المواد القذرة والمتعفنة، فهو- بهذه الصورة- أدنى مراتب الحياة، وأنزل منازلها.. ومع هذا فإن الناس كلهم لن يخرج من أيديهم بكل ما معهم من علم، أن يخلقوا ذبابة واحدة! وأكثر من هذا، فإن هذا الذباب الذي عجزوا عن خلقه، هو- فى حال من أحواله- أقوى منهم، وأقدر على الكيد لهم.. وأنه إذا سلبهم سيئا لا يستنقذونه منه، ولا يستطيعون له ردّا..
والذباب أنواع كثيرة.. منه الذباب المعروف، ومنه ذباب الفاكهة، ومنه الزنابير وغيرها..(9/988)
فهب أن طائفة من هذه الطوائف، خلت بطعام فالتهمته، أو وقعت على شجرة من أشجار الفاكهة فأتت عليها- أيكون فى مستطاع أحد أن يستردّ ما أكل الذباب؟ ذلك محال..
وفى التعبير عن أكل الذباب «بالسلب» إشارة إلى أن ما أكله لم يكن عن رضى من أصحاب هذا المأكول.. فهو أشبه بالسلب والغصب، وفى هذا إظهار لضعف الإنسان، ووقوعه تحت بأس هذا المخلوق الضعيف، الذي يعدّ أضعف ما خلق الله، فى عالم الأحياء! وفى قوله تعالى: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» تعريض بالإنسان، وبغروره الذي يخيّل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.. إنه والذباب على سواء، كلاهما عاجر ضعيف.. وإن كان الذباب- فى بعض الأحوال- أقوى منه، وأقدر على الكيد له! وليس هذا التصوير لضعف الإنسان، استخفافا به، وإطفاء لجذوة الطموح المتّقدة فى كيانه، وإنما هو استشفاء للإنسان من داء الغرور، الذي كثيرا ما يستبدّ به، ويفسد عليه وجوده، فإذا هو- وقد استوى على ظهر الغرور- قوة غاشمة، وإعصار مجنون، وعاصفة هو جاء، تهلك الحرث والنسل، حتى إذا انطلقت إلى غايتها دارت حول نفسها دورة، ثم هوت كما تهوى الصاعقة فى الوحل والطين! إن الإسلام ليستقبل كل ما يفتح به العلم للناس من أسرار الوجود، فى حفاوة وإعزاز، إذ كان ذلك- كما قلنا- هو الطريق المستقيم إلى الله، وهو الذي يقيم العقول والقلوب على الإيمان بالله، إيمانا مصفّى من كل ريب، مبرأ من كل ضعف.. فهذا الكون هو كتاب مفتوح لكل ناظر، وآيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، هى مراد لأنظار العلماء، ومسبح لخواطرهم ومداركهم..(9/989)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
وليس على أحد حرج فى أن ينظر فى الكون كيف يشاء، ويسبح فى الوجود حيث يريد.. بل إن هذا الوجود لا يحسن التعامل معه، ولا يقطف من جنى ثمره الطيب، إلا أهل العلم والمعرفة، وأنه على قدر ما يبلغ الإنسان من العلم يكون حظه من التلقي والانتفاع بهذا الخير المخبوء فى صدر الكون.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (43:
العنكبوت) .
ومرة أخرى.. مرحّى بالعلم، ومزيدا من جهاد العلماء، ومن فتوحاتهم فى آفاق هذا الوجود، الذي على الرغم من هذا السعى الجادّ لكشف أسراره، وعلى الرغم مما يبذل العلماء فى كل عصر، وفى كل أمة من جهود مضنية وتضحيات سخية فى هذا المجال- فإن الإنسانية ما زالت على الشاطئ بعد، لم تكد تبتلّ أقدمها من بحر المعرفة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (85: الاسراء) .
الآيات: (6- 14) [سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 14]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)(9/990)
التفسير:
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» .
الإشارة هنا، إلى هذا العرض الرائع المعجز، الذي كشف عن آيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، والتي تتجلى فيها عجائب قدرة الله، وحكمته، وعلمه، وذلك فيما تحدثت به الآية السابقة عن خلق الإنسان، وتطوره فى الخلق، من تراب ثم من نطفة، ثم من، علقة، ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة، ثم الميلاد، والطفولة، والصّبا، والشباب، والكهولة والشيخوخة، وما بعد الشيخوخة..
فذلك البيان، إنما هو ليرى منه الناس دلائل الإيمان بأن الله هو الإله الحقّ، وما سواه باطل وضلال، وأنه- سبحانه- يحيى الموتى، وأنه على كل شىء قدير، لا يعجزه شىء، ولا تقف أمام قدرته حدود أو سدود.. فإذا أخبر- سبحانه- أن الساعة آتية، فذلك وعد حقّ، لا بدّ من أن يتحقق، وليس لمؤمن بالله هذا الإيمان الذي قام على النظر فى عجائب صنع الله- ليس لمؤمن عندئذ أن يسأل بعد هذا، عن إمكانية البعث، وعن الصورة التي يكون عليها.. وإنما عليه أن يؤمن إيمانا مطلقا بأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من(9/991)
فى القبور.. أما متى تأتى فذلك علمه عند الله.. وأما كيف يكون المبعث فذلك إلى قدرة الله!! قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» .
تحدّثت الآيات السابقة عن صنف من المجادلين بغير علم حيث يتصدّى الواحد منهم بجهله، لكل رأى، ويدخل فى كل قضية، آخذا الطّرف المنحرف منها، دون أن يكون له رأى نظر فيه بعقله، وهدى إليه بتفكيره.
وإنما هو الخلاف عن هوى وعمى، ليثبت وجوده أمام نفسه، ويعلن عن ذاته بأنه من أصحاب الرأى، وأنه إذا كان للعلماء ما يقولون، فإن له هو ما يقول!! وفى هذه الآية أصناف من الناس، يجادلون بغير علم من أنفسهم، أو بهدى من غيرهم، أو عن كتاب صحيح فى أيديهم، ليجمع الواحد منهم هذه الضلالات كلها.. فيكون جاهلا فى نفسه، ثم يكون متأبّيا على من يدعوه إلى العلم، ثم يكون مع هذا غير ناظر فى كتاب صحيح.. ومع هذا فهو يجادل فى الحق، ويدفعه بيديه دفعا.
وقد يجادل أحدهم وهو جاهل لا علم عنده، ولكنّه يردّد كلمات سمعها من غيره دون أن يعقلها، ويتعرف إلى ما فيها من هدى وضلال.. ثم يتخذ من هذه الكلمات مادة للجدل.. وقد يستند أحدهم فى جدله إلى كتاب قد دخل عليه الافتراء والكذب، فاختلط فيه الحق بالباطل.. وفى ذلك تعريض بأهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين زيّفوا التوراة، ثم استقبلوا بها النبىّ يجادلونه، ويجاجّونه بما فيها من أحكام وأخبار، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» .. فالكتاب الذي كان منحرفا، غير ملتزم طريق الحق، كان قوة عاتية من قوى الضلال والفساد. إنه يقود إلى الضلال والظلام..(9/992)
قوله تعالى:
«ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» .
أي أن هذا المجادل الجهول، يجادل، وهو ثان عطفه، أي مائل بجنبه، تيها وكبرا، واستنكافا عن أن يسمع دعوة الحقّ، وهو مقبل عليها بوجهه، بل يعطيها ظهره، أو يلقاها بجنبه، إمعانا فى الكبر، ومبالغة فى العناد.
وفى قوله تعالى: «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» - إشارة إلى أنه بفعله هذا قد أراد أمرا، هو إضلال نفسه، وإبعادها عن الخير.. إنه يحسب أنه يكيد بهذا لمن يدعوه إلى الله، وهو فى الواقع إنما يكيد لنفسه، ويوردها موارد الهلال، كما يورد الذين اتبعوه هذا المورد.
«لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وذلك بما يرى من إعزاز الله للنبىّ والمؤمنين، ومن خذلانه سبحانه وإذلاله لجبهة الكافرين والمشركين، الذين كان هذا الضالّ مظاهرا لهم، ومحاربا فى جبهتهم..
«وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» وكما أنه لم يكن يقع فى حسابه أن يجىء اليوم الذي تنهار جبهة الكفر، وتتعفّر فيه جباه الكافرين بالتراب، وقد جاء هذا اليوم الذي أخزاه وأذله- كذلك لم يكن يقع فى تقديره أن يبعث، وأن يجىء يوم القيامة، وأن يحاسب على ما قدم من آثام- ألا فليعلم أن هذا اليوم آيات لا ريب فيه، وسيلقى العذاب المهين فى الآخرة، كما لقى الخزي والهوان فى الدنيا..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .(9/993)
أي أن ذلك العذاب الذي يساق إليه هذا الضال وأمثاله، إنما هو بسبب ما قدمت يداه من سوء، فوجد هذا السوء حاضرا، ينتظره على مشارف جهنم.. «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .. بل يجزيهم بما عملوا من حسن أو سوء: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) .
وفى نفى المبالغة فى الظلم عن الله فى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» - إشارة إلى أن ما يلقى الضالون، والآثمون من عذاب فى الآخرة، جزاء ما عملوا- هو عذاب شديد، وبلاء عظيم، لم يعرفه الناس فى حياتهم الدنيا.. وحتى أن الناظر إلى سوء هذا العذاب- ليستكثره، ويرى أن لا ذنب- وإن عظم- يستحق به صاحبه بغض هذا العذاب، وحتى ليقع فى نفسه أن ظلما شديدا وقع على هذا الإنسان المنكود، الذي يشوى بنار جهنم، هكذا على مدى السنين والدهور.. لا يموت فيها ولا يحيا.. وكلا، فإنه لا ظلم، ولا مبالغة فى ظلم، وإنما هو الحق، والعدل، وإن كان عذاب السعير، والخلود فى هذا العذاب..
قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» .
وهذا صنف آخر من الناس..
وهذا الصنف، يقف على مفارق الطريق بين الإيمان والكفر.. يضع إحدى رجليه على طريق الإيمان، ويضع الأخرى على طريق الكفر.. إنه(9/994)
يعبد الله على حرف، أي على جانب واحد، دون أن يعطى الله وجوده كلّه.
فإن أصابه فى دنياه خير ومسّته عافية، اطمأن، ووضع رجليه معا على طريق الإيمان..
وإن أصابه شىء ابتلى به فى ماله، أو ولده أو نفسه «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» أي أعطى الإيمان ظهره.. وأنكر الله، وتنكّر له، ونسى نعمته عليه، وإحسانه إليه.
وهذا نفاق مع الله، أقبح وجها، وأشد نكرا من النفاق الذي يعيش به المنافقون فى الناس.. إنه مكر بالله، واستخفاف به- وفى قوله تعالى: «خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ» إشارة إلى أن هذا النفاق مع الله يقضى على صاحبه بخسران الدنيا والآخرة جميعا.. فهو قد خسر الدنيا، لأن ما ابتلاه الله، لا يدفعه عنه هذا الكفر بالله، الذي لقى به ابتلاء الله له..
وهو قد خسر الآخرة، لأنه سيلقى الله على كفره هذا، وللكافرين عذاب أليم.
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» أي الخسران العظيم الواضح، الذي ليس فيه شبهة.. إذ كانت خسارة الدنيا فيه محققة، لأنها وقعت فعلا، ولو كان مؤمنا بالله، لوجد فى التسليم له والرضا بقضائه، عزاء يخفف من مصابه، ويهوّن من مصيبته.. وخسارة الآخرة ستتحقق أيضا، لأنها واقعة لا شك فيها، إذ هكذا سيعلم هذا الذي يعبد الله على حرف، وإن فتنه الابتلاء، وأضلّه عن سواء السبيل..
قوله تعالى:
«يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» .(9/995)
أي أن هذا الضالّ، الذي يعبد الله على حرف، إذا ولّى وجهه إلى غير الله، حين يبتلى من الله بضر- فإنما يزداد ضلالا إلى ضلال، وابتلاء إلى ابتلاء، لأنه يفرّ من وجه الله، ويفزع من بلائه إلى من لا يملك ضرّا ولا نفعا..
إنه جهد ضائع، وعمل فاسد.. وذلك هو الضلال البعيد..
وفى تقديم الضرّ على النّفع، إشارة إلى أن هذه المعبودات التي تعبد من دون الله، لا تملك الضرّ، الذي يملكه لله وحده، والذي يفرّ منه هذا الضال الذي إن شاء الله ضاعف عليه البلاء، ورماه بالضرّ بعد الضرّ.. ففى هذا تهديد لهذا الضال، أن يأخذه الله، بابتلاء آخر، يتبع هذا الابتلاء الذي ابتلى به، وكفر بالله من أجله..
قوله تعالى:
«يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» .
أي أن هذا الضال الذي دعا غير الله لكشف ضرّه، إنما يدعو من يضرّ ولا ينفع، وفيه يصدق قول القائل:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنّار
فالالتجاء إلى غير الله، مضلة، إذ لا يملك أحد معه من الأمر شيئا..
«وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» (107: يونس) .
وهؤلاء الذين يلجأ إليهم المكروبون، من أصنام، أو حيوان، أو إنسان، إنما ضرّهم أقرب وأكثر من نفعهم.. ذلك أنهم إن وجد فيها عابدوهم بعض الراحة النفسية بما يداعب خيالهم من آمال كاذبة، وهم يفزعون إليهم،(9/996)
ويضرعون تحت أقدامهم، فإن الأمر سينجلى عن خيبة، وينكشف عن حسرة إذ كان قد فاتهم أن يعملوا جهدهم فى علاج البلاء الذي وقع بهم، أو أن يوطّنوا النفس على احتماله.. فإذا انكشف الأمر عن عجز هؤلاء المعبودين عن مدّ العون فى هذا الموقف، كان الخطب أفدح، والمصيبة أعظم..
وهكذا شأن كثير من الذين يفزعون إلى الأضرحة، ويتعلقون بأبوابها، وأستارها، ويتمسحون بأعتابها وترابها، كلما مسّهم ضر، أو كربهم كرب..
فتراهم هناك يقضون أيامهم ولياليهم فى ترديد عبارات الرجاء، وطلب الغوث، غير ناظرين إلى ما طرفهم من أحداث، وما جلّ بهم من ضرّ، فلا يعاجلونه بالجدّ والعمل، ولا يلقونه بالأسباب العاملة فى دفعه، أو تخفيف أثره، منتظرين هذه القوى الخفية التي يلمحونها من وراء تلك الأضرحة أن تقوم عنهم بما كان يجب أن يقوموا هم به، وأن تتولى عنهم ما كان ينبغى أن يتولوه هم بأنفسهم..
ومن غير دخول أو تعرّض إلى ما تضمّ هذه الأضرحة من صلاح وتقوى فيمن أودعوا فيها من عباد الله الصالحين.. ومن غير اعتراض أو تعرض لما ولأولياء الله من كرامات فى الدنيا. ومن غير بحث أو جدل فيما قد يكون أو لا يكون من اتصال كراماتهم فى حياتهم، وبعد موتهم- فإن الذي يقضى به العقل، وتوجيه سنن الحياة، هو أن تعالج الأمور بأسبابها، وأن يؤتى إليها من أبوابها، وأن يلقاها الأحياء بواقع الحياة، وألّا يسلموها إلى تلك الغيبيّات التي لا يرون مجرياتها، ولا يدرون ما تأتى وما تدع من أمور..
هذا ما يقضى به العقل، وما تفرضه سنن الحياة..! وهو عين ما يقضى به الإيمان بالله.. حيث أوجب الإيمان على المؤمنين أن يعملوا، وأن يواجهوا الحياة بعقولهم، وحواسّهم، وقواهم العقلية والجسدية معا، وأن يتقبلوا بعد هذا(9/997)
ما يعطيهم جهدهم من ثمر قليل أو كثير، فإن أصابهم خير حمدوا الله وشكروا له، وإن أصابهم ضرّ استعانوا الله بالصبر عليه، والتمسوا العافية وكشف الضرّ منه..!
هذا هو سبيل المؤمنين، الذين يمتثلون أمر الله سبحانه بالعمل، كما يقول سبحانه: «وَقُلِ اعْمَلُوا» ثم يسلمون أمورهم كلّها له سبحانه.. غير ناظرين إلى غيره، أو طامعين فى غير فضل من فضله أو رحمة من رحمته..!
هذا وقد أشرنا إلى هذا فى مبحث خاص، تحت عنوان: «الوسيلة والتوسل» فليرجع إليه من شاء «1» .
وفى قوله تعالى: «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» هو ذمّ لهؤلاء المعبودين لا من حيث ذواتهم وأشخاصهم، وإنما من حيث العون الذي ينتظره العابدون منهم.. فهم لا يملكون لهم من الله شيئا، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» (14: فاطر) ..
فالذمّ متجه إلى الثمرة المرجوّة من هؤلاء المعبودين.. إنها سراب ينخدع له أولئك الذين تتعلق أبصارهم به، وتنعقد آمالهم عليه..
والمولى: هو القريب، والسيد.. الذي يرجى عونه ونصرنه.
والعشير: المعاشر من أهل وأقارب..
ويجوز أن يكون الذم متوجها إلى المعبودين، من أصنام أو ناس يدعون الناس إلى عبادتهم..
__________
(1) انظر الكتاب الثالث من التفسير القرآنى للقرآن.(9/998)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» .
هو صورة مقابلة للمشركين والكافرين، وما حصلوه من التعبد لغير الله.. فقد كان جزاؤهم الخزي فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة..
أما الذين تعبدوا لله، وأعطوه ولاءهم، ودانوا له بالطاعة، وتقربوا إليه بالأعمال الصالحة، فقد ربحوا ربحا عظيما، حيث أعزهم الله فى الدنيا، وأنزلهم فى الآخرة منازل الرضوان، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» إشارة إلى سلطان الله وقدرته ومشيئته المطلقة، وأنه يفعل ما يريد، دون معترض أو معوق، أو معقب..
وفى هذا تعريض بالآلهة التي يعبدها الضالون من دون الله، حيث هى فى قيد العجز، لا تملك ضرّا ولا نفعا..
الآيات: (15- 18) [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 18]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)(9/999)
التفسير:
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ» .
هذه الآية تعرض تجربة عملية، تدعو إليها أولئك الذين يعبدون الله على حرف فيؤمنون به إن أصابهم خير، ويكفرون به إن مسهم ضر..
وهذه التجربة وإن لم يمكن إجراؤها إجراء واقعيا، فإنه يمكن أن تمثّل وتتصور تصورا..
وهو أن يمد الإنسان سببا، أي حبلا إلى السماء وأن يتخذ من هذا الحبل سلّما يصعد به إلى أعلى، ويرقى إلى منازل العزة والسيادة- فإن فعل هذا، وحدثته نفسه أن هذا لا يحقق له شيئا مما يريد، فليقطع هذا الحبل، ثم لينظر هل ينفعه كيده.. هذا فى قطع الحبل؟ إنه قطع السبب الذي كان من الممكن أن يصعد به، وإنه ليس من وسيلة إلى ذلك إلا بمثل هذا الحبل الممدود.. وأما وقد قطع الحبل، فإنه سيهوى إلى الأرض، ويسقط جثة هامدة لاصقا بالأرض، لا يبرحها أبدا..
والصورة- كما قلنا- قائمة على التمثيل، والتخيل..
فالذى يؤمن بالله، هو كمن مدّ حبلا بينه وبين ربه، وأمسك بالسبب الذي(9/1000)
يستطيع به أن ينال من الله ما وعده، من عزة ونصر فى الدنيا، وخير ونعيم كبير فى الآخرة..
فإذا شك هذا المؤمن فى أن ينال من الله ما وعده، وهو ممسك بهذا السبب الذي بينه وبين ربه، فليقطع هذا السبب، وليخل يده منه.. ثم لينظر ماذا يكون من أمره؟ أنه سيجد نفسه قد سقط على هذا التراب، ولصق به، ثم لا يكون له بعد ذلك سبيل إلى أن يتحرك نحو هذا الخير القائم على طريق هذا السبب الممدود بينه وبين السماء! ..
إن الإيمان بالله هو السبب- ولا سبب غيره- الذي يمكن أن ينال به الإنسان القرب من ربه، والتعرض لفضله وإحسانه.. فإذا قطع هذا السبب، فقد قطع كل سبب يدنيه من الله، ويفتح له مغالق السعادة والرضوان..
فإذا وقع لهذا المؤمن بالله، ما تضيق به نفسه من البلاء، وما يظنّ به الظنون بربّه، فليكفر بالله، ثم لينظر ماذا يجدى عليه كفره؟ هل يكشف عنه البلاء الذي نزل؟ وهل يدفع عنه الضرّ الذي وقع به؟ إن يكن قد نفعه ذلك- وهذا محال- فليمسك بكفره، وإلا فليعد إلى الإيمان، وليشدّ يده عليه، وإن أضرّه الضرّ، وكربه الكرب.. إنه ممسك بحبل النجاة فى متلاطم الموج، وإن من الضلال أن يقطع هذا الحبل مختارا، ففى ذلك ضلال محقق، على حين أنه يكون فى معرض النجاة ما دام ممسكا بحبل النجاة! قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» .
الإشارة هنا إلى هذه الآية الكريمة، وما فيها من حجة قاطعة، ومثل واضح بيّن، على أن طريق النجاة هو الإيمان بالله، وأن هذا الإيمان هو حبل النجاة،(9/1001)
فمن لم يمسك به فهو فى الهالكين، ومن أمسك به، ثم قطعه فهو فى الهالكين أيضا.
والضمير فى «أَنْزَلْناهُ» يعود إلى القرآن الكريم، وأن آياته كلّها آيات بيّنات كهذه الآية البيّنة، التي صورت الإيمان بالله هذا التصوير الواضح البين.
وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» - إشارة إلى أن آيات الله مع وضوحها وبيانها، لا يهتدى بها، إلا من أراد الله له الهداية، وفتح بصره وقلبه إليها، وأراه الهدى والنّور منها.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) .
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» .
هذا بيان للناس جميعا، على اختلاف معتقدهم فى الله.. وهم:
الذين آمنوا إيمانا خالصا بالله. وهم المؤمنون.
والذين هادوا.. وهم اليهود.
والصابئون.. وهم من أنكروا وجود الخالق أصلا..
والنصارى.. وهم الذين عبدوا المسيح من دون الله.
والمجوس.. وهم الذين عبدوا النّار، تقربا إلى الله، كما عبد المشركون الأصنام، تقربا إلى الله.
- هؤلاء هم الناس جميعا، وهؤلاء جميعا يفصل الله بينهم يوم القيامة، ويميز المهتدين من الضالين منهم، ويجزى كلّا بما كسب.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» فهو- سبحانه- عالم بكل فريق منهم، وبكل فرد من كل طائفة فيهم، لا تخفى عليه خافية، من كبير أعمالهم وصغيرها.(9/1002)
هذا، ويلاحظ هنا:
أولا: «أن الذين هادوا والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا.. هؤلاء جميعا ليسوا فى عداد المؤمنين بالله.. وذلك لما شاب إيمانهم من قليل أو كثير، من الضلال والفساد.. ولهذا جاء ذكرهم كأصناف أخرى، خارجة عن صنف المؤمنين.
وثانيا: جاء نظم هذه الآية فى سورة المائدة هكذا:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (الآية: 69) .
والناظر فى الآيتين يرى:
أولا: أن الآية الأولى- آية الحج- لم تعتدّ بإيمان غير إيمان المؤمنين بالله. وأن الآية الثانية- آية المائدة- قد دعت المؤمنين وغير المؤمنين من هؤلاء الطوائف إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وأن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. وذلك لأن الإيمان- لكى يكون إيمانا صحيحا- لا بد أن يصحبه عمل، فالإيمان بلا عمل، كلا إيمان..
ومن هنا كان على المؤمنين لكى يدخلوا فى الحكم الذي قضت به الآية، وهو قوله تعالى: «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» - كان عليهم أن يكملوا إيمانهم بالعمل الصالح، فهم بغير العمل الصالح مؤمنون، وغير مؤمنين!.
وثانيا: أن الآية الأولى- آية الحج- عطفت «الصَّابِئِينَ» عطف نسق على ما قبلها، كما عطفت ما بعدها عطف نسق عليها، حيث دخل الجميع تحت حكم النصب بأداة النصب «إن» .. على خلاف ما جاء فى آية المائدة، حيث انقطع «الصابئون» قبلهم ومن بعدهم.. فما السرّ فى هذا؟
والسرّ- والله أعلم- أن آية المائدة تدعو المؤمنين وغير المؤمنين إلى(9/1003)
منزلة لا ينالها إلا من يحقق الأمرين معا: الإيمان، والعمل الصالح.
والمؤمنون.. مؤمنون ولا شبهة فى إيمانهم.
واليهود.. مؤمنون، وفى إيمانهم شبهة، وهى أنهم يؤمنون بالله، ولا يؤمنون باليوم الآخر.
والنصارى مؤمنون بالمسيح ابنا لله، فهو إيمان مشبوه.
أما «الصَّابِئُونَ» فهم لا يعترفون بإله قائم على هذا الوجود، بل هم دهريّون، أو طبيعيون.
ولهذا، عزلوا عن هذه الطوائف الثلاث، لأنهم أبعد الناس عن الإيمان، ومع هذا فإن شأنهم شأن هؤلاء المؤمنين على اختلاف وضعهم من الإيمان، وأنهم إذا آمنوا بالله وعملوا الصالحات- دخلوا فى هذا الحكم العام:
«فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .. أما من ذكروا فى آية الحجّ فهم على منزلة واحدة فى الحكم الذي يؤخذون به يوم القيامة، وهو أن الله يفصل بينهم، على الحال التي يكون عليها كل منهم..
وثالثا: لم تذكر آية المائدة، المجوس، ولا المشركين، على حين ذكرتهم آية الحج..
والسرّ فى هذا- والله أعلم- أن المجوس والذين أشركوا، هم على صورة مشابهة لليهود والنصارى فى إيمانهم إيمانا مشوبا بالضلال.. فلم يذكروا عند الدعوة إلى تصحيح إيمانهم، لأن فساد إيمانهم أظهر من فساد إيمان اليهود والنصارى، إذ كان مع اليهود والنصارى شبهة إيمان بالكتب السماوية التي معهم، على حين لم يكن المجوس والمشركين شىء من هذا، فهم مطالبون- من باب أولى- بتصحيح إيمانهم، بصورة ألزم من مطالبة اليهود والنصارى(9/1004)
بتصحيح معتقدهم فى الله، وإيمانهم به.. ففى ذكر اليهود والنصارى ذكر ضمنىّ- ومن باب أولى- للمجوس والذين أشركوا.
أما فى موقف الفصل والحساب والجزاء، فكل طائفة على منزلتها..
فكان لا بدّ من ذكر المؤمنين، ومن ذكر من معهم شبهة من الإيمان، وهم اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن لا شبهة من إيمان معهم، وهم الصابئة والمشركون.. وذلك حتى لا يقع فى وهم المجوس والذين أشركوا، أنهم غير مأخوذين بهذا الحكم، وأنهم ناجون من الحساب والجزاء..
ففى موقف الفصل والجزاء يأخذ كلّ مكانه، لا مع الطائفة التي ينتمى إليها وحسب، بل سيأخذ مكانه الخاصّ به فى الطائفة التي هو منها قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» .
فى هذه الآية تعريض بالكافرين والمشركين، وغيرهم، ممن لا يعطون ولاءهم خالصا لله.. فعلى حين أن الوجود كلّه قائم على هذا الولاء المطلق الخالص لله- فإن كثيرا من الناس- والناس وحدهم فى عالمنا- يخرجون على هذا الولاء العام المطلق لله، ويأبون أن يسجدوا له، فإن سجدوا كان سجودهم لغير الله.. وهذا فوق أنه كفر بالله، وجحود بآلائه ونعمه، هو شرود وضلال عن الاتجاه العام، الذي يتجه إليه الكون كلّه، وسباحة متحدية للتيار الهادر الذي لا يغالب، والذي لا يلبث أن يغرق فيه كلّ من سبح فى غير مجراه!(9/1005)
إن من فى السموات ومن فى الأرض، من عوالم ومخلوقات كبيرة أو صغيرة، عاقلة، أو غير عاقلة، حيّة أو جامدة.. كلها تسبح بحمد الله، وتنقاد لمشيئته، وتخضع لأمره.. إلّا هذا الصنف الشقىّ الضالّ من بنى الإنسان! وإن هؤلاء الأشقياء، لفى عزلة عن هذا الوجود، بل وفى حرب معه.. إنهم أشبه بجماعة من الخارجين على نظام المجتمع والعابثين بحرماته ومقدّساته..
فالمجتمع كله حرب عليهم، وإنهم لن يفلتوا من عقابه!.
وتسبيح الكائنات بحمد الله، هو فى جريانها على سنن الله التي أقامها عليها.. فهى لا تخرج أبدا عن هذه السّنن، ولا تفلت من عقد الوجود الذي انتظمت فى سلكه، وكانت حبّة من حبّاته.. «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!» (40: يس) وفى هذا انقياد لله، وولاء له..
والإنسان وحده- فيما يظهر لنا- هو الذي منحه الله إرادة عاملة، ومشيئة تسمح له بأن يختار الطريق الذي يرضاه، دون قهر أو إلزام..
وليست كذلك الكائنات الأخرى، التي لا تملك هذه الإرادة، ولا تجد تلك المشيئة، إنها مسخّرة، على حين أن الإنسان مخيّر ومريد.. إنها لا تملك من أمرها شيئا، على حين أن الإنسان هو سيد نفسه، ومالك أمره.. وهذا تكريم من الله له، إذ جعله سبحانه وتعالى على صورة أقرب إلى صورته، فجعله مريدا، عالما، مختارا.. كما يشير إلى ذلك الحديث: «خلق الله آدم على صورته» .
وهذا التكريم، هو ابتلاء لآدم، وهو الأمانة التي حملها، وأبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها.. وكان عليه أن يثبت لهذا الامتحان، وأن يؤدى الأمانة التي حملها، حتى يكون أهلا لهذا التكريم،(9/1006)
وإلّا كان عليه أن يتحمل تبعة نكوصه وتخاذله، وأن يتجرع مرارة هذا الإخفاق، وأن يخلع ثوب الإنسانية، ليعيش مسخا قزما، مشوّه الخلق بين أبناء جنسه، الذين اعتدل خلقهم، وسلمت لهم فطرتهم، وذلك هو الشقاء الأليم والعذاب المهين..
- قوله تعالى: «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» معطوف على قوله سبحانه: «يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» .. أي ويسجد له كثير من الناس..
- وفى قوله تعالى: «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» هو استئناف، أي وكثير من الناس لا يسجدون لله، فحق عليهم العذاب.. أي وجب ولزم..
وفى قوله تعالى: «عَلَيْهِ» بدلا من «عليهم» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس الذي أبى السجود لله، هو فى عداد غير العقلاء.. «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» (179: الأعراف) فهم وإن كانوا أعدادا كثيرة، أشبه بكيان واحد يجمع كتلة متضخمة من الضلال والفساد..
قوله تعالى: «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» - هو موجّه إلى تلك الجماعات التي شردت عن الحق، وضلّت عن سواء السبيل، وهى كلّ الطوائف غير المؤمنة التي أشار إليها سبحانه وتعالى فى قوله: «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» .. فهؤلاء ممن أهانهم الله، إذ لم يدعهم إليه، ولم ينزلهم منازل رضوانه، فشردوا وضلّوا.. فالكفر بالله هو أمارة الإهانة من الله للكافر، إذ لم يكن أهلا لأن يدعى إلى جناب الله، مع من دعوا إليه من عباده الذين آمنوا، لما اشتمل عليه كيانه من داء خبيث، لا ينبغى له أن يخالطه الأصحّاء ومعه هذا المرض، الذي يفتال إنسانيته، ويفسد معالمها.
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» هو ردّ على سؤال أو تساؤل،(9/1007)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
قد يرد على لسان بعض الناس.. وهو: لماذا أهان الله هؤلاء الذين لم يؤمنوا به؟ ولماذا لم يدعهم إلى الإيمان، كما دعا المؤمنين وأراد لهم الإيمان؟
فكان الجواب: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» ! فمن كان له حيلة فليحتل، ومن كان له مع الله شىء فليأت به! .. فلتخرس الألسنة إذن، وليحمد المؤمنون الله أن هداهم إلى الإيمان، وليدع الضالون ربّهم أن يهديهم.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف)
الآيات: (19- 25) [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 25]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
التفسير:
قوله تعالى:
«هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ(9/1008)
مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ
بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ..» .
الخصمان: هما المؤمنون، والكافرون على اختلاف ضلالاتهم..
واختصامهم فى ربهم، هو اختلافهم فيه.. فالمؤمنون على طريق إلى الله، والمشركون والكافرون ومن على شاكلتهم، على طرق شتى تختلف عن هذا الطريق.. فهذا الاختلاف، هو أشبه بالخصام الذي يفرّق بين المتخاصمين..
ثم بينت الآيات بعد هذا، ما أعدّ الله لكل من هذين الخصمين المختصمين فى الله، من عذاب، أو نعيم.
- «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ» أي أنهم يلبسون النار، أو تلبسهم النار، فيكونون كيانا واحدا معها، بحيث تشتمل على الجسد كلّه، وتغطيه، كما يغطى بالثوب! ثم مازال هناك شىء من الجسد لا تغطيه الثياب، وهو الرأس، الذي يغطى بالعمائم، والتيجان، ونحو هذا..
وإذن فلتتوج رءوسهم، ولكن بتيجان من نار، وبعمائم من جهنم.
- «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» ، وهو الماء الذي يغلى فيشوى وجوههم ثم يتخلل تلك الثياب، فيصهر ما فى بطونهم من أمعاء، وأكباد، وقلوب، وغيرها مما تحويه البطون.. كما يصهر الجلود، ويذيبها فتكون كتلة مذابة مع اللحم والعظم..
وليس هذا فحسب.. بل إن لهم طرائف يطرفون بها، كما كانوا(9/1009)
يطرفون فى الدنيا بألوان النعيم الذي شغلهم عن الله.. فهناك «مَقامِعُ» أي مطارق من حديد.. لعلها تعمل تلقائيا من نفسها.. كلما أرادوا أن يخرجوا من ثيابهم النارية تلك، أخذوا بهذه المقامع، فردّوا فيها.. وقيل لهم اخسئوا، وذوقوا عذاب الحريق..
وهذه الصور من ألوان العذاب، هو مما يتصوره الناس فى الدنيا، بل ومما يأخذون به بعضهم بعضا.. فكم من صور هذا العذاب الجهنّمى استخدمه الجبابرة والظلمة فى تعذيب من يخرج على سلطانهم، ويتحدّى تسلطهم وجبروتهم..
فهذا العذاب الدنيوي يجده المجرمون يوم القيامة حاضرا عتيدا، فيما يجدون من صور شتى من عذاب الآخرة، وذلك ليذوقوا ما أذاقوه للناس فى دنياهم، وليسقوا بكأس كانوا يجدون اللذة فى أن يتجرع الناس مرارتها، سواء أكان عذاب الآخرة حسيا أو معنويا، جسديا أو نفسيا، وليست هذه الصور الحسيّة التي ذكرها القرآن لعذاب الآخرة، من ثياب من نار، ومن مقامع من حديد، ومن سلاسل وأغلال، ليست بالتي تتنافى مع العذاب النفسي، فما أكثر ما تتجسد صور العذاب فى النفس، ويجد الإنسان للآلام النفسية وقعا مثل ما يجده من الآلام الجسدية.. وأقرب مثل لهذا ما يقع للإنسان فى حال النوم من رؤى وأحلام مزعجة، أو مسعدة.. إنه يعيش فيها بكيانه كله، جسدا وروحا، وإن كان الواقع أن الروح هى التي تتلقى هذه الرؤى وتلك الأحلام، وتتعامل بها، وهى فى انطلاقها بعيدا أو قريبا من الجسد..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا(9/1010)
الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» .
فى ذكر الله سبحانه وتعالى هنا، هذا الذكر المؤكد، تكريم للمؤمنين، واحتفاء بهم، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة، ولا يدع هذا لملائكته.. مبالغة فى تكريمهم، فضلا منه، وكرما، ورحمة..
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» ..
فإذا أدخلهم الله سبحانه وتعالى الجنة، حلّوا فيها بأساور من ذهب، ولؤلؤا، فى مواضع شتّى، من أجسامهم، كأن يكون لهم من اللؤلؤ قلائد، أو تيجان، ونحو هذا، هذا إلى ما يلبسون من ملابس رقيقة، من حرير..
وهذه الحلىّ، وتلك الملابس، هى مما كان يشتهيه المؤمنون فى الدنيا، وقد فاتهم أن ينالوه فيها. فكان مما ينعمون به فى الجنة أن ينالوا ما كانت نفوسهم متطلعة إليه.. فهو غائب ينتظرهم.. وليس هذا كل ما يلبسون، أو يتزينون..
بل هناك ما لا حصر له من ألوان الملابس والزينة، مما لم يخطر على قلب بشر..
فهذه الألوان من صنوف الطعام والشراب، والملابس، والأنهار، والظلال، والقصور وغيرها، مما جاء ذكره فى القرآن، مما يلقاه أهل الجنة- هو مما كانوا يطلبونه فى الدنيا، ولا يأخذون حظهم منه، أو ينالون منه شيئا.. وكان من تمام الإحسان إليهم، أن يعرض عليهم كل هذا فى صورته الكاملة، كمالا مطلقا..
قوله تعالى:
«وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ» .
أي أنهم كما طاب وحسن ظاهرهم، طاب وحسن كذلك باطنهم..(9/1011)
فلا ينطقون لغوا، ولا يسمعون لغوا.. «تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
والصراط الحميد، هو صراط الله.. وقد هدوا إلى أن يحمدوه حمدا دائما متصلا، لأنه هو سبحانه المستأهل للحمد، ولأن نعمه التي أفاضها عليهم تستوجب منهم أن يلزموا هذا الصراط، ولا يحيدوا عنه لحظة..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» .
خبر إن محذوف دل عليه قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» .. أي أن هؤلاء الذين كفروا، ولم يقفوا عند كفرهم، بل وقفوا للناس بالمرصاد، يصدونهم عن سبيل الله، ويحولون بينهم وبين الاتصال بالمسجد الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وجعل فيه للبادين- وهم أهل البادية- مثل ما للعاكفين- وهم المقيمون من أهل مكة- من حقّ فى الاتصال بهذا البيت، والطواف به، والصلاة فيه..
هؤلاء الذين كفروا، ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام.. هم أشنع الناس جرما، وأغلظهم إثما.. إنهم ليسوا كافرين وحسب، بل إنهم أضافوا إلى كفرهم الوقوف فى وجه المتجهين إلى الله، وإلى بيت الله- هؤلاء لهم عذاب مضاعف، فوق عذاب الكافرين.. أما هذا العذاب فقد عرفوا بعضا منه، وهو ما أعد للكافرين، كما بيّنه سبحانه وتعالى فى قوله: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ(9/1012)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ..»
.. فهم أولا مأخوذون بهذا العذاب الذي يؤخذ به الكافرون.. أما ما فوق هذا، فعلمه عند الله.. وهو شىء فوق المدارك والتصورات.
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» جاء فيه الفعل: «يرد» متضمنا معنى «يسعى» ، ولهذا عدّى بحرف الجرّ فى، وهذا التضمين للدلالة على أن الإرادة هنا لا يقع عليها هذا الوعيد، حتى تكون عملا وسعيا.
الآيات: (26- 33) [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 33]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)(9/1013)
التفسير:
[مناسك الحج.. ومشاهد القيامة]
قوله تعالى:
«وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» .
بوأنا: أي هيأنا، وأعددنا.. وأصل البوء الرجوع إلى المنزل، والسّكن إليه..
- وقوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي هيّأناه له، وأعددناه.. وقد عدّى الفعل باللام، لأنه تضمن معنى الإعداد، والتمكن..
والأصل فى الفعل أنه يتعدّى بنفسه لمفعولين.. تقول: بوأنك المنزل، بمعنى أسكنتك إياه.
- وفى قوله تعالى: «مَكانَ الْبَيْتِ» إشارة إلى أن الإعداد كان المكان لا للبناء الذي أقيم على المكان، وهو البيت.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى قد أعدّ هذا المكان، وهيأه، وأضفى عليه، ما شاء سبحانه من البركة والرحمة.. أما البناء، فقد أقامه إبراهيم، ومعه إسماعيل على هذا المكان المبارك..
فالبركة أصلا فى المكان.. ثم شملت البناء الذي أقيم عليه وهو البيت فصار البيت مباركا فى المكان المبارك.
- وقوله تعالى: «أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» .. المصدر المؤول متعلق بمحذوف، تقديره: وأمرناه، أو قلنا له.. أن لا تشرك بي شيئا،.. فإن هذا المكان الطاهر المبارك، لا ينزله إلا طاهر مبارك، مبرأ من الشرك..
- وقوله تعالى: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» .. أي(9/1014)
وطهره من الشرك، واجعله خالصا لله، ولعباده المؤمنين به، الذين يجيئون إلى بيته طائفين، قائمين، راكعين، ساجدين..
- وفى قوله تعالى: «وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» إشارة إلى أن هذا البيت سيكون لتلك الأمة الإسلامية، التي سيكون السجود معلما من معالم صلاتها، وحدها دون غيرها من أصحاب الديانات السماوية كاليهود والنصارى، ولهذا كانت سمة المسلمين التي يعرفون بها بين الأمم، هى هذا الأثر الذي يتركه السجود فى الجبهة، وقد وصفوا بهذا الوصف فى التوراة كما يقول سبحانه وتعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» . (29: الفتح) وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، وإحسانه إليها، إذ أعدّ لها هذا البيت قبل أن يبعث فيها رسول الله، ويجىء إليها برسالة الإسلام..
وفضلا عن هذا، فإن إعداد إبراهيم لهذا البيت، وإقامته بيده، يقابله من جهة أخرى إعداده لرسالة الإسلام، إذ كان هو أبا الأنبياء، وكانت رسالة من أرسلوا من ذريته، كموسى وعيسى أشبه بتلك اللبنات التي رفع بها إبراهيم القواعد من البيت، فلما جاء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- برسالة الإسلام، كمل البناء، وأصبح البيت مهيأ لاستقبال «الْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» ..
قوله تعالى:
«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» .
الأذان: الإعلام، ورفع الصوت بالأمر المراد الإعلام به..(9/1015)
والرّجال: المشاة، الذين ينتقلون على أرجلهم.. جمع راجل أو رجل، يطلق على الذكر والأنثى.
والضامر: النحيف، الذي خفّ لحمه من الجهد والتعب..
والفج العميق: الطريق الطويل بين مرتفعين..
والمعنى أن الله سبحانه، أمر إبراهيم- بعد أن أقام البيت- أن يؤذن فى الناس، ويدعوهم إلى الحج إلى هذا البيت.. فإنه إن فعل، وجد الآذان التي تسمع هذا النداء وتستجيب له، وإذا الناس من كل مكان قريب وبعيد، قد جاءوا لحج هذا البيت- يجيئون إليه ماشين على أقدامهم، كما يجيئون إليه راكبين من جهات بعيدة، فتهزل مطاياهم من طول السفر، وقلة الزّاد، ويصيها الضمور، وخفة اللحم.
- وفى قوله تعالى: «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» بنون النّسوة، لغير العاقل من الإبل والدوابّ ونحوها التي يعود إليها هذا الضمير- فى هذا ما يشير إلى بعد الشقة التي جاءت منها هذه الدواب براكبيها، وأنها قطعت طرقا طويلة موحشة، لا أنيس فيها، فكانت هى وراكبوها كيانا واحدا طوال هذه الرحلة، حيث تقتسم معهم طعامهم وشرابهم، وتستمع إلى أحاديثهم وحدائهم..
فاكتسبت بهذا من مشاعر الألفة والأنس، ما جعلها أقرب شىء إلى الإنسان منها إلى الحيوان، حيث أنس الإنسان بها، كما يأنس برفيق سفره! فحقّ لها- والأمر كذلك- أن تخاطب خطاب العقلاء..
قوله تعالى:
«لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» .(9/1016)
اختلف فى عدد الأيام المعلومات تلك.. فهى معلومات الزمان، مجهولة العدد..
فقيل، هى الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيّام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد» .. وعلى هذا فسّر بعض الصحابة الليالى العشر فى قوله تعالى:
«وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ» بأنها هى تلك الأيام العشر.. وقيل إن الأيام المعلومات، هى يوم النحر وثلاثة أيام بعده.. وقيل يوم النحر، ويومان من بعده.. وقيل يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده.
ولام التعليل فى قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ..» متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ» .. أي يأتى الحجيج إلى هذا البيت ليشهدوا منافع لهم..
والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام، كثيرة، متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها..
فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، على كلّ من يطوف بحماه، وينزل ساحته، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم الذي حشر فيه الناس، على هيئة واحدة، فى ملابس الإحرام، مجرّدين من متاع الدنيا، وما لبسوا فيها من جاه، وسلطان.. إنهم هنا فى هذا الموطن الكريم على صورة سواء، فيما يأنون من أعمال الحج من، سعى، وطواف، ووقوف بعرفة، ورمى للجمرات.. ومن تلبية، وتضرع، وتعبّد لله ربّ العالمين.. إنهم فى مشهد أشبه بمشهد الحشر يوم القيامة.. حيث تعنو الوجوه للحىّ القيوم، وحيث تخشع الأصوات لجلاله وقيومته.. ولعلّ هذا(9/1017)
بعض السرّ فى مجىء آيات الحج فى هذه السّورة التي بدئت بهذا العرض المثير لأهوال القيامة ومفازعها: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» .. فما أقرب الشبه بين موكب الحجيج، وبين الحشر فى هذا اليوم العظيم..
إن الحجّ نفسه، هو صورة مصغرة للحياة الآخرة، التي تبدأ من الموت، ثم البعث، والحشر، والحساب، والجزاء.
ولقد أحسن الإمام النسفي، رضى الله عنه، فى تصوير هذه الفريضة، وفى عقد الشّبه بينها وبين الحياة الآخرة.
يقول- رضى الله عنه-: «فالحاج إذا دخل البادية، لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطىء الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى فى معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده.
«وغسل من يحرم، وتأهبه، ولبسه غير المخيط، وتطيّبه- مرآة لما سيأتى عليه، من وضعه على سريره، لغسله وتجهييزه، مطيبا بالحنوط، ملففا فى كفن غير مخيط!.
«ثم المحرم، يكون أشعث حيران.. فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان.
«ووقوف الحجيج بعرفات، آملين، رغبا ورهبا، سائلين خوفا وطمعا، وهم من بين مقبول ومخذول- كموقف العرصات، لا تكلّم نفس إلّا بإذنه، فمنهم شقىّ وسعيد..(9/1018)
«والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء، هو السّوق لفصل القضاء! «ومنى، هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين..
«وحلق الرأس والتنظيف، كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف.
والبيت الحرام، الذي من دخله كان آمنا من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام، التي هى من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال ... »
وهناك منافع عقلية، ومادية يحصلها الحجاج عن قصد، وغير قصد، حيث يلتقى بعضهم ببعض وينظر بعضهم فى أحوال بعض، وفى البلاد التي جاؤا منها، وما فى هذه البلاد من صور الحياة، وأعمال النّاس، وثمرات أفكارهم وأيديهم، وذلك فيما حملوه معهم من آثار الحياة عندهم، وما كان لهم من جديد ومستحدث.. وبهذا يتبادلون المعرفة، كما يتبادلون السّلع بينهم، بيعا وشراء، أو يتهادونها، مودة وإخاء.
- قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» .. الأيام المعلومات هى أيام الحج، التي تتم فيها أعمال هذه الفريضة.. وهى فى أرجح الأقوال عشرة الأيام الأولى من ذى الحجة.
والذكر المراد هنا هو هذا الذكر الخاص، الذي يكون فى أعمال الحج..
فكل عمل من أعمال الحج هو ذكر لله.. فالإحرام ذكر، والطواف بالبيت الحرام ذكر، واستلام الحجر الأسود ذكر.. والسعى بين الصفا والمروة ذكر.. والوقوف بعرفة ذكر، ورمى الجمرات ذكر.. وحركات الحاج وسكناته فى أيام الحجّ كلّها ذكر.. حيث يلهج الحجيج دائما بالتلبية، والتكبير..
- وقوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» هو متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» والتقدير ويذكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام..(9/1019)
هذا، ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن قوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ» متعلق بقوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» ..
وعلى أن ذكر اسم الله فى هذه الأيام المعلومات واقع على «ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» وهى الهدى المساق إلى بيت الله، بمعنى أنهم يذكرون اسم الله عند نحر ما يقدّمون من هدى..
والذي نراه- والله أعلم- أن قيد ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام فى تلك الأيام المعلومات غير مقبول، وذلك من أكثر وجه:
فأولا: ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام لا تختصّ به أنعام الهدى وحدها، بل هو أمر واجب فى كل ما يذبح من حيوان للأكل، سواء ما كان منه هديا أو غير هدى، وأنه لا يحلّ أكل حيوان ذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه، وهذا صريح فى قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» .. (121: الأنعام) وفى قوله سبحانه: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» (118: الأنعام) .. فقد جاء النهى فى الآية الأولى صريحا قاطعا، كما جاء الأمر بالأكل فى الآية الثانية:
«مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» متضمنا النهى- بمفهوم المخالفة- عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
وعلى هذا، يكون تخصيص ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، وقصره على بهيمة الأنعام- لا محلّ له، إذ لا جديد فيه، الأمر الذي يجعل الآية معطلة عن إعطاء معنى يستفاد منها. وذلك مما تنزّهت عنه آيات الله وكلماته. وفى هذا يقول ابن حزم فى كتابه «المحلّى» ردّا على من يقول بأنه لا يجوز أن يضحّى ليلا، محتجا بقوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ(9/1020)
بَهِيمَةِ»
.. وبأن الله تعالى ذكر الأيام ولم يذكر الليالى.. يقول ابن حزم فى معرض الرد على هذا:
«لأن الله تعالى لم يذكر فى هذه الآية ذبحا، ولا تضحية، ولا نحرا، لا فى نهار، ولا فى ليل، وإنما أمر الله تعالى بذكره فى تلك الأيام المعلومات..
أفترى يحرم ذكره فى لياليهن؟ إن هذا لعجب! «1» .
وحقّ لابن حزم- رضى الله عنه- أن يعجب، ويعجب!.
وثانيا: جاء فى آية أخرى بعد هذه الآية، أمر خاص بذكر اسم الله على بهيمة الأنعام هذه، التي تساق هديا للبيت الحرام، وذلك فى قوله تعالى:
«وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ.. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ.. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ.. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» (الآية: 36) .
وهذا الأمر الخاص بذكر اسم الله على أنعام الهدى عند ذبحها، هو تنويه بهذه الذبائح، وإشعار بأنها قربان لله، وأنها شعيرة من شعائر الله، وعمل من أعمال الحج، وأنها ليست لمجرد الأكل، وإنما هى للبّر والإحسان إلى الفقراء، حيث يطعمون من لحومها، ويشاركون أصحابها فى الأكل منها..
فليس الأمر بذكر اسم الله على هذه الأنعام عند نحرها، هو إنشاء لهذا الأمر، بل هو توكيد للأمر العام بذكر الله على ما يذبح، وأن ذكر الله هنا ينشىء شعورا خاصا بأن هذه الأضاحى ليست ملكا خاصا لأصحابها، وإنما هى قسمة بينهم وبين الفقراء!.
__________
(1) المحلى: الجزء السابع ص 446. [.....](9/1021)
وثالثا: قصر ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، على بهيمة الأنعام (الهدى) قد أوقع المفسرين والفقهاء فى خلاف شديد، فى تحديد الميقات الذي تذبح فيه الأضاحى.. وهل تذبح يوم النحر، أو فى الثلاثة الأيام المكملة ليوم النحر، أو لآخر يوم من ذى الحجة؟ فى كل هذا آراء..
ذلك.. أن ذكر اسم الله فى أيام معلومات، قد أفسح للمفسرين والفقهاء مجال النظر فى هذه الأيام، التي تذبح فيها الأضاحى.. إنها أيام، وليست يوما.. وإذن فقد لزم الاجتهاد فى تحرّى الوقت المناسب من هذه الأيام لذبحها.. وقد كان!! ففى رأى أبى يوسف ومحمد- صاحبى أبى حنيفة- أنها أيام النحر، وعدّتها ثلاثة أيام.. يوم العيد، ويومان بعده..
وعن الشافعي، والحسن وعطاء، أنها أربعة أيام، يوم العيد، وثلاثة أيام بعده..
وعند ابن سيرين، يوم واحد، هو يوم النحر.
وعند أبى سلمة، وسليمان بن يسار، أنها إلى هلال المحرم..!
فأى يوم من تلك الأيام ينحر فيه الهدى، هو مجز فى حدود هذه المقولات.
وهذا كلّه- فيما نرى- مخالف لقوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» حيث قرن الأمر النحر بالصلاة، التي هى صلاة العيد، لا مطلق الصّلاة.. حيث يتحلل الحجيج من إحرامهم، وحيث يختمون أعمال الحجّ بهذا القربان، وحيث ينالون شيئا من حظوظ الدنيا بهذا الطعام من اللّحم فى هذا اليوم، وحيث يشتركون جميعا فى هذه المائدة التي دعاهم الله إليها،(9/1022)
وهم فى ضيافة بيته المحرّم.. وهذا مما لا يمكن تحصيله إذا وقع الذبح بعد هذا اليوم، حيث يتفرق الحجيج، ويأخذ كل طريقه إلى العودة من حيث أتى..
ثم من جهة أخرى نرى أعمال الحج كلها تجرى فى صورة جماعية.. وليس هناك من حكمة ظاهرة فى إفراد الهدى بهذا التحلل من قيد الجماعية فى الوقت الذي يذبح فيه! هذا، وربّما فهم بعضهم من قوله تعالى: «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على أن «اسم الله» لا يذكر إلا عند الذبح، أما الذكر بمعناه المطلق، فهو ذكر الله مثل قوله تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» (200: البقرة) وقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (10: الجمعة) وقوله سبحانه: «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» (35: الأحزاب) .. فحيث أريد ذكر الله، أي تسبيحه وحمده لم تقرن به به كلمة «اسم» على حين أن كلمة «اسم» قد جاءت مع لفظ الجلالة عند إرادة تزكية الحيوان وذبحه، كما فى قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» (118- 119:
الأنعام) وقوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (121: الأنعام) .
نقول: لعل هذا هو الذي جعل أكثر المفسّرين والفقهاء يخصصون ذكر اسم الله فى آية الحج بالذكر على بهيمة الأنعام عند الذبح.
ونقول: إن اقتران كلمة «اسم» بلفظ الجلالة هكذا: «اسم الله» لا ينهض دليلا على اختصاص ذكر اسم الله بذبح الحيوان.. فقد جاء فى آيات أخرى، الدعوة إلى ذكر الله، مقترنة بلفظ «اسم» كما فى قوله تعالى:(9/1023)
«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (1: الأعلى) وقوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (14- 15: الأعلى) وقوله جل شأنه:
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (52: الحاقة) .
وعلى هذا، فإن المراد- والله أعلم- من ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، هو ذكره ذكرا عاما مطلقا بكل اسم من أسمائه جلّ وعلا.. ثم ذكر اسمه ذكرا خاصّا على بهيمة الأنعام عند ذبحها.
وشبهة أخرى ربما وردت على تفكير بعض المفسّرين الذين خصصوا ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، وقصروه على بهيمة الأنعام المسوقة هديا للبيت الحرام.. وتلك الشبهة هى تعدّى فعل الذكر بحرف الجرّ «على» فى قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» ..
فإن تعدّى هذا الفعل بحرف الاستعلاء «على» قد يكون قرينة عندهم على أن ذكر اسم الله هنا إنما يقع على بهيمة الأنعام، ولو كان ذكرا عاما لما تعدّى الفعل بحرف الجرّ هذا، الذي يشير إشارة واضحة إلى الشيء المراد ذكر اسم الله عليه.
وجوابنا على هذا، أن تعدية فعل الذكر بحرف الجرّ «على» لا يقضى بأن يكون الحرف للاستعلاء، وأن يكون الاستعلاء واقعا على بهيمة الأنعام، وإنما الذي يقتضيه المقام هنا، هو أن يكون حرف «الجرّ» السببية لا للاستعلاء، كما فى قوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» (185: البقرة) أي بسبب هدايته لكم، وتوجيه قلوبكم وعقولكم إلى الإيمان به..
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» أي يذكروا اسم الله بسبب ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذللها لهم، وأحلّ لهم لحومها.(9/1024)
وعلى هذا، فإن الرأى- والله أعلم- أن يتعلق قوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» بفعل يدلّ عليه الفعل السابق، ويكون النظم القرآنى هكذا: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (ويذكروه) عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» .. هذا، والله أعلم.
قوله تعالى:
«ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» .
هو تعقيب على ما جاء فى قوله تعالى فى الآية السابقة: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.. فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» .
والمعنى: أنه بعد هذه الأعمال التي تتم بها فريضة الحج، يعود الحجيج إلى أنفسهم، لينظروا فى شئونهم الخاصة التي أهملوها فى أيام الحج، ولم يلتفتوا إليها، حيث استغرقهم الاتجاه الخالص إلى الله وأول ما ينظرون فيه، هو قصّ شعورهم، وتقليم أظافرهم، وهذا أول مدخل يدخلون به إلى الدنيا، بعد أن خرجوا منها منذ أول لحظة دخلوا بها فى ملابس الإحرام.. وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» .
والتّفث: ما يعلق بالإنسان من قذر يتأذّى به، ويطلب الخلاص منه.
وهو بهذا المعنى أشبه بالرفث.. وهذا يعنى أنه حاجة من حاج الإنسان، ومن مطالبه الجسديّة.. سواء أكان ذلك بدفعها، أو بجلبها..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» إشارة معجزة إلى أن هذه الأمور وأمثالها، وإن كانت من حاجات الإنسان، فإنها ليست من صميم مطالبه التي ينبغى أن تكون فى الاعتبار الأول عنده، مما يتصل بحاجات العقل والروح،(9/1025)
ومما يكسو الإنسان من معانى الإنسانية ما هو خليق به، وبالكمال الذي ينبغى أن يقيم وجهه دائما عليه..
إنه لا بأس من أن يأخذ الإنسان حظه من مطالب الجسد، فيتجمل فى مظهره، ويسوّى من صورته، ولكن على ألا يشغله ذلك عمّا هو أولى، وأكرم وهو تجمّل الباطن وتسويته على أكمل صورة وأحسنها، علما، وخلقا..
فذلك هو الإنسان الذي يريده الإسلام.
إنه يريده حسن الظاهر والباطن، جميل المظهر والمخبر، نظيف الإناء وما يحتويه الإناء..!
وقوله تعالى: «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» .. أي ليؤدوا لله ما كانوا قد نذروه، تقربا إليه، من ذبائح، وصدقات وغيرها.. وإن خير وقت للوفاء بهذه النذور هو فى هذا الوقت، وفى هذا الموطن.. بل إن هذا يكاد يكون أمرا لازما هنا، حيث سبق آخر عمل من أعمال الحج، وهو الطواف بالبيت العتيق، طواف الوداع.. كما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» .. فبالوفاء بالنذور، وبالطواف بالبيت، تختم أعمال الحج.. وكما كان أول أعمال الحج، هو لقاء البيت العتيق والطواف به طواف تسليم، يكون آخر عمل من أعمال الحج، هو الطواف بالبيت، طواف وداع واستئذان وشكر، لما لقى فى رحاب هذا البيت من ألطاف الله، وأفضاله، وما تلقى من آلائه ونعمائه..
ووصف البيت بالعتق، لأنه أول بيت لله وضع للناس على الأرض..
فالعتق هنا من العتاقة، وهى القدم، الذي هو صفة من صفات الله.. فإذا كان القدم فى مقام الفضل والإحسان، فهو تقدّم فى الدرجة، وسبق فى الإحسان.. وبهذا يكون أهلا لأن يأخذ مكان الإمامة على غيره.. وقد استحق المؤمنون السابقون من المهاجرين والأنصار أن يكونوا وجه الإسلام،(9/1026)
وقدوة المسلمين، وأن يكونوا أقرب عباد الله إلى الله كما يقول سبحانه:
«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» (10- 16: الواقعة) .
ووصفت الخيل الكريمة بالعتق والعتاقة، فيقال خيل عتاق، لأنها تسبق غيرها من الخيل، ووصف الرقيق الذي تحرر من الرق بأنه عتيق، لأن سبق الأرقاء الذين لم يتحرروا.. إلى التحرر..
وفى التعبير عن الطواف «بالتطوّف» إشارة إلى الإكثار منه، وأنه أكثر من طواف واحد.. فالفعل «تطوّف» أكثر حروفا من «طاف» ! قوله تعالى:
«ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» .
«ذلِكَ» إشارة إلى ما جاءت به الآيات السابقة من أحكام.. أي ذلك الذي جاءت به الآيات السابقة قد علمتموه.. وأمر آخر، يجب أن تعلموه وتعملوا به، وهو أن «مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» .
وتعظيم حرمات، الله هو الالتفات إليها، وتقديرها قدرها، فى غير استخفاف بها.. فهى أمر عظيم.. من استخفّ بها هلك، ومن لم يأخذ حذره منها هوى وسقط.. وكان من الضالين..
وقوله تعالى: «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» - هو تطبيق عملىّ لحرمات الله.. فهناك من بهيمة الأنعام، ما أحله الله، وهناك ما حرّمه(9/1027)
منها.. وهذا المحرّم هو من حرمات الله الواجب تعظيمها، وتوقى الاستخفاف بها، والدنوّ منها..
وما يتلى، هو ما ذكر فى كتاب الله من البهائم المحرمة، وهى التي جاءت فى قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ» (3: المائدة) . وهذا يعنى أن هذه الآية نزلت بعد آية الحج.. وهذا هو الثابت من تاريخ النزول القرآنى.. إذ كانت المائدة من آخر سور القرآن الكريم نزولا.
وقوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» الرّجس: الدّنس والقذر.
والأوثان: الأصنام ونحوها، مما يشكّل ويصوّر، من جمادات، ليعبد من دون الله.. و «من» فى قوله تعالى: «مِنَ الْأَوْثانِ» بيانية.. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.. فهى كلها رجس وخبث، وقذر، ولا ينضح منها إلا ما هو رجس وخبث وقذر.
وقوله تعالى: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» .
الزور: هو الباطل من القول، والخارج على الحقّ.. وسمّى زورا، لأن الصدور السليمة تزورّ به، وتضيق بحمله.. ولا تتسع له الصّدور المريضة، والنفوس السقيمة.
وفى قرن «الزُّورِ» بالأوثان، إشارة إلى شناعته، وإلى أنه مأثم غليظ، يعادل الشرك بالله.. بل إن الشرك نفسه هو ثمرة فاسدة من ثمار الزور..
إذ الشرك فى صميمه، افتراء على الله، وتزيين للباطل، وتزويق للزور.
وهذا ما وصف به المشركون فى موقفهم من رسول الله صلى الله عليه(9/1028)
وسلم إذ يقول جلّ شأنه: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» (4: الفرقان) وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قالوا: بلى يا رسول الله.. قال «الشرك بالله وعقوق الوالدين» .. وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وشهادة الزور وقول الزور.. ألا وشهادة الزور وقول الزور.. ألا وشهادة الزور وقول الزور» .. قالوا: فما زال- صلوات الله وسلامه عليه- يكرّرها حتى قلنا لا يسكت!» .
قوله تعالى:
«حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ» .
الحنفاء: جمع حنيف، وهو المائل عن طرق الضلال إلى طريق الهدى..
وقوله تعالى: «حُنَفاءَ لِلَّهِ» حال من الفاعل فى قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» أي اجتنبوا هذه المنكرات، وأنتم حنفاء لله، أي مخلصين الدّين لله وحده، غير مشركين به..
- وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ» .
هو تهديد ونذير لمن يشرك بالله، ويعدل عن طريق الإيمان الخالص به..
فإن من يفعل هذا، فقد عرّض نفسه لأبشع صورة من صور الهلاك.. إنه أشبه بمن سقط من علو شاهق، فوقع على الأرض أشلاء ممزقة، تكون طعاما(9/1029)
لجوارح الطير.. أو تقذف به الريح فى مكان سحيق، كبطن محيط، أو غور بئر.. فلا يخفّ أحد لنجدته..
قوله تعالى:
«ذلِكَ.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» .
الشعائر جمع شعيرة: وهى ما يستجيش مشاعر الإنسان، ويحرك وجدانه..
ويراد بالشعائر، العبادات، والطاعات، وكلّ ما يتقرب به العبد إلى الله.
ويذهب أكثر المفسّرين إلى أن الشعائر هنا، هى الهدى المساق إلى الحرم، وأنها إنما سمّيت شعائر لأنها تشعر أي تعلم بشعيرة- أي حديدة- تشرط بها فى الجانب الأيمن من سنامها..
والرأى عندنا- والله أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن المراد بالشعائر هنا العبادات كلها، ومنها مناسك الحج، وأعماله، ومنها الهدى أيضا.
أما تعظيم شعائر الله، فهو فى أدائها على وجهها، فى اطمئنان، وإخبات لله، وولاء لجلاله وعظمته..
وأما تعظيم شعيرة «الهدى» فهو برعايتها، وإكرامها، وإنزالها من النفس منزلة الإعزاز. لأنها منذ الوقت الذي اختيرت فيه لتكون هديا، قد أصبحت خالصة لله، وأنها منذ ذلك الوقت إلى يوم النحر فى ضيافة مهديها إلى الله.. ولهذا وجب عليه أن يكرمها، ويحسن ضيافتها، فلا يركبها، ولا يحمل عليها، ولا يعرّيها من أصوافها وأوبارها، ما دام قد أعدّها للهدى..
ثم إن من أمارات الإكرام لها أن تعلم بعلامة مميزة لها، وأن تعلق فى رقبتها قلادة، تحلّيها وتزينها، وتجعل لها ميزة على غيرها..(9/1030)
ومن جهة أخرى، فإنه مطلوب من كلّ مسلم- حاجّا أو غير حاجّ- أن يرعى للهدى هذه الحرمة، فلا يعتدى عليه، بالسرقة، أو انتزاع ما قلد به من قلائد..
فهذا الهدى هو هدى الله، وليس أصحابه المتقدمون به إلى الله إلا رعاة له..
إنه أشبه بناقة صالح.. له حرمته، كما كان للناقة حرمتها، وقد توعّد الله سبحانه وتعالى ثمود بالهلاك، إن هم نالوها بسوء: «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (73:
الأعراف) .
وفى هذا يقول الله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» (97: المائدة) فقد جعل الله سبحانه وتعالى قلائد الهدى- فضلا عن الهدى نفسه- قرينة الشهر الحرام، فى حرمتها وما ينبغى للناس أن يعظموه منها..
ثم لعلك تسأل: لم هذا التعظيم للحيوان؟ ولم هذه المراسم التي تتخذ له؟ أليس ذلك ضربا من ضروب الوثنية التي جاء الإسلام لحربها، والقضاء عليها؟.
والجواب على هذا: أن الحجّ رحلة روحية خالصة، يخرج فيها الحاج من عالم المادة، إلى عالم الروح، وأن أعمال الحج التي تلقاة على طريق رحلته الروحية تلك، مقدّرة بهذا التقدير..
فالتجرّد من الملابس ولبس غير المخيط، والمهاجرة من الوطن، وترك الأهل والولد والمال، والطواف حول البيت، والسعى بين الصفا والمروة، واستلام الحجر الأسود، أو تقبيله، ورمى الجمرات- كلها أعمال ومراسم، تبدو فى ظاهر الأمر متصلة اتصالا وثيقا بذوات الأشياء، لا ربّ الأشياء.. ولكنها فى حقيقة الأمر، راجعة أولا وأخيرا، إلى الله سبحانه وتعالى، إذ كانت تلك الأعمال(9/1031)
وهذه المراسم، إنما أدّاها الحاجّ امتثالا لأمر الله، وولاء وطاعة لما أمر به، وإنه ليس للعبد المؤمن بالله، أن يراجع الله فيما يأمره به، وأن يطلب الحكمة لهذا الأمر.. وإنما المطلوب منه، هو أن يمتثل، ويأتى ما أمر به من غير تردد..
فهذا ابتلاء من الله، يبتلى به عباده، ليظهر منهم ما هم عليه من طاعة أو عصيان.
وقد كان أمر الملائكة بالسجود لآدم، ابتلاء وامتحانا لهم، فسجد الملائكة، وأبى إبليس أن يسجد، وقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (12: الأعراف) . فكان من الهالكين..
فهذه الأعمال التي يأتيها الحجيج، هى امتحان وابتلاء لهم، فى باب الطاعة والامتثال لأمر الله، فى غير تردد أو مراجعة.. وإلا فهو العصيان والكفر..
نعوذ بالله منهما.
وتعالت حكمة الله.. فإنه سبحانه وتعالى، لم يبتل المؤمنين بهذه الأعمال ابتداء، ولم يلقهم بها على أول طريق الإيمان، بل جاءهم بها بعد أن يكون المؤمن منهم قد قطع شوطا طويلا على طريق الإيمان، حتى اطمأن قلبه به، وسكنت نفسه إليه، وثبتت قدمه عليه.
فأولا: فى مسيرة الدعوة الإسلامية، لم يفرض الحجّ إلا فى زمن متأخر، حيث فرض بعد الصلاة، والصيام، والزكاة، وكان بهذا آخر ما فرض من أركان الإسلام.
وهذا يعنى أن المسلمين الذين خرجوا من الجاهلية إلى الإسلام، قد التقوا بالحج، بعد تلك الفترة التي عاشوها فى الإسلام.. يؤمنون بوحدانية الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان.. وتلك فترة كافية لتثبيت قواعد الإيمان فى قلوبهم، وإجلاء كل داعية من دواعى الوثنية والشرك منها.(9/1032)
وثانيا: أن المسلم- فى أىّ زمن- لا يؤدى فريضة الحجّ إلا بعد أن يكون قد تمرّس بالإيمان، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان.. وكثيرا ما يكون ذلك زمنا طويلا يمتدّ إلى عشرات السنين.. فإذا جاء إلى الحجّ، والتقى بأعماله، لم يكن فى خاطره أية طرفة يطرف بها إلى أماكن الحجّ وأشيائه، إلا على أنها من شعائر الله، وأنها معلم من معالم الله- سبحانه- على هذه الأرض، وأن تعظيمها هو تعظيم لله، ومبالغة فى الامتثال لأمره، حيث يقوم التعامل بين الحاج وبين ذوات أشياء هى من آيات الله.. وإنها فى هذا لأشبه برسله، «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (80: النساء) .
وثالثا: فى قوله تعالى: «فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» إشارة إلى أن تعظيم هذه الشعائر، هو تعظيم لله، يتجلّى فيها درجة إيمان المؤمنين، وينكشف بها ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو فى ظاهرها- ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو فى ظاهرها- خارجة عن منطق العقل..! والإيمان- فى حقيقته- هو حبّ خالص لله، والحبّ إذا كان صادقا، لا يسمع صوت العقل، ولا يستجيب له، وإنما يتلقى من القلب، ما يحدّثه به، ويدعوه إليه.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» ليكشف عن أن تعظيم هذه الشعائر، وإتيانها فى إيمان وإخلاص، وحب وشوق- إنما هو من وحي القلوب، ومن خفقات الإيمان الثابت فيها، ومن إشارات التقوى المتمكنة منها.. وفى الكلمة المأثورة عن عمر بن الخطاب، وهو يقبّل الحجر الأسود حين قال: «أعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبّلك ما قبلتك» - فى هذه الكلمة ما يكشف عن هذا الحبّ لله، ولرسول الله، ومتابعته فى كلّ قول، وعمل، وإن جاء هذا القول أو العمل، فوق مدارك العقول! .. ومن أجل هذا فقد وقف القرآن الكريم هذه الوقفات الطويلة(9/1033)
المستأنية مع مناسك الحج، ودعا أكثر من مرّة إلى رعايتها، وتعظيمها، وذلك ليدافع هذا الشعور الذي قد يتسلّط على الإنسان من التراخي فى أداء هذه الأعمال، وتلك المراسم، أو أدائها فى استخفاف وتكرّه، الأمر الذي يذهب بالثمرة الطيبة، والمعاني الكريمة التي تدخل على نفس الحاج من هذه الأعمال، إذا هو أداها على وجهها الصحيح، ممتثلا أمر الله فيها، شارحا بها صدره، مسلما لها وجوده، مضيفا إليها مشاعره.
وهكذا يقيم الإسلام المسلمين على منطق العقل، ومشاعر القلب معا..
فهو إذ يدعوهم إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، يجىء إليهم عن طريق العقل، فيقيم لهم الحجج، وينصب الأدلة والبراهين، حتى يقع الإيمان منهم موقع اليقين.. لأنه هو الأساس الذي تقوم عليه كل دعوة للإسلام، وكل أمر من أوامره، ونهى من نواهيه.. فإذا كان الإيمان بالله عن نظر واقتناع، كان التسليم واجبا بكل ما يأمر به الله، أو ينهى عنه..
ثم كانت الصلاة.. وكان الصوم.. وكانت الزكاة.. وكلها أعمال يلتقى فيها منطق العقل، مع مشاعر القلب، وإن كان منطق العقل فيها أكثر من منطق الشعور، أو مساويا له.
ثم أخيرا، كان الحج.. فكان مشاعر خالصة، أو شبه خالصة، حيث يكاد العقل يخلى مكانه للقلب، ليأخذ حظه كاملا، كما أخذ العقل حظّه كاملا من الإيمان بالله! .. وبهذا يعتدل ميزان الإنسان، وتتوازن مداركه مع مشاعره، ويتآخى عقله مع قلبه.. وذلك هو الإنسان فى أعدل صورة، وأحسن تقويم، وأتم وضع!! قوله تعالى:(9/1034)
«لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» .
الضمير فى «فِيها» يعود إلى قوله تعالى: «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» على اعتبار أن من هذه الشعائر بهيمة الأنعام، المساقة هديا إلى بيت الله..
والمعنى، أن ما يساق إلى البيت الحرام من هدى، هو أمانة فى أيدى أصحابه، وأن لهم أن ينتفعوا به الانتفاع الذي لا يسوءه ولا يتضرر منه.. كالانتفاع بلبنه مثلا..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» تذكرة بالجهة التي سيهدى إليها هذا الهدى، وأن ذلك من شأنه أن يجعل لهذا الهدى حرمة ورعاية خاصة.. إذ كان آخذا طريقه إلى بيت الله، مع الآخذين طريقهم إليه، فله حرمة ينبغى أن تؤدّى، وله ذمام يجب أن يرعى.. فهو بعض وفد الله إلى، بيت الله!! وسمّى البيت الحرام بالبيت العتيق، لأنه أول بيت وضع للناس، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» .. فهذه الأولية، هى فى مقام الإحسان والخير، سبق له خطره وقدره.. فكلمة عتيق هنا تضاهى كلمة «عريق» ، أي هو عريق وقديم فى مقام الخير والإحسان.. فكما سبق السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلى الإسلام، واستحقوا بهذا السبق ما خصّهم الله سبحانه وتعالى به من فضل وإحسانه.. فكذلك هذا البيت، إذ كان أول بيت لله على هذه الأرض، فقد استحق أن يكون أكرم بيوت الله على الله، وأولاها بالإجلال، والاحتفاء.. من عباد الله(9/1035)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
الآيات: (34- 37) [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 37]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» .
المنسك: اسم مكان، يؤدّى فيه النسك.. والنّسك: هو ما افترض الله على عباده من قربات يتقربون بها إليه.
والمخبتين: المطيعين، المطمئنين، الذين يؤدون أوامر الله فى رضا واطمئنان..
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة «مَنْسَكاً» أي معلما من(9/1036)
معالم دينهم، يدعون فيه إلى التقرب إلى الله بالذبائح، وذكر اسمه عليها عند ذبحها، ليذكروا بذلك فضله عليهم، فيما رزقهم من بهيمة الأنعام، ينتفعون بها في وجوه كثيرة.. كما يقول سبحانه: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» (5- 8: النحل) .
- وفى قوله تعالى: «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إشارة إلى أن المناسك، والشعائر، والعبادات التي تعبّد الله بها عباده على لسان رسله- وإن اختلفت صورا وأشكالا- هى من دين الله، وهى طريق عباده إلى طاعته ورضاه.. وأن هذا الاختلاف فى صورها وأشكالها، لا يجعل منها سببا إلى الاختلاف بين المؤمنين بالله.. فكلهم يعبدون إلها واحدا، ومن شأنهم، أن يكونوا أمة واحدة.
- وقوله تعالى: «فَلَهُ أَسْلِمُوا» هو دعوة للمؤمنين أن يسلموا وجوههم لله، وأن ينقادوا له، ثم هو دعوة لأهل الكتاب أن يدخلوا فى دين الله، وهو الإسلام، إن كانوا مؤمنين بالله حقا.. فما الإسلام إلا دين الله، الذي اجتمع فيه ما تفرق منه فى الأمم السابقة ...
- وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» هو استدعاء، وإغراء للذين لم يمتثلوا بعد هذا الأمر- أن يسلموا لله وجوههم، وأن يدخلوا فى دينه، ليكونوا ممن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ...
قوله تعالى:
«الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ(9/1037)
وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .
هو صفة للمخبتين، الذين وعدهم الله بالبشريات المسعدة، فى الدنيا والآخرة.
فمن صفات هؤلاء المخبتين، أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لذكره، وحضرتهم حال من الرهبة والخشية لجلال الله وعظمته.
ثم إنهم لإيمانهم بالله، هذا الايمان الذي يملا قلوبهم جلالا وخشية- صابرون على ما أصابهم ويصيبهم من بلاء، فإن الجزع ليس من صفات المؤمنين، لأن الجزع لا يجىء إلا من شعور بأن ليس وراء الإنسان قوة تسنده وتعينه وتكشف ضرّه.. أما المؤمن، فإنه إذا ابتلى بأعظم ابتلاء، لا يجزع، ولا يكرب، ولا يخور، بل يحتمل صابرا، ويثبت للمحنة، وهو على طمع فى رحمة الله أن ينكشف ضره، ويدفع بلواه.. ثم إن هؤلاء المخبتين يقيمون الصلاة، ويؤدونها فى خشوع وخضوع، إذ هى التي تصل المؤمن بربه، وتعمر قلبه بالإيمان به.. ومن هنا كان الصبر هو الثمرة الطيبة التي تثمرها الصلاة، كما يقول سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» .
وقدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوب لها، حيث لا تؤدّى كاملة إلا مع الصبر، فإذا أدّيت كانت هى نفسها رصيدا كبيرا تزيد به حصيلة الصبر فى كيان المؤمن.. ثم إن هؤلاء المخبتين لا يمسكون رزق الله الذي رزقهم، فى أيديهم، ولا يحبسونه على أنفسهم، بل ينفقون منه فى وجوه البرّ، ويرزقون عباد الله مما رزقهم الله.. إذ أنهم ينفقون ما فى أيديهم، وهم على رجاء من أن الله يرزقهم، ويكفل لهم ما يكفل للطير والدواب من رزق.. «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ» .
قوله تعالى:
«وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ(9/1038)
اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
البدن: جمع بدنة، وهى الناقة، وسميت بدنة لعظمها وضخامتها..
والصّوافّ: جمع صافّة، وصافّ.. والمراد به السكون، ومنه قوله تعالى «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أي صفّت أجنحتها، وسكنت، وذلك حين تفرد أجنحتها فى الجو، وتتوقف عليلا عن الطيران..
وجبت جنوبها: أي سقطت على الأرض.
القانع: من لا يسأل.. والمعتر: من يتعرض للسؤال مستجديا.
والمعنى: أن هذه البدن، أي الإبل، جعلها الله من شعائره، حيث تساق هديا إلى بيته الحرام، وجعل فيها خيرا للناس، بما ينتفعون به منها، فى حمل الأمتعة، وركوبها، والانتقال بها، والانتفاع بألبانها وأوبارها، ولحومها..
- وقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ» أي إذا أردتم نحرها، فاذكروا اسم الله عليها، قبل أن نحرها، ثم ليكن ذبحها وهى صوافّ، أي فى حال وقوفها، وثباتها، وصفّ قوائمها.. وذلك أن الإبل تنحر وهى واقفة. على خلاف غيرها من الحيوان.
- وقوله تعالى: «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» أي أنها إذا نزفت دماؤها، وسقطت على الأرض، جثّة هامدة- أصبحت صالحة للأكل.. فكلوا منها، وأطعموا القانع، الذي لا يسأل، والمعترّ الذي يسأل، فهى نعمة من نعم الله، جعلها الله فى أيديكم، وسخرها لكم،(9/1039)
فاشكروا له، بهذا البذل، الذي تبذلونه من لحومها، لمن ترون أنه محتاج، ولو لم يسأل..، وكذلك غير المحتاج من أهل وأصدقاء..
قوله تعالى:
«لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» .
أي أن هذه البدن التي تقدمونها قربانا، و، تطعمون منها وتطعمون، هى فى الواقع نفع خالص لكم.. فليس لله سبحانه وتعالى- وهى من عطاياه- شىء منها، وليس فى تقديمها قربانا لله، وإطعام من تطعمون منها- ما يصل إلى الله منه شىء.. فهذا كل شىء منها هو بين أيديكم: لحمها قد أكلتموه، ودمها قد أريق على الأرض.. ومع هذا فهى قربان لكم، تتقربون به إلى الله، وتثابون عليه.
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» إشارة إلى أنه ليس المقصود من هذه الهدايا ذبحها، وأكل لحمها.. وإنما المراد أولا وبالذات، هو امتثالكم لأمر الله، وإمضاء دعوته، فيما يدعوكم إليه، من التضحية بشىء عزيز عليكم، حبيب إلى نفوسكم، وبهذا تحسبون فى أهل التقوى من عباد الله.. وهذا هو الذي يناله الله منكم، ويتقبله من أعمالكم.. إنه التعبّد لله، والولاء له، والاستجابة لأمره..
وفى التعبير عن تقبّل الله سبحانه وتعالى للطاعات من عباده «بالنيل» - تفضّل من الله سبحانه وتعالى على عباده المتقين، وإحسان مضاعف منه إليهم، إذ جعل طاعتهم، وتعبدهم له- إحسانا منهم إليه، سبحانه وتعالى.. وهذا شبيه بقوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» (245: البقرة) .
فهو سبحانه وتعالى- فضلا وكرما وإحسانا منه- يعطى، ويقترض ممن أعطاه!(9/1040)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
ألا خسىء وخسر الذين يضنون بما فى أيديهم عن البذل والعطاء، من عطاء الله، فى سبيل الله..!
الآيات: (38- 41) [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تعظيم شعائر الله ومناسكه، وإلى ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام، وإلى إطعام القانع والمعترّ منها..
وهذا لا يقوم على تعظيمه والوفاء به، إلّا أهل الإيمان والتقوى- فناسب هذا أن يذكر ما للمؤمنين المتقين عند الله من فضل وإحسان، وأنهم جند الله، يدافع الله عنهم، وينصرهم..(9/1041)
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» .. إشارة إلى أن المؤمنين معرضون للابتلاء من أعداء الله، الذين يكيدون لهم، ويريدونهم على أن يكونوا معهم، وألا يخرجوا عن طريقهم. ولكن الله سبحانه وتعالى «يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» فيربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم على طريق الهدى، ويمدهم بالصبر على احتمال المكروه.. وهذا أشبه بالدروع الحصينة التي تتكسر عليها ضربات أهل الباطل والكفر.. إنها أمداد من الله، وأدوات من أدوات الدفاع.. ثم ينتهى الأمر بانحسار جبهة الضلال، واندحار أهله، وغلبة الإيمان وانتصار المؤمنين: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) .
وأنت ترى. أن دفاع الله عن المؤمنين، إنما يكون والمؤمنون فى مواطن الإيمان، وفى ميدان المعركة.
وهذا يعنى أن المؤمن الذي يستسلم لعدوّ الله وعدوّ المؤمنين، لا يكون فى ميدان المعركة، ومن ثمّ فلا يكون من الله دفاع عنه، إذ لا معركة قائمة بينه وبين عدوّه..
ومن هنا، كان واجبا على المؤمن الذي يطمع فى دفاع الله عنه، ألا يلقى السلاح.
من يده، وألا يفرّ من الميدان.. سواء أكان ذلك ميدان حرب، أو ميدان رأى، ودعوة إلى الله..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» - هو تهديد للكافرين، الذين خانوا عهد الله وميثاقه الذي واثقهم به وهم فى أصلاب آبائهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172: الأعراف) .(9/1042)
ثم إنهم بعد هذا قد كفروا بما جاءهم من آيات الله على يد رسله، وكذبوا بها..
فهم لهذا فى معرض السخط من الله.. «لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (174: البقرة) .
قوله تعالى:
«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» ..
أذن لهم: أي أبيح لهم القتال، دفاعا عن النفس..
أي أن الله سبحانه وتعالى، قد أذن المسلمين الذين بدأهم أعداؤهم وأعداء الله بالقتال- قد أذن لهم أن يقاتلوا، وأن يدفعوا يد البغي والعدوان عنهم..
فهذا قتال مشروع، بل إنه واجب، إذ كان فيه تقليم لأظفر الطغيان وخضد لشوكة الطغاة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (179: البقرة) ويقول: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (194: البقرة) ..
أما الاستسلام للبغى، والسكوت على الظلم، فهو تمكين للشرّ، وتدعيم لبنائه، وإطلاق ليده، يضرب بها كيف يشاء فى مواقع الحق، ومواطن الخير..
إن البغي، والظلم، والعدوان.. كلها وجوه منكرة من وجوه المنكر، ومطلوب من كل مؤمن بالله أن يدفع المنكر بكل ما ملكت يده، ووسع جهده..
وقتال المؤمنين، والعدوان عليهم، بإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم، هو أنكر المنكر، وإنه لفرض على كل مؤمن أن يردّ هذا المنكر، ويخمد(9/1043)
أنفاسه، ويقدم نفسه قربانا لله فى سبيل الدفاع عن دين الله، وعن ينابيع الرحمة والخير المتدفقة منه.
- وفى قوله تعالى: «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» هو تعليل للإذن الذي أذن فيه للمؤمنين بالقتال..
والمعنى: أنه قد أذن الله للذين يقاتلون أن يقاتلوا من يقاتلهم، بسبب أنهم ظلموا بالتعدّى عليهم، وبمبادأتهم بالقتال.. فهو قتال دفاع منهم، لا قتال هجوم.. ولهذا، فإنهم مؤيّدون بنصر الله، «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» .
إذ في يده سبحانه القوى كلها، وإنه لا غالب لله.. وفى هذا تحريض للمظلوم- وإن كان ضعيفا- أن ينتصف ممن ظلمه، فإنه على وعد بنصر الله له.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
هو بيان الحال هؤلاء الذين أذن الله لهم أن يقاتلوا.. فقوله تعالى:
«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» - هو بدل من قوله تعالى: «لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» فهؤلاء الذين يقاتلون، وأذن لهم فى قتال مقاتليهم- هم أولئك المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا «بِغَيْرِ حَقٍّ» .. فإنهم لم يجنوا على أحد، ولم يكرهوا أحدا على أمر، وإنما كل جنايتهم- إن كانت هناك جناية- هى إيمانهم بالله، وقولهم ربنا الله الواحد، الذي لا شريك له.. فهل فى هذا عدوان على أحد، أو ضرر يعود على أحد؟. ولكنّ أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقول فاسدة، فيرون النور ظلاما، والخير شرا، والإحسان إساءة..(9/1044)
- وقوله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» .. هو إشارة إلى هذا الصدام الذي يقوم بين أهل الشر والضلال، وأهل الخير والإيمان، وأنه لولا أهل الخير والإيمان، ووقوفهم فى وجه الضالين والباغين- لما قام لله دين على هذه الأرض، ولغلب الشر الضلال، ولأنى على كل صالحة فى هذه الدنيا، ولخربت بيوت العبادة التي أقامها المؤمنون لعبادة الله من «صَوامِعُ» وهى بيوت عبادة الرهبان من النصارى، «وَبِيَعٌ» وهى بيوت عبادة النصارى عامة، «وَصَلَواتٌ» وهى بيوت عبادة اليهود، «وَمَساجِدُ» وهى بيوت عبادة المسلمين..
ومن أجل هذا، فقد أقام الله سبحانه وتعالى، فى كل ملة، وفى كل أمّة، جماعة مؤمنة، تقيم شرع الله، وتحيى شعائره، وتعمر بيوته، وتحتمل فى سبيل هذا ما تحتمل من بلاء، فى دفع الظالمين، وردع الباغين..
فهذا الصّدام القائم بين الهدى والضلال، وبين المهتدين والضّالّين، هو سنّة من سنن الله، التي أقام حياة الناس عليها، والتي كان من ثمارها أن قامت بيوت الله، وعمرت بالمؤمنين الذاكرين الله كثيرا فيها..
وفى هذا دعوة المؤمنين- فى صدر الدعوة الإسلامية خاصة- أن يكونوا جند الله فى هذه الأرض، والحماة المدافعين عن دينه، والمقيمين مساجده، والمعمّرين ساحاتها بذكر الله فيها..
وفى هذا أيضا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين مساجد، وأن هذه المساجد ستعمر بالمصلين والذاكرين الله كثيرا فيها.. وهو وعد كريم من ربّ كريم، لجماعة المؤمنين يومئذ.. وقد تحقق هذا الوعد- وكان لا بد أن(9/1045)
يتحقق- فملأت المساجد آفاق الأرض، وامتلأت بالمصلين، واهتزت جنباتها بالذاكرين.
قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» هو وعد منه سبحانه وتعالى بالنصر للمؤمنين، الذين نصروا الله، وجاهدوا فى سبيله.. إنهم نصروا الله إذ نصروا دينه، فكان حقّا على الله أن ينصرهم، كما يقول سبحانه: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
(47: الروم) .
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» هو توكيد، بعد توكيد لهذا الوعد الذي وعده الله المؤمنين بالنصر، إذا هم نصروا الله، ودافعوا عن دين الله..
وليس وعد الله فى حاجة إلى توكيد، عند المؤمنين بالله، ولكنه مبالغة فى تطمين القلوب، وتثبيت الأقدام، فى تلك الساعات التي تزيغ فيها الأبصار، وتضطرب النفوس، حين تلتقى جماعة المؤمنين، فى أعدادها القليلة، بحشود المشركين، فى جحافلها الجرارة! قوله تعالى:
«الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .
يمكن أن يكون الاسم الموصول: «الَّذِينَ» بدلا من الاسم الموصول فى قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» كما يمكن أن يكون بدلا من الاسم الموصول «الَّذِينَ» فى قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» ..
وعلى أىّ فإن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، هم الذين وعدوا(9/1046)
بالنصر فى قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» ..
فالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم المهاجرون- هم الذين وعدوا بالنصر، لأنهم نصروا الله، فخرجوا من ديارهم وأموالهم، مهاجرين بدينهم الذي هو كل حظهم من هذه الدنيا، والذي باعوا من أجله أنفسهم وأموالهم وديارهم وأوطانهم..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» - هو عرض للصورة الكريمة التي سيكون عليها هؤلاء المؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وذلك حين ينصرهم الله، ويمكّن لهم فى الأرض، وتكون لهم القوة والغلب..
إنهم- مع ما ملكت أيديهم من قوة، وما مكّن الله سبحانه وتعالى لهم فى الأرض من سلطان- لن يكونوا على شاكلة هؤلاء الضالّين الذين كانت إلى أيديهم القوة والسلطان، فتسلطوا على عباد الله، ورهقوهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق..
إن هؤلاء المؤمنين، حين يمكّن الله لهم فى الأرض، سيكونون مصابيح هدى، وينابيع رحمة، للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق، والعدل، وما يغرسون فى آفاقها من مغارس الخير والإحسان.. إنهم يقيمون الصلاة، ليستمدوا منها أمداد الهدى من الله.. ويؤتون الزكاة، فيكشفون بها الضرّ عن عباد الله.. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. فيصلحون بهذا من سلوك الناس، ويقيمون لهم طرقهم مستقيمة، فلا تتصادم منازعهم، ولا تفسد مشاربهم..
وقد صدق الله وعده، ومكن سبحانه وتعالى للمؤمنين فى الأرض، فكانوا أعلام هدى، وآيات رحمة، وموازين عدل وإحسان بين الناس..(9/1047)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
وكانوا كما وصفهم سبحانه بقوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (110: آل عمران) .
قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .. إشارة إلى نفاد قدرة الله، وأنها بالغة الغاية التي قدّرها الله لها فى هذا المقام، وهى نصر المؤمنين، وإعزازهم، وخذلان المشركين والضالين، وخزيهم..
فعاقبة الأمور، هى ثمراتها الطيبة، إذ كانت الأمور كلها تجرى بأمر الله، وتتحرك بمشيئته.. فإذا بلغت غايتها كانت خيرا، وكانت كمالا، وحسنا..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (128: الأعراف) وقوله سبحانه: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» (132: طه) .
الآيات: (42- 48) [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)(9/1048)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» .
فى هذه الآيات مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء جميل من ربّ العالمين، لما يلقى من قومه من تكذيب، وسفه، وتطاول.. فتلك هى سبيل الأنبياء مع أقوامهم.. «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ» (44: المؤمنون) .. وأنت أيها النبي لست بمعزل عن هذا، ولا قومك ببدع بين الأقوام.. إنه حق وباطل، وهدى وضلال، وإنه لا بد من صدام بين أصحاب الحق وأهل الباطل، وبين دعاة الهدى، وأئمة الضلال.. «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» (35: الأحقاف) ..
وفى هذه الآيات:
أوّلا: جاء ذكر قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، مضافين إلى أنبيائهم، على حين جاء قوم هود، وقوم صالح، وأصحاب مدين، وهم عاد وثمود، وقوم شعيب مجردين من هذه الإضافة.. فما وجه هذا؟ ..
الجواب- والله أعلم- أنه تنويع فى النظم، وذلك بتوزيع الكلمات ذات النغم الواحد مثل «قوم» هذا التوزيع غير المتتابع، حتى لا يثقل على الأذن، ولا يثير الملل والسأم، فكان هذا التوزيع الذي ترى وتسمع تساوق لحنه وروعة نغمه.. ولو ذهبت تعيم النظم على أسلوب واحد، فتذكر الأقوام مضافين إلى أنبيائهم، أو تذكرهم بأعيانهم مجردين من تلك الإضافة، لوجدت نظما قلقا مضطربا يتعثر به اللسان، وتستثقله الآذان.(9/1049)
وثانيا: جاء الفعل «كذبت» مؤنثا مع أن فاعله مذكر وهو «قوم نوح» ..
وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل مذكرا هكذا: «كذب» فما سرّ هذا؟ ..
والجواب- والله أعلم- أن القوم المكذبين كانوا على طبيعة واحدة من الضلال والعمى، فكأنهم- بهذا كتلة متضخمة من الظلام، لا يخرج منها إلا ما هو شر، وضرّ.. فكأنّ الفعل واقع على هذا الكيان الفاسد، أو هذه القطعة من الظلام، والضلال!.
ومن جهة أخرى، فإن الفعل «كذب مسلط على هؤلاء الأقوام الذين ذكرتهم الآية، قوم نوح، وعاد، وثمود ... » وهم بهذا أمة واحدة، فى الضلال، وإن كانوا أمما فى الأمكنة والأزمنة..
وثالثا: جاء قوله تعالى: «وَكُذِّبَ مُوسى» مخالفا للنظم، الذي كان ظاهره يقضى بأن يجىء هكذا: «وكذب قوم موسى» معطوفا على قوله تعالى «وَأَصْحابُ مَدْيَنَ» .. فما وجه هذا؟.
والجواب- والله أعلم- أن قوم موسى، وهم بنو إسرائيل لم يكذبوه، وإنما الذي كذبه هو فرعون وقوم فرعون، وهم ليسوا قوم موسى..
أما السرّ فى أنه لم يذكر فرعون وقومه فى الأمم والأقوام المكذبة بالرسل فذلك- والله أعلم- لأن موسى لم يكن من قوم فرعون، ورسل الله جميعا من أقوامهم.. فلم يكن موسى مبعوثا إلى فرعون وقومه ليقيم فيهم دينا ويؤسس شريعة، وإنما كانت رسالته إلى فرعون أن يدعوه إلى إطلاق بنى إسرائيل من يده كما يقول سبحانه لموسى وما يدعون فرعون إليه: «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» (47: طه) هذه هى رسالة موسى إلى فرعون..(9/1050)
أما دعوته فرعون إلى الإيمان بالله، فهى من مستلزمات دعوته إلى إطلاق بنى إسرائيل، تلك الدعوة المأمور بها من الله.. فإذا لم يؤمن فرعون بالله، فلن يستجيب لهذه الدعوة..
- وفى قوله تعالى: «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.»
هو تهديد للمشركين، الذين تصدوا للنبىّ وكذبوه، وآذوه.. فإن يكن الله قد أملى لهم، أي أمهلهم، ولم يعجل لهم العذاب فإنه سبحانه قد أملى للكافرين قبلهم.. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر..
- وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى ما أخذ الله به الكافرين المكذبين برسل الله.. «فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أرسل عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة..»
والنكير: الإنكار المنكر.. ونكير الله هو إنكاره على الكافرين كفرهم، وليس وراء هذا الإنكار، إلا البلاء المهين، والعذاب الأليم..
قوله تعالى:
«فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ..»
هو بيان لنكير الله سبحانه وتعالى، ووقعات بأسه بالظالمين والضالين..
فكثير من قرى الظالمين قد أهلكها الله، وأنزل بها عذابه، فوقع عليها وهى قائمة على ما كانت عليه من ظلم وطغيان.. وهذه القرى قد خوت على عروشها،(9/1051)
أي خرّت، وسقطت على عروشها، أي سقفها.. كما يخرّ الإنسان على وجهه.
فتعطلت آبارها وردمت، لأنها لا تجد الواردين إليها، وخربت القصور المشيدة، بعد عمرانها، لأنها لا تجد من يسكنها..
لقد ذهب الجميع، وخلّفوا وراءهم هذا الخراب الموحش المخيف!.
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.»
الاستفهام هنا، تقريع، ونخس لهؤلاء المشركين من قريش، الذين تصدّوا لرسول الله، وكذّبوه وآذوه، دون أن ينظروا فى عاقبة أمرهم، ودون أن يلتفتوا إلى ما وراء هذا المنكر الذي هم فيه.. ولو نظروا فيما حولهم لعرفوا أنهم فى معرض الهلاك، إذا هم لم يرجعوا عن هذا الضلال الذي يركبونه، فهم ليسوا أحسن موقفا من أولئك الأقوام الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فأهلكهم الله..
- وفى قوله تعالى: «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» هو إشارة إلى أن السير فى الأرض، لا يفيد منه صاحبه شيئا إلا إذا كان معه قلب متفتّح، يتلقّى المؤثّرات الخارجية، ويتأثّر بها، ويتفاعل معها.. فإن لم يكن له هذا القلب اليقظ المتفتّح، فليفتح أذنه لدعوة الداعي، ونذير المنذر..
فإن الأعمى يتّخذ من أذنه أداة عاملة تقوم مقام عينيه، وتصل ما بينه وبين الوجود..
أما هؤلاء القوم الضالون، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، ولم تكن لهم آذان يسمعون بها.. لقد عطلوا حواسهم.. فهم صمّ بكم عمى لا يعقلون..(9/1052)
ولم يذكر القرآن هنا أبصارهم، ولم يستدعها كما استدعى قلوبهم وآذانهم.. ولكن أشار إليها ضمنا، فى قوله تعالى: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» .. فكأنه قال: أما أبصارهم فلا وزن لها إذا لم تكن هناك القلوب التي تتلقى عنها، وتعى ما يجىء إليها منها..
فأبصارهم معهم، وهى سليمة لا عيب فيها، ولكنهم مع هذا هم عمى، لأن العمى ليس عمى الأبصار، ولكنه عمى القلوب التي فى الصدور.
- وفى قوله تعالى: «الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» توكيد للقلوب، وأنها هى المرادة هنا، على سبيل الحقيقة لا المجاز، وذلك لئلا ينصرف مفهوم القلوب إلى العقول، كما يحدث ذلك كثيرا.
وقد وصفت القلوب هنا بأنها تعقل وتدرك.. فكان تحديد مكانها أمرا لازما، حتى يتقرر أنها المقصودة بذاتها، وليست العقول..
واختصاص القلب بالذكر، والنظر إليه على أنه مركز الإدراك والإلهام، فى هذا المقام، لأن الدّين عقيدة، والعقيدة أساسها الحبّ والامتثال والولاء، والقلب هو منبع هذه المشاعر، ومصدر تلك العواطف..
وحقّا، إن للعقل مكانه البارز فى إدراك الحقائق الدينية، وتصوّرها، وإنه بغير هذا الإدراك وذلك التصور لا تقع هذه الحقائق من القلب موقع الحبّ، والتقدير، والتقديس.. ولكن القرآن الكريم ينظر إلى القلب، لا باعتباره مصدر العواطف والمشاعر وحسب، بل ينظر إليه كذلك نظرة وظيفية، كعضو عامل فى كيان الإنسان.. فهو- من هذه الجهة- مركز الحياة فى الإنسان، بل وفى كل عالم الحيوان- حيث يمدّ الجسم كلّه بالدّم المتدفق منه فى العروق والشرايين، ولو توقف لحظات لمات الكائن الحىّ، وأصبح جثة هامدة.. ومن هنا كان نبض القلب هو الإشارة الدالة على وجود الحياة(9/1053)
فى الإنسان.. وحين يسكت النبض تتوقف الحياة، ويغيض مجراها، وتجفّ ينابيعها..
وإذ كان القلب بهذه المثابة، فإنه هو صاحب الشأن الأول فى الإنسان، بحكم آثاره الظاهرة فيه.. إنه يعمل دائما فى حال اليقظة والنوم.
وأما العقل، وإن عرفت آثاره، فإنه لا يعرف سرّه، ولو عرف سرّه، فإنه لا يخرج عن أن يكون ربيب القلب، وغذىّ ماء الحياة الذي يمدّه به، أيّا كان موضعه فى كيان الإنسان، وأيّا كان مستقرّه.
فإذا أضاف القرآن الكريم إلى القلب، علما، ومعرفة، وحكمة، وإيمانا، فإنّما ذلك لأنه سلطان الجسد كلّه، وإلى صلاحه أو فساده يعود صلاح أعضاء الإنسان وفسادها، وسلامة حواسه أو اعتلالها.. وليس العقل إلا حاسّة خفية- من حواس الإنسان، ترتبط سلامته بسلامة الجسد، كما ترتبط سلامة الجسد بسلامة القلب، وفى المثل: «العقل السليم فى الجسم السليم» .. وقد كشف عن هذا الرسول الكريم فى قوله: «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهى القلب» .
وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى: «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» (46: الحج) لا على أن القلب هو مصدر الإدراك المباشر، وإنما هو مصدر للعقل الذي يعقل ويدرك.. فلو كان القلب سليما معافى من العلل لسلم العقل، ثم لكان إدراكه للأمور سليما، وتقديره لها صحيحا.. وهذا أبلغ فى الكشف عن داء الغفلة المستولى على القوم، وأنه داء ينبع من المنبع الأصلى، وهو القلب، وليس داء عارضا أصاب حاسة من الحواس..
إنه داء يسرى فى الجسد كله.
وسواء إذا كان القلب هو موطن المشاعر والمدركات، أم كان عضوا(9/1054)
من أعضاء الجسد أو جارحة من جوارحه، فإنه من حيث مكانه فى الجسد، ووظيفته العضوية فيه- يعدّ مركز الحياة فى الكائن الحىّ، تتأثر به كل خلية من خلايا الجسد، كما أنه يتأثر بكل خلية فى الجسد.. ومن هنا صحّ أن يضاف إليه كلّ ما للجوارح من آثار، وما لكل عضو من قوى حسّية أو معنوية.
فالعين وما فيها من قوى الإبصار، هى من جنود القلب.. إذ هى غصن من أغصان الشجرة التي يقوم على تغذيتها، وإمدادها بالحياة.. وكذلك الشأن فى الأذن، واليد، واللسان.. وكذلك الحال فى «المخ» الذي قيل إنه هو موطن الشعور والإدراك!! إن الإنسان، هو فى الواقع هذا القلب، لا من حيث هو تلك النطفة الصنوبرية من اللحم والدّم.. ولكن من حيث هو مستودع هذه الحياة المتدفقة منه، وهى الدّم الذي يسرى فى العروق والشرايين، والذي يملأ الكيان الجسدى كلّه مع كل خفقة من خفقاته، قبضا وانبساطا..
قوله تعالى:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .
هو ردّ على هؤلاء المشركين الضالين الذين عموا عن الحقّ، وضلوا عن سواء السبيل، ثم هم مع- هذا الموقف المكابر المتحدّى- يستعجلون العذاب الذي أنذروا به إنهم أعرضوا عن الإيمان بالله، وكذبوا بما جاءهم به رسول الله، كما فى قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» (13: فصلت) .. وفى هذا الرد إنكار عليهم، وتسفيه لهم، إذ(9/1055)
يطلبون الهلاك، ويستعجلون البلاء، على حين يصرفون وجوههم عن هذا الخير الذي بين أيديهم، ويلقون بأنفسهم إلى التهلكة.. وهذا لا يكون من إنسان له مسكة من العقل والإدراك.
وفى قوله تعالى: «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» تهديد لهم، بالعذاب الذي أنذروا به، وأنه واقع بهم.. فهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده.. لأن خلف الوعد إنما يكون عن عجز عن الوفاء به.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وقوله سبحانه: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» هو تأكيد لوقوع وعد الله، وإنجازه وأنهم إذا كانوا قد استبطئوا وقوعه، فإن لله سبحانه وتعالى تقديرا غير تقديرهم، وحسابا غير حسابهم، وأنه سبحانه لا يقيس الزمن بمقياس الناس، فالناس يتعاملون مع أشياء محدودة، فى زمن محدود، على حين أن الله سبحانه يدبر الوجود كله، فى زمن مطلق، وبقدرة مطلقة..
وعلى هذا فإنه إذا لم يقع بهم العذاب عاجلا فهو واقع آجلا، وأنهم إذا لم يؤخذوا به فى الدنيا، أخذوا به فى الآخرة.. فهم أبدا فى قبضة الزمن الذي هو فى قبضة الله.. ولن يفلتوا أبدا.
قوله تعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» ..
هو بيان شارح لقوله تعالى: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» ..
والمعنى أن هؤلاء المشركين إن كانوا يستعجلون العذاب، ويشكون فى وقوعه حين أبطأ عليهم، ولم يقع بهم، فما ذلك إلّا لأن لهم حسابا، وأن لله سبحانه وتعالى حسابا، وأنهم إذا كانوا قد أملى لهم ولم يؤخذوا بظلمهم إلى يومهم هذا الذي هم فيه- فليس هذا لأنهم ممتنعون عن الله بقوة أو جاه أو سلطان،(9/1056)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
وإنما لأن ذلك هو حكم الله فى عباده، وسنته فى الظالمين منهم.. لا يعجل لهم العذاب، ولا يبادرهم به، بل يمهلهم ويملى لهم، حتى يراجعوا أنفسهم، ويتدبروا أمرهم، وهذا من رحمة الله بهم وفضله عليهم، كما يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (61: النحل) وبين يدى هؤلاء المشركين الضالين شاهد ناطق بهذا فما أكثر القرى الظالمة التي أمهلها الله.. ثم أخذها.. بل إن هؤلاء المشركين هم شاهد حىّ لهذا.. فهم على ما هم فيه من ظلم ما زالوا فى عافية من أمرهم، لم يأخذهم الله بعذابه.. وتلك فرصتهم السانحة للخلاص من بأس الله، الذي لا يردّ.. إذا حان حينه بهم..
- وفى قوله تعالى: «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» إشارة إلى أنهم إذا لم يؤخذوا بظلمهم فى هذه الدنيا، فإنهم صائرون إلى الله، وسيلقون جزاء الظالمين يوم القيامة.. فإن هم أمهلوا اليوم، فليس معنى ذلك أنهم نجوا من العذاب، بل إن فى غد عذابا فوق العذاب، وبلاء فوق البلاء! «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (26: الزمر) .
الآيات: (49- 59) [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 59]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)(9/1057)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .
هو توكيد لهذا الإنذار، الذي أنذر به المشركون من وقوع العذاب بهم، إذا هم لم يستجيبوا لله وللرسول.. فهو إنذار عام للناس جميعا، ولكنه فى حقيقته إنذار خاص لكل ضالّ غوىّ، ثم هو إنذار فى مواجهة هؤلاء المشركين، يصرخ فى وجوههم، ويصكّ أسماعهم.. وإنه لإنذار مبين واضح، بما معه من الأدلة القاطعة، والآيات الناطقة المعجزة..
«فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .
الفاء هنا، للتفريع المسبب عن هذا الإنذار الذي جاء به النذير المبين..(9/1058)
إذ الناس مع هذا الإنذار، بين ملتفت إليه، مستفيد منه، آخذ طريق النجاة، وبين ذاهل عنه، أو مستخفّ به، أو مكذّب له.. فهو فى غفلة من أمره، قائم فى وجه العاصفة العاتية التي تجتاح كل شىء، وتدمر كل شىء..
فأما الذين استمعوا لهذا النذير، وآمنوا بالله، وعملوا الصالحات، فقد ركبوا طريق النجاة، ولهم من الله مغفرة، ورحمة، ورزق كريم..
«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» ..
أي: وأما هؤلاء الذين لم يستمعوا لهذا النذير المبين، ولم يستضيئوا بالنور الذي معه، بل تصدّوا لهذا النور، وأرادوا أن يطفئوه بأفواههم، وبما يخرج منها من أكاذيب وأضاليل- هؤلاء هم أصحاب الجحيم، فليس لهم من صاحب إلا جهنم وما تمدّهم به من عذاب أليم.. إنهم أشكل بها، وهى أقرب شىء إلى طبيعتهم.
- وفى قوله تعالى: «سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى سعى هؤلاء المشركين، وأنه سعى للباطل والضلال، حيث يسعون لإعجاز آيات الله، وغلبتها وصرفها عن طريقها.. وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أنهم يدخلون فى آيات الله ويلبسون الحقّ بالباطل، إذ يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلقون فيه بالهذر من القول، والسّخف من الكلام، كما حكى القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (26: فصلت) .
وأريد أن تلتفت التفاتة خاصة إلى قوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» وأن تقف لويلا عندها، فإن لها شأنا فى تلك القصّة العجيبة المثيرة، التي نسج خيوطها(9/1059)
المفسّرون والقصّاص، من واردات الخيالات والأوهام، فكان منها تلك الخرافة المعروفة (بالغرانقة العلا) التي كثرت فيها الأقوال، وتضاربت حولها الآراء، حتى كادت تدخل مدخل الواقع، وتلبس ثوب الحقيقة، لدورانها على الألسنة، وتقليب وجوه الرأى فيها، وهى كائن ميت، كان من الواجب أن يوارى من أول يومه، ويدفن فى التراب، وألا ينبش بين الحين والحين، فإن تقليب جثث الموتى لا تجىء منه إلا الروائح الخبيثة، التي تزكم الأنوف، وتكظم الأنفاس! وقد كنّا نريد ألا ننبش هذا الجسد المتعفن، وألا نثير منه تلك الروائح الخبيثة التي تضيق بها صدور المؤمنين، لولا أننا نخشى أن يكون لبعض المؤمنين نظر فيها، ووقوف أو توقّف عندها، وهم يقرءونها فى كتب التفاسير، ويجدونها فى ثنايا كتب السيرة النبويّة العطرة!.
فيثير ذلك فى نفوسهم قلقا، واضطرابا، ويحرّك فى صدورهم وساوس وظنونا! ولهذا لم نر بدّا من الوقوف عند هذه القصة، والكشف عن زيفها وباطلها..!
ولكن قبل الدخول فى هذا البحث، أعود فأذكّرك بالنظر إلى قوله تعالى فى الآية السابقة: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» .. وإلى أن هذه الآية موجهة إلى المشركين، وإلى عبثهم بآيات الله، وإلى مغالبتها ومعاجزتها باللّغو فيها..
فالمشركون متّهمون بهذه الجريمة، وهى الدخول إلى آيات الله، بما يغيّر وجهها، ويبدّل صورتها، ويعطيهم الحجة عليها، بعد أن كانت لها الحجة عليهم..
إذا عرفنا هذا، وسلمنا به- وهو واضح لا يحتاج إلى من يدلّ عليه، وهو أمر مسلّم به، لا يجوز الخلاف فيه- كان ذلك هو مقطع القول فى هذه القضية،(9/1060)
وكلمة الفصل فيها.. وكانت كلّ الدعاوى التي تدّعى لها، وكلّ الروايات التي تساق لإثبات شخصيتها، ضلالا فى ضلال، لأنها تصادم صريح لفظ القرآن، وتنقض خبرا من أخباره.. وذلك كما سترى..
[الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟]
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
هذه الآية الكريمة، هى التي ولّد منها المفسّرون وأصحاب السّير، قصة «الغرانقة» هذه.. ولكنا ندع هذه القصة الآن، وننظر فى الآية الكريمة نظرا غير مرتبط بما يقال من روايات عن أسباب النزول- ننظر إليها على أنها قرآن يتلى، ويتعبّد بتلاوته، دون أن يكون لسبب النزول- أيّا كان- أثر فى موقعه من قلوبنا، أو عقولنا! - فقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» هو خبر يتضمن حكما عاما، لا انفكاك منه.. يقع على رسل الله وأنبيائه جميعا.. وهذا الحكم، هو: أنه ما من رسول من رسل الله، ولا نبىّ من أنبيائه، إلا والشيطان راصد له، وأنه كلّما تمنّى ألقى الشيطان فى أمنيّته! هذا صريح ما تنطق به كلمات الله، فى وضوح وجلاء.. وإن كان هناك ما يسأل عنه، فهو كلمة التمنّى.. فما معنى التّمنّي، وماذا كان يتمنّى الرسول، أو النبىّ؟ ثم ماذا يلقى الشيطان فيما يتمناه الرسول أو النبىّ؟(9/1061)
والتمنّى فى اللغة معروف، وهو طلب النّفس لرغيبة من الرغائب المحبوبة، البعيدة عن أن تنال، بعدا يكاد يبلغ حدّ الاستحالة.
وقد فرّق علماء النحو والبلاغة بين الترجّى، والتّمنّي، كما فرّقوا بين حرفى الطلب: ليت، ولعلّ.. فقالوا: إن «ليت» للتمنّى، وهو طلب محبوب لا يدرك، و «لعلّ» للترجّى، وهو طلب مرغوب يمكن إدراكه والحصول عليه، وإن كان بعيدا.
وفى القرآن الكريم، جاء لفظ التمني بهذا المعنى، الذي هو طلب الشيء البعيد.. كما فى قوله تعالى: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» (94- 95: البقرة) .
والخطاب هنا لبنى إسرائيل، وهم مطالبون فى هذا الخطاب أن يتمنّوا شيئا لا يمكن أن يقع منهم، وهو تمنّى الموت.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» كاشفا عن هذا.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» - جاء مؤكدا لعدم وقوع هذا الأمر منهم، إذ أن الحريص على الشيء لا يتمنى إفلاته من يده، فكيف إذا كان أشدّ الناس حرصا عليه؟
وجاء فى القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟» (24: النجم) وهو ينكر على الإنسان أن يقع له ما يتمناه، ويجرى على هواه وهواجسه..
وجاء فى القرآن الكريم كذلك فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (78: البقرة) والأمانىّ جمع أمنيّة..
وعلم الأميين من أهل الكتاب، بالكتاب، هو علم بعيد عن الحقّ، بعد الأمنية عمن يتمنّاها.(9/1062)
ذلك هو التمني، على ما عرفته العرب، وجاء به القرآن الكريم، وهو أنه طلب أمر محبوب، بعيد الإدراك، أو مستحيله.
فما هى أمنية كلّ رسول، وكلّ نبىّ؟
إن أمنية كلّ رسول، ورغيبة كلّ نبىّ، هى أن يرى قومه على الهدى الذي يدعوهم إليه، وأن يصبحوا جميعا فى المؤمنين بالله.. فتلك هى رسالته فى الناس، يعيش لها، ويعمل من أجل تحقيقها، وأن سعادته كلها هى أن يرى نجاح مسعاه، وثمرة جهاده، فى هذه الأعداد التي استجابت له واتبعته، وأنه كلما كثرت هذه الأعداد، تضاعفت سعادته، وعظمت غبطته.
هذه هى أمنية كل رسول، وكل نبىّ.. لا أمنية لأحد منهم غير هذه الأمنية! ولكن الأمانىّ- كما قلنا- بعيدة التحقيق! وأمنية الرسول أو النبىّ فى أن يكون الناس جميعا مؤمنين- أمنية تقع فى دائرة المستحيلات، لأنها تطلب من الحياة مالم تجد به، وتريد الناس على غير ما أقامهم الله عليه.. فالحياة لم تعرف المجتمع الإنسانىّ على طريق سواء، يضمّ جميع أفراده.. والناس- كما خلقهم الله- مؤمن وكافر، وفى هذا يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .
وإذن فأمنية أي رسول وأي نبىّ، غير ممكنة التحقيق.. ومع هذا فإن على كل رسول وكل نبىّ أن يسعى سعيه، ويبذل جهده، ويدعو الناس جميعا إلى الله، ويؤذّن فيهم بآيات الله! ولكن صوت الحق هذا، تلقاه على الطريق أصوات منكرة، بعضها ينبح نبح الكلاب، وبعضها يعوى عواء الذئاب، ومنها ما ينهق نهيق الحمير،(9/1063)
ومنها ما يفحّ فحيح الأفاعى.. فيتألف منها ومن كثير غيرها من كل صوت منكر- إعصار مجنون، يكاد يخنق هذا الصوت الكريم، ويغطى سماءه الصافية، بما يثير من غبار ودخان! فهذه هى أمنية الرسول أو النبىّ، وتلك إلقاءات الشيطان فيها.. إذ ليست كلّ هذه الأصوات المنكرة إلا صنيعة الشيطان، وإلا غرسا من غرسه النكد، وثمرات من ثمر هذا الغرس الخبيث..
ويحسن هنا أن تقرأ هذا المقطع من الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ.. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» ..
وواضح مما رأيت، أن أمنيّة كل رسول وكل نبىّ، كانت أبدا هى هداية قومه جميعا إلى الله، وأن إلقاء الشيطان فى هذه الأمنية، هو ما يوسوس به للسفهاء، والحمقى، والجهلاء من القوم، ليقفوا فى وجه الدعوة التي يدعون إليها، وليرهقوا رسلهم وأنبياءهم.. فالشيطان لا يظهر عيانا، ولا يلقى الرسول أو النبىّ مواجهة، وإنما يلقاهما فى أتباعه وأوليائه، هؤلاء الذين استذلّهم الشيطان، وأمسك بهم من مقاودهم، فكانوا له جنودا يسلطهم على أنبياء الله، ورسل الله، وأولياء الله..
ولكن ماذا يكون بين هذه الأمنية التي يتمنّاها الرسول أو النبىّ، وما يلقى به الشيطان فيها؟
الشيطان كما أخبرنا الله- سبحانه وتعالى- عنه، ليس له سلطان على الذين آمنوا، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (99: النحل) فكيف بالرسل والأنبياء، الذين عصمهم الله، وأمدّهم بكثير من أمداد عونه، وتوفيقه، وحياطته؟ ثم كيف والشيطان أيّا كان هو ضعيف الكيد لمن عرف كيف يدافع عن إنسانيته، ويحمى وجوده من أن(9/1064)
يكون مطيعة ذلولا له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76: النساء) إن هؤلاء الضالين الآثمين، الذين يقفون فى وجه الحق، هم صنائع الشيطان، وهم كيده الذي يكيد به لأولياء الله، وأنبياء الله، ورسل الله.. وهذا «الكيد» الذي هو من أولياء الشيطان.. هو كيد ضعيف، وسراب خادع، لا يقف للحقّ، ولا يحتمل صدمته! ..
وعلى هذا، فإن ما يلقى به الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ، من ضلالات وأباطيل، وما يستنبت به فى منابت الحق من شوك وحسك- هو سحب صيف، لا تلبث أن تنقشع من وجه الشمس، وإذا شعاعها يملأ الآفاق، وإذا ضوؤها يبدد كل ظلام، وإذا حرارتها تتمشّى فى أوصال الكائنات.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (17: الرعد) وهكذا يذهب ما يلقى الشيطان فى أمنيّة الرسول أو النبي.. هباء، حيث يخلص النبي أو الرسول بأوليائه، وهم صفوة المجتمع، والثمرات الطيبة فيه، على حين يستولى الشيطان على أتباعه، ويسوقهم إلى حظيرته، حيث هم حصب جهنم وحطبها! واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وانظر كيف كانت عاقبة هذا الصراع بين النبي أو الرسول، وبين الشيطان وأولياء الشيطان.. لقد أحكم الله سبحانه وتعالى آياته، فنسخ أي أبطل.. ما ألقى الشيطان، ثم أحكم سبحانه آياته، وثبّت قواعدها..
ولا يعترض على هذا القول، بأن الرسول أو النبىّ كانت أمنيّته هى هداية(9/1065)
قومه، أو معظم قومه، ولكن الذين خلص بهم من هذا المعترك، هم قليل من كثير.. فكيف يقال مع هذا إن أمنيته تحققت، وإن الله سبحانه وتعالى قد أحكم آياته- على هذا المفهوم الذي فهمت عليه الآية- ونسخ ما ألقى الشيطان؟.
والجواب على هذا، قريب من قريب.. فلقد تحققت أمنية النبي أو الرسول تحقيقا كاملا، ولو لم يؤمن معه من قومه أحد..! كما ترى.
إن أمنية الرسول أو النبىّ. كانت فى أول الأمر هى هداية قومه، فردا، فردا.. وهو فى سبيل تحقيق هذه الأمنية لا يدخر شيئا من جهده، ولا يضنّ بشىء من راحته.. ثم هو مع هذا يظل صابرا محتملا لكل ما يرميه به السفهاء، من فحش القول، وشنيع العمل.. حتى إذا انتهى الأمر إلى غاية يتضح منها أن لا خير يرجى من هؤلاء القوم، وأن لا ثمرة تحصّل منهم، مهما بذل من جهد، أو ضوعف من عمل- إلى هنا يكون الشيطان قد غطى أمنية الرسول أو النبىّ، وحجب ضوءها.. وعندئذ يتولى الله سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضرّاء، فيضربهم ضربة قاضية، فإذا هم فى الهالكين.. وهكذا ينسخ الله كل ما ألقى الشيطان ويبطله، على حين يكون قد أحكم آياته وثبتها بنجاة النبىّ أو الرسول من هذا البلاء.. إن الرسول أو النبىّ فى تلك الحال- وإن كان وحده- هو آية الله، أو آيات الله التي أحكمت، فثبتت، وبقيت..
أما ما ألقى الشيطان، فقد نسخ وبطل، وذهب هباء! واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.. فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
وأحسب- بعد هذا، بل وقبل هذا- أن الآية الكريمة، واضحة(9/1066)
الدلالة بيّنة القصد، لمن نظر إليها نظرا بعيدا عن وساوس الأساطير، وهمسات الإسرائيليات، التي كان يلقى بها اليهود إلى آذان القصاص ورواة الأخبار، فيتلقاها عنهم المفسرون، ويحملونها إلى الكتاب الكريم!! فالآية الكريمة تكاد لوضوحها تنطق بمضمونها، وتحدّث بمفهومها، ولكن الخيال الأسطورى، أغرى المفسرين بأن يستولدوا من الآية عجائب وغرائب منكرة.. كما سنعرضها عليك بعد قليل..
وهنا نحبّ أن نشير إلى أن الآية الكريمة قد تحدّثت عن الرسول، وعن النبىّ، باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة، وأنهما لو كانا على صفة واحدة لما جاءت بهما الآية على هذا النظم، الذي جاء العطف فيه بين الرسول والنبىّ بإعادة حرف النفي، الذي يؤكد لكلّ من الرسول والنبىّ ذاتيته.. فكأنّ نظم الآية يقول: «وما أرسلنا من قبلك من رسول، وما أرسلنا من قبلك من نبىّ» .. وهذا يعنى أن الرسول غير النبىّ..
والذي عليه الرأى عند المفسرين والفقهاء، أن كلّا من الرسول والنبىّ يوحى إليهما من الله ولكن الرسول ينفرد بأنه صاحب شريعة يتلقاها من الله، ويدعو إليها الناس.. بخلاف النبىّ الذي لا شريعة معه، وإنما هو على شريعة رسول سبقه، وأنه يدعو إلى شريعة هذا الرسول.. فكل رسول نبىّ.. وليس كل نبىّ رسولا..
وعلى أىّ، فإن الرسول صاحب كتاب سماوى أو صحف سماوية.. أما النبىّ فلا كتاب ولا صحف معه..
وهذا الوضع الذي يختلف فيه النبىّ عن الرسول، له دلالة كبيرة فى المفهوم الذي ينبغى أن نفهمه من الآية السابقة، وهو أن قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي(9/1067)
الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.»
لا يمكن أن ينصرف إلى الآيات المقروءة، المنزلة وحيا من السماء..
وذلك لأن النبىّ- مجرد النبىّ- لا يدخل فى هذا الحكم، إذ لا كتاب معه، ولا صحف، حتى يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها.!!
وإذن، فالذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما، هو أن معنى النسخ فى هذه الآية، لا يمكن أن يكون واردا على نسخ آيات الله المتلوة، كما هو المعروف عن النسخ بمعناه العام المطلق، الذي فسره عليه المفسرون..
وهذه الحقيقة، هى فى الواقع من أقوى الأدلة على فساد المعنى الذي فهمت عليه الآية الكريمة، والذي جاءت منه قصة- أو خرافة- «الغرانقة العلا» التي ستعرف نبأها عما قليل..
وقبل أن نعرض لهذه الخرافة، ننظر فى الآيات الكريمة التي تلت هذه الآية التي نحن بين يديها، منذ أخذنا فى هذا الحديث.. فهذه الآيات مكملة لها، ومعقبة عليها..
يقول الله تعالى بعد هذه الآية:
«لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ..
وهذا يشير إلى أن ما ألقاه الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ- هو فتنة للذين كفروا من أهل الكتاب، وللقاسية قلوبهم من هؤلاء المشركين من قريش.
بمعنى أن من اتخذهم الشيطان أولياء، فجعل منهم جنودا مدججين بسلاح السفاهة والتطاول على الرسل والأنبياء- هؤلاء الجنود هم فتنة مطلة على الذين كفروا من أهل الكتاب، وهم الذين فى قلوبهم مرض، وعلى المشركين من(9/1068)
العرب، وهم القاسية قلوبهم، إذ كانوا بعملهم هذا- من أهل كتاب ومشركين- دعوة إلى الضلال، تواجه دعوة الهدى التي يدعو بها الرسول والنبىّ.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20:
الفرقان) ويقول سبحانه على لسان المؤمنين: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (5: الممتحنة) .
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» إشارة أخرى إلى أن هؤلاء الذين ألقى بهم الشيطان فى طريق الدعوة التي يدعو بها الرسول أو النبىّ- هم متلبسون بظلم عظيم، لما هم عليه من شقاق بعيد عن مواطن الحق، ومن خلاف قائم على الجرأة والتجرد من الحياء، فى إنكار البديهيات، وفى عدم التسليم بها والانقياد لها:
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى:
«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ.. وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
أي أنه من هذا الاحتكاك بين الحقّ الذي يدعو إليه الرسول أو النبىّ، وبين الباطل الذي يلقى به الشيطان وأولياء الشيطان فى وجه هذا الحق- فى هذا الاحتكاك تنقدح شرارات مضيئة، يرى أهل العلم والمعرفة على ضوئها فرق ما بين الحق والباطل، فتزداد معرفتهم بالحق، ويقوى تعلقهم به، واطمئنان قلوبهم وإخباتها له.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، بهذا الصراع الذي يقوم بين الحق والباطل، فلا يعشى أبصارهم عن الحق هذا الغبار الذي يثيره الباطل والمبطلون فى وجهه، بل إن ذلك ليزيد من نور الحق، ويضاعف من جلاله وروائه.. كالشمس، يحجبها السحاب، فإذا انقشع السحاب وسفرت عن وجهها، كانت أحسن حسنا وأبهى بهاء.. إن ذلك شأن كلّ ضدّ يلتقى بضده.. فالحسن يزداد مع القبيح حسنا، والحلو يكون بعد مذاق(9/1069)
المرّ أحلى مذاقا وألذّ طعما.. والعافية بعد السّقم، تكون أهنأ وأطيب منها فى جسد لم تصادفه علة، أو يلحّ عليه مرض.. وفى المثل: «بضدها تتميز الأشياء» .
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى:
«وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» .
الضمير فى «منه» يعود إلى القرآن الكريم، الذي وإن لم يجر له ذكر فيما سبق، فهو مذكور كأصل أصيل للحق الذي يجادل فيه الذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم..
أما القاسية قلوبهم- وهم مشركو العرب- فستلين قلوبهم آخر الأمر، وسيؤمنون بالله، وينقادون للحق..
وأما الذين فى قلوبهم مرض- وهم أهل الكتاب- وخاصة اليهود، فإنهم لن يتحولوا عن حالهم مع القرآن، بل سيظلون على امترائهم وجدلهم فيه.. وهذا شأنهم أبدا حتى تأتيهم الساعة، بل إن كثيرا منهم سيظل على امترائه حتى يرى عذاب الله فى هذا اليوم العظيم..
وفى وصف هذا اليوم بأنه عقيم، إشارة إلى أنه لا يوم بعده، حتى يمكن أن تتحول فيه أحوال الناس، ويصلح المفسد منهم ما أفسد.. إنه يوم عقيم لا يلد يوما بعده، كما تلد أيام الدنيا، أياما بعدها..
ثم يجىء قوله تعالى:
«الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» :(9/1070)
أي فى هذا اليوم، يكون الملك لله وحده، لا يملك أحد لنفسه أو لأحد شيئا..
وفى هذا الموقف يفصل الله بين عباده، ويقضى بالحقّ بينهم.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم، ينعمون برضوان الله، ويخلدون فى رحمته.. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وجادلوا بالباطل فيها، فأولئك لهم عذاب مهين، يذلّهم ويخزيهم.
وفى تخصيص الملك لله فى هذا اليوم، مع أن الملك لله أبدا، فى هذا اليوم وفى كل يوم، إشارة إلى أن هذا اليوم يتجرد فيه كل ذى سلطان من سلطانه، وكل ذى قوة من قوته، وكل ذى مال من ماله، فلا تصريف لأحد، فى الظاهر أو الباطن، كما للناس تصريف- فى الظاهر- فيما خوّلهم الله من سلطان، وأموال.. فى هذه الدنيا ثم يجىء قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ» ..
هو إشارة إلى إحكام الله لآياته، بعد أن نسخ ما ألقى الشيطان فيها..
فهؤلاء الذين هاجروا فى سبيل الله، فرارا بدينهم، ثم قتلوا استشهادا فى سبيل الله، أو ماتوا ميتة طبيعية- هم من الذين أحكم الله آياته فيهم، فنجاهم من الافتتان فى دينهم، وجزاهم على صبرهم على هذا الابتلاء فى أموالهم وأنفسهم، أجرا عظيما، حيث رزقهم أطيب رزق وأكرمه، وهو الحق الذي معهم، والإيمان الذي عمر قلوبهم، ثم النّصر على عدوّهم، والتمكين لهم فى الأرض.
ثم الرزق الأعظم بهذا الفوز بجنّات النعيم فى الآخرة.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ومن عطائه الجزيل الجليل، هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون فى(9/1071)
جنات الخلد، لهم فيها ما تشتهى أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون.. نزلا من غفور رحيم.. وهذا هو المدخل الذي يدخلهم الله فيه، ويملأ قلوبهم به غبطة ورضا.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ» بمن هم أحق برضاه ومغفرته وإحسانه من عباده..
«حَلِيمٌ» لا يعجل مقوبته، بل يمهل الظالمين، حتّى يكون لهم نظر فى أمرهم، ورجعة إلى ربّهم.. فإن لم يفعلوا فالنار مثواهم: «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (26: الزمر) .
هذه الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .، وما سبقها أو تلاها من آيات- هى التي نسحت جولها قصة «الغرانقة» التي آن أن نحدثك عنها وقد رأينا الآيات جميعها تعرض صورة من صور هذا الصّراع، الذي عرض القرآن الكريم كثيرا من صوره، بين النبىّ، وبين المشركين والكافرين والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض.. وهى فى صورتها تلك ليس فيها شىء على غير مألوف ما جاء من صور هذا الصراع بين أنبياء الله ورسله، مع أقوامهم..
فمن أين إذن جاءت خرافة «الغرانيق العلى» ؟ ذلك ما تراه فيما سنعرضه عليك الآن..
كان موضوع الناسخ والمنسوخ فى القرآن، من القضايا البارزة، التي شغل بها علماء التفسير، والفقه.. وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص فى الجزء الأول من هذا التفسير.. وكان من رأينا- ومازلنا عليه- أن لا نسخ فى القرآن..
وقد نظر المفسّرون فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ(9/1072)
آياتِهِ-»
نظر المفسرون فى قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» فرأوا هذا الخبر بالنسخ، فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إلى إثارة هذه القضية، وإلى البحث عن المنسوخ الذي نسخه الله، وكان من هذا أيضا امتداد النظر إلى ما وراء القرآن الكريم، والإصغاء إلى ما يلقى إليهم من أخبار وروايات يمكن أن يتّكأ إليها، للكشف عن أساس تقوم عليه الآية الكريمة، وبتحقق بها ما أخبر به الله سبحانه وتعالى من نسخ لما ألقى الشيطان.. ثم كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان، ثم نسخه الله..!
هناك إذن أمران، كان على المفسّرين الكشف عنهما فى هذا الموقف:
ما هى أمنية النبي؟
ثم ماذا ألقى الشيطان فى أمنية النبىّ؟ وأين ألقاه؟ ثم بماذا نسخه الله؟
وقد كان! فألقى المفسّرون بشباكهم فى هذا البحر المتلاطم، الذي يفيض من يدى القصاص، ورواة الأخبار.. فجاءت بأكثر من صيد.
فمن ذلك ما روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ مرة سورة «النجم» والمشركون يستمعون إليه، وحين بلغ إلى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» أتبع ذلك بقوله: «تلك الغرانيق «1» العلا» وفى رواية:
«إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» وفى رواية ثالثة: «والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى» .. وفى رواية رابعة «إن شفاعتهن لترتجى» من غير ذكر الغرانقة العلا.
__________
(1) الغرانيق: جمع غرنيق، أو غرنوق (بضم الغين) أو غرانق (بضم الغين أيضا) وهو طائر مائى يشبه الكركي، ويشبه به الشاب الأبيض الجميل كما يشبه به الملائكة.(9/1073)
فهذه أربع روايات فى هذه الواقعة، وكلّها ذات أسانيد متصلة..
فالرواية الأولى تقول: إن النبي قرأ الآيات هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتها لترتجى» ! والرواية الثانية تقول: إن قراءة النبي كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» ! وفى الرواية الثالثة جاءت القراءة هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى» .
والرواية الرابعة كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، إن شفاعتهن لترتجى» .
أما القرآن الكريم، فيقول: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» .
ومدلول هذه الروايات، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ذكر فى تلاوته لسورة النجم، آلهة قريش بخير، وجعل لها عند الله مكانا عليّا، حتى إنها لتشفع عنده، لمن يلتمس الشفاعة عندها، ويستحقها منها.
وتقول الرواية: إن النبىّ حين بلغ آخر السورة، سجد، وسجد معه المسلمون، والمشركون، عند ما سمعوه، وقد أثنى على آلهتهم!!
__________
(1) قسمة ضيزى: أي جائرة ظالمة، إذ جعلوا لله الإناث، ولهم الذكور..
والذكور فى عرفهم أكرم من الإناث.(9/1074)
وقد تداخلت مع هذه الرواية روايات أخرى، وكأنها تريد أن تفسر هذه الواقعة، وتجد لها وجها تقبل عليه.
فتقول بعض الروايات: إن الشيطان ألقى على لسان النبىّ هذا القول، الذي قاله فى حق الآلهة- اللات والعزى ومناة- وأنه صلى الله عليه وسلم، كان قد ألمّ به ضيق وحزن شديد، لما كان بينه وبين قومه من خلاف مستحكم، «فتمنى» فى تلك الحال أن لو نزل عليه شىء من القرآن يقارب بينه وبين قومه، ويباعد شقة الخلاف بينه وبينهم، ولهذا فإنه- عليه الصلاة والسلام- حين تلا سورة النجم، وبلغ الموضع الذي تذكر فيه آلهتهم، ألقى الشيطان إليه بهذه الكلمات، التي ترفع من شأنها، وتجعل لها مكان الشفاعة عند الله.. ثم تستطرد الرواية فتقول: «إن جبريل- عليه السلام- جاء إلى النبىّ، فلما عرض عليه النبىّ السورة بما أدخله الشيطان عليها، قال له جبريل: «ما جئتك بها هكذا!!» فحزن النبىّ لذلك، فنزل قوله تعالى- تسلية له-: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ..» ثم قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» (73- 75: الإسراء) .
ونقول: إن هذه الروايات، وتلك النقول، كانت موضع إنكار، واستنكار عند بعض المفسّرين، وأصحاب السير.. إذ كانت- فى صورتها تلك- عدوانا صارخا على مقام النبوّة، ونسخا صريحا لعصمة النبىّ.!
وقد كان القاضي عياض خير من تصدّى لهذه الأكذوبة، وفضح مستورها(9/1075)
وعقد لذلك فصلا فى كتابه: «الشفا.. بتعريف حقوق المصطفى..» نرى من الخير أن نعرض جانبا منه..
يقول القاضي عياض:
«إن لنا فى الكلام على شكل هذا الحديث- يقصد حديث الغرانقة- مأخذين.
أحدهما: توهين أصله.. [أي فى سنده ومتنه] ..
والثاني على تسليمه.. [أي على فرض التسليم بصحته]
[المأخذ الأول] (ا) توهين أصل الحديث:
يقول القاضي عياض:
«أما المأخذ الأول، وهو توهين أصل الحديث، فيكفيك أنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله، المفسّرون، والمؤرخون، والمولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف، كلّ صحيح وسقيم.. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: «لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والبدع، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته- يقصد هذا الحديث- واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته..
فقائل يقول إنه فى الصلاة (يقصد بعض الروايات التي تقول إن النبي قرأ سورة النجم فى الصلاة) .. وآخر يقول: قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة.. وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها..
وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبىّ لما عرضها على جبريل قال له: ما هكذا أقرأتك.. وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله(9/1076)
عليه وسلم، قرأها، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: «والله ما هكذا نزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسّرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم، ولم يرفعها إلى صاحب (أي صحابىّ) . وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية..
(ب) توهين معنى الحديث:
ثم يقول القاضي عياض: «هذا توهينه- أي الحديث- من جهة النقل..
«وأما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته من فعل هذه الرذيلة، إما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا، من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو من أن يتسوّر- أي يعلو- عليه الشيطان، ويشبّه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبىّ أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام..
وذلك كله ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم.. أو أن يقول ذلك فى نفسه من قبل نفسه.. عمدا، وذلك كفر، أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله.. وقد قررنا بالبراهين والإجماع، عصمته صلى الله عليه وسلم، من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمدا ولا سهوا.. أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله، لا عمدا ولا سهوا، ما لم ينزل عليه.. وقد قال تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (44- 46: الحاقة) .
ثم يقول القاضي عياض، فى عرض وجوه الرأى فى توهين معنى الحديث:
ووجه ثان:
وهو استحالة هذه القصة، نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان(9/1077)
كما روى، لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمّل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع فى بيان البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟
ووجه ثالث:
أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام- لأدنى شبهة.
ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا، سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك، لوجدت من قريش على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا، مكابرة- فى قصة الإسراء، حتى كان فى ذلك لبعض الضعفاء ردّة.. ولا كذلك ما روى فى هذه القصة- قصة الغرانقة- ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت!! .. فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدلّ- ذلك- على بطلانها واجتثاث أصلها.. ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس والجنّ هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع:
ذكره الرواة لهذه القضية، أن فيها نزلت الآية: «وَإِنْ كادُوا(9/1078)
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا»
(73- 74: الإسراء) - وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنّهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبّته الله- لكاد يركن إليهم.
«فمضمون هذا ومفهومه، أن الله تعالى عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟ وهم- أي الرواة- يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء، بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله وقلت ما لم يقل، وهذا ضدّ مفهوم الآية، وهى تضعف الحديث، لو صحّ، ولا صحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
(113: النساء) .
وقد روى عن ابن عباس: «كل ما فى القرآن «كاد» فهو لا يكون» قال الله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» ولم يذهب- به- بصر أحد..
«أَكادُ أُخْفِيها» ولم يفعل! قال القشيري القاضي: «ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كاد ليفعل» .
[المأخذ الثاني]
التسليم بصحة الحديث:
ثم يناقش القاضي عياض هذه القضية، من جانبها الآخر، وهو فرض التسليم بصحة الحديث، فيقول: «وأما المأخذ الثاني، فهو مبنى على تسليم الحديث، لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال، فقد أجاب(9/1079)
عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغثّ والسمين.. فمنها:
أولا: ما روى عن قتادة ومقاتل: «أن النبىّ- صلى الله عليه وسلم، أصابته سنة عند قراءته هذه السورة، فجرى على لسانه هذا الكلام بحكم النوم» ..
وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبىّ مثله، فى حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولى الشيطان عليه، فى نوم ولا يقظة، لعصمته فى هذا الباب، من جميع العمد والسهو.
ثانيا: وفى قول: «أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه..» وفى رواية «ابن شهاب» عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال: «وسها- أي النبي- فلما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان» .
ويرد القاضي عياض على هذه الروايات بقوله: «كل هذا لا يصحّ أن يقوله النبىّ صلى الله عليه وسلم، لا سهوا ولا قصدا، ولا يتقوله الشيطان على لسانه..
ثالثا: وقيل: «لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله- أي هذا القول- أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، كقول إبراهيم- عليه السلام:
«هذا رَبِّي» على أحد التأويلات «1» (وأن النبىّ إذ قال ذلك قاله) بعد السّكت، وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته..»
يقول القاضي عياض: «وهذا ممكن، مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ، أي ليس من القرآن» .. اه.
__________
(1) من التأويلات التي يذهب إليها المفسرون فى قول إبراهيم «هذا رَبِّي» عن الكوكب والقمر والشمس، أنه قال ذلك على طريق الاستفهام المراد به السخرية والاستهزاء، أي: «أهذا ربى» ؟ استصغارا لشأنه.(9/1080)
تلك هى القصة، أو الأكذوبه، كما جاءت فى كتب السير، وعلى ألسنة القصاص، ونقلها المفسّرون، وتداولها اللاحق منهم عن السابق، وذلك أسلوب من أساليب دفعها، وتكذيبها.
والقصة أو الأكذوبة- كما ترى- مهلهلة النسج، واهية البناء، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها، ويداروا هزالها، فألقوا إليها كثيرا من الرقع، حتى لكاد يختفى الأصل، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها! فالمادّة التي تخلّقت منها القصة، مادة فاسدة، لا يتخلّق منها شىء يصلح أن يعيش فى الحياة، وأن يكتب له بقاء فى عالم الأحياء.
ونسأل: ما مضمون هذا الخبر فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» .
أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ فى حياته، وإنما هى أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟.
فكيف لا يلقى الشيطان فى أمنية النبىّ إلا فى هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى فى كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟.
وأكثر من هذا، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا، يذهبون إلى أن التّمنى، ليس معناه من الأمانىّ، وإنما معناه القراءة، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر، وهو من قول حسان بن ثابت فى عثمان رضى الله عنه.
تمنّى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر(9/1081)
وهو- لو عقلوا- حجة عليهم.. لأنه يعنى أنه كلما قرأ النبىّ قرآنا، دخل عليه الشيطان، وألقى فيما يقرأ بما يريد، حتى يفسد مادة القرآن، ويغيّر وجهها، ويطفىء نورها..
والذين يروون هذه القصة، لم يجيئوا بحادثة أخرى، كان للشيطان فيها إلقاء فى قراءة النبىّ، على نحو ما رووه فى هذه القصة المفتراة! ثم إن الذين قالوا: إن النبىّ سها فوقع هذا الخاطر فى قلبه، أو جرى سرّا على لسانه، ثم التقطه الشيطان فأذاعه.. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته، بحكم النوم- هذا يعنى أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه- كان فى حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر، ويراود نفسه بها، وأن عقله اليقظ- كما يقول علماء النفس- كان يأبى عليه أن يصرّح به، فلما نام أو سها، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج، فكانت حديثا مسموعا.. وهذا يعنى أيضا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام، وبأنها غرانقة علا، وأن شفاعتها ترتجى، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك، وهو فى حال اليقظة، فقد صرّح به سهوا، أو حين أخذته سنة من النوم! ..
وهذا يعنى ثالثا، الكفر، والنفاق معا..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم، تقع فى نفسه أية شبهة من الشبه تحوم فى سماء النبوّة الصافية، المشرقة بنور ربّها.
وبعد هذا كله، وقبل هذا كلّه، فإن فيصل الحكم فى هذا الموقف هو كلمة واحدة: نبى، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟
فإن كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، غير نبىّ، وغير رسول، فهذا موقف له حسابه وتقديره، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير..(9/1082)
فكل ما ينسب إليه من أخطاء، وما يرمى به من تهم، ممكن الوقوع، ويمكن التسليم به، إذ هو- والحال كذلك- إنسان، مجرد إنسان، يجوز عليه ما يجوز على الناس، من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر! أما إن كان «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- نبيا ورسولا، فإن الذي يعتقد فى نبوته، ويؤمن برسالته، ثم يلحق به ما يقع فى حياة الناس من أخطاء، وعثرات، وتخبطات، فهذا لا يستقيم أبدا مع صفة النبوة، فإن الرسول مبلّغ عن ربه، وهو بهذه الصفة معصوم من الخطأ والنسيان، فيما يتصل برسالة ربّه، وما تحمل من شريعة وعقيدة، إذ أن أي انحراف أو تحريف فى هذا، معناه سوق الناس إلى طرق مفتوحة، مليئة بالعثرات والحفر، على حين أن دعوة السماء تدعوهم إلى صراط مستقيم، ولا يستقيم هذا الصراط مع تلك الأخلاط، وهذه المتناقضات، التي تلتقى بالناس، وهم سائرون فيه.
ذلك ما يجب أن يتأكد، ويتقرر، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء.. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها.
وإذن فمن الضلالة والجهل، أن يقول قائل: إن النبىّ- ويقولها هكذا النبىّ- حين قرأ سورة النجم، نسى، أو سها، أو أخذته سنة، أو غلبه خاطر قوىّ فى نفسه، أو ألقى الشيطان إليه، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه، وأثنى عليها، ورفع منزلتها، وجعل لها عند الله شفاعة! أهذا قول يقال، ويلتقى أوله مع آخره؟
نبىّ يقر قرآنا منزلا من السماء.. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ، فتغير من آيات الله، وتبدل من شريعته، وهو على لسانه، بل وبلسانه؟(9/1083)
وماذا ترك للضالين، والمنافقين، وأعداء الأنبياء؟
قد يكون سائغا أن تنفى عن «محمد» صفة النبوة والرسالة على سبيل المكابرة، أو من باب الكفر والإلحاد، ثم يقال: إنه قال فى معبودات قريش ما قال.. إنه لا يعدو أن يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش، الذين يتعاملون مع هذه الآلهة، ويتعبدون لها.
أما ومحمد نبىّ، فإنه فى عصمة، فوق الخطأ وفوق النسيان! عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: «قلت يا رسول الله..
أأكتب عنك كل ما أسمع؟ قال: «نعم» قلت: فى الرضا والغضب؟ قال:
«نعم» فإنى لا أقول فى ذلك كلّه إلّا حقّا» .
والحديث أيّا كان سنده، فإن القرآن الكريم ينطق بهذا فى قوله تعالى:
«وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» . فهذا حكم قاطع بأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لا ينطق عن هوى، ولا يبلغ عن الله إلا ما يوحى إليه.. فكيف يكون للقول بأن الرسول نطق بكذا وكذا مما ليس من عند الله، ثم يتعلّل لذلك بأنه كان سهوا، أو حديث خاطر، أو نحو هذا- كيف يكون لهذا القول مكان من القبول على أي وجه من الوجوه مع قول الله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» ؟
إن تلك الفرية مما دسّ على المسلمين، فى غير انتباه منهم إليه، ولا تقدير للشر الذي ينجم عنه، وشغلهم الخبر بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا..
ولو أنهم فعلوا لما كان لهذا الحديث مكان فى كتب الحديث، أو الفقه، أو التفسير، سواء أكان ذلك لمجرد نقل الخبر، ثم تجريحه، وتكذيبه، أو كان(9/1084)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
لنقله، ثم نصب العلل التي تخرج به عن مفهومه.. فهو حديث خرافة، لا ينبغى النظر إليه، أو الوقوف عنده.
وبعد، فإن مفهوم الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ..» - نقول إن مفهوم الآية الكريمة على هذا الوجه الذي قامت فى ظله قصة «الغرانقة العلا» - هو اتهام لرسل الله وأنبيائه جميعا، بأنهم تحت سلطان الشيطان، وأنه راصد لهم، آخذ على ألسنتهم، فلا تستقيم ألسنتهم بقراءة آية من آيات الله، حتى يخرجها الشيطان على الوجه الذي يراه، ويلوى لسان الرسول والنبي إلى ما يريد..
فسبحانك.. سبحانك. هذا بهتان عظيم، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا!
الآيات: (60- 66) [سورة الحج (22) : الآيات 60 الى 66]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)(9/1085)
التفسير:
قوله تعالى:
«ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» .
الإشارة هنا «ذلِكَ» هى إشارة إلى شأن مضى، ثم دخول إلى شأن آخر..
والتقدير: ذلك الذي حدّثت به الآيات السابقة، شأن، وها هو ذا شأن آخر فاستمع إليه أيها النبي.. والعطف، هو عطف شأن على شأن، وموضوع على موضوع.
والآية الكريمة تندّد بالبغي والعدوان، وتجعل للمعتدى عليه سلطانا نصيرا من الله، لأنه فى تلك الحالة مظلوم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» (33 الإسراء) ثم إن الآية الكريمة، إذ تجيز للمعتمدى عليه أن يأخذ بحقه من المعتدى، فإنها تشير من طرف خفى إلى العفو، وذلك من وجوه:
أولا: فى تسمية القصاص من المعتدى، عقابا، فهو إذا أخذ بحقه، لا فضل له على المعتدى، فقد تساويا بعد ردّ الاعتداء، وقد كان العفو أفضل وأكرم.
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (126: النحل) .
وثانيا: فى قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» إشارة إلى المعتدى عليه إذ يعفو،(9/1086)
يكون فى صورة المبغىّ عليه، والمبغىّ عليه موعود بالنصر من الله: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» .
وثالثا: فى قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» تذكير بالعفو والمغفرة فى موقف القصاص، واستحضار عفو الله ومغفرته فى تلك الحال، الأمر الذي تنحلّ به عزيمة الانتقام، وتبوخ معه حميّة النقمة والانتقام.
هذا، والعفو هنا، إنما هو من قادر، يملك الانتقام. ومن هنا لا يكون للمعتدى سبيل إلى التمادي فى اعتدائه، وفى إذلال من اعتدى عليه.
ثم إن الآية الكريمة تضع أمام المسلمين- وقد أذن لهم فى القتال فى قوله تعالى فى آية سابقة: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» - تضع أمامهم دستورا يقيمهم على أحسن سبيل، بين العفو والانتقام.. إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا انتقموا.. على حسب الأحوال والأشخاص.. فقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثيرين ممن آذوه، وآذوا المسلمين، وحاربوهم، وقتلوا منهم من قتلوا.. ثم كان منه- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العفو العام عن مشركى قريش يوم الفتح، حين قال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» - على حين- أنه صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دم بعض الأفراد من هؤلاء المشركين، وطلب قتل أحدهم ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة.. كما قتل النضر بن الحارث صبرا.
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .
الإشارة هنا «ذلِكَ» إشارة، إلى ما تضمنته الآية السابقة من حكم فى مواجهة العدوان من المعتدين.(9/1087)
والباء فى «بِأَنَّ» «للسببية» ..
والمعنى: أن مقابلة العدوان بالعدوان، هو لدفع بأس الناس بعضهم عن بعض، الذي لولاه لفسد نظام المجتمع، ولتسلّط الأشرار على الأخيار، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» (40: الحج) والآية ردّ على تلك الفلسفة المريضة، التي ترى فى مثل هذا الدّفع إكثارا من إراقة الدماء، وإغزاء للناس بالانتقام، الذي يولد كثيرا من مواليد الشر والنقمة ويرون أن المثالية تدعو إلى الأخذ بدعوة السيد المسيح- عليه السلام- فى قوله: «من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر» .. ففى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» ردّ على هذا التفكير السقيم، ودحض لتلك الفلسفة المريضة، وذلك بالإشارة إلى نظام الوجود، وأنه قائم على التدافع بين الخير والشر، والشرّ والخير، تماما كما يدفع الليل النهار، ويدفع النهار الليل.. فلو أنه سكن النهار إلى دفع اللّيل له، ولم يدفعه كما دفعه لما طلع نهار أبدا، ولا ختفى إلى يوم القيامة، ولساد الدنيا ظلام دامس إلى الأبد.
فمن سنّة الله فى الحياة أن يغرى الأشرار بالأخيار، فتنة وابتلاء، ثم لا يدع الأخيار لأيديهم، بل يدعوهم إلى أن يأخذوا بحقّهم منهم، وأن يدفعوهم عنهم، حتى يسفر وجههم، ويبرز وجودهم..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .(9/1088)
فى هذه الآية إشارتان:
الأولى: أن أهل الإيمان هم أهل الحق، وأنهم جند الله، وأنصار الله..
وهذا من شأنه أن يحملهم على الجهاد فى سبيله، ودفع الباطل، وردع المبطلين، حتى يحقّ الله الحقّ ويبطل الباطل، ويكون الدين كله لله.
والثانية: أن الله سبحانه- وهو العلىّ الكبير- لا يغلب، ولا يغلب أولياؤه، وأنه سبحانه، وهو الحق- سينصر المحقّين الذين يقفون فى جبهة الحق ويجاهدون فى سبيله.
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» .
هو تكملة للصورة التي كشفت عنها الآية السابقة.. بمعنى أن الله سبحانه وتعالى، وهو الحق، فإن ما يرسله إلى الناس- هو حق، وهو خير. وإن رسالاته التي يحملها أنبياؤه، ينبغى أن تأخذ مكانها من قلوب المؤمنين، وأن تنزل منها كما ينزل الماء من السماء، فتحيا به الأرض، وتعمر الدنيا.. وإنه كما يعمل العاملون فى الانتفاع بهذا الماء وتمهيد الأرض له، وبذر الحب فيها- كذلك ينبغى أن يعمل المؤمنون فى حقل الإيمان، على حراسة هذا الإيمان وتعهده، حتى يؤتى ثماره، ويملأ حياة الناس خيرا وأمنا..
- وفى قوله تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» .. وفى التعبير عن إنزال الماء بالفعل الماضي، وعن اخضرار الأرض بالفعل الحاضر الذي يمتد إلى المستقبل- فى هذا إشارة إلى القرآن الكريم، الذي نزل، وإلى ثماره التي لا تنقطع أبدا، وأنه سيظل هكذا قائما فى الحياة، يروى القلوب، ويحيى(9/1089)
موات النفوس، ويفيض الخير والبركة على الإنسانية إلى يوم الدين.. لقد نزل القرآن، وتلقى الذين شهدوا نزوله ما قدّر الله لهم من خيره ونوره، وهداه..
وسيظل هكذا نورا قائما فى الناس، وخيرا ممدودا لهم، يهتدون به، ويصيبون من خيره، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» إشارة إلى لطف الله بعباده، ورحمته بهم، حيث ينزل إليهم من السماء ماء يحيى موات أرضهم، ويحفظ حياة أجسامهم، كما ينزل إليهم من السماء آيات بينات، تحيى موات قلوبهم، وتحفظ صفاء أرواحهم.. وأنه سبحانه «خَبِيرٌ» بما يصلح أمر الناس، ويحفظ وجودهم المادي والروحي جميعا.
قوله تعالى:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .
هو بيان لفضل الله على عباده، وأنه غنى عنهم، له ما فى السموات وما فى الأرض، فالناس- وهم بعض ما فى الأرض- ملك له، وما ينزله عليهم من السماء هو فضل من فضله، لا يريد به سبحانه من الناس إلا أن يحمدوه ويشكروا له: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (57: الذاريات) .
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .
الخطاب هنا لكلّ ذى نظر وعقل.. حيث يرى فضل الله فى هذه الكائنات التي سخرها الله للإنسان، وجعلها مستجيبة له، إذا هو تجاوب معها(9/1090)
ووجه قواه إلى الإفادة منها، وذلك بالتعرف على الطريق الذي يوصله إليها، ويضع يده على موضع الخير منها.
وقوله تعالى: «الْفُلْكَ» معطوف على «ما» أي وسخر لكم ما فى الأرض، وسخر لكم الفلك تجرى فى البحر بأمره.
- وقوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» إيقاظ لمشاعر الإنسان ومدركاته، ليمدّ بصره إلى ما فوق هذه الأرض، بعد أن يثبت قدمه عليها، فينظر فى ملكوت السماء.. وعندئذ يرى أن هذا السقف المرفوع فوقه، تمسكه قدرة الله، وأنه لولا هذه القدرة لسقط على الأرض، وأهلك كل حىّ فيها..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِإِذْنِهِ» - إشارة إلى أن هذه السماء المرفوعة المحفوظة بقدرة الله، هى خاضعة لإرادة الله، وأنه من الممكن أن يأذن الله لها بأن تسقط على الأرض! - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» - تطمين للناس بأن السماء لن تقع عليهم، وذلك لرحمته سبحانه وتعالى ورأفته بعباده..
ومع هذا كله، فإن كثيرا من عباده يجحدون نعمة الله، ويكفرون به، ويعبدون غيره.. من أحجار، وحيوان، وإنسان! وقوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» .
فى هذه الآية تذكير للناس بتلك النعمة الكبرى، نعمة الحياة.. فقد كان الناس عدما، أو ترابا فى هذا التراب.. ثم إذا هم هذا الخلق السوىّ العاقل، المدبّر، الصانع! ثم إذا هم تراب مرة أخرى.. ثم إذا هم يلبسون حياة لا موت بعدها،(9/1091)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
وبهذه الحياة تتم النعمة، نعمة الحياة.. ذلك أنه لو كانت الحياة الدنيا هى كل حياة الإنسان لكانت نعمة ناقصة، بل إنها تكون نقمة لما فيها من معاناة، وأعباء، وشدائد، يلتقى بها الإنسان فى مسيرة الحياة الدنيا، من المولد إلى الممات..
إن الحياة الدنيا هى إعداد للحياة الأخرى، إنها زرع، والأخرى حصاد لثمر هذا الزرع، ومن هنا كان لا بد من الحياة الآخرة، حتى تكون الحياة نعمة تستوجب الحمد والشكران لله..
ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» تعقيبا على تلك النعمة، وتنديدا بالإنسان وكفره وجحوده لها، إذ لم يؤد مطلوب الله منه فى هذه الحياة الدنيا، الموصولة بالحياة الآخرة..
الآيات: (67- 72) [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 72]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)(9/1092)
التفسير:
قوله تعالى:
«لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» .
المنسك: الشريعة، والجمع مناسك، وهى مراسم الشريعة، وأحكامها، وحدودها..
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى، جعل لكل أمة من الأمم، شريعتها التي تلائم ظروفها وأحوالها، وذلك رحمة من الله سبحانه، بعباده، إذ لو أخذهم الله جميعا بشريعة واحدة منذ بدء الخليقة، لكان فى ذلك إعنات لهم، وتضييق عليهم، إذ يصبحون بهذه الشريعة فى حال من الجمود، لا يتحركون معه إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء.. والحياة الإنسانية تتحرك دائما، متقلبة الأحوال.. وهى فى حركتها وتقلبها تتجه إلى الأمام دائما.. فكان من حكمة الحكيم، ورحمة الرحيم، أن جعل شرعة فيهم مناسبا لظروفهم وأحوالهم، يلقاهم أمّة أمّة، وجماعة جماعة، فيعطى كل أمة وكل جماعة، ما يصلح لها، ويسدّد خطوها على طريق الحياة..
- وفى قوله تعالى: «هُمْ ناسِكُوهُ» إشارة إلى أن كل أمة ترتبط بشريعتها التي شرعت لها، وتجرى محاسبتها عليها.. كما يقول سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» (48: المائدة) .
- وقوله تعالى: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» أي أن الشريعة التي بين يديك أيها النبىّ هى شريعتك التي اختارها الله بعلمه وحكمته، لأمتك، لتكون خاتمة رسالات السماء.. فلا ينازعنك فيها أصحاب الشرائع الأخرى من أهل الكتاب،(9/1093)
ولا يدخلون على شريعتك بما معهم من شرائع..
- وفى قوله تعالى: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» إشارة إلى أن هذه الشريعة التي بين يدى محمد- صلوات الله وسلامه عليه- هى «الْأَمْرِ» أي الشرع كلّه، وأنه لا أمر ولا شرع بعد هذا.. وهذا هو السرّ فى تعريف «الْأَمْرِ» ..
وفى توكيد الفعل «يُنازِعُنَّكَ» الذي هو نهى لأهل الكتاب، فى حضور النبىّ ومخاطبته، أمران:
أولهما: تيئيس أهل الكتاب من أن يكون لهم شأن فى هذا الأمر، وأنهم إذا أرادوا أن يكون لهم شأن فيه، فليسلموا له، وليأخذوا بما جاء به، وليجعلوا ما بين أيديهم من شرع تبعا لهذا الأمر أو الشرع.
وثانيهما: عزل النبىّ الكريم عن جدل أهل الكتاب، وعن الاستماع إلى مقولاتهم، والنظر إلى ما عندهم.. إذ أن عنده الأمر كله.. ومن كان عنده الأصل، فلا ينظر إلى الفرع..
- قوله تعالى: «وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» أي وإذا كان ذلك هو موقفك من أهل الكتاب، فلا تلتفت إليهم، ولا تنظر إلى ما يجادلونك به من شريعتهم، وادع إلى ربك بما معك من شريعة.. فإنك لعلى هدّى من ربك.. هدى مستقيم..
وفى وصف الهدى بالاستقامة، إشارة إلى ما فى أيدى أهل الكتاب من شريعة غير مستقيمة، بما أدخلوا عليها من زيف وضلال..
قوله تعالى:
«وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» ..
هو تأكيد للأمر الذي أمر به النبىّ بالدعوة إلى ربه.. بالكتاب المستقيم(9/1094)
الذي معه، دون التفات إلى ما فى أيدى أهل الكتاب، ودون استماع لما يلقون إليه من مسائل يريدون بها إثارة الجدل وبعث الشكوك عند المنافقين ومن فى قلوبهم مرض..
فهذه الآية الكريمة، تدعو النبىّ إلى أن يمضى فى طريقه، وأن يدع أهل الكتاب وما يجادلون فيه، وحسبه أن يلقاهم بقوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» أي ليس لى أن أحاسبكم على افترائكم الكذب على الله، فإن الله سبحانه هو أعلم بما أنتم عليه- ظاهرا وباطنا- وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابكم وجزاءكم..
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» ..
إمّا أن يكون من كلام النبىّ الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يقوله للمجادلين من أهل الكتاب، أي قل لهم: (الله أعلم بما تعملون) وقل لهم (الله يحكم بينكم إلخ) وعلى هذا يكون الخطاب موجها إليهم، وأن الله سبحانه سيحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من مقولات، فكانوا فرقا وشيعا، أو فيما اختلفوا فيه مع النبىّ، فكانوا حربا عليه، وعداوة له..
وإمّا أن يكون ذلك استئنافا، وليس من مقول القول.. وعلى هذا يكون الخطاب عاما موجها إلى الناس جميعا.. بمعنى أن الله سبحانه سيفصل بين الناس فيما وقع بينهم من خلاف، سوء أكان خلافا واقعا بين أهل الشريعة الواحدة، أو بينهم وبين غيرهم من أصحاب الشرائع الأخرى.. ويكون هذا تعقيبا على قولة تعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ» ..
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو إلفات إلى سعة علم الله سبحانه وما يقع فى محيط هذا العلم من(9/1095)
أعمال الناس- ظاهرة وباطنة- وهو بهذا العلم يكشف مستورهم، ويحاسبهم ويقضى بينهم.
فهو سبحانه، يعلم ما فى السماء والأرض.. لأن كل ما فيهما صنعته، والصانع لا يخفى عليه شىء مما صنع «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) - وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ» أي أن هذا العلم الذي يحيط بأسرار الوجود كله، هو مودع فى كتاب عند الله.. فكل ما كان أو يكون فى هذا الوجود كله- فى أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- مودع فى هذا الكتاب.. كما يقول سبحانه: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (75: النمل) وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي هو أول ما خلق الله بعد القلم..
- قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو دفع لما يقع فى بعض العقول القاصرة التي لا تعرف قدر الله- من شعور باستعظام هذه المعلومات التي تحصى كل شىء، وتقدّر كل شىء، لكل مخلوق، صغر أو كبر، وأخذ هذا القول على سبيل المبالغة أو التجوز.. فكان قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» تأكيدا لعلم الله، وسعة هذا العلم وشموله، وأن هذا الوجود كله لا يعدّ شيئا إلى علم الله، الذي أحاط بكل هذا الوجود ولا يحيط الوجود كله بشىء من علمه إلا بما يشاء..
قوله تعالى:
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» ..
الضمير فى «يَعْبُدُونَ» يراد به المشركون، الذين يعبدون آلهة دون الله.. ولم يكن للمشركين ذكر هنا حتى يعود هذا الضمير إليهم.. فالحديث عنهم بضمير الغيبة، إبعاد لهم، وإنكار لوجودهم فى مجتمع العقلاء، الذين هم أهل للخطاب.(9/1096)
- وقوله تعالى: «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» - المراد بالسلطان هنا الكتاب السماوىّ، الذي يدعو إلى عبادة المستحق للعبادة، وهو الله سبحانه وتعالى..
وهؤلاء المشركون يعبدون آلهة تنكر الكتب السماوية عبادتها- فهم إذ يعبدونها فإنما يعبدون ما لا دليل فى أيديهم على استحقاقه العبادة: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» . (8: الحج) - وقوله تعالى: «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» - هو اتهام للمشركين بأنهم إنما يعبدون ما يعبدون من دون الله، عن هوى وضلال، وعن جهل وغباء..
فلا دليل فى أيديهم من كتاب، ولا حجة معهم من علم أخذوه عن نظر ودرس فى صحف هذا الوجود.. فقد يهتدى الإنسان إلى الله بعقله ونظره.. فإن لم يكن له عقل ونظر، فهذا كتاب الله، فيه الهدى لكل من ضل، والعلم لكل من جهل.. وهؤلاء المشركون، لم يكن لهم عقول ينظرون بها، أو قلوب يعقلون بها، فلما جاءهم الكتاب، ليبصّرهم من عمى، وليعلمهم من جهل، ردّوه بأيديهم، وأصمّوا آذانهم دونه..
- وقوله تعالى: «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين ظلموا الحق، فلم يطلبوه من كتاب الله، وظلموا أنفسهم، فلم يستعملوا حواسّهم وملكاتهم فى النظر لما فيه هدايتهم، فركبوا مراكب الضلال، والهلاك.. وليس لهم من يستنقذهم من هذا الضلال، ويدفع عنهم يد الهلاك، وقد وقعوا فى شباكها.
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا.. قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .(9/1097)
تعرض هذه الآية صورة من عناد المشركين، وتأبّيهم على الحق، وشرودهم عن الهدى.. وذلك أنهم إذا تليت عليهم آيات الله، وقعت كلماتها فى قلوبهم موقع النكر، فاشمأزوا منها، وضاقوا بها، وظهر على وجوههم ما اعتمل فى صدورهم من حنق وغيظ، وكادت أيديهم تتحرك بالتطاول والأذى، ينالون به من يتلو عليهم آيات الله، ويسمعهم إياها..
هذا هو حال أهل الضلال، مع كل دعوة راشدة، وفى وجه كلّ كلمة طيبة.. إنهم يزورّون بالخير، ويضيقون ذرعا بالهدى- شأن المدمن على منكر من المنكرات.. يؤذيه الحديث الذي يكشف له عن وجه هذا المنكر، وعن سوء مغبته، وما يجرّ عليه من فساد لعقله، وجسده، وماله..
- وقوله تعالى: «قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ» .. الإشارة هنا «ذلِكُمُ» إلى المنكر الذي يبدو على وجوه الكافرين، لما يقع فى نفوسهم من ضيق وأذى مما يسمعون من كلمات الله.. فهذا الضيق الذي يجدونه فى صدورهم، هو شرّ وأذى يقع فى أنفسهم.. ولكنه شرّ قليل وأذى محتمل بالإضافة إلى ما يلقون يوم القيامة من عذاب أليم.. فلو أنّهم راضوا أنفسهم على الاستماع إلى كلمات الله، وصبروا قليلا على هذا الدواء المرّ الذي تجده نفوسهم المريضة منه- لوجدوا برد العافية من هذا الضلال الذي هم فيه، ولآمنوا بالله، ولنجوا من عذاب السعير، ولدفعوا بهذا الشرّ الذي يجدونه فى صدورهم شرّا مستطيرا، وبلاء عظيما.. وهو العذاب الأليم فى الآخرة..
وفى تسمية ما يجده المشركون من ضيق فى صدورهم عند الاستماع إلى كلمات الله- فى تسميته شرا، إنما هو بالإضافة إليهم، وحسب نظرتهم إليه..
إنهم يجدون ما تعرضه عليهم آيات الله من دواء لدائهم، وهو الشرّ الذي يصرفهم عن الحياة والعيش مع هذا الداء المتمكن منهم..(9/1098)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
- وقوله تعالى: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» - هو جواب على هذا السؤال الذي سئلوه من قبل فى قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ؟» ثم جاءهم الجواب على هذا السؤال، سواء طلبوا ذلك أو لم يطلبوا:
«النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» أي هذا الشر الذي أخبركم به، هو النار، التي وعدها الله الذين كفروا وأعدّها لهم.. وأنتم أيها الكافرون لا مصير لكم غير هذا المصير، وإنه لبئس المصير..
الآيات: (73- 76) [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 76]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
التفسير:
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة تحدثت عن المشركين، وأنهم يعبدون من دون الله ما أملته عليهم أهواؤهم، دون أن يكون بين(9/1099)
أيديهم كتاب سماوىّ يدعوهم إلى عبادتها، أو يكون معهم عقل دلّهم عليها، وأراهم منها ما تستحق به أن تؤلّه وتعبد.. ثم كشفت الآيات بعد ذلك عن موقف هؤلاء المشركين عند استماعهم لآيات الله إذا تلاها عليهم قال.. إنهم يضيقون بها، حتى لتكاد تختنق أنفاسهم منها..
وهنا فى هذه الآية، يضرب الله سبحانه وتعالى لهم مثلا مجسما، يمكن أن يوضع موضع التجربة والاختبار من الناس، وخاصة المشركين، وهو أن يدعوا هذه الآلهة جميعها إلى أن يخلقوا كائنا من أضأل مخلوقات الله، وهو الذباب..
فإن فعلوا- ولن يفعلوا- فليكن لهم أن يجعلوها آلهة، وأن يعبدوها كما يعبد الله.. وإن لم يخلقوا جناح ذبابة- وهو ما تكشف عنه التجربة- فإن عبادتهم لها بعد ذلك، ضلال فى ضلال: «أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (191- 192: الأعراف) .
هذا، وقد مرّ تفسير هذه الآية فى أول هذه السورة، فى مبحث [الخالق وما خلق] .
قوله تعالى:
«ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
أي أن هؤلاء المشركين، قد جهلوا قدر الله، ونظروا إليه كما ينظرون إلى ما يكبر فى صدورهم، من مخلوقات ومصنوعات.. فلم يجاوزوا بقدر الله ما يرفعه فوق هذه المعبودات، ويجعلها جميعا عابدة له، خاضعة لتصريفه فيها، بل إن ظنّهم بالله، جعلهم يجعلونه إلها فى مجمع هذه الآلهة، ومن أحسن الظنّ منهم بالله، جعله إلها على رأس هذه الآلهة، تشاركه الملك والتدبير، وأن لهم بهذا أن يقربوهم إلى الله، وينزلوهم منازل الرضوان عنده، وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .(9/1100)
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قوة ومن عزة، وأن قوته متفردة بالقوة كلها، لا قوة لأحد مع قوته، وأن عزته تملك العزة كلّها، لا عزّة لعزيز مع عزّته.. فكيف يسوغ لعاقل أن يستمدّ القوة والعزّة من غير مالك القوة والعزة؟ إن أي متجه يتجه إليه طالب القوة والعزة غير الاتجاه إلى الله وحده، هو سعى إلى تباب، واتجاه إلى بوار.
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .
هو بيان يكشف عن ضلال هؤلاء المشركين الذين يعبدون الملائكة، أو يعبدون بعضا من أنبياء الله ورسله، كما عبد بعض اليهود العزيز، وكما عبد بعض النصارى المسيح.. فهؤلاء، وأولئك- من الملائكة والرسل- هم عباد من عباد الله، وخلق من خلقه، اصطفاهم الله، وأكرمهم، ومنحهم ما منحهم من قوى وآيات.. ولن يخرج بهم هذا عن أن يكونوا عبيد الله.. فكيف يعبد العبد من دون السيّد، وكيف يؤله المخلوق مع الإله الخالق؟ ذلك سفه سفيه، وضلال مبين..
- وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» تهديد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون عباد الله، من دون الله.. فالله سبحانه «سَمِيعٌ» لمقولاتهم المنكرة فى هؤلاء المخلوقين.. «بَصِيرٌ» بما يعملون من أعمال، وما يقدّمون من عبادات وقربات لهؤلاء المخلوقين.. وليس وراء هذا إلا الحساب، والجزاء، والعذاب الأليم..
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» .. هو تهديد ووعيد كذلك، لأولئك المشركين، وأن الله السميع البصير «يَعْلَمُ ما بَيْنَ(9/1101)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
أَيْدِيهِمْ»
أي يعلم ما يعملونه قبل أن يعملوه.. «وَما خَلْفَهُمْ» أي ويعلم ما عملوا، وأنهم وأعمالهم سيردّون الله، ويحاسبون: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»
الآيتان: (77- 78) [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
التفسير:
بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يلتقى بدؤها مع ختامها، كما يلتقى ختامها مع بدء السورة التي بعدها، وهى سورة «المؤمنون» .
فقد بدأت السورة هكذا: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ..» إنه نذير صارخ للناس جميعا، أن يأخذوا لأنفسهم من هذا اليوم العظيم، وأن يعملوا على ما ينجيهم من أهواله المهولة المفزعة..
وقد استجاب أناس لهذا النّداء، فآمنوا بالله، وسعوا إلى مرضاته، ليخلصوا بأنفسهم من شر هذا اليوم العظيم..
ثم كانت السورة كلها بعد ذلك، دعوة إلى الله، وإلى كشف الطريق إليه، وإرسال النذير بعد النذير، إلى الضالين، والمشركين، الذين أمسكوا على ما فى قلوبهم من كفر وضلال.(9/1102)
ثم كانت حصيلة هذه النّذر، هؤلاء المؤمنين الذين دخلوا فى دين الله، واستجابوا لرسول الله.. فكان أن دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، وخصّهم بخطابه، ورفدهم بوصاياه، ليثبتوا على الإيمان، وليعملوا على طريق الإيمان، وليغرسوا فى مغارسه.
فقال سبحانه، مخاطبا عباده المؤمنين:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ، فليس الإيمان بالله مجرد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما الإيمان: قول، وعمل، إقرار باللسان، واعتقاد فى القلب، وعمل بالجوارح..
فالدعوة إلى الركوع والسجود- وهما من أركان الصلاة- دعوة إلى الصلاة، وأمر بإقامتها كاملة، وأدائها على وجهها، وما تقضى به من ولاء وخشوع لله ربّ العالمين: «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا» .. فالركوع والسجود ليسا مجرد حركتين من حركات الجسد، وإنما هما- قبل كل شىء- خضوع بالقلب، وخشوع بالنفس، وتسربل بحال من الرهبة والخشية لله، بحيث يجد الإنسان لهذه الرهبة والخشية ما يندكّ به بناؤه الجسدى، فيركع تحت وطأة هذا الحمل الثقيل.
ثم لا يلبث أن يهوى ساجدا حتى يضع جبهته على الأرض.. وهنا يجد الرضا من ربّه، والكرامة والتكريم من سيده.. فيدعوه إلى أن يرفع وجهه عن هذا التراب الذي لصق به..
وهكذا، يظل المصلّى بين يدى الله، فى ركوع وسجود، وفى خفض ورفع، حتى يختم صلاته، وهو متمكن على هذه الأرض، مسئول عليها استيلاء ذى السلطان على سلطانه! وقوله تعالى: «وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» هو أمر بالعبادة مطلقا، فيما فرض الله من عبادات غير الصلاة، كالصوم، والزكاة، والحج، وفيما أمر به من ذكره(9/1103)
تعالى، والجهاد فى سبيله، والسعى فى طلب الرزق.. فكلها عبادات وطاعات وقربات..
وقوله تعالى: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» هو أمر بكل خير، وراء هذه العبادات، من الإحسان إلى الناس بالقول والعمل، ومن الحكم بين الناس بالعدل، ومن أداء الأمانات إلى أهلها.. إلى غير ذلك ما هو خير وحسن، ومعروف.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» إشارة إلى أن هذه الأعمال كلها، - وعلى رأسها الإيمان بالله- هى مما ترجى به النجاة، من عذاب الله، والفوز برضوانه..
إنها مجرّد وسائل يتوسل بها الإنسان إلى ربه.. أما إنجاح هذه الوسائل وتقبلها من صاحبها، فذلك أمره إلى الله، وإلى مشيئة الله فى عبده.. وهذا هو السرّ فى تصدير الخبر بحرف التمنّي «لعل» .. إذ ليس لأحد على الله حق يطالبه به.. وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلب، وعلى عباده أن يمتثلوا، ويؤدوا ما طلب منهم، وأن يكونوا بعد ذلك على رجاء من القبول والرضا..
قوله تعالى:
«وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» .
هو عطف على ما جاء فى الآية السابقة من أمر بالركوع والسجود وعبادة الله وفعل الخير..
والجهاد وإن كان مما تضمنه هذا الأمر، إذ هو من عبادة الله، ومن فعل(9/1104)
الخير معا فقد خصّ بالذكر هنا لما له من مقام كبير، بين العبادات وأفعال الخير، ولما فيه من مخاطرة بالنفس، والمال، وهما أعلى ما يملك الإنسان، وأولى ما يحرص عليه ويضنّ به.
- وفى قوله تعالى: «حَقَّ جِهادِهِ» تأكيد لهذا الجهاد، وبيان للصفة التي يكون عليها، وهو أن يكون خالصا لله، وفى سبيل الله، لا يبتغى به شىء غير وجه الله.. وهنا يكون البذل للمال والنفس هيّنا، إذا نظر إليه فى مقابل ثواب الله، وابتغاء رضوانه.
- وفى قوله تعالى: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ» بتعدية الجهاد بحرف الجر «فى» إلى لفظ الجلالة، «الله» وإلى سبيل الله، كما جرى ذلك فى الأسلوب القرآنى- فى هذا ما يشير إلى قدر الجهاد، وإلى أنه لله وحده، ومن أجل ذاته سبحانه- ولوجهه خاصة- فحرف الجر هنا للسببية..
ومن جهة أخرى، فإن الجهاد فى الله هو جهاد عام، يشمل الجهاد فى سبيله وغيره، كالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومجاهدة النفس، ونحو هذا، مما يعلى كلمة الله، ويقيم دعائم الحق، ويثبت أركانه.. وهذا مثل قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» . (69: العنكبوت) - وقوله تعالى: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» هو تعليل للأمر بالجهاد، وداعية إلى امتثال هذا الأمر، لأنه صادر من الله الذي «اجتبى» أي اختار هذه الأمة.. واصطفاها من بين الأمم لحمل رسالة الإسلام، آخر الرسالات، وأكملها، فهم لهذا مطالبون بأن يكونوا رسلا يحملون دعوة الإسلام، وجنودا يدافعون عنها، ويبذلون النفس والمال فى سبيلها.. إنها أمانة، هم أهل لحملها، إذ قد اجتباهم الله لها، وخصّهم بها..
ثم إن هذه الرسالة- رسالة الإسلام- مع ما فيها من دعوة إلى بذل(9/1105)
النفس والمال، بالجهاد فى سبيل الله- فإنها رسالة قائمة على الرحمة والعدل، ليس فيها حرج ومشقة على أهلها، إذ أن من أسسها العامة أنه «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .. وأن كل إنسان يحمل من تكاليفها وأوامرها قدر ما يستطيع، وفى هذا القدر تحقيق لأدنى المطلوب..
ففى باب الجهاد مثلا، يبدأ الجهاد بمجاهدة النفس، وكفها عن المحرمات، وردّها عن الأهواء والشهوات، وهذا وإن كان الجهاد الأكبر، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قريب من كل إنسان.. إنه أقرب شىء إليه، لا يتكلّف له مالا، ولا يبذل له نفسا.. ومع هذا فهو درجات.. يبدأ بالكف عن الكبائر، وينتهى بالانتهاء عن اللّمم والصغائر..
ومن الجهاد مثلا.. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. فهو مجاهدة بالقلب وباللسان، لا بالنفس ولا بالمال..
وفى باب الجهاد كذلك، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى، وأصحاب العاهات، ونحوهم، وأعفاهم من الجهاد بأنفسهم.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (91: التوبة) ..
وقل مثل هذا فى جميع أوامر الشريعة وأحكامها.. إنها شريعة قائمة على اليسر ورفع الحرج، وفى هذا يقول الله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (16: التغابن) أي فى حدود ما تحتمل أنفسكم، وما تتسع له طاقاتكم..
وفى الحديث الشريف: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .. وفى الحديث أيضا: «إن هذا الدين ذلول لا يركب إلا ذلولا» أي إن هذا الدين سمح سهل، لا ينتفع به إلا إذا أخذ سمحا سهلا، تتقبله النفوس، وتنشرح له الصدور.. شأنه فى هذا شأن الطعام، لا يفيد منه الجسم، إلا إذا طابت له(9/1106)
النفس، واشتهته، واستساغت طعمه، واستطابت مضغه وبلعه..
وفى الحديث أيضا: «لا تبغّض إلى نفسك عبادة الله» وذلك بالقسوة عليها، وبحملها على ما هو شاق، وبين يديها القريب الميسور! وفى الحديث: «ما خيّر الرسول صلوات الله وسلامه عليه بين أمرين، إلا اختار أيسرهما» ..
- وقوله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» .. الملة، الشريعة، وهى منصوبة على الإغراء.. أي الزموا هذه الملة، ملة أبيكم إبراهيم.
- وقوله تعالى: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» أي أنه هو الذي طلب من الله أن تكون من ذريته تلك الأمة المسلمة التي هى أنتم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (128: البقرة) .
فالداعيان، هما إبراهيم وإسماعيل، ودعوتهما، هى أن يكونا مسلمين لله وأن يجعل منهما- أي من إبراهيم، وإسماعيل- أمة مسلمة.. وأن يبعث فيهم رسولا منهم كما يقول الله تعالى على لسانيهما بعد ذلك: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (129: البقرة) ..
فالنبىّ صلى الله عليه وسلم، هو «دعوة إبراهيم» - كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم» .. وكذلك أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل، هم الأمة المسلمة، وهم الدعوة المستجابة لإبراهيم..
قوله تعالى:
«وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» .(9/1107)
الإشارة هنا بهذا، إلى قوله تعالى: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» أي وفى هذا الاجتباء، ورفع الحرج عنكم، سبب لأن يكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس..
وشهادة الرسول على أمته، هو أن يشهد بأنه بلّغ رسالته فيهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله، وإلى الاستقامة على ما شرع الله لهم من عبادات وأحكام..
وهو بهذه الشهادة يدين كلّ من أبى وقصّر..
أما شهادة هذه الأمة على الناس، فهى مثل شهادة الرسول عليهم..
أي أنهم بمنزلة الرسول فى الناس، يدعونهم إلى الله، ويبلغونهم رسالة الإسلام، وهم بهذه الشهادة يدينون كلّ من أبى الاستجابة لهم، والدخول فى دين الله معهم..
وهذه المنزلة التي رفع الله بها قدر هذه الأمة، وأعلى بها شأنها فى الناس، وجعل لها بها ما للرسل فى أقوامهم- هذه المنزلة العالية الرفيعة، هى أمانة، لا يحملها إلا أولو العزم من الناس، ومن هنا كان واجبا على كل مسلم أن ينهض بحمل هذا العبء، وأن يرى الناس منه، فى قوله وعمله، من استقامة الخلق، واعتدال السلوك ما يرى الناس فى الأنبياء والرسل..
فيا ليت قومى يعلمون هذا الشرف العظيم، الذي قلده الله سبحانه وتعالى إياهم، وهذا الواجب الكريم الذي أناطه بهم، وهذا المقام الرفيع الذي أقامهم على الناس فيه..!!
إن أي مسلم لا يرى- بعمله، وعلمه، وقدره فى الناس- أنه فى مكان القيادة من المجتمع الإنسانى، فهو ليس من الإسلام فى شىء.. إنه لن يكون فى المسلمين الذين يشهدون على الناس يوم القيامة.(9/1108)
وقوله تعالى:
«فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» .
هو تذكير برسالة المسلم، وبتلك المؤهلات التي يحقق بها هذه الرسالة، ويكون من الشهداء على الناس.. وذلك بأن يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، وأن يعتصم بالله، ويجعل وجوده كلّه لله، وبالله.. وذلك هو الذي يضمن له علوّا، ونصرا وعزّا.. «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
بعونه تعالى تم الجزء السابع عشر، ويليه الجزء الثامن عشر إن شاء الله(9/1109)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
23- سورة المؤمنون (23)
نزولها: هى مكية.. إجماعا.
عدد آياتها: مائة وثمانى عشرة آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وأربعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة حرف، وحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 11) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
التفسير:
يلتقى بدء هذه السورة مع خاتمة سورة الحج قبلها.. فقد ختمت سورة الحجّ، بهذا الخطاب العام للمؤمنين، الذين اصطفاهم الله واجتباهم، وقد تضمن هذا الخطاب دعوة إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.. ثم ختم بقوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» .(9/1110)
وبدء سورة: «المؤمنون» بقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ... » إلى آخر الآيات- هو استقبال كريم لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا إلى الله، واستجابوا لدعوته، وآمنوا به.. فهؤلاء المؤمنون، قد أفلحوا، وفازوا برضوان الله.. وكان هذا الخبر من معجّل البشريات لهم فى هذه الدنيا.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين المفلحين، أنهم فى صلاتهم خاشعون.. أي يؤدّون صلاتهم فى خشوع، وخشية، وولاء.. إنها صلاة تفيض من قلب خاشع لجلال الله، راهب لعظمته، فكيان المؤمن كله، ووجدانه جميعه، وهو قائم فى محراب الصلاة- مشتمل عليه هذا الجلال، مستولية عليه تلك الرهبة.
ومن أجل هذا كان لتلك الصلاة الخاشعة الضارعة أثرها العظيم، فى إيقاظ مشاعر الخير فى المصلين، وفى تصفية أنفسهم من وساوس السوء.. فهم لهذا:
«عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» أي لا يقبلون اللّغو، ولا يتعاملون به.. فإذا نطقوا، نطقوا خيرا أو سكتوا، وإذا سمعوا، سمعوا حسنا أو انصرفوا.. إنهم- وقد صفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم- ليعافون موارد اللّغو، من القول التافه، أو الحديث الباطل..
ثم هم «لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» أي يؤدون زكاة أموالهم، ويشاركون الفقراء والمحتاجين فيما رزقهم الله من فضله، فلا يضنّون بما فى أيديهم، ولا يؤثرون أنفسهم بما معهم..
وفى التعبير عن أدائهم للزكاة، بأنهم فاعلون لها- إشارة إلى أن الزكاة ليست من نافلة الأعمال، التي تصدر عن غير وعى أو شعور من الإنسان، بل إنها شىء عظيم، يحتاج إلى يقظة كاملة ممن يؤديها.. وذلك من وجوه:
فأولا: نظره إلى المجتمع الذي حوله، وإلى الجوانب الضعيفة منه، وإلى(9/1111)
ذوى الضرّ والحاجة من أفراده، فيعمل على سدّ هذا الخلل، وتقوية تلك الجوانب ودعمها، بما بين يديه من مال.
وثانيا: نظره إلى هذا المال الذي فى يده، وحمل نفسه على السّماح والبذل فى كل وجه نافع طيب.. وذلك حتى لا تغلبه نفسه على الضنّ به، والوقوف عند حدّ الزكاة الواجبة.
ومن هنا كانت الزكاة «فعلا» أي عملا جادّا، يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه العمل الجادّ، من إمعان نظر، وبذل جهد.. وليست مجرد صدقة طارئة، تطرق المتصدق بين الحين والحين، أو تلقاه على رأس كل عام، وإنما هى «فعل» متصل، يشغل به الإنسان فى كل لحظة من لحظات حياته.. وبذلك يكون على صلة دائمة بالمجتمع الذي يعيش فيه.. يحسّ بإحساسه، ويتحرك معه فى الاتجاه الذي يتحرك فيه، ويحمل هموم ذوى الحاجات والهموم من جماعة المسلمين.. وفى الحديث: «من لم يحمل همّ المسلمين فليس منهم» .
ومن صفات هؤلاء المؤمنين أنّهم «لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» أي أنهم كما حفظوا ألسنتهم عن اللغو، وكفوا جوارحهم عن الشر والأذى- حفظوا فروجهم من الدّنس، ولزموا بها جانب العفّة والطهارة..
وقوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» هو استثناء من حفظ الفروج عن الاتصال بالنّساء، والتعفف عنهن..
فليس هذا على إطلاقه، وإنما لفروجهم ما أحلّ من أزواج، ومما ملكت اليمين من جوار.. فهذا لا لوم عليهم فيه.. تماما كالإمساك عن اللغو من الكلام، مع إباحة الحديث الطيب من القول..
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» ما يشعر برفع الحظر عن أمر كان محظورا، وبدفع اللوم عن أمر كان إتيانه موضع لوم.. فكيف هذا؟ والله(9/1112)
سبحانه وتعالى جعل الصلة بين الرجل والمرأة من النعم التي أنعم الله بها على عباده، فقال تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ؟ (21: الروم) والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن الإنسان فى صورته الحيوانية، مباح له إباحة مطلقة، أن يتصل بالمرأة أيا كانت، شأنه فى هذا شأن الحيوان فى اتصال الذكر بالأنثى.. بلا قيد ولا حد..
ولكن الإنسان، الذي يندسّ فى كيانه هذا الحيوان، قد أراد الله سبحانه له، أن يعلو بإنسانيته، ويرتفع إلى مستوى كريم، يكون فيه أقرب إلى العالم العلوي منه إلى العالم الأرضى.. وذلك لا يكون إلا بأن يخرج من مسلاخ الحيوان، أو يقتل هذا الحيوان المندسّ فى كيانه.. وذلك من مظاهره ألا تكون صلته بالأنثى شبيهة بصلة الحيوان، المطلقة من كل قيد..!
ولكن الإنسان مهما يكن، لا يمكن أن ينسلخ من الجانب الحيواني الذي فيه، وهو على هذا التركيب الجسدى، الذي تتحرك فيه شهوة داعية إلى اتصال الرجل بالمرأة..
فكان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن وقف بالإنسان موقفا وسطا، يأخذ فيه وضعا ملائما للإنسان والحيوان معا.. فقيد الإنسان بهذا القيد الذي ألزمه حدود إنسانيته، ثم نفّس عنه بعض الشيء، فجعل لهذا الجسد فى الإنسان حظّه من المرأة فى حدود مرسومة لا يتعداها، وهو أن يتخذ له امرأة، أو أكثر إلى أربعة، ممن أحلّ الله له.. أو ما يشاء من النساء، ممن ملكتهن يده! الأصل إذن، الحرمة المطلقة فى اتصال الرجل بالمرأة عموما.. ثم الإباحة فى هذا النطاق الضيق المحدود..! أو قل: الأصل هو الإباحة المطلقة من كل قيد، ثم هذا القيد الوارد على هذا الإطلاق.. وذلك حسب أي النظرتين بنظر بها(9/1113)
إلى الإنسان.. فإن نظر إليه على أنه إنسان يسمو بإنسانيته عن الانتساب إلى عالم الحيوان- كان على مستوى التقدير الأول، وإن نظر إليه على أنه حيوان، يريد أن يتحسس طريقه إلى الإنسان- كان على مستوى التقدير الثاني.
وانظر: إنه لو ترك للإنسان الحبل على الغارب، لكان له أن يتصل بأية امرأة يريدها ويشتهيها.. وهذا من شأنه أن يجعل جميع النساء مباحات له..
يتصل بهنّ، بوسيلة أو بأخرى..
وهذا القدر المحدود المباح له من النساء، هو استثناء من هذا الحظر العام، وهو بالقياس إلى الحظر العام، لا يكاد يعدّ شيئا، يحسب حسابه. حتى لكأن الحظر العام قائم..
فقوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» تذكير بهذه النعمة، التي أتاحت للإنسان أن يتصل بالمرأة فى هذه الحدود، وهى وإن وجدها ضيقة، لا تشبع جوعه الحيواني، فإن عليه أن يذكر أنه إنسان، وأنه كان من مطلب الجانب الروحي منه، ألا يكون هناك هذا المنفذ الذي ينفذ منه إلى المرأة.. ومع ذلك فإنه غير ملوم فى الاتصال بالمرأة فى هذه الحدود، وإن جار هذا على الجانب الروحي منه، وهذا كله يعنى القصد فى هذا الأمر، والاعتدال فيه، وألا يكون الإنسان على سواء مع الحيوان! وفى قوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» - تحذير من مجاوزة هذه الحدود، والانطلاق إلى ماوراءها، فإن ذلك هو دخول فى عالم الحيوان باربعة أرجل، وهو عدوان على إنسانية الإنسان، واعتداء على حدود الله! قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» - هو من صفات هؤلاء المؤمنين(9/1114)
الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بالفلاح.. فمن صفات هؤلاء المؤمنين- مع ما وصفوا به من قبل- أنهم يرعون الأمانات، ويحفظون العهود.. ومن الأمانات، والعهود، هذه التكاليف التي كلّف بها الإنسان، وهذه الأوامر التي أمر بها.. ورعاية هذه التكاليف، وتلك الأوامر، هو القيام عليها، والتزام حدودها.. والخروج عليها، هو عدوان عليها، وعلى الله سبحانه! قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» - هو من صفات المؤمنين المفلحين أيضا.. وهو محافظتهم على الصلوات، وأداؤها فى أوقاتها، بعد أن وصفوا من قبل بأنّهم فى صلاتهم خاشعون..
وقدمت الخشية فى الصلاة، على المحافظة عليها.. لأن الخشية هى المطلوب الأول من الصلاة، وأن صلاة بغير خشوع وخشية، لا محصّل لها، ولا ثمرة منها..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
هو بيان للجزاء الحسن، الذي يجزى الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين وصفوا بهذه الصفات، وهو ما يكشف عن فلاحتهم، وفوزهم، وإنه لا فلاح أعظم من هذا الفلاح! ولا فوز أكرم من هذا الفوز..!
وأي فلاح أعظم، وأي فوز أكرم، من أن تكون الجنة ميراثا خالدا أبدا، يعيش فيه أولئك المؤمنون المفلحون!(9/1115)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
الآيات: (12- 22) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة من متفتح السورة إلى هذه الآية، قد كانت عرضا، مسعدا للمؤمنين المفلحين، الذين آمنوا بالله، واستقاموا على طريقه المستقيم.. وفى مقابل هذا العرض كانت تتراءى صورة الضالين والغاوين، الذين كفروا به، وحادوا عن سواء السبيل.. وإلى هذه(9/1116)
الصورة كانت تتطلع كثير من النفوس إلى هيئتها التي تكون عليها، لو أنها أطلّت بوجهها، وكشفت عن حال أصحابها، كما كشفت الصورة السابقة عن المؤمنين، وعن حالهم الطيبة المسعدة.. فالمؤمنون بالله ينظرون إلى من خلّفوهم وراءهم على طريق الكفر والضلال، ليروا ما صنع الله بهم.. وغير المؤمنين، ينظرون إلى مكانتهم بعد أن رأوا المؤمنين، وقد ورثوا جنات النعيم.
ولكن كان من رحمة الله بهؤلاء الضالين الغاوين، أن حجب عنهم صورتهم السيئة المنكرة، ولم يكشف لهم عن المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، إذا وقفوا حيث هم على موارد الضلال والغواية.
وبدلا من أن يكشف الله لهم عن حالهم السيئة، وينزلهم منازل الهون والبلاء- دعاهم إليه، ومنحهم فرصة أخرى، يراجعون فيها أنفسهم، ويتدبرون حالهم، ويرجعون إلى الله من قريب، ليكونوا فى المؤمنين المفلحين، فعرض عليهم سبحانه وتعالى شيئا من مظاهر قدرته، وعلمه، وحكمته.. يجدونها- لو عقلوا- فى أقرب شىء إليهم.. فى أنفسهم، وفى عجائب قدرة الله، وبالغ حكمته..
إذ أخرج من التراب هذا الإنسان، السميع البصير، العاقل، الناطق، الذي عمر هذه الأرض، وتسلّط على حيوانها ونباتها وجمادها..
ففى هذه النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه، وإلى أصل نشأته، وتطوره فى الحياة، وتنقله فى الخلق- فى هذه النظرة، يرى الإنسان أن يدا حكيمة قادرة، هى التي أوجدته، وأخرجته على هذه الصورة، التي لا وجه للشبه بينها وبين هذا التراب الهامد الذي ولدت منه.. فكيف لا يولى الإنسان وجهه إلى الذي فطره وصوّره، وأقامه على هذا العالم الأرضى خليفة لله فيه؟ وكيف لا يدين لخالقه ورازقه بالطاعة والولاء؟ ثم كيف يعطى يديه، ويسلم زمامه لأحجار ينحتها، أو لحيوان يربيه، أو لإنسان هو مخلوق مثله؟ ذلك ضلال مبين.(9/1117)
وانحدار سريع إلى عالم التراب، مع الهوام والحشرات! قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» .
السلالة: الأصل، وكأنها السلسلة التي يمتد عليها أصل الشيء، ويصل بين مبدئه وغايته، وهذا يشير إلى أن الإنسان قد مرّ فى أطوار كثيرة بين عالم التراب، وسار مسيرة طويلة فى سلسلة متصلة الحلقات.. من التراب إلى الطين، ثم من الطين إلى الحمأ المسنون، ثم من الحمأ المسنون إلى الصلصال، كما يقول تعالى على لسان إبليس- لعنه الله-: «قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (33: الحجر) .. ثم من هذا الصلصال إلى عالم النبات.. من الطحالب.. إلى النخلة، ثم من عالم النبات إلى الحيوان، من الجرثومة.. إلى الإنسان..!
وقد عرضنا لقضية خلق الإنسان فى الجزء الأول من هذا التفسير..
قوله تعالى:
«ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ» .
هو إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي أخرجته القدرة الإلهية من بين هذا التراب بشرا سويّا، ما هو إلا هذه النطفة التي اختصرت وجوده كله، واشتملت على كل ما فى كيانه من قوى عاقلة، ناطقة، مبصرة، سميعة، مريدة، فما النطفة إلا الإنسان مضمرا فى كيانها، وما الإنسان إلا النطفة سابحا فى محيطها متحركا فى فلكها..
والقرار المكين، المودعة فيه النطفة، هو الحبل المنوىّ، الذي يمتد بين(9/1118)
فقار الظهر، وأضلاع الصدر، كما يقول تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» (5- 7: الطارق) .
وقد يكون القرار المكين، هو الرحم الذي تستقرّ فيه النطفة..
وبين خلق الإنسان من طين، وبين جعله نطفة فى قرار مكين، مقابلة، بين نشأة الإنسان الأول من الطين، وبين عملية التوالد، التي هى وظيفة عضوية من وظائف هذا الإنسان..
فالنشأة الأولى، من التراب.. وفى هذا التراب كانت تكمن جرثومة الإنسان الأول كما تكمن النطفة فى هذا القرار المكين من الإنسان..
ولكن شتان بين نطفة ونطفة! فالنطفة التي تخلّق منها الإنسان الأول كانت من مادة هذه الأرض كلها.. والمدى بعيد شاسع بين مادة الأرض، وبين هذا الإنسان المتخلق من المادة.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ «الخلق» :
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ..»
أما نطفة الإنسان، وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا الإنسان، فالمسافة بينهما قريبة فى مرأى العين البشرية، وفى مواجهة الشواهد الكثيرة لهذا.. فى عالم النبات والحيوان.. حيث تخرج الحبّة نباتا مثل هذا النبات الذي جاءت منه، ويخرج الحيوان من نطفته حيوانا مثله.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ جعل. «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً» ..
والجعل دون الخلق، إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق، وذلك مثل قوله تعالى:
«وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» (8- 11 النبأ) .(9/1119)
قوله تعالى:
«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.. فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً..» فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً.. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.»
تقصّ هذه الآية قصة «خلق» الإنسان، ابتداء من النطفة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فى قرار مكين.. هو الرّحم.
وهنا يتجلى الإعجاز القرآنى، حتى ليكاد يلمس باليد، إن عميت عنه العيون، وزاغت عنه الأبصار! فقد رأينا كيف فرق النظم القرآنى بين أمرين:
فأولا: جعل إيجاد الإنسان من الطين، عملية خلق.. «خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» .
وثانيا: جعل توالد الإنسان من النطفة عملية وظيفية، تخضع لسنن ظاهرة يدركها الإنسان، ويعمل على تحقيقها، وقد عبر عنها القرآن بلفظ «جعل» ..
«ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ» .
وهنا فى هذه الآية- وهو موضع العجب والدّهش والانبهار لهذا الإعجاز- هنا تتحرك النطفة نحو غايتها إلى أن تكون مولودا بشرا.. يتنقّل من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى هيكل عظمى معرّى من اللحم.. إلى هيكل بشرى يكسوه اللحم.. إلى جنين.. ثم طفل..
وهذه الأطوار، هى فى الواقع انطلاقة لهذه النطفة، وإظهار لما فى كيانها..!
وعلى هذا، فقد كان من المتوقع أن تكون هذه التحركات للنطفة من باب «الجعل» لا «الخلق» لأن النطفة ذاتها «مجعولة» وكل ما تعطيه هو من «المجعول» أيضا..(9/1120)
ولكن النظم القرآنى، خالف هذا، وجاء بالتعبير عن «الجعل» بلفظ «الخلق» .
فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة.. «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً..»
والعلقة لم تجعل مضغة، وإنما خلقت مضغة.. «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً..»
وهكذا المضغة، لم تجعل عظاما، وإنما خلقت عظاما.. «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً..»
فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟
السرّ فى هذا- والله أعلم- أن كلّ عملية من هذه العمليات، هى خلق جديد، لا يملكه إلا الخالق جل وعلا، وهو مما استأثر به سبحانه وتعالى وحده، فسمّى ذاته «الخالق» وأبى على خلقه أن يشاركوه فى هذه الصفة..
ومعنى هذا، أنه لا يمكن للإنسانية كلها- وإن اجتمعت- أن تنتقل بالإنسان فى هذه الأطوار من طور إلى طور.. وأن قدرة الناس- ولو اجتمعت- لا تستطيع أن تنتقل بالنطفة إلى العلقة، ولا بالعلقة إلى المضغة.. وهكذا..
إنها جميعها- كما قرر القرآن- عمليات «خلق» ، استأثر بها الخالق..
وإنها لمعجزة قرآنية متحدية، قائمة على التحدي فى كل زمان ومكان.. وإنه لن يأتى العلم أو العلماء- مهما بلغ العلم، واجتهد العلماء- بما يقف لهذه المعجزة المتحدية، على مدى الأزمان.
نقول هذا، لا لنحجر على العلم، ولا لنقف فى طريق العلماء، الذين يحاولون الوصول إلى «خلق» الكائن الحىّ.. بل نحن ندعو العلم، ونهيب بالعلماء أن يجروا فى هذا الميدان إلى غايته، وأن يتحدّوا هذه المعجزة المتحدية.. فتلك هى دعوة القرآن للكشف عن إعجازه، والدعوة إلى الإيمان بأنه تنزيل من ربّ العالمين..(9/1121)
وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، تحت عنوان: «الخالق وما خلق» فى تفسير الجزء السابع عشر، من القرآن الكريم..
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» إشارة إلى نفخة الروح فى الإنسان، بعد أن يتخلّق، ويتم تصويره على الصورة الإنسانية.. فهو قبل هذه النفخة كتلة من اللحم والعظم.. حتى إذا نفخ فيه الخالق من روحه، أصبح كائنا حيّا، ودخل فى عالم الإنسان! - وقوله تعالى: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» هو تمجيد لله، وتسبيح بجلاله وعظمته، يقولها الحق سبحانه وتعالى ممجدا ذاته، ويقولها الوجود كلّه، تسبيحا، وصلاة، وحمدا للخالق المبدع المصوّر..
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» .
وهذه حقيقة واقعة، يعلمها الناس ويقعون فى دائرة تجربتها.. فهى- والحال كذلك- فى غير حاجة إلى أن يخبر عنها، ثم إذا كان لا بد من الإخبار بها، فهى فى غير حاجة إلى توكيد..
ولكن جاء القرآن مخبرا عنها، ومؤكدا لها.. وذلك لأن الناس- وإن كانوا على علم واقع بهذه الحقيقة- ذاهلون عن الموت، غافلون عنه، حتى لكأنهم لن يموتوا أبدا.. فلقد غرّتهم الدنيا، وألهاهم متاعها، وشغلهم غرورها، فكانت هذه النخسة من القرآن الكريم، إيقاظا لهؤلاء النيام، الذين هم فى غمرة ساهون، والذين هم فى خوضهم يلعبون.
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» .(9/1122)
إن الموت ليس هو نهاية الإنسان، بل إنه مرحلة من مراحل وجوده، وموقف يتحول به من عالم إلى عالم آخر.. فيه حساب وجزاء.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» .
الطرائق: جمع طريقة- وهى الطبقات.. بعضها فوق بعض.. والسبع الطرائق: السموات السبع.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» (15: نوح) .
فالسّموات، ليست كما تبدو فى مرأى العين، سقفا جامدا، وإنما هى طبقات من الأثير، بعضها فوق بعض، كما أن الأرض طبقات من المادة الكثيفة.. بعضها فوق بعض كذلك.. طبقة قشرية من تراب.. ثمّ تحتها طبقات من أحجار، ومعادن.. وغيرها، مما لم يبلغه علم الإنسان..
- وفى قوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، إذ يخلق ما يخلق، فإنه- سبحانه- يقوم على أمر هذا الخلق وتدبيره، ويمسك نظامه، ويحفظ وجوده.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» .. فهو وحده- سبحانه- الذي يخلق، وهو وحده- جل شأنه- الذي يدبّر أمر ما خلق.
قوله تعالى:
«وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» .
هو بيان لقوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» ..
وذلك أن الله- سبحانه- الذي خلق الإنسان، لم يدعه وشأنه، بل(9/1123)
تولّى أمره، ودبّر شئونه، فأنزل هذا الماء الذي هو ملاك حياة كل حىّ، من نبات وحيوان..
وأن هذا الماء لم ينزل إلا بحساب، وتقدير، فكان على قدر ما يصلح به الناس، وتصلح به حياتهم.. وأنه لو كان أقلّ مما هو، لهلك الناس، وفسدت حياتهم، ولو كان أكثر مما هو، لهلك الناس، وذهب العمران..
- وفى قوله تعالى: «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» - إشارة إلى أمور.
أولها: استقرار الماء فى الأرض، ولزومه إياها، وجعلها سكنا له، يألفها، وتألفه، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر أبدا، حتى لكأنهما كائنان من عالم الأحياء، يتزاوجان تزاوج الذكر والأنثى.
وثانيهما: أن إسكان الماء فى الأرض، إنما هو لرسالة يؤدّيها فى الحياة، شأنه فى هذا شأن الإنسان، الذي أسكنه الله هذه الأرض، وجعله خليفة فيها..
وهذا هو بعض السرّ فى التعبير عن استقرار الماء فى الأرض، بالسكن فيها.
وثالثهما: أن تعدية الفعل «فَأَسْكَنَّاهُ» بحرف الجرّ «فى» الذي يفيد الظرفية- هذه التعدية تعنى جريان الماء فى الأرض، ونفوذه إلى أعماق بعيدة فيها، وأنه بهذا يأخذ وضعا متمكنا منها، بحيث لا يعرض له من العوارض، ما يجليه عنها، أو يقطع صلته بها.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» إلفات إلى تلك النعمة العظيمة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس إلا فى أحوال نادرة، حيث ينقطع الماء عنهم.. فهذه النعمة التي يجدها الإنسان بين يديه من غير أن يبذل لها جهدا، هى أثمن وأغلى شىء فى هذه الحياة، وأن الإنسان ليقدّم كلّ ما يملك فى هذه(9/1124)
الدنيا فى مقابل شربة من الماء، تمسك عليه حياته، إذا حرم الماء فى حال من الأحوال..
روى أن أحد الزهاد دخل على الرشيد، فعتب عليه الرشيد أنه لم يطلب منه شيئا.. فقال الزاهد: وماذا فى يدك حتى أطلب منك؟
فقال الرشيد: هذه خزائن مالى، وهذه الأمصار.. فاطلب من المال ما تشاء، واختر أي مصر أقيمك واليا عليه! فقال الزاهد: وكم يساوى ما فى خزائنك من مال؟ وكم يقدّر لأمصارك وولاياتك من ثمن؟
فقال الرشيد: إنه كثير كثير.. كما ترى..
فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. بكم تشترى شربة الماء إذا اشتدّ بك العطش. وأنت فى متاهة، ولا ماء معك؟
فقال الرشيد: بملكي كلّه، ولو كان معى مثله لبذلته..
فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. وبكم من ملكك تدفع عن نفسك شربة الماء إذا احتبست فى داخلك، ولم تخرج من مخرجها؟
فقال الرشيد: بملكي كلّه.. ولو كان معى ضعفه لخرجت منه!! فقال الزاهد: هذا ملكك يا أمير المؤمنين.. كما رأيت.. فماذا أطلب مما ملكت؟
فلو أن الناس ذكروا أدنى نعم الله عندهم، لوجد أشدّهم فقرا أنه فى غنى عريض، وملك كبير، ولبات مع القليل الذي فى يده، على رضا وحمد لله ربّ العالمين..(9/1125)
- قوله تعالى:
«فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» .
هو بيان لبعض وجوه النفع التي ينتفع بها الإنسان من هذا الماء، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء، وأسكنه فى الأرض، وأبقاه ولم يذهب به.
فمن هذا الماء- فضلا عن حياة الإنسان به، وإرواء ظمئه- ينبت النبات والشجر، ويخرج الحب والفاكهة..
وفى اختصاص الجنّات بالذكر، لأنها الصورة الكاملة التي تجمع مختلف الزروع، من الفاكهة وحبّ الحصيد..
وفى اختصاص النخيل والأعناب من بين أشجار الفاكهة، لأنها أعلى درجات النبات صعودا إلى الكمال فى عالم النبات.. فهاتان الشجرتان على قمة العالم النباتي، حيث تلامسان عالم الحيوان.. وقد تحدثنا عن النخلة فى بحثنا عن خلق آدم، فى الجزء الأول من هذا التفسير، وأشرنا إلى معنى الحديث الشريف:
«أكرموا عماتكم النّخل.. فإنهن خلقن من طينة آدم» ..
قوله تعالى:
«وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» .
المراد بالشجرة هنا شجرة الزيتون.. وقد جاءت منكرة للتنويه بها، وبأنها فى تنكيرها أعرف من كل معرّف.. وذلك لأن الله سبحانه وتعالى بارك عليها، فقال تعالى: «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» (35: النور) .
وهى منصوبة بالعطف على «جَنَّاتٍ» .. على تقدير وأخرجنا لكم به جنات من نخيل وأعناب وشجرة..(9/1126)
وفى وصفها بأنها «تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ» - مع أنها تخرج من مواطن كثيرة من الأرض- إشارة إلى أنها ولدت أول ما ولدت فى هذا الموطن المبارك، طور سيناء.. فذلك هو مسقط رأسها الأول، وذلك هو الرّحم الطاهر الذي خرجت منه.. فكل أشجار الزيتون ممسوسة بنفحة من هذه الأمّ التي ولدتها تلك الشجرة التي تفتق عنها رحم هذا المكان الطاهر المبارك..
- وقوله تعالى: «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» أي تنبت وفى كيانها الدهن، وهو الزيت الذي يخرج منها، ويعصر من ثمارها..
- وقوله تعالى: «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» .. معطوف على الدهن، والصبغ الإدام، الذي يصبغ اللقمة من الطعام حين تغمس فى الزيت، فتصطبغ به، وتتلوّن بلونه، وتصبح مشتهاة للآكلين..
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» .
هو إلفات إلى هذه الأنعام المسخرة للإنسان، وما فيها من منافع كثيرة له.
وأعجب ما فى هذه الأنعام، هذا اللبن الذي يخرج من بطونها، من بين فرث ودم.. فلا يأخذ من لون الدم، أو ريح الفرث شيئا، على حين أنه يجرى بينهما، ويأخذ مسلكه الدقيق معهما.. ففى ذلك شاهد من شواهد قدرة الله وإحكام تدبيره وتفرّده سبحانه بالخلق والتدبير.
قوله تعالى:
َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» .
أي أن من هذه الأنعام ما يتخذ للركوب ولحمل الأثقال، كما تتخذ الفلك مراكب للانتقال وحمل الأثقال..(9/1127)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
الآيات: (23- 30) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» .
كان ذكر نعمة الفلك فى الآية السابقة فى قوله تعالى: َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
مناسبة قوية تذكّر بقصة نوح عليه السلام، وبالسفينة، التي جعلها الله مركب نجاة له، ولمن آمن معه.. وأن هذه السفينة لم تكن إلا(9/1128)
نعمة من نعم الله، نجا عليها من آمن به.. وكذلك كل نعمة من نعم الله الكثيرة التي فى أيدى الناس، هى فلك نجاة، يسلك بها الإنسان طريقه إلى الله، ويستدل بها على قدرته وحكمته، فيؤمن به، ويبتغى مرضاته، وبهذا ينجو من سخطه وعذابه، الواقع بالظالمين المكذّبين.
وقد جاء نوح إلى قومه يذكّرهم بالله، ويدعوهم إلى الإيمان به وحده، ويحضهم على تقواه: «أَفَلا تَتَّقُونَ؟» .
وكان جواب القوم على هذه الدعوة الكريمة، ما جاء فى قوله تعالى:
«فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» .
إنها فلسفة مريضة، وسفاهة عمياء..
«ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» .. هكذا رأى القوم- بجهلهم وغبائهم- فى هذا الداعي الذي يدعوهم إلى الله.. إنه طالب سلطان عليهم واستعلاء فيهم، بهذا الموقف الذي يقفه منهم.. إذ كيف يقودهم فينقادون؟ ويدعوهم فيستجيبون؟ وهو واحد منهم لا فضل له عليهم؟ فمن أين جاءه هذا السلطان فيهم؟ ومن أين كانت له هذه الكلمة عليهم؟ إنّها لا أكثر من دعوى يدّعيها، وإنه لا أكثر من قول يقوله: أنا رسول الله إليكم!! وإذا كان لله رسل، فلم لم يكونوا من الملائكة، وهم أقرب إلى الله، وأكثر اتصالا به؟
وإذن فالقوم كانوا يعرفون الله، ويعرفون أن لله سبحانه وتعالى ملائكة.
نعم، ولكنهم كانوا أشبه بمشركى العرب.. يعرفون الله هذه المعرفة المطموسة بتلك التصورات الفاسدة، التي لا ترتفع بجلال الله إلى ما يليق به من(9/1129)
تنزيه عن الصاحبة، والشريك، والولد..
قوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» .
وهذا حكمهم على «نوح» .. إنه رجل مخبول، يهذى بهذا الكلام الذي يقوله لهم، ويحدثهم به عن الله.. وإذن، فمن الحكمة- حكمة السفهاء- أن ينتظروا قليلا، حتى يروا ما وراء هذا الجنون.. أهو عارض فيشفى منه صاحبه، أم هو متمكن منه، ولا شفاء له.. وإذن فسيكون لهم معه شأن غير هذا الشأن! قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» .
وإنه ليس أمام نوح مع هذا العناد الأعمى، إلّا أن يستنصر بربه، وأن يطلب الانتقام له من هؤلاء الذين كذّبوه، وبهتوه، وتوعدوه بالبلاء والنكال.
وقوله «بِما كَذَّبُونِ» أي انصرني بما كذبون به، من سلطانك وبأسك وقوتك.. فالباء للاستعانة، وليست للسببية..
قوله تعالى:
«فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» .
هذا هو جواب الله لنوح فيما سأله إياه.. أن يصنع الفلك على حسب ما يتلقّى من توجيه ربه، ووحيه له، وأن «يسلك» أي يدخل وينظم فيها(9/1130)
من كل حيوان نافع له، زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، وأن يأخذ أهله معه، إلا من سبق عليه القول منهم، فلم يكن من المؤمنين بالله..
- وقوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» - هو تثبيت لقلب نوح، وعزاء له فى أهله الذين سيخلّفهم وراءه للهلاك غرقا.. فهذا أمر الله فيهم، وحكمه عليهم.. وليس لأمر الله مردّ، ولا وراء حكمه معقب، وإنه ليس عند المؤمنين بالله إلا الاستسلام والرضا..
قوله تعالى:
«فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
هو وعد من الله سبحانه وتعالى لنوح بالنجاة من هذا الطوفان المخيف، وأن هذه الرحلة التي سيخوض فيها بسفينته غمرات هذا الطوفان، هى رحلة مأمونة، عاقبتها السلامة والنجاة، وحقّها الحمد والشكران لله ربّ العالمين.
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» .
هو تلقين لنوح بتلك الدعوة المباركة، التي يدعو بها ربّه، وهو فى طريق العودة إلى اليابسة، بعد أن تنهى السفينة دورتها على ظهر هذا الطوفان، حتى يهيئ الله له مكانا خيرا من هذا المكان الذي شهد فيه عناد قومه، ورأى مصارعهم، وقد اشتمل عليهم الطوفان..
وهذا يعنى أن بعض الأمكنة أفضل من بعض.. بعضها ينبت الشوك والحسك، وبعضها يخرج زروعا ناضرة، وجنات مثمرة.. كذلك بعضها يلد الكرام من(9/1131)
الرجال وبعضها يلد الأنكاد المشائيم منهم.. وهذا ما نجده فى قوله تعالى:
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» .
وليس ينكر أثر البيئة فى تكوين شخصية الإنسان، وفى تلوين صبغته الظاهرة والباطنة.. فأهل البادية غير أهل الحضر، وسكان البلاد الحارة غير سكان البلاد المعتدلة.
ولحكمة عالية، وسرّ عظيم، كان اختيار الجزيرة العربية مطلعا لرسالة الإسلام الخالدة، واختيار رسولها من نبت هذه البادية، ومن زهرها الطيب الكريم.. وقد عرضنا لهذا الموضوع فى كتابنا: «النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم» .. تحت عنوان: «مكان الدعوة وزمانها» .
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» .
الإشارة هنا إلى هذا الحدث، وما كان فيه من هلاك القوم الظالمين، ونجاة الرسول ومن آمن معه.. ففى هذا الحدث آيات، وشواهد على قدرة الله، وإحاطة علمه بما يقع من عباده من طاعة أو عصيان..
وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» .. (إن) هنا مخففة من «إنّ» الثقيلة..
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء والاختيار أمرا لازما يؤخذ به عباده، حتى ينكشف حالهم، ويأخذ كل منهم مكانه فى هذا الابتلاء.. فإرسال الرسل إلى الناس، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وإتيان ما يفرضه عليهم الإيمان من واجبات، هو ابتلاء، يتكشف آخر الأمر عن مؤمنين وكافرين، وناجين وهلكى.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد)(9/1132)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
الآيات: (31- 41) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
التفسير:
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» .
أي وبعد نوح أرسل الله سبحانه وتعالى رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فكان الموقف واحدا «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ» .
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْنا» .. إشارة إلى أن عملية الخلق ليست عملية آلية، كما تبدو من التوالد بين الأحياء، وإنما تتجلّى قدرة الله سبحانه وتعالى فى خلق كل مخلوق، صغر أم كبر- فميلاد المولود هو خلق، وإنشاء(9/1133)
مستقلّ.. تماما كما خلق الإنسان الأول من تراب، فكذلك خلق الإنسان المولود منه.. هو من تراب أيضا.. حيث تتولد النطفة من مادة المأكولات المتولدة من الأرض.. ثم تسير النطفة فى مراحل التطور بقدرة الخالق، فتتحرك من طور إلى طور، حتى يولد المولود.
وهذا هو السر فى التعبير القرآنى بلفظ «أنشأنا» بدلا من لفظ أقمنا، أو خلقنا.. ونحوهما.
والقرن الآخرون، الذين جاءوا بعد قوم نوح، هم قوم عاد وقوم ثمود..
وقد جمعهما القرآن الكريم فى قرن واحد، لأنهم كانوا على شاكلة واحدة، وقد جاء قوم ثمود، خلفا لقوم عاد، فى ديارهم ومساكنهم..
قوله تعالى:
«فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» .
تلك هى دعوة الرسول فى القوم، سواء أكان الرسول هودا، المرسل إلى عاد، أم صالحا المرسل إلى ثمود.. إن رسول كل من القومين هو واحد منهم، وإن كلمة كلا الرسولين إلى قومه هى: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ.. ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.. أَفَلا تَتَّقُونَ» .. دعوة إلى عبادة الله، وإفراده بالعبودية وحده.. والاستقامة على ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه..
قوله تعالى:
«وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» - تلك(9/1134)
هى بعض مقولات القوم- قوم عاد وقوم ثمود معا- التي استقبلوا بها دعوة رسولهم لهم، إلى الإيمان بالله..
والملأ: الجماعة من أشراف القوم وساداتهم..
- وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .. وفى عطف «أَتْرَفْناهُمْ» على التكذيب والكفر- فى هذا إشارة إلى أن نعم الله التي نعمهم بها وأترفهم بالتنعم فيها- كانت عندهم عدلا للكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. أي كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، وجحدوا بنعمنا التي أترفناهم بها، وكذبوا بالرسول الذي جاءهم، وأبوا أن يؤمنوا لبشر مثلهم، وعدوا هذا خسرانا وبلاء عليهم.
قوله تعالى:
«أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» .
هو بعض من مقولات القوم، التي ينكرون بها على النبي دعوته إياهم إلى الإيمان باليوم الآخر.. فهم يستبعدون- إلى حد الاستحالة- أن يبعثوا بعد أن يموتوا، ويصبحوا ترابا ورفاتا.. كما يقول الله تعالى بعد هذا، على لسانهم:
«هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .
إنهم بهذا يؤكدون استبعاد البعث بعد الموت، ويؤكدون أنه لا حياة إلا هذه الحياة التي هم فيها، وأنهم إنما يدورون فى هذين المدارين، حياة وموت، وموت وحياة.. حيث يموت ناس، ويولد ناس.. وهكذا دواليك.. أما أن يبعث الموتى من قبورهم، ويعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فذلك ما لا تقبله عقولهم ولا يتصوره خيالهم..(9/1135)
إن الإيمان بالبعث فرع عن الإيمان بالله، وبقدرته، وعلمه، وحكمته..
فإذا لم يكن إيمان بالله، أو دخل على هذا الإيمان خلل وفساد- لم يكن أمر البعث ممكن التصور.. كما يقول الشاعر الجاهلى.
حياة ثم موت ثم بعث؟ ... حديث خرافة يا أمّ عمرو
قوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» هى قوله القومين- عاد وثمود- قالها كل قوم لرسولهم، فرموه بالافتراء والكذب على الله.
«قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» وتلك هى صرخة كل من الرسولين إلى ربه، وفزعته إليه.. وقد كانت تلك هى صرخة نوح وفزعته إلى ربه من قبل: «رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» .
«قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» .
وقد استجاب الله للرسولين الكريمين، بهذا الوعيد الذي توعّد به القوم الظالمين..
«فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» الصيحة: هى الزلزلة، التي رجّت ديار القوم، وأتت على كل شىء وإذا كان عاد قد أهلكوا بريح صرصر عاتية، كما يقول الله تعالى:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» .. وإذا كانت ثمود قد أهلكت بالصيحة. وقد سماها القرآن «الطاغية»(9/1136)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
كما فى قوله تعالى: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» - إذا كان هذا وذاك، فإن الصيحة تجمع الصفة التي هلك عليها عاد وثمود، فأنهم أهلكوا بهذا البلاء الذي صاح فيهم صيحة جمد لها الدم فى عروقهم، وتصدعت لها قلوبهم، وتهاوت منها ديارهم..
وفى قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» إشارة إلى أن ما خلّفه البلاء الواقع بهم، من ذواتهم، وديارهم، وأموالهم- لم يكن إلا ترابا وحطاما أشبه بالغثاء الذي يحمله السيل فى اندفاعه، مما يجده فى طريقه من مخلفات الأشياء، التي لا يلتفت إليها أحد.
الآيات: (42- 50) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 50]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46)
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)(9/1137)
التفسير:
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» .
القرون: الأمم.. والقرن من عمر الزمن مائة عام، ومن عمر الإنسانية، جيل من أجيالهم ويقدّر بثلاث وثلاثين سنة.
والإنشاء: الخلق، والإيجاد من عدم، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
«ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» : أي ما تسبق أمة أجلها.. وحرف الجرّ من» زائد، و «أمة» فاعل.
والمعنى.. أنه بعد أن أهلك الله قوم عاد، وقوم ثمود، خلق من بعدهم أمما أخرى كثيرة، جاء بعضها إثر بعض.. فكان لكل أمة ميقات لميلادها ومهلكها، تماما كميقات مولد الإنسان ومهلكه.. لا تجىء أمة قبل الوقت المقدر لميلادها، ولا تستأخر عنه..
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
تترى: أي تتتابع، ويجىء بعضها وراء بعض.
أي ثم أرسل الله سبحانه وتعالى إلى كل أمة رسولا منها.. يلقاها فى الوقت المعلوم.. وكما تتابعت الأمم، وجاء بعضها إثر بعض، كذلك تتابعت الرسل وجاء بعضهم وراء بعض..
وكما خلفت كل أمة الأمة التي قبلها، فى ديارها وأموالها، خلفتها كذلك(9/1138)
فى تكذيبها لرسول الله المبعوث إليها! ثم حل بها البلاء، وأخذها الله ببأسه.. كما أخذ من سبقها من أمم..
- وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» إشارة إلى هلاك هذه الأمم المتتابعة، وزوال آثارها، فلم يبق منها إلا أحاديث يرويها الناس عنها، وعما كان منها، وما نزل بها..
- وقوله تعالى: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» .. هو تهديد لمن لا يؤمن بالله من الأقوام الحاضرة أو المقبلة، وعبرة بهذه الأمم التي هلكت بعذاب الله.
وفى التعبير هنا بقوله تعالى: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» .. وبقوله تعالى: «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» عند التعقيب على هلاك قوم عاد وثمود- فى هذا مراعاة لمقتضى الحال هنا وهناك..
فهنا تهديد لقوم يدعون إلى الإيمان، ويقفون موقفا مباعدا له، ولكنهم لم يقعوا بعد تحت عذاب الله الراصد للكافرين.. فحسن لهذا أن تعرض عليهم صورة الكافرين، وقد تلبسوا بكفرهم هذا الذي إذا لم يخرجوا منه، كان مصيرهم البلاء والنكال.. وهناك- مع قوم عاد وثمود- قد هلك القوم فعلا، بعد أن قطعوا طريقهم مع الكفر إلى آخره.. فكانوا بهذا كافرين وظالمين غير مظلومين، إذ أخذوا بهذا العذاب البئيس، فكان وصفهم بالظلم أنسب وصف لهم.
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» .
عطفت قصة موسى على ما قبلها بحرف العطف «ثمّ» الذي يفيد التراخي.(9/1139)
وهذا الفصل بثم، بين هذه القصة وما سبقها من قصص، للإلفات إلى قصة موسى، إذ كانت، بما اشتملت عليه من أحداث، وما صحبها من معجزات- تكاد تكون مثلا فريدا بين قصص الأنبياء التي سبقتها..
والسلطان المبين الذي كان مع موسى- هو ما ضمّت عليه هذه الآيات من إعجاز قاهر غالب، يفحم الخصم، ويقهره.. وبهذا يكون له السلطان القوى المبين عليه.
وفى قوله تعالى: «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» . هو حال من الضمير فى قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرُوا» أي فاستكبروا مصاحبين استعلاءهم الذي كان يملأ شعورهم بالترفع عن مستوى البشر..
فهذا الاستكبار الذي لقى به فرعون والملأ الذين معه، دعوة موسى وهرون لهم إلى الإيمان بالله، - هذا الاستكبار، هو أثر من آثار هذا الغرور الذي استبد بعقولهم، فرأوا منه فى فرعون إلها، وأنهم حاشية إله!! قوله تعالى:
«فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» ؟ وهذا القول، هو من قوم فرعون، ومن الملأ الذين معه.. وليس من فرعون.. إذ أن فرعون ما كان يرى أنه من البشر، وإنما هو إله من نسل آلهة.. ولهذا قال لموسى: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» ! وهذه القولة من قوم فرعون شاهد يشهد بأن الناس جميعا على سواء فى إنكارهم على رسل الله أن يكونوا بشرا مثلهم.. وأكثر ما يكون هذا عن الحسد الذي ينفس فيه بعض الناس على بعضهم، أن ينالوا شيئا من نعمة،(9/1140)
أو جاه، أو سلطان، وأشد ما يكون الحسد، حين يكون بين المتجاورين، والمتقاربين فى الدار، أو العمل.. وأنه كلما بعدت الصلات بين إنسان وإنسان، فترت أو ماتت دواعى الحسد له، والعكس صحيح..
ومن هنا صحت العبرة القائلة: «لا كرامة لنبى فى وطنه» وذلك للنظرة الحاسدة له من قومه.
وقوله تعالى: «وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» - هو من بعض تعلّات القوم على موسى وهرون، ومن الحجج التي أقاموها فى دفع دعوته لهم إلى متابعته.. إذ كيف يتابعون بشرا مثلهم؟ وإذا جاز هذا فكيف يتابعون بشرا هو دونهم منزلة؟ أليس موسى وهرون من قوم هم خدم وأتباع لفرعون وقومه؟
قوله تعالى:
«فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» .
وتلك هى عاقبة من يدعى إلى الهدى فيأبى، ويلقى إليه بحبل النجاة فيأنف أن يمسك به من يد لا يراها كفئا له حسبا ونسبا، ويؤثر أن يموت غرقا على أن تكتب له النجاة، ويأخذ الحياة من تلك اليد المحقّرة عنده!.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .
هو إشارة إلى قصة أخرى.. هى قصة موسى مع قومه بنى إسرائيل، بعد أن انتهت قصته مع فرعون وقومه..(9/1141)
ولم يجر ذكر هنا لبنى إسرائيل، وإنما جىء بضمير الغيبة عنهم بدلا منهم، إشعارا لما كان عليه القوم من عناد، وخلاف، ومكر بآيات الله، حتى لكأنهم- وهم يسمعون آيات الله، ويرون المعجزات التي يطلع بها عليهم موسى- غائبون غير حاضرين، لما فى قلوبهم من قسوة، وما فى طبائعهم من التواء.
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» .. أي آتينا موسى الكتاب، وجعلنا ابن مريم وأمّه آية.. لبنى إسرائيل لعلهم يهتدون، وذلك أن عيسى عليه السلام هو رسول إلى بنى إسرائيل، وآية من آيات الله فيهم.. وتلك الآيات القاهرة المتتابعة، هى مظاهرة لحجة الله على هؤلاء القوم، حتى إذا لم يستجيبوا لها، كان العذاب الواقع بهم أضعافا مضاعفة، لما يحلّ بغيرهم من عباد الله.
وفى الإشارة إلى عيسى عليه السلام بقوله تعالى: «ابْنَ مَرْيَمَ» إشارة إلى النسب الصحيح له.. وهو أنه ابن أمّه مريم.. وليس ابن إله كما يدّعى النّصارى، ولا ابن زنا كما يفترى اليهود.. «إنه ابن مريم» ! وقد اختلف فى الربوة- وهى المكان المرتفع من الأرض- التي آوى الله سبحانه وتعالى، إليها ابن مريم وأمّه.. والراجح عندنا أنها مصر.. التي جاء إليها المسيح طفلا محمولا على صدر أمه، مع زوجها يوسف النّجار.. وذلك حين أوحى الله إلى مريم أن تهرب بوليدها إلى مصر، خوفا عليه من الحاكم الرومانى، الذي طلبه ليقتله، حين سمع بمولده.. كما يحدّث بذلك إنجيل متّى.(9/1142)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
وتسمية مصر «رَبْوَةٍ» لأنها بالنسبة لأرض فلسطين أشبه بالربوة المشرفة على الوادي، وذلك لأنه كلّا من مصر وفلسطين فى النصف الشمالي من الكرة الأرضية.. وأن الأرض فى هذا النصف تأخذ فى الانحدار من الجنوب إلى الشمال، أي من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، ولهذا تجرى الأنهار من الجنوب إلى الشمال فى هذا النصف من الكرة.. ولما كانت مصر تقع إلى الجنوب من أرض فلسطين، فإنها- لهذا- أعلى مكانا منها، بحيث لو نظر الناظر إليهما من أفق أعلى لرأى مصر مشرفة على فلسطين كأنها ربوة عالية.
والقرار: المكان الذي يستقرّ فيه، حيث تتوفر أسباب الحياة والاستقرار والمعين: الماء الذي يفيض من العيون.. وهذا الوصف جدير أن يكون لمصر.
الآيات: (51- 62) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 62]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60)
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)(9/1143)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» .
الخطاب الموجه من الله سبحانه وتعالى إلى الرسل.. عليهم الصلاة والسلام- هو خطاب عام يشمل أتباع الرسل جميعا.. وقد خصّ الرسل بالنداء لأنهم القدوة والمثل للأنسانية كلها عامة، ولأقوامهم خاصة.
وقدّم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، لأنه ثمرة الأعمال الصالحة، فلا يتحرّى الأكل من الطيب إلا من أقام نفسه على الأعمال الصالحة وأخذها بها.
ولأن الأكل، وما يتصل به، هو مدار حياة الإنسان، وكل سعيه وعمله يكاد يكون دائرا فى مجاله- كان الإلفات إليه ألزم وأولى، لأنه هو الذي يجسّم العمل، ويصوّره، وهو الذي يرى عليه أثر العمل وصفته، إن كان صالحا أو غير صالح.
- وفى قوله تعالى: «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» تحذير من مراقبة الله، وعلمه بما يقع من الناس من أعمال، وبما تتصف به هذه الأعمال من صلاح أو فساد.
- وقوله تعالى: «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» - هو دعوة إلى الإخاء الإنسانىّ، وإلى إزالة هذه السدود التي تعزل المجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض.. فما هذه الأصباغ والألوان التي تصبغ الناس، من معتقدات دينية، لا ينبغى أن تقوم حجازا بين الناس، وخاصة إذا كانوا جميعا يتجهون.(9/1144)
إلى الله، ويؤمنون به.. فوجهتهم جميعا هى الله، وإن كان لكلّ وجهة هو موليها.. وكذلك ينبغى أن تكون وجهتهم جميعا هى الإنسانية، وإن كان لكلّ إنسان لونه، ووطنه وجنسه.
قوله تعالى:
«فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» .
هو إنكار على الناس هذا التقاطع والتدابر الذي بينهم، وقد كان الأولى بهم، وهم إخوة أبناء ذكر وأنثى، وهم مربوبون لربّ واحد أن يكون أمرهم واحدا.. ولكنهم تنكبوا هذا الطريق، فتنازعوا أمرهم بينهم، وتقطعوه قطعا، وذهب كل فريق منهم بجزء منه، فرحا بما ذهب به، ظانّا أنه أخذ الخير كلّه، على حين أنه أخذ القليل وفاته الكثير.
- وفى قوله تعالى: «فَتَقَطَّعُوا» بدلا من قوله «فقطعوا» الذي يقتضيه ظاهر النظم إشارة إلى أنهم هم الذين تقطعوا، لا أن الأمر هو الذي تقطع..
وذلك أنهم بهذا الخلاف الذي وقع بينهم، قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، فكان بينهم الصراع والقتال..
والزّبر: القطع، جمع «زبرة» وهى القطعة من الشيء.. كما فى قوله تعالى: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» (96: الكهف) قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ» .
الأمر هنا، هو أمر مطلق، لكل ناصح ومرشد، لهؤلاء الضالّين، المختلفين على الحق.(9/1145)
وهذا الأمر هو تهديد لهؤلاء الضالين المختلفين، بأن يتركوا فيما هم فيه من ضلال، وألا يلح عليهم أحد فى تنبيههم من غمرتهم، وسكرتهم التي هم فيها.
وذلك إلى أن تقرعهم القارعة، التي تذهب بهذا الخمار الذي لذّلهم النوم فى ظله المعتم الكثيف! قوله تعالى:
«أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ» .
المفعول الثاني للفعل يحسبون محذوف، دلّ عليه المقام..
والتقدير أيحسبون هذا الذي نمدّهم به من مال وبنين، إكراما، وإحسانا منّا إليهم؟ كلا، وإنما «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لنفتنهم فيما نمدهم به، كما يقول تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» (131: طه) .
- وقوله تعالى: «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» - إشارة إلى أنهم لا يشعرون بهذا الابتلاء، وأنهم يحسبون ذلك خيرا لهم، كما يقول تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (180: آل عمران) .
هذا، ويمكن أن يكون قوله تعالى: «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» هو المفعول الثاني للفعل يحسبون.. ويكون المعنى: «أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين مسارعة لهم منا بالخيرات؟ كلا.. إنه فتنة لهم.. ولكن لا يشعرون» لما استولى عليهم من سكرة بهذا الذي هم فيه من نعيم..(9/1146)
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» ..
فى هذه الآيات عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها الذين يسارعون فى الخيرات حقا، ويملئون أيديهم منها، ويكون لهم فيها زاد طيب فى الدنيا والآخرة..
وهؤلاء هم على صفات تؤهلهم لهذا المقام الكريم:
فهم (أولا) من خشية ربهم، وخوفهم من بأسه- على إشفاق دائم، من أن يعصوه، وأن يفعلوا منكرا.. «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» ..
وهم (ثانيا) بآيات ربهم يؤمنون، ويعملون بهذه الآيات، ويهتدون بهديها.. «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» ثم هم (ثالثا) قد خلت نفوسهم من كلّ أثر من الشرك بالله.. «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» ثم هم (رابعا) على خشية ومراقبة دائمة لله.. حتى أنهم وهم يفعلون ما يفعلون من خير ويقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات، لا تزايلهم الخشية ولا يبارحهم الخوف من الله، ومن أنهم على تقصير فى حقه تعالى، وفيما يجب له من طاعة وولاء..
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» ويستعمل الإيتاء غالبا فى فعل الخير مثل قوله تعالى: «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» وقوله تعالى: «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» وقوله سبحانه: «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» ..(9/1147)
ويستعمل الإتيان فى فعل الشر غالبا.. كما فى قوله تعالى: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» وقوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ..
وقد جاءت الآية هنا بلفظ «الإيتاء» .. «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» ..
وفى قراءة مشهورة: «والذين يأتون ما أتوا» .. ويقال لها قراءة النبىّ..
وعلى هذه القراءة يكون المعنى: والذين يفعلون المنكر، وهم على خوف وخشية من ربهم. فإنهم بهذا الخوف وتلك الخشية أهل لأن يكونوا فى هذه الأصناف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى من أصناف المؤمنين.. إذ أن ما فى قلوبهم من وجل من لقاء ربّهم وهم على المنكر- سينتهى بهم يوما إلى النزوع عن المنكر، والوقوف عند حدود الله..
وقد يبدو فى ترتيب هذه الصفات تقديم وتأخير، وأنها لم تلتزم الترتيب الطبيعي، تصاعدا أو تنازلا..
فمثلا.. الإيمان بآيات الله.. ينبغى أن يسبق الخشية من الله، وكذلك عدم الشرك بالله، وهو سابق للخشية من الله، حيث لا تكون الخشية لله إلا من قلب مؤمن بالله، وبآيات الله.. وإنه لا بد لهذا من سر.. فما هو؟
الجواب- والله أعلم- أن هذه الصفات، وإن أمكن أن تلتقى جميعها فى قلب المؤمن بالله، إلا أن المؤمنين على حظوظ مختلفة منها.. فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من الله، وبعضهم يؤمن بآيات الله، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من الله فى قلبه.. وبعضهم يعترف بوجود الله، ويقرّ بوحدانيته إقرارا عقليّا، كالفلاسفة ونحوهم. ولا يتلقون عن الرّسل، ولا يأخذون مما معهم من آيات الله.. وبعضهم يؤمن بالله، وبآيات الله، وبرسل(9/1148)
الله.. ثم يؤتون ما آتوا من طاعات وعبادات وهم فى صراع مع أنفسهم، وفى خوف من لقاء الله أن يكونوا قد قصّروا..
فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير، ويجاهدوا أنفسهم لتحصيل الخير، حيث يحمل كل منهم فى كيانه شرارة من شرارات الإيمان يمكن أن تنقدح فى حال من الأحوال، ما دام على أية صفة من تلك الصفات، فتشرق نفسه بنور الله، وإذا هو- شيئا فشيئا- على هدى من ربه، وعلى طريق الخير والإحسان..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» (201: الأعراف) وهذه الأصناف من المؤمنين- على قربها أو بعدها من الإحسان- يشدّها جميعها إلى النجاة، والفلاح، الإيمان بالله.. وحيث يكون الإيمان بالله، فإنه يكون الأمل والرجاء فى السلامة والنجاة، وحيث يتعرّى الإنسان من الإيمان فإنه لا أمل ولا رجاء فى سلامة أو نجاة، وإن فعل أفعال المؤمنين المحسنين..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» ..
أي أن هؤلاء المؤمنين الذين تحققت فيهم تلك الصفات جميعها، أو تحقق فيهم بعضها دون بعض- هم أهل لأن يسددوا ويرشدوا، وأن يكونوا يوما من السباقين إلى الخير، ما داموا فى صحبة الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي يقيم فى كيانهم نورا يطلع عليهم كلما أظلمت سماؤهم، وظللتها سحب الفتن والأهواء..(9/1149)
فالإيمان بالله، هو المعتصم، ولا معتصم غيره، إذا استمسك به الإنسان فقد ضمن النجاة والفلاح.. «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (101: آل عمران) وقد روينا من قبل حديثا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، فى شأن ثقيف، حين دعيت إلى الإسلام، فقبلته، ولكنها اشترطت ألا تؤدى الزكاة، ولا تجاهد فى سبيل الله..
وحين عرض على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إسلامهم هذا، قبله منهم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: «سيتصدقون ويجاهدون فى سبيل الله إذا أسلموا» ..
قوله تعالى:
«وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ..»
هو تطمين لقلوب هؤلاء المؤمنين، الذين ملأت الخشية قلوبهم، واستولى الخوف من الله عليهم، حتى لقد كاد ذلك يكون وسواسا دائما يعيش معهم.. فجاء قوله تعالى:
«وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» ليخفف عن المؤمنين بالله هذا الشعور الضاغط عليهم، وليريهم من رحمة الله ما تقرّ به عيونهم، وتطمئن به قلوبهم، وذلك لأن الله سبحانه: «لا يكلف نفسا إلا وسعها» وحسب المؤمن بالله أن يأتى من الطاعات ما تتسع له نفسه، ويحتمله جهده.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (16: التغابن) .
وقوله تعالى: «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» .. المراد بالكتاب هنا، هو الكتاب الذي تسجّل فيه الأعمال، لكل عامل فى هذه الدنيا، من حسن أو سىء.. كما يقول سبحانه: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ(9/1150)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»
(29: الجاثية) وكما يقول جل شأنه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13:
الإسراء) .
فكل ما يعمله الإنسان، مسطور فى هذا الكتاب، ناطق بكل صغيرة وكبيرة.. دون أن يكون هناك خطأ أو نسيان.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فليكتب الإنسان فى كتابه هذا ما يحبّ أن يراه، ويسعد به.
ولا تكتب فى كتابك غير شىء يسرّك فى القيامة أن تراه
الآيات: (63- 74) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 74]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)(9/1151)
التفسير:
قوله تعالى:
«بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ» ..
الضمير فى قلوبهم، يراد به المشركون من أهل مكة، ومن حولها.. وهم وإن لم يجر لهم ذكر فيما سبق من آيات، فإنهم- فى الواقع- مذكورون فى كل آية، إذ كان هذا القرآن كلّه هو كتابهم، وهو رسالة رسول الله فيهم.
- فقوله تعالى: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» هو نخسة موجعة لهؤلاء المشركين الذين يستمعون إلى هذه الآيات، وكأنها لا تعنيهم، ولا تتحدّث إليهم.. على حين أنها إنما هى مسوقة لهم، أولا، ثم هى للناس جميعا، بعد هذا..
والإشارة «هذا» مشاربها إلى هذا الحديث الذي تحدثت به الآيات السابقة، عن الذين يؤمنون بالله، ويخشونه، ويشفقون من لقائه..
فالمشركون قلوبهم «فى غمرة» ، أي فى شغل، وغفلة وضلال، عن هذا الحديث وما يحمل إليهم من عظات.
وخصت القلوب، لأنها موطن المشاعر فى الإنسان، ومستقرّ المعتقدات الصالحة أو الفاسدة.
وقوله تعالى: «وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ.. هُمْ لَها عامِلُونَ» أي أن لهؤلاء المشركين الغافلين عن هذا الحديث، مشغلا بأمور أخرى، فى مستوى غير هذا(9/1152)
المستوي الرفيع، الذي تحدث به الآيات.. أنهم فى شغل بما هم فيه من صلات مع آلهتهم.. والمشغول- كما يقولون- لا يشغل! وفى تسمية هذه الصلات التي بين المشركين وبين معبوداتهم- بالأعمال، إشارة إلى أنها مجرد حركات، ورسوم، لا تتصل بالعقل أو القلب.. إنها حركات وصور مرسومة، توارثها القوم عن آبائهم، فكانت أشبه شىء بالعمل الآلى الذي لا يتصل بعقل الإنسان أو قلبه..
- وفى قوله تعالى: «هُمْ لَها عامِلُونَ» تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين، الذين يؤدون هذه الأعمال ويحتشدون لها، ويضيعون أوقاتهم وأعمارهم فيها.. على حين أنّها عبث ولغو، ولعب أشبه بلعب الأطفال! فهم وهذه الأعمال على سواء.. هى أعمال تافهة، يأتيها أناس تافهون! قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ» .
الجأر، والجؤار: الصراخ.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين الغافلين عن آيات الله، المشغولين بهذا العبث الذي هم فيه مع معبوداتهم- سيظلون على ما هم فيه من غفلة، حتى إذا جاء وقت الحساب والجزاء، وسيقوا إلى جهنم- فزعوا، وعلا صياحهم، وارتفع صراخهم، من هذا الهول الذي هم فيه..
وفى اختصاص المترفين من المشركين بالذكر، عرض لأبرز مثل فيهم، وهم المنعمون من المشركين، أصحاب المال، والجاه.. فهؤلاء إذا أخذوا، وفعل بهم هذا البلاء، ولم يغن عنهم ما لهم ولم يشفع لهم جاههم- كان غيرهم ممن لا مال له ولا جاه، أشدّ خوفا من لقاء هذا العذاب، الذي ينتظره، وقد سبقه(9/1153)
إليه من كانوا على الشرك مثله، ولم يشفع لهم مال أو سلطان.. فكيف بمن لا مال له ولا سلطان؟
قوله تعالى:
«لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» .
هذا هو الردّ على هذا الصراخ، الذي يتعاوى به المترفون من المشركين، وهم فى العذاب المهين.. «لا تَجْأَرُوا» فإنه لا فائدة ترجى من وراء هذا الصّراخ.. إنه لا يسمع أحد لكم، ولا يخفّ أحد لنجدتكم.. «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» .. فليس لأحد قدرة على أن يدفع عنكم هذا العذاب الذي حكم الله به عليكم..
قوله تعالى:
«قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ» .
أي لا تلوموا إلا أنفسكم، فقد كانت النجاة من هذا البلاء بين أيديكم، لو أنكم استمعتم إلى آياتي وآمنتم بها. ولكنكم كنتم إذا وقع إلى آذانكم شىء منها نفرتم كما ينفر الحيوان الوحشىّ حين يرى وجه إنسان.. فرجعتم على أعقابكم، فى حركة منكوسة، وعيونكم إلى مصدر هذا الصوت الذي يسمعكم ما سمعتم من آيات الله، تنظرون إليه فى حذر وخوف، كما ينظر العدو إلى عدوه..!
بل وأكثر من هذا.. فإنكم كنتم تتخذون مما تسمعون من آيات الله، مادة للسّمر فى أنديتكم، ومجالا للسخرية والاستهزاء بها فيما بينكم.. «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ.. سامِراً تَهْجُرُونَ» ..(9/1154)
والضمير فى «به» يعود إلى ما يتلى عليهم من آيات الله، وما يسمعون من كلماته.. وقد عدّى الفعل «استكبر» بحرف الجرّ الباء، لتضمنه معنى الاستهزاء..
أي أنكم لاستكباركم تلقون ما تسمعون من آيات الله، باستهزاء وسخرية..
فهى سخرية المستكبر، واستهزاء المتعالي..
«والسامر» مجتمع القوم للسمر.
ونصب «سامِراً» على أنه مفعول له.. أي لأجل السامر تهجرون مجلس الاستماع إلى القرآن.. «سامِراً تَهْجُرُونَ» .. لأن السامر يحمل معنى السّمر، وسمر القوم هو عبث ولهو، فكأن المعنى: لهوا ولعبا تهجرون الاستماع إلى كلام الله.. والجملة حال أخرى- من فاعل «تَنْكِصُونَ» .. ويجوز أن يكون «تَهْجُرُونَ» من الهجر، وهو الفحش فى القول.. ويكون «سامِراً» منصوبا على الحال من الضمير المستكن فى «مُسْتَكْبِرِينَ» ويكون السامر بمعنى الاجتماع..
وجملة «تهجرون» حال من الضمير فى السامر بمعنى الاجتماع..
بمعنى أنكم كنتم تنكصون على أعقابكم عند الاستماع إلى آيات الله، وقد اشتملت عليكم أكثر من حال.. إذ تنكصون.. مستهزئين، سامرين، متفحشين..
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» .
لقد ترك القوم المشركون يصرخون ويتعاوون فى جهنم، بعد أن أجيب على صراخهم وجؤارهم بهذا التقريع العنيف.. «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» .
ثم كان لمن يرون هذا المشهد الذي تنخلع له القلوب، وما يعانى المشركون(9/1155)
فيه من بلاء ونكال- كان لهم تساؤلات عن هؤلاء المعذبين، وعن جنايتهم التي جنوها فى حق الله، وفى حق الرسول المرسل إليهم من عند الله.
وكان من تساؤلات السائلين، ما ذكره القرآن الكريم هنا:
- «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ؟» .
أن ألأنهم لم يحسنوا الاستماع، والنظر، والتدبر فيما جاءهم به الرسول- لم يعرفوا وجه الحق، ولم يروا الطريق إلى الله على ضوء هذا النور الذي بين يدى الرسول- ومن أجل هذا ظلوا فى ضلالهم وشركهم، فكانت جهنم مأواهم. والعذاب جزاؤهم.. أهذا لهذا؟ قد يكون! - «أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟» .
أي ألأنهم لم يدّبروا القول فضلّوا؟ أم لأن هذا الذي جاءهم به رسول الله، هو شىء غريب لم يكن لآبائهم شىء منه؟ .. فهم لهذا ينكرونه، وينكرون ما معه، لأنهم مأسورون فى قيد ما ورثوا عن آبائهم من عادات وتقاليد..؟
أهذا لهذا؟ قد يكون!.
- «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ.. فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟» .
أي أهذا، أم أن الرسول الذي جاءهم غير معروف عندهم بنسبه، وباسمه، وبصفته- فهم لهذا ينكرونه، وينكرون مقامه فيهم، ويرمونه بما لم يعرفوا منه من سحر أو شعر أو جنون؟.
- «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ؟» أي أهذا الذي حجزهم عن اتباع الرسول.. أم هو هذا الرأى الذي رأوه فيه، وأنه مجنون، يخاطب عقلاء، وما كان للعقلاء أن يستجيبوا لدعوة مجنون؟
قد يكون!(9/1156)
وفى هذه التساؤلات، نجد الثلاثة الأولى منها اتهاما لهم.. فالتساؤل الأول، يرميهم بنقص فى التفكير، وضعف فى الإدراك، وقصور عن فهم آيات الله، وتدبرها..
والثاني، يتهمهم بأنهم أسرى التقليد الأعمى، وأنهم لا يخرجون من هذا الأسر ولو ماتوا فيه اختناقا بهذا الهواء الفاسد الذي يتنفسون فيه، دون أن يفتحوا نافذة تملأ عيونهم نورا، وصدورهم هواء نقيا، منعشا! إن من تهم الرسول عندهم أنه جاءهم بما لم يعرفه آباؤهم الأولون، حيث لم يأتهم من قبل رسول من عند الله، كما أتى الأمم الأخرى..
وفى هذا يقول الله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (46: القصص) .
ويقول سبحانه: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» (6: يس) .
والقوم فى هذا الموقف مهددون بالفناء، إذ قيدوا أنفسهم بهذا القيد الثقيل ووقفوا حيث يقف آباؤهم منذ زمن بعيد.. فهم، والأمر كذلك، يأخذون من الحياة موقفا واحدا لا يتحولون عنه.. والحياة متحركة متحولة.. ومن شأن كل حىّ أن يأخذ مكانه فى دورة الفلك، وأن يعيش الليل ليلا والنهار نهارا، والصيف صيفا، والشتاء شتاء.. وإلا هلك..
فكيف ينكر القوم على الحياة أن تأتيهم بجديد لم يأت آباءهم الأولين؟
إن الحياة ولود لكل جديد فى كل زمان ومكان.. وأنه إذا كان للإنسان أن يتوقف أمام كل جديد، فإن من السفاهة والحمق أن يرفضه ابتداء بحكم أنه جديد، دون أن يعرضه على عقله، وينظر فيما يمكن أن يكون فيه من خير ونفع.
والتساؤل الثالث، ينكر على القوم هذه التهم التي يرمون بها الرّسول،(9/1157)
فيكذبون على أنفسهم، ويزيفون الحقّ، ويلبسونه ثوب الباطل، حتى يخدعوا به عقولهم، ويريدوها على قبوله والتسليم به..
فهم يقولون فى الرسول.. إنه مجنون.. وإنه شاعر.. وإنه ساحر.. وإنه كذاب مفتر- يقولون هذا، وهم على معرفة كاملة بالرسول، من مولده، ومن قبل مولده، إلى أن جاءهم برسالة ربه.. فما عرفوا فيه شيئا مما يتهمونه به زورا وبهتانا.. بل لقد عرفوه العاقل الرشيد، والصادق الأمين، والطاهر العفّ.. وأنه كان فى صباه يتحلّى بأحسن ما يتحلّى به الرجال، من حكمة ورويّة، ورشاد.. وأنه ما كذب قط، ولا قال هجرا قط، ولا نطق بشعر أبدا، ولا طاف بصنم أبدا..
أما قولهم عن الرسول: «بِهِ جِنَّةٌ» فهو أشنع تهمة يتهم بها القوم فى تفكيرهم، وتقديرهم..
وقد يكون سائغا منهم أنهم لم يتدبروا القول، فكثير من الناس لا يتدبرون القول، ولا يحسنون الفهم..!
وقد يكون مقبولا أيضا أن يحمدوا على ما هم عليه من عادات موروثة..
فإن كثيرا من الناس يعيشون فى عادات وتقاليد، كما تعيش الحيوانات الرّخوة فى أصدافها وقواقعها..!
وقد يمكن أن يساغ- ولو بمرارة ووقاحة- إنكار الحقائق الثابتة، والتعامي عن الواقع المحسوس..!
فكثير من الناس يكابرون فى الحق، ويمارون فى الواقع، ولا تعلو وجوههم صفرة الخجل، ولا تندى جباههم بقطرة حياء! أما الذي لا تتسع له المكابرة، ولا يحتمله التبجّح، فهو الكذب الصّراح،(9/1158)
الذي لا يدارى بتمويه أو خداع، بل يعرض هكذا سافرا بكل مشخصاته، ثم يقال عنه: هذا هو الحقّ! فذلك إن وجد مساغا عند أهله، فإنه لا يجد له موجها من القبول عند أحد، ممن يمكن أن يخدع ويضلّل..
فإذا قال سفهاء قريش فى النبىّ إنه شاعر.. فأين هو الوجه الذي يقبل به هذا القول عند من يريدون قبوله منه؟ وقد يكون لهذا الكذب مدخل إلى بعض العقول لو أنهم اصطنعوا شعرا ثم نسبوه إلى النبىّ. فيكون أمرا محتملا للنظر والجدل.. وقد يأخذ به البعض من غير بحث أو نظر..! ولكنهم لم يفعلوا ولم ينتحلوا للنبىّ شعرا، بل قالوا عنه إنه شاعر، دون أن يأتوا على هذا القول بشاهد من مفترياتهم وأكاذيبهم.. وهذا معجزة من معجزات الرسول الكريم..
وإذا قال سفهاء قريش فى النبىّ إنه مجنون.. أو به جنّة.. فقد كان عليهم لكى يغطّوا وجه هذا الكذب بشىء من التمويه- أن يقيموا شهودا من الزور يشهدون بأنهم رأوا من النبىّ كذا، وكذا، من هذيان المجانين..
ولكنهم لم يفعلوا..
نعم، إنهم لم يفعلوا هذا، أو ذاك، وما كان فى استطاعتهم أن يفعلوا..
إذ كان أمر النبىّ فيما اتهموه به، أبعد من أن يدخل عليه زيف، أو تعلق به شائبة من تمويه..
وهذا من معجزات الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والتي هى بعض ما عصمه الله سبحانه وتعالى به من الناس، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. وإنها لعصمة تحفظ- فيما تحفظ- ذاته ومشخصاته، وصفاته، من أن يعلق بسمائها الصافية المشرقة شىء من هذا الغبار الذي تثيره أفواه النافحين فى الجبال الراسيات.(9/1159)
قوله تعالى:
«بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» هو الردّ السماوىّ، على كل ما اتهم به المشركون النبىّ فى شخصه، وفى الكتاب الذي معه..
فالرسول صادق أمين، والذي جاء به هو الحقّ من ربّ العالمين..
وإنهم ليعرفون أنه الحقّ من ربّ العالمين.. وإنهم ليعرفون أنه الحقّ، ولكن أكثرهم كارهون لهذا الحقّ، ومن ثمّ كان منهم هذا العمى عنه، وهذا الإنكار له، وهذا الرمي الأحمق الطائش، الذي لا يصيب إلا الرماة فى مقاتلهم! قوله تعالى:
«وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ» .
أي هؤلاء المشركون، إذ يكرهون الحق، ويكرهون التعامل به، فإنهم يتعاملون بما تمليه عليهم أهواؤهم من سفاهات وضلالات..
والحقّ، هو مركز الدائرة الذي يدور عليه هذا الوجود، وهو النظام الممسك بكل ذرة من ذراته..
وإن الحقّ هو هذه السنن الكونية التي قام عليها نظام كل موجود.
إنه الأسباب والمسببات.. وإن أي خروج على الأسباب يفضى إلى فساد المسببات واضطرابها..
وإن ما يمسك به العلم والعلماء من أسرار الكون، هو الحقّ الذي إن(9/1160)
أخطأهم كله أو بعضه، أفلت من أيديهم هذا السرّ، الذي يفتحون به مغالق الحياة، ويذللون به ما تأبّى عليهم منها..
فالحق، هو هذا المحيط العام الذي تصب فيه روافد الحقائق التي يقوم عليها نظام الوجود، والموجودات جميعا..
- وفى قوله تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» .
إشارة إلى أن أىّ اختلال يدخل على الحق، فى أي موقع من مواقعه، وفى أي ذرة من ذرات الوجود كله، من شأنه أن يفسد نظام هذا الوجود فى أرضه وسمائه، وفيما فى أرضه وسمائه..
ذلك أن الحق- كما قلنا- كيان واحد.. إنه أسباب ومسببات يأخذ بعضها برقاب بعض.. من الذرة إلى النجوم والكواكب.. فكل سبب يقوم على سبب، ويقوم عليه سبب، وهكذا فى سلسلة متصلة الحلقات، وقطع أي حلقة، هو قطع لهذا الشريان، الذي يغذى كيان الحق، ويحكم نسجه..
فلو أنه دخل على الحق، بعض ما فى نفوس هؤلاء المشركين من هوى وضلال، ثم صار هذا الهوى قوة عاملة فى الوجود، لأدخل الخلل على نظام الوجود كله، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن!! قوله تعالى:
- «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ» .
أي أن الحق لم يتبع أهواء هؤلاء المشركين، ولم يجئهم الرسول بما تشتهى أنفسهم، بل جاءهم بالحق، الذي فيه ذكرهم.. أي رفع قدرهم، وعلوّ إنسانيتهم، لو أنهم اتبعوه، واستقاموا عليه..(9/1161)
- وفى قوله تعالى: «فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ» تسفيه لهم، وتحميق لعقولهم، إذ ليس أبعد فى السفاهة، ولا أوغل فى الحمق، ممن يدعى إلى ما فيه خيره، وعزّه، ورفعته، ثم يأباه، ويؤثر الإسفاف والتدلّى إلى منازل الهوان والضياع! ..
قوله تعالى:
«أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» .
الخرج: الأجر، وهو فى الأصل ما يخرج من الأرض من ثمرات، ومنه الخراج..
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبما ركبهم من سفه وجهل.. إن الخير الذي يبذل لهم، وثوب المجد الذي ينسج ليتحلّوا به- إنما يقدم لهم من غير ثمن، ومع هذا فهم يرفضونه، ويأبون إلا أن يمشوا فى الناس عراة مهازيل! قوله تعالى:
«وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو تأكيد لهذا الخير الذي يحمل إلى هؤلاء المشركين، على يد الرسول الكريم.. إنهم إنما يدعون بهذا الكتاب الذي يحمله الرسول إليهم- إلى صراط مستقيم، إذا هم ساروا عليه أمنوا الزّلل والعثار، وانتهوا به إلى غايات العزة، والسيادة، والفلاح.. فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ» هو تهديد للمشركين، بأنهم إذا هم لم يسيروا على هذا الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن أمامهم إلا طرق الضلال، يركبونها إلى حيث تهوى بهم فى قرار الجحيم.
والصراط هنا، هو الصراط الأخروى، الذي يصل بالمؤمنين إلى الجنة،(9/1162)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
حيث يجتازونه فى يسر، على حين يتساقط من جانبيه المشركون والكافرون والضالون، الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يعلمون حسابا لهذا اليوم.. أو هو الصراط المذكور فى قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
وهو صراط الله المستقيم على الهدى، والقائم على الحق! والناكب: هو المتنكب، الذي يعدل عن الطريق المستقيم، إلى المتاهات المضلّة، التي لا يرجى للسائر عليها نجاة..
الآيات: (75- 92) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 92]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)(9/1163)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .
المتحدّث عنهم هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن موقفهم من الهدى، ومقولاتهم فى النبي الذي يخاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
فهؤلاء المشركون، لا يزيدهم الهدى، إلا ضلالا، ولا النور، إلا عمى، ولا الإنعام والإحسان، إلا طغيانا، وكفرا..
فلو أن الله سبحانه وتعالى رحمهم، وكشف ما بهم من ضر، فأحال هذا الجدب الذي هم فيه خصبا، وجعل الصحارى التي تشتمل عليهم، جنات، وفجّر فيها أنهارا- لما شكروا لله، ولما استجابوا لداعى الحق الذي يدعوهم.. بل زادهم ذلك ضلالا وبعدا عن الحق.. وعدوانا على الرسول الذي يدعوهم إلى الله..
واللجّ، واللجاج: التخبط على غير هدى.
والعمه: عمى البصيرة، وضلال العقل..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ»(9/1164)
وهؤلاء المشركون. قد أخذهم الله بالبأساء والضّراء، وأنزلهم منازل الخزي فى بدر، والأحزاب والحديبية.. ثم الفتح.. ومع هذا، فإن هذا البلاء لم يفتح قلوبهم إلى الله، ولم يقدهم بنواصيهم إليه: «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» أي فما لجأوا إليه، ولا ضرعوا له، ولا طلبوا غوثه ورحمته..
وهذا مثل قوله تعالى فى فرعون: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) وقد جاء الإخبار عن هذا الذي نزل بالقوم من بلاء، بصيغة الماضي. على حين أنه لم يكن قد وقع بعد، وذلك لتحقق وقوعه مستقبلا، فهو من أنباء الغيب التي جاء القرآن الكريم بكثير منها..
ويجوز أن يكون هذا إخبارا عما كان ينزل بهم من حوائج ومجاعات، قبل البعثة النبوية، ويكون هذا الخبر عنهم، مرادا به الكشف عن جفاء طباعهم، وغلظ مشاعرهم، وأنهم أشبه بالجماد، لا يتأثرون بالخير أو الشر..
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» .
وهكذا يظل القوم على ما هم فيه من ضلال، وكفر، وعناد، لا يصلح من فسادهم تأديب بالخير أو الشر، ولا يقوّم معوجّهم إحسان أو إساءة.. حتى يموتوا بدائهم هذا، الذي لا شفاء له إلّا عذاب السعير..
والإبلاس: الوجوم، والجمود، وسكون الحركات، وخمود المشاعر..
من الهول وشدة البلاء..
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .(9/1165)
هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض نعم الله على الناس، وموقف كثير منهم من هذه النعم.
وأعظم هذه النعم وأكرمها، السمع والبصر، والفؤاد، وهو القلب..
إذ أن هذه الجوارح هى التي تجعل الإنسان إنسانا، إذا هو انتفع بها، ووجهها الوجهة الصالحة، حين يرد بها موارد الخير، ويلقى بها فى محيط الوجود، فتجىء إليه بكل صيد ثمين طيب! وفى هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم الآية: «أَنْشَأَكُمْ.. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ.. وَالْأَبْصارَ.. وَالْأَفْئِدَةَ» - ما يحدّث عن كثير من الأسرار..
فأولا: قدّم الإنشاء، وهو الخلق العام للإنسان، على إيجاد السمع والبصر، الفؤاد.. إذ أن الوجود الإنسانى مقدم على ظهور هذه الحواس فيه..
وثانيا: قدم السمع على البصر.. لأن حاسة السمع تسبق حاسة الإبصار عند مولد الطفل، كما ثبت ذلك بالملاحظة.
وثالثا: قدم السمع والبصر على الفؤاد، وهو العقل، لأنه لا يكون للإنسان إدراك أو تمييز إلا بعد أن تعمل حواس الإنسان كلها، وتؤدى وظائفها، وتتوثق الصلات بينها وبين خلايا المخ.. ومن هنا يبدأ الإدراك والتمييز ويتخلّق فى الإنسان العقل أو الفؤاد، الذي ينمو شيئا فشيئا، حتى ينضج ويكتمل..
- وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» هو خطاب للناس عامة، وأن قليلا منهم هم الذين يعرفون نعمة الله عليهم ثم يشكرونها.. أما كثرتهم الغالبة فهم فى غفلة عن هذه النعم، وفى شرود عن المنعم بها، وعن القيام بواجب الحمد والشكر.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) .(9/1166)
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .
الذرء: الخلق، والإيجاد والحشر: الجمع، والحشد.
وهذه نعمة أخرى.. الخلق والإيجاد من عدم، ثم الموت، ثم البعث والنشور، والرجعة إلى الله سبحانه وتعالى، للحساب وللجزاء..
فالوجود نعمة، لأنه خير من العدم.. والحشر بعد الموت، نعمة أخرى، لأنه حياة جديدة، لا موت بعدها، ووضع لكل نفس فى مكانها الذي أعدّ لها، فى الجنة أو فى النّار..
وإذا كانت النار شقاء على أهلها، وبلاء- نعوذ بالله منها- فإنها مطهرة للنفوس الدنسة، وصفل لمعدنها الصّدئ، وشفاء لأمراضها الخبيثة! قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» هو دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب إلى بعض الناس من وجود الموت، والشك فى عدّه نعمة من بين النعم المذكورة فى هذه الآيات..
فالموت دورة من دورات الوجود الإنسانى، ووجه مقابل للحياة، مقابلة الليل للنهار.. فالحياة يقابلها الموت، والنهار يعقبه الليل.. تلك هى سنة الله فى الحياة الدنيا، كل شىء فيها يقابله ضدّه، كى يثبت وجوده، ويحقق ذاته..
وهذا أمر لا يدرك سرّه، ولا يعرف حقيقته، إلا أصحاب العقول، الذين يستعملون عقولهم..
قوله تعالى:
«بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» ..(9/1167)
أي أن هؤلاء المشركين لا يستعملون عقولهم، ولا ينظرون فى هذه الآيات الكونية التي بين أيديهم.. بل لقد أنكروا الحياة بعد الموت، وقالوا ما قاله آباؤهم من قبل.. قالوا: كيف نعود إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن نصير ترابا وعظاما؟ ولو أنهم نظروا إلى الليل والنهار مثلا، لعرفوا أن النهار ينسخه الليل، ثم يعود النهار فيطلع من جديد ناسخا ظلام الليل.. وهكذا.. ليل ونهار، ونهار وليل! فمن عاش فى النهار، وملأ عينيه من ضوئه الوضيء.. ثم عاش فى الليل، ولفّه ظلامه الدّامس، لم يكن له- حسب تقديرهم هذا- أن ينتظر نهارا يطلع من أحشاء هذا الظلام الكثيف! لكن الذي يحدث، هو أن نهارا يطلع من كيان هذا الظلام، وكأن ليلا لم يكن! كذلك الحياة، والموت، ثم الحياة بعد الموت..
فهذا الإنسان الذي كان يملأ الدنيا حركة وسعيا، ثم تضمّه الأرض فى بطنها، ويدسّه التراب فى كيانه.. ليس بالشيء البعيد المستغرب- والشواهد ماثلة- أن يخرج من بين أحشاء هذا التراب إنسانا، كهذا الإنسان الذي كان! قوله تعالى:
«لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .
هو تأكيد لقولهم الباطل الذي قالوه عن إمكان البعث.. وأن هذا البعث قد وعد به آباؤهم من قبل.. وها هم أولاء ما زالوا ترابا هامدا.. ثم إن هؤلاء يوعدون به.. وسيكونون بعضا من هذا التراب الهامد، مع آبائهم..
فما هذا الوعد عندهم، وحسب تطورهم، إلا من الخرافات والأساطير التي تعيش فى الناس من زمن بعيد ولا محصّل لها أبدا.(9/1168)
قوله تعالى:
«قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.. قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .
هذا سؤال، لا يجيب عليه الإجابة الصحيحة إلا من عقل وعلم..
لمن هذه الأرض ومن فيها، من عوالم ومخلوقات؟
جواب واحد عند أهل الدراية والعلم.. إنها لله..
وقد ألزمهم الله سبحانه وتعالى حجّة أهل العلم.. فإن لم يكونوا عالمين، كان عليهم أن يأخذوا بقول العالمين.. وإلا فإى الناس هم؟ إنهم ليسوا علماء، وليسوا بالمنتفعين بعلم العلماء.. والأعمى إذا لم يسلم يده للمبصر..
تخبط، وضلّ وهلك.. وإذن فهم فى الهالكين، إذا لم ينزلوا على هذا الحكم الملزم، ولم يأخذوا به..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ! قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟» وسؤال آخر.. يحتاج إلى نظر أوسع، وعلم أكثر! من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم؟.
إنهم لمحجوجون بقول أهل الدراية والمعرفة.. إنها جميعا لله.. هكذا يقرر أهل الدراية والعلم.
فليقولوا هذا.. وإنهم إن لم يقولوه اختيارا قالوه اضطرارا.
وإنهم إذا سلموا بهذا- ولا بد من التسليم به- فلم لا يتقون الله؟ ولم لا يخشون بأسه، وهو المالك المتصرف فى هذا الوجود كله.. لا شريك له؟(9/1169)
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.. وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ.. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.. قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟» وسؤال ثالث.. لا بدّ أن يسلم به من سلم بالسؤالين السابقين.. وإن كان أشمل منهما، وأوسع مدى.
«مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» ؟ أي من بيده ملك كل شىء وتصرفه فيه..؟ «وَهُوَ يُجِيرُ» أي يحمى، ويحفظ «وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» : ولا سلطان لأحد يدفع بأسه، ويكشف ضرّه.. من هذا، ولمن هذا؟
جواب واحد.. هو الله ربّ العالمين.. وهو لله ربّ العالمين.
ونتيجة واحدة: الاستسلام لله، والولاء لله.
«فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» أي فكيف تذهلون عن هذا، وتستسلمون لغير الله، وتعطون ولاءكم لما تشركون به من دونه؟ أسحركم ساحر فأخذ على عقولكم، وأضلّكم عن الله، وأعماكم عن الحق؟ وهذا الخطاب جار على ما هو فى أوهام القوم من أن هناك قوى تسحر الناس، وتفسد عقولهم، كما كانوا يقولون عن النبىّ، إنه ساحر! قوله تعالى:
«بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .
هو تعقيب عام، على هذه الأسئلة، وأجوبتها.
إن الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم الجواب الحقّ عليها، ولكنهم يجيبون عليها كذبا وبهتانا.. وإنهم إذ ينطقهم الحقّ بتلك الأجوبة، ويقهرهم سلطانه قهرا عليها، فإنهم لا يأخذون بما نطقت به ألسنتهم، ولا ينزلونه منزلة الاعتقاد من قلوبهم.(9/1170)
قوله تعالى:
«مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.. فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
هذا هو ملاك الأمر كلّه، ومدار القضية، وأصل البحث، وهذا ما كان ينبغى أن يقرّ به أولئك المشركون، بعد أن ألقيت إليهم تلك الأسئلة، محملة بالأجوبة الصحيحة عليها..
إنه لا شريك لله.. من صاحبة أو ولد، وإنه لا إله معه.. وأنه لو كان معه إله آخر لشاركه هذا الملك، ونازعه هذا السلطان، واستبدّ بالتصريف فيما يملك منه.. ولكان لكلّ منهما أن يفعل ما يشاء.. وهذا من شأنه أن يذهب بنظام الوجود، ويفسد الوضع القائم عليه، حيث لا تلتقى إرادتهما، ولا تتفق مشيئتهما..
إن الجسد الإنسانى، لا يقوم عليه إلا سلطان واحد، هو القلب، ولو أنه كان هناك قلبان فى جسد واحد، لا ختل نظام الجسد، وانحلت روابطه، ولما تنفّس هذا الجسد نفسا واحدا.
والكون.. هو جسد كبير.. يحكمه نظام، ويقوم عليه سلطان..
وهيهات أن يحكم بنظامين، أو ينتظم أمره بسلطانين! «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» ..
وتنزهت ذاته عن أن يكون كما يصفه الضالون، بنسبة الولد، أو الشريك إليه، فتعالى، سبحانه، عما يشرك به المشركون: من آلهة وأشباه آلهة.(9/1171)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
الآيات: (93- 111) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 111]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107)
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)(9/1172)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
هو التفات إلى النبىّ الكريم، بعد هذا العرض المبسوط لوجوه المشركين، وما يدور فى أفكارهم من سخافات، وما تنطق به ألسنتهم من سفاهات، وما تنعقد عليه قلوبهم من شرك وضلال.
وفى هذا الالتفات يدعو الله سبحانه نبيّه، أن يطلب إلى ربه ألا يكون بمشهد من هؤلاء المشركين حين يحلّ بهم بأس الله، ويقع عليهم عذابه.
وفى هذا إشارة إلى شدّة هذا البلاء وقسوته، وأنه مما لا تحتمل النفس رؤيته بالعين، فكيف حال المبتلى به، الذي يتجرع كئوس عذابه؟
ثم إن هذا- من جهة أخرى- تهديد للمشركين بالعذاب الأليم، والبلاء العظيم، الذي يدعو الله أولياءه إلى أن يتضرعوا إليه، طالبين الفرار منه، قبل أن يقع، حتى لا يشهدوه بأعينهم.
ولا شك أن هذا دعاء مجاب مقدّما من قبل أن يدعو به النبي، لأن الله سبحانه هو الذي أمره بهذا الدعاء، وهو سبحانه الذي بيده إجابته.. وهذا يكشف لنا عن الارتباط بين الأسباب والمسببات.. وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب لكل أمر يريده.. وقد دل الله عباده على الأسباب، وأمرهم بالأخذ بها، وأن يدعوا المسببات لله وحده، والله يفعل ما يريد.
وأصل النظم هكذا: «ربّ إن ترينى ما يوعدون فلا تجعلنى فى القوم الظالمين» .. وقد جاء النظم القرآنى على ما ترى من فخامة ودوىّ ينبعثان من الحرف «ما» باتصاله بأن الشرطية.. «إما» ، وفى هذا تهويل للعذاب(9/1173)
الذي يتهدد المشركين، ويحوم حولهم.. ثم ما ترى فى تصدير جواب الشرط بهذا النداء للاسم الكريم «رب» الذي يضرع إليه لكشف الضرّ، ودفع البلاء، لأنه بلاء عظيم لا يدفعه إلا الله، وليس للناس جميعا سبيل إلى دفعه.
قوله تعالى:
«وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ» .
هو تطمين للنبىّ بأن الله قد أعدّ للقوم الهزيمة والخزي على يديه، وأن ذلك موقوت بوقته، وأنه حاضر فى علم الله، ولو شاء سبحانه أن يطلع النبي لرأى بعينه مسيرة هذا الصراع، بينه وبين قومه، خطوة خطوة.. حتى يجىء نصر الله والفتح، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا.
قوله تعالى:
«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» .
وإذا كانت خاتمة النبي هى النصر على هؤلاء المتطاولين عليه، المعاندين له، فإن ذلك يهوّن كثيرا من الأذى الذي يلقاه منهم، حيث يكون بصره متعلقا بيوم النصر الموعود، غير ملتفت إلى ما يصادفه على يومه من مشقّة وعناء.
ومن هنا، كانت دعوة النبي إلى لقاء إساءات قومه بالإحسان دعوة تلتقى مع مشاعره، التي استروحت أنسام الرضاء فى ظل هذا الموعد الكريم بالنصر المبين لدعوته، وطلوع شمسها على كل أفق.. فإن كل صعب يهون، وكل بلاء محتمل، إذا كانت العاقبة نجاحا، ونصرا محققا.
وفى قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» تهديد للمشركين، الذين(9/1174)
يسيئون ويحسن إليهم، ثم لا يردّهم هذا الإحسان عن غيّهم وضلالهم..
فليفعلوا ما يحلو لهم، والله سبحانه عالم بما يفعلون، ومحاسبهم عليه..
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» .
همزات الشياطين: وساوسها، ونخسلتها التي تنخس بها فى صدور الناس..
وكما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، أن يدعو ربه، بأن يقيه شر الناس، ويباعد بينه وبين القوم الظالمين- أمره سبحانه أن يستعيذ به من وساوس الشياطين، وما يزينون به للناس من منكرات، وأن يباعد بينه وبينهم، فلا يلمّون به، ولا يحضرونه فى أي حال من أحواله، خاليا، أو مع الناس..
وهذه الاستعاذة من الشيطان، هى إلفات للمسلمين إلى هذا العدو المتربص بهم، والذي هو شر خالص، لا يجىء منه إلا الشر لكل من يأنس إليه، ويطمئن له.. وإنه إذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه.. وهو فى حراسة من ربه، وفى قوة من خلقه، ودينه- إذا كان النبي يطلب الغوث والعياذ بالله من هذا العدو الراصد، فأولى بالناس- وهم على ما فيهم من ضعف- أن يستكثروا من طلب الغوث والعياذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يكونوا على ذكر دائم بأنهم مع عدو متربص بهم، ينتظر غفلتهم، لينفذ إلى ما يريد فيهم، من إغراء وإضلال..(9/1175)
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ.. كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .
«حَتَّى» غاية لمحذوف دل عليه السياق، والتقدير، ولكن كثيرا من الناس، لا يأخذون حذرهم من الشيطان، ولا يستعيذون بالله منه، فيفسد عليهم دينهم، وينقض ظهورهم بالذنوب والآثام، ثم يظلون هكذا فى غفلتهم «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وانكشف عن عينيه الغطاء، ورأى ما قدم من منكرات «قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» إلى دنياى، «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» ولأصلح من أمرى ما فسد، وأقيم من دينى ما اعوجّ.. ولكن هيهات.. لقد فات وقت الزرع، وهذا أوان الحصاد.. «كَلَّا.. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» أي إنها مجرد كلام يقال، لا وزن له، ولا ثمرة منه.. «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» أي أن هناك سدا قائما، فاصلا بين الأموات، وعالم الأحياء.. فلا سبيل لمن أدركه الموت أن يخترق هذا البرزخ، وينفذ إلى عالم الأحياء مرة أخرى، وذلك «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .. حيث يزول البرزخ، وينتقل الناس جميعا إلى العالم الآخر، ويصبحون جميعا فى عالم الحق..
قوله تعالى:
«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ» .
أي فإذا صار الناس إلى هذا اليوم، يوم النفخ فى الصور، للبعث، جاءوا وقد شغل كل منهم بشأنه وتقطعت بينهم الأنساب، فلا يجتمع قريب إلى قريب، ولا يلتفت صاحب إلى صاحبه..(9/1176)
«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (34- 37: عبس) .. فلا يسأل أحد أحدا عن حاله ومآله. وحسبه ما هو فيه من شغل بنفسه «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» (8- 10: المعارج) .
قوله تعالى:
«فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» .
وفى هذا اليوم توضع الموازين لحساب الناس، ويرى كل ميزانه وما يوزن فيه.
- «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . حيث لا تثقل الموازين، إلا بالأعمال الصالحة.
فتلك الأعمال الصالحة، هى التي يقام لها وزن، ويكون لها فى الميزان ثقل..
أما الأعمال السيئة فلا وزن لها، لأن هذا الميزان ميزان حق وعدل، لا يوضع فيه إلا ما كان حقا وعدلا وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) وقوله سبحانه، عن أعمال الكافرين والضالين: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (23: الفرقان) وفى قوله تعالى:
«تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» عرض لحال من أحوال أهل النار، وما يلقون فيها من بلاء، حيث تداعبهم النار بلهيبها، وتصفع وجوههم بلظاها، وحيث يغشاهم من ذلك همّ وكرب، وتعلو وجوههم غبرة ترهقها قترة.(9/1177)
والكالح: العابس المكفهرّ، لما يعتمل فى كيانه من غموم وهموم..
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» .
هو رد على جؤار المعذبين فى جهنم، وما يصطرخون به من ويل وثبور.
إنه لا مصير لكم إلا هذا.. فقد جاءكم رسولنا بآيات الله، وتلاها عليكم، ودعاكم إلى الهدى والإيمان.. فأبيتم وكذبتم. فهذا جزاؤكم، فذوقوا عذاب الخزي بما كنتم بآيات الله تكذبون..
قوله تعالى:
«قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» .
وماذا ينفع الندم، والإقرار بالذنب فى دار الحساب والجزاء؟ «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) .
قوله تعالى:
«رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» .
وفى ذلة واستخزاء، وفى لهفة وجنون، يقولون ربنا أخرجنا من هذا البلاء، وردّنا إلى الدنيا مرة أخرى، فنؤمن بك ونتبع الرسل.. فإن عدنا إلى ما كنا فيه من كفر وضلال، كنا ظالمين، فنستحق ما نلقى من عذاب وهوان! وكأنهم لم يكونوا ظالمين، وكأن عذرهم الذي اعتذروا به حين قالوا: «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» - كأن عذرهم هذا قد قبل منهم! لقد منّتهم أنفسهم تلك الأمانىّ الكاذبة.. وإنهم لأهل شر وسوء، لا يرجى(9/1178)
لدائهم دواء: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (28:
الأنعام) ولهذا جاء الردّ القاطع الزاجر: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» ..
أي انزجروا فيها، وأقيموا حيث أنتم، ولا تكلموا الله.. فإنه سبحانه لا يقبل منكم قولا، ولا يجيب لكم سؤلا.
قوله تعالى:
«إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» .
هو تعليل لما أخذهم الله به، من كبت وزجر، ولما رماهم به من عذاب اليم.
إنهم لم يؤمنوا بالله، ولم يستجيبوا لرسول الله، بل كذّبوه، وبهتوه، وآذوه.. ولم يقفوا عند هذا، بل إنهم تسلطوا على المؤمنين بالله، واتخذوهم سخريّا، وجعلوا منهم مادة للضحك والعبث.. «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» (29، 30 المطففين) .
وفى قوله تعالى: «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» إشارة إلى أن اشتغال هؤلاء المشركين الضالين بالسخرية من المؤمنين، والضحك منهم، قد ألهاهم عن ذكر الله، وصرفهم عن النظر فى آياته، والاستماع إلى كلماته.. إنهم شغلوا بغيرهم عن أنفسهم، وعن العمل لما فيه خيرهم ورشادهم.. وهذا شأن كل من يشغل بأمور الناس، ويجعلها همّه.. إنه ينسى نفسه، ويحرمها ما كان يمكن أن يسوقه إليها من سعيه وجهده.
وفى نسبة نسيانهم لذكر الله، إلى المؤمنين، مع أن المؤمنين لم يكن منهم دعوة لهم إلى نسيان ذكر الله، بل إنهم كانوا يدعونهم إلى الله، ويذكّرونهم(9/1179)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
به- فى هذا مضاعفة لحسرة الكافرين، وزيادة فى إيلامهم، إن كان ما هم فيه يحتاج إلى زيادة. وذلك حين ينظرون إلى المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم، فيجدون أنهم هم الذين شغلوهم عن ذكر الله، وعن الإيمان به، وأنهم هم الذين أوردوهم هذا المورد الوبيل.. ثم يجدونهم- مع هذا- فى نعيم ورضوان من الله: «إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» .. لقد صبروا على استهزائكم بهم، وسخريتكم منهم، ولم يتحوّلوا عن الصراط المستقيم الذي استقاموا عليه، فكان هذا هو جزاؤهم عند الله.
الآيات: (112- 118) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
التفسير:
قوله تعالى:
«قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ .. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .(9/1180)
سؤال يسأله الحقّ جلّ وعلا، أهل النار، وقد أيأسهم من الخروج منها..
«كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ» .
وفى تمييز العدد بأنه سنون، وليس أياما ولا شهورا، مع أنه فى تقديرهم يوما أو بعض يوم، كما سيكون جوابهم بعد هذا- فى هذا كشف عن تلك المفارقة البعيدة بين حسابهم فى الدنيا لحياتهم، وما لبثوا فيها من سنين، وبين حساب هذه السنين فى الآخرة..
إنها ليست شيئا بعد أن طويت صفحتها، وذهب ريحها.. «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» (38: التوبة) .. ولهذا كان جوابهم- حسب تقديرهم-: «يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» .! وهكذا ما يمضى من عمر الإنسان.. إنه مهما طال وامتدّ، إذا نظر إليه فى يومه، كان شيئا قليلا.. يوما أو بعض يوم.. فكيف إذا نظر الناس إلى حياتهم الدنيا، وهم بين يدى هذا الهول العظيم يوم القيامة؟ «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (35: الأحقاف) .
وفى قولهم: «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» ما يكشف عن سوء حالتهم، وأنهم فى ذهول لا يدرون معه من أمرهم شيئا.. فلقد ذهب الهول بعقولهم، فلا يدرون ماذا يقولون.. إنهم ليسوا أهلا لأن يسألوا، وأن يجيبوا على ما يسألون عنه..
ويجيئهم الجواب الذي تاه من عقولهم، وضلّ عن إدراكهم.. «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» أي ما لبثتم إلا قليلا.. «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي لو كان عندكم عقل ونظر لعلمتم هذا وأنتم فى دنياكم، ولما شغلكم هذا القليل الزائل، عن آخرتكم الباقية الخالدة..(9/1181)
قوله تعالى:
«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» .
[الحياة.. والموت وحتمية البعث]
هناك قضيتان.. قضية «الخلق» وقضية «البعث» ..
وإذا كان الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا ينكرون «الخلق» لأنه أمر واقع فعلا، وأنهم هم أنفسهم بعض هذا الخلق- فهلّا سألوا أنفسهم هذا السؤال: لم كان هذا الخلق؟ أو لماذا خلقنا؟.
وجواب واحد لا غير، هو الذي يجاب به على هذا السؤال، وهو أن هذا الخلق لم يكن لهوا وعبثا، وأنهم إنما خلقوا عن علم، وحكمة وتقدير، لأن هذا الخلق ينطق عن حكمة بالغة، وقدرة قادرة على كل شىء، وعلم محيط بكل شىء.. ومن كانت تلك صفاته لا يكون منه لهو أو عبث.. ثم إن هذا النظام الدقيق المحكم، الممسك بكل ذرة من ذرات الوجود، أيدخل عليه شىء من اللهو والعبث؟ إنّ اللاهي العابث، لا يتقيد بنظام، ولا يجرى أعماله على توافق وترابط، وانسجام، بل يفعل ما تمليه عليه نزواته، وما تصوره له أهواؤه! وإذن فالناس لم يخلقوا عبثا، ولم تجىء بهم الصّدفة، كما يقول بذلك الماديّون والملحدون، وإنما هم غراس غارس حكيم، عليم، قادر، مدبر..
هذه قضية.. لا بد من التسليم بها، وفى إنكارها مكابرة فى الحق، ومجادلة بالباطل.. ومن مقتضى التسليم بهذا أن يسلّم أيضا ببعث الإنسان بعد موته، أو بمعنى آخر، امتداد حياة الإنسان، وانتقاله من دار إلى دار، ومن عالم إلى(9/1182)
عالم، أشبه فى هذا بانتقاله من الطفولة إلى الصبا، أو الشباب، أو غير هذا من مراحل العمر..
ذلك أن الإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض.. وهو سيد هذا الكوكب من غير جدال.. فهو الكائن الذي ملك من القوى ما استطاع بها أن يغيّر وجه الأرض، وأن يستخرج خبأها، ويسخّر موجوداتها..
وإذا كان هذا شأن الإنسان فإن مما يجانب الحكمة، ويدخل فى باب اللهو والعبث، أن تنطفىء جذوة هذا الكائن، بعد سنوات قليلة يقضيها على هذه الأرض.. ثم يصير رمادا، يختلط بتراب هذه الأرض، مع الدواب، والحشرات والهوام! إن فى هذا لجورا على الإنسان، وظلما له، إذ كان الحيوان- على هذا الحساب- خيرا منه، لأنه تنفّس أنفاس الحياة، وليس معه هذا العقل الذي لم يدع للإنسان لحظة يخلد فيها إلى الراحة والاطمئنان.. بل إنه أبدا فى صراع داخلى لا يهدأ أبدا، بين رجاء ويأس، وسعادة وشقاء، وطمأنينة وخوف.. فى يقظته ونومه.. على السّواء..
إن الإنصاف للإنسان يقضى بألا تنتهى حياته بالموت، بل لا بد أن تكون له رجعة أخرى، إلى حياة أكمل، وأفضل..
إن الحياة- كما قلنا فى مواضع كثيرة- نعمة أنعم الله بها على الإنسان، وامتنّ عليه بها.. كما يقول سبحانه: «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .. ومن تمام هذه النعمة، دوامها، وإلا فما كان لوجودها أصلا حكمة، ولكان خيرا منها العدم! وقد يسأل سائل: كيف تكون الحياة الآخرة بالنسبة للكافرين والمشركين(9/1183)
وغيرهم من أصحاب النار، خيرا من العدم، والله سبحانه وتعالى يقول: َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
(40: النبأ) أيتفق هذا وذاك الذي نقول به..؟
ونقول: إن الحياة بعد الموت نعمة لأهل الجنة وأهل النار جميعا، وهى خير من العدم! أيّا كانت صورة تلك الحياة، وأيّا كان مصير الأحياء فيها.. نقول هذا، وبين أيدينا كثير من الشواهد، من كتاب الله..
فأولا: من أمنيّات أهل النار فى النّار أن يردّوا إلى الحياة الدّنيا.. وذلك فى كثير من الآيات القرآنية، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (27: الأنعام) وكما يقول سبحانه فى هذه السورة على لسان أهل النار: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» (الآية: 107) وكما يقول جل شأنه على لسانهم أيضا: «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» (44: إبراهيم) .
وهذا يعنى أنهم، وهم فى النار، متمسكون بالحياة، راغبون فيها، على أية صورة كانوا عليها..
وثانيا: أن ما يقوله الكافر فى الآخرة، حين يرى العذاب، وهو قوله:
الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
هو بسبب ما يلاقى الكافرون من بلاء، تضيق به نفوسهم، شأنهم فى هذا شأن كثير من الناس فى هذه الحياة الدنيا حين تحتويهم حياة قاسية، يتمنون معها الموت.. ولكنهم فى الواقع متمسكون بالحياة حريصون عليها.. ولو طلع عليهم الموت فى تلك الحال، لفزعوا منه وكربوا، ولطلبوا المهرب، إن كان ثمة مهرب! وقليل من الناس أولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا، دون أن تنازعهم(9/1184)
أنفسهم إلى التعلق بها، واللهفة على التشبث بكل خيط فى يدهم منها، مهما يكن حظهم فيها، وشقاؤهم بها..
الناس جميعا متعلقون بالحياة، راغبون فى المزيد منها، ولو أخذت منهم الأيام، وألحت عليهم العلل، وحطمتهم السنون..
إن حبّ الحياة طبيعة فى كل حىّ، وهو فى الإنسان طبيعة وإرادة معا..
طبيعة تدفعه إلى حفظ نفسه، والإبقاء على ذاته أطول زمن ممكن.. وحبّ البقاء- فوق ذلك- إرادة تخلّقت فى الإنسان عن اتصاله بالحياة، واختلاطه بالأحياء، واشتباك مصالحه بهم، وانفساح آفاق آماله بينهم، وامتداد آثاره فى الحياة وفيهم..
إن الإنسان- مهما طال عمره، وامتد أجله، فإن يده تقصر عن أن تنال كل ما أراد، وإن الحياة لتضمن بأن تحقق له كل رغبة، وأن تدنيه من كل أمل..
يقول الشاعر:
تموت مع المرء حاجاته ... وحاجة من عاش لا تنقضى
من أجل هذا، كان فى الناس هذا الحرص الشديد على الحياة، وعلى الاستزادة منها، ولو كان ماؤها آسنا، وهواؤها سموما، وطعامها الشوك والحسك! والموت هو الشبح المخيف، الذي يطل على الناس بوجه كالح بغيض، يتهددهم فى أنفسهم، وفيمن يحبون، من ولد، وأهل وصديق.. إنه أعدى عدو للإنسان.. إنه يبغت الناس بغتة، ويفجؤهم فجاءة على غير موعد.. فهم أبدا فى وسواس منه، وفى خوف من وقعاته بهم، وبمن يحبون، ويؤثرون.
إنه ليس شىء أبغض إلى الناس من الموت، وليس شىء أكثر طروقا(9/1185)
ووسواسا لهم منه.. إنه أبدا مصدر إزعاج لكل سليم وسقيم، وكل شاب وشيخ.. إن لم يره دانيا منه فى حال، رآه ناشبا أظفاره فى أب، أو أم، أو زوج، أو ولد، أو صديق.
ومن أجل هذا كره الناس لقاء الموت، وتعلقوا بالحياة، مهما تكن هذه الحياة، ومهما تكن ضراوتها وقسوتها، وما تسوق إلى الناس من مآس وآلام.. يقول أبو العلاء:
نحبّ العيش بغضا للمنايا ... ونحن بما هوينا الأشقياء
ويقول أيضا:
ودنيانا التي عشقت وأشقت ... كذاك العشق- معروفا- شقاء
سألناها البقاء على شقاها ... فقالت عنكم حظر البقاء
ولزوميات أبى العلاء، تدور كلها حول الموت، وماوراء الموت، ولا تكاد قصيدة أو مقطوعة من شعره فى هذا الديوان تخلو من الحديث عن الموت، أو النفس، أو البعث والجزاء.. وذلك فى صور شتى من الرأى المتقلب بين اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والإقرار والإنكار..
إن الموت هو الينبوع الذي ارتوت منه فلسفة «أبى العلاء» فعمقت جذورها، وسمقت فروعها، وتعددت طعومها. فكانت فلسفة مؤمنة، ملحدة..
متفائلة، متشائمة.. شأن الخائف المفزّع، تتغاير فى عينيه صور الأشياء، وتغيم حقائقها..
إن ظاهرة الموت من أكبر الظواهر وأعمها، مما شغل به العقل، والتفتت إليه الديانات السماوية والوضعية، منذ الخطوات الأولى للإنسان فى هذه الحياة..(9/1186)
يقول بعض الفلاسفة المعاصرين: «إن الموت هو أصل الديانات كلها، ويجوز أنه لو لم يكن هناك موت لما كان للإله عندنا وجود» .
وذلك لأن الموت لفت الإنسان إلى قوة عليا، يستمد منها الحياة، ويدفع بها الموت.. وإذا لم يتحقق له ذلك فى الحياة الدنيا، طمع فى حياة أخرى بعد الموت، يصل بها ما انقطع بالموت..
ويكاد التفكير الإنسانى كله- عدا جماعات قليلة متناثرة على رقعة الزمن الفسيح- يكاد يرى الموت خاتمة حياة، ومبدأ حياة جديدة أخرى.
لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره- رفض أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الإنسان، وأبى أن يذهب بمن يموتون من الأهل والأحباب والأصدقاء إلى وادي الفناء والعدم.. فأقام لهم المقابر، وسعى إليهم فى أوقات مختلفة، يناجيهم، ويبثهم ما بصدره من شوق وحنين، ويشكو إليهم ما لقى من بعدهم من آلام وأحزان..
وحول المقابر، وعليها، أقيمت تماثيل الموتى، وقدّمت القرابين والصلوات والأدعية، حتى يجد الميت فى ذلك ما يهنأ به فى عالمه الجديد..
إن شبح الحياة تدبّ فى الأموات، مازال يطلّ على الأحياء من وراء القبور، فلم تنقطع الصلة بين الأحياء والأموات.. بمواراتهم فى القبور، أبدا، بل كان الأحياء دائما يناجون الأموات، ويتحدثون إليهم حديث الحىّ إلى الحىّ، بل وكثيرا ما يتلقى الأحياء من الموتى- عن طريق التخيل والتوهم- الجواب الشافي لما يلقون إليهم من شئون وشجون..
إن تلك الصلة النفسية بين الأحياء والأموات، قد خلقت فى الناس عقيدة الحياة بعد الموت.. وذلك قبل أن تجىء الأديان السماوية، فتقرر هذه الحقيقة، وتلتقى مع ما وجده الإنسان بحدسه، واستشعره بوجدانه، وطرقه بخياله.(9/1187)
لقد كان أهم ما يميز ديانة المصريين القدماء هو فكرة الخلود.. أعنى الحياة الخالدة بعد الموت.. فتلك العقيدة هى جرثومة التفكير الديني، الذي تولدت منه الديانة المصرية القديمة، وتشكلت منه طقوسها ومراسمها..
فالمصريون القدماء، كانوا يعتقدون أنه وقد أمكن أن يحيا النيل بعد موته، فيفيض ثم يفيض، وأن يحيا النبات بعد موته، فيزدهى وينضر، فإنه- من باب أولى- أن يحيا الإنسان بعد أن يموت..
واقرأ قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» (80: المؤمنون) .
لم يرض الإنسان أن يكون نصيبه من الحياة تلك السنوات التي يعيشها فى هذه الدنيا، وأبى أن يقبل الحكم الأبدىّ عليه بالفناء الأبدىّ، بعد الموت.. بل إنه جعل من الموت طريقا إلى الحياة الأبدية الخالدة، التي لا موت معها.
يقول «سقراط» «عند ما فتشت عن علة الحياة وجدت الموت.. وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.. ولهذا ينبغى أن نغتمّ بالحياة، ونفرح بالموت، لأننا نحيا لنموت، ونموت لنحيا..»
وفى كتاب الهند المقدس «كاثا» : «يفنى الفاني كما تفنى الغلال، ثم يعود إلى الحياة فى ولادة جديدة كما تعود الغلال «1» » .
ويقول الفيلسوف الألمانى «جوته» :
__________
(1) يريد بفناء الغلال دفنها فى باطن الأرض، ثم تحللها، وتشققها ليخرج منها النبات.(9/1188)
«إن الاجتهاد المحتدم فى نفسى، هو برهانى على الديمومة.. فإذا كنت قد عملت حياتى كلها ولم أسترح، فمن حقى على الطبيعة أن تعطينى وجودا آخر عند ما تنحلّ قواى، وتنوء بحمل نفسى» .
والديانات السماوية، تصور الموت على أنه إشارة البدء إلى رحلة طويلة، ينتقل فيها الإنسان من هذه الدنيا إلى عالم الخلود، حيث يلقى كل إنسان هناك جزاء ما عمل، من خير أو شرّ.
ويؤدى الموت فى الديانات السماوية، دورا عظيما فى إقامة العقيدة الدينية، وفى تعميق جذورها فى قلوب المؤمنين، وبعث الحماس للأعمال الصالحة التي تدعو إليها، وتقبّلها فى رضا وغبطة، وإن كانت تحمل الإنسان على تقديم نفسه قربانا لله بالجهاد فى سبيله، طمعا فى حياة أفضل! وليس من خلاف بين الديانات السماوية كلها فى تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها.. وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة فى الإيمان بالبعث واليوم الآخر، بعد الإيمان بالله.
ومع أن الكتب السماوية، لم تتعرض لشرح عملية الموت شرحا «فسيولوجيا» ولم تدخل فى جدل حول الجسد والروح وما بينهما من علاقة فى الحياة، وما بعد الحياة- مع هذا، فإن أتباع هذه الكتب لم يقفوا عند هذا، بل كان فى المتدينين- من فلاسفة وعلماء وفقهاء- من أجال تفكيره فى هذه القضية، مستصحبا الدين، أو مستقلّا بنظره ورأيه.
وفى التفكير الإسلامى كثير من الآراء والمقولات.. نكتفى هنا بأثارة منها..
فمثلا يقول «الراغب الأصفهانى» : «إن الموت المتعارف، الذي هو(9/1189)
مفارقة الروح للبدن، هو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدى..
فهو وإن كان فى الظاهر فناء واضمحلالا، فهو فى الحقيقة ولادة ثانية.. إن الإنسان فى دنياه جار مجرى الفرخ فى البيضة، فكما أن من كمال الفرخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها، كذلك من شروط كمال الإنسان مفارقة هيكله..
ولولا الموت لم يكمل الإنسان!» .
ثم يقول: «فالموت إذن ضرورى فى كمال الإنسان، ولكون الموت سببا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف، سمّاه الله «توفّيا» وإمساكا عنده: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) .
ثم يقول الراغب: «فالموت هو باب من أبواب الجنة، منه يتوصّل إليها، ولو لم يكن الموت، لم تكن الجنة، ولذلك منّ الله به على الإنسان.. فقال تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (2: الملك) ..
فقدّم الموت على الحياة، تنبيها إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقة ومن هنا عدّ نعمة..
وقال سبحانه أيضا: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ.. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» فجعل الموت إنعاما، لأنه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلّا بالموت، فالموت نعمة، لأن السبب الذي يتوصّل به إلى النعمة، نعمة.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ.. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (14- 16 المؤمنون) - فنبّه على أن هذه التغيرات متجهة إلى خلق أحسن..
ويقول الفيلسوف المسلم «محمد إقبال» :(9/1190)
«إن كائنا- يعنى الإنسان- اقتضى تطوّره ملايين السنين، ليس من المحتمل إطلاقا، أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع.. وليس إلّا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار- يمكن أن ينسب إلى معنى الكون.. «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (7- 10: الشمس) .. وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل: َبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»
(1- 2: الملك) - فالحياة تهيىء مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب» .
وننتهى من هذا كله إلى حتمية البعث والحياة بعد الموت..
وإنه قبل أن تجىء الديانات السماوية، وقبل أن تقول كلمتها فى الحياة الآخرة، قالت الإنسانية كلمتها.. قالتها شعرا ونثرا.. وقالتها شعوذة وفلسفة! وأعدّت نفسها للحساب بين يدى قوة عليا، بيدها وحدها الجزاء الأوفى لكل عمل..
ففى الديانات المصرية القديمة مثلا، كان يحمل الميت معه دفاعا مكتوبا، يلقيه بين يدى المحاسب العظيم.. وهذا، مثل من صور هذا الدفاع:
«سلام عليك.. أيها الإله العظيم.. ربّ الصدق والعدالة.. لقد وقفت أمامك يا ربّ..
«وجىء بي لكى أشاهد ما لديك من جمال!! «أحمل إليك الصدق.. إنى لم أظلم الناس.. لم أظلم الفقراء.. لم أفرض(9/1191)
على رجل حرّ عملا أكثر مما فرض هو على نفسه! «لم أهمل.. ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة.. ولم أكن سببا فى أن يسىء السيد معاملة عبده..
«لم أمت إنسانا من الجوع.. ولم أبك أحدا.. ولم أقتل إنسانا.
ولم أخن أحدا..
«لم أرتكب عملا شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدس..
«لم أكفر بالآلهة.. ولم أغشّ فى الميزان..
«لم أنتزع اللعب من أفواه الرّضّع.. ولم اصطد بالشباك طيور الآلهة..
«أنا طاهر.. أنا طاهر.. أنا طاهر..!!»
فالحياة بعد الموت، والحساب والجزاء، هى مما يطلبه الإنسان، ويعيش فيه، ويعمل له.. ولو لم يكن هناك دين يدعو إليها، أو شريعة تكشف عنها..
فكيف إذا جاءت شرائع السماء كلها، مقررة لها، كاشفة عنها، ضاربة الأمثال لها، مقدمة الحجج والبراهين عليها؟
وخير ما نختم به هذا البحث، ما قرّره الراغب الأصفهانى، فى كتابه:
«تفصيل النشأتين» حيث يقول: «لم ينكر المعاد والنشأة الأخرى، إلا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم، شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات..
«وأما من كان سويّا، ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم، علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار،(9/1192)
وأفضل ذوى الإرادة والاختيار، الناظر فى العواقب، وهو الإنسان- فيعلم أن النظر فى العواقب من خاصية الإنسان، وأنه- سبحانه- لم يجعل هذه الخاصيّة له، إلّا لأمر جعله فى العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا! «فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة، المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مضبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!! فيقتضى هذا أن تكون هذه الحكم الإلهية، والبدائع الربانية، التي أظهرها الله فى الإنسان عبثا، كما نبّه الله تعالى بقوله: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» .. فإن إحكام بنية الإنسان، مع كثيرة بدائعها وعجائبها، ثم نقضها، وهدمها من غير معنى سوى ما تشاركه فيه البهائم من الأكل والشرب، مع ما يشوبه من التعب الذي أغنى عنه الحيوان- سفه» «تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» .
قوله تعالى:
«فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» .
هو تنزيه لله سبحانه وتعالى، أن يكون خلق الخلق عبثا، وأنه سبحانه يميتهم، ثم لا يبعثهم.. إن هذا لا يليق بالملك العظيم، الحقّ، الذي لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم..
وفى وصف الله سبحانه وتعالى لذاته الكريمة العلية، بهذه الأوصاف الجليلة ما يشير إشارة مبينة إلى تقرير هذين الأمرين: الخلق، والبعث، وأنهما من شأن «الملك» الذي قام ملكه على الحقّ، والذي لا إله معه، يشاركه الخلق والأمر، فيعطل مشيئته، أو ينقض حكمته..
ثم إن فى وصفه ذاته سبحانه وتعالى بالكرم، إشارة أخرى، إلى أن(9/1193)
الخلق والبعث نعمة من منعم كريم، بيده الخير، وهو على كل شىء قدير.
قوله تعالى:
«وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» .
وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها.. فقد بدئت بهذا الإعلان العام: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» .. ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرض صفات المؤمنين، وما أعدّ الله لهم فى الآخرة من نعيم، حيث يورّثهم الجنّة، ويطلق أيديهم فيها، ينعمون بما يشاءون منها.. ثم عرضت الآيات بعد هذا صورا من قدرة الله، وفضله على الإنسان، الذي أخرجه من تراب، فكان هذا البشر السّوىّ.. وتمضى الآيات فتعرض، صورا للمعاندين المكذبين برسل الله، وما أخذهم الله به فى الدنيا من نكال، وما أعد لهم فى الآخرة من عذاب..
ثم تخلص الآيات من هذا العرض إلى تقرير أمر البعث، وأنه أمر واقع لا شك فيه.. ثم تجىء خاتمتها داعية إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتحذير من الشرك به، فإن من يشرك بالله فهو من الكافرين.. وإن الكافرين هم الخاسرون..
- وفى قوله تعالى: «لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» - دعوة صريحة إلى تحرير العقل، وإطلاقه من قيد الأسر للأوهام، ومن الانقياد للآخرين، من غير أن يكون له نظر واقتناع، عن برهان قاطع، وحجة واضحة..
فالإيمان بالله سبحانه وتعالى: «قضية» أولى من قضايا العقل، يرتبط بها مسيره ومصيره، فى الدنيا والآخرة.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان أن يلقى هذه القضية فى جدّ واهتمام بالغين، وأن يوجّه إليها كل مدركاته،(9/1194)
وملكاته، وأن يفتح لها عقله وقلبه، حتى يمحصها تمحيصا، ويقيم لها الأدلة والبراهين.. فإن هو آمن بعد هذا، كان إيمانه على بصيرة وهدى، وكان لهذا الإيمان أثره فيه، وسلطانه عليه.. وإن لم يجد بين يديه «البرهان» المقنع، والدليل القاطع، والحجة الملزمة، فلا عليه أن يمسك عن الإيمان، حتى تتضح له معالم الطريق إليه، وحتّى يقع على الدليل الهادي، الذي يقوده إلى الله مذعنا، مستسلما! .. فذلك هو الإيمان الذي يطلبه الإسلام من المسلمين، ويفتح أبصارهم وبصائرهم له.
وليس هذا هو شأن العقل مع قضية الإيمان بالله وحدها، بل إن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من شأنه مع كل قضيّة من قضايا الحياة، صغيرها وكبيرها..
إذ كان العقل هو الحاسّة التي يذوق بها الإنسان طعوم الحياة، ويميز بها الخبيث من الطيب، والشرّ من الخير، والنافع من الضار.. تماما كما يذوق باللسان طعوم المأكولات والمشروبات، حتى لا يدخل على الجسد طعاما فاسدا، فيفسد طبيعته.
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» .
بهذه الآية الكريمة، تختم السورة.. وبهذه الرحمة الواسعة من ربّ كريم رحيم، يغاث الناس، ويتداوون من جراحات الآثام والذنوب، التي شوهت معالم فطرتهم، وذهبت بالكثير من جمال خلقهم السّوىّ، الذي خلقهم الله عليه..
لقد ركب كثير من الناس طرق الغواية والضلال، وكادت تضيع إنسانيتهم فى هذا التّيه، ولكن رحمة الله تداركتهم، فلقيتهم هناك فى هذا الضّياع، وأعادتهم إلى مجتمع الإنسانية الكريم..(9/1195)
وهكذا ينتهى أمر الناس، برحمة عامة شاملة، تنال البرّ والفاجر، وتكسو المطيع والعاصي.
ولترغم أنوف أولئك الذين يتألّون على الله، ويؤيّسون الناس من رحمة ربّ الناس، ويحتجزونها لأنفسهم، حتى لكأنها لا تتسع إلّا لهم، وأنه لو شاركهم فيها غيرهم لضاقت بهم، وقلّ حظهم منها.. فهذا من سوء الظنّ بالله، ومن ضلال فى الفهم لما لذاته من كمال مطلق.. «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. (32: الزخرف) ومن أسرار هذا الختام للسورة بهذه الآية الكريمة، أنها جاءت تحمل الرحمة والمغفرة- الرحمة الواسعة، والمغفرة الشاملة- وبين يديها هذه الأحكام، وتلك الحدود، التي جاءت بها سورة «النور» التي تلى هذه الآية مباشرة، وكأنها تبشر بالرحمة والمغفرة، أولئك الذين تغلبهم أنفسهم، وتستعلى عليهم أهواؤهم، فيخرجون عن حدود الله، ويواقعون الإثم والمنكر!! فسبحانك سبحانك من رب كريم، غفور، رحيم.. تعنو لجلاله الوجوه، وتستخزى فى مواجهة كرمه، ومغفرته ورحمته، النفوس، ويستحى من عصيانه، والتمرد على طاعته، أهل الحياء! وألا شاهت وجوه الذين يلقون رحمة الرحمن الرحيم بالتمرد والكفران..
وألا خسىء وخسر، أولئك الذين يغريهم لطف اللطيف، وإحسان المحسن بالتطاول عليه، والعدوان على حرماته..!(9/1196)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
24- سورة النور
نزولها: هى مدنية.. باتفاق.
عدد آياتها: أربع وستون آية.
عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف، وستمائة وثمانون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 3) [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
التفسير:
فى هذه السورة- أمران- نحب أن نقف قليلا عندهما، قبل أن نمضى فى تفسيرها:
أولهما: هذا البدء الذي بدئت به، والإخبار عنها بأنها سورة- مع أنها «سورة» من مائة وأربع عشرة سورة، هى القرآن الكريم كله.(9/1197)
فما سرّ هذا؟
لم نجد أحدا من المفسرين سأل هذا السؤال، أو أشار إليه من قريب أو بعيد.. وإن كانوا قد توسعوا فى شرح معنى سورة، وأنها من السور الذي يقوم على ما يداخله، ويحتويه.. فهى بهذا أشبه بالسور.. لها بدء وختام..
وما بين بدئها وختامها محصور فى البدء والختام.. وليس فى هذا ما يجعلها منفردة بوضع خاص بين سور القرآن الكريم.
أما الإخبار عنها بأنها سورة، وهى سورة فعلا.. فهذا ما قد سكتوا عنه..
وهو أمر يلفت النظر، ويستوجب الدراسة والبحث..
ونحن إذ ننظر فى قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .
نجد هذا الخبر وما وصف به، ينطبق على كل سورة من سور القرآن الكريم..
فكل سورة منه هى سورة، وكل سورة، أنزلها الله وفرضها، وأوجب على المسلمين التعبّد بآياتها، والفعل بأحكامها.. وكل سورة فيها آيات بينات، للتذكر والتدبر، وهى فى هذا لا تختص بمزيد فضل على غيرها من السور، لأن القرآن كله كلام الله، وكلام الله- سبحانه- على التمام والكمال جميعه، لا يفضل بعضه بعضا بشىء.. إذ ليس هناك مكان لزيادة فى فضل! فما السر إذن؟
نقول- والله أعلم- إن بدء السورة فى الحقيقة هو قوله تعالى فى الآية الثانية منها: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .. وإن الآية التي بدئت بها السورة ليست إلا تنبيها على أن سورة ستنزل، وفيها فرائض، وأحكام، وآيات بينات.. وذلك أن الأحكام الشرعية.. وخاصة(9/1198)
ما يتصل منها بالحدود- لم يجىء بها القرآن الكريم فى صدر السور القرآنية، وإنما جاء بها بين ثنايا الآيات، حيث يمهد لها بآيات قبلها، ثم يعقب عليها بآيات بعدها.. وبهذا يجىء الحكم الشرعي وبين يديه ومن خلفه ما يدعمه، ويوضحه.
فقوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
هو أشبه بالموسيقى، التي تتقدم موكب المجاهدين فى سبيل الله، المتجهين إلى غزو مواقع الكفر والضلال، إذ أن الآيات التي جاءت بعد هذا المطلع، هى فى الواقع أقرب شىء إلى أن تكون بعثا من جند السماء، يحمل الهدى والنور إلى هذه المواطن المظلمة من المجتمع الإسلامى، فيبدد ظلامها، ويكشف للأبصار والبصائر، الطريق المستقيم إلى مرضاة الله! وثانيهما: تسميتها بسورة «النور» .. على اعتبار أن أسماء السور توقيفى، وهو الرأى الراجح عندنا..
لم سميت بهذا الاسم؟
والجواب- والله أعلم- أن ذلك:
أولا: لأنها جاءت بآيات كشفت ظلاما كثيفا، كان قد انعقد فى سماء المسلمين قبل أن تنزل هذه السورة، وتنزل معها هذه الآيات.. وذلك أن السيدة عائشة رضى الله عنها، كانت فى تلك الفترة موضع اتهام على ألسنة المشركين والمنافقين، وقد أوذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث المفترى، كما أوذيت زوجه رضى الله عنها، وأوذى المسلمون بهذا الذي طاف حول بيت النبوة من غبار تلك التهمة المفتراة.. فلما نزلت الآيات التي تبرّئ البريئة الصدّيقة بنت الصديق- انقشع هذا الظلام، وكشف النور السماوي، عن وجوه المنافقين المفترين..(9/1199)
وثانيا: جاء فى السورة الكريمة قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ.. نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ..» (35)
فلهذه الأنوار التي تملأ الوجود من نور الله، ولهذه الآيات المنزلة التي أضاءت للمسلمين ظلام الليل الكثيف، وفضحت المشركين والمفترين- لهذا أو ذاك، أولهما معا، استحقت السورة أن تحمل هذا الاسم، وأن تكون نورا على نور.. من نور الله..!
بعد هذا، نستطيع أن نلتقى بالسورة الكريمة، ونقف بين يدى آياتها..
قوله تعالى:
«سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .
«سُورَةٌ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هذه سورة.. وقد قرىء «سورة» بالنصب، بتقدير ناصب لها من فعل، أو اسم فعل، مثل اقرأ، أو استقبل، أو إليك أيها النبي سورة..
وفى هذا البدء إلفات إلى ما سيجيئ فى السورة من أحكام. وتشريعات، وقواعد، لحفظ المجتمع، وصيانة روابط الأسرة، التي هى الأساس الذي يقوم عليه كيان الجماعات والأمم..(9/1200)
[الجلد والرجم.. وجريمة الزنا]
قوله تعالى:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
هكذا تبدأ السورة بهذا الحكم، على غير ما جرى عليه القرآن من تقرير الأحكام فى ثنايا السورة، وبين يديها ومن خلفها آيات تمهيد لها، وتعقب عليها.
أما هنا، فقد تكاد السورة تبدأ بهذا الحكم، وليست الآية التي بدأت بها السورة إلا إعلانا عن أن هذه سورة، وأنها جاءت ابتداء بتقرير هذا الحكم، وهذا يشير إلى أن هذا الأمر الذي جعلته السورة فى مقدمتها، هو أمر عظيم الخطر على المجتمع الإنسانى، وأن من الحكمة الإسراع فى محاربته والقضاء عليه، وأنه لهذا جدير بأن يتصدر سورة من سور القرآن الكريم، وألا تسبقه مقدمات، وإرهاصات تشير إليه..
وفى تصدير الحكم بالجملة الاسمية، تقديم للمسند إليه- المبتدأ- وكشف عنه قبل الكشف عن الحكم الذي سيسند إليه.. إذ ليس المقصود أولا هو إقامة الحدّ على الزانية والزاني، وإنما المراد هو التعرف على من يحمل هذا المرض الخبيث فى كيانه.. ثم يأتى بعد ذلك ما يتخذ لوقايته، ووقاية المجتمع منه..
فقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» يلفت السامع إلى أن حكما ما سيقع عليهما، أو قولا سيقال فيهما.. وهنا تصغى الأسماع، وتتطلع النفوس إلى هذا الحكم..
وإذ يتوقع المستمعون أن هذا الحكم سيكون وعيدا من الله، أو وصفا دامغا للزانية والزاني- يجىء الأمر على غير ما ينتظرون، وإذا هم أنفسهم، هم(9/1201)
المطالبون بالكشف عن هذا الداء، ثم هم مطالبون أيضا بأخذهم بهذا الدّواء الذي وضعه الله فى أيديهم، وإنفاذ أمره فيهم.. وهذا كله من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا حربا على هذا الداء، وأساة لمن يصابون به..
ففى قوله تعالى: «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .
أولا: عزل للمؤمنين، عن جماعة الزّناة، الذين تحقق المجتمع من هذا الداء الذي نزل بهم..
وثانيا: إلزام للمؤمنين ألا يقفوا موقفا سلبيا من هذا الداء الذي يتهددهم إن هم تغاضوا عنه، ولم يأخذوا ولأنفسهم وقاية منه.
وبهذا يكون معنى الآية:
الزانية والزاني، ها هما قد أصيبا بهذا الداء الخبيث، وإنه لكى تدفعوا عن أنفسكم شر هذا الداء، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ لستم أنتم أرأف بالناس من رب الناس..
وفى قوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» - إشارة إلى أن الجريمة ينبغى أن يكون عقابها علنا، بمحضر من الناس، ليكون فى ذلك فضح للجانى، وتحذير لغيره من أن يأتى هذا المنكر، ويقع تحت سياط العذاب، وعلى أعين الناس! وهذه الجريمة ينكرها الناس جميعا، وتنكرها كذلك المدنية الغربية جهرا، وترضى بها وعنها سرا.. وذلك لما فى هذه الجريمة من عدوان على حقوق الأزواج، ومن اختلاط الأنساب، وحل روابط الأسرة، وقطع ما بين الآباء والأبناء من تعاطف، وتراحم، وإيثار، وبذل يبلغ حد التضحية بالنفس، الأمر الذين لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء.. وهذا لا يكون(9/1202)
إلا إذا وقع فى نفوس الآباء وقوعا محققا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم، وأنهم غرسهم الذي غرسوه، ونبتهم الذي خرج من هذا الغرس.. ومن هنا تقوم فى أنفسهم الدواعي القوية لرعاية هذا النّبت وبذل الجهد له، حتى ينمو، ويزهو، ويثمر..
إن المجتمع لا يكون مجتمعا سليما، قوى البنيان، ثابت الأركان، إلا إذا انتظمت أفراده مشاعر متلاحمة من التوادّ والتعاطف بين أفراده.. والأسرة هى أول لبنة فى بناء المجتمع.. ومن هنا كان حرص الإسلام على إقامة هذه اللّبنة من مادة متماسكة، متلاحمة، مصفاة من الشوائب، محصنة من الآفات.. فربط أولا بين الزوج والزوجة بهذا الرباط الموثق، الذي لا ينحل إلا إذا عرضت له عوارض تجعل من إمساك الزوجين بهذا الرباط أمرا فيه إعنات لهما، أو لأحدهما، فكان التحلل منه أرفق وأوفق.. ثم لم يدع الإسلام هذا الرباط ينحل تلقائيا- إذا دعت دواعيه- بل جعل له أسلوبا خاصا يجرى عليه، ويتعامل الزوجان بمقتضاه، كأن تعتدّ المرأة بعد انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة، وكأن يقدم الرجل للمرأة مؤخر الصداق، ونفقة العدة، وغير هذا مما هو مفصل فى كتب الفقه.. ثم هذه الثمرة التي يثمرها الزواج من أولاد، وما يجب على الآباء عن رعاية وتربية لهؤلاء الأولاد، وهو أمر وإن كان فى فطرة الكائن الحي، إلا أن الإسلام جعله شريعة، يؤخذ بها من فسدت فطرتهم من الآباء والأمهات..
وكذلك أوجبت الشريعة على الأبناء طاعة الآباء، وبرّهم، وتقديم الرعاية الكاملة لهم عند الكبر والعجز.. وهذا أمر وإن كانت تقضى به الفطرة، وتوجبه المروءة، التي تدعو إلى مقابلة الإحسان بالإحسان، فإن الإسلام جعله شريعة ملزمة، وحقا واجب الأداء، إذا كان فى الأبناء من ذهبت مروءته، وطمست معالم فطرته، فلم يرع هذا الحق ابتداء من غير طلب..(9/1203)
وهكذا ينظر الإسلام إلى الأسرة، ويعدّها «البوتقة» الأولى، التي تنصب فيها مبادئه، وتختبر أحكامه، وتثمر شريعته.. فإنه إذا ظهرت آثار هذه الشريعة فى مجتمع الأسرة، وقامت منها تلك «الخلية» السليمة، القوية، المحصنة من آفات الانحلال والتفكك- كان المجتمع الذي يقوم من اجتماع هذه الخلايا، مجتمعا سليما قويا.. أشبه بالجسد السليم القوى، الذي لا تنال منه الآفات والعلل.. إذا عرضت له..
وسلامة الرباط الذي يقوم بين الزوجين، وقيام الرابطة الزوجية فى ضمان من التحلل والتفكك، وفى أمان من الشك والارتياب- هو الأساس الذي تقوم عليه الصلات الروحية، والنفسية، والمادية بين أعضاء هذه الأسرة، التي يبنيها الزوج والزوجة معا..
من أجل هذا وقفت شريعة الإسلام هذه الوقفة الحكيمة الحازمة، من أمر الزنا، وعدّته آفة مهلكة إذا لم يأخذ المجتمع كله السبيل عليها، وينكّل بالذين يعتدون على حرمته ويهددون أمنه وسلامته، ويدكون صرح بنيانه، باقتراف هذا المنكر..
وقد فرق الإسلام فى العقوبة بين المحصنين وغير المحصنين، لما بين الفريقين من اختلاف فى الحاجة، وفى الدافع إليها.
فالحدّ الذي فرضه الإسلام، هو مائة جلدة لغير المحصن، من النساء والرجال:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» ..
أما المحصن من الرجال والنساء، فحدّه الموت.. رجما بالحجارة.
فإذا توافرت أركان هذه الجريمة بما يوجب الحد، وجب الحد، ولزم.
ثم إنه إذا أقيم الحد- جلدا أو رجما- وجب أن يكون علنا، يشهده طائفة(9/1204)
من المؤمنين، وقد أشرنا من قبل إلى الحكمة المبتغاة من هذه العلانية.
هذا، وقد جاء الجلد نصا فى القرآن الكريم.. كما جاءت به الآية الكريمة: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .
ولكن.. هنا سؤال:
إذا كان حكم القرآن قد جاء هكذا مطلقا فى الزانية والزاني، وهو الجلد..
فلم هذا التخصص بغير المحصنين؟ ومن أين جاء النص على المحصنين بالرجم؟
ونقول إن التقييد للنص القرآنى، وصرفه إلى غير المحصنين، إنما هو من عمل الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.. فقد رجم الرسول صلوات الله وسلامه عليه- محصنا هو «ماعز بن مالك» كما رجم محصنة هى: «الغامدية» وذلك كما هو ثابت فى السنة المطهرة..
ولكن.. لسائل أن يسأل:
كيف يجىء حكم القرآن عن جريمة «الزنا» نصا فى الجلد، ثم لا يجىء فيه نص «للرجم» ؟
ألا يكون عكس هذا هو الأولى.. فينصّ القرآن على العقوبة الكبرى وهى «الرجم» ثم يجعل «الجلد» عملا من إعمال هذا النص، فيكون تعزيرا، حيث لا تتوافر الأدلة القاطعة؟.
ونقول- والله أعلم-:
أولا: حمل إطلاق قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» - حمل هذا الإطلاق على غير المحصنين، فيه رعاية لمقتضى الحال، الذي يكاد يصرّح بأن الزنا- إن كان- فلا ينبغى أن يكون إلا من غير(9/1205)
المحصنين، حيث لم يكن لهم ما يتحصنون به من دواعى الشهوة، بالزواج، الذي من شأنه أن يكسر حدة هذه الشهوة، ويطفىء وقدتها.. فهم لهذا- إذا أقدموا على الزنا كانوا أقل جرما من المحصنين، الذين من شأنهم أن يتحصنوا ويتعففوا، وهم فى حياة الزوجية.
فهذه الإشارة بليغة من الشريعة الإسلامية، إلى أن المؤمن ينبغى أن يكون فى حصانة من دينه، وفى يقظة دائمة من مراقبة ربه.. وتوقى العدوان على حدوده، فإذا غلبت المؤمن شهوته، فى هذه الحال، وأغواه شيطان فاستغوى، وركب طريق الفاحشة- فإنه ملوم مذموم.. ولكن شتان فى هذا، بين المحصن وغير المحصن، فى موقف الحساب والجزاء، على تلك الفعلة المفكرة..
ولشناعة هذه الجريمة، وعظيم خطرها، فقد نص القرآن على أدنى حد يجب أن يؤخذ به مقترفها. وهو الرجم، كما أن القرآن أمسك بهذا النص من يغلب عليهم أن يواقعوا هذا المنكر، ويقعوا تحت العقوبة الراصدة له، وهم غير المحصنين.. أما المحصنون فأولى بهم ألا يكون لهم موقف هنا.
وألا يذكروا فيمن يذكر فى معرض هذا الأمر الشنيع.
وثانيا: إن عمل الرسول، متمم للشريعة، وشارح لها، بحكم القرآن الكريم فى قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (7: الحشر) ذلك أن الرسول لا يدخل على شريعة الله إلا بما يأمره به الله..
كما يقول تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (3- 4: النجم) وثالثا: أن وجوب إقامة الحد على الزاني والزانية، لا يكون إلا إذا وقعت هذه الجريمة مستوفية أركانا خاصة، دون أن يعلق بأى ركن منها شبهة من(9/1206)
الشبه القريبة أو البعيدة.. فإذا انحلّ ركن من هذه الأركان، أو دخلت عليه شبهة لم تكن جريمة فى نظر الشارع، ومن ثم فلا حد على المأخوذ بها.
وأهم الأركان التي تثبت بها جريمة الزنا، شهادة أربعة من الشهود العدول، بأن يشهدوا بأنهم رأوا هذا المنكر بين الرجل والمرأة، على الوجه الذي يقع بين الزوجين فى فراش الزوجية، من المعاشرة التي لا يطلع عليها أحد، وأن تكون هذه الرؤية كاشفة كل شىء بين الرجل والمرأة، وخاصة فيما يتصل بالتقاء سوءتيهما، التقاء مباشرا كاملا.
فإذا لم تقم كل شهادة من شهادات الشهود الأربعة على هذا الوجه، بحيث لو وقع الاختلاف بينها فى أية صفة من تلك الصفات- لم يحكم بوقوع الجريمة، ومن ثمّ فلا إقامة لحد عليها.. ويجلد الشهود ثمانين جلدة، إعمالا لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (4: النور) .
وطبيعى أن تحقق هذه الشروط ندر أن يقع.. ذلك أن الذي يمكن أن يحدث منه هذا الأمر المنكر على ملأ من الناس بحيث تنكشف لهم سوءته- هو إنسان معتوه، أو مجنون، أو مخمور.. لأن العاقل- فى أي درجة من درجات العقل- يأبى عليه حياؤه أن يتجرد هذا التجرد لأعين الناس.. وإنه لو فرض وكان ممن ذهب ماء الحياء من وجهه.. فكيف السبيل إلى المرأة التي جمد حياؤها هذا الجمود، فتعرّت للرجل هذا التعرّى على أعين الناس؟ إن هذه صورة لا تقع إلا فى أحوال نادرة، وتحت ظروف وأحوال غير طبيعية، كأن يقدر الزانيان أنهما فى مأمن، فينكشف عنهما هذا الستر الذي تسترا فيه، على غير انتظار، أو أن يطلع عليهما مطلع من حيث لا يحسبان أو يقدران..(9/1207)
ولا شك أن غير المحصنين هم أقرب إلى التعرض لمثل هذا الفعل المنكر المفضوح، إذ كانوا- تحت وطأة الشهوة وقسوة الحرمان- معرضين للاندفاع إلى هذه الجريمة، وإلى قلة المبالاة بعواقبها، والعمى أو التعامي عن الظروف المحيطة بها.
أما المحصن فإنه- إذ يقدم على هذه الجريمة- لا يكون محكوما بثورة الشهوة، أو قسوة الحرمان إلى هذا الحد الذي يكون عليه غير المحصن.. كما أنه لا يندفع إلى هذه الجريمة هذا الاندفاع الصارخ المجنون، فى غير مبالاة، خوفا من الفضيحة والخزي، عند زوجه وبنيه وأهله.. ولهذا لم تثبت جريمة الزنا على المحصن أو المحصنة إلا بإقرارهما، كما كان الشأن مع «ماعز» والمرأة الغامدية..
وهنا يتضح لنا حكمة نص القرآن على حد الجلد، وهو العقوبة المفروضة على غير المحصنين، إذ كان غير المحصنين- كما قلنا- هم الكثرة الواقعة تحت حكم الزنا، على تلك الصورة المكشوفة المفضوحة، وهم أدنى إلى مواقعة الإثم على صورته تلك، من المحصنين، الذين يكاد الإسلام لا يفترض لهم وجودا..
لأنهم إذا وجدوا على تلك الحال، كانوا من الندرة النادرة التي لا يتوجه إليها عموم الحكم.
كذلك تتضح حكمة هذا التقدير الذي قدّره الإسلام لعقوبة هذا الجرم، فى مجاليه معا، الإحصان وغير الإحصان، وهو تقدير عادل رحيم، لا تخف موازينه أبدا، فى أي مجتمع إنسانى، يحترم وجوده، ويكرم إنسانيته، ويرعى حرماتها، ويحتفظ بالقدر الإنسانى من حيائه ومروءته..
والجلد مضافا إليه الفضح على الملأ، هو عقوبة غير المحصن والمحصنة.(9/1208)
وهذا الجلد.. غير منكور ما فيه من استخفاف بإنسانية الإنسان، وامتهان لكرامته، وإسقاط لمروءته! نعم.. إن الإسلام يأخذ هذا «الإنسان!» بكل هذا التجريم والتجريح، فى مقابل جنايته تلك التي جناها على المجتمع..
وكيف يرعى الإسلام، حرمة فرد- رجلا كان أو امرأة- لم يرع إنسانيته، ولم يحفل بمروءته؟
وكيف يقبل منه هذا العدوان الصارخ على المجتمع، وهذا التحدّى المجنون لحرمة الجماعة وحيائها، دون أن يذيقه من الكأس التي سقى منها مجتمعا كاملا؟ وكيف لا يلبسه هذا الثوب من المذلة والهوان والاستخفاف، وقد ألبس هو المجتمع هذه الملابس جميعها؟
إن أقلّ ما ينبغى أن ينال مقترقى هذا الإثم- فى علانية وفى غير مبالاة- هو أن يكون العقاب المسلط عليهما قائما على العلانية، وعدم المبالاة بهما.
أما المحصنون الذين يضبطهم المجتمع على تلك الحال، ويقيم الشهادة عليهم، فقد نزلوا دركات بعيدة عن هذا المستوي المنحط الذي نزل إليه غير المحصنين، إذ لا يجدون عند الله، ولا عند الناس شيئا من العذر الذي قد يقوم لغير المحصنين.. ولهذا كان عقابهم أن يدفنوا فى هذه الحفرة التي حفروها لأنفسهم، وأن يقذفهم المجتمع بالأحجار التي قذفوه بها، حتى تزهق أرواحهم.
إن جريمة الزنا، لا يلقاها الإسلام بهذا العقاب الدنيوي الراصد الزاجر، إلا حين تتحول عند مرتكبيها إلى عمل غير منكر، فيأتيه من يأتيه منهم،(9/1209)
وكأنه يؤدى رسالة كريمة فى الحياة، يرى من الخير أن يشهد الناس وهو متلبس بها.. وهنا يكون الحساب على هذا الفجور العريان، وعلى تلك الحيوانية الطاغية التي تلبس الإنسان، وتتمشى به فى الناس، فى غير خجل أو حياء.. وكيف يستحلّ دم الحيوان، ولا يباح دم هذا الحيوان من أبناء آدم؟ وهل مثل هذا الإنسان أكرم عند الله أو عند الناس من الحيوان الذي أباح الله دمه، وأحلّ ذبحه؟
أما حساب الإسلام لمرتكبى هذا الإثم، فى ستر وخفاء، فهو مما يتولّاه الله، ويأخذ به أهله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، ويقف المذنبون بذنوبهم بين يدى أحكم الحاكمين، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.
من أجل هذا، لم تكن عقوبة الجلد أو الرجم تقع، إلا فى القليل النادر جدا، على أولئك الذين ينادون على أنفسهم بالفضيحة.. بلا مبالاة أو تحرج..!
فما فرض الإسلام على المسلمين- حكاما أو محكومين- أن يفتّشوا على دخائل الناس، وأن يعمدوا إلى كشف ما ستروه، وما ستره الله عليهم.. بل إنه سبحانه- رحمة بعباده- دعا إلى الستر على المبتلين من عباده بمنكر من المنكرات، وعدّ الكشف عن هذا المنكر من إشاعة الفاحشة فى المؤمنين وتوعّد الذين يذيعونها بالعذاب الأليم.. فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (19: النور) .
روى أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد بلغه عن امرأة كانت تعلن الفجور، فقال: «لو كنت راجما أحدا بغير بيّنة لرجمت هذه» وهذه المعالنة التي يشير إليها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-(9/1210)
هى تلك التي يرى فيها الناس تلك المرأة متلبسة بهذا المنكر، على مرأى ومشهد منهم.. حتى لقد كان منها أن اشتهرت أنها على علاقة بفلان أو فلان، وأن بعضهم قد اطلع منها على هذا المنكر..
بقي أن نشير هنا إلى ما ورد فى بعض الأحاديث من أن رجم المحصن والمحصنة، قد جاء فى كتاب الله غير المتلو من آياته.. أي الذي نسخ تلاوة، وبقي حكما.. ويروون لهذا، هذه الآية: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» .
وقالوا: إن هذه الآية مما كان أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخت تلاوته، وبقي حكمه، ولم يثبت فى المصحف.
ومن هذا ما يروى فى صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، أن ابن عباس أخبره أن عمر قام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وو عيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده.. فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل:
لا نجد آية الرجم فى كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم فى كتاب الله حق على من زنى وهو محصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحبل، أو الاعتراف» .
وفى مسند أحمد عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إن عمر بن الخطاب، خطب الناس، فسمعته يقول: «ألا وإن ناسا يقولون:
ما الرجم فى كتاب الله، وإنما فيه الجلد، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه(9/1211)
وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم: إن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتها كما نزلت» ! وفى مسند أحمد أيضا عن ابن عباس، قال: خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فذكر الرجم فقال: «لا نجد من الرجم بدا، فإنه حدّ من حدود الله، ألا وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجم، ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه لكتبت فى ناحية من المصحف:
وشهد عمر بن الخطاب، وابن عوف، وفلان، وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده» ! هذا بعض من أحاديث جاءت فى هذه القضية، وهى عند أصحاب الحديث صحيحة، لا مطعن عندهم فى سندها..
ونحن إذ ننظر فى هذه الأحاديث نجدها معلولة بأكثر من علة:
فأولا: آية الرجم التي تروى بأنها كانت هكذا: «الشيخة والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» .
هذه الآية- إذا صحّ أن تأخذ اسم آية- فيها أكثر من أمر يصرّح بأنها ليست من آيات الله، ولا من كلام الله، ولا من كلام رسوله.. وذلك:
1- «الشيخ والشيخة» كلمتان ثقيلتان، قلقتان، لا ينتظم باجتماعهما نظم قرآنى.. وقد جاء فى القرآن لفظ «الشيخ» فوقع موقعه من النظم..
كما فى قوله تعالى: «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» وقوله سبحانه: «وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ولم يجىء لفظ الشيخة، لا فى القرآن، ولا فى كلام عربىّ بليغ.
2- كلمة «البتّة» كلمة غريبة، لم يستعملها العرب، وإنما هى كلمة مولدة استعملها الفلاسفة والمناطقة، وأصلها من البتّ، وهو القطع.. وليس فى(9/1212)
اللغة العربية الصحيحة كلمة تلزمها همزة القطع فى «ال» التي للتعريف..
«والبتة» لا تنطق ابتداء أو وصلا إلا بهمزة القطع محققة، على ما استعمله عليها أصحابها.
3- كلمة «البتة» هذه- فوق أنها غريبة- هى أيضا زائدة لا حاجة إليها فى تقرير الحكم أو توكيده.. وقد جاء قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .. وكان من الطبيعي أن يجىء الحكم المتمم لهذه الآية هكذا: «والشيخ والشيخة فارجموهما.. نكالا من الله..»
وإذن فهذه التي تسمى آية، أبعد ما تكون عن نظم القرآن، كما أنها أبعد ما تكون عن بلاغة الرسول، وبيانه المعجز..
وثانيا: إلى جانب هذا الذي يقال عنه إنه آية.. يروى هذا الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى.. خذوا عنّى.. قد جعل الله لهن سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
وهذا الحديث- إن صح- وقد صححه رجال الحديث، يكون أشبه بالناسخ لآية «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» ولآية: «الشيخ والشيخة» .. صارفا النظر عنهما إلى الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا معنى للقول: «خذوا عنى خذوا عنى» إلا صرف النظر عن كلّ ما جاء فى القرآن عن هذا الأمر، والأخذ بهذا الذي يقال.. وحاش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينطق بهذا، وأن يتحدّى كلام الله الذي نزل عليه وبلّغه، فقد أخذ عنه المسلمون من قبل قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» !(9/1213)
وثالثا: سورة النور كلها محكمة، وقد نوّه الله سبحانه وتعالى بها بقوله:
«سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ..»
فهى نور من نور، وكل ما فيها بيّن جلّى، وكلّ ما فيها مفروض لا نقض فيه..
وإذن فتغريب المجلود، والمجلودة، عاما، هو حكم زائد على ما نصّ عليه الحكم الصريح البين فى الآية.. وهذا يناقض ما جاء فى مطلع السورة من أنها سورة فرضها الله وأنزل فيها آيات بينات، واختصاصها بهذه الأوصاف- مع أن كل القرآن على هذه الصفة- مزيد عناية بها، وتأكيد بأنه لا يدخلها نسخ، إن كان هناك نسخ.
وقد ذهب كثير من الأئمة والفقهاء إلى القول بأن لا تغريب مع الجلد..
ويروى عن الإمام علىّ كرم الله وجهه أنه كان يقول: «كفى بالتغريب فتنة» .
وإذا كان للتغريب حكمة فى أنه يبعد المجلود أو المجلودة عن محيطهما الذي ارتكبا فيه الفاحشة، ويباعد بينهما وبين الأعين التي ترميمهما بالازدراء، والألسنة التي تقذفهما بالسوء- إذا كان للتغريب هذا، فإن فيه ما ينسى الناس العبرة والعظة التي يجدونها كلما طالعوا وجه المجلودين، كما أن المجلودين- إذا بعدا عن موقع الجريمة، وعن شهودها، خف عنهم أثرها، وزال وشيكا وقعها.. ثم إن الغربة- كما يقول الإمام علىّ- فتنة قائمة بذاتها..!!
ورابعا: الأحاديث التي تروى عن عمر بن الخطاب فيها اضطراب، وتناقض..
فما ينسب إلى عمر أنه قال: «إن ناسا يقولون: «ما الرجم فى كتاب الله وإنما فيه الجلد..» هذا غير معقول أن يقول به عمر، وأحداث الرجم التي وقعت بأمر رسول الله لا تزال حديث الناس.. والمسلمون يعلمون أن الرسول مبيّن لكتاب الله، وأن قوله وعمله- فيما يتعلق بالشريعة- شرع.. فمحال إذن(9/1214)
أن يقول إنسان هذا القول، ومحال كذلك أن يكون لعمر تعليق على قول لم يقل..!
ثم من جهة أخرى، يرى فى الحديث أن عمر يقول: «لولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتّها كما نزلت..» وهذا كلام لا يلتقى أوله مع آخره.. فعمر رجل قوىّ، لا يأبه أبدا لقول قائل أو كلام متكلم، فى أي أمر متعلق بأحكام الله.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله، ويثبت ما لم يأمر الرسول بإثباته؟ وكيف تظل هذه الآية غير مقروءة زمن النبىّ، وزمن أبى بكر، وزمن عمر، ثم يبدو لعمر أن يثبتها، لولا أنه يخشى قول القائلين؟
وأكثر من هذا، فإن الحديث الثالث الذي رويناه آنفا عن عمر، يدل دلالة قاطعة على أن الرجم كان سنّة عملية، ولو لم يكن عن آية قرآنية نسخت تلاوتها.. يقول عمر: «لا نجد من الرجم بدا» - وصدق فإن الرجم للزانية والزاني المحصنين، مما فعله الرسول، وأمر به.. ثم يقول: «فإنه من حدود الله..»
وصدق- رضى الله عنه- فإن الرجم كالجلد، كلاهما من حدود الله.. ثم يقول:
«ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم رجمنا بعده» وهذا إجماع لا خلاف فيه.. ثم يقول: «ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه- لكتبت فى ناحية من المصحف» وهذا يعنى أن الذي كان يهتم به عمر ولا يفعله مخافة الفتنة- هو أن يكتب فى جانب من المصحف، بعيدا عن الآيات القرآنية- هذا الذي همّ أن يكتبه..
وماذا همّ عمر بكتابته ولم يكتبه للاعتبارات التي رآها؟
هذا هو نص ما أراد عمر أن يكتبه، وأمسك عن كتابته:
«وشهد عمر بن الخطاب وابن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله(9/1215)
عليه وسلم رجم، ورجمنا معه..»
هذا ما همّ عمر بكتابته ولم يكتبه، هو شهادة تلحق بالمصحف، فى ناحية منه.. ومضمون هذه الشهادة، هو: «أن رسول الله رجم، ورجم المسلمون بعده» ويشهد على هذا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، وآخرون.
وهذا يعنى أنه لو كانت هناك آية «الرجم» هذه التي يقولون عنها:
«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» - لو كان لهذه الآية وجود- ظاهر أو خفى- لكانت شهادة عمر عليها أولى من شهادته على الرجم، ولأثبتها فى ناحية من المصحف، وشهد هو ومن معه على أنها قرآن، نسخت تلاوته وبقي حكمه..
وهذا قليل من كثير مما يمكن أن يقال فى هذه الأحاديث، وفى آية الرجم هذه، وأنه كلما نظر الإنسان فيها وجد خللا واضطرابا برىء منهما القرآن الكريم، وتنزه عنهما كلام الله..
فمثلا: الشيخ والشيخة إذا كانا غير محصنين فهل يرجمان؟ والشاب والشابة إذا كانا محصنين فهل لا يرجمان؟ هذا ما يتسع له منطوق آية: «الشيخ والشيخة» ومفهومها! وفى حديث يروى عن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه، أنه قد ثبت لديه حكم الزنا على امرأة محصنة اسمها «سراحة» فجلدها يوم الخميس، ثم رجمها يوم الجمعة، وقال جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله.. وهذا دليل على أن الأصل هو «الجلد» ، وهو عام يشمل المحصن وغير المحصن حيث جاء الحكم مطلقا فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» وأما الرجم فهو استثناء، من الأصل، وهو مما جاءت به السنّة، فى حق(9/1216)
المحصنين فى الحكم العام، وأن يجرى عليهما حكم الآية المحكمة، ثم يأخذهما بالاستثناء الذي جاءت به السنة.. وهو الرجم.. والله أعلم.
قوله تعالى: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» .
اختلف المفسّرون فى معنى النكاح هنا، فذهب بعضهم إلى أو المراد به التزوج، على اعتبار أن هذا هو المعنى الغالب على هذه الكلمة.. وذهب آخرون إلى أن معنى النكاح هنا، الوطء، والتقاء الرجل بالمرأة..
وعلى المعنى الأول، يكون معنى الآية: أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا من زانية أو مشركة، وأن الزانية، لا يجوز لها أن تتزوج إلا من زان أو مشرك..
وهذا يعنى بدوره أن الزاني والزانية ليسا مسلمين، وأن لهما أحكاما تخالف أحكام المسلمين، إذا لا يجوز لهما أن يتزوجا من المسلمين، وأن لهما أن يتزوجا من المشركين.. وهذا مما لا يحلّ لمسلم أو مسلمة..
والثابت شرعا وعملا، أن الزانية والزاني، لم يخرجا من الإسلام بجريمتهما، وأن إقامة الحدّ عليهما تطهير لهما من الرجس الذي وقعا فيه.. ولهذا كانت كلمة من جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- معترفين بذنبهم، هى قولهم:
«طهرنى يا رسول الله» ! ..
ولهذا، فإن المعنى الذي تستقيم عليه الآية هو أن يكون «النكاح» بمعنى «الوطء» ، والتقاء الرجل بالمرأة.. ويكون معنى الآية حينئذ: أن الزاني لا يطأ إلا زانية، أي لا يتهيأ له الحصول على من يشاركه هذا الإثم إلا امرأة فاسدة فاسقة مثله. فهو فاسد فاسق، لا يستجيب له إلا فاسدة فاسقة، أو «مشركة» لا تؤمن بالله، ولا تخشى حسابا أو جزاء، فهى لهذا مستخفّة(9/1217)
بكل معنى من معانى الخلق والفضيلة، إذ لا ترجو بعثا، ولا تطمع فى ثواب ولا تخشى من عقاب..
وكذلك الشأن فى الزانية.. إنها لا تدعو إليها إلا فاسدا فاسقا، يستجيب لها، ويواقع المنكر معها، أو مشركا.. لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر..
وفى هذا تغليظ لهذا الجرم. واستخفاف بأهله.. وأنهم أهل سوء، يجتمع بعضهم إلى بعض.. فليس فيهما صالح وفاسد.. وإنما هما كائنان فاسدان، ينجذب بعضهما إلى بعض، كما ينجذب الذباب إلى القذر والعفن.
وفى قوله تعالى: «وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الفحش، أو هذا المنكر، قد حرّم على المؤمنين، لا يأتونه أبدا.. كما حرم عليهم شرب الخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به.. ومع هذا فإن بعض المؤمنين يأتى هذه المحرّمات، ولا تنزع عنه صفة الإيمان إلا فى حال تلبّسه بالمنكر..
وهذا ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يختلس خلسة وهو مؤمن.. يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله، فإذا رجع رجع إليه الإيمان» . أي أنه فى الحال التي يتلبس فيها يفعل هذا المنكر أو ذاك لا يكون الإيمان فى صحبته، إذ لو كان الإيمان معه، لكان له منه وازع يزعه عن مخالفة الله، والاعتداء على حدوده.. ففى تلك الحال يجلى الإيمان من قلبه، وينزع الثوب الذي يلبسه منه.. فإذا صدر عن هذا المنكر، وتاب إلى الله، ورجع إليه، عاد إليه الإيمان، وكان فى المؤمنين، العاصين..(9/1218)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
الآيات: (4- 10) [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8)
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
بعد أن بينت الآيتان السابقتان حكم الزانية والزاني، وما يجرى عليهما من عقاب، وما يكون لهما من مكان فى المجتمع الإسلامى- جاءت الآيات بعد هذا تبيّن شناعة هذه الجريمة، والخطر العظيم الذي ينجم عنها، حتى ليكاد يصيب كل من يقترب منها، فضلا عن أن يكون طرفا من أطرافها..(9/1219)
وهذه الجريمة لا تتم إلا بشهادة شهود أربعة، كما بيّنا، أو بالاعتراف أربع مرات، أو بالحمل فى غير فراش الزوجية.
أما الاعتراف بالزنا والإقرار به، فأمره موكول إلى من فعله، وأقرّ به، ليتطهر بالعقوبة، من الرجس الذي لبسه..
وأما الحمل فى غير فراش الزوجية، فهو منكر يمشى بين الناس، وفيه- مع المجاهرة بالفاحشة- اعتراف ضمنى..
وأما الشهود الذين يشهدون على واقعة الزنا، فهو موضوع هذه الآية، حيث تدعو الشهود إلى التثبت، والتحقق مما يشهدون عليه، وإلّا يعجلوا بالشهادة قبل التثبت والتحقق، وألا يتلقوا ما يشهدون به من أفواه الشائعات والأقاويل.. ذلك أن هذه الشهادة إذا تمت، كان من شأنها أن تهدر دم إنسان بالرجم، إن كان محصنا، أو تحطّم إنسانيته وتذهب بكرامته بالجلد، إن كان غير محصن.. إن آثارها فى كلا الحالين، قضاء على إنسانية إنسانين، وفضحهما وفضح من يتصل بهما من أهل وولد.. ومن هنا أقام الإسلام تلك الحراسة الشديدة على الشهادة، وعلى الشهود معا.. كما فصلنا ذلك من قبل! فمن رمى محصنة أو محصنا، وقذفهما بهذه التهمة علنا، كان عليه أن يأتى بأربعة شهداء، هو واحد منهم، أو أربعة ليس هو فيهم.. يشهدون على ما رأوا بأعينهم من التقاء المرأة والرجل، التقاء محققا، كما يلتقى الزوج بزوجه فى فراش الزوجية..
وقد ذكرت المحصنات، ولم يذكر المحصنون.. لأن المرأة تبعتها فى هذه الجريمة- إذا ثبتت- أفدح من الرجل.. وكذلك ذكر المحصنات، ولم يذكر غير المحصنات، لهذا السبب عينه..(9/1220)
فالجميع داخلون فى هذا الحكم، نساء ورجالا، محصنات، وغير محصنات، ومحصنين وغير محصنين..
وإنما ذكر الإحصان، للدلالة به على التعفف والتصوّن، وأن الذي يرمى بتلك التهمة إنما يرمى عفيفا متصونا، أو من شأنه أن يكون هكذا، أو من شأن المسلمين أن يظنوا به هذا الظن، قبل أن يتهموه..
فإذا لم يأت القاذف للمحصنة أو المحصن بأربعة شهداء، أو إذا أتى بهما ولم تتحقق التهمة من شهادتهم، لخلل فيها.. وقعوا جميعا- أي القاذف والشهود- تحت طائلة العقاب، واستحقوا شيئا من العقوبة التي كان يستحقها المتهم لو أن التهمة ثبتت عليه، وذلك بأن يجلد كل منهم ثمانين جلدة.. وليس هذا فحسب بل إنهم يخرجون من دائرة المسلمين العدول، فلا تقبل لهم شهادة أبدا..
وليس هذا وكفى، بل إنهم لينادى عليهم بأنهم فاسقون.. فتلك هى صفتهم- بل هذه هى صفتهم الخاسرة التي خرجوا بها من هذا الأمر الذي دخلوا فيه من غير تثبت، واستيقان..
وفى هذا كلّه دعوة للمؤمنين ألا يذيعوا الفاحشة فى المؤمنين، وألا يتعجلوا الفضيحة للمسلمين، وأن يستروا عليهم ما كان للستر موضع.. وليس معنى هذا ألا ينكر الناس المنكر، وألا يسوقوا أهله إلى موقع العقاب، وإنما هو الحذر والحيطة، وعدم الطّير فرحا، إذا اطلع المسلم على سوء من مسلم..! وأنه إذا أراد الكشف عن هذا السوء فليكن فى حذر، وفى مهل، وفى رفق، بل وفى أسى على هذا الذي غرق فى الإثم، ووقع بين أنياب الفتنة..!
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» استثناء من الحكم الذي قضى به الله تعالى على أولئك الذين يرمون المحصنات، ولم تكن بين أيديهم الحجة القاطعة، وقد تضمن هذا الحكم ثلاثة(9/1221)
أمور: جلدهم ثمانون جلدة.. وعدم قبول شهادة لهم أبدا.. ثم وسمهم بهذه السمة، وهى الفسق..
وقد اختلف فيما يقع عليه الاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أهو الجلد؟ أم عدم قبول الشهادة؟ أم وصفهم بالفسق.؟
ولا خلاف يعتدّ به فى وقوع الجلد.. لأن التوبة، إنما تجىء بعد وقوع العقوبة، لأن التوبة لا تدفع الحدّ عمن لزمه الحدّ ووجب عليه، إذا أعلن توبته..
وإنما هى طهرة له، مما بقي عليه من آثار فعلته، مما لم يذهب به الحدّ..
أما الخلاف فهو فى: هل التوبة ترفع عن الذين أقيم عليهم حدّ القذف، هذا الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم؟ وهل تزيل عنهم وصفهم بالفسق؟ ..
أكثر المفسرين على أن التوبة هنا إنّما تدخل بالاستثناء على الوصف بالفسق وحده. بمعنى أن المجلودين فى هذا الحد، إذا تابوا، وأعلنوا توبتهم على الملأ وأصلحوا ما فسد منهم، رفعت عنهم صفة الفسق.. أما الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم فهو قائم، لا ترفعه التوبة، لأنه جاء حكما مؤبدا، كما يقول سبحانه: «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» ..
وذهب بعض المفسرين إلى أن التوبة تدخل بالاستثناء على الأمرين معا:
عدم قبول الشهادة، والوصف بالفسق، وأن التأبيد هو تأبيد قائم ما لم تلحقه توبة.. وقالوا: إن المجلود فى الزنا، وهو أصل الجريمة، لم ينصّ على ردّ شهادته، فكيف ترد شهادة من جلد فى الشهادة على الزنا، وتقبل شهادة من زنى..؟(9/1222)
والحقّ أن هذا قياس مع الفارق- كما يقولون- فالزّانى الذي جلد فى الزنا إنما ارتكب جريمة، قامت عليه بالبيّنة، أو بالإقرار، أو بالحبل.. وفيها أن من أقرّ على نفسه، وطلب التطهير، هو شخص لم يقبل ضميره هذا المنكر، وأنه طلب بنفسه إنزال العقوبة به، ومثل هذا لا يمكن أن يشهد زورا، ومن ثمّ فهو عدل لا تردّ شهادته.. ومن جهة أخرى، فإن المجلودة أو المجلود فى الزّنا، قد غلبتهما شهوة، وتسلط عليهما هوى، وأنهما بهذا قد جنيا على أنفسهما، أما شاهد الزور هنا، فهو إنما دخل إلى هذا الأمر لما غلب على طبيعته من فساد، وليس عن حال طارئة، أو شهوة غالبة، ثم إنه بهذا الزور يجنى على نفسه كما يجنى على غيره.. وكذلك الشأن فى كل شهادة، هى فى أصلها مؤثرة فيمن شهد عليه..
فردّ شاهد الزور الذي ثبت عليه هذا، ثم أقيم عليه الحدّ فيه، هو حماية للناس من أن يجنى عليهم بشهادة الزور، وقد جرّب عليه هذا، وأنه إذا كانت شهادته قد ردّت هنا، ولم يؤخذ بها، فإنه إذا كان له أن يشهد بعد هذا وأن تقبل شهادته، فقد يشهد بالزور، وقد يقضى بما شهد به.. وفى هذا بلاء وشر، يقع على الناس منه..
وعلى هذا، فإننا نرى أن المجلود فى القذف لا تقبل شهادته أبدا.. وإن قبلت شهادة المجلود فى الزنا.. وبهذا يكون الاستثناء فى قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» واقعا على صفة الفسق، التي تسعها رحمة الله، وتشملها مغفرته.. لأن أمرها يتعلق بحق من حقوق الله.. أما شهادة الزور ففيها حق الناس، الذين تحمل عليهم هذه الشهادة.
ويؤيد هذا ما جاء فى الرسالة المشهورة المعروفة برسالة القضاء، والمنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه.. وفيها: «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حدّ، أو مجربا عليه شهادة زور، أو كان ظنينا فى نسب(9/1223)
أو ولاء» وقد جرى الفقه على هذا، وأخذ به القضاء! وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحُوا» إشارة إلى أن من تمام التوبة أن يصلح الرامي ما أصاب برميته من جراح، أصابت المقذوف فى شرفه وسمعته، كما أصابت أهله برذاذ من هذا الدم الذي يقطر من جراحه.. والإصلاح يكون بأن يعلن الرّامى على الملأ، أنه كان مخطئا، أو غير متحقق مما شهد به، أو أنه ألبس عليه الأمر، واختلط عنده الحق بالباطل.. إلى غير ذلك مما يطيّب خاطر المتهم، ويقطع ألسنة السوء فيه، أو يمسكها عن التمادي فى النيل منه..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» .
قررت الآية السابقة حكم الذين يرمون غير أزواجهم بتهمة الزنا، وفى هذه الآية بيان لحكم الذين تكون التهمة منهم موجهة إلى أزواجهم.. فللعلاقة الزوجية شأن فى هذا الأمر، غيره مع غير الزوج والزوجة..
فإذا وضع الرجل امرأته موضع التهمة، ورماها بهذا المنكر، لم يكن مطالبا لإثبات هذه التهمة بإحضار أربعة شهود يشهدون على هذا الأمر، إذ لا يقبل رجل على نفسه أن يعرض امرأته فى هذا المعرض، وأن يفضحها تلك الفضيحة المعلنة، على الملأ.. وإنما المطلوب منه هنا هو أن يستشهد نفسه، ويحتكم إلى دينه وضميره، فيستخرج من كيانه أربعة شهود يشهدون على لسانه أربع شهادات، وذلك بأن يشهد هو هذه الشهادة، ويحتملها ديانة أمام الله، فيقول مثلا: أشهد الله أنى رأيت زوجتى هذه، فلانة، مع فلان، فى حال تلبس بتلك الجريمة..(9/1224)
وإنى لمن الصادقين فيما شهدت.. ويكرر هذا أربع مرات.. ثم يجىء بالخامسة بعد هذا مواجها بها نفسه، فيقول: إنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ولا شك أن تكرار هذه الشهادة، وتكرار ذكر اسم الله معها فى كل مرة، مما يتيح للرجل فرصة فى أن يراجع نفسه، أو يرجع إلى الله إن كان أمره قائما على ظنون، وشكوك.
وفى المرة الخامسة التي يصبّ فيها لعنة الله عليه إن كان كاذبا، عملية يقف بها الإنسان على حافة الهاوية، ويطلّ منها على تلك الهوة العميقة التي سيتردّى فيها إذا هو مضى إلى غايته، ولم يكن متقيا الله فى نفسه، وفى المرأة التي يضربها الضربة القاضية، بهذه الكلمة تخرج من فمه..
روى الإمام الشافعي- رضى الله عنه- فى «الرسالة» أن رجلا لاعن زوجه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صار إلى الخامسة، التي يحسم فيها الأمر، قال صلوات الله ورحمته وبركاته عليه: «قفوه.. فإنها موجبة» ! والواقع أن الزوج لا يسوق زوجه إلى هذا الموقف، إلا إذا قامت بين يديه القرائن القاطعة، والأدلة الواضحة.. ولكن كثيرا من الأزواج قد تعميهم الغيرة، فيخالون غير الواقع واقعا.. ثم لا يرضون إلا أن يكون انتقامهم من المرأة على تلك الصورة الفاضحة المخزية، التي أقلّ ما فيها أنها تنفى نسبة الولد إليه، إن كانت حاملا..
أما المرأة التي وضعت هذا الموضع، ولا عنها زوجها- فإن أقرت بما شهد به، أقيم عليها الحدّ، ورجمت.. وإن أبت أن تقرّ، فإن عليها أن تردّ شهادته بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.. وذلك بأن تقول(9/1225)
مثلا: أشهد بالله أن فلانا زوجى كاذب فيما اتهمني به.. تكرر ذلك أربع مرات.. ثم تقول فى الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين..
وبهذا تدرأ عن نفسها العذاب الدنيوي، وهو الرجم.. أما فى الآخرة، فحسابها، وحساب زوجها على الله، سبحانه وتعالى، وهو الذي يعلم المحق من المبطل منهما.. إذ لا شك أن أحدهما كاذب.
ويترتب على هذا أن تطلّق المرأة من الرجل، ولها مهرها، من غير متعة، وتلزمها العدّة، ولا ينتسب ولدها الذي تأتى به إلى أبيه، بل ينسب إلى أمه، ولا يحلّ له زواجها أبدا.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
والدرء: الدّفع، والردّ.. والمراد بالعذاب هنا: الرجم.
قوله تعالى:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ» .
جواب لولا محذوف، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم، ورحمته بكم، وأنه تواب حكيم- لولا هذا لعنتّم، ولما عرفتم هذه الحدود، وتلك الأحكام التي بينها الله لكم، والتي يحسم بها ما يقع بينكم من شر وفساد، وضياع للأنساب..
ثم إنه تعالى: «تَوَّابٌ» يقبل العاصين منكم، ويردّهم إلى حظيرة المؤمنين الصالحين، إذا هم تابوا وأصلحوا، وهو سبحانه: «حَكِيمٌ» فيما حدّد من حدود ورصد من عقوبات، للمعتدين على حدوده.(9/1226)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
الآيات: (11- 20) [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
[حديث الإفك.. عبرة وعظة]
التفسير:
بعد أن بينت الآيات السابقة حكم الذين يرمون المحصنات، ثم حكم الذين(9/1227)
يرمون أزواجهم- جاءت الآيات هنا تبين حكما خاصا لواقعة خاصة، ترمى بها أحصن المحصنات، أم المؤمنين، عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم..
والقضية فى أصلها قضية واحدة، هى رمى المحصنات، واتهامهنّ بتلك التهمة الشنعاء.. وقد جاءت فى ثلاثة معارض، الأول عاما، والثاني خاصا، والثالث أخص..
فالمحصنات، يدخل فى حكمهن الزوجات، كما يدخل فيهن الإفك على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.
وإنما جاء الحديث عن الزوجات فى معرض خاص- وإن شملهن حكم المحصنات- لأن للعلاقة الزوجية- كما قلنا- اعتبارات خاصة، ينبغى أن يكون لها حساب وتقدير، غير حساب الأجنبى الذي يرمى محصنة أو محصنا.. كذلك، أم المؤمنين- عائشة- هى غير عامة المحصنات، وهى غير الزوجة.. إنها الأم لكل مؤمن ومؤمنة، فكان لا بد أن يكون لأمرها هنا ذكر خاص، وأن يتولى القرآن الكريم الكشف عن تلك الفرية التي افتريت عليها، وأن يمسك بأهل الإفك، ويسجل فضيحتهم، لتبقى عالقة بهم إلى الأبد..
والرأى عند المفسرين، والفقهاء، والأصوليين- أن بين الحكم الخاص بقذف الزوجات، وبين الحكم العام المتعلق بقذف المحصنات- تناسخا، وأن الآية الثانية ناسخة لعموم الحكم فى الأولى.. أي أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ.. الآيات» ناسخ لعموم الحكم فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً..»
والرأى عندنا أنه لا تناسخ بين الحكمين.. فكل من الحكمين عامل(9/1228)
فى موضعه، وكل من الآيات، السابقة واللاحقة تقرر حكما لا يتعارض، ولا يتداخل مع صاحبه..
فالآيات الأولى، خاصة بقذف المحصنات حين يكون القاذف غير زوج..
ولهذه الحالة حكم خاص بها، وهى أن القاذف مطالب بأن يأنى بأربعة شهداء، وإلّا جلد ثمانين جلدة، ثم لا تقبل له بعد هذا شهادة أبدا.. ثم هو من الفاسقين..
أما الآيات الأخرى، فهى خاصة بقذف الزوج زوجه.. والحكم فى هذا، هو التلاعن بينهما، وما يترتب على هذا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل..
والذي أدخل الشبهة على القائلين بالتناسخ بين الآيات، هو وجود كلمة «الْمُحْصَناتُ» هنا، وهناك.. فافترضوا لهذا عمومية الحكم فى الآيات الأولى، بحيث يشمل الزوجات وغيرهن، وعدّوا إفراد الزوجات بذكر خاص فى الآيات الأخرى، تخصيصا لعموم الحكم.. وهو عندهم- أي التخصيص- من قبيل النسخ الوارد على الحكم العام! وهذا غير صحيح من وجهين:
فأولا: المحصنات فى الآيات الأولى، إنما يراد بهن العفيفات المتحصنات بعفتهن، سواء أكنّ متزوجات أم غير متزوجات، كما أنه يشمل- ضمنا- المحصنين من الرجال، بهذا المعنى أيضا، وهو المتحصّن بالعفة، سواء أكان متزوجا أم غير متزوج..
أما «المحصنات» فى الآيات الأخرى، فالمراد بهن- نصا- المتزوجات، سواء أكنّ- فى واقع الأمر- عفيفات أم غير عفيفات.
وثانيا: الذين يرمون المحصنات، أو اللائي يرمين المحصنين، فى الآيات(9/1229)
الأولى حكم خاص، لا يلتقى معه الحكم الذي يقع من التلاعن بين الزوجين، فى أي وجه من الوجوه..
وإذن فلا تناسخ بين الآيات السابقة واللاحقة، بالتخصيص أو غيره.. وإنما كل من السابق واللاحق من الآيات له موضعه، وله الحكم الواقع على هذا الموضع..
ونعود بعد هذا إلى حديث الإفك.. وقد جاء كما قلنا فى معرض خاص به، لأنه أشنع ما يقع فى هذا الباب، من صور القذف..
وقد جاء القرآن الكريم بالحكم أولا على هؤلاء الذين افتروا تلك الفرية المنكرة، وأذاعوا هذا البهتان العظيم.. فقال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
وقد تضمن هذا الحكم أمورا، منها:
أولا: وصف هذا الحدث الذي أثار البلبلة فى الخواطر، والاضطراب بالنفوس- بأنه «إفك» .. والإفك هو الافتراء، وخلق الأباطيل، ونسجها من الكذب والبهتان..
وثانيا: تصوير هذا «بِالْإِفْكِ» الذي جرى على ألسنة المؤتفكين، فى صورة مجسّدة، وأنّه شىء مجلوب جاءوا به من عالم الظلام، وتعاملوا به، وتبادلوه، فيما بينهم، كما يتبادلون النقد الزائف: «جاؤُ بِالْإِفْكِ» وثالثا: وصف الجماعة التي جلبت هذا «بِالْإِفْكِ» واستوردته من ظنونها السيئة، وأوهامها الضالة- وصفها بأنها «عُصْبَةٌ» تداعت على الإفك،(9/1230)
واجتمعت عليه، وأصبحت عصبة له، لما بينها من علائق التلاحم، والترابط، والتوافق، فى فساد العقيدة، وضعف الإيمان، والانجذاب نحو الشرّ..
ورابعا: أن هذه العصبة التي جاءت بالإفك- شأنها فى ذلك شأن كل عصبة- لها رأس فاسد يقودها إلى الشرّ، ويجمعها عليه.. ومن وراء هذا الرأس، أعضاء، تعمل معه، ولكل عضو مكانه ودوره الذي يقوم به.
وخامسا: هذه العصابة الآثمة التي جاءت بهذا الإفك- لها حسابها، وجزاؤها عند الله.. أما زعيمها، ولذى تولّى كبر أمرها، فله عذاب عظيم، أضعاف ما يلقاه غيره من الذين معه..
وسادسا: هذا الحديث الآثم، وإن بدا فى ظاهره أنه شرّ تأذّت به النفوس الطاهرة، وضاقت به الصدور الكريمة- فإنه يحمل فى طيّاته خيرا كثيرا، حين ينجلى هذا الدخان، ويتبدد هذا الضباب، فيسفر وجه الحق، ويكشف عن آية من آيات الله، فى الطّهر، والعفّة، والتصوّن..
وحديث الإفك- كما يروى- هو أن أم المؤمنين «عائشة» رضى الله عنها، كانت فى صحبة النبىّ صلى الله عليه وسلم فى إحدى غزواته، ويقال إنها غزوة- بنى المصطلق- وفى طريق العودة، نزل النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منزلا، فلما آذنوا بالرّحيل، كانت أم المؤمنين، عائشة، تقضى حاجة لها، بعيدا عن هودجها الذي كانت تحمل عليه، وإذ كانت فى عجلة من أمرها، فقد افتقدت عقدا لها.. فلما التمسته ولم تجده، وهى فى طريقها إلى هودجها، عادت تبحث عنه، فلما وجدته، وأسرعت لتأخذ مكانها فى رحلها، كان القوم قد احتملوه، وكانت صغيرة، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا إلى شىء مما حدث، وظنوا أنها فى الرحل الذي حملوه..(9/1231)
وحين وصلت إلى مكانها، كان النبىّ وأصحابه قد بعدوا عنها، وهم على يقين من أنها فى هودجها، على راحلتها التي يقودونها معهم..
والذي صنعته أم المؤمنين عائشة فى تلك الحال، هو أنها جلست فى مكانها، تنتظر عودة من يعود إليها من القوم، بعد أن يفتقدوها فى الرحل، فلا يجدوها..
وكان من العادة أن يتخلّف وراء القوم من ينتدبونه، لينظر.. إذا استبان النهار- فيما خلّفوه وراءهم من أدواتهم، وأمتعتهم، فيلتقطها، ويحملها معه إلى أصحابها.. وذلك أنهم كانوا يرتحلون ليلا، فتندّ عنهم بعض الأشياء التي يحجبها الظلام عنهم..
وقد كان «صفوان بن المعطل» - رضوان الله عليه- هو المنتدب لهذه المهمّة.. فلما استبان ضوء النهار، وجاء حيث كان منزل الرسول وأصحابه فى تلك الليلة، رأى سوادا، لم يتبيّنه أول الأمر، وظنّه متاعا من أمتعة القوم، فلما داناه رأى كائنا يتحرك فى داخله- وكان الحجاب قد ضرب على نساء النبىّ- فلم ير لأم المؤمنين، وجها، ولكنه عرف أنها أم المؤمنين، فاسترجع، ثم أناخ لها بعيره، فركبته، وقاده بها حتى أدرك النبىّ وأصحابه فى بعض الطريق..
دون أن ينطق بكلمة.
هذا هو مجمل القصة..
ولكن المنافقين- وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول- أخذوا يتهامسون ويتغامزون، ثم تحول همسهم وتغامزهم إلى اتهام صريح لأم المؤمنين، على هذا الصحابي الجليل، صفوان بن المعطل.! ثم أخذ هذا الحديث يدور فى المدينة، والمنافق عبد الله بن أبىّ ينفخ فيه، حتى أصبح نارا مشتعلة، علقت بأذيال المسلمين، وأكلت كثيرا من القلوب المؤمنة.. كما أنها أكلت ما بقي من إيمان فى قلوب المنافقين والذين فى قلوبهم مرض!(9/1232)
وقد بلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم، قالة المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ.. واستأذن بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قتل هذا المنافق، وقتل من كان على شاكلته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى عليهم ذلك، وفوّض أمره إلى الله، فى هذا المنافق ومن معه..
أما أم المؤمنين، فإنها كانت فى غفلة عن هذا الذي يتحدّث به المنافقون فى شأنها، وكانت فى تلك الأيام متوعكة، تلازم فراشها- وربما كان ذلك لما أصابها من مشقة السفر.. وقد استشعرت بطبيعة الأنثى إعراضا من النبىّ صلى الله عليه وسلم عنها، إلا أنها لم تعرف لذلك سببا..
كل هذا، والحديث يدور حولها، والعاصفة تزمجر عن يمينها وشمالها، وهى الغافلة عن كل هذا، غفلة أهل البراءة، المشغولة بدينها عن دنياها، شغل المؤمنين بالسماء، عما يشغل به الناس فى الأرض..
وفى ليلة.. خرجت أم المؤمنين، مع قريبة لها، هى أم مسطح، لقضاء حاجة فى الخلاء.. وكان أن عثرت أم مسطح أو تعمدت العثار، لتنطق بتلك الكلمة التي تريد أن تلقى بها إلى أسماع أم المؤمنين، ولتتخذ منها مدخلا إلى الحديث الذي تريد أن تفضى به إليها، وهى فى غفلة عنه- فقالت أم مسطح حين عثرت أو تعاثرت: «تعس مسطح» تريد ابنها مسطحا! فقالت أم المؤمنين بئس ما قلت يا أم مسطح فى رجل شهد بدرا! فقالت أم مسطح: لا، وتعسا له!! أما سمعت ما يقول مسطح؟ فقالت وما يقول؟ .. فأخبرتها ما يدور على الألسنة من حديث الإفك، ومن التهمة الظالمة التي يرميها بها المنافقون، ويتلقاها عنهم كثير من الثرثارين.. ومنهم مسطح!! وهنا تنبهت أم المؤمنين إلى ما كانت غافلة عنه، واسترجعت موقف النبىّ منها، وعرفت سبب إعراضه عنها، وأنه لم يكن لذلك من سبب إلا هذا الحديث،(9/1233)
وأن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- قد وقع منه هذا الحديث موقعا..
فكربت لهذا واضطربت، ورجعت إلى البيت محمومة يكاد يقتلها الأسى، ويفرى كبدها الألم! ثم استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمرّض عند أبويها.. فأذن لها!! .. وكان ذلك مما ضاعف فى بلوتها، لأنها ما استأذنت إلا لترى ما عند النبىّ لها.. فلما أذن لها عرفت ما هناك! ثم كان حديث عاصف ثائر، كادت تزلزل به أركان هذا البيت الكريم، بيت الصدّيق رضى الله عنه..
ولا نحسب أن أمرا عرض لأبى بكر، منذ صحب الرسول إلى هذا اليوم، كان أشدّ وقعا عليه، وابتلاء لصبره، وإيمانه، وإيثاره لرسول الله صلى الله عليه وسلم- من هذا الأمر، الذي هيأ نفسه فيه لتقديم ابنته، وشرفه، على مذبح التضحية والفداء، فى سبيل الله، ومن أجل رسول الله..
إنه- رضوان الله عليه- لم ينظر إلى نفسه، ولا إلى ابنته، وإنما نظر إلى رسول الله، وما أصابه فى نفسه من هذا الأمر.. وإنه ليودّ مخلصا أن لو نزل طير من السماء، فاختطف ابنته، أو انشقت الأرض فابتلعتها، إذ كانت- فى نظره يومئذ- هى الشوكة التي شاك بها المشركون والمنافقون رسول الله..
وإنه لا شىء أبغض إلى الصديق- رضوان الله عليه- من شىء يجىء إلى رسول الله منه ما يسوؤه، ولو كانت نفسه التي بين جنبيه، أو كانت فلذة كبده..
عائشة، رضوان الله عليها! إن الصدّيق- رضوان الله عليه- لم يكن ينظر إلى تلك الفرية إلا من حيث ما أصاب الرسول منها من أذى..
وسواء أصحت عنده تلك التهمة أو لم تصح.. فإنها آذت النبيّ.. والصدّيق لا يهمه فى الدنيا شىء، إلا أن يرى النبىّ معافى من كل ضرّ، بعيدا عن كل(9/1234)
أذى.. أما ما وراء ذلك- وإن عظم- فهو هين، يمكن أن تتحمله النفس وتصبر عليه..
ومن هنا ندرك، ما كان يعالجه الصدّيق من هموم، وما يعاينه من آلام! ..
فهو- كمؤمن من المؤمنين، وأكثرهم حملا لأعباء الإسلام- قد أخذ بنصيبه الأوفى من تلك التهمة..
ثم هو كأكثر المؤمنين حبّا لرسول الله، وتعلقا به، وإيثارا له.. قد ذهب بالنصيب الأوفر منها..
ثم هو كأب لأم المؤمنين، وكسيد من سادات القوم، يحرص على شرفه- قد أخذ نصيبه كاملا منها..
ومع هذا كله، ومع تلك الأعباء الثقال التي حملها- فإنه- رضوان الله عليه لم ير النبىّ إلا ما يحبّ، ولم يسمعه إلا ما يرضيه.. وإنه لو استطاع أن يحمل عن النبىّ ما حمل من هذا الأمر لفعل.. ولكنه كان أبدا مع قوله تعالى:
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ..
ومن هنا أيضا ندرك بعض السرّ فى أن كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، ومن فضله العظيم على أبى بكر وإحسانه العميم إليه.. أن تتنزل رحمات الله على هذا البيت الكريم، الذي تعرض لهذه العاصفة الهوجاء المجنونة، وأن يطلع منه هذا النور السماوىّ الوهاج، الذي يفضح دعاة الإفك، ويخزيهم، ويسمهم بسمات الذلة، ويقيمهم فى قفص الاتهام إلى يوم الدين، حيث ينظر إليهم نظرة اتهام، كلّ قارئ لكتاب الله، مرتل لتلك الآيات البينات، التي نزل بها الروح الأمين على الرسول الكريم، فى بيت الصدّيق، وعلى مشهد(9/1235)
منه، ومن أهله جميعا..
ففى زورة للرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لآل أبى بكر، وهم فى هذه المحنة القاسية، وفى أثناء حديث مرير، حرج، مزعج، بين رسول الله، وبين أم المؤمنين- تهبّ على هذا الجمع الكريم ريح طيبة، كأطيب ما يكون الطيب، ويخلص إلى نفوس الجمع منها، أنفاس عطرة، تشيع السكينة، والأمن، والرضا، فيجد لها كل من ضمه هذا المجلس الطيّب فى رحاب هذا البيت الكريم- نغما علويا، يصدح بألحان مسعدة، تزفّ بين يديها آيات الله محمولة على أجنحة نورانية، ترف حول رسول الله، وتوشك أن تشتمل عليه..
ويمسك القوم عن الحديث بعد أن اتصل رسول السماء بالنبيّ، وتسكن الجوارح، وتبهر الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول الله، وما غشيه من هذا النور المتدفق من السماء..
ويأخذ الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما يأخذه من الوحى، والقلوب واجفة، والأبصار زائغة. والنفوس قلقة.. لا يدرى أحد ما جاءت به السماء، وما يكون لها من حديث عن هذا الحدث الصاعق! وإن كانت السيدة عائشة على إيمان وثيق بربّها، وعلى ثقة مطلقة بطهرها، وبراءتها- فإنها ما كانت تتوقع- كما كانت تحدث عن نفسها فيما بعد- أن ينزل فى شأنها قرآن، وأن تتنزل من السماء آيات تزكّيها، وتدمغ الباغين عليها!.
فلما انفصل الوحى عن رسول الله، وسرّى عنه- نطق وجهه الكريم بشرا، ونورا، قبل أن ينطق لسانه بما نزل على قلبه من كلمات ربه.. وعرفت السيدة عائشة، ومن معها أن قرآنا قد نزل ببراءتها.. وما هى إلا لحظة- مرت كأنها دهر- حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة قائلا:
«أبشرى يا عائشة. أما الله عز وجل فقد برّأك» !! فقالت: بحمد الله لا بحمدك!(9/1236)
فقالت لها أمها: قومى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي» !! إنها ثورة الحرة على شرفها، وعلى شرف النبىّ الذي شرفت بزواجها منه، وعلى شرف بيت النبوّة الذي ضمّت إليه، وعلى شرف بيت الصديق الذي نبتت منه!!.
وتهدأ العاصفة، وتخمد نار الفتنة، ويخرج أبو بكر وآله من هذه المحنة بأعظم مغنم، لم يكن لأحد من المؤمنين أن يشاركه فيه.. فقد نزل الوحى فى بيت أبى بكر، بستّ عشرة آية من القرآن الكريم، هى فى شأن أبى بكر، وبنت أبى بكر! لقد كان المسلمون يتعبدون فيما يتعبدون به من آيات القرآن الكريم، بقوله تعالى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا.. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (40: التوبة) - وإنهم منذ الآن ليتعبدون إلى آخر هذه الحياة الدنيا، بتلك الآيات الست عشرة أيضا.. وكأنّ ذلك استغفار متصل من المؤمنين جميعا لأبى بكر، وبنت أبى بكر، من هذا المنكر الذي جاءت به عصبة من المؤمنين!.
وانظر إلى تدبير الله سبحانه، وإلى غيوث رحمته، وسوابغ فضله على المخلصين من عباده..
لقد كانت هجرة النبىّ، وإخراجه من بلده، والمسجد الحرام، غاية ما وصل إليه المشركون من إيذاء للنبىّ، فى مشاعره.
وكان «الغار» على طريق الهجرة، الغاية القصوى لما كان يمكن أن(9/1237)
يبلغه المشركون من النبىّ وصاحبه الصديق، لو أنهم ظفروا بهما، وقد كانوا على بضع خطوات منهما!! وإنه ليس لهذه الآلام النفسية القاسية من شفاء إلا فى آيات الله، التي يقول سبحانه وتعالى فيها: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
(82: الإسراء) وقد نزل ما فيه الشفاء والرحمة: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ..»
فأخذ أو بكر نصيبه من هذا من الشفاء والرحمة.
وفى حديث الإفك، كان المنافقون ومرضى القلوب من المسلمين، يمثّلون دور المشركين فى مكة.. لقد آذوا النبىّ فى مشاعره، وفى الدعوة التي يقوم عليها، إذ أن هذا الحديث لو جرى إلى غايته، ولم تعالجه السماء بهذا الدواء الرباني، لكان معولا يهدم فى صرح الإسلام، الذي لم يتم بناؤه بعد، ولكان فى يد الذين يكيدون لهذا الدين حجة قوية عليه، فى عدوان أصحاب النبىّ على حرماته ومقدساته، لا يخافون عقاب الله، ولا يوقّرون الذي يدعوهم إلى الله..
ولكان لقائل أن يقول: إن أصحاب محمد هؤلاء، لو وجدوا فى هذا الدين، أو فى الداعية إلى هذا الدين ما يبعث فى قلوبهم خشية، أو توقيرا لما جرؤ أحدهم على فعل هذا الذي يجرى به هذا الحديث الأثيم! نعم.. لقد كان النبىّ، ومعه صاحبه أبو بكر، ومعه المؤمنون الصادقون، يجدون من وقع ألسنة الذين جاءوا بهذا الإفك، ما كانوا يجدونه وهم فى مكة على يد المشركين، وما يرمونهم به من ضرّ وأذى..
وكان فراق النبىّ للسيدة عائشة، وقبول انتقالها إلى بيت أبويها لتمرّض هناك وتستشفى مما ألمّ بها، أشبه بفراقه- صلوات الله وسلامه عليه- لبلده، وأهله، إلى حيث يطلب السلامة والعافية، فى مهاجره الذي هاجر إليه.(9/1238)
ثم كان بيت الصديق، الذي أوت إليه أم المؤمنين أشبه «بالغار» .. حيث كثر الطلب للحديث عنها، وعلت الأصوات الخافتة للقالة فيها، بعد أن خرجت من بيت النبىّ، إلى بيت أبويها..
ثم لم يكن لهذا البلاء العظيم إلا ما ينزل من رحمة السماء، حتى يردّ للنفوس الطاهرة اعتبارها، ويأخذ لها بحقها، ويجزيها الجزاء العظيم على صبرها واحتمالها.. فنزلت تلك الآيات الست عشرة، التي رفعت قدرا رفعه الله وأراد المنافقون ومن فى قلوبهم مرض أن ينالوا منه.. فكان أن زاده الله رفعة إلى رفعة، وشرفا إلى شرف، وذكرا باقيا خالدا على الدهر.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» .. وأي خير أعظم من هذا الخير؟ وأي شىء فى الدنيا كلها يعدله، أو يعدل بعضا منه؟
قوله تعالى:
«لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» ..
لولا: حرف تحضيض، بمعنى هلّا.. فهو استفهام يراد به الحثّ على إتيان الأمر المستفهم عنه..
والمعنى: لقد كان من الخير لكم أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات، إذ سمعتم هذا المنكر- أن تنكروه، وتردوه على أهله الذين جاءوا به.. حيث أن التي ترمى به، امرأة مؤمنة منكم، بل هى أم المؤمنين، وزوج الرسول الكريم..
وكل صفة من تلك الصفات هى وحدها أمان لها من الزلل والعثار، ووازع قوى يزعها عن الاعتداء على حدود الله، فكيف إذا اجتمعت لها هذه الصفات جميعها؟ ..(9/1239)
وفى قوله تعالى: «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» أمور.. منها:
أولا: الإشارة إلى تلك الرابطة القوية الوثيقة، التي تربط المؤمنين جميعا بعضهم ببعض، بحيث يكون ما يعرض لأحدهم من عارض يمسّه، فى نفسه، أو دينه، أو مقامه فى مجتمعه- هو مصاب يصاب به المجتمع المؤمن كلّه.. فالمؤمنون كما وصفهم القرآن الكريم «إِخْوَةٌ» كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» .. ثم هم كما وصفهم الرسول الكريم «جسد» بحكم هذا الرباط الأخوة الذي يربطهم، ويشد بعضهم إلى بعض.. يقول الرسول- صلوات الله وسلامه عليه «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر» .
وثانيا: الإشارة إلى أن المؤمن حقّا، إنما ينظر إلى المؤمنين من خلال نفسه، فإذا كان على السلامة فى دينه، والاستقامة فى طريقه، رأى المؤمنين جميعا مثله، على تلك الصفة.. وهذا من شأنه أن يلفت المؤمن إلى نفسه أولا.. فإذا سمع عن مؤمن ما ينقص من إيمانه، أو ما يشير إلى انحراف فى سلوكه- ثم استقبل هذا الذي سمعه، ولم يضق صدره به، ولم تألم نفسه له- كان عليه أن يتهم إيمانه أولا، لأنّه قبل أن يدخل عليه هذا المنكر، الذي دخل على المؤمنين جميعا، وأضيف إليهم، بحكم الوحدة القائمة بينهم.. ثم إذا هو هشّ لهذا الذي سمعه، أو طار به فرحا- فليعلم أنه ليس من الإيمان إلا على حرف، وأنه موشك أن ينفصل عن الإيمان، ويقطع صلته بالمؤمنين.. ثم إذا هو لم يقف عند الحدّ، وأطلق لسانه بهذا المنكر الذي سمعه، وعمل على إذاعته، ونشره فى الناس- فليعلم أنه- مادام على تلك الحال- فهو ليس من الإيمان فى شىء، وأنه قائم على منكر، لا يجتمع هو والإيمان، فى كيان إنسان.
وثالثا: الإشارة إلى أن المؤمن من شأنه أن يكون مبرّا من التهم، بعيدا(9/1240)
عن مواطن الشبهات.. وأنه أبدا على هذه البراءة حتى تثبت إدانته.. أما قبل هذا، فإن كلّ كلمة سوء تقال فيه، هى إثم كبير، وبهتان عظيم.. يستحق قائل السوء فيه أن يساق إلى موقف الاتهام، وأن يطالب بالدليل القاطع على صدق ما يقول، وإلا فالحدّ فى ظهره.. تأديبا له، وقصاصا لحرمة هذا المؤمن، أو المؤمنة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» (194:
البقرة) ..
قوله تعالى:
«لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» .
«لَوْلا» هنا للتمجيز، وليست للتحضيض.. إذ لم يكن من الممكن الإتيان بأربعة شهداء، يشهدون على هذا المنكر، لأنه إن أمكن اصطياد أربعة ممن يشهدون عليه زورا، فإن الزور سينفضح، حيث ستختلف أقوالهم، وتضطرب ألوان الصورة التي يصورون بها الواقعة المزورة، لأن كلا منهم يصورها حسب ما تمليه عليه أوهامه وخيالاته، وهيهات أن يلتقى وهم مع وهم، أو يجتمع خيال إلى خيال، وإن أحكموا فيما بينهم تدبير الأمر، وعملوا على سد الخلل فيه!! وفى قوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ» - إشارة إلى أنهم لم يأتوا بهم، لأن هذا الأمر لم يشهده أحد.. فقد كانت أم المؤمنين، وكان معها صفوان ابن المعطّل.. ولم يكن أحد غيرهما، وذلك على ما رأى المسلمون وغير المسلمين جميعا.. فأى شاهد يمكن أن يجىء ويقول: إنه شهد شيئا كان بين أم المؤمنين وصفوان؟.(9/1241)
وهذا هو السر فى التعبير بالظرف «إذ» بدلا من أداة الظرف الشرطية «إذا» أو «إن» كما يبدو من ظاهر النظم..
وفى هذا ما يجعل هذا الخبر واقعا محققا، وهو قوله تعالى: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» .. أي أن هؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، موسومون عند الله بالكذب.
وقوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ» .. هو ظرف تقع فى حيّزه الجملة الخبرية.. وتقدير النظم هكذا: هاتوا أربعة شهداء.. وإنه لا شهداء معكم، وإذن فأنتم عند الله الكاذبون، إذ أنكم لم تستطيعوا أن تجدوا من يشهد على افترائكم وبهتانكم.
وفى قوله تعالى: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء الذين جاءوا بالإفك، ليسوا كاذبين عند الناس، وحسب، بل إنهم فى حقيقة الأمر كاذبون فعلا.. وهذا ما سجله الله عليهم، ووصفهم به فقد يكون الإنسان فى نظر الناس كاذبا فى حديث تحدث به، أو شهادة شهد بها، وهو فى واقع الأمر صادق.. وإن لم تقم قرائن للناس منهم، حين لم يكن معهم شاهد على بهتانهم..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ» .
أفاض فى الأمر: أي بالغ فيه، وأكثر منه. وأفاض فى الحديث:
توسّع فيه، وجاوز الحد..(9/1242)
والخطاب موجه إلى المؤمنين جميعا، وأنهم يحملون شيئا من وزر هذا الحديث الآثم، الذي تردد فى آفاقهم، وأن الذين لم يشاركوا فيه، ولم يستمعوا له، وقد مسّهم شىء من ريحه الخبيثة.. فهؤلاء الآثمون الذين افتروا هذا البهتان العظيم، هم بعض هذا المجتمع الكبير.. وأنه لو وقع بهم بلاء الله، لأصاب رذاذه من لا ذنب له من المؤمنين.
ولكن فضل الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإحسانه إليهم، قد اتسع لهؤلاء المذنبين، فشملهم.. وبدلا من أن يقع البلاء بالمذنبين، ويتسرب إلى غيرهم من المؤمنين، أراد الله للمؤمنين الحسنى، فجعل إحسانه إلى المؤمنين، وقاية من إساءة المسيئين، ثم جعل من هذا الإحسان شيئا ينال الآثمين، فلم يعجّل لهم العذاب فى الدنيا، بل مدّ لهم فى هذه الحياة، ليجدوا فرصتهم فى التوبة إلى الله، وقد تاب كثير منهم، وقبلت توبتهم، وحسن إيمانهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ..
قوله تعالى:
«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» .
تلقونه بألسنتكم: أي يلقيه بعضكم إلى بعض، وتتداوله الألسنة، كما تتداوله الأيدى الأشياء فيما بينها! وهذا يعنى، أن حديث الإفك الذي تداوله المتداولون بينهم، لم يكن إلا بضاعة رخيصة من لغو الكلام، الذي تتحرك به الألسنة وحدها، دون(9/1243)
أن يكون له دافع من عقل أو رأى.. إنه حركة آلية، لا يشترك فيها من كيان الإنسان إلّا اللسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» - أي أن هذا الحديث المدار بينكم فى هذا الأمر، هو حديث ألسنة، لا تنطق عن علم، ولا تأخذ عن عقل، أو منطق.. إنه حديث لسان يأخذ عن لسان، حتى دون أن يمر على الأذن! «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» .
وإنه لإعجاز من القرآن الكريم هذا التصوير المعجز الشائعات السوء، حين تجد من الناس آذانا مصغية إليها، ونفوسا مستجيبة لها.. إنها حينئذ تنطلق فى سعار وجنون، بحيث لا تدع للناس فسحة من الوقت يتلقونها بآذانهم، ثم يديرونها فى عقولهم ومشاعرهم، ليكون لهم خيار فى قبولها أو ردها، بل إنه يلقى بها على ألسنتهم خلقا مصنوعا، مجهزا للتعامل به على صورته تلك.. إنها كلمات مردّ الحكم فيها إلى الألسنة..
فلتذقها الألسنة إذن، ولتحكم عليها بما تذوق منها.. وإن كثيرا من الناس، ليقفون بالكلام على حدود ألسنتهم، ويفوّضون لها الأمر فيما تقبل منه أو ترفض.. وإن لكلمات السوء لحلاوة على ألسنة أهل السوء والفساد، يترشفونها كما يترشفون الماء البارد على ظمأ، فى يوم قائظ!.
وفى قوله تعالى «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» تحذير لهؤلاء الذين يستخفّون بالكلمة، وينفقون من رصيد ألسنتهم بغير حساب.. ظانين أن ذلك لا يضيرهم فى شىء أبدا، ما دام الذي ينفقون لا يكلّفهم جهدا أو مالا..(9/1244)
وهذا ظن خاطئ.. فالكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، وإنما هى- فى حقيقتها- رسالة من الرسالات إلى عقول الناس، قد تكون طيبة، فتحمل إليهم الخير والهدى، وقد تكون خبيثة، فتسوق إليهم البلاء والهلاك.. وقد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة فقال سبحانه: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» .. وكذلك ضرب الله مثلا للكلمة الخبيثة، فقال سبحانه: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (24- 26:
إبراهيم) ..
فالكلمة فى حساب المبطلين، والمفسدين، وأصحاب النفوس المريضة، والعقول الفارغة- شىء رخيص، لا وزن له، ولا ثمن للقليل أو الكثير منه..
وهى عند أهل الرأى والعقل، والحكمة، والإيمان.. شىء عظيم، هى آية الله فى الإنسان.. بها كان إنسانا، وكان خليفة الله فى الأرض.. وبالكلمة خلق الله السموات والأرض، وما فيهن ومن فيهن.. وبالكلمة صاغ الإنسان هذه المصنوعات التي ملأ بها وجه الأرض. فلولا الكلمة ما ولدت الأفكار، ولولا الأفكار ما ظهر للإنسان عمل أكثر من عمل الحيوان على الأرض..
وهذا الحديث الآثم، الذي انطلق فى آفاق المدينة، وتداولته بعض الألسنة فى غير تحرج أو تأثم، هو أخبث ما تنطق به الأفواه من كلم، إذ كان زورا وبهتانا، وافتراء على الحق فى أرفع منازله، وعدوانا على الطهر فى أشرف مواطنه..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» ..(9/1245)
هو بيان من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين خاضوا فى هذا الحديث، أو استمعوا له، أو سكتوا عنه، وتوجيه لهم إلى الموقف الذي كان ينبغى أن يقفوه من هذه الفتنة، وتلقين لهم بالكلمة التي كان يجب أن يلقوا بها هذا البهتان العظيم.
فليس للمؤمن إلا موقف واحد من هذا الحديث، وهو إنكاره، وبهت المتحدثين به، ووضعهم موضع التهمة بالكذب والافتراء..
وفى قوله تعالى: «إِذْ سَمِعْتُمُوهُ» - إشارة إلى أن الأمر لم يكن إلا حديثا يدار على الألسنة، ويلقى به على الأسماع، وأنه لم يكن عن رؤية ومشاهدة..
وفى قوله تعالى: «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا» إشارة أخرى إلى أن هذا الحديث الآثم، لا ينبغى لمؤمن أن ينطق به، لأنه عدوان على النبىّ، وجرح غائر لمشاعره، وإيذاء شديد له.. وليس مؤمن ذلك الإنسان الذي يسوق إلى النبي شيئا يسوءه، أو يخدش مشاعره.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (61: التوبة) .
فلو فرض وكان هذا الأمر على شىء من الحقيقة- فإن الإيمان بالله ورسوله يقتضى المؤمن أن يدفع هذا السوء الذي يعرض للنبى، وأن يتلقاه دونه، ويحمله عنه.. إن وجد إلى ذلك سبيلا..
أما أن يكون خطبا يزيد النار اشتعالا، فذلك هو الذي لا يجتمع معه إيمان، ولا يبقى معه دين.. لأن الإيمان ولاء، وحب وتقديس، والدين عبادة وصلاة وتسبيح..
قوله تعالى:
«يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .(9/1246)
هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى المؤمنين، ألّا يعودوا إلى مثل هذا الأمر، وألا يخوضوا فى أعراض المسلمين، وألا يجعلوا لكلمة السوء مكانا فى قلوبهم، أو موضعا على ألسنتهم، أما هذا الحديث الذي حدث، فالله سبحانه وتعالى، قد عاد بفضله على الذين عضهم الندم، وجاءوا إلى الله تائبين مستغفرين..
فالخطاب هنا موجه إلى كل من كان له مشاركة فى هذا الأمر، من قريب أو بعيد.
وفى قوله تعالى: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ» - إشارة إلى أن الذين اشتركوا فى هذا الحديث لم يهلكوا بعد، وأنهم مدعوون إلى أن يستمعوا إلى ما يوعظون به، فإن قبلوا الموعظة وعملوا بها نجوا، وإلا فهم فى الهالكين.
وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الذين توجّه إليهم هذه العظة إنما هم الذين يحرصون على الإيمان، ويدفعون عن أنفسهم كل ما يشين إيمانهم، أو ينقصه.
قوله تعالى:
«وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
هو إشارة إلى أن ما وعظ به المؤمنون فى الآيات السابقة، هو ما اقتضته رحمة الله بالمؤمنين، ببيان الشبهات التي تعرض لهم، وبألا يؤخذوا بالعقاب قبل أن يبلّغوا البلاغ المبين، الذي لا شبهة فيه.. وفى هذا يقول سبحانه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115:
التوبة) .. وذلك عن علم العليم، الذي يعلم من عباده ما لم يعلموا، ومن حكمة الحكيم، الذي كشف بالعلم طريق الهدى لعباده، ليكونوا بهذا العلم أهل حكمة وبصيرة.(9/1247)
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .
هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، بالتنبيه إلى أن الذين يحبون أن تفشو الفاحشة، وتشيع الفتنة فى مجتمع المؤمنين- هؤلاء لهم عذاب أليم فى الدنيا، وذلك بأنّ يؤخذوا بما رصد من عقاب لأولئك الذين يرمون المؤمنين بغير ما اكتسبوا.. ثم إن لهم عذابا أشد وأنكى من هذا العذاب، فى الآخرة.
وإشاعة الفاحشة فى المجتمع من يكون أكثر من وجه.
- بالإقدام على الفاحشة، والتعامل بها..
- أو بالمعالنة بإتيان الفاحشة من مرتكبها، أو التحدث بها إلى الناس، وإفشاء ما ستر الله منه..
- أو بإذاعة الأحاديث عن الفاحشة، سواء أكان ذلك فى أهل الفاحشة أم فى غيرهم.
- أو بالإصغاء إلى حديث الإثم، وترك المتحدثين به، يثرثرون، دون أن يردعهم رادع، أو يمسك ألسنتهم أحد..
فهذه الوجوه، وما يدخل مداخلها، كلها مما تشيع به الفاحشة فى المجتمع، قولا، وفعلا.. وأنها إذا لم تؤخذ عليها السبل، من أول الأمر، استشرى شرها، وعظم خطرها، واتسعت دائرتها، حتى ليصبح المجتمع كله واقعا فى قبضتها..
إنها أشبه بالنار، تكون أول الأمر شرارة، فإذا هى لم تعالج فى الحال، اندلعت ألسنتها، وعلا لهيبها، وصارت حريقا عظيما، لا يقف له شىء، ولا يدفعه شىء، فتقع الجماعة كلها تحت الخطر الذي ترمى به..(9/1248)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تحذير للذين يستمعون لقالة السوء، ويعطون آذانهم لمن يلقون إليهم بها.. فأكثر هذه المقولات كذب، وبهتان، ورجم بالغيب، ورمى بالظنون.. وأكثر ما يدفع المتقولين إلى ركوب هذا المركب الآثم، هو ادعاؤهم العلم بخفايا الأمور، وأنهم يعلمون ما لا يعلم الناس.. وهذا ليس من العلم فى شىء حتى وإن كان صدقا، فما هو إلا قشور من قشور العلم، أما العلم الحق، فهو ما يعلمه الله: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
قوله تعالى:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» لولا: حرف امتناع لوجود.. أي امتناع تحقيق جوابها، لوجود شرطها..
ولولا هذا الشرط لتحقق الجواب ووقع..
وجواب الشرط هنا محذوف، وتقديره، ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأنه رءوف رحيم بكم، لأخذكم بعذابه على هذا الأمر العظيم الذي وقعتم فيه، وخاض فيه الخائضون منكم..
الآيات: (21- 26) [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)(9/1249)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .
هذه الآية وما بعدها إلى الآية (26) - هى مما يتصل بحديث الإفك، ويدور حوله، ليطفىء النار المشتعلة منه، ويذهب بدخانها الذي انعقد فى سماء المجتمع الإسلامى كلّه..
والآية هنا تنهى المؤمنين عن أن يتبعوا خطوات الشيطان، وأن يستجيبوا له فيما يدعوهم إليه، فإن دعوته لا تكون إلا إلى شر وبلاء.. «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ»(9/1250)
وإن مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، ويزينه للناس، هو إطلاق الألسنة بالسوء والفحشاء، تنهش فى أعراض المؤمنين، وتشيع الفاحشة فيهم..
فمن أراد أن يكون فى المؤمنين حقا، فليمسك لسانه عن لغو الحديث، وليصمّ أذنيه عن سماع كلمات السوء والفحش فى المؤمنين، فإنه إن لم يفعل، واستمع إلى كلمات السوء والفحش، ثم أطلق لسانه بها كان فى ركب الشيطان، يجرى وراءه، ويتبع خطواته، مع أولئك الذين استجابوا للشيطان ووقعوا فى شباكه..
وقوله تعالى: «لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» ..
ما زكى: أي ما طهر، وما خلص من الرجس، والإثم، وصار طيبا زكىّ النفس بعد أن تطهر، وأزال ما علق به من ريح خبيثة بما اقترف من إثم..
فالزكاة تجىء بعد الطهر وغسل القذر..
وهذا يعنى أن الناس جميعا هم أبناء الخطيئة، وأنهم جميعا- بما ركّب فيهم من طبيعة حيوانية- معرّضون للزلل، وللوقوع فى الخطايا والآثام..
كما يقول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون» ..
ولكن الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته بعباده، قد جعل لهم مطهّرا يتطهرون به من آثامهم التي تعلق بهم، وهم على طريق الحياة.. وذلك عن طريق العبادات والطاعات والقربات.. فالصلاة مثلا، هى مطهرة لما بين الفريضتين.
كما فى الحديث: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» وقد شبهها الرسول الكريم بنهر جار، يغتسل فيه المصلى(9/1251)
خمس مرات فى اليوم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شىء؟» قالوا: لا يبقى من درنه، قال «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» .
والزكاة، مطهرة ... شأنها فى هذا شأن الصلاة، كما يقول الله تعالى:
«خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (103: التوبة) ..
وهكذا الصوم، والحج،.. وكل طاعة، وكل قرية، هى مما يتطهر به الإنسان ويتزكى من ذنوبه وآثامه..
هذا إلى «التوبة» التي هى الباب الواسع الذي يدخل منه الآثمون جميعا إلى رحمة الله ومغفرته، فمن صحت توبته، صار نقيا طاهرا، كيوم ولدته أمه..
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (222: البقرة) .
وهذا كله مما يفتح للمؤمن الطريق إلى أن يكون فى الطاهرين الزاكين، الذي يدخلون مع الداخلين فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» .
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» هو بيان للراغبين فى الطّهر والتزكّى، وذلك بالانخلاع عما هم فيه من منكرات، والرجوع إلى الله، والتقرب إليه، بالعبادات والطاعات.. والله سبحانه وتعالى «سَمِيعٌ» لما تنطق به أفواههم، وما تتحدث به خواطرهم «عَلِيمٌ» بما فى قلوبهم من إخلاص فى العمل، وصدق فى التوبة..
قوله تعالى:
«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى(9/1252)
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
«وَلا يَأْتَلِ» : أي ولا يمتنع، أو يقصّر.
هذه الآية الكريمة، نزلت فى أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- وكان قد حلف ألّا ينفق على «مسطح» بعد أن خاض مع من خاضوا فى حديث الإفك. وكان مسطح قريبا لأبى بكر، وقد هاجر فيمن هاجر إلى المدينة، وكان فقيرا، يعينه أبو بكر، وينفق عليه من ماله، وقد انزلق مسطح إلى هذا المنحدر، وكان رأسا من رءوس الخائضين فى هذه الفتنة.
وفى هذه الدعوة السماوية لأبى بكر، تكريم عظيم له، وإعلاء لمنزلته عند الله.. إذ دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى التي هى أحسن، وهو أن يلقى السيئة بالحسنة، ويدفع الشر بالخير.. وهذه المنزلة عالية لا ينالها، إلا من أراد الله لهم الكرامة والإحسان.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (35: فصلت) .
ومن وجهة أخرى، فإن الله سبحانه وتعالى أرى أبا بكر المثل الأعلى فى ذاته سبحانه وتعالى، إذ وصف ذاته سبحانه هنا بقوله: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
أي فكن ربانيا أيها الصديق، وكن غفورا رحيما، أيها الإنسان المبارك، لأنك عبد لربّ غفور رحيم.. ومن شأن العبد الصالح أن ينظر إلى سيده، ويتّبع سبيله..
وليس هذا فحسب، بل إنه تعالى نادى عبده، ودعاه إلى رحاب المغفرة بقوله: «أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» ؟ ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر الله له؟. ولهذا كان جواب أبى بكر على هذا النداء الكريم، وتلك الدعوة المباركة: «بلى والله يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا» .(9/1253)
ثم إن فى وصف «مسطح» بقوله تعالى: «أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - إثارة لأكثر من عاطفة تعطف أبا بكر على الإنسان الذي آذاه فى شرفه.. فهناك عاطفة القرابة، ثم عاطفة الحاجة والمسكنة، ثم عاطفة الهجرة فى سبيل الله.. وكل واحدة منها تدعو إلى الرحمة والمغفرة، فكيف إذا اجتمعن جميعا فى هذا الإنسان الذي أوقعه سوء حظه فيما وقع فيه؟ إن هناك لأكثر من داعية تدعو إلى إقالته من عثرته، والتجاوز عن مساءته..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .
هو وعيد لأولئك الذين لم يمسكوا ألسنتهم بعد عن الخوض فى هذا الحديث، والذين لا زال فى أنفسهم بقية من شك فى براءة أم المؤمنين وطهرها..
فهى- كما وصفها الله سبحانه، وتعالى- المحصنة، أي الطاهرة المبرأة من السوء، وهى الغافلة عن هذا المنكر، فلم يطف بها، ولم يقع فى خطرة من خطرات نفسها، وهى المؤمنة، الكاملة الإيمان، المتحصّنة بإيمانها الوثيق، الذاكرة لجلال ربها وخشيته.. وفى كل صفة من هذه الصفات عاصم يعصم المتصف بها من الزلل، والوقوع فى هذا المنكر.. وكيف وقد اجتمعن جميعا، فى أمّ المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، والحبيبة بنت الحبيب إلى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه؟
- وقوله تعالى: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - هو الجزاء الذي يلقاه كل من يخوض فى أعراض المؤمنين والمؤمنات، ويرميهم بالفاحشة،(9/1254)
كذبا، وبهتانا.. فالحكم عام، قائم أبدا الدهر، وإن كان مساقا فى معرض الحديث الآثم، الذي رميت به أم المؤمنين من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض. وأنه إذا كان أناس ممن خاضوا فى هذا الحديث قد تابوا، وأنابوا إلى الله، واستغفروا لذنبهم، فقبلهم الله، وغفر لهم- فإن هناك أناسا آخرين، قد هلكوا بهذا الحديث، إذ أمسكوا به فى أنفسهم.. فهؤلاء: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» .
الظرف هنا «يَوْمَ» متعلق بقوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ، أي لهم عذاب عظيم، فى الآخرة، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون..
فهؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، وماتوا به، وأبوا أن يشهدوا على أنفسهم فى الدنيا، وبأنهم كانوا كاذبين مفترين- هؤلاء، ستنطق ألسنتهم فى الآخرة بما أبت أن تنطق به فى الدنيا، وتقوم شاهدة عليهم بأنهم كانوا كاذبين مفترين، وإنهم ليؤخذون بإقرارهم هذا، وبما شهدت به عليهم ألسنتهم، التي خرست فى الدنيا عن قول الحق، وانطلقت تهذى وتعوى بالزور والبهتان..
ثم إلى جانب شهادة ألسنتهم عليهم فى الآخرة بما نطقوا به فى الدنيا من زور وبهتان- تقوم أيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم بما عملوا من منكر.. فاليدان، والرجلان شهود أربعة، تشهد على هذا الادعاء الذي يدعيه اللسان على صاحبه.. وكأن هذا اللسان متهم عند صاحبه، لأنه لم ينطق أبدا إلا بالزور والبهتان.. فإذا(9/1255)
جاء صاحبه ليردّ شهادته عليه، قام من كيانه شهود أربعة، كلها تصدق هذا اللسان، الذي لم يصدق أبدا إلا فى هذا الموقف! وهذا هو بعض السر فى تقديم اللسان على الأيدى والأرجل فكأنه هو المدّعى، وكأن شهوده على دعواه..
اليدان والرجلان! ثم إنما قامت الشهادة عليهم، أخذوا بذنبهم، جزاء وفاقا.
قوله تعالى:
«الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ.. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .
تعرض الآية الكريمة هنا دليلا من واقع الحياة، يشهد لما نطقت به الآيات من براءة أم المؤمنين، مما رمتها به الألسنة الآثمة من زور وبهتان..
فالسيدة عائشة، نبتة طيبة، نبتت فى بيت طيب، لم يعرف عنه فى الجاهلية شىء مما كان يأتيه الجاهليون، من استعلان بالفجور ومباهاة به.. بل كان هذا البيت، أشبه بنسمة رقيقة، بين هذه العواصف التي تدوّم وتصخب فى بيوت الجاهلين، من سفك دماء، واعتداء على الحرمات، حتى إذا جاء الإسلام كانت أول يد تصافحه، وأول قلب يتفتح له، هى يد أبى بكر الصديق، وهو قلب أبى بكر الصديق.. وما ذاك إلا لأن طبيعته كانت مسلمة، أو أقرب إلى الإسلام، من قبل أن يجىء الإسلام، حتى إذا كان أول صوت يؤذّن بدعوة الإسلام، كان أبو بكر أول المستجيبين له، والمتجهين إليه، حتى لكأنه كان على توقّع له، وتطلع إليه..!! فمن ظهر هذا الرجل الكريم النبيل جاءت «عائشة» ، وفى بيت هذا الرجل الطاهر العفّ نشأت «عائشة» ..
ثم كان أن انتقلت السيدة عائشة، وهى لا تزال فى إهاب الطفولة- انتقلت من هذا البيت الطاهر الكريم، إلى البيت الأكرم بيت النبوة.. فكان فى هذا البيت القدس مرباها فى طفولتها، وصباها، وشبابها. فشهدت فيه منذ صباها الباكر(9/1256)
أنوار السماء تنزل على النبي، فيغمرها هذا النور البهىّ، ويملأ قلبها ووجدانها، علما، وحكمة، وطهرا.. فكانت بهذا، المرأة التي أخذت بحظ النساء جميعا من هذا الخير المنزل من السماء.. وكأنها الشاهد القائم على أن المرأة شريكة للرجل حتى فى مقام النبوة، التي إن اختص بها الرجال فكان منهم الأنبياء، فإن النساء لم يحرمن حظهن منها، فكان منهن حواريو الأنبياء!! فامرأة هذا شأنها، وذلك هو منبتها، ومرباها، يكون من البعيد بعد المستحيل، أن تزلّ وأن تسقط، وأن تأتى من المنكر ما تأباه الحرّة، على شرفها وخلقها، ومروءتها..!
ومن جهة أخرى.. فإن الله الذي اصطفى النبي لحمل رسالة السماء، وصفّى جوهره من كل شائبة، حتى لقد كان نورا أقرب إلى هذا النور الذي ينزل عليه وحيا من ربه- إن الذي اصطفى محمدا لهذا، قد اصطفى له- فيما اصطفى- أزواجه، وأصحابه، ومواليه، ومن كان على صلة قريبة مدانية له..
وقد كانت السيدة عائشة، أقرب المقربين إلى رسول الله، وأشدّهم صلة به، وأكثرهم اطلاعا على سره وعلانيته. فهى- والأمر كذلك- أصفى من اصطفى الله سبحانه وتعالى من النساء- إن لم يكن من الرجال- لصحبة نبيه، ومرافقته رفقة ملازمة، فى أخطر دور من أدوار رسالته، وأكثرها ازدحاما والتحاما بالأحداث!.
فإذا جاء قوله تعالى: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» كان مفهوم هذا واضحا أتمّ وضوح وأبينه، فى التقاء السيدة عائشة بالنبيّ، وصحبتها له، وجعلها زوجا يسكن إليها، ويسعد بصحبتها.. إنها طيبة أطيب الطيبات، لا تكون إلا لطيّب بفضلها طيبا، وإن صاحبها لطيب، أطيب الطيبين، لا يتصل به، ولا يدخل فى حياته إلا طيبة، أشكل الطيبات به، وأقربهن طيبا إلى طيبه!.(9/1257)
فإذا كان فى الحياة طيب، وعفة، وطهر، فهنا الطيب، والعفة والطهر، وإذا كان فى النساء امرأة لا تزلّ، وأنثى لا تأثم، فهى هذه المرأة، وهى تلك الأنثى!! ..
هذا هو منطق الواقع، فيما تنطق به الحياة، فى مختلف البيئات، وفى كل الأزمان.. الطيّب لا يقبل إلا طيبا، من قول أو عمل، أو زوج أو صديق..
والخبيث لا يقبل إلا الخبيث، من قول أو عمل، أو زوج، أو صاحب،.. وهذا ما يشير إليه الحديث: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف» ..
وفى الآية أمور..
فأولا: قدّم «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» على «الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» ..
وذلك لأن الخطاب موجه أولا إلى أولئك الذين خبثوا نفسا، ودينا، فأطلقوا ألسنتهم فى الطيبات والطيبين من المؤمنين، وأنهم لو لم يكونوا على تلك الصفة لظنوا بالمؤمنين والمؤمنات خيرا، ولكانوا يقولون إذ سمعوا اللغط بهذا الحديث: «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» كما وصّى الله المؤمنين بذلك، ودعاهم إليه..
وثانيا: قدّمت المرأة على الرجل هنا فى الحالين: الخبث والطّيب.. وذلك لأن المرأة هى التي يطلب لها كفؤها من الرجال، فلا يصح أن تتزوج بمن هو أنزل منها شرفا وقدرا..
والكفاءة هنا منظور إليها من ناحية التقوى، والعفة، والطهر..
فالخبيثة، كفؤها من هو أخبث منها خبثا..(9/1258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
والطيبة، كفؤها من هو أطيب منها طيبا..
وثالثا: الإشارة فى قوله تعالى: «أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ» .. تشير إلى من مسهم شىء من هذا الحديث الآثم، وهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وعائشة- رضى الله عنها، وأبواها، وصفوان بن المعطل.. فهؤلاء قد برأهم الله من كل دنس، وعافاهم من كل سوء، ودمغ بهذا القول الزائف الآثم أهله.. على حين أجزل الثواب العظيم، والرزق الكريم لمن مسهم هذا القول بضرّ: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
الآيات: (27- 29) [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك، الذي كان المدخل إليه، هو هذا الحديث الذي شغل السيدة عائشة عن أن تكون فى الركب، وقد لقيها على الطريق صفوان بن المعطل، فحملها على بعيره، وألحقها بكرب الرسول..
فكان المنافقين، ومن فى قلوبهم مرض أن ينظروا إلى هذه الحادثة بنفوس(9/1259)
مريضة، وأهواء متسلطة، وأن يعموا عن هذا الجوهر الكريم المصفّى الذي ينظرون إليه.. سواء فى ذلك أم المؤمنين، أو الصحابىّ الذي كان فى خدمتها..
نقول- جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك لتقيم المسلمين على أدب خاص، يتصل بالبيوت وحرمتها، حتى لا تكون مظنّة لريبة، أو موضعا لتهمة.. ذلك والنفوس- إذ تستقبل هذه الآيات- مهيأة لقبول كل ما يدفع التهم، وينفى الرّيب، بعد تلك التجربة القاسية التي عاشها النبىّ، وزوجه، وصديقه الصديق، وصحابته، وصالحو المؤمنين..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهذا أول مادة فى دستور هذا الأدب الربانىّ، فى تزاور المسلمين، وتواصلهم بلقاء بعضهم بعضا فى البيوت.. وهو ألّا يدخل أحد بيتا غير بيته حتى يستأنس، ويسلم على أهله..
والاستئناس، هو طلب الأنس، وإزالة الوحشة، وذلك باستئذان أهل البيت، ولقاء من يلقاه منهم على باب الدار، فإذا لقيه أحد سلم عليه.. فإن أذن له بالدخول دخل، وإن لم يأذن له رجع.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى:
«فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» .
وفى قوله تعالى: «فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» أي لا دخول(9/1260)
أبدا إلا بعد إذن.. فإن لم يكن أحد فى البيت فلا دخول أبدا.. وإن كان فى البيت أحد، فلا دخول إلا بعد التسليم، والإذن..
وفى قوله تعالى: «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» أي هذا الموقف هو أزكى لكم، وهو أن لا دخول أبدا إذا لم يكن أحد، وأن لا دخول إذا كان أحد إلا بعد تسليم وإذن.
والضمير «هو» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى «فَارْجِعُوا» أي فالرجوع أزكى لكم، فإن الدخول بغير إذن هو تطفّل، وعدوان على حرمات غيركم، فقد يكون عدم الإذن لكم راجعا إلى أن الذي تريدون لقاءه لا يريد لقاءكم، أو قد يكون لأنه فى أمر لا يحبّ أن تطلعوا عليه منه.. أو نحو هذا..
فالبيوت ستر لأهلها، ودخولها بغير إذن ابتداء، هو أشبه باللصوصية، أما إن كان الدخول بعد طلبكم الإذن، ثم لم يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ، فوق أنه تطفّل وصغار! - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» تحذير لمن تحدثهم أنفسهم بانتهاك حرمات الله، أو لا يأتمرون بهذا الأمر، الذي أمرهم الله به، وأدّبهم بأدبه.
قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» .
هذا استثناء من الأمر العام بالاستئذان قبل دخول البيوت، وبهذا الاستثناء يفهم أن المراد بهذه البيوت هى البيوت المسكونة، وهى التي يكون الحرج واقعا على من يدخلها بغير إذن..
أما البيوت غير المسكونة، كالأمكنة العامة، مثل النّزل، والمطاعم، ونحوها(9/1261)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
فلا حرج فى دخولها بغير إذن.. إذ كانت طبيعتها لا تقتضى إذنا، بل إنها تستدعى الواردين إليها، وأبوابها مفتوحة لهم دائما..
والمراد بالمتاع فى قوله تعالى: «فِيها مَتاعٌ لَكُمْ» هو المنفعة والحاجة، وليس المراد أن يكون لهم فيها أمتعة.
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» إشارة إلى أن هذا الأدب المطلوب رعايته فى دخول البيوت المسكونة- هو مما يقضى به الظاهر، وليس امتثاله، والدخول بعد الاستئذان، مما يحلّ المؤمن من غضّ البصر، ورعاية الحرمات، وحفظ أسرار البيوت، وما يطلع عليه الذي يدخلها من شئونها وما يجرى فيها- فإن لهذا كلّه حسابه عند الله، الذي يعلم ما نخفى وما نعلن، وهو يحاسب على كل ما نقول أو نعمل فى علن وسرّ..
الآيات: (30- 31) [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)(9/1262)
التفسير:
هاتان الآيتان تشرحان تلك الإشارة الخفية التي جاءت فى قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» ..
حيث جاءت الآيتان تدعوان إلى غضّ الأبصار، وحفظ الفروج، وهى أمور تقع غالبا فى خفاء وستر.. فجاءت الآيتان تصرحان بالأمر بما هو مطلوب من المؤمن، والمؤمنة، وهو غض البصر، وحفظ الفرج..
وقوله تعالى:
«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» .
الخطاب موجّه إلى المؤمنين، الذين هم بحكم إيمانهم بالله، ومراقبتهم له، أهل لأن يمتثلوا أمر الله ويستجيبوا له..
وغضّ البصر، هو كسره، وعدم ملء العين من النظر إلى المحرمات من النساء، مخالسة، أو معالنة.. فإن النظر هو رسول الشيطان إلى تحريك الشهوة، والدعوة إلى الفاحشة..
وقدّم الرجال على النساء، لأن النساء، عورة، والنظر إليهن يدعو إلى الفتنة أكثر من نظر النساء إلى الرجال..
وقوله تعالى:
«وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى(9/1263)
عَوْراتِ النِّساءِ
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
هذه الآية موجهة إلى النساء، وإلى ما ينبغى أن يأخذن أنفسهن به، من أدب، واحتشام، حتى لا يتعرضن للفتنة، أو يقعن تحت دائرة الشك أو الاتهام..
وأول ما يأخذن به أنفسهن، هو أن «يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» .. هذا هو الأمر العام، الذي يطلب منهن امتثاله، فلا تملأ المرأة عينها من رجل غير محرم لها، وأن تحفظ فرجها.. فهذا وذاك أمانة هى مؤتمنة عليها، وليس من سلطان عليها، إلا دينها وضميرها، وعفّتها.. وقد اقترن الأمر بغض الأبصار بحرف من الذي يفيد التبعيض، لأنه لا يمكن أن يغضّ البصر، ويقفل قفلا تامّا، ولهذا لم تجىء من التي للتبعيض مع حفظ الفروج، لأن الحفظ هنا لا أبعاض له.. ثم هناك أمور.. هى ذرائع إلى الفتنة والإغراء بها، من جانب الرجال.. فعلى المرأة أن تسدّ هذه الذرائع وتغلق هذه النوافذ، التي تطلّ بها الفتنة منها على الرجال، فتكون بذلك داعية فتنة وإغراء بالفتنة سواء قصدت إلى هذا أم لم تقصده..
وهذه الذّرائع هى ما جاء مفصلا فى الآية على هذا الترتيب:
- «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» .. أي لا يكشفن من أنفسهن إلّا ما لا سبيل إلى ستره وإخفائه، كالعينين، والكفّين، والقدمين.
فالمرأة كلّها «زينة» فى عين الرجل.. حتى صوتها.. ولكن الشريعة الإسلامية نافية للحرج.. وأمر المرأة بإخفاء كيانها كلّه، مما لا تحتمله النفوس، ولا تقبله الحياة.. ومن هنا كان الاستثناء بقوله تعالى: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» أي إلّا ما لا بدّ من ظهوره، حتى تعيش المرأة فى الحياة، وتشارك فيها، فتنظر بعينيها وتعمل بيديها، وتسعى بقدميها..(9/1264)
- «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ» .
الضرب: وضع الشيء على الشيء فى إحكام.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة نحرها..
والجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب، بين النحر، والعنق..
والمعنى: أنه يجب عليهن ستر العنق والنحر بالخمر، وضربها على العنق، وإرسالها إلى النحور..
- «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ.. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» .
فهؤلاء الأصناف من الرجال، هم محارم للمرأة، أو أشبه بالمحارم لها..
وليس عليها من جناح فى أن تتحفف كثيرا أو قليلا من هذا الحظر المضروب عليها..
- فقوله تعالى: «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» أي أزواجهن.. فليس على المرأة حرج أن تبدى زينتها كلها أو بعضها للزوج.
- «أَوْ آبائِهِنَّ» .. وليس عليها من حرج كذلك فى أن تبدى زينتها كلها أو بعضها فى حضور أبيها.
- «أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ» وهم آباء الأزواج، أي وكذلك الشأن مع أبى الزوج.. فهو مثل أبيها.
- «أَوْ أَبْنائِهِنَّ» .. وليس على المرأة من حرج فى حضور أبنائها،(9/1265)
أن يظهر منها شىء مما أمرت بستره من زينتها.
أو «أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ» أي أبناء الأزواج من غيرهن.. فهن مثل أبنائهن.
- «أَوْ إِخْوانِهِنَّ» .. وليس على المرأة حرج فى أن يظهر منها شىء من زينتها فى حضور إخوتها..
- «أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ» وكذلك أبناء الإخوة، هم كالإخوة..
- «أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ» وأبناء الأخوات كأبناء الإخوة..
- «أَوْ نِسائِهِنَّ» أي زوجات هؤلاء الرجال المذكورين، حيث لا يكون فى مخالطتهن فتنة، ولا فى كشف الزينة أمامهن ما يفضح جمال المرأة، وذلك لأن زوجة أىّ من هؤلاء الرجال تتحرج من أن تصف ما ترى منها للرجال، إذ كانت المرأة هنا بالنسبة لأية زوجة من أولئك الزوجات بعضا منها، وأهلا من أهلها، فلا تغرى الرجال بها، ولا تكشف لهم عن مفاتنها..
وكذلك الشأن فى نساء زوجها، اللائي تمسكهن الغيرة عن وصف أي حسن تراه إحداهن فى الأخرى..
- «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» وهم الرقيق، المملوك لهن من الرجال..
فملك اليمين، وإن لم يكن من محارم المرأة، هو أشبه بالمحرم، لأنها تملكه، كما تملك المتاع، الأمر الذي لا يصح معه أن يكون زوجا لها، له القوامة عليها، كما يقول الله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» .. (34: النساء) فاعتبار ملك اليمين، أهلا لأن ينظر إلى مالكته نظرة اشتهاء، فيه إيذان بفتح باب فتنة وفساد، حيث يخلى المرأة من شعور الترفّع عن أن تكون مستفرشة لخادمها وملك يمينها، على حين أن هذا يجرّىء المملوك على التطاول إلى سيدته، والطمع فيها..
وفى التخفف من زينة المرأة أمام مملوكها، إشعار له ولها، أن الأمر بينهما(9/1266)
قائم على غير ما يقوم عليه الحال بينها وبين غير المحارم من الرجال.. وبهذا يموت، أو يصل إلى قريب من الموت، هذا الإحساس الذي يكون بين المرأة والرجل الأجنبى عنها..
فالمملوك- وإن كان رجلا، فيه ما فى الرجال من رغبة واشتهاء- هو بالنسبة إلى مالكته كأحد محارمها، الذين يخالطونها، ويعايشونها.. كالأب، والابن، والأخ.. وتخففها من زينتها فى وجوده يشعره ويشعرها بهذا المعنى، وهو أنه لا ينبغى أن يمدّ بصره إليها، كما أنه لا يليق بها أن تشتهيه.
وقد ذهب كثير من المفسّرين، والفقهاء إلى أن المراد بما ملكت أيمانهن الإماء، دون العبيد.. ولكن الذي نراه، هو أن المقصود به العبيد.. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى فاطمة- رضى الله عنها- بعبد لها، فأرادت أن تستتر منه بالحجاب، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأس.. إنما هو أبوك وغلامك» !! - «أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» ..
والإربة: من الأرب، وهو الرغبة والاشتهاء..
والمراد بالتابعين، هم الذين يخدمون المرأة، ويكونون فى حاجتها بأجر، وهم ليسوا فى ملك يمينها.. فهؤلاء التابعون، وقد انقطعت شهوتهم للمرأة، لمرض، أو شيخوخة، أو غير هذا مما تنقطع به شهوة الرجل للمرأة- هؤلاء التابعون، لا حرج على المرأة من أن تتخفف من زينتها فى حضورهم، لأنهم لا ينظرون إلى ما بدا منها نظرة رغبة واشتهاء.. ومن ثمّ لا يكون النظر إليها مدخلا إلى الفتنة، إذ لا إربة لهم فى المرأة..(9/1267)
- «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» .
والطّفل: الولد، مادام ناعما، ويطلق على المفرد، والجمع، ويجمع على أطفال، ويقال للمرأة الناعمة طفلة.
وحكم الصغار- وإن كانوا غير محارم للمرأة- كحكم التابعين غير أولى الإربة من الرجال.. لأنهم فى تلك الحال بعيدون عن التفكير فى المرأة، وعن النظر إليها فى رغبة وشهوة..
وفى وصفهم بقوله تعالى: «لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» إشارة إلى أنهم وهم فى سنّ الطفولة، لا يستطيعون التمييز بين ما هو عورة، وما ليس بعورة من المرأة..
فهؤلاء اثنا عشر صنفا من الرجال، ليس على المرأة حرج فى أن تبدى بعض زينتها فى وجودهن..
هذا، ويلاحظ فى هذا النظم، الذي جاءت عليه هذه الآية فى ذكر هؤلاء الأشخاص، أنه يأخذ ترتيبا تنازليا فى تضييق دائرة التخفف من الزينة، شيئا فشيئا.. بحيث تكون هذه الدائرة على سعتها كلها مع الزوج، ثم تبدأ تضيق شيئا فشيئا مع من بعده، حتى تبلغ حدها الأدنى مع «الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» ..
ونظرة فى هذا الترتيب، تدلّ على حكمة الحكيم، وتقدير العزيز العليم، لما فى النفس البشرية من نوازع وعواطف، تتحرك حسب ما يقوم بينها وبين العالم الخارجي من روابط وصلات.
وقوله تعالى: «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» أي ولا يأتين بأرجلهن حركة تنمّ عما يخفين من زينتهن.. وذلك بما يكون(9/1268)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
من ضروب متصنعة فى المشي، تهتز معها الأرداف، وتتمايل الخصور، وتتماوج الصدور..
وفى قوله تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة للمؤمنين، والمؤمنات، إلى التوبة إلى الله، والرجوع إليه من قريب حيث أن الإنسان فى هذه المواقف معرض للزلل والعثار.. من خطرات نفسه، أو نظرات عينه، أو فحش لسانه، إلى غير هذا ممالا يكاد يسلم منه أحد.. وليس لهذا من دواء إلا التوبة إلى الله من كل زلّة أو عثرة.. فإن هذه التوبة هى التي تصحح للمؤمن إيمانه، وتبقى على ما فى قلبه من جلال وخشية لله رب العالمين.. وفى هذا الفوز والفلاح..
الآيات: (32- 34) [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)(9/1269)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
الأيامى: جمع أيّم، وهو من لم تكن له زوجة، أو من لم يكن لها زوج..
والأمر موجه إلى المجتمع الإسلامى كله.. وهو نصح وإرشاد، وترغيب فى الزواج، وذلك لما فيه من وقاية، وحصانة، وتعفف.. وهو مما يعين على الاستجابة لما أمر الله به فى الآيات السابقة، من غضّ الأبصار وحفظ الفروج..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «يا معشر الشباب.. من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ..
والباءة: القدرة على التزوج، وامتلاك الصلاحية له..
والوجاء: الخصاء، الذي به تموت الشهوة، وينقطع اتصال الرجل بالمرأة..
فالمسلمون مطالبون بأن يتحصنوا بالزواج، وأن يرغبوا فيه، وييسّروا أموره، وذلك حتى لا تفشو فيهم دواعى الفساد، والاعتداء على الفروج، أو حتى لا يتجه أصحاب الإيمان القوىّ إلى الرهبنة، التي تحرمها شريعة هذا الدين..
كما يقول الرسول الكريم: «النكاح سنّتى، فمن رغب عن سنتى فليس منّى..»
وكما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «لا رهبانية فى الإسلام» ..
- وقوله تعالى: «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ» معطوف على قوله تعالى:(9/1270)
«وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ» .. أي وزوجوا من لم يتزوج من أحراركم وحرائركم، وزوجوا كذلك الصالحين من عبادكم وهم العبيد، وإمائكم، وهن الرقيقات.. أي وكما يرشدكم الله سبحانه وتعالى إلى أن تتزاوجوا فيما بينكم أيها الأحرار، لتحفظوا فروجكم، كذلك ينصح لكم أن تزوجوا من ترونه صالحا للزواج من عبيدكم وإمائكم.. فهم بشر مثلكم، فيهم رغبة وشهوة، وإنه لا سبيل إلى قضاء هذه الشهوة، إن لم يكن فى حلال، ففى حرام..
ومن أجل هذا، فإن على من فى يده فتى أو فتاة، أن يرعى الله فيهما، وألّا يدعهما هملا، يعيشان فى الفاحشة كما تعيش البهائم.. فهم جزء من المجتمع الإنسانى، وفى فسادهم فساد للمجتمع، ومنهم تصل العدوى إلى غيرهم من الأحرار والحرائر..
وفى وصف العبيد والإماء بالصلاح، إشارة إلى أنه ليس كل عبد أو أمة صالحا للزواج.. فإن حياة العبيد والإماء تذهب بكثير من معالم إنسانيتهم..
ولكن يبقى- مع هذا- قدر صالح من الإنسانية عند بعضهم، يصلح به أن يكون أهلا للزواج من مثله..
وقوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. الضمير فى «يَكُونُوا» يعود إلى المذكورين فى الآية من «الْأَيامى» ويشير من طرف خفىّ إلى العبيد والإماء.. أي إن يكن هؤلاء المذكورون صالحين للزواج، وراغبين فيه طلبا للتعفف، ولكن يمنعهم خوف الفقر والحاجة، وعدم القدرة على حمل أعباء الزوجية، وما تجىء به من ذرية- إن يكن هذا صارفا لهم عن التزوج فليتزوجوا، والله سبحانه وتعالى يعدهم سعة الرزق، ودفع الضرّ الذي يتوقعونه من الزواج، ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرضاة الله، وحفظ الفروج بهذا الزواج..(9/1271)
وهذا وعد كريم من الله سبحانه، لا بدّ أن يتحقق، وذلك لأمرين:
أولهما: أنه وعد من الله.. والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده! ..
وثانيهما: أن هذا الوعد يحمل معه أسباب الغنى! ..
وكيف؟ ..
والجواب، هو أن الذي يطلب فى الزواج العصمة لدينه والحفاظ على شرفه ومروءته، هو إنسان جادّ فى هذه الحياة، وملء إهابه، إيمان، وتقى، وجدّ، وعزم.. وأنه ليس من اللاهين الفارغين، الذين يقضون حياتهم فى اللهو والعبث، وتصيّد الشهوات، والتقاطها من كل وجه.. فهؤلاء الذين يشغلون بالبحث عن اللذات والمتع، وقضاء الشهوات، هم أقرب الناس إلى الفقر، وأدناهم إلى الحاجة والعوز، لأنهم لا يصرفون أنفسهم إلى عمل جاد مثمر أبدا..
أما أولئك الذين تحصنوا بالزواج، فقد أراحوا أنفسهم من هذا الجري اللاهث وراء شهواتهم، وهم لهذا منصرفون إلى العمل الجاد المثمر، الذي يبذلون له كل جهدهم وطاقتهم.. وهذا من شأنه أن يملأ أيديهم من الخير، وأن يدنيهم من الغنى، بل ويحققه لهم..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى سعة فضل الله، وأنه لا يضيق بالطالبين لفضله، المبتغين من رزقه، وهو «عَلِيمٌ» بما يصلح أمرهم، ويقربهم من فضله، ويعرّضهم لرزقه.. ومن ذلك تحصنهم بالزواج..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ(9/1272)
فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
الكتاب: المكاتبة، وهو أن يطلب العبد إلى مولاه أن يعتقه من الرقّ، فى مقابل قدر من المال، يؤديه إليه، فيعطيه سيّده بذلك كتابا، يذكر له فيه المال الذي كاتبه عليه..
وفى دعوة ما لكى الرقاب إلى مكاتبة من فى أيديهم، ممن يرغب منهم فى هذا- دعوة إلى تحرير الأرقاء، وفكّ الرقاب.. وذلك بعد الدعوة إلى حفظ إنسانيتهم، ورفع قدرهم بالزواج، ونقلهم من دائرة الحيوان إلى عالم الإنسان..
وفى قوله تعالى: «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» إرشاد لمالكى الرقاب، إذا هم استجابوا لأمر الله، ورغبوا فى مكاتبة من يطلب المكاتبة من مواليهم- أن ينظروا فى حالهم قبل أن يكاتبوهم، وأن يتحرّوا صلاحيتهم للحياة بعد أن يتحرّرا من الرق-.. فقد لا يكون لمن يتحرر منهم حيلة فى الحياة الجديدة التي يدخل فيها، فيصبح- وهو الحر- عالة على المجتمع، يعيش على السؤال والتكفف، وفى هذا ضياع له، أكثر من ضياعه وهو فى قيد الرق! ..
ولا شك أن السيد إذا أمسك عن مكاتبة عبده، وهو ينظر فى هذا إلى مصلحة العبد نفسه- إنما يريد له الخير، باختيار ما هو أصلح له.. وسيد هكذا.. هو سيد يخاف الله ويتقيه، فى هذا الإنسان الذي ملكه الله رقبته، وحفظه فى يده رقيقا خير من إطلاقه. وهو لا يحسن القيام على نفسه.
وفى قوله تعالى: «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» دعوة إلى المؤمنين جميعا، ومنهم السيد مالك الرقيق المكاتب، أن يعينوهم على جمع المال المطلوب(9/1273)
منهم، حتى يتخلصوا من أسر الرق، وحتى يدخلوا فى المجتمع الحرّ، ويكونوا قوة عاملة فيه..
قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» .
البغاء: من البغي، وهو العدوان على حدود الله بإهدار حصانة الفروج..
والنهى هنا متجه إلى من يملكون إماء فى أيديهن..
وقد أجمعت أقوال المفسرين جميعا، على أن معنى إكراه الإماء على البغاء، هو دعوة مالكيهن لهن إلى طلب البغاء، رغبة فى الحصول على المال الذي يجمعنه لهم من هذا الوجه الخسيس..
والنهى هنا واقع على مالك الرقبة، إذا أرادت المملوكة تحصنا وتعفّفا.. أما إذا كان البغاء بدعوة من سيدها، وعن رغبة ورضا منها، فلا محلّ للنهى، ويكون هذا البغاء مباحا.. هذا ما يفهم مما أجمع عليه المفسرون فى تأويل هذه الآية..
وللمفسرين فى هذا تخريجات، وأساتيد يستندون إليها، ومرويات يأتون بها، فى أسباب النزول، والأحداث التي لابست نزول الآية..
والحق أننا لم نر فى هذه التخريجات وجها، نقبلها عليه، وأن نفهم كلمات الله بها، دون أن يكون فى الصدر حرج، وفى القلب ضيق ووسواس! ..
فمن أراد أن ينظر فى هذه المرويات، وتلك التخريجات فهى مبثوثة فى كتب التفاسير، يضيق الصّدر بها، ويثقل على النفس نقلها هنا..
وقد هدانا الله سبحانه وتعالى، إلى مفهوم للآية الكريمة. نرجو أن يكون أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى الحقّ.
فالفهم الذي نستريح إليه فى الآية الكريمة.. هو أن قوله تعالى:
«وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» هو دعوة إلى مالكى(9/1274)
رقاب هؤلاء الفتيات (الإماء) بتزويجهن إذا رغبن فى الزواج. ليتحصّن به، وليحفظن فروجهن.. فهذه الإرادة منهن للتحصن بالزواج، شاهد مبين على صلاحهن، وسلامة إيمانهن، وأنهن يرغبن عن الحياة الطليقة، التي يعيش فيها الإماء، مستباحات الأعراض.. إنهن بهذا الزواج الذي يرغبن فيه، يردن قيدا يقيّد خطوهن المطلق فى عالم الخطيئة.. وهذا لا يكون إلّا من أمة تشعر بإنسانيتها، وتخاف الله فى عرضها..
فالإمساك بالإماء اللاتي يرغبن فى الإحصان بالزواج- الإمساك بهن عن الزواج، هو فى الحقيقة- إكراه لهن على البغاء.. إذ لا سبيل إليهن- وهن رقيقات- إلا البغاء، رغبن فى هذا، أو لم يرغبن.. إذ لا حجاز بينهن وبين من يريدهن..
ويكون تحرير معنى الآية هكذا:
«وَلا تُكْرِهُوا» أيها المؤمنون «فَتَياتِكُمْ» أي إماءكم اللاتي يرغبن التحصن بالزواج- لا تكرهوهن «عَلَى الْبِغاءِ» وتحملوهن عليه حملا، بمنعهن من التزوج..
وفى قوله تعالى: «لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى العلة التي قد تحول بين السيد، وبين إجابة رغبة أمته أو إمائه فى التحصن بالزواج..
وذلك لما تشغل به الأمة عن سيدها، بزوجها، وبالحمل، والرضاعة، وغيرها، الأمر الذي يخفّ به ميزانها فى خدمة سيدها، وينزل به قدرها عند بيعها..
وهذا المقطع من الآية هو الذي حمل المفسرين على القول بأن الإكراه مراد به الإكراه على الزنا، وجلب المال لأسيادهن من هذا الوجه.. وقد رأيت تأويلنا لهذا المقطع، واتساقه مع المعنى الذي ذهبنا إليه..(9/1275)
ثم تجىء خاتمة الآية هكذا: «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وقد اضطرب المفسرون فى توجيه هذه الخاتمة، وضاقت بهم السبل فى تخريجها، إذ كيف يكره السيد أمته أو إيماءه على البغاء، ثم يجىء من ذلك عفو الله ومغفرته ورحمته؟ إن هذا أشبه بالتحريض على الإكراه على البغاء..!
ومن مخرج ضيّق كسمّ الخياط، خرج بعض المفسرين إلى القول، بأن المغفرة والرحمة إنما يراد بهما الإماء اللاتي أكرهن على البغاء، على حين لا تنال المغفرة والرحمة من أكرههن!! وهذا مردود من أكثر من وجه:
فالأمة فى تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها، ترجى له المغفرة والرحمة..
ففى الحديث الشريف: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ..
ثم هى من جهة أخرى، ملك فى يد سيدها، لا تملك من أمر نفسها شيئا، فهو يحلّ منها ما يشاء لمن يشاء! وعلى هذا، فإن المغفرة والرحمة إنما تطلب لمن كانت منه إساءة، هى فى مفهومنا ممن أمسك بهن عن التحصن بالزواج، وكان بسبب هذا كالمكره لهن على البغاء.. فإن هو رجع إلى الله، وأمسكهن عن طريق الفساد، وحصنهن بالزواج، نالته مغفرة الله، وسعة رحمته..
ومن جهة أخرى.. فإننا نرى فى هذه الآية، دعوة إلى مالكى الرقاب بمكاتبة من يرونه صالحا للمكاتبة من عبيدهم، إذا هم رغبوا فى هذا..(9/1276)
فهذه رغبة يدعو الإسلام إلى تحقيقها للعبيد.. لأنهم فى الواقع هم الذين تنزع بهم نفوسهم إلى الرغبة فى التحرر بالمكاتبة، بخلاف الإماء اللاتي لا حول لهن ولا طول..
ومن حق الإماء على الشريعة الإسلامية أن تحقق لهن رغبة يرغبنها، كما حققت للعبيد الرغبة التي يرغبونها..
ورغبة الإماء هنا، هى إرادة التحصن بالزواج، كما يقول سبحانه: «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» .. فهذه الرغبة تقابل رغبة العبيد فى المكاتبة كما يقول سبحانه:
«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» ..
وبهذا يعتدل ميزان الإماء والعبيد، فى شريعة قامت على العدل والإحسان والمساواة.. فى الحقوق، والواجبات.. للمرأة والرجل على السواء..
ومن جهة ثالثة، فإن الأمة إذا تزوجت أحصنت، كما يقول الله تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ.. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (25: النساء) .
ففى هذه الآية أمور..
أولا: أن الحرّة محصنة، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة، وأن الأمة إنما تحصن بالزواج..
ثانيا: فى زواج الأمة تكريم لها، ورفع لخسّتها، ونقلها من مرتبة(9/1277)
الحيوان المملوك، إلى درجة المرأة الحرة.. حيث ينشىء لها الزواج حقوقا، ويفرض عليها واجبات، وقد كانت قبل الزواج مطلقة، لا حقوق لها، ولا واجبات عليها..
ثالثا: أن الأمة إذا تزوجت ثم زنت، وثبتت عليها الجريمة، أقيم عليها الحدّ، وهو نصف ما على المحصنات من العذاب، فتجلد خمسين جلدة.
رابعا: أشارت الآية إلى أن زواج الأمة لا يكون إلا بإذن مالكها وعن رضاه، فليس لها والحال كذلك، أن تزوج نفسها إذا رغبت فى الزواج، وأرادت التحصن به.. فإن أبى عليها مالكها أن تتزوج، لم يكن أمامها إلا أن تعرض نفسها للرجال.. وهذا هو البغاء الذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه فى وجه الزواج الذي تتحصن به وتعفّ عن الفاحشة.
هذا، هو ما رأينا والله سبحانه وتعالى أعلم «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» .
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» .
هذه الآية هى ختام لآيات الأحكام، التي جاءت بها السورة من قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» إلى قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» .
وهى فى هذا أشبه بالبدء الذي بدئت به السورة، فى قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .
فبدء السورة كان إعلانا بنزول آيات بينات، تلى هذا الإعلان، وتجىء بعده..(9/1278)
وقد نزلت هذه الآيات البينات، متضمنة تلك الأحكام الخاصة بحرمات الفروج. وحين انتهت الآيات من بيان هذه الأحكام، جاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ» .. ليذكّر بتحقيق هذا الخبر الذي أعلنته السورة فى أول آية منها، وليلفت الأنظار إلى أن هذه الآيات، هى الآيات البينات، التي أشارت إليها الآية الأولى من السورة.. فليتحققوا من هذا الوصف، وليطلبوه منها، وليكون لهم منه عبرة وموعظة..
وفى وصف الآيات فى أول السورة بأنها «آياتٍ بَيِّناتٍ» ووصفها هنا بأنها «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» ما يحقق وصفين لهذه الآيات فهى آيات بينات واضحات مشرقات فى ذاتها.. سواء نظر إليها الناظرون، أو لم ينظروا.. ثم هى مبينات، تكشف لمن ينظر فيها طريق الحقّ والهدى..
وقدّم وصفها بالبيّنات على وصفها بالمبينات.. لأنها فى أول الأمر لم تكن بين يدى الناس، ولم ينظروا فيها بعد.. فكان وصفها بالبينات وصفا ذاتيا لها، دون نظر إلى اتصال الناس بها.. فلما نزلت، واتصل الناس بها كانت مبينة لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال..
وقوله تعالى: «وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» معطوف على قوله تعالى: «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» أي وأنزلنا إليكم فى هذه الآيات مثلا من الذين خلوا من قبلكم.
وهذا المثل الذي جاءت به الآيات هنا مشابها ومماثلا لمثل آخر وقع فى الأزمنة الخالية- هذا المثل هو حديث الإفك، الذي رميت به السيدة عائشة- رضى الله عنها- ومثله فى الذين خلوا من قبل، هو ما وقع لمريم- عليها السلام لما لقيها به أهلها من اتهام، حين جاءت إليهم بوليدها تحمله.. وقد برأ الله مريم فى آيات بينات من كتابه الكريم، كما قال سبحانه وتعالى فى اليهود: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» (156: النساء) - فقد وصف الله سبحانه(9/1279)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
وتعالى قولهم فى مريم بأنه بهتان عظيم، كما وصف سبحانه ما رميت به السيدة عائشة، بأنه بهتان عظيم، وذلك فى قوله سبحانه: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» ..
وكفى السيدة عائشة- رضى الله عنها- قدرا وشرفا أن تكون مثلا مناظرا للسيدة مريم، عفة وطهارة، وأن تشاركها هذا الوصف الذي وصفت به فى قوله تعالى: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» (42:
آل عمران) .
الآيات: (35- 40) [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 40]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)(9/1280)
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
هذه الآية تحدث عن سلطان الله، وامتلاكه لناصية كل موجود فى هذا الوجود، من الذّرّة فما دونها، إلى النجم فما فوقه..
وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض.. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه فى هذا الوجود، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه، كما يقول سبحانه: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى» (50: طه) .
فهذا النور الذي يضىء الوجود كله، ويقيم لكل موجود فيه، بصيرة، أو بصرا- هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال الله، وعظمته، وقدرته..
فكما أن الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، فكذلك هو- سبحانه- نور العالمين..
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنوره العظيم، مثلا يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ..
وإلا فإن هذا النور فى ذاته لا يمكن تصوره، حقيقة أو خيالا، لأنه من صفات(9/1281)
الله، وكما لا تدرك ذات الله، فكذلك لا تدرك صفاته..
والمثل المضروب لنور الله هو «المشكاة» وهى الكوة أي «الطاق» المفتوحة فى الحائط، والمغلقة من أحد وجهيها.. ويمكن أن تكوّن «المشكاة» هى هذا القنديل من البلّور، الذي يحمل المصباح.
وهذه المشكاة، أو القنديل، يتلألأ نورا مشعّا، يكاد يخطف الأبصار..
وهذا النور، ينبعث من «مصباح» وهو الشعلة المتقدة المضيئة، من فتيل أو نحوه، داخل المشكاة..
وهذا المصباح داخل زجاجة..
وهذه الزجاجة.. شفافة صافية.. كأنها كوكب درّىّ..
ثم إن وقود هذا المصباح هو، من زيت مبارك، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة، «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» أي مغروسة فى أنسب مكان لها، وأعدله.. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة، لا الحارة، ولا الباردة، إلا أنها تأخذ أعدل مكان فى هذه المناطق، فهى لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب..
وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية فى حياة الناس، والحيوان والنبات، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء.. وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإن قرب المكان أو بعده، من نصف الكرة الأرضية، شرقا، أو غربا، له تأثيره القوىّ فى الكائنات الحية، من إنسان، وحيوان، ونبات، ولهذا اختلف الشرق والغرب، ولهذا قيل:
الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها.. وإنه لشتان بين اليابانى فى أقصى الشرق، وبين الأمريكى فى أقصى الغرب، وإن كانا على خط عرض واحد..(9/1282)
والمشرق، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية، تختلف طبائع الناس فيه، بين من كان منهم فى أقصى الشرق، ومن كان فى أقصى الغرب من هذا الشرق، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه، وكذلك الشأن فى الغرب، ولهذا جاء قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17: الرحمن) وجاء فى آية أخرى: «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» (40: المعارج) .. فالمشرق مشرقان، والمغرب مغربان.. والمشرق مشارق، والمغرب مغارب، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما.
ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون، وأحسنها، وأتمها، إذ كانت تنبت فى أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها.
ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور الله..
وقد أكثر المفسرون القول فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى: «مَثَلُ نُورِهِ» أهو الله؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم؟.
والذي تدل عليه الآية صراحة، هو أن هذا الضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور الله، وإنه لا حرج من أن يشبه نور الله بما يقع لحواسنا من نور، ولله- مع هذا- المثل الأعلى، «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وقد وصف سبحانه ذاته، بأنه يرى، ويسمع، ويطوى السموات بيمينه، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه.. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان، وأعماله.. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه، نحن البشر- الوصف الكامل، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه..(9/1283)
وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور الله، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن، أو للقرآن، أو للرسول الكريم..
وهذا مثل، وليس تماثلا من كل وجه بين نور الله، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا..
وفى الحديث: «إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته» ..
وتقول التوراة! «خلق الله الإنسان على صورته.. على صورته خلقه» .
وأين الإنسان من عظمة الله، وجلال الله؟ إنه هباءة تسبح فى الهواء! قيل إن أبا تمام الشاعر، دخل على ممدوحه فى مصر، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله:
إقدام عمرو «1» فى سماحة حاتم ... فى حلم أحنف فى ذكاء إياس
فقال بعض حاشية الأمير: ما هكذا يمدح الأمير.. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب! فسكت أبو تمام قليلا.. ثم قال، دافعا هذا الاعتراض، ومفحما هذا المعترض:
لا تنكروا ضربى له من دونه ... مثلا شرودا فى الندى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
فهكذا يجب أن تفهم الأمثال، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.
__________
(1) هو عمرو بن ودّ العامري. من فرسان العرب المعدودين.(9/1284)
وقد عرضنا لهذه القضية فى كتابنا قضية الألوهية «بين الفلسفة والدين» فى الجزء الأول منه.
والصورة التي يصورها التشبيه هى:
كوة أو مشكاة «بلورية» .. فيها مصباح متقد، وهذا المصباح مظروف فى زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء، حتى لكأنها كوكب درى..
ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون..
فهذا النور، ليس مجرد نور، وإنما هو كما وصفه الله سبحانه: «نُورٌ عَلى نُورٍ» .. نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، ثم نور الزيت الذي يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار.. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل.. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور..
وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن..
أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء- فإنه لا ينقض هذا النور، ولا ينقص من جلاله وروعته.. لأنه نور وديع، هادىء، لطيف، على حين أن نور الكهرباء زاعق، صارخ.. وهذا هو السّر أو بعض السرّ فى ضرب المثل بهذا النور، دون ضوء الشمس، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية.
وقد قلنا إن المراد بنور الله هنا، هو هداية الله سبحانه وتعالى لكل ذرّة فى هذا الوجود، وإقامتها فى مكانها الصحيح، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود، وتتناغم مع الموجودات.. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل فى نور، فلا تضلّ طريقها أبدا..
ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم، رأينا الوجود كله نورا.. فالأجسام جميعها(9/1285)
مكونة من ذرات، والذّرات- كما عرف العلم- نور من نور.. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور فى فلك النواة التي للذرة.. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة، من جبال، ورمال، وتراب، وأناسىّ، ودوابّ، وعربات، وسيارات، ودور، وقصور، وشموس وأقمار- هى نور مجسد، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج..
فالعالم المادىّ- كما يبدو اليوم فى مرآة العلم الحديث- هو شموس من نور، وأن نوره سبحانه، يتخلل هذا النور، الذي هو بالإضافة إلى نور الله ظلام، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور الله، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع فى محيط المشكاة، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء.
فنور الله سبحانه وتعالى، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه الله عليه، إذ على هذا النور يدور كل موجود فى فلكه، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها فى فلك الوجود.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» .. (40: النور) وقوله سبحانه:
«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15: المائدة) وعلى هذا يكون المراد بنور الله، هو ما أودع فى الموجودات من سنن، وما ركّب فى المخلوقات من قوى، وما بعث فى الناس من رسل، وما أنزل من كتب، ومن دلائل.. ففى كل هذا نور من نور الله، «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» (16: المائدة) ولهذا جاءت هذه الآية:
«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» تالية قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» وذلك بعد أن كشفت آيات الله بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك، حتى لقد انقشع ظلامها، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين..(9/1286)
ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية الله سبحانه وتعالى، وسلطانه القائم فى الوجود- بالنور.. إنما هو لما فى النور من لطف، بحيث لا يتجسد أبدا، بل أنه فى هذا على عكس الأشياء كلها، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما.. أما النور، فإنه كلما تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها.. فنور شمعة فى حجرة، ونور آلاف منها فى نفس الحجرة، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها، ولا يحدث خلخلة فى الهواء الموجود بها، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا.
ومن جهة أخرى، فإن النور- مع شفافيته، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر- هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن.. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر فى لمحة بصر، لا تتجاوز جزءا من الثانية ...
فالنور- كما ترى- لا يتحيز فى مكان، ولا يكاد يتقيّد بزمان.
والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان..
فإذا كان الله نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه- وهو القيوم على الوجود- ليس حالّا فى الموجودات، ولا متحيزا فيها، ولا محجوزا فى مكان منها دون مكان.. وأقرب مثل لهذا فى تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح فى زجاجة درية، داخل مشكاة، هى أشبه بالوجود الذي يستضىء بنور الله.. فهذه المشكاة، يكشف النور وجودها، دون أن يشغل حيزا فيها، ودون أن تحيزه هى داخلها، لأنها شفافة لا تحجب النور(9/1287)
الذي يشع فيها، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها..
وإذا علمنا أن الوجود- كما أثبت العلم- مصور على هيئة كروية، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا فى تلك المشكاة البلورية، المعلقة فى الفضاء يضيئها مصباح فى زجاجة كأنها كوكب درىّ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار! .. وأقرب صورة للوجود، والنور المنبعث فى كيانه، هو القنديل المعلق فى بيت من بيوت الله، ينبعث منه النور فى ظلمات ليل بهيم.
ومن بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ينبغى أن نفرق بين نور ونور..
نور الله، وهذا النور الذي نصطنعه.. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى.. الذي لا يعرف كنهه، ولا يدرك سره، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب.. فهذا مثل، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها.. «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
وفى قوله تعالى: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» - إشارة إلى أن نور الله الذي يملأ الوجود، هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة، موجودة فى كل موجود.. ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى ألطافا بعباده، فيصل نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق، والخير:
«يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» .
فالوجود كله، وإن كان نورا من نور الله، بالإفاضة والخلق، فإن هناك نور الهداية، الذي يضىء البصائر، ويشرح الصدور، وهذا النور يدعو الله إليه من شاء من خلقه، ليكونوا فى ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا(9/1288)
ربانيين، بما فيهم من النور الرباني، الذي أمدهم الله به: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) .
قوله تعالى: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ» . أي هذا النور، الذي صوّرته المشكاة، والمصباح، هو مثل، وليس حقيقة، لأن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله، ولا تماثله..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن نور الله، هو من علم الله الكاشف لكلّ شىء.. فهو نور علم وهداية، يصدر عن عالم، حكيم، مدبر، فيفيض على الوجود هدى ورحمة، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا..
قوله تعالى:
«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» - متعلّق الجار والمجرور «فِي بُيُوتٍ» هو فعل محذوف، تقديره: إذا أردتم التماس هذا النور.. نور الله.. فالنمسوه «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» .
وهذا الذي نقول به، هو أنسب من القول بأن هذا الجار والمجرور متعلق بمشكاة، على تقدير:
«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ.. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» .
وهذا بعيد من حيث النظم، ثم بعيد من حيث المعنى. إذ أن نور الله هو نور الله، سواء فى المساجد، أو فى غيرها..
والذي ذهبنا إليه، هو المناسب للمقام.. إذ كان قوله تعالى: «يَهْدِي(9/1289)
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ»
مشوّقا للنفوس أن يكون لها نصيبها من هذا النور، وأن تكون فيمن شاء الله هدايتهم إليه.. ومن بواعث هذا الشوق تجىء تساؤلات عن هذا النور، وكيف السبيل إليه، وبلوغ النفس حظها منه؟ ولا تكاد النفس تتلقّى هذه الخواطر المتسائلة، وهى بين يدى قوله تعالى: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» - حتى يلقاها الدليل الذي يأخذ بها إلى مواقع هذا النور:
«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» - ففى هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يلتمس نور الله، حيث يتجلى الله سبحانه وتعالى على كل من يغشون هذه البيوت، ويذكرون الله فيها..
وفى تنكير البيوت، تعظيم لمقامها، ورفع لشأنها، وتضخيم لقدرها، وإن ضاقت رقعة وقلت عددا.. فهى أيّا كانت، أعلى البيوت مقاما، وأرفعها عمادا، وكل بيوت غيرها، ظلّ لها، ومرفق من مرافقها.
وإذن الله برفع هذه البيوت، هو أمره بإقامتها.. فحيث أقيمت، فهى مرفوعة على كل بنيان، وإن علا بناء، وعظم جسما.
وقوله تعالى: «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» معطوف على قوله تعالى: «تُرْفَعَ» أي أذن الله أن ترفع، وأذن أن يذكر فيها اسمه.. وهو بيان للغاية من رفعها، وإقامتها، وأنها إنما رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم الله.. فهى بيوت عبادة، وذكر لله..
وذكر اسم الله، هو ذكر الله.. واسم الله، هو صفته، وليس لله سبحانه اسم واحد، أو صفة واحدة، وإنما له أسماء وصفات كثيرة، هى الكمال المطلق، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (180: الأعراف) ودعاء الله بأسمائه، هو ذكر وتمجيد له..(9/1290)
وفى ذكر الله، ذكر لجلاله، وعظمته، وقيومته، واستحضار لما له سبحانه وتعالى فى خلقه، من تقدير وتدبير، وفى هذا الذكر يتصل العبد بربه، ويقترب من مواقع رضاه ورحمته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) وقد عرضنا لبحث هذا الموضوع، عند تفسير هذه الآية الكريمة «1» ..
وقوله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» .. هو بيان شارح لهذه المساجد، ولمن يغشونها من عباد الله.. فهذه البيوت لا تهشّ، ولا تسعد إلا بمن يتعلق فلبه بها، ويجد الأنس والمسرّة فى رحابها، ويستشعر الغربة والوحشة فى البعد عنها، فهو لهذا غاد ورائح إليها، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن غشيانها وذكر الله فيها، ابتغاء رضوانه، وخوفا من لقائه فى يوم «تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» أي تضطرب فيه القلوب هولا وفزعا، وتزيغ فيه الأبصار، كربا وجزعا..
والغدوّ: أول النهار، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار.. وأفرد الغدوّ: لأن فيه صلاة واحدة، هى صلاة الصبح.. وجمع الأصيل.. لأنه زمن ممتد، فيه صلاة الظهر، والعصر، والعشاءين.. (المغرب والعشاء) .
قوله تعالى:
«لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» .
هو تعليل لما ببغيه الغادون والرائحون إلى بيوت الله.. أي أنهم يفعلون
__________
(1) انظر التفسير القرآنى للقرآن: الكتاب السابع.(9/1291)
هذا، ويولّون وجوههم إلى ربهم بالغدو والآصال، ليكون ذلك سببا فى أن يرضى الله عنهم، ويجزيهم أحسن ما عملوا ويقبله منهم، ويتجاوز بإحسانهم هذا عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» (16: الأحقاف) .. وليس هذا فحسب، بل إنه سبحانه وتعالى- سيزيدهم من فضله، ويضاعف الجزاء لهم من إحسانه..
فهذا رزق من رزقه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» لأن خزائنه ملأى أبدا، لا تنقص بالعطاء.. وإذن فلا يجرى حساب على هذه الخزائن، لإحصاء ما ذهب منها وما بقي..
ولكن- مع هذه الخزائن الملأى من رزق الله، ومن فضله، وإحسانه- فإنه سبحانه، قيوم حكيم، يضع رحمته حيث يشاء، ويعطى منها ما يشاء لمن يشاء، بحساب وتقدير، حسب ما تقضى به حكمته وتدبيره، وفى هذا يقول سبحانه:
«وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» .. ويقول جلّ شأنه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (21: الحجر) ..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» .
فى الآية السابقة، ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين، الذين يغدون ويروحون إلى بيوته، يذكرونه ويسبحون بحمده، وقد وعدهم الله على ذلك، قبول أحسن ما عملوا، ومضاعفة هذا الإحسان..
وفى هذه الآية عرض للكافرين، وأعمالهم التي يعملونها فى دنياهم..
إنها أعمال مهلكة لأهلها، لا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب.. لأنها(9/1292)
أغوتهم وأضلتهم، وخيّل إليهم منها أنها أعمال مبرورة، وأنها غرس فى مغارس الخير والإحسان.. وهى فى حقيقتها أشبه بالسراب، يلمع فى «قيعة» - جمع قاع- وهو الأرض الفسيحة التي لا زرع فيها..
وفى قوله تعالى: «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» إشارة إلى خداع النفس، بعد خداع البصر بهذا السراب، فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء، تغطّى على عقله، فيخال السراب ماء، مثله كالخائف المذعور، فى سواد الليل ووحشته، يمثّل له الوهم أشباحا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه والفتك به.
وإلى هذا السراب يشتد طلب الظمآن، ويسعى حثيثا لاهثا إليه، وكلما قطع مرحلة وجد السراب يتحرك أمامه ويفلت من بين يديه، وهكذا حتى تتقطع أنفاسه: «حَتَّى إِذا جاءَهُ» ووصل إلى حيث كان يظن أنه الماء «لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» ! فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه، وتتقطّع أنفاسه، وتغلى مراجل غيظه وظمئه..
وليس هذا وحسب، بل إنه سيجد هناك من يمسك به، ويقوده إلى موقف الحساب على ما كان منه من كفر، وضلال.. «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ.. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» ! فالكفر يمحق كلّ عمل وإن كان من باب الخير والإحسان.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو أشبه بالميتة، لا يؤكل لحمها، وإن كانت من أطيب الحيوان لحما! قوله تعالى:
«أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً.. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» .(9/1293)
هو مثل آخر، تشبه به أعمال الكافرين، بعد أن شبهت بالسراب.
والفرق بين المثلين، أن السّراب صورة تمثيلية لما يراه الكافرون فى أعمالهم وهم فى الحياة الدنيا، حيث يرونها فى صورة حسنة معجبة.. وهى فى حقيقتها سراب يخدعهم، ويدفع بهم فى طريق الغواية والضلال، حتى تخمد أنفاسهم، ويسلمهم هذا السراب إلى القبر، وما وراء القبر من حساب، وعقاب.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» . (8: فاطر) وهنا فى هذا المثل، تطلع عليهم أعمالهم هذه فى الدار الآخرة، حيث يلتمسونها، فيجدون أنهم غارقون فى ظلام مطبق، لا يرى فيه أحدهم يده، إذا أخرجها من كمّه، وعرضها لعينيه.. فكيف يرى هذه الأعمال، التي كان يظنها أعمالا مبرورة محمودة؟ إنها قد استحالت إلى قطعة من الظلمات، فى كيان هذه الظلمات.. فليقتطع لنفسه قطعة من هذا الظلام إن أراد، وإن استطاع! «أَوْ كَظُلُماتٍ» كظلمات لا ظلمة واحدة، بل طبقات بعضها فوق بعض من مادة الظلام «فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» أي متلاطم الموج، حيث يتعالى الموج، ويركب بعضه بعضا، فإذا سواده الكثيف يلتقى مع هذه الظلمات المطبقة على هذا البحر اللجىّ «يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ» أي يغطى هذا البحر موج، وفوق الموج، موج، وفوق الموج، سحاب، هو موج فوق موج.. وهو «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» .. وأنّى لمن تركبه هذه الظلمات أن يعرف طريقا إلى النجاة والخلاص؟ إنه لا يكاد يرى يده التي يمدّها إلى حبل النجاة إن كان هناك حبل! إن هذا الظلام يكاد ينعقد عليه، ويلبسه من قمة رأسه(9/1294)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
إلى أخمص قدمه، حتى تضيق به أنفاسه، وتزهق منه روحه! وقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» - أي من لم يجعل الله فى قلبه نورا، هو نور الإيمان، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا.. وإنه للمحروم الشقي، ذلك الذي حرم حظّه من نور الله، الذي يملأ السموات والأرض!
الآيات: (41- 46) [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ(9/1295)
قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» ..
فى هذه الآية، والآيات التي بعدها، استعراض لقدرة الله، وبسطة نفوذه، وسلطانه المتمكن فى هذا الوجود، والآخذ بناصية كلّ موجود.. وذلك بعد أن عرضت الآيات السابقة مثلا لنور الله سبحانه وتعالى، الذي يملأ الوجود كله، ويسرى فى كيان كل ذرة فيه، ويقيمها المقام المناسب لها فى ملكوت السموات والأرض.. وأن هذا النور قد اهتدى به المهتدون، فأسعدهم الله وأرضاهم، وأنزلهم منازل السعادة والنعيم، على حين قد عمى عن هذا النور، الضالون، والمشركون، والكافرون، فأذاقهم الله الوبال والخسران، وأنزلهم منازل الهون والشقاء..
وفى هذا العرض الذي تعرض فيه هذه الآية والآيات التي بعدها، مالله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان- فى هذا العرض تثبيت لإيمان المؤمنين، وربط على قلوبهم، وتوثيق للصلة التي أقامها الإيمان بينهم وبين ربّهم.. ومن جهة أخرى، فإن فى هذا العرض دعوة مجدّدة إلى الكافرين، والمشركين، والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض- أن يعيدوا النظر فى موقفهم هذا الزائغ المنحرف عن سواء السبيل، وأن ينظروا فى هذه المعارض التي تعرضها تلك الآيات لجلال الله، وقدرته، وعظمته، ففيها نور الله لمن يلتمسون النور، ويطلبون الهدى.
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ..
الرؤية هنا معناها العلم الذي يجىء عن بحث ونظر.. وهو خطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، يخاطب به كلّ من هو أهل للخطاب.. ثم هو دعوة إلى النظر والتدبّر فى هذا الوجود.. وعن هذا النظر وذلك التدبر يستطيع الإنسان أن يرى انقياد الوجود كلّه للخالق جل وعلا، وولاءه له، وعبوديته لذاته، وخضوعه لجلاله.. وبهذا يعلم أن كل ما فى السموات والأرض يسبّح بحمد الله(9/1296)
ويمجّده، ويعظّمه.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .. فهو تسبيح وولاء، وخضوع واستسلام، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) .
- وقوله تعالى: «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» .. معطوف على فاعل الفعل «يُسَبِّحُ» وهو الاسم الموصول «من» والمعنى.. ويسبح له «الطَّيْرُ صَافَّاتٍ» ..
وصافات، حال من الطير، أي أنها تسبّح لله سبحانه وتعالى، وهى فى أروع مظاهرها، وأعلى منازلها، حيث تكون محلقة فى جوّ السماء، صافّة أجنحتها، أي باسطتها فى حال من الهدوء والسكون، كأنها تستعرض العالم الأرضى، وتبسط ظلها عليه.. فهى فى علوّها وتربعها على هذا العرش، لم يدخل عليها شىء من الكبر والغرور، كما يقع ذلك لكثير من الناس، بل إنها لتزداد بهذا ولاء وخشوعا لله، فتقيم صلاتها لله، فى جوّ السماء، صافة أجنحتها، مرسلة جوارحها، فى خشوع واستسلام، معتمدة على قدرة الله، لا تخشى أن تهوى من حالق..
وهذا هو التوكل فى أروع مظاهره..
- وقوله تعالى: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» .
يمكن أن يكون فاعل الفعل «عَلِمَ» ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى:
ويكون المعنى كلّ من هذه المخلوقات قد علم الله صلاته وتسبيحه.. وهذا هو الذي ذهب إليه المفسّرون..
ويمكن أن يكون الفاعل ضميرا يعود إلى هذه المخلوقات.. ويكون المعنى أن كلّ مخلوق من هذه المخلوقات، قد علم الصلاة التي يصلّى بها، والتسبيح الذي يسبّح به لله.. وهذا هو الرأى الذي نقول به..
ويكون معنى العلم هنا، هو ما أودعه الله فى كيان كل مخلوق من قوى(9/1297)
يتصرف بها، ويعمل حسب ما يسّره الله له.. وهذا يشعر بأن عملها هذا ليس عملا آليا، وإنما هو عمل عن علم، ذاتى، أو خارج عن الذات.. فهو على أي حال عمل يحكمه علم، حتى يحقق هذا التآلف، والتجاوب بين موجودات الوجود، فى حمد الله وتسبيحه..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى، المحيط بكل شىء، والعالم بكل ما يعلم الخلق وما يعملون..
وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذه المخلوقات لها علمها الذي تعمل به، وأن لله سبحانه وتعالى علمه، المحيط بعلمها وعملها جميعا! قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» .
هو تأكيد لعلم الله بعلم المخلوقات، وبعملها.. إذ هو علم متمكن، لأنه علم الخالق لما خلق، ومعرفة المالك لما ملك.. فقد يعلم الإنسان الشيء ولا يملكه ولا يقدر على التصرف فيه بمقتضى ما يعلم منه.. أما علم الله فهو علم المالك لما ملك، يتصرف فيه كيف يشاء، بما يقضى به علمه، وحكمته، وإرادته.
وفى قوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» تأكيد للملكية، وأنها ملكية لا تخرج عن سلطان المالك أبدا، لا كملكية المالكين لما يملكون.. إذ أن كل ما يملكه الإنسان من شىء، هو ذاهب عنه، مقضىّ عليه بالفراق بينه وبين ما ملك.. إما بأن يستهلكه فى حياته، وإمّا بأن يموت عنه، ويخلّفه وراءه لمن يرثه من بعده.. أمّا ملكية الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود وما فيه، فهو ملك لا يخرج من يد المالك أبدا، مهما تحولت أحواله، وتبدّلت صوره وأشكاله، فالمالكون، وما يملكون صائرون جميعا إلى الله..(9/1298)
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» .
يزجى: أي يدفع، ويحرك..
والركام: المتراكم، المجتمع بعضه إلى بعض..
الودق: المطر، ينزل متساقطا فى قطرات، فيدق الأرض، أي يترك فيها آثارا..
فى هذه الآية عرض محسوس لقدرة الله، بعد هذا العرض غير المحسوس، الذي جاءت به الآية السابقة، من النظر المطلق الشامل للوجود كله، وما قام عليه من نظام..
وفى هذا العرض، إلفات إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة، التي يشهدها الناس جميعا فى كل زمان، وكلّ مكان..
فهذه السحب التي تنطلق فى مواكب متدافعة فى جو السماء، كأنها جيوش غازية، تزحف إلى ميدان القتال، أو تتراكض عائدة من المعركة محملة بالغنائم والأسلاب- هذه السحب: من أنشأها؟ ومن سيرها؟ ومن حدّد لها خط مسيرها؟ ومن وقف بها عند غاية معلومة لها؟
ألا فليعلم من لم يكن يعلم، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أنشأها، وسيرها، وحدّد لها وجهتها، وأمسك بها عند الغاية المحددة لها..
- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» ..
فهذه صور ثلاث، لمشاهد السحاب.. يولد أولا دخانا رقيقا، ثم يدفعه الرّيح(9/1299)
فى خفة ويسر.. ثم يجتمع هذا السحاب بعضه إلى بعض، فيتكاثف شيئا فشيئا، ثم يتدافع هذا السحاب، ويدخل بعضه فى بعض، فإذا هو ركام، أشبه بالآكام، أو الجبال..
- وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» .. إلفات إلى مولد المطر من هذا السحاب، وتحلبه من خلاله، كما يتحلّب اللبن من الضرع..
وليس يدرك سر هذه اللفتة إلى قطرات الماء، وهى تتساقط من السحاب، إلّا من عاش فى الصحراء، وشهد آثار الماء حين ينزل إلى الأرض، ويبعث الحياة والحركة فى جمادها ونباتها، وحيوانها.. إنها عملية خلق، وبعث جديدين، لهذا الجسد الكبير الهامد.. ثم هو بعد ذلك عرس رائع، تحتشد له الأحياء، وتنطلق من كيانها نشوات البهجة والحبور، فى أهازيج، وأناشيد، وزغاريد:
يتألف منها لحن عبقرىّ بالتسبيح والحمد لله رب العالمين..
انظر إلى هذا الوصف الرائع، الذي صوّر به «امرؤ القيس» احتشاد الطبيعة، ونشوتها غبّ مطر.. فيقول امرؤ القيس، فى معلقته المشهورة:
أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل
يضىء سناه.. أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذّبال المفتّل «1»
قعدت له وصحبتى بين ضارج ... وبين العذيب بعد ما متأمّلى «2»
كأنّ مكاكىّ الجواء غديّة ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل
__________
(1) السليط: الزيت الذي يوقد منه المصباح.
(2) ضارج، والعذيب: موضعان.(9/1300)
هذه نظرة شاعر.. نظر إلى هذه الظاهرة من ظاهرها، وشغل بألوانها، وألحانها، عما وراء هذه الألوان، وتلك الألحان، من حقائق، تصل هذه القطعة من الطبيعة بالوجود كله، ثم تضيف هذا الوجود إلى الموجد، المبدع، المصوّر! وإليك نظرة نبىّ! ومن؟ إنه نبىّ الأنبياء، وخاتم المرسلين، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه..
فقد روى أنه- صلوات الله وسلامه عليه- كان إذا نزل المطر، خرج إلى العراء، وكشف له عن رأسه، واحتواه بين ذراعيه.. وكان صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إنه قريب عهد بربه» .. أي إنه رحمة مرسلة من عند الله.. رحمة محسوسة ملموسة، ترى بالعين، وتلمس باليد، وتذاق باللسان..!
فمن أراد أن يشهد رحمة الله عيانا، فهى فى هذا الماء المنزّل من السماء.. صافيا طاهرا، لم يعلق به شىء من أخلاط الأرض.. إنه فى طهر المواليد التي تلدها الحياة.. من إنسان أو حيوان أو نبات! قوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» .. أي وينزل من جبال فى السماء، وهى السحب المتراكمة- بردا، وهو قطع الثلج..
فقوله تعالى: «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» بدل من السماء..
وفى الإشارة إلى هذه الظاهرة، إشارة إلى أن هذه السحب التي ينزل منها الماء، هى أيضا، وإن كانت مصدر نعمة، يمكن أيضا أن تكون مصدر نقمة، حين ينزل منها هذا البرد، وكأنه قطع من الأحجار، تتساقط من الجبال، فتهلك كل من تقع عليه، وكأنها بهذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة(9/1301)
الكبرى المنزلة من السماء- مرصودة ليؤخذ بها كل من يكفر بهذه النعم، ولا يضيفها إلى المنعم بها، ويسبح بحمده، ويشكر له..
وقوله تعالى: «فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» أي أن هذا البرد الذي تحمله السحب بين يديها، لا نرمى به هكذا من غير حساب، بل هو مملوك بيد القدرة القادرة، فيقع حيث أراد الله أن يقع، ويصرف عمن أراده الله سبحانه أن يصرفه عنه، من نبات، وحيوان، وإنسان..
وفى قوله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» - لون جديد تكمل به الصورة، صورة هذا العذاب الواقع مع البرد المتساقط كالأحجار.. فهذا البرد يحمل معه الصواعق المهلكة، والنار المحرقة، وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر، وما أعزّ وأقوى سلطانه!! قوله تعالى:
«يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» .
وهذه ظاهرة أخرى.. تشهدها الحواس، وتعيش فيها.. حيث يدور الليل والنهار فى هذا الفلك دورة منتظمة، محكمة، لا تتخلف أبدا.. وكأنهما الكفّ فى حركتها، ظاهرا وباطنا..! يقلبهما الله- سبحانه- كما يقلب الإنسان كفّه! وفى هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (191: آل عمران) .
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ(9/1302)
مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
هذه الآية، شارحة لنعمة الماء، الذي أشارت إليه الآية قبل السابقة..
فهذا الماء الذي ينظر إليه بعض الناس نظرة باردة جامدة، ولا ينظر إليه بعضهم أبدا- هذا الماء هو أصل هذه الحياة، وهو جرثومة كل حى.. من نبات، أو حيوان، أو إنسان.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. فليعد الإنسان الغافل النظر إلى هذا الماء، وليرجع إليه البصر مرة ومرة ومرات، وسيرى أن هذا الماء هو أصل وجوده، كما أنه سبب فى إمساك هذا الوجود، وحفظه، وأنه لو حرم الماء لأيام معدودة لهلك!.
فالماء، هو الحياة العاملة فى هذا الكوكب الأرضى.. ففى الماء أودع الله سرّ الحياة، فى صورها المختلفة، وأشكالها المتباينة المتعددة.. فحيث كان الماء كانت الحياة، وكانت الحركة، وكان التوالد لصور الحياة، التي تكتسى بها الأرض حسنا وجمالا، وتتبدل بها من وحشتها بهجة وأنسا..
ونظرة فى وجوه الأرض المختلفة، يتكشف لنا منها ما للماء من آيات وأسرار.. فحيث يوجد الماء يوجد الخصب والنماء، وتشاهد الحركة والحياة، وحيث يفتقد الماء، يكون الجدب، والوحشة، والموات، والهمود.!
ومن أجل هذا كان للماء هذا الذّكر الحفىّ به فى القرآن الكريم..
ويكفى أن يكون عرش الله سبحانه وتعالى على الماء، كما يقول سبحانه:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (7: هود) .. والمراد بالعرش، هو السلطان.. وهذا يعنى أن سلطان الله(9/1303)
قائم على الماء. يصرفه كيف يشاء، ويخلق منه ما يشاء.. وهذا يعنى أيضا أن الماء هو سر الحياة، التي يفيضها الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته على الأحياء فى الوجود كله..
- وفى قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» .. إشارة إلى تنوع صور المخلوقات، وتعدد أشكالها، وهى جميعها من مادة واحدة، لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة..
إنها شىء واحد، ومع هذا فقد جاءت بقدرة القادر، وصنعة الخبير الصانع- على هذه الصور التي لا تكاد تحصر من عوالم الأحياء، على اختلاف صورها، وتباين أشكالها، وتعدد ألوانها..
وهذا التقسيم الذي أشارت إليه الآية، هو تقسيم عام، حيث يندرج تحت كل قسم ما لا حصر له من صور وأشكال، تنضوى تحت كل قسم، وتندرج تحت كل صنف..
فأنواع الزواحف، من ديدان، وحيات، وحشرات.. وما شاكلها- هى مما يمشى على بطنه..
والناس، واختلاف ألسنتهم وألوانهم.. والطير، وتعدد أجناسه واختلاف ألوانه وأشكاله.. ذلك كله ممن يمشى على رجلين..
والبهائم والدوابّ، والأنعام، والوحوش.. فى تعدّد عوالمها، واختلاف أجناسها.. ممن يمشى على أربع..
- وقوله تعالى: «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» - هو إلفات إلى هذه القدرة القادرة، التي تبدع وتصور وتخلق، هذه الصور، وتلك الأجناس والأنواع، من عنصر واحد.. وهذا لا يكون إلا من قادر حكيم عليم، يتصرف كيف(9/1304)
يشاء.. ولو كان ذلك من عمل غير هذه القدرة المطلقة، لجاءت جميع المخلوقات فى قالب واحد، وعلى صورة واحدة..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لها، وأنها لا تصدر إلا ممن هو على كل شىء قدير.. لا يعجزه شىء وهذا كلّه فى عالم الأرض.. ومن قطرة الماء..
وأين الأرض، وما فيها، ومن فيها، من ملك الله العظيم؟
ألا شاهت وجوه من يولّون وجوههم إلى غير الله، وألا خسئ وخسر المبطلون! ..
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» المراد بالآيات المبينات، هى تلك الآيات التي تحدثت عن نور الله، وعن أن هذا النور هو آيات مبينات، تسرى فى كيان الموجودات، وتقيم كل موجود بمكانه الملائم له، وتوجهه وجهته المقدرة له.. ثم كان من نور الله، تلك الآيات القرآنية، التي كشفت للناس طريقهم إلى الله، وأطلعتهم على دلائل قدرته، وآثار رحمته.. وذلك فيما جاء فى الآيات التي تحدثت عن بيوت الله التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه.. والآيات التي تحدثت عن الكافرين وأعمالهم، ثم فى هذه الآيات التي عرضت تلك المشاهد الناطقة بقدرة الله، وسعة علمه ونفوذ سلطانه.. من السحاب والمطر، ومن خلق الحياة القائمة على الأرض من عنصر الماء..
ففى هذا كله، آيات مبينات، أي موضحات، وكاشفات، لطريق الحق، والهدى، والإيمان بالله، والولاء له، والتسبيح بحمده.(9/1305)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . إشارة إلى أن هذه الآيات المبينات، وتلك الشموس الساطعة، لا يهتدى بها، ولا يبصر الحق على ضوئها، إلا من أراد الله أن يفتح عيونهم إليها، ويكشف لبصائرهم الطريق إلى الله من خلالها.. وذلك شأنه فى عباده: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) .. «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) .
الآيات: (47- 52) [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 52]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» .(9/1306)
من هم هؤلاء الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول؟
إنه لم يجر لهم ذكر فى الآيات السابقة.. ولكنهم مذكورون ضمنا فى قوله تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
فهناك أناس، قد دخلوا فى الجماعة الإسلامية، وحسبوا فى المؤمنين، وأضافوا أنفسهم إلى تلك الجماعة وتزيّوا بزيّها، وأخذوا سمتها.. واطمأنوا إلى ما هم فيه- ولكن الله فضحهم، وكشف عن نفاقهم، وأنهم ليسوا من الإيمان فى شىء..
إن الإيمان ولاء، وطاعة، وانقياد.. ثم هو قبل هذا حبّ، وإن تجرّع المحب فى سبيله جرع البلاء! وهؤلاء الذين لبسوا الإيمان ظاهرا، إذا وضع إيمانهم على محكّ التجربة، ظهر زيفه، وبان ما فيه من دخل، وفساد.. «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (2: العنكبوت) .
- «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» .. ما أكثر الأقوال، وما أيسرها على الأفواه.. وإن القول الذي لا يصدقه العمل، هو زور وبهتان.. «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» .. أفهذا شأن المؤمنين؟ أو تلك هى سبيل المطيعين؟ - ذلك ما لا يكون من أهل الإيمان أبدا..
والتولّى: هو النكوص على الأعقاب، والعودة إلى حيث ما كانوا عليه من ضلال وكفر..
- وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» .. أي من بعد قولهم هذا القول بألسنتهم، والدخول بهذا القول مدخل المؤمنين، وهو قولهم: «آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» ..
وقوله تعالى: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» هو حكم على هؤلاء الذين قالوا هذا(9/1307)
الذي قالوه بأفواههم، ولم يتصل بعقولهم، وقلوبهم، ولم يؤثر فى مشاعرهم ووجداناتهم.. وهم فريقان: فريق دخل فى التجربة، فكشفت التجربة عن نفاقه.. وفريق ما زال ينتظر التجربة التي تفضحه وتعرّيه من هذا الثوب الزائف الذي استتر به، وهو لا بد أن يتعرى ويفضح فى يوم من الأيام:
ثوب الرياء يشفّ عما تحته ... فإذا التحفت به فإنك عار
قوله تعالى:
«وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» ..
هو بيان لما فى قلوب هؤلاء المنافقين من نفاق.. فهم مؤمنون، إذا كانت ريح الإيمان تدفع سفينتهم إلى الوجهة التي يريدونها.. وهم غير مؤمنين، إذا تعارضت ريح الإيمان مع أهوائهم وشهواتهم..
إنهم لا يرضون حكم الله ورسوله فيهم، ولا يقبلون ما قضى به كتاب الله فى شأن من شئونهم، إذا كان ذلك الحكم مما لا يرضيهم.
وفى الحديث عن هؤلاء المنافقين عموما، ثم الإشارة إلى فريق منهم- فى هذا إشارة إلى أنهم كيان واحد، من الضلال، والفساد.. وأنه لا فرق بين من يمتحن منهم، ومن لا يمتحن، وبين من يدعى إلى حكم الله ومن لا يدعى.
إنهم جميعا عصابة لصوص، دخلت فى حظيرة الإسلام، فإذا ضبط الإسلام بعضهم متلبسا بجرمه، فليس ذلك بالذي يبرىء ساحة هؤلاء الذين لا يزالون بعيدين عن قبضة الإسلام، حيث لم يفتضح نفاقهم بعد! إنهم على طريق الفضيحة.. إن لم يكن اليوم، فغدا، أو بعد غد! وقوله: «إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» .
فى عطف الرسول على لفظ الجلالة «اللَّهِ» سبحانه وتعالى، تشريف لمقام الرسول ورفع لقدره.. وأنه إنما يقضى بما قضى الله به، فحكمه من حكم الله، وطاعته، طاعة الله.(9/1308)
قوله تعالى:
«وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» - أي إن هؤلاء المنافقين، إذا كان حكم الإسلام فى أمر من الأمور العارضة لهم، مما يتفق مع مصلحتهم، جاءوا إلى الرسول مذعنين، أي مطيعين، معلنين الولاء لله، ولرسوله، يطلبون أن يأخذهم بحكم الإسلام، لأنه يجرى مع مصلحتهم، ويلتقى مع حاجتهم..
قوله تعالى:
«أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ .. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .
الاستفهام هنا هو تقريرى، يكشف عن العلل، التي تموج بها صدور أولئك المنافقين.. فليس داء واحدا هو الذي يخامر المنافق.. وإنما هو يعيش فى أكثر من داء، مما فى قلبه من مرض.
وهذا المرض الذي فى قلبه، من شأنه أن يفسد كلّ معتقد.. فلا يعتقد المنافق فى صحة رأى أو فساده إلا بالقدر الذي يجنى منه نفعا عاجلا.. إنه لا ميزان عنده لخلق، أو رأى. أو دين.. إنه يدين بالدين الذي يمشى مع هواه.. ومن هنا، فهو فى ارتياب من كل شىء.. يلقاه مترددا متشككا، ويقلّبه، كأنما يراه لأول مرة، ولو كان قد مرّ به ألف مرة.. لأن له فى كل مرة حالا معه، ورأيا فيه..
ومن هنا جاءت العلة الثالثة التي تسكن فى قلوب المنافقين، وهى تخوفهم من أن يحيف الله عليهم ورسوله، إذا هم احتكموا إلى كتاب الله.. فكتاب الله ميزان واحد.. وهم إنما يجرون أمورهم على موازين لا حصر لها.. وكل حكم لا يتفق مع أهوائهم، هو عندهم جور وحيف.. فهم يضعون أحكام الله موضع الاختبار والامتحان، ولا يجيئون إليها مستسلمين راضين بما يقضى(9/1309)
به الله، سواء أكان لهم أم عليهم.. بل إنهم إن وجدوا فى حكم الله، ما هو لهم، أخذوا به ورضوا عنه، وإن وجدوه على غير ما يريدون، أعرضوا عنه، وتنكروا له..
- وفى قوله تعالى: «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. إشارة إلى أن هذه الأمراض الخبيثة التي يعيش فيها المنافقون، إنما تنتهى بهم إلى أخسر صفقة، وهى الظلم الذي هم أول ضحاياه.. إنهم ظلموا أنفسهم، وساقوها إلى هذا المرعى الوبيل، الذي لن يطعموا منه إلا الخزي والخسران فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة، وحسبهم أنهم كفروا بآيات الله.. وللكافرين عذاب مهين..
قوله تعالى:
«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
هذه هى الصورة المشرقة لإيمان المؤمنين، وما فى قلوبهم من صدق ويقين..
إنهم إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، أجابوا بالسّمع والطاعة، ورضوا بما يقضى به الله ورسوله فيهم، سواء أكان ذلك لهم، أم عليهم.. هكذا الإيمان، وهكذا شأن المؤمنين: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» (36: الأحزاب) إنه السمع والطاعة لما يأمر به الله ورسوله، دون تردد أو ارتياب.. إذ لا إيمان مع تردد فى أمر من أمر الله أو شك فى حكم من أحكامه..
قوله تعالى:
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» .
هذا هو جزاء المؤمنين حقا.. الفوز برضوان الله، بعد أن أفلحوا حين(9/1310)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
أخلصوا دينهم لله، ودانوا بالطاعة لله ولرسوله، وامتلأت قلوبهم خشية وتقى لله، فلم ينافقوا فى دينهم، ولم يتّجروا بإيمانهم، بل كانوا على حال، سواء مع الله ورسوله، فى السراء والضرّاء وفى الشدة والرخاء.. إنه الحب لله، والرضا بحكم الله.. والحب الصادق لا يجىء منه أبدا ما يغير موقف المحب ممن أحب.
هكذا الحب بين الناس، فكيف يكون الحب بين الناس ورب الناس؟
يقول الشاعر لمن أحب:
أسيئي بنا أو أحسنى.. لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت
الآيات: (53- 57) [سورة النور (24) : الآيات 53 الى 57]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)(9/1311)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا.. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» .
عادت الآيات بعد ذلك لتكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، ولتعرض صورة أخرى من صور نفاقهم مع الله، بعد أن عرضت تلك الصورة المخزية الفاضحة منهم، وأنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله فيهم، ولا يرضون بكتاب الله حكما عليهم..
فتراهم هنا فى هذه الصورة، لا يستجيبون لدعوة الجهاد إذا حان وقت الجهاد، ودعا داعية.. وقد كانوا من قبل يقسمون الأيمان أغلظ الأيمان وأوكدها، لئن أمرهم الرسول بالخروج إلى القتال ليخرجنّ من غير تردد أو مهل..
فهم فى مجال القول، أبطال حروب، وفرسان قتال، فإذا جدّ الجدّ، كانوا أجبن الناس، وأحرص الناس على حياة..
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنّزالا
والحلف، هو أول سمة من سمات النفاق، وكثرة الحلف وتوكيده، هو الإدام الذي يأتدم به الكلام فى أفواه المنافقين، فلا يسوغ لأفواههم كلام، ولا يجدون لقول طعما إلا إذا غمسوه فى تلك الأيمان الكاذبة، وأكدوه بهذا الحلف الفاجر، واليمين الغموس..
- وقوله تعالى: «لا تُقْسِمُوا»
هو ردع لهم، وردّ لأيمانهم المؤكدة، ومبادرة بالتكذيب لما وراء هذه الأيمان، وذلك لما هو معروف من أمرهم، وأنهم ليسوا أهل صدق ووفاء، لأن من لا إيمان له، لا أيمان له..(9/1312)
- وفى قوله تعالى: «طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»
استهزاء بهم، وسخرية منهم، وبطاعتهم تلك التي يحلفون عليها، ويقدّمون بين يديها أوكد الأيمان.. إنها طاعة معروفة، طاعة بالقول، وعصيان بالعمل.. وهذا مثل قوله تعالى فى المنافقين: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ.. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (94: التوبة) .
قوله تعالى:
«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» .
هو دعوة إلى المنافقين، أن يخرجوا من نفاقهم هذا، وأن يستقيموا على طريق الإيمان، ويأخذوا وجهتهم مع المؤمنين، ولن يكون ذلك إلا بأن يطيعوا الله والرسول، وأن يمتثلوا ما أمر الله به على لسان نبيه الكريم، فإن فعلوا رشدوا، وإن تولوا فإنما على الرسول «ما حمّل» من أمانة، وهى تبليغ رسالة ربه، وقد بلّغها.. «وعليهم ما حملوا» وهو الاستجابة للرسول، والإيمان به، وبما معه من آيات الله.. وقد ألقوا هذه الأمانة من أيديهم، وخلعوها من أعناقهم.
وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا» أصله «تتولوا» .. حذفت تاء المضارعة للتخفيف..
- وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» - هو مطلوب الأمانة التي حمّلوها، والتي أشار إليها قوله تعالى: «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» ..
- وقوله تعالى: «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو مطلوب الأمانة التي حملها النبىّ، والتي أشار إليها، قوله تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ» ..(9/1313)
وقد كان مقتضى النظم أن يردّ فيه ختام الآية على مطلعها، مراعى فيه الترتيب الذي جاء عليه المطلع.. بمعنى أن يكون نظم الكلام هكذا:
فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، وما عليكم إلا أن تطيعوه..
ولكن هذا كلام، وذاك قرآن.. وشتان بين القرآن، وبين الكلام! ..
فقد جاء القرآن على هذا النظم، فحمّل المنافقين الأمانة، ثم دعاهم فورا إلى الوفاء بها، لأنهم هم المطلوبون، المنادى عليهم بالخيانة.. على حين أن الرسول قد أدى أمانته، وليس فى حاجة إلى تنبيه أو طلب.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» توكيدا وشرحا لقوله تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ» وليس دعوة جديدة للنّبى أن يبلغ البلاغ المبين، على حين أن قوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» هو أمر مطلوب من المنافقين أداؤه.
قوله تعالى:
«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .
الخطاب هنا للمؤمنين جميعا، فى مواجهة المنافقين.. وأن هؤلاء المؤمنين موعودون من الله- إذا هم صدّقوا إيمانهم بالعمل الصالح- أن يستخلفهم فى الأرض، أي يجعلهم خلفاءه عليها، ويجعل إلى أيديهم السلطان المتمكن فيها..
فالإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض، ولن يكون أهلا لهذه الخلافة إلا إذا صحّت إنسانيته، وسلمت فطرته.(9/1314)
أما إذا انحرف، وفسد، فإنه ينزل عن هذه الخلافة، ويخلى مكانه منها، ليأخذ مكانه بين حيوانات الأرض ودوابّها.
- وقوله تعالى: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» - إشارة إلى من استخلفهم الله من عباده المؤمنين الصالحين، بعد أن أهلك القوم الظالمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» (13- 14: إبراهيم) .. وكذلك قوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (105: الأنبياء) .
فالمؤمن بالله، المستقيم على طريق الحق والهدى، هو أقوى الناس قوة، وأقدرهم على جنى أطيب الثمرات مما على هذه الأرض.. وبهذا يكون له السلطان المتمكن فيها..
- قوله تعالى: «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» أي أن المؤمنين الذين عرفوا حقيقة الإيمان، وأدوا ما يقتضيه الإيمان منهم، من عمل صالح- هم أهل لأن يجمعوا إلى أيديهم الدنيا، والدين جميعا، فتكون لهم العزة، ويكون لدينهم الغلب والتمكين.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» ..
فالمؤمنون الذين لهم العزة هنا، إنما يستمدون عزتهم من عزة الرسول، الذي يستمد عزته من ربه..
فهم بهذا موصولون بالله، باتباعهم رسول الله، وما أنزل إليه من ربه.
وهيهات أن يكون لإنسان ذليل ضعيف، دين، أو أن يقوم دين لدولة فى مجتمع مريض هزيل!(9/1315)
والدّين الذي ارتضاه الله للمؤمنين، هو الإسلام، كما يقول سبحانه وتعالى فى آخر آيات القرآن نزولا: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) .
فالإسلام، هو الدين الذي قامت فى ظلّه الشرائع السماوية، كما يقول تعالى:
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» .. هو الدين الذي خلص كلّه للأمة الإسلامية..
كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» .. وكما يقول سبحانه: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» (193: البقرة) ..
وفى قوله تعالى: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» إشارة إلى ما يكسبه الإيمان الحق أهله، من عزّة ومنعة وقوة، وأنهم بهذا الإيمان قد أمنوا أن يزيحهم الكافرون والمشركون والمنافقون عن دينهم، وأن يفتنوهم فيه.. ومن ثمّ فإنهم يعبدون الله بقلوب خلصت من المداهنة والنفاق، والشرك.. فلا يلتفتون إلى غير الله، ولا يعطون ولاءهم لسلطان غير سلطان الله.
وقوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .. أي من حدّثته نفسه بالإقلاع عن الإسلام، والعودة إلى الكفر، بعد أن لبس ثوب العزّة، وأمن الفتنة فى دينه من جور الجائرين، وظلم الظالمين- فهو من الفاسقين.. أي الخارجين طوعا عن دينهم، وليس لهم ثمّة عذر.. فهم كافر وفاسق معا..
وهذه الآية، تواجه المنافقين.. كما قلنا- بما يسوءهم ويكبتهم، وذلك بهذا الوعد الكريم من الله بإعزاز المؤمنين، والتمكين لهم، واستخلافهم فى الأرض.. وأن المنافقين إذ كانوا ينظرون إلى حال المؤمنين يومئذ، وإلى(9/1316)
ما يعجبهم من كثرة المشركين وغلبتهم، فإن الدولة وشيكة، أن تكون للمؤمنين..
فليبادروا إلى هذا المغنم، وليأخذوا مكانهم بين المؤمنين منذ اليوم، وإلا فلن يكون لهم مكان بعد أن يفوتهم الركب، وهم بمنقطع الطريق.
قوله تعالى:
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .
وهذا بيان للأعمال المطلوبة من المؤمنين، حتى يكونوا على الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به، ووعدهم عليه الاستخلاف، والتمكين..
وهو أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، وأن يطيعوا الرسول فيما يدعوهم إليه، ويندبهم له، من الجهاد فى سبيل الله..
قوله تعالى:
«لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .
هو خطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مشار به إلى المؤمنين، الذين استمعوا إلى وعد الله سبحانه وتعالى لهم، بالاستخلاف فى الأرض، والتمكين لدينهم.. وأنهم إذا نظروا فوجدوا ما هم عليه من قلّة وضعف، وما عليه الكافرون والمشركون من كثرة وقوة- إذا نظروا فوجدوا هذا، فلا يهولنّهم الأمر، ولا يدخل على ثقتهم بوعد الله وهن أو شك.. فهؤلاء الكافرون وإن بلغوا ما بلغوا من كثرة وقوة، فإنهم لا شىء أما قدرة الله سبحانه وتعالى..
فلن يعجزوه، ولن يفلتوا من المصير الذي هم صائرون إليه، من ذلّة وخزى فى الدنيا، وعذاب أليم فى الآخرة..
فليمض المؤمنون على إيمانهم، وليستقيموا على ما أمرهم الله.. فإن هم صدقوا الله، صدق وعده لهم، إذ يلقاهم على تلك الصفة التي وعدوا عليها..(9/1317)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
الآيات: (58- 60) [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث لتستكمل أدب المعاشرة والمخالطة فى المجتمع الإسلامى، بعد أن بينت الآيات السابقة أحكام الاستئذان، والحجاب والتحصن فى الزواج.. وكان من تدبير الحكيم العليم فى هذا، أنه لم يجىء بهذه الأحكام جميعها فى معرض واحد، حتى لا تزحم العقل، وحتى لا يفلت منها شىء فى هذا المزدحم.. فهى جميعها دستور متكامل، وعقد منتظم، إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها.(9/1318)
ومن أجل هذا كان هذا الفصل بينها بتلك الآيات، التي عرضت مالله سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه سبحانه نور السموات والأرض، وما فيهن، وأن كلّ من فى السموات والأرض يسبح بحمده، وأن عالم الأحياء خلق جميعه من ماء، وذلك بقدرة القادر العليم الحكيم.. وأنه كما اختلفت عوالم الأحياء صورا وطبائع، اختلف الناس عقلا وسفها، وإيمانا وضلالا..
فكان فيهم المؤمنون المتقون، وكان منهم الكافرون الجاحدون، وكان فيهم المنافقون، الذين يجمعون بين الكفر والإيمان..
وبعد هذا العرض الممتد المتنوّع، تجىء هذه الآيات الثلاث، لتستوفى أدب المعاشرة والمعايشة، بين الناس والناس..
وفى قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ» - فى هذا أمر للمؤمنين- من رجال ونساء أن يلزموا مواليهم الذين تحت أيديهم- من عبيد وإماء- ألا يدخلوا عليهم خلواتهم، إلا بعد إذن.. وذلك فى ثلاثة أوقات بينتها الآية كما سنرى..
وكذلك تحمل الآية أمرا إلى البالغين الراشدين- من أحرار الرجال والنساء- ألا يدعوا الصغار- من بنين وبنات- الذين، لم يبلغوا الحلم بعد، ولكنهم يميزون ما للرجل والمرأة، ويعرفون العورة وغير العورة- ألّا يدعوهم يدخلون عليهم فى هذه الأوقات الثلاثة إلا بعد استئذان، وإذن..
وهذه الأوقات، قد بينها الله سبحانه وتعالى فى قوله:
- «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ.. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ.. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» ..(9/1319)
ففى هذه الأوقات الثلاثة، يتهيأ الإنسان للراحة والنوم، ويتخفف كثيرا من ملابسه ومن تحفظه فى ستر عورته، لأنه على شعور بأنه فى خلوة مع نفسه، أو مع زوجه..
ففى هذه الأوقات الثلاثة ينبغى ألا يدخل الموالي- عبيدا أو إماء- على سادتهم، من رجال أو نساء، وكذلك الصغار المميزون من بنين وبنات- لا يدخلون على آبائهم أو أمهاتهم، أو غيرهم، إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.
وذلك سترا للعورات، وحفظا للحياء، وسدّا لذرائع الفتنة.
- وقوله تعالى: «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» أي هذه الأوقات، هى أشبه بثلاث عورات لكم، ينبغى أن تصونوا فيها أنفسكم عن أن يدخل عليكم أحد فيها إلا بإذن، حتى أولئك الذين لا تحتشمون لهم، ولا تتحرجون كثيرا منهم، وهم الموالي والصغار..
- وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» .. أي لا حرج عليكم ولا عليهم، بعد هذه الأوقات الثلاثة، فى أن يدخلوا عليكم من غير استئذان.. إذ كان أمركم غالبا فى غير تلك الأوقات، أقرب إلى التصوّن والتحفظ.. وفى الاستئذان الملزم للموالى والصغار، فى جميع الأوقات، كثير من الحرج، الذي تأباه هذه الشريعة، وتعفى أتباعها منه..
وقوله تعالى: «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» . جملة حالية. أي لا جناح عليكم ولا عليهم بعد هذه الأوقات الثلاثة وأنتم طوافون بعضكم على بعض.. فهذا شأنكم وشأنهم، بحكم المخالطة والمعاشرة.. ومن هنا رفع عنكم وعنهم الحرج، فى غير هذه الأوقات الثلاثة.. فلكم أن تطوفوا عليهم، ولهم أن يطوفوا عليكم من غير استئذان!(9/1320)
- وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» أي مثل هذا البيان الجلىّ الواضح، يبين الله لكم الآيات، ويجىء بها محكمة، لا تحتاج إلى تأويل، حتى تأخذوا بها، وتستقيموا عليها.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما يصلح حياتكم «حَكِيمٌ» فى وصف الدواء لكل داء، يعطى منه بالحكمة، دون إفراط أو تفريط..
قوله تعالى:
«وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
أي أن هؤلاء الأطفال، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان فى كل وقت، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة- هؤلاء الأطفال إذا زايلتهم صفة الطفولة، وبلغوا الحلم، ودخلوا مدخل البالغين- من رجال ونساء- أخذوا بحكمهم، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا فى جميع الأوقات، لا فى هذه الأوقات الثلاثة وحسب..
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا، من حيث أن الطفولة هى التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان فى غير هذه الأوقات الثلاثة، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها- إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوّة، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا، ظلّ هذا الأعفاء ملازما لهم.. فكان هذا البيان الحكيم، وضعا للأمر فى موضعه الصحيح، وقاطعا الطريق على كل تأويل، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء..(9/1321)
ولا بدّ من أن يقف المرء هنا وقفة متأملة أمام هذا الأدب الإسلامى الرفيع، الذي يضفى على أتباعه سترا جميلا من التصوّن، والتعفف، والحياء، بهذه الحواجز الرقيقة التي لا تشف عما وراءها من عورات، وذلك لا يكون إلا فى مجتمع كملت إنسانيته، ورقت مشاعره، فعرف لنفسه قدرها، ولكرامته حقها..
إن الحياء هو لباس الإنسانية التي جمّلها الله سبحانه وتعالى به.. ولهذا كان أول ما ظهر على آدم من صفات الإنسان هى ستر عورته، حين ظهرت إرادته بهذا العصيان الذي عصى به ربّه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها.. إنه هنا كائن ذو إرادة.. إنه إنسان..! ولن يكون إنسانا وهو فى هذا العرى الحيواني.. فكان أن نظر آدم وزوجه إلى وجودهما، فرأيا سوءتيهما، وفرض عليهما الحياء أن يسترا ما استحييا منه.. وقد أسعفتهما الحيلة، فطفقا يخصفان عليهما من أوراق الشجر، ما ستر العورة.
هذا هو الإنسان فى أصل فطرته.. الحياء أول شعور وجده فى كيانه، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان..!
ومن أجل هذا كان من آداب الإسلام، هذا الحرص الشديد على الحفاظ على عورات المسلمين، وعلى إيقاظ مشاعر الحياء فيهم، بما أوجب عليهم من أحكام وآداب، فى المخالطة والمعاشرة، والاستئذان وستر العورة، حتى يظل ماء الحياء ساريا فى كيانهم، تتغذّى منه مشاعرهم، وتسمو به إنسانيتهم.. فإنه لا إنسانية إذا خفّ ماء الحياء فيها.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الحياء خير كله» ..
«والحياء شعبة الإيمان» .. «الحياء من الإيمان» ..
فأين هذا الأدب الرفيع من تلك الحياة البهيمية التي تعيش فيها أمم تعد فى نظر المجتمعات الإنسانية قائمة على قمة الرقىّ، مستولية على زمام المدنية(9/1322)
والحضارة؟ ولا تسل عن الأزياء الخليعة التي تشف عما تحتها، وتجسّد ما وراءها..
ولا تقف عند الاختلاط الحيواني بين الرجال والنساء فى الأندية والطرقات، والبيوت.. فذلك كله قد صار حياة من حياة تلك المجتمعات، ووضعا مستقرا من أوضاعها.. ولكن الذي يثير العجب والدهش حقا أن يصبح هذا الأسلوب من الحياة دينا يدين به الناس، له فلسفته، وله آدابه وأحكامه..
تجد ذلك فى أندية العراة، وفى مجتمع الوجودية والبرجمانية وغيرها.. مما تضج به حياة الغرب..
والعجب، هو أن يكون للفوضى منطق، وأن يكون للعرى أدب! قوله تعالى:
«وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وهذه الآيات استثناء أيضا من عموم قوله تعالى: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ.. الآية» .
فالقواعد من النساء، وهن المتقدمات فى السنّ، اللاتي لا إربة لهن فى الرجال ولا أرب للرجال فيهن- هنّ أشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.. ومن هنا كانت نظرة الشريعة إليهن، التخفيف مما أخذ به النساء عموما، من ألا يبدين زينتهن، ولا يكشفن شيئا من تلك الزينة إلا لمن استثنوا فى الآية من الأزواج وغيرهم..
فهؤلاء القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا- ليس عليهن حرج فى أن يتخففن من ثيابهن، فى جميع الأوقات، مع المحارم، وغير المحارم..(9/1323)
والمراد من ثيابهن، الثياب التي يراد منها ستر ما وراءها من زينة..
كغطاء الرأس، والخمار وغيرهما.. لا الثياب التي تستر العورات من المرأة..
وفى قوله تعالى: «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» قيد للإذن برفع الحرج عنهن فى وضع ثيابهن، وذلك بألا يكون غرضهن من وضع هذه الثياب إبداء زينتهن، والتعرض بعرضها للأعين.. فهذا ينافى الوصف الذي وصفن به، وهو قوله تعالى: «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» لأن تبرجهن بالزينة، وعرض أنفسهن بها، ينقض هذا الوصف..
وقوله تعالى: «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ» .. أي وإن يتحفظن، ويدعن التخفف، خير لهن..
فذلك التعفف وعدم التبرج هو من طبيعة المرأة الحرة، أيا كانت السنّ التي بلغتها.. ثم هو من زينة المرأة المسلمة، ومن أدبها الذي تعيش به فى المجتمع الإسلامى! أما هذا التخفيف فهو رخصة، من الله، للتخفيف والرحمة، تضعها المرأة فى يدها، وتستعملها عند الضرورة، بعقل، وحكمة، ودين..
والله سميع عليم..(9/1324)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
الآية. (61) [سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
التفسير:
اختلف المفسرون فى الحرج الذي رفع عن الأعمى، والأعرج، والمريض..
وذهب أكثرهم إلى القول بأن هذا الحكم نزل فى شأن أولئك الزمنى، وأصحاب العاهات، الذين كانوا يقومون على شئون المسلمين الذاهبين إلى الغزو، حيث يخلّفونهم وراءهم، ويدعون إليهم التصرف فى شئونهم.. ويضعون فى أيديهم ما يملكون، من مال أو متاع إلى أن يعودوا من الغزو..!
وهذا الرأى يعارضه ما جاء فى قوله تعالى فى هذه الآية: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» فهؤلاء الزمنى والمرضى، يدخلون فى عموم هذا الحكم، سواء كانوا ممن فى أيديهم مفاتيح المجاهدين، أو كانوا أصدقاء لهم..
والذي نذهب إليه، ونرجو- إن شاء الله أن يكون صحيحا- هو أن الآية الكريمة دعوة إلى البر والتوادّ بين المسلمين عامة، وبين الأهل والأقارب خاصة.. وأنه إذا كان للمسلم أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج أو يخزى، إذا هو أصاب طعامه عند أحد من أقاربه هؤلاء، الذين ذكرهم الله سبحانه فى تلك الآية، من الآباء والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات- فهؤلاء جميعا أبناء أسرة واحدة، قد قضوا فترة من حياتهم معا، يظلهم سقف واحد، وتجمعهم معيشة واحدة.. فإذا التمس أحدهم طعاما، ولم يجده فى بيته، كان له(9/1325)
أن يلتمسه عند أىّ من الأقارب، وأن ينال منه شبعه، بإذن أو بغير إذن..
هكذا التكافل بين الأقارب وذوى الأرحام..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كانت دستورا يحكم العلاقة بين الأقارب، وذوى الأرحام، من رجال ونساء، فى اختلاط بعضهم ببعض، كما أنها تحكم العلاقة بين المسلمين عامة- من رجال ونساء- فى دخول البيوت، بعد الاستئذان، والإذن من أصحابها..
ولما كان هذا الاختلاط بين الأقارب، وهذا لتزاور بين المسلمين عامة، يضع المخالطين والزائرين فى أحوال يشهدون فيها طعاما بين يدى أهل البيت الذي دخلوا إليه مستأذنين- فقد كان من تمام الحكمة أن تبين الشريعة ما يقضى به الموقف إزاء هذا الطعام الممدود، وهل من حرج على من يحضره أن يتناول منه، إذا دعى إليه؟ إن الذي دخل البيت هنا لم يكن يقصد الطعام الذي حضرة.. وربّما يقع فى شعور أهل المنزل أنه جاء يطلب الطعام، ويرصد وقته، وقد يكون الزائر جائعا فعلا، ونفسه تشتهى هذا الطعام، ولكنه يتحرج أن ينال منه..
إن هناك مشاعر كثيرة مختلطة تشتمل على أهل الدار وعلى زائرهم..
فكان ما جاءت به الآية الكريمة هنا، ما يصحح هذه المشاعر، ويقيمها على ميزان حكيم عادل كما سنرى..
فقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ، وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» ..- هو رفع للحرج عن هذه الأصناف التي ذكرتها الآية، من أن يستطعموا، ويطعموا من تلك البيوت التي يطرقونها ولا حرج عليهم فى هذا..
أما الأعمى، والأعرج، والمريض.. فإنهم حين يقعون تحت داعية الحاجة(9/1326)
إلى الطعام، ويعجزهم حالهم عن أن ينالوا من كسب أيديهم، فإنهم فى هذه الحال أبناء الأسرة الإسلامية كلها، وإن لهم على المجتمع حقّ الإطعام، كما للابن على أبيه أن يدخل بيته، وينال من الطعام ما يسد جوعته..
ولكى يتقرر هذا المعنى فى نفوس المسلمين، ولكى يصبح هذا الأمر حقّا، للأعمى والأعرج والمريض، على المجتمع الإسلامى، يطالب كل منهم به، ويستأدبه من أي مسلم قادر على الوفاء به، دون أن يكون فى ذلك جرح لكرامته، أو منّة وفضل عليه من أحد- نقول لكى يتقرر هذا، فقد قدّمهم القرآن على الأهل والأقارب، إذا كانوا على الصحة والسلامة، وكانوا أقدر على أن يجدوا حيلة لدفع غائلة الجوع عنهم، بخلاف هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا..
فجاءت الآية برفع الحرج عن هؤلاء العجزة أولا، ثم دخل معهم هؤلاء الذين جاءت بهم الآية، من الأقارب، وذوى الأرحام.. ثانيا.
وهذا الذي ذهبنا إليه، هو الذي يتفق مع روح تلك الشريعة السمحاء، التي قامت على التآخى بين الناس، والتكافل بين المسلمين جميعا..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ليلة الضّيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما «1» كان دينا عليه «2» ، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه» .. ويقول- صلوات الله وسلامه عليه: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله» .
__________
(1) اسم أصبح ضمير يعود إلى الضيف، أي إذا أصبح الفقير بفناء الغنى محروما..
(2) أي كان حق هذا المحروم دينا على الغنى.(9/1327)
وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله تبعثنا «1» فننزل بقوم فلا يقروننا.. فما ترى فى ذلك؟ فقال- صلوات الله وسلامه عليه..: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم» ..
والذي ينظر فى الآية الكريمة يجد أن مساقها يشير إشارة واضحة إلى أن المقصود برفع الحرج فيها، إنما هو عن أولئك العجزة.. من الأعمى، والأعرج والمريض، وأن من دخل بعدهم فى هذا الحكم من الأهل والأقارب، إنما جاء ليدعم هذه القضية، قضية العجزة، وليدلّ على أنهم أولى فى هذا المقام من الأهل والأقارب، وأنه إنما رفع الحرج عن الأقارب، تبعا لهؤلاء..
ففى قوله تعالى: «وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» ما يشعر بأن شيئا ما من الحرج مع هذا الإذن، وأن الإسلام قد تجاوز عنه، تخفيفا ورحمة، إذ كان المقام مقام رحمة عامة تنال البعيد، ولا يحرم منها القريب..
ولهذا جاء التصريح نصا برفع الحرج، عن الأعمى، وعن الأعرج، وعن المريض.. هكذا.
«ليس على الأعمى.. حرج..
«ولا على الأعرج.. حرج.
«ولا على المريض.. حرج.
وكل واحد منهم قد نصّ على رفع الحرج عنه.. زيادة فى التقرير، والتوكيد.. وإلّا كان من مقتضى النظم أن يجىء رفع الحرج.. مرة واحدة
__________
(1) أي فى سبيل الله..(9/1328)
عن جميع المتعاطفين.. هكذا: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» ..!
ثم إنه حين جاء ذكر الأقارب، لم يجىء رفع الحرج عنهم نصّا مصرّحا به، بل جاء بالحمل على الحكم الذي كان للمعطوف عليهم، وهم هؤلاء العجزة! .. ولكأن المعنى هو: «حتى ولا على أنفسكم حرج» ..
- وفى قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» - إشارة إلى صنفين آخرين من الناس، ليس عليهم حرج فى أن يأكلوا مما ليس لهم..
والصنف الأول، هم الذين فى أيديهم مفاتيح غيرهم، كالوكلاء، والأوصياء، وغيرهم، ممن يتولّون شئون غيرهم، وحفظ أموالهم وأمتعتهم، فهؤلاء لهم أن يأكلوا مما تحت أيديهم، بالمعروف، من غير إسراف، وذلك إذا كانوا فى حاجة إلى هذا الذي يأكلونه.. كما يقول سبحانه: «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (6: النساء) .. أما الصنف الآخر، فهم الأصدقاء، إذ أن لهم على أصدقائهم هذا الحق الذي يجعل لهم مما فى أيدى أصدقائهم شيئا، أقلّه هو لقمة الطعام عند الحاجة.. لأن الصداقة، لا تكون صدقا إلا إذا وصلت بين الصديقين بحبل المودّة والإخاء..
هذا، ويلاحظ فى الآية الكريمة أمران:
أولهما: أنها لم تذكر الأبناء، بالنسبة للآباء، على حين ذكرت الآباء، وفتحت بيوتهم للأبناء.. وذلك لأن الأبناء لا يتحرّجون أبدا من أن يطعموا مما يجدون فى بيوت آبائهم.. وكيف وقد أنبتتهم هذه البيوت، وغذتهم منذ الولادة إلى أن صاروا رجالا.. فهل تنكرهم هذه البيوت بعد هذا؟ وهل يجد أحد منهم وحشة فى دخولها، وتناول طعامه منها؟ ذلك(9/1329)
ما لا يكون! أما الآباء فإنهم إذ تلجئهم الحاجة إلى بيوت أبنائهم، فإنهم يغشون بيوتا لم يكن لهم بها عهد.. إنها بيوت مستحدثة، أحدثها أبناؤهم، بعد أن كبروا، واستقلوا بحياتهم..
ومن هنا تكون الوحشة، ويكون الحرج.. وقد جاء القرآن الكريم برفع هذا الحرج..
ومن جهة أخرى، فإن الآباء، لا يمكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم، وطعموا من طعامهم، فى أي وقت، وعلى أي حال، بل إن ذلك هو مبعث السعادة والرضا إلى قلوب الآباء، بخلاف كثير من الأبناء، فإن فيهم العاقّ الذي لا يرعى حقوق الأبوة، والذي قد يضيق بدخول أبيه عليه، والأكل مما عنده.. ولهذا جاء الأمر بفتح هذه الأبواب.. أبواب الأبناء..
للآباء! ..
وثانيهما: أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآية فى ذكر هذه الأصناف، هو ترتيب تنازلى فى رفع الحرج، حسب درجة القرابة.. كما هو واضح فى الآية..
الآباء أولا، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأعمام، فالعمات، فالأخوال، فالخالات..
بقي بعد هذا، أن نسأل عن تأويل قوله تعالى: «وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» فهل هناك حرج فى أن يأكل الإنسان من بيته، حتى يدخل هذا فى عموم الحكم القاضي برفع الحرج؟ إن أكل الإنسان من بيته هو الأصل الأصيل فى هذا الباب، فكيف يجىء حكم برفع حرج عن أمر لا حرج فيه أصلا؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن بيت الإنسان، وما فيه من(9/1330)
مال، ومتاع، وطعام، وإن كان ملكا خالصا له، يتصرف فيه بما يشاء، وكيف يشاء- إلا أن ذلك ليس على إطلاقه فى مفهوم الشريعة الإسلامية..
فالشريعة مع تسليمها بحق الإنسان بالتصرف فيما يملك، وبالتسلط على ما فى يده من مال ومتاع- لا تعزل المسلم عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا تعزل المجتمع عنه فهو- أيّا كان- خلية فى هذا المجتمع، وعضو من أعضاء هذا الجسد الكبير.. وأن ما يملكه الإنسان ليس ملكا خالصا له، وإنما تتعلق بهذا الملك حقوق لله، وللوالدين والأقربين، والفقراء والمساكين، وابن السبيل، والمجاهدين فى سبيل الله..
هذا ما ينبغى أن يقيم عليه المسلم، شعوره فى كل ما يملك.. إن له فى هذا الملك شركاء، منظورين، وغير منظورين..
وإذن فلا يغلق بابه على ما فيه من طعام، ولا يمسك يديه عما معه من مال، وإنه لن يكون على شريعة الإسلام إذا خلت نفسه من هذا الشعور، أو ضنّ بما تعلق من حقوق فيما بين يديه من فضل الله..
وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت أن يأكلوا من بيوتهم، هو إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا هم وحدهم أصحابها، والمستأثرين بما فيها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونهم فيما فى هذه البيوت، فإذا جاء أحد أصحاب الحقوق يطرق أبوابهم، فليفتحوا له، وليؤدوا إليه حقه! وألا إن الطارقين لكثيرون.. يأتون إليهم من قريب وبعيد..
فلا يضيقوا بهم، ولا يضجروا.. إنها حقوق يجب أن يؤدوها لهم، وأن يبرئوا ذمتهم منها، إن كانوا مؤمنين بالله، مطيعين لما يأمر به الله.. وهنا يرفع الحرج عما يملكون، فى أن ينتفعوا به، ويطلقوا أيديهم للتصرف فيه، بعد أن أدّوا ما عليهم من حقوق.. وإلا فإن الحرج قائم.. حتى تؤدى هذه الحقوق..(9/1331)
هكذا الملكية فى شريعة الإسلام.. ملكية تتعلق بها حقوق، وتقوم عليها التزامات، ولن تصبح ملكا خالصا لمالكيها، حتى يؤدوا ما عليها من حقوق، ويفوا بما عليها من التزامات..
- وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً» أي ليس عليكم أيها المسلمون حرج فى أن يأكل الواحد منكم وحده أو فى جماعة..
حسب الظروف والأحوال.. وذلك أنه كان من عادة العرب ألّا يأكل الإنسان إلا إذا التمس من يأكل معه، ويشاركه فيما يأكل.. وفى هذا يقول شاعرهم:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى له ... أكيلا.. فإنى لست آكله وحدي
فلما جاء الإسلام، ودعا إلى التكافل بين المسلمين، أمسك المسلمون بهذه العادة، وجعلوها أمرا ملزما، وخاصة بعد أن سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله؟ قال: «من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده» .
ولا شك فى أن مقصد الرسول الكريم بمن أكل وحده، هو ذلك الشره الشحيح الذي يؤثر نفسه بما بين يديه من طعام، دون أن يلتفت إلى من حوله من زوج، وولد، وخادم.. فإنه قلّ أن يأكل الإنسان وحده إلا إذا كان على تلك الصفة.. أما فى غير تلك الحال، فإنه لا بأس من أن يأكل الإنسان وحده، ولهذا جاء القرآن برفع الحرج..
قوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
المراد بالبيوت هنا، هى تلك البيوت التي أشارت إليها الآية، والتي أذن بدخولها للأصناف الذين ذكروا فيها..(9/1332)
فهذه البيوت، لها حرمتها، ولأهلها الذين هم فيها علاقة مودة وقربى بمن يدخلون عليهم فيها.. ومن أجل هذا كان التسليم على أهلها، وصلا لهذه المودة، واستدعاء لهذه القرابة، التي تجمع المسلمين جميعا..
- وفى قوله تعالى: «فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» إشارة إلى أن الذي يدخل هذه البيوت، هو بعض ممن فيها. وأنه وقد دخلها- سواء أكان قريبا، أو صديقا، أو غير قريب أو صديق- فقد صار من أهلها، وصار أهلها منه.. وهكذا يصبح بيت كل مسلم بيتا لكل مسلم! وفى قوله تعالى: «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً» هو مفعول مطلق لقوله تعالى: «فَسَلِّمُوا» الذي ضمّن معنى: «فَحَيُّوا» أي فحيوا أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة، هى تحية الإسلام.. أي «السلام عليكم» .. ففى هذه التحية البركة، والطّيب، لما تشيع فى النفوس من أمان وسلام، ومودة وإخاء..
هذا ويجوز أن يكون «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» منصوبا بفعل محذوف، تقديره، فسلموا على أنفسكم، وتقبلوا تحية من عند الله مباركة طيبة..
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .. وفى جعل فاصلة الآية «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» إشارة إلى أن فى هذه الآية معانى دقيقة تحتاج إلى روية وتعقل، لإدراك مراميها البعيدة، وأسرارها العظيمة..
وحسب المرء أن يدبر عقله، إلى تلك الرعاية التي أوجبها الإسلام على المسلمين فى حق أصحاب العاهات، والمرضى، الذين هم الأعضاء الضعيفة فى المجتمع، تلك الأعضاء التي ينبغى أن تكون موضع رعاية، وعناية، كما يرعى الإنسان بعض أعضائه، إذا أصابها مكروه..!(9/1333)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
الآيات: (62- 64) [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
هذه الآية تحكم الصلة التي بين المؤمنين وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد أن جاءت الآية السابقة لتحكم الصلة بين أفراد المجتمع الإسلامى..(9/1334)
وأنها صلة وثيقة العرى، ملاكها السمع والطاعة لرسول الله من كل مؤمن ومؤمنة..
وحقيقة إيمان المؤمن، الإيمان بالله ورسوله، ثم السمع والطاعة والولاء للرسول.. والمحكّ الذي يظهر عليه ما عند المؤمن من طاعة، هو ساعة الضيق والعسرة، وامتحان المسلم، فى نفسه وماله..
قوله تعالى:
- «وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» .
الأمر الجامع: هو الأمر العظيم، الذي يدعى له المسلمون جميعا، ليواجهوه، وليحمل كل منهم نصيبه منه. وذلك فى حال الدعوة إلى الجهاد، والنّفرة إلى لقاء العدو.. فإذا دعا النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الجهاد، واجتمعت جماعة المسلمين، لم يكن لأحد منهم أن يذهب لشأن من شئونه، أو يشغل بأمر خاص به، إلا بعد أن يستأذن النبىّ، فإن أذن له مضى، وإلا لزام مكانه.
- وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» هو إذن للمؤمنين، من ذوى الأعذار فى أن يستأذنوا.. فليس طلب الإذن من النبىّ مما يحظر على المسلم فى هذا الوقت.. فالإسلام يسر لا عسر، والرسول الكريم، خير من يقدّر حال المستأذن وظروفه..
- وقوله تعالى: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» أي إنّ طلب الإذن ليس معناه إجابة هذا الطلب، بل إن ذلك يرجع إلى تقدير النبىّ، ونظره إلى الأمر من جميع وجوهه، فقد يرى أن يأذن لبعض، ولا يأذن الآخرين.. فهذا وذلك مما يقضى به الرسول، وعلى المسلم أن يسمع ويطيع..
- وفى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة(9/1335)
إلى أن طلب الإذن فى هذا الأمر الجامع، وإن كان مباحا- فإن تركه أولى وأفضل، إذ أن فيه إيثارا على النفس، وتضحية بالخاص من أجل العام، ومع هذا، فإن الذين يستأذنون ويأذن الرسول لهم، قد شملهم الله بمغفرته ورحمته، إذ أمر رسوله أن يستغفر لهم الله، والله غفور رحيم.. وهذا من سماحة هذا الدين ويسره..
قوله تعالى:
«لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
الدعاء: الأمر الذي يحمل دعوة، أو الدعوة التي تحمل أمرا.
يتسللون: أي ينسحبون فى خفاء، من غير أن يشعر بهم أحد.
اللّواذ: الفرار طلبا للسلامة والعافية.
والآية تحت المسلمين على الامتثال لأمر الرسول الكريم، والاستجابة لما يدعوهم إليه، من غير مهل، أو تردّد.. فليست دعوة الرسول للمسلمين، مثل دعوة بعضهم لبعض، حيث يكون للإنسان الخيار فى أن يجيب دعوة الداعي أو لا يجيب..
إن دعوة الرسول، هى أمر من أمر الله، ليس لمؤمن ولا مؤمنة الخيار فى هذا الأمر، وإنما عليه الطاعة والامتثال.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (36: الأحزاب) ودعاء الرسول هنا، هو دعاء إلى الجهاد فى سبيل الله، وهو أمر ملزم لكل(9/1336)
قادر على حمل السلاح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» (120 التوبة) وقد يكون الدعاء لأمر غير الجهاد، وهو- أيّا كان- أمر ملزم لمن تلقى الأمر من الرسول، فإنه لا يأمر إلا بخير، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (24: الأنفال) قوله تعالى:
«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
قد، هنا، للتحقيق، والتوكيد..
والمعنى: إن الله ليعلم الذين يتسلّلون من بين المسلمين، ويخرجون فى خفية، فرارا بأنفسهم، وطلبا للدعة والراحة..
فليحذر هؤلاء المتسلّلون، الذي خرجوا على أمر الرسول، ونكصوا على أعقابهم، أن تصيبهم فتنة وابتلاء فى الدنيا، حيث يفتضح أمرهم، ويصبحوا فى عداد المنافقين.. فإن لم يصبهم هذا فى الدنيا، لم يفلتوا من عذاب الله فى الآخرة..
وهو عذاب أليم، نعوذ بالله منه.
وفى تعدية الفعل «يُخالِفُونَ» بحرف الجر «عَنْ» مع أنه فعل يتعدى بنفسه.. إشارة إلى أن هذا الفعل قد ضمن معنى «الخروج» ، فهو مخالفة، وخروج معا، إذ قد تكون المخالفة فى الرأى، ثم يكون الامتثال بالعمل..
وهؤلاء المخالفون الذين يتوعدهم الله إنما جمعوا بين المخالفة فى الرأى، والخروج عليه قولا وعملا..(9/1337)
وهذا يشير إلى أن مراجعة الرسول، فيما يأمر به، مما لم يستبن للمسلم منه الحجة الواضحة والدليل المقنع- هذه المراجعة، بل المعارضة أحيانا لا حرج منها، إذ كانت غايتها هى وضوح الرؤية، وانكشاف الطريق، لعينى المؤمن، حتى يكون على بينة من أمره، وحتى يمتثل ما يؤمر به، وهو على هدى وبصيرة، واقتناع..
فدعوة الإسلام دعوة قائمة على العدل، مستندة إلى الحجة والبرهان..
ومن ثمّ كان على المسلم أن يعرض أمور دينه كلها على عقله، وأن يلتمس الدليل المقنع، والحجة القاطعة فى كل أمر.. فإذا لم يسعفه عقله بالدليل، وجب عليه امتثال ما يؤمر به، مع اليقين بأنه هو الحق، والخير.. إذ ليس العقل إلا حاسّة من الحواس العاملة فى الإنسان، وشأنه شأن كل حاسّة فى أن له حدودا يعمل فيها، وأنه إذا جاوز هذه الحدود بطل عمله..
وفى سيرة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مع صحابته رضوان الله عليهم، كثير من المواقف، التي يلقى فيها الصحابة رسول الله- فى أدب رائع واحترام عظيم- معترضين أو مخالفين، حتى إذا كشف لهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- عن وجه الأمر، أو أراهم من نفسه أنه ماض لم أمرهم به، لم يكن لأحد منهم إلا السمع والطاعة، فى إيمان ثابت ويقين مكين..
وتذكر هنا- من باب الإشارة- ما كان من الحباب بن المنذر بن الجموح، حين رأى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وقد أنزل المسلمين منزلا فى غزوة بدر، فلما لم يره الحباب بالمنزل المناسب للمسلمين، جاء إلى رسول الله يسأله قائلا: يا رسول الله.. أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتحول عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «بل هو الرأى والمكيدة والحرب» .. وهنا أشار الحباب بالمنزل الذي رآه.. فأخذ(9/1338)
النبىّ برأيه، وتحول بالمسلمين إليه.. فكان المنزل المبارك، الذي هبت على المسلمين ريح النصر منه!! فمخالفة الرسول هنا ليست لمجرد المخالفة، وإنما هى للنصح للمسلمين، أو لنصح المرء لنفسه ولدينه، حتى لا يكون فى صدره حرج مما يؤمر به! وبذلك تطيب نفس المسلم، ويسلم له دينه، ويتضح له طريقه، ومن هنا يقوم بينه وبين معتقده ألفة وحب، حيث لا يدخل عليه شىء لم يرضه، ويعتقده، عن إيمان واقتناع..
قوله تعالى:
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، مضيفة هذا الوجود كله إلى الله سبحانه وتعالى، الذي أوجده، وأقامه على سنن، وأخذه بنظام حكيم، لا يتخلف عنه أبدا. والإنسان هو بعض ما لله- هو جزء من هذا الوجود.. وهذه الأحكام والشرائع التي سنها الله سبحانه وتعالى للإنسان، وبين له فيها الطريق الذي يسلكه، والطرق التي يجتنبها- هى من سنن هذا الوجود، وفى خروج الإنسان عن أمر الله خروج على هذه السنن، وانحراف عن الوضع السليم الذي يجب أن يكون عليه، الأمر الذي يعرّضه للعزلة عن هذا الوجود، ويلقى به بعيدا عن دائرة الأمن والسلامة.. ومن هنا يجىء شقاؤه فى الدنيا والآخرة جميعا..
وفى قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» تحذير للمخالفين لله، الخارجين على سننه، المتمردين على أوامره تحذير لهم من عقابه الراصد، وعذابه الأليم..
لأنه سبحانه يعلم كل شىء، ويعلم من الإنسان ما يخفى وما يعلن، وما هو عليه(9/1339)
من صلاح وفساد، وطاعة وعصيان، واستقامة وانحراف.. وقد هنا، للتحقيق والتوكيد..
- وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» هو جواب لسؤال يرد على الخواطر، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» ، وهو: ما وراء هذا العلم الذي علمه الله سبحانه وتعالى من الناس وأعمالهم؟
- وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» . إشارة إلى جواب هذا السؤال، وهو أنهم سيحاسبون على هذه الأعمال، كبيرها وصغيرها، فى الدنيا والآخرة.. أما فى الدنيا فيكون الحساب والجزاء من غير أن يحضروا هذا الحساب، أو أن يعرفوا سبب هذا الجزاء الذي يجزون به.. وأما فى الآخرة، ويوم يرجعون إلى الله فينبئهم بما عملوا، حيث يرون كل ما عملوه حاضرا، فيعرف كل عامل ما عمل، وما لعمله من ثواب أو عقاب.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6- 8 الزلزلة) وكما يقول جل شأنه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» .. (13، 14: الإسراء) .
وهذا هو بعض السر فى الانتقال من الخطاب: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» إلى الغيبة: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» .. وكان النظم يقضى بأن يجىء هذا المقطع من الآية الكريمة هكذا: «ويوم ترجعون إليه فينبئكم بما عملتم» .. وذلك لأن الخطاب بعلم الله سبحانه وتعالى بما عليه الناس من خير أو شر- هو خطاب عام، موجه إلى الناس جميعا.. أما قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» فهو موجه إلى المكذبين بهذا اليوم، الذين لا يرجون لقاء الله، ولكن على طريق الإيماء، وذلك بتوجيه الحديث(9/1340)
- الذي هو من شأنهم- إلى غيرهم، من المؤمنين الذين يؤمنون باليوم الآخر، وما يلقى الناس فيه.. وكأنهم بهذا غير أهل لأن يخاطبوا.. وأنه إذا كان ثمة حديث «إليهم» ، فليوجه إلى غيرهم، ممن هم أهل لأن يسمعوا، ويعقلوا، وأنه إذا كان لهؤلاء المكذبين بهذا الحديث، عودة إلى أنفسهم، وإلى النظر فى هذا الحديث، فليأخذوه من أهله..
«وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
هذا، والله أعلم..(9/1341)
25- سورة الفرقان
نزولها: مكية.. باتفاق..
عدد آياتها: سبع وسبعون آية..
عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف، وسبعمائة وثلاثون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
كانت سورة «النور» التي تسبق هذه السورة، نورا من نور الحق جلّ وعلا، سطع نورها في آفاق المجتمع الإسلامي، فجلا كل غاشية، وفضح كل ضلال وبهتان.
وكانت «سورة الفرقان» مكملة لهذه السورة، إذ قد استفتحت بتمجيد الله، الذي أفاض على عباده هذا الخير الكثير المبارك، بما نزّل من آيات بينات على نبيّه الكريم.. هى الفرقان، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام.
فكان النور المشع من سورة النور كاشفا للشّبه، مجليا للشكوك والريب، مقيما أمر المسلمين على نور مبين.. وهذا النور الذي معهم من آيات الله، هو «الفرقان» الذي يفرقون به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال!.(9/1342)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 6) [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
التفسير:
قوله تعالى:
«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .
تبارك: عظمت بركته، وكثر حيره وفضله..
والمراد بهذا الخبر، الثناء على الله سبحانه، وتعالى.. وهو ثناء من ذاته لذاته، جلّ وعلا.. ومن حقّه على عباده أن يثنوا عليه، كما أثنى سبحانه على نفسه.. وقد كان من دعاء الرسول صلوات الله عليه، وتسبيحه بحمد ربه، قوله:(9/1343)
«سبحانك.. لا أحصى ثناء عليك.. أنت كما أثنيت على نفسك» .. والثناء على الله سبحانه، من ذاته، أو من مخلوقاته، في هذا المقام، إنما هو شعور بعظم المنّة العظيمة، التي كانت بنزول القرآن، وما في هذا القرآن من رحمة، وهدى للعالمين..
- وقوله تعالى: «الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ» - هو وصف لله سبحانه وتعالى، يكشف عن بعض إحسانه وفضله، الذي استحق به التمجيد، والتبريك..
- وفي قوله تعالى: «نَزَّلَ» بدلا من «أنزل» إشارة إلى أن ما نزل على النبىّ من آيات ربّه، لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل نجوما مفرّقة.. وذلك لحكمة عالية، كشف عنها سبحانه وتعالى في ردّه على الكافرين والضالين، الذين قالوا: «لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة؟» فقال سبحانه: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33: الفرقان) .
وفي تسمية القرآن «فرقانا» إشارة إلى أن ما يحمل القرآن من هدى ونور، يفرق به العاملون به، بين الحقّ والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال..
- وفي قوله تعالى: «عَلى عَبْدِهِ» تكريم للنبىّ الكريم، وإدناء له من ربّه، بإضافته إلى ذاته سبحانه وتعالى.. ووصفه- صلوات الله وسلامه عليه- بالعبودية لله، رفع لمقامه وتشريف لقدره، وأنه هو الإنسان الذي يستحقّ هذه الصفة وحده من عباد الله..
فلم يذكر القرآن الكريم عبدا من عباد الله، أو رسولا من رسله،(9/1344)
مضافا إلى الذات العليّة إلا «محمدا» صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه..
لقد جاء وصف العبد لعيسى عليه السلام، ولكن غير مضاف إلى ذات الله، فقال تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» (59: الزخرف) وجاء وصف زكريا بأنه عبد، وقد أضيف إلى ضمير الذات، ولم تطلق هذه الإضافة، بل قيّدت بذكر اسم زكريّا.. فقال تعالى: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (2: مريم) .
وبهذا لم تخلص له الإضافة على إطلاقها..
كذلك أضيف كثير من الأنبياء بصفة العبودية، إلى ضمير الذات، ولكن قيّدت هذه الإضافة بذكر أسمائهم، بعدها، كما في قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» (41: ص) .
وقوله سبحانه: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» (45: ص) .
وأكثر من هذا، فإن «محمدا» صلوات الله وسلامه عليه قد تكرر ذكره في القرآن الكريم، مضافا إلى ذات الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية، ولم تقيّد هذه الإضافة في أية مرة، بذكر اسمه، أو صفته بعدها، بل ترسل الإضافة، هكذا في كل مرة، على إطلاقها، وذلك مما يؤكّد المعنى الذي ذهبنا إليه، وهو إفراد «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، بهذه المنزلة بين عباد الله جميعا.. وأنه عبده، الخالص من بين العبيد جميعا.
ومما يؤيد هذا المعنى، ويؤكده، أن إضافة محمد إلى ربّه، بصفة العبودية، لم يكن إلا في أحوال خاصة، وصل فيها النبىّ إلى أعلى مقامات القرب من ربّه.(9/1345)
ففى الإسراء.. يوصف «محمد» صلوات الله عليه بصفة العبودية، مضافا إلى الذات العلية.. فيقول سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (1: الإسراء) .
وفي المعراج، تخلع على «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- تلك الخلعة السنيّة، وهو في أعلى عليين.. فيقول سبحانه وتعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى»
(10: النجم) .
وأكثر من هذا أيضا.. فإن «محمدا» - صلوات الله وسلامه عليه، لم تخلع عليه صفة العبودية مضافة إلى ضمير الذّات، وحسب، بل أضيفت إلى الذات ذاتها، في قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» (19: الجن) .. وهذه خصوصية أخرى، تعطى هذه العبودية وضعا ليس لغيرها من عباد الله جميعا..
ومع هذا التفرّد، الذي للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بين خلق الله جميعا، ومع هذا القرب الذي ليس لأحد غيره من عباده، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لن يخرج عن قيد العبودية، ولن يكون إلا عبدا لله، وإن كان أكرم العبيد.. وإلّا خلقا من خلقه، وإن كان أفضل الخلق..
وأن هذه المنزلة الرفيعة العالية، التي لم تكن ولن تكون لبشر، هى تكريم للإنسان من حيث هو ابن الماء والطين، والذي يرقّ، ويصفو، ويعلو، حتى يتقدم الملأ الأعلى، ويدنو من ذى العرش، حتى يكون قاب قوسين أو أدنى..
ومع هذا كلّه، فإن ما يتحدث به المتحدثون عن الحقيقة المحمدية، يريدون بهذا الحديث أن يقطعوه عن البشرية، وأن يعزلوه عن هذا الوجود البشرى،(9/1346)
إنما يسيئون من حيث لا يدرون إلى مقام النبىّ الكريم، بهذه الألوان الصارخة من الخيال، الذي يلقونه على صورته الكريمة، فيطمسون معالمها، ويشوّهون حقيقتها، فلا يمسك منها النظر، أو العقل، أو الخيال، إلا بظلال باهتة متراقصة، يموج بعضها في بعض، فلا تستبين فيها حقيقة لمخلوق، من أهل الأرض، أو عالم السماء، وإنما هى أمشاج مختلطة، من خيالات وأوهام ... ! «1»
إن عظمة «محمد» فى أنه بشر كامل البشرية.. ولد من أب وأم..
وحملت به أمه تسعة أشهر، وأرضع في البادية كما يرضع الأطفال، وعاش كما يعيش أطفال قومه، وصبيانهم، وشبّانهم، ورجالهم.. وإن كان ذلك على أحسن صورة يراها الناس في إنسان، ويتمنّونها لهم، ولأبنائهم..
فلما كرّم الله سبحانه وتعالى محمدا بالرسالة، لم تقطعه هذه الرسالة عن حاله الأولى، ولم ير فيه الناس غير ما يرون، بل إنه لم يأتهم بخارقة من الخوارق، أو معجزة من المعجزات، يملكها في يده، وإنما جاءهم بآيات هى كلمات الله، مضافة إلى الله سبحانه، ومنسوبة إليه جلّ شأنه.. وما محمد إلا مبلغ لهذه الكلمات، وليس له منها إلا ما للناس جميعا، من الاهتداء بنورها، والامتثال لأمرها ونهيها.. فكان ذلك أعظم توكيد وأبلغه، للدلالة على بشرية الرسول من جهة، وعلى أن ابن الماء والطين يحمل في كيانه من قوى الخير، ومشاعل النور، ما يرتفع به إلى أعلى عليين، وأن الطريق مفتوح إلى مالا حدود له من الكمالات، أمام الإنسان.. وأمامه المثل الأعلى للإنسان.. في محمد- «صلوات الله وسلامه عليه» ..
__________
(1) انظر بحثنا في هذا عن «الحقيقة المحمدية.. وما يقال فيها» في الكتاب الثامن من هذا التفسير.(9/1347)
وما أحسن ما يقول «البوصيرى» في رسول الله، وفيما يقال، وما لا يقال، فيه، إذ يقول:
دع ما ادّعته النصارى في نبيّهم وقل ما شئت مدحا فيه واحتكم قوله تعالى:
«الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» ..
هو تمجيد لله سبحانه، وتعظيم لذاته، بإضافة هذا الوجود إليه، في سماواته وأرضه، وما في السموات والأرض..
- وقوله تعالى:
- «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» هو تنزيه لله أن يكون له ولد، كما يدعى النصارى، في المسيح، وكما يدّعى اليهود في عزيز.. لأن اتخاذ الولد إنما يكون لافتقار الأب إلى من يحفظ نسبه، ويبقى ذكره.. ثم إن هذا الولد في حاجة أيضا إلى أن يكون له ولد.. وهكذا في سلسلة من التوالد، تجعل الآلهة وأبناء الآلهة أكثر من الآدميين، وأبناء الآدميين.. إذ كان الآلهة- على حسب هذا المنطق- أطول أعمارا، وأكثر قدرة على الإنجاب.. أو أنهم يتوالدون، ولا يموت لهم مولود..!
ومن جهة أخرى، فإن الابن- قياسا على هذا المنطق البشرى- لا بد أن تكون له أم، هى زوج الإله..
ومن جهة ثالثة، فإن التناسل لا يكون إلا بين الطبائع المتماثلة.. وعلى هذا(9/1348)
تكون زوجة الإله شبيهة به، مشابهة المرأة للرجل.. ويكون الابن شبيها لهما مشابهة الأولاد للآباء..
وهذا كلّه، مما لا يرتفع بالإله عن مستوى البشر.. ومن ثمّ فلا يكون له في هذا الوجود أكثر مما لأى إنسان.. وبهذا يظل مكان مالك الوجود- فى هذا التصوّر- خاليا.. فلمن إذن يضاف هذا الوجود، خلقا، وحفظا وتدبيرا وتصريفا؟
لمن هذا الملك؟ لمن ما في السموات والأرض؟
من يقول أنا؟
ألا فلتخرس الألسنة، وألا فلتخضع الأعناق.. وألا فلتخشع القلوب..
فذلكم الله ربّ العالمين! ..
- «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً.. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» .
وإنّا إذا ننظر في هذه الآية، وفي قوله تعالى في الآية قبلها: «عَلى عَبْدِهِ» نجد أن فيها حراسة لعبودية النبىّ لربه أن تطغى عليها عواطف الحب والإكبار للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، من أتباعه، وأوليائه، فيجعلوا له إلى الله نسبا، بولادة أو مشاركة، أو نحو هذا، مما يمليه الحبّ، الذي لا تحكمه بصيرة ولا يضبطه عقل! - وقوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» .. أي خلق كلّ ما في السموات والأرض من مخلوقات، ظاهرة أو خفية عرفها الناس، أو لم يعرفوها..
- وقوله تعالى: «فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» أي أن كل مخلوق خلقه الله، هو عن علم،(9/1349)
وتدبير، وتقدير.. وليس خلقا آليا، كما يقول الطبيعيون، الذين يرون فى قوانين الطبيعة قدرة ذاتية خلّاقة! وهذا ضلال في ضلال..
فأولا: لو كانت الطبيعة هى التي تعطى هذا المحصول الوافر من المخلوقات، لكانت كل مخلوقاتها على صورة واحدة، ولما تعددت أجناسا، واختلفت صورا وأشكالا.. لأن تعدد الأجناس، واختلاف الصور والألوان، إنما يكون من عمل إرادة حرّة، مختارة، تفعل ما تشاء.. والطبيعة عند الطبيعيين لا إرادة لها ولا اختيار.. أشبه بالحجر يلقى به من أعلى الجبل، فلا يملك إلا أن يخضع لحكم الجاذبية، ويسقط على السفح! وثانيا: لو سلمنا أن هذه القوانين التي تحكم الطبيعة، وتحدد مسيرتها، هى التي تعمل وتنتج هذا النتاج المتولد من قوانينها- لو سلمنا بهذا.. لكان لنا أن نسأل: فمن أوجد الطبيعة هذه؟ ثم من أودع في هذه الطبيعة تلك القوى الكامنة فيها؟ ومن رسم القوانين التي تحكم الصلات التي بين أشيائها؟ ..
وكيف يقبل الطبيعيون تأليه الطبيعة، في كل ذرة من ذراتها.. ثم لا يقبلون أن يكون على هذه الطبيعة قوة قادرة، تردّ إليها هذه الطبيعة، إيجادا وتقديرا، وتنظيما؟ أليس ذلك أقرب إلى منطق العقل، وأشكل بأسلوب العلم، فى كشف الحقائق، وتقعيد القواعد؟
إن قوانين الطبيعة التي كشف العلم عنها، لا يعيش بعضها بمعزل عن بعض..
فهى وإن كان بينها تفاضل من جهة فإن بينها تكاملا من جهة أخرى.. حتى ينتهى الأمر بها إلى أن تكون قانونا واحدا عاما، شاملا.. هو الذي يحدّث القرآن الكريم عنه بأنه «سنة الله» .. فكل ما عرف وهو هباءة مما لم(9/1350)
يعرف من قوانين هو مندرج تحت هذا القانون العام «سنة الله» ، أي نظام الله، وتقدير الله، الذي أقام عليه هذا الوجود..
قوله تعالى:
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» ..
الضمير فى «اتخذوا» يراد به المشركون بالله، الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، ولم يجر لهؤلاء المشركين ذكر من قبل في هذه الصورة..
وفي عود هذا الضمير على غير مذكورين، تحقير لهم، وإصغار لشأنهم، وأنهم ليسوا شيئا ذا بال، حتى يذكروا ذكرا ظاهرا..
وقوله تعالى: «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - هو صفة لتلك الآلهة التي اتخذها المشركون، واصطنعوها بأيديهم، وجعلوها آلهة..
وإنه ليس بعد سفه هؤلاء المشركين سفه.. يخلقون آلهة بأيديهم، ثم يعبدونها؟ ..
إن ذلك وضع معكوس منكوس.. فهم بالنسبة إلى هذه الدّمى التي صنعوها بأيديهم، أشبه بالآلهة.. لأنهم هم الذين خلقوها، وأنه إذا كان لا بدّ من أن يعبد أحدهما الآخر، فإن المخلوق هو الذي يعبد خالقه.. أما أن يعبد الخالق ما خلق.. فهذا ضلال بعيد بعيد! وفي قوله تعالى: «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - وفي إضفاء صفة العقلاء على هذه الدّمى إشارة إلى أنها إذا قيست بهؤلاء المشركين، الذين يعبدونها، كانت أثقل منهم ميزانا، وأعلى منزلة، وأشرف قدرا.. إنها معبودة وهم لها عابدون.. وأنهم- فيما يبدو للناس- أصحاب عقول، فكيف لا يكون(9/1351)
لآلهتهم تلك التي يعبدونها عقول كعقولهم؟ وهل يعقل أن يكون المعبود، دون العابد في شىء؟ ..
إنهم هم أنفسهم لا يرضون بهذا، لا يرضون لأحد أن ينزل آلهتهم من هذه السماء التي ينظرون من أرضهم إليها.. فهذه الدّمى عاقلة، وإن كانت من حجر منحوت، أو خشب منجور، أو معدن مصنوع..!! وهل يرى الأطفال فى الدّمى واللعب التي بين أيديهم إلا شخوصا حية، عاقلة، يناجونها، ويلقون إليها بأمانيهم، وخواطرهم.. إن هذا من ذاك سواء بسواء..!
وقوله تعالى: «وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً، وَلا نُشُوراً» هو بيان لصفات أخرى، من صفات هذه الآلهة..
فهى مخلوقة غير خالقة، وهى لا حول لها ولا طول، إذ أنها في جمودها هذا لا تستطيع التحول من حال إلى حال، ولا الحركة من مكان إلى مكان.. حتى لو أرادت أن تحطم نفسها ما استطاعت، ولو أرادت أن تدفع عنها يد من يحطمها ما كان لها إلى ذلك من سبيل.. إنها باقية على حالها تلك، إلى أن يطرقها حدث من الأحداث، فيغير من وضعها، كيف يشاء، دون أن يكون لها موقف.. إيجابا، أو سلبا.. وهل يملك الجماد شيئا إلا أن يجمد على ما هو عليه، حتى تجىء إليه قوّة من الخارج، فتحدث فيه ما تحدث من تغيير وتبديل؟ ..
وقدمّ الضّرّ على النفع، لأن جلب الضرّ أيسر من تحصيل النفع..
فالإنسان يستطيع أن يضر نفسه بأيسر مجهود، بل وبلا مجهود أصلا، وحسبه أن يقف في طريق الحياة من غير حركة، فإنه إن فعل، سيجد ألوانا من الضرّ والأذى تزحف إليه من كل اتجاه.. وليس كذلك تحصيل النفع، فإنه يحتاج إلى بذل، وجهد، هو الثمن المقابل لهذا النفع، كيلا بكيل، ووزنا بوزن..(9/1352)
وهذه الجمادات- ومنها تلك الأصنام- لا تملك أن تتحول من حال إلى حال أبدا، سواء في الاحتفاظ بوضعها، أو التحول عنه إلى وضع أسوأ، أو أحسن.. إنها لا تملك «موتا» لنفسها، وذلك بتحطيم صورتها التي تشكلت عليها، ولا «حياة» أي إيجاد هذه الصورة من قبل أن توجد، «ولا نشورا» أي إعادة هذه الصورة بعد تحطيمها..
هذا شأنها مع نفسها.. عجز مطلق واستسلام صامت.. فهل يمكن- مع هذا- أن يكون لها حيلة مع غيرها، فى دفع ضر، أو جلب نفع؟ ذلك محال..
وأبعد منه استحالة، أن تقدر على إماتة حى، أو إيجاد حى، أو بعث ميت..
فذلك مما عجز عنه الأحياء.. والذي لا يملكه إلا خالق الحياة، وموجد الأحياء.. الله رب العالمين..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» .
تكشف الآية هنا عن وجه هؤلاء الذين ذكرتهم الآية السابقة بضمير الغيبة، دون أن تذكر صفتهم، أو ترجع هذا الضمير إلى مذكورين من قبل ذلك في قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» :
- ففي قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. إشارة دالة على أن هؤلاء الكافرين الذين يقولون هذا القول المنكر في القرآن الكريم- هم أولئك الذين اتخذوا من دونه آلهة! وإنك لو ذهبت تضع كلا من الآيتين مكان الأخرى، لا استقام النظم.
بل إنك لو كنت الذي يحدّث بهذا الأمر، ويصوغ هذا القول، لما ذهبت غير هذا المذهب فجعلت تكذيب المشركين بآيات الله، واتهامهم الرسول بالكذب(9/1353)
والافتراء على الله، سببا في كفرهم، وفي اتخاذهم آلهة يعبدونها من دون الله..
ولكن نظم القرآن وإعجازه، هو وحده الذي يستولى على الحقيقة كاملة، حيث ينفذ إلى الصدور، وينكشف ما تجنّ من خلجات وخطرات..
فهؤلاء الذين التقوا بكلمات الله، وقالوا فيها هذا القول المنكر، إنما التقوا بها، وقد فسدت فطرتهم، بما دخل على قلوبهم من مرض، وما غطّى على عيونهم من موروثات الضلال.. ولو أنهم التقوا بآيات الله من غير أن يكون معهم هذا الداء الذي تمكن منهم، وأفسد عليهم فطرتهم- لكان لهم فى آيات الله قول غير هذا القول، ولرأوا في سناها الوضيء وجه الحق، فاهتدوا إلى الله، وآمنوا به، وبرسوله، وبكلماته..!
وكيف يرجى من عقول تملى لأصحابها أن ينحتوا بأيديهم صورا من أحجار ثم يخرون بين يدى هذه الأحجار عابدين، يرجون منها ما لا يرجونه من أنفسهم، ويحملون عليها من آلامهم، وآمالهم ما لا يحتملون هم، أفرادا، أو جماعات- كيف يرجى من هذه العقول أن تعقل آيات الله، وما تحمل فى كيانها من أنوار الحق، والخير، والإحسان؟ ذلك ما لا يكون!.
وإذن، فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الكافرون في آيات الله.. هو من منطق هذه العقول التي تتعامل مع الدّمى، وتقف بين يديها هذا الموقف الذليل المستكين..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ..» .
والإفك: هو الزّور والبهتان..
والافتراء خلق الأكاذيب، ونسبتها إلى الغير..(9/1354)
ومن منطق هؤلاء الضالين، أنهم يتهمون النبىّ بالكذب والافتراء، وهم الذين لم يجرّبوا عليه في حياته كلّها قولة واحدة جانبت الصواب، أو بعدت عن الصميم من الحقّ.. ولم يسألوا أنفسهم: لم يكذب؟ وما غايته من هذا الكذب؟ إن الذي يزوّر الكلام، ويختلق الأكاذيب، لا بدّ أن يكون له وراء ذلك غاية يتغيّاها، ومطلب يسعى للحصول عليه.. فماذا طلب النبىّ منهم من وراء هذا الدّين الذي يدعوهم إليه؟ إنهم- لو عقلوا، لعرفوا أنما يدعوهم ليحترموا عقولهم، وليرتفعوا بإنسانيتهم عن هذا الصّغار الذي هم فيه، من لعب في التراب! ومن عجب، أن هؤلاء الرجال الأطفال، قد استطاعوا أن يميزوا هذا القول، وأن يعرفوا أنه فوق مستوى البشر، وأنه ما كان لمحمد أن يقدر على افترائه، وإنما استعان بأهل الصنعة والخبرة فأعانوه عليه- من عجب أن تبهرهم آيات الله، وأن يروا بعض ما فيها من عظمة وجلال.. ثم تأبى عليهم عقولهم التي أذلّها الجهل والضلال، أن يسلّموا بأن هذا الكلام ليس من صنعة بشر، وإنما هو من كلام ربّ العالمين، كما يقول لهم ذلك محمد، الذي لم يجرّبوا عليه كذبة قط، وكما تحدّثهم بذلك كلمات الله، فى جلالها، وسموّها، وبعدها عن أن تكون في متناول إنسان!.
- وفي قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» - هو ردّ على قول الكافرين:
«إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. إنهم هم الذين جاءوا بهذا القول الظالم، الجائر عن الحق، والذي زوّروه على أنفسهم، وكذّبوا عليها به..
وفي تعدية الفعل «جاء» إلى المفعول، وهو يتعدّى بحرف الجرّ، فيقال(9/1355)
جاء بكذا، لا جاء كذا.. فى هذا إشارة إلى أن هذا القول الذي قالوه، إنما هو مستجلب من وراء عقولهم، وأنه من موروثات الضلال الذي يعيش معهم.. فهم قد استجلبوا هذا القول، الذي ظلموا به الحقيقة، وظلموا به أنفسهم، وكذبوا به عليها.. فالفعل «جاء» ضمّن معنى «جلب» أو «اختلق» ..
قوله تعالى:
«وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها.. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» .
هو قول آخر من مقولات المشركين في كلمات الله.. وكأنهم أرادوا بهذا أن يقيموا لهذا الزور الذي استجلبوه أو اختلقوه، مستندا يستند إليه، وقد رأوه يكاد يفرّ من بين أيديهم..
ونسبة القرآن إلى أنه من أساطير الأولين، فرار من القول بأنه من معطيات الحياة التي يعيشون فيها، وذلك حين رأوا أن هذه الحياة لا تعطى مثل هذا الكلام في جلاله وروعته، وأنه لو كان ذلك ممكنا لكان عليهم أن يجيئوا بقول مثله، فلم يكن- والحال كذلك- إلا أن ينسبوه إلى علم الماضين، وما سطروه من علم وحكمة..
وفي أساطير الأولين مدخل فسيح للخيال، واصطياد الغرائب التي لا تخطر على البال، حيث يقع الماضي من الناس موقع القداسة والرهبة، لكل صغير وكبير يستجلب منه.. فلا حجة عليهم لمن يجيئهم من عالم الأساطير بما لم يقع لأيديهم، فهذا عالم لا حدود له، ولا مجاز بين أحد وبينه..!!
وفي قولهم: «اكتتبها» إشارة إلى أمية النبىّ، ودفع الاعتراض القائم بين يدى قولهم: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ» .. وقولهم عن هذا الإفك المفترى(9/1356)
إنه من «أساطير الأولين» .. فأنّى لمحمد بأساطير الأولين، وهو الأميّ؟
فكان قولهم: «اكتتبها» دفعا لهذا الاعتراض ... أي أنه وإن كان أمّيّا، فإنه استعان بمن يكتبها له!! وفي قولهم: «فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» دفع لاعتراض آخر.. وهو:
إذا كان محمد قد استكتب هذه الأساطير، واستعان بمن يكتبها له- فما فائدة هذه الكتابة، وهو لا يقرأ ما كتب له؟ ثم هو إنما يتحدث بهذا الكلام مشافهة بلسانه، لا يقرؤه من كتاب، ولا يقرؤه له أحد عليهم.. فكيف هذا؟ .. وجوابهم- كما قدروه-: أن هذا الذي استكتبه، يتلى عليه بكرة وأصيلا، تلاوة دائمة، حتى يحفظه، ثم يحفظه، ثم يخرج على الناس به! وهكذا يركبون بجهلهم، وسفههم، هذا المركب الوعر، والطريق أمامهم مستقيم قاصد.. فماذا عليهم لو أخذوا بما تحدّثهم به أنفسهم، وقالوا إنّ هذا الكلام من عند الله؟.
إنهم لو قالوا هذا.. لكان لهم في هذا القول ما لمحمد نفسه.. إنه ليس لمحمد فيه إلّا ما هو لهم، وإنه إذا كان له من فضل عليهم، فهو فضل الدّليل على الراكب الضّالّ، وفضل الطبيب على الأعمى، يعيد إليه بصره، فيرى النور، الذي هو من نعمة الله، على عباد الله، وليس للطبيب ولا لغيره فضل على أحد فيه! أفيكرهون أن يقوم من بينهم طبيب، يجلى عمى أبصارهم، ويزيح ضلال عقولهم، فيروا آيات الله بعيون مبصرة، وعقول سليمة مدركة؟ إنه العناد، والكبر.. عناد الأطفال، وكبر السفهاء والحمقى.. يموت أحدهم غرقا ولا يمدّ يده إلى حبل النجاة الممدود له من يد كريمة رحيمة، حتى لا يقال إن فلانا قد أخذ بيده، ونجّاه من مهلكه!!(9/1357)
قوله تعالى:
«قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .
هذا هو القول، الذي يلقى به رسول الله، قول هؤلاء الضالين عن كلام الله، بأنه إفك افتراه محمد، وأعانه عليه قوم آخرون، وأنه أساطير الأولين اكتتبها، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا..
فهذا الذي بين يدى محمد، وعلى لسانه، وفي قلبه- هو كلام ربّ العالمين.
أنزله عليه، هدى ورحمة للعالمين..
وفي وصف الله سبحانه وتعالى بتلك الصفة هنا، وهو أنه يعلم السرّ فى السموات والأرض- إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من علم، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. وأن ما عند الأولين من علم، وما خلفوا من آثار، باقية، أو مطموسة، هى في علم الله، وأنه إذا كان فيما نزل على محمد أخبار من حياة الأولين، ومن أحداثهم- فذلك في علم الله، ومن علم الله.. وإنه ليس بمحمد حاجة- وهو يتلقى آيات ربه- أن يستكتب أساطير الأولين، وأن يحفظها، ثم يحدث بها.. إنه يستقى من مصدر العلم، ومن ينابيعه الصافية، فما حاجته إلى أن يمدّ بصره إلى سراب خادع، أو بئر مطموسة؟.
وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» - إشارة إلى أن الله سبحانه، مع علمه بخفايا الناس، وبما يرتكبون من منكرات يخشون أن يطلع عليها من يفضحهم، ويكشف المستور من أمرهم- فإنه سبحانه وتعالى، «غفور» لأصحاب المنكرات، ولا يعجّل لهم العقاب، ولا يفضح المستور منهم، حتى(9/1358)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
تكون لهم عودة إلى أنفسهم، ورجعة إلى الطريق المستقيم.. فإنهم إن فعلوا، وجدوا ربا «غفورا» يقبل توبتهم، ويغفر لهم ما كان منهم..
«إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .
الآيات: (7- 16) [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» ..(9/1359)
بعد أن فضحت الآيات السابقة مقولة المشركين في القرآن الكريم، بأنه إفك مفترى، وأنه أساطير الأولين، اكتتبها محمد، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا- بعد أن فضحت الآيات السابقة تلك المقولة الظالمة عن المشركين فى القرآن الكريم، وردّ الله سبحانه وتعالى كذبهم وافتراءهم بقوله: «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» - جاءت هذه الآيات لتفضح مقولتهم في النبىّ نفسه.. فإن لهم فيه مقولات، كتلك المقولات التي يقولونها في كلمات الله التي حملها إليهم..
ومن مقولاتهم في الرسول قولهم الذي حكاه القرآن عنهم:
«مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟» .
فهم ينكرون أن يكون هذا الإنسان رسولا، ثم يأكل الطعام كما يأكلون، ويمشى في الأسواق، ليبيع أو يشترى، كما يمشون ويبيعون ويشترون! وفي حديثهم عن محمد بأنه رسول، استهزاء، وسخرية، وإنكار.. إذ كيف يكون رسولا ثم يكون بشرا تحكمه الضرورات البشرية، من طعام وشراب، وغيرهما؟ هكذا يجرى تفكيرهم وتقديرهم.
وفي قولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» تسليم جدلىّ منهم، بأن يكون الرسول بشرا، ولكن لا يعترف به رسولا، إلا أن يكون معه ملك هو الذي يأخذ منه الناس شاهدا على أن محمدا رسول الله، وأن هذه الكلمات التي ينذرهم بها هى كلمات الله!! ولم يسأل هؤلاء الضالين أنفسهم ما جدوى الرسول إذن، مع هذا الملك المنزل من السماء بكلمات الله؟ ولم لا يتصل بهم الملك اتصالا مباشرا إن كان ذلك ممكنا؟ ومع أىّ من المرسلين يتعاملون؟ أمع البشر، أم الملك؟ ..
ثم، من يرى ملكا ويتعامل مع بشر؟.(9/1360)
قوله تعالى:
«أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» .
ثم ها هم أولاء يسلّمون جدلا، أن يكون محمد رسولا، يأكل الطعام ويمشى في الأسواق.. ولكن كيف يكون على هذه الحال، من الضيق فى العيش، وهو على صلة بالله، الذي يفيض الخير على الناس ويملأ أيديهم من النعم؟ ألا يلقى إليه ربّه كنزا من السماء، ينفق منه عن سعة، وينال به كلّ ما شاء من متع الحياة؟ أولا يجعل له ربّه جنة يأكل منها، ويعيش في خيرها، كتلك الجنات التي يملكها أصحاب الجاه والنعمة فيهم؟
إن الذين يتصلون بالملوك، والأمراء، وأصحاب الجاه والغنى، يعيشون فى نعمة ورخاء.. فكيف تكون تلك الحال من الفقر والضيق، لمن يدّعى أنه على صلة بالله، وأنه رسول الله؟ - هكذا يقيس القوم أقدار الناس ومنازلهم عند الله! فعلى قدر ما وسع الله لإنسان في الرزق، يكون- فى تقديرهم- على قدر حبّه له، ومنزلته عنده! إن مقاييس الناس عندهم بما ملكوا من مال، وما جمعوا من حطام.. ولم يدخل في حسابهم شىء من كمالات النفس، وسمّو الروح.. وحسبوا أن هذه الحياة الدنيا هى كلّ ما للإنسان، فإذا انتهت حياته بموته انتهى كلّ شىء بالنسبة له..! ومن هنا كان حسابهم قائما على ميزان فاسد، لا يقام لشىء وزن فيه، إلا إذا كان فاسدا معطوبا..
ثم يدور هذا الحديث في القوم، ويتعاطونه فيما بينهم كما يتعاطون كئوس الخمر.. ثم يكون حصيلة هذا كله، أن يقولوا: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ! أي ما تتبعون إن اتبعتم إلا إنسانا سحر، فاختلط عقله، واضطرب تفكيره..(9/1361)
وفي قوله: «وَقالَ الظَّالِمُونَ» بدلا من قوله «وقالوا» إظهارا للصفة التي يدمغهم بها الله سبحانه وتعالى، فى مقابل تلك المقولات المنكرة، الضالة، التي يقولونها في النبىّ. إنّهم ظالمون، جائرون عن الطريق المستقيم، راكبون طرق الضلال، والهلاك..
قوله تعالى:
«انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ..
التفات إلى النبي الكريم بهذا الخطاب من ربّه جلّ وعلا، يدعوه إلى أن ينظر فى هذه المقولات التي يقولونها فيه، وليعجب من تلك العقول الفارغة التي لا يخرج منها غير هذا اللّغو من القول؟ إنهم أعجوبة، تثير الدهش والعجب، وتبعث على السخرية والاستهزاء! والأمثال التي ضربوها، هى تلك الصور التي صورتها عقولهم الفارغة لمن يرون أن يكون أهلا لرسالة السماء.
- وفي قوله تعالى: «فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» إشارة إلى أن ضلالهم كان ضلالا بعيدا، مستوليا على وجودهم كله.. ومن هنا، فإنهم لا يقدرون- ولو حاولوا- على أن يجدوا سبيلا للخلاص من هذا الضلال، الذي غرقوا فى لججه المتلاطمة! قوله تعالى:
«تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» .
أي تبارك ربّك، وكثرت خيراته وبركاته.. وإنه ليس بالذي يمسك عنك هذا المتاع الدنيوي، الذي يقتتل عليه هؤلاء المشركون، ويأبون متابعتك(9/1362)
إلا إذا كنت على تلك الصورة التي تمثلوها لمبعوث السماء إليهم، من وفرة الغنى وكثرة الأموال والزروع.. فلو شاء ربك لجعل لك بدل الجنة جنات، وبدل القصر قصورا.. ولكنه سبحانه ضنّ بك على هذه الدنيا أن تشغل قلبك، عن ذكره، أو تحجز عينك عن النظر في غير آياته..!
قوله تعالى:
«بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» .
إن هؤلاء القوم، لا يرضون عن هذا القول، ولا يجدون فيه ما يعتدل به ميزانك عندهم.. لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون وراء هذه الدنيا حياة أخرى.. ولو أنهم آمنوا بالحياة الآخرة، لعلموا أنها هى الحياة، وأن نعيمها هو النعيم، وأن شقاءها هو الشقاء.
وأن ما في هذه الدنيا من متاع وشقاء، إلى زوال: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64: العنكبوت) .
- وفي قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» وعيد لهؤلاء المشركين بالعذاب الأليم الذي أعده الله للظالمين في الآخرة.. وإنهم لمن الظالمين..
قوله تعالى:
«إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» ..
فهذه جهنم- وهذه أهوالها- إنها إذا رأت أهلها المساقين إليها، وهم على بعد منها، «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» إنها ترسل إليهم بنذرها قبل أن يصلوا(9/1363)
إليها، حتى لكأن بينها وبينهم ترة وثأرا.. فما أن تلمحهم من بعيد، حتى يفور فائرها، ويموج مائجها.. حتى إذا بلغوها، وألقوا منها في مكان ضيق خانق، أطبقت عليهم، فضاقت أنفسهم، واختنقت أنفاسهم، وتنادوا بالويل والثبور.. فقالوا: يا ويلنا، يا ضيعتنا، يا سوء مصيرنا.. ثم لا يجدون لهذا الاستصراخ من يسمع أو يجيب، وصوت الحال يقول لهم: «لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» إن صراخكم سيطول، وإن عويلكم لا ينتهى.. ولن ينفعكم صراخ أو عويل! - وقوله تعالى: «مُقَرَّنِينَ» إشارة إلى ما يؤخذ به الظالمون من إذلال وهوان، وأنهم إذ يساقون إلى جهنم، وإذ يلقون فيها، فإنما يحزمون كحزم الحطب، ويقرن بعضهم إلى بعض كما يقرن القطيع من الحيوان..
قوله تعالى:
«قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» .
أفهذا العذاب الأليم والهوان المهين الذي ستجدونه يوم القيامة أيها الضالون المكذبون، أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده؟. فذلك هو جزاؤهم، وهذا هو مصيرهم، إنها جنة الخلد، أعدها الله سبحانه وتعالى لعباده المتقين، وأعد لهم فيها ما يشاءون من نعيم خالد، لا ينفد- أفذلك الذي أنتم فيه أيها الضالون، خير، أم هذا النعيم المقيم؟ ألا فذوقوا هذا العذاب، وانعموا به، واسكنوا إليه، كما كنتم تحيون مع آلهتكم وتسكنون إليهم! - وفي قوله تعالى: «كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن هذا النعيم الذي وعده الله عباده المؤمنين المتقين، هو وعد أوجب الله سبحانه(9/1364)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
وتعالى على نفسه- فضلا منه وإحسانا وكرما- تحقيقه لمن وعدوا به، وإن لهم على الله- فضلا وإحسانا وكرما- أن يسألوه إنجاز هذا الوعد، الذي هو منجز ومعدّ لهم من غير سؤال.. ولكن الله سبحانه، قد جعل هذا الوعد كدين لعباده المتقين وجعل لهم حق استقضاء هذا الدين! وفي هذا ما فيه من كرم الكريم، وإحسان المحسن.
ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» أن هذا الوعد كان مما يدعو به المؤمنون ربّهم في الدنيا، ويطلبون استجابته لهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ، وقد تلقى الله سبحانه وتعالى دعاءهم هذا بالقبول، فقال سبحانه: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» (195: آل عمران) .
فلما كان يوم القيامة، صدقهم الله وعده، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه..
الآيات: (17- 20) [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)(9/1365)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» ..
هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة، يعرض على هؤلاء المشركين، وهم فى هذه الدنيا، مع ضلالاتهم ومعبوداتهم.. وفي هذا المشهد يرون ما سيكون بينهم وبين هذه المعبودات، من عداوة وخصام، وشقاق..
فإذا حشر الناس إلى ربهم، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، جىء بالمشركين، وبمعبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.. من جماد، وحيوان، وإنسان، وملائكة، وجنّ.. وهنا يسأل الحقّ جل وعلا أولئك المعبودين:
«أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ» .. أي أأنتم أيها المعبودون، الذين أضللتم عبادى هؤلاء؟ أم هم ضلوا السبيل؟.
وانظر إلى- ما لله سبحانه وتعالى من لطف وكرم.. كيف يدعو هؤلاء الضالين إليه، وكيف يضيفهم إلى ذاته الكريمة: «عِبادِي هؤُلاءِ» الذين أشركوا بي، وكذّبوا رسلى!! فما أقلّ حياء هؤلاء الضالين، الشاردين عن ربّهم.. يدعوهم إليه، ثم هم لا يستجيبون له، ويأبون إلا أن يولّوا وجوههم إلى غيره! ويجىء جواب المعبودين.
«قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» ..
إن هؤلاء المعبودين للمشركين.. من جماد، وحيوان، وإنسان،(9/1366)
وملائكة، يعرفون قدر الله، ويعطونه ولاءهم كاملا.. «سبحانك» أي جلّ جلالك، وعلا علاك، «ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ» أي أنه ما كان يصح لنا، أو يقع في تقديرنا، أن نستنصر بغيرك، ونعتز بغير عزتك، ونقبل ولاء من عبادك، الذين ينبغى أن يكون ولاؤهم لك وحدك..
- وفي قوله تعالى: «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» ..
إشارة إلى الجهة التي جاء منها الضلال إلى هؤلاء الضالين.. إنه البطر بنعم الله، والكفر بإحسانه وفضله عليهم.. «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ» أي أن إحسانك إليهم، ربّنا، ومدّهم بالنعم، وحلمك عليهم، فلم تعجل لهم العقاب فى الدنيا، مع محادتهم لك، وشركهم بك- إن ذلك هو الذي صار بهم إلى هذا المصير، وإنهم حين رأوا آباءهم قد سلكوا هذا المسلك من قبلهم، ولم يحل عليهم غضبك ولم تنزل بهم نقمتك، اطمأنوا إلى هذا الضلال، وتمادوا في هذا الغىّ.. وهكذا أهل السوء، تبطرهم النّعم، ويفسدهم الإحسان..
وفي هذا يقول الله تعالى: «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» (44: الأنبياء) .
وهذا العرض الكاشف، الذي يعرض فيه المعبودون، نعم الله وإحسانه على هؤلاء الضالين، وما ركبهم من هذه النعم وذلك الإحسان، من سفه، وغواية- هو زجر، وتعنيف، وتقريع لهؤلاء المشركين الذين يقفون هذا الموقف، وأنهم ليسوا موضعا لهذا الإحسان، ولا أهلا لهذا الفضل.. وإن هذا العذاب الذي ينتظرهم، لهو الجزاء العادل الذي يؤخذون به..
وفي قوله تعالى: «حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ» .. إشارة إلى أن تطاول العهد عليهم بالعافية، من غير أن تحل بهم النقم، أو يشتمل عليهم البلاء- قد أنساهم ذكر(9/1367)
الله، وأبعدهم عن مواطن اللجأ إليه.. فإن المحن والشدائد، هى التي تشدّ المرء إلى الله، فيكثر من ذكره، والغياث به.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (63: الأنعام) ويقول سبحانه «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» (51: فصلت) .
وإنه لمن الإيمان أن يذكر الإنسان ربّه في الضراء، وأن يدعوه لما نزل به من مكروه، إذ هو سبحانه وحده غياث المستغيثين، وحمى اللاجئين، وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن ندعوه، ووعدنا الإجابة لما ندعوه به، فقال سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60: غافر) وقال جلّ شأنه:
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» (186: البقرة) .. ولكن الذي ليس من الإيمان في شىء، بل هو من المكر بالله، وآيات الله، أن يذكر الإنسان ربه في الشدّة، وينكره في الرخاء والعافية إن ذلك إيمان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق، فقال وقد ضاقت به سبل النجاة: «آمنت» ! إن المؤمن حقّا هو الذي يملأ قلبه أبدا بذكر الله، فى السرّاء والضرّاء على السواء.. فهو في السرّاء يذكر الله شاكرا نعمه، مسبحا بحمده، طالبا المزيد من فضله.. وهو في الضراء يذكر الله، طالبا كشف الضرّ، ورفع البلاء.. وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم في قوله، حين خيره ربه، بين أن يكون ملكا نبيا، أم عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا، وقال: «بل أكون عبدا أشبع يوما فأشكرك، وأجوع يوما فأذكرك» بل إن حقيقة الإيمان لا تنكشف إلا في مواقع النعم، وفي مواطن الإحسان، ولهذا مدح الله سبحانه وتعالى الشاكرين من عباده، ونوّه بهم، كما قال سبحانه فى نوح: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» (3: الإسراء)(9/1368)
كما حثّ سبحانه عباده الذين أجزل لهم العطاء، وأغدق عليهم الإحسان، أن يشكروا له، فقال لداود وآله: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) .
أما ذكر الله في ساعة العسرة والضيق، فإنه أمر يكاد يستوى فيه الناس جميعا، المؤمنون والمشركون.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (12: يونس) فالإنسان هنا هو مطلق الإنسان، والحكم واقع على الأعمّ الأغلب من الناس.
وفي قوله تعالى: «وَكانُوا قَوْماً بُوراً» - إشارة إلى هؤلاء المشركين بالله، وإلى أن شركهم هذا قد حرمهم كل خير، فكانوا بهذا «قوما بورا» أي هلكى، لا سبيل لهم إلى النجاة من هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه..
وقوله تعالى:
«فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً، وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» فى هذا، التفات إلى هؤلاء المشركين، الذين يقولون فى كلام الله، وفي رسول الله هذا القول المنكر، الذي لا يزال على ألسنتهم، ولا تزال أصداؤه تطنّ في آذانهم..
فقد سمعوا شهادة آلهتهم فيهم، وبراءتهم منهم، بل وقرعهم بمقارع التعنيف والتسفيه، وأنهم ليسوا أهلا لما ألبسهم الله من نعم، وما دفع عنهم من نقم..
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا، أنه- بكلماته المعجزة- ينقل الناس من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّهم إلى الدنيا مرة أخرى، فى لحظات عابرة، يرتفع فيها هذا الحجاز بين الحياة والموت، وبين الدنيا والآخرة، وإذا هؤلاء(9/1369)
المشركون ينتقلون من ناديهم الذي يتفكهون فيه بهذه الكلمات الساخرة الهازئة، بآيات الله وكلمات الله- ينتقلون من ناديهم هذا إلى الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء، وإلى جهنم وسعيرها.. ثم إذا هم- فى حلم كأحلام اليقظة- قائمون في ناديهم، وقد دخلت عليهم مشاعر كئيبة ثقيلة خانقة، من هذه الرحلة القصيرة، وإذا هم في وجوم ورهق، كمن أفاق من حلم مزعج، ثم إذا هم وقد صكّت آذانهم بهذا القول الذي يطلع عليهم من حيث لا يعلمون:
«فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ» ! ويصحو القوم من وجومهم هذا، ويدورون بأعينهم هنا وهناك، باحثين عن هؤلاء الذين كذبوهم بما يقولون.. فيذكرون هذا الحلم المخيف، ويتذكرون هذا الموقف الذي كان بينهم وبين معبوداتهم، وتكذيبهم لهم.. ثم ما يكادون يصلون ما انقطع من حياتهم، حتى يلقاهم هذا الصوت قائلا: «فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. فلقد كذبكم آلهتكم، وتخلّوا عنكم، وذهب النصير الذي كان متعلقكم به.. وها هو ذا العذاب مقبل عليكم، وإنكم لا تستطيعون له صرفا، ولا تستطيعون أن تجدوا لكم ناصرا ينصركم من دون الله.. ثم لا ينتهى الموقف بهم عند هذا، فإنهم ما يكادون يستسلمون لليأس، ويعطون أيديهم لهذا العذاب في استسلام ذليل، حتى يلقاهم هذا الصوت بقوله: «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» .. إنه ليذكرهم بأنهم ليسوا في الآخرة، وإنما هم مازالوا في هذه الدنيا، وأن طريق الخلاص مفتوح أمامهم، إذا هم أرادوا أن يلتمسوا وجه النجاة من هذا العذاب الذي رأوه بأعينهم.. فليرجعوا إلى الله، وليأخذوا في غير هذا الحديث المنكر، الذي يقولونه في آيات الله، وفي رسوله الله.. فإنهم إن رجعوا إلى الله، وآمنوا بالله وبآيات الله وبرسول الله، فقد نجوا بأنفسهم، وإلا فإن أمسكوا بما هم فيه من ظلم، فإن الله أعدّ للظالمين عذابا كبيرا..(9/1370)
واقرأ كلمات الله مرة أخرى، وانظر في هذا البيان المعجز.
«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..
«فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ.. أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟» .. «قالُوا سُبْحانَكَ.. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ! .. «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» .. «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ!!» .. «فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» ..
آمنت بالله، وصدقت بكلمات الله، وبرسول الله..
ففى هذه الكلمات المعدودات ملحمة، لا يستطيع أن يمسك بها خيال، أو أن يضبط صورها ومشاهدها كل ما عرف الإنسان من ألوان التعبير، مجتمعة ومتفرقة.. إن ذلك لا يكون إلا بكلمات الله.. التي يخرج بها الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويحيى الأرض بعد موتها! قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.. أَتَصْبِرُونَ. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» .
هذا التفات إلى النبىّ الكريم، وهو على مرأى ومسمع من قومه، وهم فى حالهم تلك، التي صورتهم عليها الآيات السابقة، ودارت بهم تلك الدورة العجيبة، بين الدنيا والآخرة..
وهذا الحديث إلى النبي الكريم، هو حديث إلى قومه هؤلاء، وهو ردّ على قولهم: «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق» .. وكأنه(9/1371)
يقول لهم. هذا هو رسول الله إليكم، وإنه ليأكل الطعام ويمشى في الأسواق، شأنه في هذا شأن المرسلين من قبله جميعا.. فهل أنتم بعد هذا الذي رأيتم من مشاهد الآخرة- هل أنتم مؤمنون به على صفته تلك، أم لازلتم على ما أنتم عليه من إنكار له، وتكذيب به؟
وقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» - هو توكيد لبشرية الرسل جميعا.. وأنه ما أرسل الله سبحانه وتعالى من رسل، إلا كانوا على تلك الصفة، وكان حالهم هو هذا الحال: «لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» ! أي يتعاملون مع الناس، بيعا وشراء، وأخذا وعطاء.
وقوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين هم فتنة للنبىّ وللمؤمنين، وابتلاء من الله لهم بهم، وبما يسوقون إليهم، من مكر، وما يرمونهم به من أذى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ.. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» (112: الأنعام) .
أما ما يذهب إليه معظم المفسّرين من إطلاق الآية على عمومها، وأن الناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم فتنة، يفتن بعضهم بعضا، فالكافرون يفتنون المؤمنين، والمؤمنون يفتنون الكافرون- فإنه مردود من أكثر من وجه..
فأولا: الفتنة، حيث لبست إنسانا كانت وبالا عليه، وعلى غيره..
وإذن فلن يكون المؤمن فتنة أبدا، لا لغيره، ولا للناس.. وقد كان من دعاء(9/1372)
المؤمنين، ما جاء في قوله تعالى: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (5: الممتحنة) .
وثانيا: توعّد الله سبحانه وتعالى، أهل الضلال، الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات بقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا.. فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» (10: البروج) ..
فكيف يكون المؤمنون على موقف كهذا؟
وثالثا: جاء تعقيبا على قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» ..
قوله تعالى:
«أتصبرون؟» . وهو دعوة للنبى وللمؤمنين إلى الصبر على هذه الفتن التي يرميهم بها المشركون.. وهذا الاستفهام مراد به الأمر أي: اصبروا على ما تكرهون، مما يهبّ عليكم من ريح الفتن من أهل الضلال والشرك..
رابعا: جاء ختام الآية.. هكذا: «وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» وفيه تطمين للنبى، وللمؤمنين، وربط على قلوبهم، حتى يصبروا على أذى المشركين، فالله سبحانه وتعالى بصير، عالم بما يحتملون من مكروه في سبيل الحق، وفي الثبات على الإيمان، وسيجزيهم عليه، كما أنه سبحانه، بصير عالم بما يعمل المشركون، وسيلقون جزاء ما يعملون: «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (111: هود) .(9/1373)
فهرست المجلد الثالث
من موضوعات هذا المجلد الموضوع الصفحة لمحة من القضاء والقدر 21 قميص يوسف.. ما هو؟ 43 الحق والباطل.. دولة ودولة 93 ذكر الله واطمئنان القلوب 110 الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة 170 إبليس.. ومن له سلطان عليهم 234 القرآن الكريم.. والحقائق الكونية 341 مع النسخ.. مرة أخرى 361 وقفة مع الإسراء والمعراج 412 الحقيقة المحمدية وما يقال فيها 434 بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة 442 العرب وقتل الأبناء ووأد البنات 478 الشجرة الملعونة فى القرآن.. ما هى؟ 512 أصحاب الكهف.. من هم؟ 585 قصة موسى والعبد الصالح 640 القضاء والقدر.. والإنسان 672(9/1374)
الموضوع الصفحة ذو القرنين.. من هو؟ وما شأنه 696 يأجوج ومأجوج 706 جهنم وهل يردها الناس جميعا؟ 756 الخير والشر 874 أولياء الله وما يبتلون به 933 الحياة.. وخالق الحياة 975 مناسك الحج ومشاهد القيامة 1014 الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟ 1061 الجلد والرجم.. وجريمة الزنا 1201(9/1375)
بعون الله تم الكتاب التاسع، ويليه الكتاب العاشر، وفيه تفسير الجزءين التاسع عشر والعشرين.. إن شاء الله..(9/1376)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
[الجزء العاشر]
[تتمة سورة الفرقان]
الآيات: (21- 29) [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» .
هو بيان لمقولة من مقولات المشركين، فى مواجهة الدّعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، وما يحمل إليهم من كلمات ربّه وآياته.. من هدى ونور..
فقد قالوا فى آيات الله وكلماته: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. وقالوا فيها أيضا: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . وقالوا فى رسول الله: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ(10/3)
وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» .
وهم هنا يقولون أكثر مما قالوا.. يقولون: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» .. فهم لا يجدون فيما اقترحوه من قبل مقنعا لهم، للتصديق بالرسول، وبرسالته.. بل يطلبون أن يكون المبعوث إليهم من الله، ملكا من ملائكته.. «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» ثم يمدّون فى حبل الأمانىّ، فلا يجدون فى إنزال الملائكة إليهم ما يقيم حجة بأنهم من عند ربّهم..
إنهم يريدون أن يروا الله عيانا. «أَوْ نَرى رَبَّنا» ! فيال لضلال القوم، وبال لعتوّهم وغرورهم!! وقد ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» فكشف عن الغرور الذي استبدّ بهم، وملك عليهم أمرهم.. إنهم سادة فى الناس، ورؤساء فى القوم، وزعماء فى العشيرة.. وإنه إذا كان للسماء حديث معهم، فليكن بلسان جنود الله فيها، وهم الملائكة.. فهذا أقلّ ما يقبلونه من السماء إذا أرادت السماء أن تتحدث إليهم.. وإنهم ليعدّون هذا تنازلا منهم، وإلّا فإنهم فى المستوي الذي ينبغى أن يلقاهم فيه الله لقاء مباشرا..
هكذا بلغ بهم السّفه والجهل والغرور!.
- وفى قوله تعالى: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» إشارة إلى أن هذا الكبر الذي أراهم فى أنفسهم هذا الرأى- هو داء سكن فى كيانهم، فأشاع فيهم مشاعر كاذبة، من ضلالات وأوهام، ورمت بها أنفسهم، كما يتورم الجسد بالمرض الخبيث! وهذا هو بعض السرّ فى ذكر النفوس، وإسناد الاستكبار إليها، دون إطلاقه ليكون كبرا لهم، فقال تعالى: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» .. وهذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، يبين أن استكبارهم استكبار يعيشون به فى نفوسهم،(10/4)
وأنه لا أثر له فى الخارج، إذ لا يرى الرائي منهم، إلا سفها وجهلا، تخفّ به موازينهم فى الحياة، وينزل به قدرهم فى أعين الناس..
وقوله تعالى: «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» - إشارة إلى مخلّفات هذا الاستكبار الكاذب، وأنه أغرى القوم بأن يلبسوا ثوب الجبابرة العتاة المتكبرين..
فإذا نظرنا إلى القوم فى هذا الوصف الكاشف، الذي وصفهم الله به، ثم نظرنا فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» - رأينا أن قولهم:
«لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» إنما هو منطلق من قلوب لا تؤمن بالبعث، ولا بالحساب والجزاء، ومن هنا أطلقوا العنان لسفههم وتطاولهم على الله، حتى تمثّلوه واحدا منهم! قوله تعالى:
«يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» .
إن هؤلاء السفهاء طلبوا مطلبين، لكى يصدّقوا بما ينزل عليهم من السماء.. إما أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم الله! وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على المطلب الأول، وهو نزول الملائكة، وأضرب عن المطلب الثاني، إذ لا سبيل إليه، وهو رؤية الله! وإنه إذا كان من الممكن أن تنزل عليهم الملائكة، فإنها لا تنزل عليهم إلا بالهلاك والدمار.. فذلك ما كانت ننزل به الملائكة على الأقوام الظالمين قبلهم، كما يقول سبحانه: «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» (8: الحجر) والحقّ هنا، هو ما حقّ على الضالين من عذاب الله، بعد أن كفروا بالله، وكذّبوا برسله..(10/5)
فلو أن الله سبحانه استجاب لهؤلاء المشركين، ورأوا الملائكة، لكان ذلك إيذانا ببلاء واقع بهم، فلا يرى لهم بعد هذا من باقية.
وقوله تعالى: «لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» .. أي أن هذا اليوم الذي يرى فيه هؤلاء المجرمون الملائكة، هو يوم عسر، لا يطلع عليهم إلا بما يسوءهم، سواء أكان ذلك فى الدنيا، أو فى الآخرة.. فلا شىء من البشريات المسعدة لهم فى هذا اليوم الذي يرون فيه الملائكة..
وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» .
الحجر: المنع، ومنه سمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه عن العثار، والزلل..
والضمير فى «يَقُولُونَ» يعود إلى الملائكة.. و «حِجْراً مَحْجُوراً» هو مقول قولهم للمجرمين.. أي أنهم يقولون للمجرمين: «حِجْراً مَحْجُوراً» أي ادخلوا هذا الحجر الضيّق، الذي لا تستطيعون الهرب منه..
ويجوز أن يكون الضمير فى: «يَقُولُونَ» عائدا على المجرمين أنفسهم، ويكون ذلك من مقولاتهم، حين يرون الملائكة، وما بين أيديهم من نذر الهلاك، والعذاب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً» .. فقولهم: «حِجْراً مَحْجُوراً» بمعنى قولهم: ثبورا ثبورا، أي هلاكا مهلكا..
قوله تعالى:
«وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» .
القدوم على الشيء: الورود عليه، والوصول إليه من مكان بعيد عنه..
وقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال هؤلاء المجرمين، لا يعنى أنها كانت(10/6)
بعيدة عن الله، إذ كل شىء حاضر بين يدى الله سبحانه، وإنما بعدها عن الله، هو بعدها عن موضع الرضا والقبول منه سبحانه وتعالى.. فهو بعد معنوى، استعير للبعد الحسىّ.. وذلك مثل قوله تعالى: «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (77: آل عمران) .. فالمراد بالنظر، هو نظر الرضا والرحمة..
وفى التعبير بقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال الكافرين، دون التعبير بقدومها هى إلى الله سبحانه وتعالى- إشارة إلى سوء هذه الأعمال، وكراهية الله سبحانه وتعالى لها، وأنها لا ترد عليه، ولا تنزل بحماه، وإنما تظل بمعزل عن هذا الحمى حتى يجئ اليوم الموعود، ويعرض أصحابها على الحساب، فيجاء لهم بأعمالهم تلك من مكانها المنعزل البعيد.. وإذا هى هباء منثور.
والهباء: الغبار الدقيق الذي لا يرى إلّا على أشعة الشمس.
والمنثور: المنتشر المتطاير..
وهذا يعنى، أن هذه الأعمال إذ تعرض على أصحابها، لا يرونها إلا هباء لا يمسكون منه بشئ، ولا يحصلون منه على ما ينفع، فى هذا الموقف الحرج.
والمراد بالعمل هنا، هو العمل الذي يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين، على حين أنه لا يعتدّ به إذا كان من عمل غير المؤمنين بالله.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو عمل مردود على صاحبه، لأنه لم يرد به وجه الله، فهو- كما قلنا فى غير موضع- أشبه بالميتة من الحيوان، قد خبث لحمه، لأنه لم يزكّ بالذبح، ولو زكّى بالذبح لكان طيّبا، حلالا..
قوله تعالى:
«أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا» .(10/7)
هو عرض لأهل الإيمان، الذين تقبل الله سبحانه منهم أحسن ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، وأدخلهم منازل رضوانه..
وهذا العرض لأصحاب الجنة، وما يلقون عند الله من رضوان- هو مما يضاعف فى حسرة الكافرين، ويزيد فى قسوة البلاء المحيط بهم.. فإن أهل البؤس، يزداد بؤسهم، حين يرون النعيم الذي يعيش فيه غيرهم، ولو أنهم كانوا يعيشون وحدهم، فى عزلة مع بؤسهم، لخفّف ذلك كثيرا من عناء ما يعانون من قسوة الحرمان..
وفى التعبير عن المؤمنين النازلين بالجنة، بأنهم أصحاب الجنة- إشارة إلى التمكين لهم من كلّ ما فيها من نعيم، وأنهم أصحابها المالكون لها، يتصرّفون فيها تصرّف المالك فيما ملك، من غير مراجعة أو حساب، كما يقول سبحانه وتعالى لهم: «تِلْكُمُ الْجَنَّةُ، أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (43 الأعراف) .
والمستقرّ: مكان الاستقرار، والأمن، والطمأنينة، حيث لا يجد الإنسان داعية للتحول عنه..
والمقيل: مكان القيلولة وقت الظهيرة، حيث الظلّ الذي يفرّ إليه الإنسان من الحرور فى ذلك الوقت.
فأصحاب الجنة فى أمن واستقرار، وفى ظلّ ظليل من حرّ الشمس، ولفح الهجير.. وتلك أمنية يتمنّاها الذين يعانون حياة الصحراء، ويكتوون بنار شمسها المحرقة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14: الإنسان) .. أما الذين يعانون حياة البرد ولفحات الزّمهرير، فإنهم سيجدون أمنيتهم فى جوّ معتدل، لا تحرقهم شمسه، ولا يلفحهم برده، كما يقول سبحانه: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (13: الإنسان) .(10/8)
وكلّ ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، هو مما كان يتمنّاه المؤمنون فى الدنيا، وتقصر عنه أيديهم.. فإذا منّ الله عليهم بالجنّة، كان من تمام هذه النعمة، أن يجدوا كل ما فاتهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم، إلى جانب ما أعدّ الله لهم من نعيم، لم يكن يخطر على قلب بشر..
وإذا كلّ نعيم هذه الدنيا الذي كانوا يتشهوّنه، لا يوازى مثقال ذرة من هذا النعيم الذي لم يروه من قبل، ولم يتخيّلوه! وكذلك الشأن فى عذاب الآخرة، فإن ما يساق منه إلى أهل النار، هو مما كان يراه أهلها واقعا بالمؤمنين فى الدنيا، ومما كان يأخذ به الظالمون أولياء الله- هو شىء لا يذكر، إلى جانب ما يلقون هم اليوم من عذاب فوق هذا العذاب.. فالسياط من النار، والمقامع من الحديد، والسلاسل والأغلال، وغيرها مما تحدّث به القرآن من ألوان النكال لأهل النار، هو مما كانوا يعذّبون به أهل الإيمان.. كما فعل المشركون بالسابقين الأولين من المؤمنين، كبلال وآل ياسر وغيرهم.
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» .
تشقّق السماء بالغمام: أي يأخذ الغمام فيها طرقا، فيتشقق بهذه الطرق أديمها، وبتغير وجهها، وتتلوّن صفحتها..
والمراد بالغمام هنا، هو ما يشبه السّحاب، الذي ينزل الملائكة على هيئته يوم القيامة، فلا يراهم الناس يومئذ إلا فى هذه الظلل من الغمام.(10/9)
كما يقول الله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ» (210: البقرة) .
ففى يوم القيامة، يتشقق أديم السماء، حين يتنزل الملائكة فى صورة محسوسة، يراهم الناس فيها كما يرون قطع السحاب..
وفى هذا اليوم، يجىء الناس إلى موقف الحساب، مجردين من كل شىء..
عراة حفاة، كما ولدتهم أمهاتهم.. فإن ما كانوا يملكونه فى الدنيا هو ملك زائل.. أما الملك الحق، فهو للرحمن، سبحانه وتعالى.. كما يقول سبحانه يوم القيامة: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ..» فلا يكون إلا جواب واحد، هو:
«لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (16: غافر) .
وفى إضافة الملك إلى «الرحمن» - دون ما لله سبحانه من صفات أخرى- فى هذا إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من رحمة بعباده، فى ذلك اليوم، الذي تلتمس فيه الرحمة، وبلاذ فيه بجناب الرحمن الرحيم.. فحساب الناس، فى هذا اليوم، هو إلى ربّ رحمن، رحيم، وأن ما ينال العصاة والمذنبين، والمنحرفين من عذاب، هو ممسوس برحمة الله، لا يراد منه، إلا تطهير هذه النفوس الخبيثة، وإلّا شفاء هذه القلوب المريضة.. وليست النقمة ولا التشفي مما يتصل بهذا العذاب الذي يلقاه العصاة.. فإنه لا ينتقم ولا يتشفّى إلا من كان عاجزا فقدر، وإلّا من كان عدوّا، فقهر، ثم انتصر.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. فالناس خلقه، وصنعة يده.. هو الذي أوجدهم، وربّاهم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.. ولا يتفق الانتقام والتشفّى، مع الإنعام والإحسان.
وإن صحّ ولزم الإصلاح، والتقويم! وفى قوله تعالى: «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» - إشارة إلى(10/10)
ما يلقى العصاة والمجرمون، فى هذا اليوم- يوم القيامة- من شدائد وأهوال، وما يطلع عليهم منه، من بلاء، وعذاب.. مع الرحمة المحفوفة به.
من الرحمن الرحيم.. فكيف بهذا العذاب لو جاءهم خالصا من غير رحمة الرحمن؟
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» .. وكلا الظّرفين متعلّق بقوله تعالى: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ» .. أي أنه يتجلّى للناس عيانا فى هذا اليوم، يوم تشقق السماء بالغمام، ويوم يعضّ الظالم على يديه- يتجلى لهم أن الملك الحق، هو لله، وأن ما كانوا يملكونه فى الدنيا، لا شىء فى أيديهم منه اليوم، وأنه باطل الأباطيل وقبض الريح..
وعضّ الظالم على يديه، كناية عن الحسرة والندم، على ما فاته من خير، ولا يمكنه الآن دركه..
وقوله تعالى: «يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» جملة حالية، تكشف عن سبب الحسرة، التي تملأ قلب الظالم فى هذا اليوم، وهو أنه قد كان على طريق مخالف لطريق النبىّ، وأنه دعى إلى الإيمان فأبى؟؟؟؟، ولم يتخذ مع الرسول سبيلا، بل اتخذ سبيله مع الضالين، والظالمين من أمثاله، الذين أغووه، وأغواهم، فكانوا حزبا على النبىّ والمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، على لسان هذا الظالم: «لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» .
وفلان: كناية عن إنسان، يعرفه المتحدّث عنه، ولا يريد ذكر اسمه(10/11)
كراهية له.. وهو هنا كناية عن كل ضالّ أضلّ صاحبه، كما يقول الله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .!
فالأخلّاء فى الدنيا، إذا كانت المخالّة بينهم قائمة على الخير، وعلى الإيمان والتقوى، كانت فى الآخرة روحا وأنسا.. أما إذا كانت قد جمعت بينهم على طريق الضلال والغواية، فإنها تكون يوم القيامة حسرة وندامة، وعداوة بادية، وتراميا باللّعن والسّباب.. وفى هذا يقول الله تعالى فى الكافرين: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) .
روى أن بعض الصالحين، افتتن بامرأة، حتى كاد يجنّ بها، ولم يستطع مغالبة هواه، وجعل يتوسل إليها بوسائل كثيرة، وهى تأبى عليه، حتى إذا استجابت له بعد لأى، وأمكنته من نفسها، أعرض عنها، وفرّ من وجهها، فسألته: لم هذا الإعراض والفرار، بعد الطلب الملحّ والملاحقة المتصلة؟
فقال: لقد ذكرت قول الله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» .. وأنا أريد أن أحرص على هذا الحبّ الذي لك فى قلبى، وأحتفظ بذلك الإعزاز الذي لك فى نفسى، وألّا ينقلب هذا الحب وذلك الإعزاز إلى عداوة وخصام، ولعان.. يوم القيامة!! وقوله تعالى: «لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» - هو مقولات الظالم يوم القيامة، حيث ينحى باللائمة على كل من كان سببا فى إضلاله وغوايته.
«وَالذِّكْرِ» هو ذكر الله، والاتجاه إليه، والإيمان به.. وقد جاء ذلك الذكر على لسان الرسول الكريم فى آيات الله المنزلة عليه.. فالقرآن الكريم، هو ذكر فى ذاته، وهو منبع الذكر، ومصدره، كما يقول الله تعالى: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (1: ص) .(10/12)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
وقوله تعالى: «وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» - يجوز أن يكون من كلام الظالم، تعقيبا على الصفات التي وصف بها صاحبه. وأنه شيطان، يغوى، ويضل، كما يغوى الشيطان ويضلّ.. ففى الناس من هو أقدر من الشيطان فتنة، وغواية، لمن بصحبه، ويستجيب له.. ومن هذا كان على الإنسان، أن يتخير الأخيار من الناس، ليصل بهم نفسه، ويشدّ بهم ظهره، على طريق الاستقامة والهدى.. فالإنسان على دين من يصاحب، وعلى هوى من يخالط ويعاشر..
يروى عن السيدة عائشة رضى الله عنها، أنها كانت تحدّث فنقول: «إن امرأت كانت تدخل على نساء قريش، تضحكهم.. فلما هاجرت إلى المدينة، قدمت علىّ، فقلت لها: أين نزلت؟ قالت على فلانة (وكانت تضحك الناس بالمدينة) فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فلانة المضحكة عندكم؟ قلت نعم! قال: على من نزلت؟ قلت على فلانة المضحكة، فقال: الحمد لله.. إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف!» ..
الآيات: (30- 34) [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)(10/13)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» ..
هو أسلوب من أساليب القرآن، فى تنويع العرض، وفى إثارة المشاعر، وتحريك العواطف، فى مجال الدعوة إلى الله، وذلك بعرض الناس على مشاهد القيامة، وما يلقون هناك من حساب وجزاء، ثم العودة بهم إلى حياتهم الدنيا، حيث تواجههم الآيات بماهم متلبسون به من كفر وعناد، فيكون لذلك وقعه فى كثير من القلوب القاسية، والعقول المظلمة.. حيث تلين القلوب، وتنقشع الضلالات عن العقول..
وهنا فى هذه الآية، تقرع آذان المشركين كلمات الله، صارخة بشكوى الرسول الكريم من إعراض قومه عنه، وسخريتهم به، واستهزائهم بكلمات الله.. ذلك، وما زالت مشاهد القيامة، التي كانوا بين يديها منذ قليل- ما زالت تلبس كيانهم، وما زال العرق المتصبب من هولها يرشح على وجوههم! ..
وانظر فى قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» وإلى هذه الكلمات الشاكية الضارعة، وإلى ما تحمل من مشاعر الألم والضيق اللذين يجدهما الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يقفه قومه، من مركب النجاة، التي يدعوهم إليها الرسول، وهم غرقى، يتخبطون فى أمواج الضلال، والهلاك..!
إنك لتستشعر لتلك الكلمات حرارة هذا الدعاء الذي يدعو به الرسول ربّه، إلى هداية قومه، وإلى إنقاذهم مما هم فيه.. إنها رحمات يستمطرها الرسول(10/14)
- صلوات الله ورحمته وبركاته عليه- من السماء، لتلين هذه القلوب القاسية، ولتبصر هذه العيون العمى!.
وإنك لتجد فى كلمة «قَوْمِي» من الحنو الممزوج بالحسرة والألم، ما تجده فى قول نوح:
«رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي!» .. إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وفى قوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنَ» .. إشارة إلى أن هذا الخير الذي يتجنبه القوم، بل ويرمونه بالفحش من القول، والهجر من الكلام، وهو اليد البرّة الرحيمة، الودود.. فما أبعد ما بين القوم، وبين هذا القرآن! إنه يحسن ويسيئون، ويتودد إليهم ويحزنون؟؟؟؟، ويروّض ويجمحون، ويسمع ولا يسمعون! وفى قوله تعالى: «مَهْجُوراً» .. بيان جامع لموقف المشركين من القرآن.
وهو أنهم اتخذوه، كما يتخذون الأماكن المهجورة، يلقون فيها بالنفايات، والقاذورات.. فإن ما يخرج من ألسنتهم فى شأن هذا القرآن، هو من ساقط القول، وسخف الكلام، وهجر الحديث! قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..
هذا عزاء كريم، من ربّ كريم، للنبىّ الكريم، عن مصابه فى قومه، الذين تفيض نفسه الرحيمة عطفا عليهم، ورحمة بهم.. فهذا حكم الله فى الضالين المعاندين منهم.. وتلك هى سنة الله فى الذين خلوا من قبل.. وأنه مما قضى الله به فى الناس، أن يكون منهم المؤمنون، والكافرون، وأولياء الأنبياء وأعداؤهم..(10/15)
فلكلّ نبى أعداء من المجرمين، يقفون من دعوته موقف الخلاف، والعداء.
وفى هذا ابتلاء للنبىّ، وللمؤمنين، ليميز الله الخبيث من الطيب، كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.. أَتَصْبِرُونَ؟ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» (20: الفرقان) .
وكما تحمل الآية الكريمة عزاء للنبىّ، تحمل كذلك التهديد والوعيد للمجرمين، الذين يقفون منه، ومن دعوته، هذا الموقف العنادىّ اللئيم..
وكفى أن يكون الوصف الذي لهم، هو أنهم مجرمون، قد حملوا أبشع جريمة تعرفها الحياة فى عالم البشر.. وهى قتل أنفسهم بأيديهم..!
وقوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً» يهدى من يشاء من عباده..
«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41: المائدة) .
وفى قوله تعالى: «وَنَصِيراً» تثبيت للنبىّ وللمؤمنين، ودعوة لهم إلى الصبر على أذى «الْمُجْرِمِينَ» .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى نصر النبىّ ومن معه، وكفى بالله نصيرا.. «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ» (160: آل عمران) ..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» ..
وهذه مقولة أخرى من مقولات المشركين فى القرآن، ومن مما حكاتهم(10/16)
الغثّة الباردة حوله.. لقد أخزاهم قولهم فيه: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. وقولهم: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» - لقد أخزاهم هذا القول، ولم يجدوا له بينهم أذنا تسمع، أو إنسانا يصدّق.. فجاءوا إلى ما حول القرآن، لا إلى القرآن نفسه، إذ لم يجدوا للزّور فيه مقالا، وبدا لهم أن الصورة التي ينزل عليها القرآن، يمكن أن ينظروا إليها على أنها دليل على العجز، والقصور، وعلى معاودة النظر، ومعاناة البحث، حتى يقع النبىّ على الكلمات المناسبة، والظرف المناسب، ثم يطلع على الناس بها.
هذا، وإلّا لماذا جاء هذا القرآن منجّما هكذا، تتنزّل آياته قطرات قطرات، ولا تنزل جملة واحدة؟ إنه لو كان هذا القرآن من عند الله لأنزله الله جملة واحدة، إذ أن قدرة الله لا يكون منها هذا العجز البادي فى نزول القرآن قطعا متناثرة! .. هكذا فكروا وهكذا قدّروا.. وإنه لبئس التفكير ولبئس التقدير! وفى قولهم «نُزِّلَ» بدل أنزل، الذي يناسب قولهم: «جُمْلَةً واحِدَةً» .
لأن «نُزِّلَ» يفيد تقطيع الفعل، ووقوع النزول حالا بعد حال- فى قولهم هذا تعريض بالتهمة التي يتّهم بها القرآن عندهم، وهو أنه نزّل لا أنزل، فهم يحكون الصورة التي نزل عليها القرآن، ثم ينكرونها بقولهم: «جُمْلَةً واحِدَةً» ..
وقد ردّ سبحانه وتعالى عليهم هذا الإنكار، مبيّنا الحكمة من نزول القرآن منجّما، على هذا الأسلوب، بقوله سبحانه:
«كَذلِكَ.. لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» .
فقوله تعالى: «كَذلِكَ» - إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن..(10/17)
أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجم: «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. وذلك التثبيت، هو بهذا الاتصال الدائم بالسماء، وبتلقّى ما ينزل منها، حالا بعد حال، على مدى ثلاث وعشرين سنة، تنتظم مسيرة الدعوة، من مبدأ الرسالة إلى خاتمتها.. فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة، وعند كل موقف من مواقفها، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى أمداد السماء، ويفتح قلبه وسمعه، لنداء الحق جل وعلا، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه، فيجد الرّوح لروحه، والأنس لنفسه، والعزاء الجميل لكل ما يلقى من ضرّ وأذى.. «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. ولو نزل القرآن جملة واحدة، لما وجد الرسول هذا الذي كان يجده منه، من أنس دائم، ومدد ممتد، من تلك الثمرات الطيبة، التي ينال غذاءه الروحي منها، كلّما أحسّ جوعا، وهفت روحه إلى زاد من مائدة السماء!! إنه لو نزل القرآن جملة واحدة، لكان على النبيّ، أن يحمل هذا الزاد الكثير معه على كاهله، ثم كان عليه- كلما أحسّ جوعا- أن يتخير من هذا الزاد طعامه.. ثم كان عليه أن يعدّ هذا الطعام، وأن يهيئه.. ثم كان عليه أيضا أن يحدد القدر المناسب لحاجته. وهذه كلّها عمليات تستنفد جهدا كبيرا من النبيّ، وتذهب بكثير من طاقانه الروحية في البحث والإعداد. وهذا على خلاف نزول القرآن منجّما، حسب الحاجة، وعند الظروف الداعية.. حيث يجد النبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات الله المنزلة عليه، فتشتمل عليه، وتنسكب في مشاعره ووجدانه، وتملأ عقله، وتلبس روحه.. وشتان بين طعام محفوظ في علب، وبين هذا الطعام المجننى من مغارسه لساعته! قوله تعالى: «وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن، وأنه جاء أرتالا متواكبة، ومواكب يتبع بعضها بعضا، حيث تستطيع العين(10/18)
أن تشهد كل ما في هذه المواكب، وأن تتبيّن شخوصها، وملامحها، وما تحمل معها من متاع، وذلك على خلاف ما لو جاءت هذه الحشود في موكب واحد، يزحم بعضه بعضا، ويختلط بعضه ببعض، فإن أخذت العين جانبا، فاتها كثير من الجوانب، وإن أمسكت بطرف، أفلت منها كثير من الأطراف.
والترتيل: - كما يقول الراغب في مفرداته «هو اتساق الشيء وانتظامه على استقامة واحدة.. يقال رجل رتل الأسنان (أي منتظمها) والترتيل:
إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة» .
ومن هنا كان «ترتيل القرآن» .. وهو قراءته، قراءة مستأنية، فى أنغام متساوقة، يأخذ بعضها بحجز بعض، فيتألف منها نغم علويّ، هو أشبه بتسابيح الملائكة، يجده المرتّل لآيات الله في أذنه، وفي قلبه، وفي كل خالجة منه..
قوله تعالى:
«وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» - هو بيان لحكمة أخرى من حكم نزول القرآن منجما، وهو أن هذا النزول على تلك الصورة، يرصد الأحداث الواقعة على طريق الدعوة الإسلامية من مبدئها إلى ختامها..
ثم يطلع على كل حدث، بما هو مناسب له.. فيحقّ حقّا، ويبطل باطلا، ويزيل شبهة، ويحيى سنة، ويميت بدعة.. وهكذا..
ونكتفى هنا بأن نضرب لهذا مثلا واحدا..
فقد كان من مقولات المشركين. فى إنكارهم للبعث، قولهم: كيف تبعث هذه العظام النّخرة، وتلبسها الحياة مرة أخرى؟. وذلك ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»(10/19)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
فجاء قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.. بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» (79- 81: يس) .
فكان ذلك ردّا على هذا المثل الذي ضربوه، وإبطالا له، وإطفاء لنار الفتنة المنطلقة منه، قبل أن يعظم لهيبها، ويشتدّ ضرامها.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» ..
«الَّذِينَ» بدل من الضمير في قوله تعالى في الآية السابقة: «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ» .. «فهؤلاء الذين يضربون الأمثال للنبيّ الكريم، يجادلونه بها، ويشوّشون على دعوته، ويثيرون الشكوك والريب عند صغار الأحلام ومرضى القلوب- هؤلاء الذين يجيئون تلك الأمثال، هم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، وهم شر الناس مكانا في هذه الحياة الدنيا، وأضلهم سبيلا، إذ عزلوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الغواية والضلال.. وحشرهم على وجوههم، هو تنكيل بهم، وامتهان لهم، حيث يعاملون معاملة الحيوانات الميتة،؟؟؟
من أرجلها، ويلقى بها في مكان بعيد.. وفي هذا يقول الله تعالى في هؤلاء الظالمين: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (48: القمر)
الآيات: (35- 44) [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)(10/20)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» .
مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما قبلها من آيات، هى أن الآيات السابقة كانت تحدّث عن موقف المشركين من النبيّ الكريم، وخلافهم عليه، ومقولاتهم المنكرة فيه، وفي الكتاب الذي نزل عليه- فجاءت هذه الآية وما بعدها، تحدّث عن الظالمين من الأمم السابقة، وموقفهم من رسلهم، وكيف أخذهم الله سبحانه بعذابه، وأوفع بهم بلاءه.
وفرعون والملأ الذين معه، هم الظّلم ممثلا في أبشع صورة. وهم الأئمة في الضلال، والعناد، والكفر.. ولهذا نجد القرآن الكريم، يعرض فرعون،(10/21)
وعناده، وضلاله، وما انتهى إليه أمره، من الهلاك غرقا- يعرضه في مواجهة المشركين من قريش، وفي المواقف التي يكشف فيها القرآن عن عنادهم وضلالهم، حيث يلقاهم بهذا العرض الكاشف لفرعون، وموقفه من آيات الله وما أخذه الله من نكال، وما ينتظرهم، هم، من بلاء وعذاب، قد رأوه فيمن كذبوا بآيات الله وعصوا رسله..!
فهذا موسى رسول الله، قد آتاه الله كتابا من عنده، وشد أزره بأخيه هرون، حتى يلقى فرعون ويبلغه رسالة ربّه.. ولكن فرعون أبى واستكبر، وكذّب بآيات الله التي طلع بها موسى عليه، وهي آيات مادية محسوسة، كتلك الآيات التي يقترحها المشركون على النبيّ، ويجعلونها شرطا لازما لتصديقهم به.. وما موقف القوم إزاء هذه الآيات بأحسن من موقف فرعون.. إنهم لن يؤمنوا بها، وسيكون لهم فيها مقال، كما كان لفرعون فيها مقال! وكذلك شأن الظالمين جميعا مع آيات الله.. إنهم على موقف سواء إزاءها، هو الاتهام والتكذيب! وفي كلمات معدودات، تعرض قصة موسى مع فرعون، هذا العرض الذي يمسك بالصميم منها: «اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» وفي هذا ما يسأل عنه:
- كيف يوصف فرعون وقومه بأنهم كذبوا بآيات الله، ولم يكن موسى قد التقى بهم، وعرض عليهم آيات الله.. والله سبحانه يقول: «اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» ؟
والجواب، هو أن فرعون لم يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود، وهي آيات تتمثل له في كل شىء.. فى نفسه، وفي عالم الجماد والنبات والحيوان.(10/22)
وفي ظواهر الطبيعة، وفي الكواكب والنجوم.. وفي كل ما يقع عليه النظر، من قريب وبعيد..
وفي كل شىء له آية ... تدل على أنه الواحد
فإغفاله لهذه الآيات، وعدم استنطاقها بما تحدّث به من جلال الخالق وعظمته، هو تكذيب بها.. ولو نظر نظرا باحثا عن الحقيقة، لآمن واهتدى..
ومن جهة أخرى.. فإن الآية حديث إلى هؤلاء المشركين، وعرض لما انتهى إليه أمر فرعون، وأنه قد كذّب بالآيات التي عرضها عليه موسى، فكان أن قال له: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ!» (57- 58: طه) .
-لماذا لم يذكر القرآن فرعون وملأه، واقتصر على الإشارة إليهم بقوله تعالى: «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؟» ألا يمكن أن ينصرف هذا الوصف إلى غير فرعون وملائه، كبني إسرائيل مثلا؟
والجواب، من وجوه:
أولا: أن بني إسرائيل، لم يدمّروا تدميرا، حين آذوا موسى، ومكروا به، وعبدوا العجل من ورائه، بل كان عقابهم أن صبّ الله عليهم اللعنة، ومسخهم مسخا، وهم أحياء.
وثانيا: أن هذا الوصف، وهو التكذيب بآيات الله التي جاء بها موسى، إنما كانت من فرعون وملائه، وقد تحدّث عنها القرآن في غير موضع، تفصيلا، وإجمالا.. ومن هنا كان هذا الوصف علما على فرعون وملائه، لا يشاركهم أحد فيه، فى هذا الموقف.(10/23)
وثالثا: أنه ليست العبرة هنا في ذوات الأشخاص، وإنما العبرة بالصفة التي يكونون عليها مع آيات الله.. فحيث كان التكذيب بها، كان التدمير، وكان الهلاك.. يستوى في هذا فرعون وغير فرعون.. فما دمّر الله فرعون لأنه فرعون، وإنما لأنه كذّب بآيات الله.. وهؤلاء الذين يكذبون بآيات الله من المشركين، هم فراعين، يلقون ما لقى فرعون! وفي هذا العرض الموجز للقصة كلها: «اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» تهديد بهذا البلاء المطلّ على رءوس المشركين، وأنه منهم كلمح البصر أو هو أقرب.. إنه التكذيب، فالهلاك والتدمير..
قوله تعالى:
«وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» .
الواو في قوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ» للعطف، وَ «قَوْمَ نُوحٍ» معطوف على قوله تعالى: «فَدَمَّرْناهُمْ» أي وكذلك دمّرنا قوم نوح لمّا كذّبوا الرسل.
والتدمير الذي وقع على فرعون، وعلى قوم نوح، هو الإغراق.. ومن هنا كان عطف الحدثين وجمعهما في سياق واحد..
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «أَغْرَقْناهُمْ» هو جواب عن سؤال: كيف كان تدمير هؤلاء وهؤلاء؟ فكان الجواب: «أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» .. فالإغراق والعبرة الماثلة للناس من هذا الإغراق، هو حكم واقع على الفريقين معا.. وكذلك التعقيب على هذا الحكم: «وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» هو تعقيب على مهلك السّابقين واللّاحقين.. ثم هو تهديد ووعيد للحاضرين، والآتين!(10/24)
قوله تعالى:
«وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» .
هو معطوف على قوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ» أي وكذلك دمّرنا عادا وثمود وأصحاب الرسّ وقرونا بين ذلك كثيرا..
والقرون: جمع قرن، والمراد الجيل من الناس.
وقد اختلف في أصحاب الرسّ.. فقيل إنهم أهل قرية باليمامة يقال لها الرسّ، وقيل هم بقية عاد وثمود، وقيل هم وأصحاب الأيكة قومان، أرسل إليهما شعيب..
وفي مفردات الراغب: الرّس: الأثر القليل الموجود في الشيء. يقال سمعت رسّا من خبر أي قليلا منه..
وفي القرآن الكريم لم يرد ذكر لهذه الجماعة إلا في هذه الآية، وفي آية أخرى في سورة (ق) هى قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ» .
ويلاحظ أن «أَصْحابَ الرَّسِّ» قدّموا على ثمود في سورة (ق) على حين جاء عكس هذا في سورة الفرقان، فجاء ذكرهم بعد ذكر ثمود.
ويمكن أن يتخذ من هذا قرينة على أن أصحاب الرسّ وثمود متجاوران زمانا، أو مكانا، أو زمانا ومكانا معا.
كما يلاحظ أنه لم يذكر في الموضعين الرسول الذي أرسل إلى أصحاب الرسّ..
والخلاف الذي وقع فى «أَصْحابَ الرَّسِّ» وقع فى «الرَّسِّ» نفسه..
ما هو؟ وأبن هو؟ وهل هو مكان، كما في قوله تعالى: «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ»(10/25)
(176: الشعراء) ؟ أم هو اسم حيوان، كما في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» ؟ أم هو سمة من سمات القوم الغالبة فيهم، كما فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ» (80: الحجر) ؟
وليس في التعرف على «أَصْحابَ الرَّسِّ» وفي الكشف عن موطنهم، وزمنهم، ورسلهم، ما يزيد في حجم أو أثر العبرة والعظة من مهلكهم..
فما هم إلا جماعة من تلك الجماعات التي شردت عن الحقّ، وتأبّت على الهدى، ووقفت من آيات الله، ومن رسل الله، موقف اللجاج والعناد.. وفي ذكرهم مع عاد، وثمود، ما يصبغهم بهذا الصّبغ الذي اصطبغ به هؤلاء وهؤلاء، من الضلال، والعناد.. فهم، ومن سبقهم، أو لحق بهم من الأقوام الضالين- على سواء في الكفر والضلال..
وفي قوله تعالى: «وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» إضافة للكثير من الأقوام الضالين، الذين احتواهم الزّمن بين قوم نوح، وبين عاد وثمود وأصحاب الرس.. فهناك كثيرون من الرسل، قد بعثهم الله سبحانه وتعالى إلى أقوام عديدين، فى تلك الحقبة، بين نوح، وبين عاد وثمود وأصحاب الرس.. وأن هؤلاء الأقوام لم يختلف موقفهم مع رسلهم، عن موقف عاد وثمود وأصحاب الرسّ، من رسلهم..
وعلى هذا، فإنه إذا كشف الزمن عن وجه أصحاب الرس- فليكونوا كعاد وثمود، وإذا لم يكشف الزمن عن وجوههم فليكونوا في هؤلاء الأقوام الذين احتواهم الزمن، بين نوح وبين عاد وثمود..! وهذا هو بعض السرّ فى وضع «أَصْحابَ الرَّسِّ» فى هذا الوضع من الآية.. فهم بين معلومين علما قاطعا، وبين مجهولين جهلا تاما.. وكذلك كان وضعهم في آية «ق» :
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ» .. فقد أخذوا وضعا وسطا بين(10/26)
معلومين قد ذهبت آثارهم، وبين معلومين قد بقيت من آثارهم بقية، هى أطلال دائرة، يمرّ عليها المشركون! قوله تعالى:
«وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً» .
أي وكلّ قوم من هؤلاء الأقوام الذين أهلكهم الله، ودمدم عليهم- قد ضرب الله لهم الأمثال، وأراهم العبر فيمن سبقهم من الهالكين، حيث ذكّرهم بهم، وبما كان منهم من ضلال وعناد، وما أثمر لهم هذا الضلال وذلك العناد من ثمر نكد.. هو «التتبير» أي الهلاك والعذاب.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ.. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟ بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» .
أتوا: أي مرّوا، ووقفوا على هذه القرية.. والضمير، يعود إلى المشركين من أهل مكة.. والقرية التي أمطرت مطر السوء: هى قرية لوط..
فقد أهلكها الله سبحانه، بما صبّ عليها من حجارة من سجيل، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ» (82: هود) .
والمعنى: أن هؤلاء المشركين، قد مرّوا على هذه القرية، قرية لوط، وهم في تجارتهم إلى الشام، ورأوا من آثار هذه القرية ما يحدّث عن مصارع أهلها..
وفي قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟» استفهام يراد به التقريع والتوبيخ.
فهم كانوا يرون هذه الآثار، وما تنطق به، ولكنهم كانوا ينظرون بأبصار(10/27)
ترى ولا تعقل، فلم يك ينفعهم هذا النظر شيئا.. كما يقول سبحانه وتعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) .
وفي قوله تعالى: «بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» إضراب عن الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها» - والمعنى، أنهم كانوا يرون هذه القرية بأعينهم، ولكنهم كانوا لا يرجون نشورا، ولا يتوقعون حياة بعد الموت.. وتلك هي علّتهم في حجب الرؤية النافذة إلى مواقع العبرة في قلوبهم، من تلك القرية.. إنهم ينظرون إليها ويرون مصارع أهلها، ولم يرد على خاطرهم، ما وراء هذا البلاء الذي نزل بهؤلاء القوم؟، إذ كانوا لا يرون أن وراء هذا شيئا آخر.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بالبعث، وبالحياة الآخرة، لتمثل لهم العذاب الذي ينتظر هؤلاء الذين ضمّهم الثرى، وأصبحوا ترابا.. وإذن لها لهم الأمر، واستولى عليهم الفزع، ولطلبوا لأنفسهم النجاة من أن يصيروا إلى هذا المصير، الذي ينتهى إليه كل متكبر جبار، لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر..
قوله تعالى:
«وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً.. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها..»
إنه لقاء مع المشركين، بعد أن وقفوا على مصارع القوم الظالمين، وما سيلقونه من عذاب أليم، يوم البعث والجزاء..
وفي هذا اللقاء يستمع المشركون إلى مقولاتهم المنكرة، التي يقولونها فى رسولهم، الذي جاء ليستنقذهم من مصير كهذا المصير، الذي رأوه في أصحاب(10/28)
القرية، الذين أعنتوا رسولهم، وسفهوا عليه، كما يعنت هؤلاء المشركون رسولهم ويسفهون عليه..
وفي قوله تعالى: «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً» .. إعلان بالجرم الذي أجرمه المشركون في حقّ الرسول.. وأنهم اتخذوه هزوا وسخرية.. وأن من هزئهم وسخريتهم به، هو الإشارة إليه تلك الإشارة المنكرة له، المستخفّة به، المستصغرة لشأنه: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» ؟.
و «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ» جملة منفية، و «إن» حرف يفيد النفي، أي ما يتخذونك إلا هزوا..
وفي التعبير عن هزء المشركين بالنبي بقوله تعالى: «يَتَّخِذُونَكَ» إشارة إلى أنهم يجعلون النبي غرضا لسهام السخرية، كلما لاح لهم، وبدا لأعينهم..
فذلك هو دأبهم معه. وفي هذا تشنيع عليهم، وتهويل لجرمهم.
وقوله تعالى: «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها» .
«إِنْ» أداة تفيد التوكيد، وهي المخففة من إنّ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وتقديره: إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا..
وهذه الجملة هي بقية مقول القول: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» ..
أي قائلين أهذا الذي بعث الله رسولا؟ إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها..!!
وإنهم ليحمدون لأنفسهم هذا الوقوف في وجه النبيّ، وهذا الثبات على ما هم عليه مع آلهتهم، وأنه لولا هذا، لجرفهم هذا التيار الجديد، ولأفسد النبيّ ما بينهم وبين آلهتهم، كما أفسد كثيرا ممن ليس لهم مثل ما عندهم من قوة وإرادة! هكذا ظنهم بأنفسهم، وبما أمسكوا به من ضلال!(10/29)
وفي قولهم: «لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا» ما يكشف عن مدى ما ركب القوم من سفه وضلال، إذ يرون أن ما هم فيه من ولاء لهذه الأصنام، هو الهدى، وأن ما يدعوهم إليه النبيّ من الانخلاع عنها، هو الضلال!! ألا ساء ما يحكمون.
وفي قوله تعالى: «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا» هو ردّ على مقولة المشركين: «لَيُضِلُّنا» .. فإن الضلال هو ما هم فيه.. وسوف يعلمون ذلك، حين ينكشف الغطاء، ويساقون إلى جهنم.. حيث لا ينفع العلم، ولا ينصلح ما فسد..
قوله تعالى:
«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» .
هو استفهام يراد به الإغراء برؤية هذا الأمر العجيب المنكر، الذي يتلبس به ذلك الإنسان الضال، الذي اتخذ إلهه هواه، وجعله معبودا، يعطيه ولاءه، ويسلم إليه إرادته.
والخطاب للنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- وإلفات له إلى هؤلاء الضالين من قومه، الذين لعبت بهم الأهواء فلم تكن لهم أعين يبصرون بها، إلى هذا الوجود، وما فيه من آيات تحدث عن أن لهذا العالم خالقا خلقه، ومدبرا حكيما أقامه على هذا النظام المحكم الدقيق، ولم يكن لهم آذان يسمعون بها ما يتلى عليهم من آيات الله، فصمّوا عنها، واستمعوا إلى ما تحدثهم به أهواؤهم، - فكان منهم هذا السخف، وهذا الضلال الذي هم فيه..!
وفي قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» إزاحة لهذا العبء الثقيل من الهمّ الذي كان يجده النبيّ، وهو ينظر إلى سفاهة قومه، وضلالهم، ويعانى من ذلك ما يعانى من آلام.. إنه ليس وكيلا عليهم، يحمل عنهم(10/30)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
ما حملوا من أوزار.. إنهم مسئولون عن أنفسهم، بعد أن بلغتهم رسالة ربك.. فتخفف من هذه المشاعر الثقيلة الضاغطة عليك، ودعهم وما حملوا:
«وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها» (164: الأنعام) .. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» (8: فاطر) .
قوله تعالى:
«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .
هو بيان لهذا الهوى الذي استولى على القوم، واستبدّ بعقولهم، وأن أكثرهم لا يسمعون، ولا يعقلون.. فما هم إلا كالأنعام، فيما يسمعون أو يعقلون..
إن أجهزة السمع عندهم لا تنقل إليهم إلا أصواتا، وإن عقولهم لا تعقل إلا خواطر مبهمة غائمة.. فهم- والحال كذلك- دون الأنعام قدرا، وأنزل منها منزلة في عالم الأحياء.. إذ كانت الأنعام مستقيمة على فطرتها التي فطرها الله عليها.. أما هؤلاء، فقد أفسدوا فطرتهم، واتخذوا أهواءهم قائدا يقودهم إلى كل مهلكة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!. وفي هذا تخفيف عن النبيّ فى مصابه في قومه، هؤلاء الضالين. إنهم شىء تافه، وأجسام تعرّت من آدميّتها، فليس في فقدهم ما تخف به موازين الإنسانية أبدا..
الآيات: (45- 52) [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)(10/31)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، تحدثت عن الضالين، الذين لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وكل ما لهم، هو هوّى مطاع متسلط عليهم، مستبد بهم، لا يملكون معه نظرا عاقلا، أو سمعا واعيا..
وهنا في هذه الآيات، عرض لصورة كريمة، للإنسان الذي يرى فيعتبر، ويسمع فيعقل، ثم ينتفع بما عقل.
والخطاب، وإن كان للنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- فإنه خطاب عام لكل من يستجيب لهذا النداء العلويّ، ويلقاه بقلب سليم، ونظر مستقيم.
والاستفهام، إنما يراد به الأمر بالنظر في هذه الظاهرة، التي تحدثت عنها الآية الكريمة، ولفتت الأنظار إليها..(10/32)
ومجىء الأمر، على هذا الأسلوب الاستفهامى، هو إغراء بهذا الأمر.
حيث يطلع من هذا الاستفهام إنكار، واستغراب من عدم النظر إلى الظل، وكيف مدّه الله.. ثم يطلع من هذا الإنكار والاستغراب داع يدعو إلى المبادرة بالنظر، وإدراك مافات.. والتقدير هكذا: ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل؟
ماذا صرفك عن هذا؟ فيأيها الإنسان إذا كنت إلى الآن لم تكن قد نظرت فهيّا، فذلك أمر لا ينبغى أن يفوت ذا عقل! وقوله تعالى: «إِلى رَبِّكَ» أي إلى قدرة ربّك، وحكمته ورحمته.. وهذا يعنى النظر إلى الله سبحانه وتعالى من خلال آثاره، وما يتجلّى على هذه الآثار، من صفات الكمال والجلال، التي تفرّد بها، الإله الواحد، الفرد الصمد..
وفي إضافة النبيّ الكريم إلى ربّه، تكريم له، وأنس لوحشته، فى هذا الوقت العصيب، الذي كان يعيش فيه مع قومه، وقد وصفوه بالجنون والسّفه.
وقوله تعالى: «مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» أي نشره، وبسطه..
حتى ليكاد يغمر الكائنات.
وقوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا» - إشارة إلى أنه لولا الشمس، لما عرف الظل، فظهور الشمس، هو الذي يدل على أن هناك ظلّا يطوى، فتحرك الظلّ مع الشمس هو الذي يدل على وجوده، وإن كان موجودا فى ذاته.. وهذا يعنى أن التضادّ بين الأشياء، هو الذي يدل على وجودها، ويجعل لهذا الوجود صفات، تحدد شخصيته، وذاتيته.. وهذا يعنى أيضا أن التضادّ أمر لازم في نظام حياتنا البشرية- على الأقل- حتى نميز بين الأشياء ونحدّد سلوكنا إزاءها.. فهناك الخير والشر، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، والنور والظلام، والجميل والقبيح، والحلو والمرّ.. إلى ما لا يحصى من محسوسات ومعنويات.. حتى لا نكاد نجد معنى من المعاني، أو محسوسا من(10/33)
المحسوسات إلّا وفي الجانب الآخر، الوجه المضاد له.. فإن لم نجد هذا الوجه بحثنا عنه، حتى نعثر عليه، واقعا أو متخيّلا.
وفي قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» إشارة إلى أن هذا الظل هو فى يد الله، وتحت سلطان مشيئته، وأنه سبحانه لو شاء أن يجعله ساكنا، أي مقيما أبدا على حال واحدة لا ينسخه ضوء- لو شاء سبحانه ذلك، لنفذت مشيئته، ولأظلّنا هذا الظلّ أبدا.. ولكنه سبحانه قضى- بحكمته ورحمته- أن ينسخ الظلّ بالنور، وأن ينسخ النور بالظل، فنلبس في حياتنا هذين الثوبين على التناوب، كل يوم..
وفي قوله تعالى: «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» - إشارة إلى حركة التناسخ بين الظل والنور.. وأن يد القدرة تقبض الظلّ شيئا فشيئا، على حين تبسط النور بقدر ما تقبض من الظل..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (71- 73: القصص) ..
والصورتان، وإن كانتا تدلان على مدلول واحد، إلا أن الصورة الأولى- على صغرها- فيها حركة، وفيها تفصيل، أريد بهما الالتفات إلى تلك العملية، التي تجريها يد القدرة في تناسخ الليل والنهار، أو الظلام، والنور، على حين أن الصورة ثانية كانت غايتها الكشف عن الحكمة في هذا التناسخ، وبهذا تتآلف الصورتان، وتتكون منهما صورة واحدة وإن كانت كل صورة منهما قائمة على التمام والكمال، لا ينقصها شىء من الألوان أو الظلال..(10/34)
قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» - هو بيان لتلك الحكمة العالية في هذا التدبير الحكيم، من قبض الظل، وبسطه فيحدث من هذا القبض والبسط، الليل، والنهار..
- وفي قوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً» - إشارة إلى ما في الليل من ظلمة، تلبس الكائنات، وتسترها، وكأنه بهذا يضم الكائنات الحية تحت جناحه، لتأخذ حظها من الراحة، والهدوء، بعد سعيها، وتعبها خلال النهار.. فهى تحت هذا الجناح لا تملك إلا أن تستسلم للدعة والسكون، حتى يتجدد نشاطها، ويتجمع ما ذهب من قوتها، لتستقبل صبحها الجديد بالعمل الجادّ والسعى المتصل.. فهذا نظام تفرضه الطبيعة، ومن مصلحة الكائن الحيّ أن يأخذ به ويلتزمه.
- وفي قوله تعالى: «وَالنَّوْمَ سُباتاً» إشارة إلى أن النوم ظاهرة غير ظاهرة الراحة والسكون.. فقد يستريح الإنسان ويسكن، ولكن وجوده كلّه حركة عن طريق العقل، الذي لا يكفّ عن العمل والتفكير، إلا بالنوم المستغرق، الذي يسكن فيه العقل، كما تسكن الجوارح. فالسبات، هو السكون التام..
الذي يمثل صورة مصغرة للموت.
- وقوله تعالى: «وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» أي تنتشر فيه الكائنات الحية، وتبعث من مرقدها، كما يبعث الموتى من القبور..
وفي هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة، للنوم، واليقظة، إشارة إلى صورة أخرى ينبغى أن يستحضرها أولئك الذين ينكرون البعث.. فما النوم إلا الموت، وما اليقظة إلا البعث!(10/35)
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» ..
هو امتداد لهذا العرض، الذي تحدّث فيه الآيات عن قدرة الله.. وعن إحسانه إلى عباده، ورحمته بهم.. وأنّ من سوابغ إحسانه، سبحانه، ومن فواضل رحمته، أنه يرسل الرياح فيجد الناس فيها بشريات الغيث، الذي يوشك أن ينزل، فيحيى الأرض بعد موتها..
- وفي قوله تعالى: «بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» - إشارة أن إلى الريح، وإن كان يدفع السحاب، فإنه هو الذي ينشىء السحاب، وأنه لولا الريح، ما نشأ السحاب..
فإذا هبت الريح، أثارت وجه البحار، وحدث البحار الذي يتصاعد في السماء، ويكوّن السحاب.. ثم يدفعه الريح إلى حيث يشاء الله سبحانه وتعالى..
وفي التعبير عن المطر بالرحمة، إشارة إلى أنه رحمة خالصة، إذ لولا هذا الماء الذي ينزل من السماء، ما كان للحياة أثر على هذه الأرض..
وفي قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» هو بيان لرحمة الله، التي تقدّمتها «الرِّياحَ» معلنة البشرى بمسيرتها إلى الناس..
وفي وصف ماء المطر بأنه ماء طهور، إشارة إلى أنه ماء خالص، لم يختلط به شىء مما على الأرض، ولم تعلق به شائبة من شوائبها.. فهو ماء نقيّ صاف، طهور..
وفي قوله تعالى: «أَنْزَلْنا» بدلا من قوله «أنزل» الذي يجرى مع السياق لقوله تعالى: «أَرْسَلَ الرِّياحَ» - إلفات إلى جلال الله، وإلى عظمته، وقدرته، وإلى ما بين يديه من رحمة، يجود بها على عباده، ويدعوهم إلى تناولها من يدى(10/36)
رحمته.. فهذا الحضور للوجود كله، بين يدى رحمة الله، هو دعوة جامعة إلى صلاة شكر، وحمد، وثناء.. لله رب العالمين.
قوله تعالى:
«لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» .
هو بيان للحكمة من سوق هذه الرحمة إلى الناس.. إنها حياة لكل ميت، وبعث لكل هامد..
ففى قوله تعالى: «لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» إشارة إلى أن الماء هو أصل الحياة، ومبعثها، كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .
وفي قوله سبحانه: «وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» - إشارة إلى أن الماء، هو الذي يمسك الحياة على الأحياء، بعد أن قامت به الحياة ذاتها.. فهو الذي يقيم الحياة بقدرة الله، وهو الذي يمسكها، برحمة الله! ..
وفي تقديم الأنعام على الناس- إشارة إلى أن رحمة الله، تسرى في الكائنات كلها، وأنها ليست، للناس وحدهم، كما يقع ذلك عند بعض ذوى العقول القاصرة.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (6: هود) .
وليس هذا فحسب، فإنه مع تقديم الأنعام على الناس، استعمل القرآن لفظ «ما» الذي هو لغير العقلاء، بدلا من «من» الذي للعقلاء، فقال تعالى: «مِمَّا خَلَقْنا» بدلا «ممن خلقنا» وذلك لتوكيد المعنى المقصود هنا،.
وهو أن الأنعام لها عند الله سبحانه وتعالى وزنها وتقديرها، وأنها إذ كانت أقل حيلة من الإنسان، فقد كفل الله سبحانه لها حاجتها، وقدم مطلوبها على مطلوب(10/37)
الإنسان، شأن الأب، يرعى صغاره، وينظر في حاجة الصغير قبل الكبير..
إذ كان الصغير لا حيلة له، على حين أن الكبير يستطيع أن يدبر أمره، ويرعى شئونه.. ومع هذا فإن الأب لا يحرم الكبير- وإن بلغ مبلغ الرجال، أو الشيوخ- عطفه، وحنانه، ورحمته! وهذه النظرة إلى الآية الكريمة، جديرة بأن تفتح الأعين على حقيقة ينبغى أن يعيها المجتمع الإنسانى، وأن يجعلها أساسا من أسس النظام الذي يقوم عليه المجتمع، وتلك الحقيقة، هى أن ضعاف المجتمع، الذين لا حول لهم ولا حيلة في جلب خير، أو دفع ضر، هم أولى الناس بالرعاية وبتوفير أسباب الحياة لهم، حتى يأخذوا مكانهم في المجتمع، فينتظم خطوهم، ويجتمع شملهم مع شمله فى أسرة واحدة، متكافلة، متساندة..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» .
الضمير فى «صَرَّفْناهُ» يراد به القرآن الكريم، وهو إن لم يجر له ذكر صريح في الآيات السابقة، فإنه مذكور في كل كلمة، وفي كل آية.. فهذه الآيات السابقة، هى بعض القرآن الكريم في مجموعه، وهي القرآن الكريم كله فى مضمونه..
وتصريف القرآن، هو تنويع معارضه، وعرض حقائقه ومقرراته في صور متعددة، بين الإيجاز والبسط، والإجمال والتفصيل، والتصريح والتلميح، إلى غير ذلك من أساليب البيان، التي ملك القرآن زمانها، واستولى على غايتها..
وقوله تعالى: «لِيَذَّكَّرُوا» بيان للحكمة من هذا التصريف، وهو أن يجد(10/38)
المستمع لكلمات الله، والناظر في هذه المعارض المتعددة، ما يكشف له وجه الحقيقة، ويطلعه على جوانبها كلها، وفي ذلك ما يفتح له الطريق إلى التعرف على الله والإيمان به..
وقوله تعالى: «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» هو عرض لموقف هؤلاء للمعاندين الضالين، إزاء آيات الله، وأن هذا البيان المبين الذي يخاطبهم به القرآن الكريم، لم يزدهم إلا نفورا من الدعوة التي يدعوهم إليها، وإلا إمعانا فى الضلال والسفه.. وذلك هو الشأن الغالب على الناس، وقليل هم أولئك الذين يرون النور، ويهتدون به..
قوله تعالى:
«وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» ..
أي أنه سبحانه وتعالى الذي صرف القرآن، وعرض حقائقه هذا العرض الكاشف المضيء، الذي ليس بعد نوره نور، ولا وراء هداه هدى- الله سبحانه الذي نزل هذا القرآن المبين، لو شاء لجعل في كل قرية نذيرا، يحمل إلى أهلها ما حمل محمد إلى الناس جميعا، من هذا النور.. ولكن ذلك لم يكن من مشيئة الله، ولا مما اقتضته حكمته.. فإن نذيرا واحدا يحمل آيات الله وكلماته فيه بلاغ مبين، لكل ذى نظر وعقل، لأن مع كل إنسان نذيرا في كيانه، هو ما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من عقل، يميز به بين الخير والشر، وبين الهدى والضلال، والحق والباطل: فمن كان معه هذا النذير فإن أية إشارة من إشارات الحق تكفى لإيقاظه إن كان نائما، ولتنبيهه إن كان غافلا، ولهدايته إن كان ضالا.. أما من فقد هذا النذير، فإنه لن تنفعه النّذر أبدا، ولو جاءه رسول خاص به من عند الله..(10/39)
فالقرآن الكريم- مثلا- ليس نذيرا واحدا، وإنما في كل آية منه نذير، ولكل نذير ذاتيته، وشخصيته، حتى لكأن كل آية رسول ينشر بين الناس رسالته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» ..
فهذا التصريف والتنويع في معارض القول، ووجوه النذر، هو بمثابة أعداد كثيرة من الرسل، تجىء إلى الناس من كل جهة، وتلقاهم على كل طريق، ومع هذا فإن كثيرا من الناس لم يستجيبوا لتلك الآيات التي يلقاهم من كل آية منها رسول كريم ونذير مبين..
وإذن، فإن كثرة الرسل، فى الناس، واختصاص كل رسول بقرية من القرى، أو جماعة من الجماعات لا يغنى كثيرا في مجال الهداية إلى الإيمان بالله، وإقامة الناس على طريق الحق، والخير..
ولو كان ذلك مغنيا في هذا المقام لكان في القرآن الكريم، وفي النذر المديدة التي تحملها آياته وكلماته، ما يزع هؤلاء الضالين الغاوين عن ضلالهم وغوايتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (95- 96: يونس) ويقول سبحانه: «قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) ..
قوله تعالى:
«فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» .
هو التفات كريم إلى النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- وتوجيه له إلى الوجهة التي ينبغى أن يأخذها من موقف هؤلاء الكافرين المشركين من قومه(10/40)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
وهو ألا يلتفت إلى عنادهم، وألا يلقى بالا إلى لغوهم وسفههم، وما يتقوّلونه عليه، وعلى القرآن الذي بين يديه، وأن يتصدّى لهم، ويقف في وجههم بهذا الحق الذي معه، وأن يجاهدهم به، ويرميهم بنذره، كما يقول الله تعالى:
«فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» (79: النمل) وكما يقول جلّ شأنه «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (94: الحجر) .
وقد امتثل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أمر ربّه، فوقف من المشركين، وقفة الجبل الراسخ الأشمّ في وجه الرياح الهوج، والأعاصير العاتيات.. وقال قولته الخالدة، لعمّه أبى طالب، حين جاء يعرض عليه مهادنة قريش، وله عندها ما يشاء من جاه، ومال، وسلطان، فقال: «والله يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يمنى، والقمر في شمالى، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه» .
وفي قوله تعالى: «وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» - إشارة إلى ما كان ينتظر النبي من أعباء ثقال، فى مواجهة قومه، وفي الصبر على المكاره التي يرمونه بها، فى قسوة، وحنق، وجنون.
الآيات: (53- 59) [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 59]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)(10/41)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً» .
مرج البحرين: المرج، خلط الشيء بالشيء، ومرج الخاتم في اليد، أي اضطرب، وأمر مريج، أي مختلط.. ومرج البحرين: أي خلطهما، وجمع بعضهما ببعض..
والعذب: الحلو، الطيب.. والفرات: العذب أيضا.. وهو توكيد للعذب، أي عذب عذب.
والسائغ: الذي تقبله النفس وتستطيبه..
والأجاج: الشديد الملوحة.
والبرزخ: الحاجز بين الشيئين..
والحجر المحجور: المحتجز، المحجوز، الذي لا سبيل له إلى الخروج من هذا الحجاز..
والآية الكريمة، مثل واقع محسوس، لقدرة الله، ولسلطانه القائم على(10/42)
هذا الوجود، حيث ترى في لقاء الماء بالماء قدرة القادر الحكيم، فى عزل أجزاء هذا السائل المائع، الذي يشبه الهواء في سيولته.. فالماء الملح في جانب، والماء العذب الفرات في جانب، وهما حيث ترى العين، ماء واحد، لا يعرف أيهما هذا أو ذاك، إلا بالمذاق باللسان..! فما أروع هذه القدرة، وما أعظم سلطانها الذي يحجز هذين السائلين بعضهما عن بعض، فلا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يختلط العذب بالملح.. وفي هذا يقول الحقّ جلّ وعلا: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (19- 20: الرحمن) .
وفي هذا المثل صورة للمجتمع الإنسانى، حيث الأخيار والأشرار، والمؤمنون والكافرون، والهواة والضالون.. إنهما في محيط حياة واحدة، حيث يموج بعضهم في بعض، وحيث تتشابه وجوههم وصورهم، تشابه الماء والماء، ومع هذا فإن بين الأخيار والأشرار، حجاز، وبرزخ، أشبه بهذا البرزخ غير المنظور، الذي يحجز بين الماء والماء: «هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» .
[الماء والماء. والناس والناس] ومن إعجاز القرآن الكريم، ما تكشف عنه هذه الآية، من روعة التصوير، ودقة التمثيل، فيما بين مجتمع الماء والماء، والناس والناس:
فأولا: هذا التشابه في الصورة بين الماء العذب، والماء الملح، وبين الأخيار والأشرار من الناس.. وأن التطابق يكاد يكون تامّا في الظاهر، بين المتناقضين، فى كل من وجهى الصورة.. فعلى أحد وجهيها، ماء عذب فرات، وماء ملح أجاج، وعلى الوجه الآخر.. مؤمنون، أخيار،(10/43)
طيبون، وكافرون، أشرار، خبيثون.. لا يعرف أي من هذه الأطراف، إلا بالمذاق والاختبار، ولا يبين فضل أىّ منها إلا في موقع العمل والتجربة..
وعلى هذا، فإن ما في كيان المؤمنين من إيمان وخير وطيب، إنما تظهر آثاره في مجال العمل، وفي موقع التجربة والاحتكاك بالحياة وبالناس..
وكذلك ما عند الكافرين من كفر وشر وخبث، إنما يعرف حسابه، ويأخذ الوصف الذي له، حين يتحول إلى عمل، واقع في الحياة.. وإلا فالناس جميعا على سواء، ما لم ينكشف ما بداخلهم من خير أو شر، ومن إيمان وكفر، فى صورة سلوك، وعمل..! «وَقُلِ اعْمَلُوا.. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» .
وثانيا: الناس- وإن ظهروا في صورة واحدة- هم في حقيقتهم، فريقان: مؤمن وكافر، ومستقيم، ومعوج، ومهتد وضال، وطيب وخبيث..
سواء اختبروا أم لم يختبروا، وجرّبوا أم لم يجرّبوا.. هكذا خلقهم الله، وإن توالد بعضهم من بعض، كما يتولد الماء العذب، من الماء الملح.. «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) .. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .
وفي هذا يقول الرسول الكريم: «النّاس معادن.. خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام» ..
وثالثا: المؤمنون الأخيار في المجتمع الإنسانى، وهم مادة الحياة، وهم الروح الذي يسرى في شرايين كل ما هو نافع، وصالح، لإثبات شجرة الحياة، وإروائها، وإزهارها، وإثمارها، ولو افتقدتهم هذه الأرض، لما كان للحياة أثر فيها- إنهم الماء العذب، الذي هو حياة الأحياء، من نبات، وجماد،(10/44)
وإنسان.. «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (30: الأنبياء) .. وفي هذا يقول بعض العارفين: «الماء العذب، ما وقع منه على الأرض أنبت البرّ، وما وقع فى البحر ولد الدرّ» أي اللؤلؤ والمرجان..
ورابعا: المؤمنون الأخيار، فى المجتمع الإنسانى، هم قلّة- فى كل زمان ومكان- بالإضافة إلى الضالين، والأشرار.. وتكاد نسبتهم تعدل نسبة الماء العذب، إلى الماء الملح..
وفي هذا يقول الحقّ تبارك وتعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) ويقول سبحانه: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) .
ويقول: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» (8: الروم) ويقول: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» (24: ص) .
وخامسا: ليس في الناس من هو شر خالص، أو خير محض.. ففى الأشرار الماء ما في الملح، من عناصر الماء العذب.. بل إن من هذا الماء الملح، ما يرقّ ويصفو، ويتحول إلى بخار، وسحاب، ثم ينزل على الأرض ماء عذبا فراتا..
وفي الأخيار ما في الماء العذب الفرات من قابلية للاختلاط بما يفسده وبغير طبيعته وهو يسلك مسالكه في الأرض.. فتارة يسلك مجرى طيّبا. فيكدر، ثم يصفو.. وتارة يقع في مستنقع، فيركد، ثم يتعفن.. وهكذا..
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» .
هو مضمون من مضامين هذا المثل، الذي ضربه الله سبحانه وتعالى فى(10/45)
الآية السابقة، للمؤمنين والكافرين، فيما بين الماء العذب، والماء الملح، من تشابه، وتضادّ في آن واحد..
فالماء العذب. والماء الملح.. هما ماء واحد.. وهما في الوقت نفسه ماءان..
فالصلة بينهما قريبة، وبعيدة معا..!!
والناس، مؤمنون، وكافرون.. من أصل واحد.. هم أبناء هذا الماء..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَجَعَلَهُ نَسَباً» .. أي فجعل هذا الماء هو صلة القرابة القريبة، التي تجمع الإنسان إلى الإنسان، كما تجمع الأخ إلى أخيه..
والناس، مؤمنون وكافرون.. هم صنفان، وكان من الممكن، أن يفرّق بينهما هذا الاختلاف، ولكن ما بينهما من نسب قريب، يمنع هذه الفرقة، ويرفع هذا الاختلاف..
ومن هنا، فإنه إذا كان لكلّ من المؤمنين والكافرين ذاتيته، وطريقه فى الحياة، فإن ما بينهما من تلاق في الأصل يجعل طريقيهما كالخطّين المتقابلين، يلتقيان، عند نقطة هندسية، أشبه بهذا اللقاء بين الماء العذب والماء الملح، وليس كالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبدا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَصِهْراً» ! فالصهر: أهل بيت المرأة بالنسبة لزوجها.. وأصهر إلى فلان: أي تزوج ابنته أو أخته..
وفي قوله تعالى: «وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» - إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، فى الجمع، بين المختلفين، والتفرقة بين المتشابهين في حال معا.!(10/46)
قوله تعالى:
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» ..
الضمير في قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ» يعود إلى الكافرين، الذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» ..
فهؤلاء الكافرون، لا يستمعون إلى هذا القرآن، ولا ينتفعون بما يضرب لهم من أمثال، وما يكشف لهم من جلال الله وقدرته.. وإذا هم على ما هم عليه من ضلال الجاهلية وشركها، لم ينكشف لعقولهم من هذا النور السماوي، ما هم فيه من عمى وضلال.. وهاهم أولاء- كما عهدتهم الحياة من قبل- عاكفون على عبادة هذه الدّمى وتلك الأحجار، التي لا تنفع ولا تضرّ، إذا دعاها عابدها لجلب خير، أو دفع ضرّ..
وقوله تعالى: «وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» إشارة إلى جناية من يكفر بربّه ويعبد إلها غيره. إنه يحارب خالقه، إذ يكون حربا على أولياء الله، من الرسل، وأتباع الرسل سواء أكان ذلك باتباع سبيل غير المؤمنين، أم كان بالوقوف في وجه المؤمنين، وإعلان الحرب سافرة عليهم..
وهو بهذا يظاهر أعداء الله على أوليائه، وفي هذا حرب لله، ومظاهرة لأعدائه المحاربين له، على حربه.
فالظهير، هو المعين الذي يسند ظهر غيره.. والكافر بكفره، وبانتظامه فى صفوف الكافرين المحاربين لله، هو يظاهر على الله، ولا يظاهر لله.. وذلك كما يقول سبحانه: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» (17: القصص) .
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» .(10/47)
هو عزاء للنبيّ الكريم، لما يلقى في تبليغ رسالته من عنت هؤلاء المشركين، وضلالهم، وما يسوءه من خلافهم عليه، وهم في هذا الضلال الذي لن يسلمهم إلا إلى الهلاك والبوار..
وماذا يفعل الرسول أكثر ممّا فعل مع هؤلاء المعاندين الضالّين.. إنه لا يملك بين يديه قوة تحركهم على أن يركبوا سفينة النجاة معه، وإن كلّ ما يملكه هو كلمات الله، يبشر بها المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، وينذر الضالين المكذّبين بأن لهم عذابا أليما.. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (21- 22: الغاشية) .
قوله تعالى:
«قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» .
أي أن الرسول الذي يحمل عبء هذه الرسالة، ويحتمل الأذى في سبيلها من الضالين والمعاندين، والسفهاء- لا يطلب لذلك أجرا على هذا الجهد المضنى الذي يبذله، كما يطلب الناس أجرا لكل عمل يعملونه.. إنه يؤدى رسالة الله خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يتولى جزاءه، وحسن مثوبته.
وقوله تعالى: «مِنْ أَجْرٍ» .. من هنا لاستغراق النّفى، للشىء الذي وقع عليه الفعل، وهو الأجر.. وهذا يعنى أنه لا يسأل على هذا العمل الذي يقدمه لهم أي أجر، وإن قلّ سواء أكان أجرا ماديا من مال ومتاع، أم أجرا معنويا، من جاه وسلطان..
وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» ..
إلا هنا أداة استثناء عاملة، وما بعدها مستثنى من عموم النفي الواقع على كلمة أجر..(10/48)
والتقدير: لا أسألكم أجرا على ما أقدم لكم من خير، إلا أجر من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا، بالإنفاق في سبيل الله، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، والضعفاء.. فذلك هو الأجر الذي أناله منكم، فهو وإن لم يكن لى، فإنى أحتسبه لى، لأن ما يقدّم لله، وما يؤدّى لعباد الله، هو لى.. وما ينفق فى سبيل الله، هو كأنما ينفق في سبيلى.. إذ ليس لى سبيل إلا سبيل الله..
وهذا مثل قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (23: الشورى) فالإحسان إلى ذوى القربى، كالوالدين، والإخوة والأعمام والعمات ونحوهم- هو إحسان إلى النبيّ، وتحقيق لدعوة الخير التي يدعو إليها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (23: الإسراء) ..
فالإحسان إلى الوالدين، هو من تمام الإيمان بالله، وكأن ذلك الإحسان هو إحسان إلى النبيّ، وهو الأجر الذي يناله من المؤمنين، الذين هداهم الله إلى الإيمان على يديه..
قوله تعالى:
«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» .
هو معطوف على قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» - أي: قل لهم هذا القول، ودعهم وما يشاءون، متوكلا على الحيّ الذي لا يموت..
أما كلّ حيّ سواه، ففى كيانه معاول هدمه وفنائه: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .. وسبّح بحمد ربك، منزّها له عن الشريك والولد، حامدا له أن هداك إلى الإيمان، وأن جعلك السّراج المنير الذي يهتدى به الضالون، ويسير على سنا ضوئه المؤمنون..(10/49)
- وقوله تعالى: «وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» .. هو تهديد للكافرين والضالين، وما يقترفون من آثام، وأن الله سبحانه وتعالى عليم بما يعملون، خبير.. لا يختلط عليه المحسنون بالمسيئين..
قوله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» .
هو من صفات الله سبحانه وتعالى، الذي دعى النبيّ إلى التوكّل عليه، وتفويض أمره إليه.. فهو سبحانه، حيّ لا يموت، خلق السموات والأرض، وما بينهما من عوالم، فى ستة أيام..
وقد قلنا من قبل، إن هذه الأيام الستة، هى الظرف الحاوي، الذي تمّ فيه ميلاد المخلوقات، جميعها، أي الوجود كله، فى أرضه وسماواته، وما في أرضه وسماواته.. وليس هذا الزّمن مرتبطا بقدرة الله سبحانه وتعالى في خلق المخلوقات.. ولو شاء- سبحانه- لخلق العالم كله في لحظة واحدة: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .
- وقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ» .
الاستواء على العرش، هو القيام على هذا الوجود، والاستيلاء على مركز القوة والسلطان فيه. فلا تخرج ذرّة من ذرات هذا الوجود عن سلطان الله، وعن علم الله: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) .
وقوله تعالى: «الرَّحْمنُ» هو فاعل الفعل «اسْتَوى» .. وهو يعنى أن صاحب السلطان القائم على هذا الوجود هو «الرَّحْمنُ» الذي أفاض رحمته(10/50)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
على الوجود.. فبالرحمة أقام الوجود وأوجده، وبالرحمة ملك أمر الموجودات، ودبّر شئونها، وقدّر مقام كل موجود بين الموجودات.
- وقوله تعالى: «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» الأمر هنا إلى كل إنسان غابت عنه هذه الحقيقة، وهي رحمانية الرحمن، القائم على هذا الوجود.. فمن غابت عنه هذه الحقيقة، ولم يدرك آثارها في هذا الوجود، وفي كل موجود.. فليسأل أهل العلم والخبرة، الذين يقدرون الله حق قدره، ويعرفون مواقع رحمته في خلقه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (7: الأنبياء) .
الآيات: (60- 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 77]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69)
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(10/51)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى، قد ذكر في الآية السابقة عليها، أنه- جل شأنه- هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام، وأنه استوى على العرش، برحمانيته، ثم دعا- سبحانه- من غابت عنه هذه الحقيقة من رحمانية الرحمن، أن يسأل أهل العلم والخبرة في هذا المقام.. فناسب ذلك أن يدعو إليه- سبحانه- الضالين، باسم «الرحمن» الذي له في كل مخلوق أثره، وله في كل حيّ نفحة من رحمته.. وبهذا يظهر ما عندهم من علم بالرحمن، سواء أكان هذا العلم مما أدركوه بعقولهم، وعرفوه بنظرهم، أو أخذوه عن أهل العلم والخبرة..(10/52)
وقد كشف هذا الامتحان، عن جمود هؤلاء الضالين على ضلالهم، وأنهم لم يهتدوا إلى هذه الحقيقة بأنفسهم، ولم يسألوا عنها أهل الذكر.. وأنهم إذا قيل لهم: «اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ» وآمنوا به، واجعلوا ولاءكم له- أنكروا هذا الاسم، ولم يعرفوا مدلوله ومسماه الذي يسمى به، فقالوا منكرين: «وَمَا الرَّحْمنُ» ؟ فيا لخسران القوم، ويا لتطاولهم على الله!! إن الرحمن هو الذي رحمهم برحمته، فلم يأخذهم بعاجل عذابه، وهم ينكرونه إنكار المستخفّ المستهزئ.. وكلمة منه- سبحانه- تمسخهم قردة وخنازير، أو تسلبهم السمع والبصر والكلام، فيعيشون صمّا، عميا، بكما، بين الأحياء!! فما أوسع رحمة الرحمن، التي يعيش في ظلها أعداء الرحمن، المحاربون له، المستكبرون عن عبادته..
- وفي قوله تعالى: «أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟» بيان لجريمة أخرى من جرائم هؤلاء المجرمين.. إنهم لن يسجدوا للرحمن، لأنهم لا يعرفونه، وإنهم لو عرفوه لا يسجدون له، لأن الذي يدعوهم إليه بشر مثلهم، ورجل منهم!! إنه الكبر والعناد، إلى جانب الجهل والضلال..
وقوله تعالى: «وَزادَهُمْ نُفُوراً» أي زادهم هذا الطلب الموجّه إليهم من النبي نفورا إلى نفورهم، فهم نفروا أولا، لأنهم لا يعرفون الرحمن، وهم نفروا ثانيا، لأن الذي يدعوهم إليه إنسان، من الناس، وليس ملكا من الملائكة، كما كانوا يقترحون! قوله تعالى:
«تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» .
هو عرض لبعض آثار رحمة الرحمن في خلقه، وأنه سبحانه، «جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» .. أفليس ذلك من آثار(10/53)
رحمة الله؟ وكيف كانت تكون الحياة على هذه الأرض، ولا شمس ولا قمر؟
وقوله تعالى: «تَبارَكَ» أي تمجد، وتقدّس، وكثرت آلاؤه ونعمه..
فهو- سبحانه- يمجّد ذاته، وإن لم يمجده الضالون المجرمون من خلقه وهو سبحانه جدير بأن يحمد ويمجّد من عباده الذين أسبغ عليهم نعمه ظاهرة، وباطنة والبروج: هى مدارات الكواكب، ومنازلها..
والسراج: هى الشمس..
والقمر المنير: هو القمر، الذي يستمد نوره من الشمس.. وقد وصف بأنه منير، ولم يوصف بأنه مضىء، لأن النور خلاف الضوء.. فالنور لا حرارة فيه، على خلاف الضوء، والنور ليس ذاتيا، وإنما هو متولد من وقوع الضوء على الأجسام.. وقد أشرنا إلى ذلك في سورة يونس، عند تفسير قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» (الآية: 5) .
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» .
ومن آثار رحمة الله، أنه جعل الزمن على هذه الأرض خلفة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، ويحلّ محلّه..
وفي هذا آية لمن أراد أن يتذكر، ويتعظ، إذا لم يكن قد وجد في آيات الله المبثوثة في الكون طريقا إلى التذكر والاعتبار، أما من وجد التذكر والاعتبار في غير هذه الآية، فإنها تزيده تذكرا واعتبارا، كما تزيده شكرا وحمدا، لآلاء الله. ونعمائه..(10/54)
قوله تعالى:
«وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» تعرض هذه الآية والآيات التي بعدها، الصفات الكريمة التي يتصف بها أولئك الذين استحقوا أن يضافوا إلى الله سبحانه، وأن يحسبوا في عباده، أما غيرهم ممن لا يتحلّون بهذه الصفات، فإنهم ليسوا أهلا لهذا المقام ولا موضعا لهذا الشرف العظيم.. وأن هؤلاء الذين قيل لهم اسجدوا للرحمن فأنكروا هذا، وقالوا: وما الرحمن؟ - هؤلاء ليسوا من عباد الرحمن، ولن يكونوا من عباده، ما داموا على حالهم تلك..
[عباد الرحمن.. من هم؟] أما عباد الرحمن الذين يستحقون هذا الشرف العظيم، فهم هؤلاء الذين جاءت تلك الآيات، تكشف عن صفاتهم التي يتحّلون بها، والتي تؤهلهم لهذا المقام الكريم..
وهذه الصفات التي يتحلّى بها عباد الرحمن، هى أنهم:
- «يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً.. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» .
والمشي الهيّن على الأرض، هو دليل على التواضع، ولين الجانب، وسماحة الخلق.. بخلاف المشي الذي يضرب وجه الأرض، تيها وفخرا، وقد نهى الله تعالى عنه في قوله: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» (37: الإسراء) .
- «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» .. أي أن عباد الرحمن لا يلقون فحش القول وهجره، بفحش، وهجر مثله.. فإذا رماهم السفهاء بالكلمة الخبيثة أعرضوا عنهم، وقالوا: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» (55: القصص) .
وليس هذا المشي الهيّن، أو الإمساك عن الفحش من القول، هو عن(10/55)
ضعف وذلّة، وإنما هو عن قوة نفس، ومتانة خلق، وكرم طبيعة.. وكلّ إناء ينضح بما فيه.. وكل شجرة لا تعطى إلا من ثمرها.. فالشجرة الطيبة.
تعطى ثمرا طيبا، والشجرة الخبيثة لا تعطى إلا ثمرا خبيثا..
- «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً» .
أي ومن صفات عباد الرحمن أن قلوبهم لا تخلو من ذكر الله أبدا، وأنهم يقضون نهارهم في كفاح وعمل، فإذا جهّم الليل أقبلوا على ربّهم بالعبادة والذكر، راكعين ساجدين.. والليل هو أنسب الأوقات للعبادة، ومناجاة الله سبحانه وتعالى، حيث تسكن النفوس، وتجتمع الخواطر، وتهدأ القلوب، فيجد الإنسان منطلقه في عالم الروح، وقد انزاحت من طريقه السدود التي يقيمها ضجيج الحياة، ولغط الأحياء أثناء النهار.. وقد نوه القرآن الكريم في أكثر من موضع بشأن العبادة في أوقات الليل، وما للعابدين عند الله في تلك الأوقات، من رضا ورضوان، فيقول سبحانه للنبى الكريم. «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (78- 79: الإسراء) . ويقول له سبحانه: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» .
(1- 6: المزمل) ويقول سبحانه في وصف المتقين من عباده، وما أعدّ لهم من جزاء عظيم: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (15- 18: الذاريات) .
وفي قوله تعالى: «لِرَبِّهِمْ» - إشارة إلى أنهم يقصرون عملهم كله بالليل(10/56)
على ذكر الله، لا يذكرون إلا الله جلّ وعلا، لا يشغلهم شىء عن ذكره..
فاللام هنا للاختصاص.
- «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً» إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» أي أن عباد الرحمن هؤلاء، إنما يعبدون ربّهم، وهم من عذاب ربّهم مشفقون.. إن عذاب ربّهم غير مأمون.. فهم مع طمع ورجاء في رحمته، وخشية وخوف من بأسه وعقابه.. هكذا حال المؤمنين بالله، لا يأس من روح الله، ولا أمن من بأسه وعذابه..
وقوله تعالى: «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» أي أنها- نعوذ بالله منها- لا يلقى أهلها إلا السوء والوبال، فهى أشأم وأسوأ مكان.. فكيف إذا كان هذا المكان مستقرا ومقاما لا يتحول عنه أهله؟ إن أهله أشقى خلق الله، وأنكدهم حظّا، وأشأمهم مصيرا..
- «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» .
وهذه صفة أخرى من صفات عباد الرحمن.. إنهم يلزمون الطريق الوسط فى حياتهم، وفي كل شان من شئونهم، فلا إفراط، ولا تفريط، فإن خير الأمور أوساطها.. وأكثر ما يتجلّى هذا المبدأ في إنفاق المال، حيث هو عملية مستمرة، يقوم بها الإنسان مرات كل يوم، سواء أكان غنيا أم فقيرا..
كلّ ينفق حسب ما معه من مال..
والإسراف، هو مجاوزة الحدّ في زيادة المطلوب في النفقة والتقتير، هو الإمساك دون الحدّ المطلوب..
وقوله تعالى: «وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» أي وكان إنفاقهم وسطا، وقواما، بين الإسراف، والتقتير..
- «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ،»(10/57)
«إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ.. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» .
ومن صفات عباد الرحمن أيضا، أنهم لا يشركون بالله شيئا، ولا يدعون معه إلها آخر، بل عبادتهم خالصة لله، ودعاؤهم متجه إليه وحده.. وأنهم لا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا قصاصا، وأنهم يحصنون فروجهم فلا يأتون الفاحشة.. فإن من يفعل شيئا من هذه الكبائر، لن يكون في عباد الله هؤلاء للكرمين، بل إنه سينزل منازل المجرمين، أصحاب النار..
وقوله تعالى: «يَلْقَ أَثاماً» أي أن من يفعل هذه الآثام يلق أثاما مثلها، فهذه الآثام منكرات، والعذاب الذي يساق إلى فاعلها، ويلقاه، هو عذاب منكر شديد..
وقوله تعالى: «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» بيان لما يلقى مرتكبو هذه المنكرات الغليظة من العذاب، والهوان يوم القيامة..
فهم أكثر الناس عذابا يومئذ، لأن جرائمهم الثلاث تلك، من أعظم الجرائم..
وهي الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، والزنا.. فإذا عذب غيرهم من المعذبين بألوان من العذاب، فإن ما يلقاه هؤلاء، أضعاف ما يلقاه المعذبون من أهل النار غيرهم..
وقوله تعالى: «وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» الخلد والخلود، هو اللصوق بالأرض في ذلة ومهانة.. والضمير فى «فِيهِ» يعود إلى العذاب الذي لا يخرج منه، بل يعيش فيه، مستكينا، ضارعا، ذليلا، مهينا..
وقوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .(10/58)
- هو استثناء من عموم الضمير الواقع فاعلا في قوله تعالى: «يَلْقَ أَثاماً» أي ويستثنى من الوقوع في هذا العذاب، من تاب من هؤلاء المرتكبين لتلك الآثام من آثامه، ورجع إلى الله، مؤمنا به غير مشرك، مستقيما على ما أمر به، من عدل وإحسان.. فلا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنى.. فمن اجتنب هذه الكبائر، فإنه لن يلقى هذا المصير، بل يخرج من زمرة هؤلاء المجرمين، ويأخذ طريقه مع عباد الله المكرمين..
وقوله تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» - إشارة إلى أن هؤلاء التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد قبلهم الله في عباده، وأنه سيبدل سيئاتهم تلك حسنات، فإنه سبحانه كريم بعفو عن طالبى عفوه ومغفرته، رحيم بعباده، يرحم ضعفهم، وما غلبتهم عليه أهواؤهم، إذا هم رجعوا إليه تائبين، مؤمنين، مصلحين- ما أفسدوا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود) ولهذا قدم سبحانه التوبة- فقال سبحانه: «إِلَّا مَنْ تابَ» أي عقد النية، وعزم على التوبة، ثم أتبعها بقوله تعالى: «وَآمَنَ» أي وقرن النية بالتوبة بالإيمان بالله، وبكتبه ورسله، واليوم الآخر، فإن التوبة من غير إيمان بالله، لا متوجّه إليها، ولا محصل لها..
ثم جاء قوله تعالى: «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» شرطا ثالثا لقبول التوبة، وتصحيح الإيمان، وهو العمل الصالح.. فالإيمان بلا عمل، زرع بلا ثمر..
وقوله تعالى: «وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» .. لم يجىء هنا ذكر للإيمان مع التوبة، لأنه ذكر في الآية السابقة، ولأن التوبة لا تكون إلا من مؤمن.. وذكر الإيمان في الآية السابقة للإلفات إليه، والتنويه(10/59)
به، وبأنه لا تقبل توبة إلا إذا زكاها الإيمان بالله..
وقوله تعالى: «فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» - أي يتوب توبة، فمتابا توكيد، وفي هذا إشارة إلى أن الذين ارتكبوا هذه المنكرات، قد بعدوا عن الله، وشردوا عن الطريق إليه، وأنهم حين عدلوا عن طريقهم، وأخذوا الطريق إلى الله- قد رجعوا إلى الله رجوعا حقّا، وأصبحوا في عباده المؤمنين المكرمين، غير منظور إلى شىء من حياتهم الماضية، التي كانوا عليها قبل أن يتوبوا.. إنهم بعد التوبة والعمل الصالح، قد ولدوا ميلادا جديدا، ذهب به كل ما كان عليهم من أدران وأوزار.. فتوبتهم حينئذ توبة مثمرة ثمرا طيبا، لأنها أثمرت هذه الأعمال الصالحة التي أتوا بها بعد توبتهم تلك..
- «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» ..
وصفة أخرى من صفات عباد الرحمن..
إنهم لا يشهدون الزور، أي لا يحضرون مجالس الفحش، والهجر، ولا يستمعون لمقالات الكذب والبهتان.. وإنهم إذا وقع لهم في طريقهم مشهد من مشاهد العبث واللهو، لم يقفوا عنده، ولم يلقوا بآذانهم، أو أبصارهم إليه، بل مرّوا به وهم كرام مترفعون بإيمانهم، وبمروءاتهم، عن أن يشاركوا في هذا الباطل من قريب أو بعيد! - «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» ..
وصفة سادسة من صفات عباد الرحمن، وهي أنهم يحيون مع آيات الله حياة عاقلة واعية، ويعايشونها معايشة ودودا طيبة.. فإذا قرءوا، وسمعوا آيات الله تتلى عليهم، أعطوها عقولهم وقلوبهم، وفقهوا ما تتسع له عقولهم وقلوبهم من نورها، وهديها.. وهذا غير ما يلقى به الغافلون والجاهلون آيات الله، حيث يخرون بين(10/60)
يديها كما يخر عابد الوثن على وثنه، من غير أن يكون معه نظر أو رأى، فيما هو عاكف عليه..
فآيات الله لا تسمع الصم، ولا تهدى العمى، وإنما تهدى من نظر إليها بعقله، وأعطاها وجدانه ومشاعره، وعندئذ يؤذن له بأن يجنى من ثمارها، ويقطف من زهرها، وينشق من طيبها..
ومن هنا، كان واجبا على المسلم أن يطلب العلم، والمعرفة، حتى يأخذ حظه من النظر في آيات الله، وحتى ينتفع بهديها، ويستضىء بنورها.. وإلا فإنه أشبه بالأعمى الذي يستوى عنده طلوع الشمس ومغيبها.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (43: العنكبوت) .
ويقول سبحانه: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28 فاطر) إذ لا خشية لله إلا عن علم بجلاله، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. ولا علم إلا مع أهل العلم! - «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .
وصفة سابعة من صفات عباد الله الرحمن..
إنهم أهل صلاح وتقوى، ومن تمام صلاحهم وتقواهم أن يكون أزواجهم وأولادهم- وهم بعض منهم- عى حال من الصلاح والتقوى، أقرب إليهم، وأشبه بهم، حتى يأتلف جمعهم، وتتوحد مشاعرهم، ولا يقع في محيطهم ما يثير شقاقا، أو يبعث ألما وحسرة، لخلاف زوجة، وضلال ولد.. فإن هذا من شأنه أن يجور على صلة المؤمن بربه ويشغله كثيرا أو قليلا عن ذكره.. ومن هنا كان من دعاء المؤمنين: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» (15: الأحقاف) .(10/61)
وكان مما امتن به الله سبحانه وتعالى على بنى كريم من أنبيائه، هو زكريا عليه السلام- أن وهب له الولد الصالح، وأن أصلح له زوجه، كما يقول سبحانه:
«فَاسْتَجَبْنا لَهُ.. وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» (90: الأنبياء) «وقرة الأعين» ما تقرّ به، وتطمئن.. وذلك لا يكون إلا عن هدوء النفس، واطمئنان القلب، وراحة الضمير.. الأمر الذي يجعل العين تنظر إلى الحياة نظرا هادئا مطمئنا.. أما المذعور الخائف المضطرب، فإنه ينظر بعين زائغة مضطربة.. ومن هنا كان للعيون لغتها التي يعرفها أهل البصيرة والرأى، حيث يكون للرضا نظرة، وللغضب نظرة، وللحب نظرة، وللبغض نظرة. وهكذا تنطبع الأحاسيس والمشاعر على مرآة العين، كما تنطبع صور الأشياء على المرايا..
قوله تعالى: «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ» - أي ومما يدعو به عباد الرحمن ربهم، أن يجعلهم قدوة لأهل الإيمان، فى الخير والإحسان، وأن تكون أعمالهم قائمة على طريق الحق والعدل، حتى يكونوا أسوة في الطريق إلى الله.. وبذلك يكون لهم ثوابهم، وثواب من اقتدى بهم.. على خلاف أهل الضلال، الذين يكون عليهم وزر ضلالهم، ووزر من ضل بضلالهم.. وفي الحديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
قوله تعالى: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا» - الإشارة هنا إلى عباد الرحمن، الذين ذكرت أوصافهم في الآيات السابقة.. فهؤلاء المكرمون من عباد الله، الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه، سيجزون الغرفة بما صبروا على التكاليف، والعبادات، وعلى مغالبة أهوائهم وشهواتهم.. وإنه لولا الصبر لا نحلّت عزائمهم، وفترت هممهم، واختلّ توازنهم على الصراط المستقيم..(10/62)
فبالصبر، استطاعوا أن يصمدوا أمام الشدائد، وأن يحتملوا ما يصابون به في أموالهم وأنفسهم، مستسلمين لأمر الله، راضين بقضائه.. وبالصبر قهروا نوازع أهوائهم.. فالصبر، هو زاد المؤمن على طريق الإيمان، وهو القوّة التي تشدّه إلى الله، وتمسك به على طريق الحق والخير..
والغرفة، أعلى مكان في الجنة، وهي في البيت أعلى موضع منه.. وهي فى الجنة ليست غرفة واحدة، وإنما هي غرفات، كما يقول الله تعالى: «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» .. وإنما أفردت هنا لأن المراد بها، المنزلة، أي يجزون المنزلة التي فيها الغرفة، وفيها الغرفات، لأنها جميعها في درجة واحدة.
قوله تعالى: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» أي أن الذين ينزلون بهذه الغرفة، هم في موضع احتفاء وتكريم، وأن مما يكون لهم فيها من صور الإحسان، أن تتردد عليهم الملائكة، وتغشى مجالسهم، بالتحية والسلام..
وفي ذلك ما فيه من أنس وروح لهم..
قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .. أي أنهم ساكنون ووادعون في هذه الغرفة، سكون أمن وطمأنينة وقرار.. لا يريدون التحول عنها، فقد حسن فيها مستقرّهم، وطاب فيها مقامهم..
هذا، ويلاحظ أن عرض صفات المؤمنين، الذين استحقوا، أن يضيفهم الله سبحانه وتعالى إليه، وأن ينزلهم منازل رحمته، وأن يكونوا عباد الرحمن- يلاحظ أن هذه الصفات لم تجىء مرتبة ترتيبا تصاعديا أو تنازليا.. وذلك لغاية قصد إليها القرآن، كما سنرى.
فأول صفة لعباد الرحمن.. أنهم «يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» .(10/63)
فهذا هو الوجه الظاهر لإيمان المؤمنين. فيهم تواضع، وتعفف عن السّفه والفحش.. وهذا حالهم مع الناس..
والصفة الثانية، هى حالهم مع الله.. فهم يقطعون الليل عبادة وتسبيحا لله، فيما بينهم وبين خالقهم.. «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً» .
فالصفتان، تمثلان صورة كريمة للإنسان، الذي رضى عنه الناس، ورضى عنه ربّه.. وتلك غاية ما يمكن أن يدركه أحسن الناس، وأكمل الناس..
والصفة الثالثة.. خاصة بهم: إذ يطلبون لأنفسهم النّجاة من النّار، والخلاص من عذاب جهنم..
فقد أدّوا أولا حقّ الله عندهم لعباده، ثم أدّوا حقه لذاته.. ثم طلبوا من الله ما هو مطلوب لهم..! «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» وهذه الصفات الثلاث، صفات وجوب.. أي صفات عاملة، يقوم عليها سلوكهم..
ثم تأتى بعد ذلك صفة تجمع بين الإيجاب والسّلب، وهي أنهم يلزمون فى الإنفاق طريقا بين الإسراف والتقتير، وهو التوسط والاعتدال بين الأمرين، وتلك صفة موجبة، متولدة من صفتين سالبتين.. وهما الإسراف والتقتير..
وهما من صفات غير المؤمنين، من عباد الرحمن!.
ثم تجىء بعد ذلك صفة سلبية،.. هى في إيجابها صفة خاصة بغير المؤمنين..
أو بالمؤمنين الذين ليسوا عبادا للرحمن.
فهم ليسوا ممن يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله(10/64)
إلا بالحق ولا يزنون.. على حين أن من غير المؤمنين أو الذين ليسوا عبادا للرحمن، من يتصف بهذه الصفات كلها، أو بعضها.
ثم تأتى بعد ذلك صفة متولدة من حال، يذهب غير المؤمنين بشرّها، على حين لا ينال المؤمنين سوء منها.. وتلك الصفة هي شهود مجالس الإثم واللغو.
فغير المؤمنين يعمرون هذه المجالس، ويطعمون من زادها الخبيث، والمؤمنون، عباد الرحمن.. يعطونها ظهورهم، ويصمّون عنها آذانهم..
ثم تجىء صفة سلبية، يتصف بها عباد الرحمن سلبا، على حين يتصف بها الجاهلون من المؤمنين إيجابا..: «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» .
فعباد الرحمن، إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا، على حين أن المؤمنين الذين لم يدخلوا في عباد الرحمن، يخرّون عليها صمّا وعميانا..
ففى صفات السلب الثلاث هذه، تعريض بغير المؤمنين أصلا، وبغير المؤمنين الذين لم يكمل إيمانهم، ولم يصبحوا أهلا لأن يكونوا من عباد الرحمن..
ثم تختم هذه الصفات الإيجابية والسلبية التي وصف بها المؤمنون- تختم بهذا الوصف الذي تسوّى به صورتهم على أحسن حال وأكمله، حتى يصبحوا قدوة للناس في الخير والإحسان- «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» فهم على حال من الكمال الإنسانى، بحيث يكونون فيه أئمة، يدعون الناس إلى الهدى، ويقودونهم إلى البرّ والتقوى..
وارجع البصر كرة أخرى إلى هذه الآيات، وإلى سلاسة نظمها، وتدفّق(10/65)
سلسالها، وروعة بيانها، وصلصلة أنغامها، ثم استروح أنسام هذا الإعجاز الذي يطلع عليك، من هذا المنطق المحكم، الذي يستولى بسلطانه على كل نفس، وينفذ بقدرته إلى كل قلب..
فإنك إن فعلت- وخير لك أن تفعل- رجعت وملء إهابك خشوع وولاء، لآيات الله، ولكلمات الله، وكنت في هذا الموكب الكريم، الذي ينتظم عباد الرحمن، الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا.. «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» (109: الإسراء) ..
قوله تعالى: «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» ..
وبهذه الآية تختم السورة، وهي إعلان عام للناس جميعا- مؤمنين وكافرين، مهتدين وضالين- إعلان لهم أنهم ما خلقوا إلا ليعبدوا الله، وأن من لا يعبد الله، فكأنه غير مخلوق، لأنه لم يؤدّ ما خلق له.
وعبأ بالشيء يعبأ به: إذا اهتمّ به، وعمل له حسابا.. والعبء: الحمل الثقيل، من ماديات أو معنويات..
والمعنى: أنكم أيها الناس، إنما خلقتم لتعبدوا الله، وتسبّحوا بحمده، وأن من فاتته هذه الغاية، فقد سقط من حساب المخلوقات.. فقيمتكم أيها الناس عند الله هي في عبادتكم له، واتجاه وجوهكم إليه، فى السّرّاء والضّرّاء، وأنه لولا هذا، ولولا أن فيكم مؤمنين بالله، عابدين له، لما كان لكم وزن في عالم المخلوقات.. فإذا اعتدل ميزانكم، وأقيم لكم وزن، فإنما ذلك بفضل المؤمنين منكم.
وفي تسليط حرف النفي «ما» على الفعل «يعبأ» بدلا من «لا» الذي يتسلط على الفعل المضارع، على حين يتسلط الحرف «ما» على الفعل الماضي- وذلك(10/66)
للمبالغة في النفي، وإنه نفى لازم لا يتعلق بزمن، بل هو واقع في الزمان كله، ماضيه وحاضره ومستقبله، على خلاف النفي بلا الذي يقيّد النفي بالمستقبل وحده.. تقول: لا أفعل هذا الأمر، إذا كنت على نية ألا تفعله، حالا أو استقبالا، فإذا قلت: ما أفعل هذا الأمر، كان المعنى، أنه لا يليق بك، ولا ينبغى منك أن تفعله أبدا، وأنه ما كان منك فعله في الماضي، ولن تفعله حالا أو مستقبلا.. وعلى هذا جاء قوله تعالى لنبيه الكريم: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» (86: ص) .. أي ليس لى أن أسألكم أي أجر على ما بلغتكم من رسالة ربّى في أي وقت من الأوقات.. ومنه قوله في هذه السورة- سورة الفرقان- «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» . (75)
وعلى هذا، فإن تسلط حرف النفي «ما» على الفعل «يعبأ» يعنى أن خلق الناس إنما كان لحكمة أرادها الله، وأنه لولا هذه الحكمة لما اتجهت إرادة الله سبحانه إلى خلقهم، وهذه الحكمة هي أن يعبدوه، وفي هذا يقول الله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (56: الذاريات) ، فخلق النّاس، وقيومة الله سبحانه وتعالى عليهم، وتسخير ما سخّر لهم، وإنعامه بما أنعم به عليهم- إنما كان ليعبدوه، ولتتجلّى فيهم آيات قدرته، وعلمه، ومن أجل هذا عبأ الله سبحانه وتعالى بهم، ونظر إليهم، وجعلهم خلقا من خلقه!!.
وقد يسأل سائل: فيقول: إن أكثر الناس لا يعبدون الله أي لا يدعونه، ولا يعترفون بوجوده، فكيف تتحقق حكمة الله من خلق الناس؟ وكيف يعبأ بهم، وهم لا يعبدونه ولا يدعونه؟.
وقد أجبنا على هذا الاعتراض من قبل، إذ قلنا: إن الذين آمنوا بالله،(10/67)
وولّوا وجوههم إليه- وإن كانوا قلّة في النّاس- هم وجه الإنسانية، ومن أجلهم كانت رحمة الله بالناس جميعا.
ومن جهة أخرى، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، منقادون لله، طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) .
وكما يقول جلّ شأنه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (49: النحل) .
فالناس جميعا، والخلق كلّهم، منقادون لله، خاضعون لسلطانه، مسبحون بحمده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .
وقوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» .
هو تهديد ووعيد للكافرين المكذبين، الذين دعوا إلى عبادة الله ليحققو الغاية من خلقهم، ولكنهم كذبوا رسول الله وأبوا أن يؤمنوا بالله، ويوجّهوا وجوههم إليه، فحقّ عليهم العذاب، ولزمهم ما قضى الله سبحانه وتعالى به في أهل الكفر والضلال.(10/68)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
26- سورة الشعراء
نزولها: مكية، وقيل إن آية «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ» وما بعدها إلى: آخر السورة مدنية.
عدد آياتها: مائتان وسبع وعشرون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وسبع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسمائة وثنتان وأربعون.. حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 9) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
التفسير:
المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها، واضحة، بحيث يمكن أن تتصل السورتان فى سورة واحدة.(10/69)
فقد كانت سورة الفرقان معرضا لمقولات المشركين الحمقاء الطائشة، فى رسول الله، وفي القرآن الكريم.. ثم كانت مقولتهم حين دعوا إلى أن يسجدوا للرحمن، فأنكروا الرحمن! وقالوا: «وَمَا الرَّحْمنُ؟» ثم كان ختام السورة كاشفا عن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عبادة الله والتسبيح بحمده.. وأن هؤلاء المشركين لم يستجيبوا لله، ولم يؤمنوا به، وكذبوا رسوله وإذن فهم في عداد السّقط، الذي لا يؤبه له، ولا يحسب له حساب.
وقد جاء بدء سورة الشعراء، متلاقيا مع هذه المعاني التي ضمّت عليها سورة الفرقان..
فأولا: فى قوله تعالى: «طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» - هو ردّ على قول المشركين، فى سورة الفرقان: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ... »
وثانيا: قوله تعالى «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» - هو نتيجة لازمة لما تضمنه قوله تعالى، فى ختام سورة الفرقان: «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ» .. أي أنه لا وزن ولا حساب لمن لا يؤمن به، ولا يقيم وجهه عليه، إنه شىء تافه، لا يحرص على الإمساك به، ولا يحزن على فقده.. وهؤلاء المشركون وقد رضوا لأنفسهم أن يكونوا على هذا الوصف فإنهم لا يستحقون منك- أيها النبي- هذا الحرص الشديد على هدايتهم، ولا هذا الأسى المضنى على ما هم فيه من ضلال.. فإنك لو نظرت إليهم حسب وضعهم عند الله بين المخلوقات، لوجدتهم في منزلة دون منزلة الهوام والحشرات.. فكيف تهلك نفسك أسى على هلاكهم وضياعهم.
وثالثا: فى قوله تعالى: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» - توكيد لتلك الصفة من صفات الله، التي أنكرها(10/70)
المشركون، حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن، فقالوا: «وَمَا الرَّحْمنُ» .
وهكذا، تلتقى السورتان في أكثر من موضع، لقاء تطابق أو تكامل.
قوله تعالى:
«طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. هو مثل قوله تعالى:
«الر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (يوسف) .
وقوله تعالى: «المر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» (الرعد) .
وقوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (إبراهيم) .
وقوله سبحانه: «الر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» (الحجر) .
وقد قلنا، إن هذه الحروف التي بدئت بها تلك السور، هى إشارة إلى مادة القرآن الكريم، وأنها من هذه الحروف، التي تتألف منها الكلمات، والعبارات، التي يحتويها قاموس اللغة العربية، ويتعامل بها اللسان العربي..
وأن هذه المقاطع من الحروف مبتدأ، وما بعدها خبر.
وقوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» - هو ردّ على المشركين، الذين قالوا في هذا القرآن: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» فإن الأمر ليس في حاجة إلى افتراء.. فمادة هذا الكلام هي بين يدى كلّ عربى، وكلماته، وعباراته، تجرى على ألسنتهم.. فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من صياغة الكلمات والعبارات التي هي ملك مشاع للعرب جميعا، فليفعلوا هذا، متفرقين، أو مجتمعين، وليأتوا بمثل هذا النظم القرآنى، وهم أرباب البيان، وفيهم الشعراء والخطباء.. هذه هي آيات الكتاب المبين، فى معرض التحدي..
فهل من مبارز؟ وأين الأبطال في هذا الميدان؟.(10/71)
قوله تعالى:
«لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .. البخع: الهلاك غمّا وكمدا.. والأسلوب أسلوب ورجاء، يراد به الإنكار..
والمعنى، لم تهلك نفسك أسى وحسرة، على أهلك وقومك إذ لم يؤمنوا بالله، ولم يستجيبوا لك؟ إنهم لا يستأهلون هذا، ولا يستحقون من أحد أن يحرص عليهم، فهم ممن لا وزن لهم في ميزان الإنسانية.
وفي التعبير عن هذا الإنكار، بأسلوب الرجاء، ما يكشف للنبى عن موقفه العجيب من قومه، وأنه إذ يرجو لهم النجاة، كأنما يرجو لنفسه- فى الوقت ذاته- الهلاك، والتلف! وفي هذا ما فيه من التناقض.. فإن من الظلم للنفس أن يطلب الإنسان لغيره السلامة بعطب نفسه وتلفها.. فارفق بنفسك أيها النبي، ولا عليك أن يضل الضالون، ويهلك الظالمون.. «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» .
قوله تعالى:
«إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» .
أي إن حرصك أيها النبي على هداية قومك الضالين المشركين، لن يخرج بهم عماهم فيه من ضلال وشرك، لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد هدايتهم: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (37: النحل) وإن الله سبحانه وتعالى، لو أراد أن يهديهم لهداهم قهرا وقسرا، ولأنزل عليهم آية لا يملكون معها قولا، ولا يستطيعون من يديها إفلاتا، تلك الآيات المهلكة التي تقطع على الناس سبيل الخروج من سلطانها، فإذا عاينوا آية من تلك الآيات خضعوا لها، وذلوا لسلطانها، وجاءوا إلى الله مؤمنين، كما جاء فرعون إلى الله مؤمنا، حين أدركه الغرق.. فقال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (90: يونس)(10/72)
وخضوع الأعناق: كناية عن الذلة والخضوع، لما يقع على الإنسان من شدائد وأهوال، حيث تثقل الرأس، ويضعف العنق عن حملها، وحمل ما بها من هموم.
قوله تعالى:
«وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» .
أي أن هؤلاء المشركين، لا يتأثرون إلا بما هو مادىّ، يقع على أجسادهم ويصيبهم في جوارحهم، شأنهم في هذا شأن الحيوان.. أما ما يقع لعقولهم من آيات الله وكلماته، فإنهم لا يتأثرون له، ولا يفقهون مواقع العبرة والعظة منه.. وهذه آيات الله وكلماته، تجيئهم يوما بعد يوم، وتطلع عليهم حالا بعد حال، فلا يزيدهم ذلك إلا إعراضا عنها، وكفرا بها.. وإذن فإن تطاول الزّمن بهم، وتوارد الآيات عليهم، لا يغيرّ من أمرهم شيئا. وإن حرصك- أيها النبيّ- على هداهم، وجريك وراءهم، ولقاءك إياهم بكل ما ينزل عليك من السماء- إن كل هذا لا يغنى شيئا، ولا يحقق الغاية التي تسعى إليها من أجلهم.. وآية واحدة تفتح القلوب المستعدة للإيمان، المتفتحة للخير.. وعشرات الآيات، ومئاتها، وألوفها لا تغير من حال القلوب المريضة، والنفوس السقيمة، التي تلتقط كل دواء.. «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (96- 97: يونس) ..
قوله تعالى:
«فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
أي فقد كذبوا بالآيات السابقة التي تلقوها منك- أيها النبي- فأنكروها وأنكروك.. وإذن فلا ينفعهم ما سينزل عليك من آيات بعد هذا، وإذن فلينتظروا البلاء والعذاب، وسيعلمون علما متيقنا، حقيقة هذا الذي يكذبون به من آيات الله، وأنه الحق من ربهم.. ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان..(10/73)
«يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (158: الأنعام) .
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .
أي أعمى هؤلاء المشركون عن أن ينظروا إلى هذه الأرض الميتة، كيف ينزل الله سبحانه وتعالى عليها الماء من السماء، فتحيا، وتهتزّ، وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج وإذا كانت عقولهم قد عميت عن أن ترى ما في آيات الله وكلماته من هدى ونور، أفعميت أبصارهم عن أن ترى هذه الظاهرة الحية، التي تطلع عليهم في كل أفق من آفاق الأرض؟ فإذا كانوا قد عموا عن هذا الواقع المحسوس، فإنهم أشد عمى من أن يروا شيئا من آيات الله، وكلمات الله! قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
إن في هذه الظاهرة لآية مبصرة، يرى فيها أصحاب النظر والعقل من الناس، آثار رحمة الله، وقدرته، وحكمته.. ولكن أكثر الناس لا يلتفتون إليها، وإن التفتوا لا يروا شيئا، وإن رأوا شيئا أنكروه، وتأوّلوه تأويلا فاسدا. وهذا هو شأن هؤلاء العتاة المتكبرين المشركين..
قوله تعالى:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
وإن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله، ولا ينقادون لسلطانه، لن يعجزوا الله، ولن يخرجوا من سلطانه.. فهم في قبضته، لأنه هو العزيز، الذي لا يغلب،(10/74)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
القوىّ، الذي لا يحتاج إلى ناصر ينصره من خلقه، وهو- مع عزته، وقوته، ونفاذ سلطانه- «رحيم» يعفوا عن المسيئين، ويتوب على الضالين، ويقبل العاصين، إذا هم رجعوا إليه واستقاموا على صراطه المستقيم. إن الطريق أمامهم مفتوح. فمن شاء فليدخل!!
الآيات: (10- 22) [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
التفسير:
هذه الآيات، والآيات التي بعدها، تعرض قصة موسى وفرعون، وقد وردت هذه القصة في معارض متعددة من القرآن الكريم، تختلف بسطا وإيجازا، ولا تختلف محتوى ومضمونا..(10/75)
وهذا الاختلاف في العرض، هو من تصريف القول، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، وأشار إلى الغاية منه..
فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (51: القصص) وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» (113: طه) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» (50: الفرقان) .
وقد كان هذا التكرار في القصص القرآنى، موطنا من المواطن التي دخل منها المستشرقون، وأشباه المستشرقين، من أعداء الإسلام، للطعن في القرآن، وأن هذا التكرار، هو اختلال في النظم، جاء نتيجة للحالات العصبية والنفسية التي كانت تعترى النبيّ، كما يقولون، كذبا وبهتانا..
وسنعرض لموضوع التكرار القصصى في القرآن، بعد أن ننتهى من عرض هذه القصة..
ومناسبة هذه القصة لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت لموقف المشركين من النبيّ، وخلافهم عليه مع حرصه على هدايتهم واستنقاذهم.. فكان أشبه الناس بخلافهم، وعنادهم، وعتوهم- فرعون، الذي جاءه موسى بآيات مادية محسوسة- كتلك الآيات التي كان يقترحها المشركون على النبيّ- فما زاده ذلك إلا لجاجا وعنادا.. فناسب ذلك أن يذكر هذا الحديث عن فرعون، فى معرض الحديث عنهم، ليروا على مرآة الزمن وجههم واضحا، فى أعتى العتاة، وأظلم الظالمين.. وليروا مصيرهم في هذا المصير الذي صار إليه صاحبهم، وأقرب الناس إليهم.. فرعون، وهامان، وقارون.
وتبدأ القصة هنا، بالمرحلة الثانية من حياة موسى، بعد أن بلغ أشدّه، وتلقى الرسالة من ربه.. فلم يجىء فيهاهنا ذكر، لميلاده، وإلقاء أمه إياه فى(10/76)
اليمّ، خوفا من فرعون، ثم التقاط آل فرعون له، واتخاذ فرعون له ولدا..
ثم قتله المصري، وفراره إلى مدين، ثم زواجه من ابنة شعيب- عليه السلام- ثم عودته إلى مصر.. ثم تلقيه رسالة السماء وهو في طريق العودة- كل هذا لم تعرض له القصّة هنا، لأنه عرض في مواضع أخرى من القرآن الكريم..
وتبدأ أحداث القصة هنا، بهذا الأمر يتلقاه موسى من ربّه: «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.. قَوْمَ فِرْعَوْنَ» .. فهذا هو الوصف الذي لهم في المجتمع الإنسانى.. ثم جاء التعقيب على هذا الأمر بقوله تعالى: «أَلا يَتَّقُونَ» كاشفا عن بغيهم وظلمهم، وأنهم لا يتقون.. وقد أطلق فعل التقوى، فلم يقيّد بمفعول، للدلالة على أن قلوبهم قد خلت من كل أثر للتقوى، فى أي قول أو عمل، مع الله، أو مع الناس.. فهم على بغى وعدوان في كل أمر، وفي كل حال..
ويتلقى موسى أمر ربّه، وإذا صورة فرعون تطلع عليه، بوجه ظالم غشوم فتعتريه رهبة، واضطراب، من هذا اللقاء، الذي سيكون بينه وبين فرعون، فيضرع إلى ربه قائلا: «رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» .
إن هناك أكثر من جهة يطلع منها الخوف على موسى من فرعون..
ففرعون ظالم جبار، لا يدنو منه أحد إلا افترسه، كما يفترس الأسد فريسته..
إنه لا يسأل عما يفعل، وما هي إلا كلمة، أو إشارة تصدر منه، حتى يمضى زبانيته أمره.. وفوق هذا، فإن موسى مطلوب لفرعون في دم القتيل المصري الذي قتله.. إن الأبرياء لا تشفع لهم براءتهم أمام ظلم فرعون وبغيه، فكيف بأرباب التهم الذين يقعون ليده؟ وموسى مطلوب منه أن يمتثل أمر ربّه، وأنه لممتثل لهذا الأمر، صادع به، ولكنه يسأل الله العون والمدد.. وذلك بأن(10/77)
يبعث معه أخاه هرون، وأن يجعله شريكا له في هذا الأمر، حتى يشتدّ به أزره، ويثبت به جنانه، إذا أخذه هول الموقف ورهبته.
ويتلقى موسى أمداد السماء، ويستمع إلى قول الحق جلّ وعلا: «كلّا» أي لن يقتلوك، «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» ولن ينالوا منك شيئا، فالله معك، يسمع ويرى..َأْتِيا فِرْعَوْنَ»
أنت وهارون، الذي جعلناه رسولا معك إلى فرعون: َقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
أي إننا- وإن كنا اثنين- فنحن شخص واحد، يحمل إليك رسالة الله إليك.. «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» .. فهذه هي رسالتنا التي أمرنا الله بتبليغها إياك، وهي أن تدع بني إسرائيل وشأنهم، لنمضى بهم إلى حيث يشاء الله، بعيدا عن محيط ملكك وسلطانك! وتنتقل الأحداث في سرعة يطوى فيها الزمن.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه مع فرعون، وإذا بهذه الرسالة قد أعلنت إلى فرعون.. ولا يظهر على مسرح الأحداث شيء من هذا، وإذا المشهد يعرض فرعون، وقد جابه موسى بهذه المجابهة التي تمسّ أضعف جانب منه، ضاربا صفحا عن هرون، متجاهلا الرسالة التي أفضيا إليه بمضمونها.. فيلقى إلى موسى بهذه القذائف:
- «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» ؟
- «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ؟
فمن أنت حتى تجئ إلينا اليوم في صورة مبعوث سماويّ؟ ألست ربيب نعمتنا، وغذىّ فضلنا وإحساننا؟ فكيف تجئ إلينا من هذا العلوّ، وتطلب إلينا هذا الطلب، الذي هو من خاصة شئوننا، ومن بعض سلطاننا في رعيتنا؟
ثم كيف تحدّثك نفسك بالجرأة علينا، وبالنجاة من عقوبتنا، وقد فعلت(10/78)
ما فعلت بارتكاب هذه الجريمة، والاعتداء على أحد رعايانا؟ أليس هذا كفرا بنعمتنا، وإحساننا؟ أليس هذا عدوانا على سلطاننا واستخفافا بناموسه؟.
ويضطرب موسى أمام هذه المفاجأة، وفي مواجهة هذا الاتهام..
ولكنه يذكر قول الله له.. «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» .. فيسكن جأشه، ويطمئن قلبه.. ويرمى فرعون، بأشدّ مما رماه به..
- «فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..!!
- «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ.. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ..
- «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ؟
إنه يعتذر من قتل المصري بأن ذلك كان عن جهل منه، وضلال..
لأن الله سبحانه وتعالى لم يكن قد خرج به عن هذا الضلال الذي يعيش فيه فرعون، ومن يضمه سلطانه.. فهذه الفعلة هي أثر من آثار تلك الحياة التي يحياها المجتمع الفرعوني، حيث لا حرمة فيه للدماء.. وهكذا يلقى موسى بهذه التهمة في وجه فرعون، لأنه هو الذي أرخص دماء الناس، وأغرى بعضهم ببعض، وأن موسى قد مسّه شىء من هذا الذي رمى به فرعون المجتمع كله!! وأنه- أي موسى- حين فرّ من وجه فرعون، طالبا النجاة لنفسه منه، وخرج من هذا الظلام المطبق- رأى النور، وأبصر الهدى.. وهناك، فى أفق بعيد عن آفاق فرعون، تلقى الكرامة والإحسان من ربّه، وتزوّد بزاد طيب كريم، غير هذا الزّاد الذي تناوله من يد فرعون.. فوهب الله له «حكما» - أي جعل له سلطانا على بني إسرائيل، يقودهم، ويسوس أمرهم، وجعله من المرسلين، إلى هداية الناس..(10/79)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
وهذه غمزة أخرى، يغمز بها موسى فرعون، وأنه إنما تلقى الخير من السماء حين فارق هذا الجوّ المظلم الفاسد، ولو بقي فيه لما أصاب خيرا أبدا، ولما كان له هذا السلطان..
وبهذا السلطان الذي وضعه الله في يد موسى على بني إسرائيل، أقبل على فرعون، يحاسبه على هذا الجرم الشنيع الذي أجرمه في حقّ هذه الجماعة، التي أصبح ليد موسى أمرها.. لقد استعبدهم فرعون وأذلهم، وأن موسى إذا كان قد قتل واحدا من رعايا فرعون، فإن فرعون قد قتل معالم الإنسانية، فى هذه الجماعة، وأحالها إلى قطيع من الحيوان، الذليل المهين!! إن موسى قتل نفسا خطأ من غير قصد.. أما فرعون فقد قتل نفوسا لا حصر لها، عن عمد وإصرار!!.
فإذا كان هناك من يحاسب ويدان، فهو فرعون.. وليس موسى!.
وهكذا يتحول الموقف، ويصبح الطالب مطلوبا، والمدّعى متّهما..!
وسنرى بقية المشهد في الآيات التالية..
الآيات: (23- 37) [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 37]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)(10/80)
التفسير:
ولا يلتفت فرعون إلى هذه التّهم التي وجهها إليه موسى، وكأنه يعدّ هذا لغوا من القول، فما كان لموسى أن يحاجّ فرعون، أو يجادله فيما هو من سلطانه! إن فرعون لم يسمع شيئا!! ويسأل فرعون موسى، عن مضمون هذا القول الذي ألقى به إليه، حين واجهه برسالته، فقال: ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
فيقول فرعون:
«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» مجهّلا هذا الربّ، منكّرا ومنكرا له:
«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟
إنه لا يمكن أن يكون هذا الربّ عاقلا.. وكيف وفرعون هو الربّ القائم على رقاب العباد؟ أليس هو القائل: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي!» (38: القصص) .
ويجئ جواب موسى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» : أي كنتم ممن يطلبون الحقّ ويستيقنونه! فهذا هو ربّ العالمين.
ويعجب فرعون لهذا الكلام، ويستثير عجب من حوله:(10/81)
«قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ. أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟ .. فما هذا اللغو؟ وما هذا الهذيان؟
أهناك ربّ غيرى؟.
ولا يكاد القوم يتجهون بعقولهم إلى ما يدعوهم إليه فرعون، حتى يلقاهم موسى بالجواب الذي كان ينبغى أن يلقوا به هذا السؤال الذي ألقاه إليهم فرعون، فى عجب ودهش:
«قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ..
هذا هو الربّ الذي ينكره فرعون، ويعجب من أمره.. أفتنكرونه أنتم كذلك؟ فأين عقولكم حتى تنقادوا إلى هذا الضلال؟.
ويأخذ فرعون الطريق على موسى إلى الملأ.. فيقول لهم:
«إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» .. إنّه رسول إليهم، لا إلى فرعون.. ثم إنه لمجنون يهذى بهذا القول.. فلا تستمعوا إليه، ولا تأخذوا كلامه إلّا على أنه كلام مجانين!.
ويردّ موسى على فرعون هذا الاتهام بقوله:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» ..
إنه يدعوهم جميعا، ومعهم فرعون، إلى أن يستمعوا ويعقلوا، وإنهم لو كانوا عقلاء حقّا لعرفوا أن لهذا الوجود ربّا، وأنه ربّ المشرق والمغرب، وما بين المشرق والمغرب، من كائنات.
ويقطع فرعون هذا الجدل، ويجرد سيف بأسه وسلطانه، ليفحم موسى، ويسكته.. فيقول:
«لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» .. هكذا منطق القوة الغاشمة.. إنها لا تحتكم إلى عقل، ولا تخضع لمنطق، إلّا منطق القهر والتسلّط!.(10/82)
وماذا يصنع موسى، فى مواجهة هذا السلطان الغشوم؟ إن لفرعون أن يسجنه، وأن يقتله.. إنه لا يعترض على هذا، ولكن كلمة أخيرة، يريد موسى أن يستمع إليها فرعون، ثم ليفعل ما يشاء..
«قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» - أي أتنفّذ فيّ هذا الحكم، ولو كان معى شىء مبين، وحجة واضحة على هذه الأقوال التي استمعت إليها، وأنكرتها؟
وهنا يسيل لعاب فرعون إلى هذا السلطان العظيم الذي بين يدى موسى، وهو يخفيه عنه.. فما هو هذا السلطان؟ وكيف يكون مع موسى سلطان وفي يد فرعون كل سلطان؟ أين هو؟ لا بد أن يستولى عليه، ويضيفه إلى سلطانه..!!
وفي لهفة، وحزم، وقوة.. يقول فرعون..
«فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ!» .
ولا يقول موسى كلمة.. بل يضرب ضربته في غير تراخ أو تردد..
«فَأَلْقى عَصاهُ.. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ..»
«وَنَزَعَ يَدَهُ.. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ..»
ولا تعرض القصة هنا لما كان من فرعون، وما لبسه من اضطراب وفزع..
فذلك أمر معلوم، فى مثل هذه الأحوال.. وليس فرعون بدعا من الناس، فيما يطلع عليهم من عالم المجهول.
ويظهر أثر هذا الفزع الذي استولى على فرعون، فى استنجاده بمن حوله، وتعلّقه بهم قبل أن يهوى من هول المفاجأة.. فيشركهم معه في هذه المعركة، بل ويجعل إليهم لا إليه- الرأى فيها، وهو الذي كان يتولى كلّ شىء، ويأمر بما يرى.. أما هنا فإنه صاغر ذليل، يطلب الرأى، وينتظر الأمر، ليفعل ما يؤمر به..(10/83)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
«قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ.. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟» .
إنه يستسلم للملأ حوله، ويسلّم بأن الأرض أرضهم، وقد كانوا منذ قليل هم والأرض ملكا خالصا ليده.
وإذا كانت الأرض أرضهم، وموسى يريد أن يخرجهم من أرضهم هذه بسحره.. فالأمر إذن أمرهم.. فماذا يرون؟ وبماذا يأمرون؟
«قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» .
هذا هو الرأى الذي ارتآه القوم في موسى.. إنه ساحر.. فليلقوه بسلاح مثل سلاحه.. وليجمعوا له السحرة من كل مكان! وهكذا انتهى هذا المشهد، ليبدأ مشهد آخر، على مسيرة الأحداث المتتابعة للقصة.. كما سنرى في الآيات التالية:
الآيات: (38- 42) [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
التفسير:
وفي هذا المشهد نرى حركات سريعة متلاحقة، بعضها خفيّ، وبعضها ظاهر..
ويتشكل من خيوط هذه الحركات صور شتى، تظهر على مسرح الأحداث..(10/84)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
فهاهم أولاء السحرة قد جئ بهم من كل مكان، وقد أنذروا بالسّحر الذي سيلقونه وبالساحر الذي سيرميهم بسحره، وباليوم المعلوم الذي تلتحم فيه المعركة:
«فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» .
ثم هاهم أولاء دعاة فرعون، ينطلقون بين الناس، يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم، وبشهود تلك المعركة.. بين السحرة، وبين الساحر..
وهذا الحشد للناس.. غايته، هو شدّ ظهر هؤلاء السّحرة، وإلقاء الرعب في قلب موسى بهذه الحشود التي تتربص به، وتنتظر الهزيمة له، لتسخر منه أو تفتك به.
«وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» !.
ثم ها هم أولاء السحرة، يلتقّون بفرعون قبل المعركة، ليتلقّوا كلمته، وليعرضوا بين يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر.. ثم إذ ينتهى هذا العرض، يعرضون على فرعون مطلبا خاصّا بهم، وهو الجزاء الذي سيجزيهم به فرعون إذا هم جاءوا له بالنصر المبين..
«قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» .. ولا يتردد فرعون في بذل الجزاء الحسن لهم.. إنه ليس جزاء ماديّا وحسب، بل إنهم سيكونون من خاصة فرعون، ومن المقربين عنده «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» وينتهى هذا المشهد، ليخلى مكانه لمشهد آخر.. تعرضه الآيات الآتية:
الآيات: (43- 51) [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)(10/85)
التفسير:
وينتقل المشهد إلى خارج المدينة، حيث احتشد الناس، ليشهدوا هذا اليوم العظيم..
وفي ميدان المعركة، التقى موسى بالسحرة.. ثم ماهى إلا كلمات يتبادلها الطرفان، حتى يلتحم القتال.. ويدعو موسى السحرة إلى أن يبدءوا المعركة، وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم..
«قالَ لَهُمْ مُوسى.. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» ..
ويلقى السحرة كل أسلحتهم..!
«فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ! إن كل ما معهم هي حبال وعصيّ، شكلوها على صفات خاصة، حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعى والحيّات.. فلما ألقوها، أطلقوا وراءها مشاعر إيمانهم بفرعون، واستمدادهم القوة من قوته.. وهم بهذا الشعور لا بسحرهم- سيغلبون، وينتصرون! ولا يذكر القرآن هنا ماذا كان لهذه الحبال وتلك العصى من أفاعيل، وما كان لها من آثار في مشاعر الناس، وفي موسى نفسه.. وقد ذكر القرآن(10/86)
ذلك في مواضع أخرى.. فقال تعالى في سورة الأعراف: «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» (الآية: 116) .
وقال في سورة طه، عما وقع في نفس موسى من هذا السحر: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» (الآية: 67) .
«فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» .. والإفك: ما كان من واردات الضلال والبهتان..
وهكذا في لمحة خاطفة، يتبدد هذا السراب، وتختفى أشباح هذا الضلال.
وإذا موسى وقد ملك الموقف، واستولى على كل ما في الميدان من مغانم..!
وإذا هذا الهرج والمرج، وهذا الصخب واللجب، يتحول إلى صمت رهيب، وسكون موحش، لا يقطعه إلا السحرة، وقد استبدت بهم نشوة غامرة، وغشيتهم صحوة مشرقة، وإذا هم يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب، ويتحركون في وسط هذا السكون الموحش.
َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ..»
!
ويعود الهرج والمرج، وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان، ثم تخمد الأنفاس فجأة، وتحتبس الكلمات على الألسنة، وتموت المشاعر في الصدور، ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة، إذ يذكرون أنهم في حضرة «فرعون» فتتعلق به الأبصار.. ليطلّ الناس منها على ما يصنع فرعون، أو يقول.
والحساب هنا مع السحرة أولا، الذين خذلوا فرعون، وأذلوا كبرياءه، وأعلنوا فضيحته على الملأ.
«قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ؟(10/87)
إن خذلانهم على يد موسى، ليس هو الأمر الذي ينظر إليه فرعون الآن، ويحاسب السحرة عليه.. لأنه رأى بعينه، هذه القوى القاهرة التي بين يدى موسى، والتي لا قبل لبشر بمواجهتها.. ولكن الذي يعنيه من أمر السحرة فى هذا الموقف، هو خروجهم عن أمره، ومتابعة موسى من غير إذن منه؟ إذ كيف يكون لهم وجود خاص، وكيف يكون لعقولهم ومشاعرهم سلطان عليهم مع سلطانه؟ إنه يملكهم ويملك ووجودهم الخارجي والداخلى جميعا!! - «آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟» إنها مؤامرة مدبرة، ومكر مبيت بينكم وبينه.. إنه الساحر الأكبر، الذي علمكم السحر.. وهكذا استجبتم له ولم تخرجوا عن سلطانه عليكم، شأن التلميذ مع أستاذه..
«إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» !! ولا ينتظر، حتى يعود إلى كرسيّ سلطانه، ويقدّمهم للمحاكمة.. بل إنه يقيم المحكمة في موقع الجريمة، وينفذ الحكم على أعين الجماهير التي شهدت الحادثة، حتى يكون فيها عبرة وعظة.. إنه يضرب والحديد ساخن كما يقولون..
«لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ!» .
وإذا وقع الإيمان في القلب موقعا صحيحا، وجاء إليه عن حجة قاطعة، وبرهان ساطع، لم تستطع قوى الأرض كلها مجتمعة أن تنتزع هذا الإيمان، أو تزحزحه من موضعه..
وبهذا الإيمان يلقى السحرة تهديد فرعون ووعيده في استخفاف، وغير مبالاة.. إن كل شىء هيّن، ماداموا قد حصلوا على الإيمان، وأنزلوه هذا المنزل المكين من قلوبهم..
«قالُوا لا ضَيْرَ» .. أي لا ضيم، ولا خسران علينا، إذا ذهب من بين أيدينا كل شىء، ولو كانت حياتنا، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا.(10/88)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
«إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» ..
فلتذهب هذه الحياة غير مأسوف عليها.. فإن لنا حياة أخرى، أفضل، وأكرم.. إنها حياتنا الآخرة.. والآخرة خير وأبقى..!
«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
إننا بإيماننا هذا نفتح طريقا من النور وسط هذا الظلام الكثيف، فيهتدى بنا الضالون الحائرون.. وبهذا نطمع في مغفرة ربنا، لما كان لنا من خطايا في السير معك على طريق الضلال..
ثم ينتهى هذا المشهد، ويخيل للمشاهد أن المعركة قد انتهت.. وأن فرعون قد جمع وجوده الممزّق، وجرّ وراءه فلّه المهزوم.. ولكن الأحداث تتصل، وتأخذ مسرحا آخر غير هذا المسرح.. كما سنرى في الآيات التالية..
الآيات: (52- 68) [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(10/89)
التفسير:
لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين- لم تكن هذه المعركة، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا، وكبرا، واستعلاء، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل..!
وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذى سلطان- فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية، لا يرى الناس مشاهدها، ولكن يشهدون آثارها..
إنهم لا يرون سيوفا تسلّ، ولا حرابا تشرع، ولكن يرون رءوسا تقطع، وجراحا تفور، ودماء تسيل، وأشلاء تتمزق وتتطاير..!
فلقد سلّط الله على فرعون وملائه ألوانا من البلاء، وصب عليهم مرسلات من النقم، وأخذهم بها حالا بعد حال، وواحدة بعد أخرى.. فما استكانوا، وما تضرّعوا، وما لانت منهم القلوب، ولا استنارت البصائر.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ(10/90)
يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ»
. (130- 133: الأعراف) ..
وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون، ويرسل معه بني إسرائيل..
وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (134: الأعراف) .
ولكن ما إن يرفع البلاء، وتسكن العاصفة، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم، ضراوة وقسوة.. «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (135: الأعراف) .
فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل، وتزداد محنتهم، كما يقول الله تعالى على لسانهم إلى موسى: «قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (129: الأعراف) .
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» .. وأن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى إلى موسى، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى(10/91)
وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، أمر الله موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر.
- وفي قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر، فإن عيون فرعون ترقبهم، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا، من غير أن يراهم أحد..
قوله تعالى:
«فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ..
لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه- يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم، وأن هذه الجماعة، وإن كانت شرذمة، أي جماعة مفرقة، متناثرة هنا وهنا- إلا أنه يجب الحذر منها، والانتباه إلى خطرها..
قوله تعالى:
«فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» .
يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون، إنما كان بغرقهم وهلاكهم، حين تبعوا بني إسرائيل، وعبروا وراءهم البحر، فأطبق عليهم وأغرقهم.. ثم يقولون: إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه!(10/92)
وهذا، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء، وتيههم في الصحراء أربعين سنة، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة، فأبوا، وخافوا أن يدخلوها على أهلها، وقالوا: «يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (22: المائدة) وقالوا «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (24: المائدة) .
ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى، وقد لبسهم فيها الذل والهوان، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟
ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده.. هل خلت مصر من أهلها؟
وهل خلت البلاد من الجنود؟
ثم إن التاريخ يؤيد هذا، ويشهد بصدق القرآن الكريم، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين..
- أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» فهو- والله أعلم- ما كان من نقم الله التي حلّت بفرعون وملائه.. من جدب، ونقص في الثمرات، ومن طوفان، وجراد وفمّل.. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم، فأحالت الخصب جدبا، والنعيم والرفه بلاء وكربا.. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم.. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شىء من هذا البلاء، وهم يعايشون المصريين، ويحيون معهم، فكأنهم بهذا، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه..
ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا:(10/93)
«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» .. أي متجهين جهة الشرق..
«فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» .. أي فلما رأى الجمعان- جمع فرعون، وجمع بني إسرائيل- بعضهم بعضا.. قال أصحاب موسى: إنا لمدركون.
«قالَ كَلَّا.. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ..
«فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ.. فَانْفَلَقَ.. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ..
«وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ..» أي جذبناهم إلى البحر، وأغرقناهم، «ثمّ» أي هناك و «الآخرين» فرعون وقومه، إذ كانوا في المؤخرة من القوم.
«وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» .
وهكذا تختتم القصّة، فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى، فينفلق.. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها..
هذا، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ذكر ميراث بني إسرائيل، لما ورثهم الله إياه، سابقا لخروجهم من مصر، ونجاتهم من يد فرعون.
ففى سورة الأعراف يجىء قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» .. ثم يجىء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» (الآيتان: 137- 138) .. وفي سورة الدخان.. يقول الله تعالى:(10/94)
عن فرعون وملائه: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» .. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» الآيات: (25- 31) ..
فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط الله عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات الله، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى «الَّتِي بارَكْنا فِيها» إذ قد يقع في بعض الأفهام أن «البركة» تعنى أرضا مخصوصة، هى الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (96: آل عمران) . ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام..
حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين..(10/95)
فهل كثير على مصر بعد هذا أن توصف أنها البلد المبارك؟ وأي بركة أعظم من أن تكون مصر هي اليوم مركز الإسلام، والراية التي يجتمع إليها المسلمون؟
وإذا لم يصح الحديث بأن: «مصر كنانة الله في أرضه، من أرادها بسوء قصمه الله» . فإنه يصح كلمحة من لمحات الغيب، كشف عنها قلب مؤمن، ونطق بها لسان صدّيق!! وقد آن لنا بعد هذا، أن نقف وقفة، عند التكرار في القصص القرآنى، وما يقال فيه، وأن نجعل من تكرار قصة موسى في القرآن مثلا لهذا التكرار إذ كانت تلك القصة أكثر القصص القرآنى تكرارا..
[التكرار في القصص القرآنى «1» ]
التكرار في القصص القرآنى ظاهرة واضحة، ملفتة للنظر، وداعية لكثير من التساؤل والبحث..
وقد وجد أصحاب الأهواء، ومرضى القلوب، من الملحدين وأعداء الإسلام فى هذا التكرار مدخلا ملتويا، يدخلون منه على هذا الدين، للطعن في القرآن الكريم، والنيل من بلاغته، وإسقاط القول بإعجازه، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا.. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغى الرفيع، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز
__________
(1) اقرأ في هذا كتابنا: القصص القرآنى.(10/96)
وبأنه منزل من السماء، من كلام ربّ العالمين! ثم يتمادون في هذا الضلال، فيقولون: إن هذا الخلط الذي وقع فيه التكرار، إنما هو أثر من آثار تلك الأحوال النفسية التي كانت تنتاب محمدا، فتخرج به عن وعيه، وتجىء الكلمات التي ينطق بها في تلك الحال، مردّدة مقطعة، كما يقع هذا للمحمومين والمصروعين، وأنه لا يكاد يبدأ القصة حتى ينصرف عنها، ثم يذكرها فيعود إليها، ثم ينصرف عنها.. وهكذا..
وإن الذين يقولون هذا القول، أو يحكونه عنهم، هم أعاجم أو أشباه أعاجم، لم يذوقوا البلاغة العربية، ولم يتصلوا بأسرارها.. ولو أنهم رزقوا شيئا من هذا لما اتسع لهم باب الخروج عن الحياء، لأن يقولوا هذا القول، وأن ينطقوا بهذا البهتان العظيم، ولردّهم أقلّ الحياء أن يقولوا قولا لم يقع في حساب «قريش» نفسها، وهي تتصيد التهم والمفتريات على القرآن الكريم، وحتى لقد بلغ بها الأمر في هذا، أنها لو وجدت زورا من القول لقالته فيه، ورمته به..
ولكن الزور نفسه أعياها أن تمسك به، فى وجه هذا الحق المشرق المبين.
فكان أكثر قول القوم فيه ما حكاه القرآن عنهم: «وقالوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .
وقد ردّ عليهم القرآن هذا القول، فقال تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» .
وإذا لم يكن لقريش أن تقول هذا القول، فى وجه عداوتها وحربها للنبيّ، وهي مرجع الفصاحة والبلاغة وموطنهما، فكيف يساغ هذا القول من أعاجم وتلاميذ أعاجم؟ إن ذلك لهو الضلال البعيد.
وندع الردّ على هذه المفتريات، ويكفى أن نعرض وجوها من هذا التكرار، لنرى ما يطالعنا من بعض أسراره، التي هي وجه من وجوه إعجازه، وفيها الرد أبلغ الردّ على هذا الضلال المبين.(10/97)
ما داعية هذا التكرار:
كانت هذه الظاهرة- ظاهرة تكرار القصص القرآنى- على تلك الصورة الواضحة، مما استرعى أنظار العلماء إليها، وحرك عقولهم وألسنتهم للكشف عن أسرارها ودواعيها..
فهذا أبو بكر الباقلّانيّ، يقول في كتابه «إعجاز القرآن» :
إن إعادة القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدّى معنى واحدا- من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين البلاغة» .
وهو يريد بهذا القول أن يقول: إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة من القول، دون أن تتغيّر معالمه، ودون أن يضعف أسلوب عرضه، هو من العسير، الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية، واقتدار بلاغي، وذلك في حدود لونين أو ثلاثة من ألوان العرض، فإذا جاوز ذلك اضطرب الأسلوب، وبهتت المعاني، إلا أن يكون ذلك من تدبير الحكيم العليم..
رب العالمين.
ثم يقول «الباقلاني» :
«وأعيد كثير من القصص (القرآنى) فى مواضع مختلفة، ونبّهوا- أي العرب- بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ، ومكررا» .
ويريد الباقلاني بهذا، أن يقرر: أن من صور التحدي الذي عجز العرب عنه، إزاء القرآن، هو عرض القصص القرآنى، عرضا متفاوتا بين الطول والقصر، والبسط والقبض، وقد وسّع عليهم بهذا مجال المعارضة والمحاكاة..
فلم يكن منهم إلّا العجز والاستخزاء! وهذا القول من «الباقلانيّ» لا يكشف عن السرّ الذي نراه في التكرار(10/98)
الذي جاء عليه القصص القرآنى، والذي سنعرض له، بعد أن ننظر في بعض الآراء الأخرى، التي عرضها أصحابها في هذا المقام.
ويقول «الزركشي» فى كتابه: «البرهان في علوم القرآن» :
«ومنه- أي من التكرار- تكرار القصص في القرآن، كقصة إبليس فى السجود لآدم، وقصة موسى، وغيره من الأنبياء.. قال بعض العلماء:
ذكر الله موسى في القرآن في مائة وعشرين موضعا» !! ثم يكشف الزركشيّ عن وجوه لبعض أسرار هذا التكرار فيقول:
«وإنما كرّرها- أي القصة- لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر، وهي أمور:
أحدها: أنه- أي القرآن- إذا كرر القصّة زاد فيها شيئا.. ألا ترى أنه ذكر «الحيّة» فى عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا؟
ثم يذكر الزركشي أمرين آخرين.. نتجاوزهما إلى ما بعدهما..
الرابعة: إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة- لا يخفى ما فيه من الفصاحة! الخامسة: أن الله سبحانه أنزل هذا القرآن، وعجّز القوم عن الإتيان بمثل آيه، لصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله، ثم بيّن وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأى نظم جاءوا، وبأى عبارة عبّروا» .
والإشارة المقتضبة التي أشار إليها الزركشي، وكأنها جاءت عفوا من غير قصد في قوله: «إنه- أي القرآن- إذا كرر القصة زاد فيها» - هذه الإشارة هى في نظرنا أبرز داعية من دواعى التكرار في القصص القرآنى، وأوضح وجه يطلّ علينا منه..
ولم يذكر «الزركشيّ» ما لهذه الزيادة من قيمة في عرض القصة، وفى(10/99)
إبراز ما يراد إبرازه من أحداثها، واكتفى بالقول: بأن القرآن كلما كرّر قصة جاء فيها بجديد لم يكن موجودا في العرض الأول، أو الثاني أو الثالث..
وهكذا..
دعوى وبرهانها:
والدعوى التي ندّعيها لداعية التكرار في القصص القرآنى، وفي كل تكرار في القرآن الكريم- هى أن هذه الصور المكررة يكمّل بعضها بعضا، وأنها في مجموعها تعطى صورة واضحة، كاملة، مجسّمة، أو شبه مجسّمة للحدث، وأن ما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات، فى الواقعة، الواحدة، أو الحدث الواحد، ليس إلا تجميعا لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة أوليس إلا التقاطا لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآنى وحده، على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء به..
فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية، يؤدّى وظيفة حيوية، فى إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لا بدّ أن تعاد العبارة، مرّة ومرّة، لكى تحمل في كل مرة بعضا من مشخّصات المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطى صورة مقاربة للمشهد كله.
ولنا أن نشبه ذلك- على بعد ما بين المشبّه والمشبّه به- بالتصوير «الفتوغرافى» والتصوير «السينمائى» أو «التليفزيونى» ..
ففى التصوير «الفتوغرافى» .. اللقطة الواحدة تصوّر المشهد كله، تصويرا كاملا.. صامتا..
والصورة هنا، وإن أعطت جميع ملامح المشهد، فإنها تحتاج في قراءتها(10/100)
إلى مهارة وحذق للكشف عن مضمونها، أو بعض مضمونها.. إذ كانت إنما تكشف المقطع السّطحى للحدث، أو الجسم الذي تصوّره.. منقطعا عن الحركة، والتجسيد.
أما الصورة السينمائية، فإنها تتشكل من مئات وآلاف من «اللقطات» حتى تتجسم الأحداث والشخوص، وتتكشف كل خافية كانت مختفية وراء الصورة «الفتوغرافية» ، فإذا هي تجمع بين الحركة والتجسيد..
إن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآنى، هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلّى فيه روعة الكلمة وجلالها، بحيث لا يرى لها وجه في أية لغة، وفي أية صورة من صور البيان، يقارب هذا الوجه، فى جلاله، وروعته، وسطوته.
وهل شهدت الحياة «الكلمة» تؤدّى ما يؤديه العمل «السينمائى» اليوم فى نقل المشاهد والشّخوص بأبعادها الثلاثة: (طولها، وعرضها، وعمقها) ، وبحركاتها، وسكناتها، ونطقها، وصمتها؟ وكم تتكلف السينما لهذا العمل من لقطات؟ مئات وألوفا!! أما النظم القرآنى، فإنه يعرض المشاهد بأبعادها، وأعماقها، وحركاتها، وسكناتها، وبنطقها وصمتها، وبوسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، ثم لا يكون ذلك كله إلا بعدد محدود من اللقطات، لا يكاد يتجاوز أصابع اليد عدّا.
ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجمع هذه «اللقطات» فى معرض واحد، حتى لا تتراكب وتتراكم، بل جعلها موزعة في مواضع متباعدة أو متقاربة في القرآن الكريم، بحيث يمكن أن تستقل كل «لقطة» منها بذاتها مستغنية عن كل تفصيل، ثم بحيث لو نظر ناظر إليها من خلال «اللقطات»(10/101)
الأخرى المماثلة أو المناظرة لها، لوجد منها جميعا تجاوبا، واتساقا، وائتلافا..
حتى لكأنها اللحن الموسيقى يتألف من أنغام شتى، تجمعها الوحدة التي يسير فى مجراها اللحن.
اعتراضات وتمويهات:
وهناك اعتراضات كثيرة يلقيها بعض الدراسين والباحثين في وجه القول الذي عليه المسلمون في شأن القصص القرآنى، وأن هذا القصص هو تسجيل لأحداث واقعة، وأنه- لكى يقصّ الحق- جاء بالأحداث كما وقعت، دون أن يدخل عليها بشىء من التحويل والتبديل، أو الزيادة، والحذف، حتى لا يغير من وجوهها، أو يخرجها عن أن تكون حقّا..
وتتلخص هذه الاعتراضات، فى القول باستحالة نقل أي حدث من الأحداث مع جميع ملابساته.. فهناك كثير من الأمور التي تصحب وقوع الحدث، ثم لا يكون لها ذكر، إذ لا حاجة إليها في عرض المحتوى المشخّص له.
ولو أنّ نقل الحدث كان يعنى الإمساك بكل جزئية من جزئياته، لكان ذلك- على استحالته- ضربا، بل ضروبا من العبث، الذي يدعو إلى الملل والسآمة، ويذهب بكل ما في النفس من طاقات الاحتمال لهذا اللغو والسّخف!.
تصوّر- مثلا- حادثة عابرة، من الحوادث التي تقع وتتكرر كل يوم، بل كل ساعة، على مرأى ومشهد من الناس، ولتكن «سيارة» صدمت شخصا ما، طفلا، أو رجلا، أو امرأت، فى أحد شوارع القاهرة، وفي وقت من أوقات ازدحامها بالحركة والحياة.(10/102)
وانظر.. أتستطيع قوة بشرية أن ترصد مجريات هذا الحادث، وتمسك بكل قريب وبعيد منه؟.
السيارة.. لونها، وشكلها، ورقمها.. وسائقها.. هيئته، وطوله، وعمره، وزيّه.. ثم الشخص الذي صدم، وأين كانت الصدمة، ومدى آثارها ثم اجتماع الناس، والتفافهم حول الحادثة، ثم بعض ما كان من تعليقات عليها..
ثم عملية رجال الشرطة والإسعاف.. ثم انجلاء الموقف وعودة الحياة إلى سيرتها فى هذا المكان.
ذلك أقصى ما يمكن أن يمسك به إنسان من شهود هذه الحادثة، وما دار فى محيطها.
وإن ذلك لقليل إلى كثير جدا، مما وقع هناك، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن في حساب أحد..
فكم من الناس من شهدوا هذا الحادث مثلا؟ وكم الذكور وكم الإناث منهم؟ وكم الصغار وكم الكبار؟ وما أسماؤهم؟ وماذا يلبس كل واحد؟
وأين يسكن؟ وأين يعمل؟ ثم ما شأن كل واحد من شهود هذه الحادثة؟
إلى أين كانت وجهته؟ وماذا تركت الحادثة في نفسه؟ وهل انطلق بعدها إلى غايته، أم صرف نفسه إلى غاية أخرى؟ .. وهكذا.. وهكذا..
إن لكل إنسان من هؤلاء قصة طويلة، لا تكاد تنتهى..
وهل ينتهى لأمر من هذه الحادثة عند هذا الحد؟ كلا.. فهناك مئات، بل ألوف من الأمور الصغيرة أو الكبيرة، التي تتصل بهذه الحادثة، يمكن أن يجتمع من أيّ منها كتاب ضخم، لو تتبّعها متتبع، ثم يبقى بعد ذلك كثير من(10/103)
مجربات الأمور قد أفلت منه، ولم يقدر على الإمساك به، ولو استعان بمئات من الأشخاص والأدوات المسجلة والمصورة.
وهذا يكشف لنا عن أمرين:
أولهما: استحالة نقل الحدث، مهما صغر، نقلا كاملا بملابساته جميعها، مما حواه زمانه، واشتمل عليه مكانه.
وثانيهما: أن نقل الملابسات التي تتلبس بالحادث- على فرض إمكانها- لا داعية إليه في التعرف على وجه الحادثة، والاستدلال على مشخصاتها، والوقوف على ما يحتاج إليه منها، إذ يكفى من هذه المشخصات ما يصور الملامح الواضحة، للحادث، ويشخّصه.
وبدهيّ أن القصص القرآنى إذ ينقل صورا من أحداث الماضي، فإنه لا ينقل كل ما تلبّس بها من قريب وبعيد، وإنما يأخذ منها ما كان ذا دلالة واضحة عليها، فى الكشف عن الوجه المعبر منها عن الحدث، والمضمون الذي اشتمل عليه..
وإذا كان ذلك كذلك في القصص القرآنى، فإنه يعنى أن هذا القصص لم يجىء بالواقع كله، بل أخذ منه بعضا وأعرض عن بعض، ويعنى أيضا أن هناك تفاوتا واختلافا كثيرا أو قليلا بين هذا القصص وبين الواقع..
وهذا يعنى- مرة ثالثة- أن القصص القرآنى مغاير للواقع على نحو ما.
وهذا يعنى- مرّة رابعة- أن هذا القصص قد تصرّف في الأحداث، كما يتصرف القصصيّ في الأحداث الواقعة، حين يؤلف منها قصة من(10/104)
القصص، أو رواية من الروايات.. وهذا يعنى أخيرا أن أنباء القصص القرآنى، ليست هي الواقع- كما وقع، أو بعبارة أخرى أنها ليست الصدق كلّ الصدق!! هذا مدخل من المداخل التي رآها بعض الباحثين آذنة لهم بالقول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص الأدبى- لم يقف عند حدود الأحداث الواقعة، بل تصرف فيها على الوجه الذي يقيم منه قصصا «فنيّا!!» ..
الأمر الذي جعله يغير من وجوه الواقع، ويخرج به على غير مألوف الحياة، حتى تجد النفس إقبالا عليه، لما فيه من جدّة وغرابة، ولما في الجدّة والغرابة من طرافة!! هكذا يذهب هذا التصور المريض، الذي يقع في نفوس أهل الغفلة عن جلال الله وقدرته، يذهب بهؤلاء السّفهاء أن يجعلوا الله سبحانه وتعالى، مع الأدباء والقصاصين، على كفتى ميزان، حتى ليضطر الخالق- كما يضطر المخلوقون- إلى خلط الحق بالباطل، وتزويق الحقيقة بالخيال، وتمويه الواقع بالكذب والاختلاق، حتى يكون له طعم جديد، غير ما اعتاد الناس تذوقه من طعوم الحياة وواقعها!! وماذا بقي لله سبحانه وتعالى إذن من تفاوت بينه وبين خلقه؟
أفتعجز كلمات الله عن أن تمسك بالصدق، وتشتمل عليه؟ ثم أيليق بكلمات الله أن تتلبّس بالكذب والاختلاق، وتتزوّق بالخيال وتتجمل به، حتى يكون لها وجه مقبول غير مردود؟.
يا للسفاهه والضلال، ويا للحمق والجهالة.. بل يا للجرأة على الله، والتطاول على من خلق من التراب لسانا ينطق بهذا البهتان العظيم!!(10/105)
هذا، ومما يراه أصحاب هذا الرأى الأحمق الجهول مؤيدا لوجهة نظرهم هذه، الضالّة المضلّة- أن القرآن الكريم جاء بلسان عربى مبين، والشخصيات التي وردت في القصص القرآنى، لم يكن لسانها عربيا، كموسى وفرعون مثلا..
وقد نطق القصص القرآنى عن هؤلاء الأشخاص، وأنطقهم بهذا اللسان العربي.. وطبيعى أن ما نطقت به هذه الشخصيات في القرآن، لم يكن هو نفس منطوقها، وإنما هو ترجمة أمينة وصادقة لما نطقت به.
وهذه الترجمة، وهذا النقل- أيّا كان من الدقة والإحكام في نقل المعاني من لسان إلى لسان- هو على أي حال مخالفة للواقع، فى الصورة والشكل، وإن لم يكن في المضمون والمحتوى! وأي مخالفة أكبر من أن تتبدل ألسنة الناس، فينطقوا بغير اللغة التي نطقوا بها؟ ففرعون- ولغته المصرية القديمة- ينطق بالعربية الفصحى! وأصحاب الكهف- ولغتهم غبر عربية على وجه قاطع- قد أنطقهم القرآن بلسان عربى مبين.. وهكذا.
وأكثر من هذا.. الحيوانات والجمادات، ينطقها القرآن بهذا البيان المبين.. إذ يقول سبحانه فيما أنطق به السماء والأرض: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) .
ويقول سبحانه فيما أنطق به النملة: «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» (18: النمل) .
فهذه المفارقات وأشباهها، قد جعل منها بعض الدارسين المجددين أو المجدفين(10/106)
منفذا ينفذون به إلى القول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص التأريخي- لا يكون قصصا إلا إذا لوّنه القاصّ بألوان من خارج الواقع، وجعل لنفسه سلطانا على الأحداث، فيغيّر ويبدّل، كما تقتضى الحال، ويستدعى المقام، حتى تكون القصة مقبولة مستساغة، بما فيها من فنّ وإبداع!!
دعاوى متهافتة:
والحق أن هذه الاعتراضات كلها مما حكات باطلة، وتلبيسات فاسدة، لا تقوم على أساس من الحجة الواضحة، والمنطق السليم..
فالقول بأن القصص القرآنى لم يحمل في أطوائه الأحداث التي جاء بها، متلبسة بكلّ ما صحبها من صور وأشكال، ساكنة ومتحركة، فى مجال الزمان والمكان على السواء- هذا القول- على تسليمنا به، لا تقوم منه حجة أبدا على أن القصص القرآنى قد بعد- مع هذا- عن الواقع في كثير أو قليل..
بل إنه احتوى الواقع كلّه، واشتمل عليه، وأخذ لبّه، والصميم منه..
ذلك أن الحياة كلها، بأزمنتها وأمكنتها، وأشخاصها وأحداثها، حاضرة عتيدة كلها، بين يدى الحكيم العليم، واقعة في علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء..
وهذا القصص الذي جاء به القرآن، لم يكن تأريخا للحياة كلها، وأحداثها وإنما هو عرض لبعض المواقف، وكشف عن بعض الأحداث، التي من شأنها أن تحدث في النفس أثرا، وتقيم في الضمير وازعا، وتفتح على العقل والقلب مواقع ماثلة للعبرة والفطنة.
فالقصص القرآنى. لا يمسك بالأحداث الواقعة في الحياة كلها، وإنما يمسك من الأحداث والوقائع، بما يراه مجلّيّا عن عبرة، كاشفا عن عظة،(10/107)
لتنتفع بها الدعوة الإسلامية، فى مقام الدعوة إلى الله، والتعرّف عليه..
وليس يعنيه- فى هذا المقام- أن يكون الحدث مدوّيّا صارخا، أو مزلزلا عاتيا، بقدر ما تعنيه الدلالة التي يدلّ عليها، والعظة التي تتكشف للناس منه.
ولا شك أن هذه الأحداث والوقائع التي يقتطعها القرآن الكريم من «شريط» الحياة، هى الصدق الخالص، والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يقتطعها القرآن.. زمانا، ومكانا، وأشخاصا، وملابسات.. ثم ينفخ فيها نفخة الحياة، فنبعث من مرقدها، وقد تساقط منها ما جفّ من أوراقها، وما ذبل من أغصانها، وإذا هي ثمر دانى القطوف، نأخذه العين وتشتهيه النفس..
وإذن، فليس تخليص القصص القرآنى من الزوائد والحواشي التي لا تغنى شيئا في تصوير الحدث، وعرضه في معرض الاعتبار والعظة- ليس هذا التخليص إلا عملية غربلة وتصفية، غايتها تنقية الحدث من الشوائب، وتخليصه من الغثاء والزّبد، ليصفو مورده، ويسوغ مذاقه للواردين- وليس ذلك عن عجز أو غفلة، عن جميع الملابسات التي انصلت بالحدث من جميع جهاته، والتقت به من قريب أو بعيد.
وهذا التصرف الذي كان من صنيع القرآن الكريم، فى عرض الأحداث وفي أخذ بعضها، والإعراض عن بعض- هذا التصرف لا يصح أن يكون مسوغا لقائل أن يقول: إن القرآن- وقد أباح التصرف على أي وجه من الوجوه- قد أدخل في القصص القرآنى ما ليس من صميم الواقع، وأنه غير وبدّل فى معالمه..
فهذه مغالطة سفيهة- كما قلنا- لأن ما جاء به القصص القرآنى، هو(10/108)
الصميم من الواقع، واللباب من الحدث، وإن يكن قد ترك ما ترك من حواش وأطراف، وزوائد، وقشور! وأما القول بأن القرآن قد تحدث بلسانه العربي، عن ألسنة غير عربية، أو نطق بلسانه العربي عن دلالة الحال، كما في تحديثه عن الجماد والحيوان، فهذا لا يمكن أن يحىء منه الادعاء بأن القرآن قد تقوّل على من نطق عنه.. وإنما هذا الذي نطق به القرآن، مترجما به عما نطق الناطقون، أو نطقت به دلالة الحال- إنما هو المضمون الحق، والمحتوى الصادق الأمين، لما تلبّست به الخواطر، وجمجمت به الصدور، قبل أن تنطق به ألسنة المقال، أو تهمهم به ألسنة الحال..
فإذا جاءت كلمات الله ناطقة بما نطقت به ألسنة الحال أو المقال، كانت تلك الكلمات هي الصورة الكاملة- روحا وشكلا، ومضمونا ومحتوى- لما نطق به الناطقون، ولما أراد أن ينطق به الناطقون، وأعجزهم العجز عن النطق به! ثم ماذا يمكن أن يكون غير هذا في مثل هذه الأحوال، إذا أريد نقلها وعرضها للحياة؟
أكان من التدبير الحكيم هنا أن يجىء القرآن الكريم بالأشخاص والأحداث، فيبعثها من مرقدها، ويحركها على مسرح الحياة من جديد، لتنطق بما كانت قد نطقت به، أو لتشير إلى ما كانت قد أشارت إليه؟
إن قدرة الله- سبحانه وتعالى- لا يعجزها شىء. ولكن أتحمل الحياة هذا، لو أنه حدث؟ وهل يلقاه الناس فلا يفتنون به، ولا يخرجون عن عقولهم، فى تخبط مجنون؟ ثم لو استمع العرب إلى هذه المقولات التي نطق بها(10/109)
أصحابها، كما نطقوها بألسنتهم، أو خواطرهم- أكانوا يفهمون شيئا، أو ينتفعون مما استمعوا بشىء؟
إن القصص القرآنى- لكى يكون قصصا نافعا مثمرا- قد جاء على سنّة الحياة التي يحياها الناس، ولم يخرج على مألوفها، ولو جاء على غير هذا لما كان للناس التفات إليه، ولو أنهم التفتوا إليه لما كان منهم إلا الاضطراب والبلبلة.!
فالناس، يتداولون الأنباء، ويروون الأخبار، ويتناقلونها، على تعدد الأشخاص، واختلاف الألسنة.. ثم لا يكون شىء من ذلك التعدد وهذا الاختلاف، حائلا بينهم وبين أن يفيدوا منها، وينتفعوا بها، ويخلصوا إلى مضامينها.
وغاية ما يمكن أن ينظر إليه في هذه الأحوال، هو الصدق فى الرواية، والأمانة في النقل، والدقة في التصوير والتعبير.
وإنه إذا كان هناك ملتمس تلتمس فيه هذه الغاية، على أتم تمامها، وأكمل كمالها، فلن يكون ذلك، إلّا في القرآن، وفيما نطق به القرآن، وإلا في كلمات الله، وما نطقت به كلمات الله.. «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟» ..
«وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً؟» .
إن القصص القرآنى، وإن يكن سماويّ المطلع، فهو بشريّ الصورة، إنسانيّ المنازع والعواطف، يتحدث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة.. يقرؤه الناس ويسمعونه، فكأنما يقرءون أطواء نفوسهم، ويسمعون همس ضمائرهم، ووسوسة خواطرهم.. ومن هنا، فهم يحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض يصوبها الغيث، فيقع منها مواقع مختلفة، بين وديان وسهول، وجبال وقيعان، وأحراش وسهوب، وخصب وجديب!(10/110)
وأحسب أننا بعدنا بهذا الاستطراد عن موضوعنا: «التكرار في القصص القرآنى» .. ولكنه كان استطرادا لا بدّ منه، ونحن ننظر من هذا القصص، فى معارض شتّى من البيان.. بين الإيجاز والتفصيل، فى القصة الواحدة، والحدث الواحد، بل والإشارة الواحدة.. إذ كانت معرفة الأصول التي قام عليها القصص القرآنى أمرا لازما لمن يتصدّى لدراسة هذا القصص، وضبط موارده ومصادره، على ميزان الحق الذي نزل به القرآن الكريم.. ثم كانت تلك المعرفة لازمة أيضا لدفع تلك المفتريات التي يفتريها السفهاء والجهلاء من الأعداء والأصدقاء، على القرآن الكريم، وما يقولونه في القصص القرآنى بالذات، وما وقع فيه من تكرار، وما اشتمل عليه- كما يتخرصون- من أساطير..
وقد فرغنا من الردّ على هذا القول الضالّ الآثم، الذمي يقوله القائلون عن مادة القصص القرآنى، وما اشتملت عليه من أساطير.. ورأينا في هذا الردّ- على إيجازه- ما يخرس تلك الألسنة التي نطقت الزور، وجاءت بهذا البهتان العظيم..
أما ما يتخرّص به المتخرصون في شأن التكرار في القصص القرآنى، فقد عرصنا في أول هذا البحث ما يتعلق به أولئك الذين يطعنون في بلاغة القرآن، من مدّعيات ومفتريات، لم تثبت لأول لمحة من النظر، حتى بان عوارها، وانكشف زيغها عن المنطق السليم، الذي يتعامل به في قضايا العلم ومقررات الفنّ وبقي بعد هذا أن نعرض نموذجا من التكرار القصصى في القرآن، لننظر وينظر معنا الذين يأخذون على بلاغة القرآن هذا التكرار- كيف كان هذا التكرار إعجازا من إعجاز النظم القرآنى، إلى جانت إعجاز النظم في ذاته، قبل التكرار، وبعد التكرار..(10/111)
ولا نتخير هذا النموذج من بين القصص القرآنى، بل فأخذ قصة موسى التي عشنا معها في هذه السورة «سورة الشعراء» - إذ كانت قصة موسى أكثر قصص القرآن تكرارا، فقد ذكرت- كما قيل- فى مئة وعشرين موضعا من القرآن الكريم..
ولا نعرض قصة موسى كلها- بل نأخذ منها هذا المقطع، الذي واجه فيه موسى فرعون وسحرته، إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر.. إذ كان هذا المقطع هو أول ما واجهنا من حديث عن موسى وموقفه من فرعون، وسحرة فرعون..
وهذا المقطع الذي نقف عنده من قصة موسى مع فرعون، قد جاء في عدة معارض في القران الكريم.
وها نحن أولاء نعرضها حسب ترتيب نزولها، كما وقع لنا، وكما هو الرأى الراجح في القول بترتيب هذا النزول..
أولا: فى سورة طه
بعد أن يدخل موسى وهرون على فرعون، ليبلغاه رسالة ربهما إليه.. يبدأ الموقف هكذا:
«إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. «قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. «قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟(10/112)
«قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى. «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى. «قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى. «قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى. «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى. «قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.. «قالُوا يا مُوسى.. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى. «قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. «قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى.(10/113)
«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً. «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى. «قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.
«قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» : (الآيات: 48- 71) .
ثانيا- سورة الشعراء
[الآيات: 16- 15] فى هذا الموقف، ينتقل المشهد الذي كان عليه موسى بين يدى ربه، إلى فرعون، دون فاصل ما.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه، يسمعان من فرعون، ولا يذكر الموقف أنهما قالا له شيئا..
«فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ. «قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ! «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..! «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ.. «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ! «قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. «قالَ: لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟(10/114)
«قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. «قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. «قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. «قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. «قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ «قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.. «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ «قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ. «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. «قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ!
«فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ..
«فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ.
«فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ.
«قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.(10/115)
«قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.
«فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ..
«قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» .
ثالثا: سورة الأعراف
[الآيات: 103- 126]
وجاء الموقف في سورة الأعراف هكذا:
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
«قالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ.
«قالَ: الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ.؟
«قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ.
«وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ.
«قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.(10/116)
«قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ؟ «قالَ: أَلْقُوا. «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ.
«فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
«فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ.
«قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
«قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ.
رابعا: سورة الإسراء
[الآيتان: 101- 102] ويعرض الموقف في سورة الإسراء عرضا موجزا.. هكذا..
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً.
«قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً»
خامسا: سورة يونس
[الآيات: 75- 82] ويجىء الموقف في سورة يونس، بين الإجمال والتفصيل، هكذا:(10/117)
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ..
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
«قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ..
«قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ.
«وَقالَ فِرْعَوْنُ: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ.
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ.
«فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» .
سادسا: سورة النازعات
[الآيات 17- 25] وفي سورة النازعات يجىء الموقف في عرض قصير، سريع.. هكذا:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» .
سابعا: سورة الذاريات
وفي الذّاريات، تعرض القصة كلها في لمحة خاطفة.. هكذا..
«وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» (38- 39) .(10/118)
هذه معارض سبعة، قد عرض فيها هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، عرضا مبسوطا اتسع لأهم الأحداث التي جرت فيه، والتقط أدقّ الخلجات النفسية التي تحركت في صدور الناس الذين كان لهم مكان في هذا الحدث.. مباشرا أو غير مباشر..
فهذه المعارض السبعة إذا ضمّ بعضها إلى بعض، قامت منها صورة واحدة، هى صورة مكبرة، لكل واحدة من هذه الصور على حدة..
فإنك إذ تنظر في الصورة التي تجمع هذه الصور كلها، ثم تنظر في أيّ من الصور الصغيرة، تجد الملامح هي الملامح، والصورة هي الصورة، وإن حملت الصورة الكبيرة ألوانا أكثر، وشغلت مساحة أوسع.
ومن صنيع الإعجاز القرآنى في هذا، أنه مع تفرّق هذه الصور، وبعد ما بينها من مسافات، فى عرض القرآن الكريم لها- أنه يمكن أن تضمّ هذه الصور بعضها إلى بعض، على أي ترتيب تقع فيه، وعلى أي وضع تأخذه كل واحدة منها بين أخواتها، ثم يقرؤها القارئ أو يرتلها المرتل وكأنها صورة واحدة، دون أن يشعر أنه يعيد ما قرأ، أو يكرّر ما رتل! وهذه هي الصور السبع كما عرضناها من قبل، دون التفات إلى ترتيب خاص لها- وإن لك أن تقرأها قراءة أو ترتلها ترتيلا، ثم انظر فيما تجد لما تقرأ، من هذا التلاحم والتوافق الذي بينها، وستجد- كلما أعدت القراءة أو الترتيل- أكثر من هذا الذي حدثتك عنه من توافق وتلاحم بين هذه المعارض..
على أننى أودّ أن أصنع صنيعا آخر مع هذه الآيات جميعا، حتى يتضح لنا- بصورة أكثر وضوحا- خلوّ القصص القرآنى من التكرار، بالمعنى الذي فهم عليه، والذي كان في نظر الأغبياء والأدعياء تهمة يرمى بها القرآن فى(10/119)
أعزّ ما يعتز به من فصاحة وبيان.
وننظر في الواقعة ذاتها، فنجد أنها تشتمل على عناصر أربعة:
1- موسى ومعه أخوه هرون، وما عرضا على فرعون من مقولات وآيات.
2- فرعون، والملأ الذين معه من قومه وسحرته، وما استقبلوا به موسى من مقولات وتحدّيات.
3- ما كان من موسى والسحرة، وما انتهى إليه أمرهم، من عجز، وتسليم، وإيمان..
4- ما كان من فرعون حين خذله سحرته، وخرجوا عن طاعته وأمره..
وما توعدهم به من عذاب ونكال، وما كان منهم من استخفاف بهذا الوعيد وعدم التفات إليه.
والذي سنصنعه هنا، هو أن نجمع لكل عنصر من هذه العناصر ما كان له من ذكر في هذه السور الست التي عرض فيها القرآن هذه المواقف..
فأولا: موسى وهرون في مواجهة فرعون..
«إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» ..
(48) (من سورة طه) «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
(16- 17) (من سورة الشعراء) «يا فِرْعَوْنُ.. إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
(105 من سورة الأعراف)(10/120)
«هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ..
(18- 19) (من سورة النازعات) واقرأ هذه المقولات الأربع، واحدة بعد أخرى، اقرأها على أي ترتيب شئت.. فهل تجد فيها تكرارا؟ وهل يمكن أن تستغنى عن واحدة منها، ثم لا يفوتك شىء مما يتطلبه الموقف، وما حملت تلك الصورة من رؤية جديدة له، ومن مشاعر وخلجات تلبست به؟
والذي أود الإشارة إليه، هو أن هذه المقولات الأربع ليست قولا واحدا جاء به القرآن الكريم في معارض مختلفة من القول، وإنما هي أقوال أربعة فعلا، كل قول منها مستقل بنفسه، قائم بذاته، وإن كان مكملا لغيره..
شارحا له، أو مؤكدا..
1- فهذا موسى ومعه أخوه هرون، يدخلان على فرعون، ويتحدثان إليه بصوت واحد معا.. إذ كان ذلك هو شعور موسى من لقاء فرعون، قبل أن يلقاه، فقد طلب إلى الله أن يشدّ أزره بأخيه هرون، فهو أفصح منه لسانا..
ويدخل موسى وهرون على فرعون.. فينظر إليهما نظرة من يقول: ماذا تريدان؟ ..
فيقولان معا وبصوت واحد: «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» ..
(48) (سورة طه) 2- ثم ها هما وقد أخذت تزايلهما رهبة الموقف ودهشة اللقاء فيلقيان فرعون لقاء مباشرا، ويلقيان إليه بهذا الأمر العظيم، فيقولان معا:
«إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ!!» (16- 17) (سورة الشعراء)(10/121)
ونستشعر من هذا أن «موسى» لا يزال يجد الرهبة والخوف من فرعون، وأنه لم تزايله رهبة الموقف بعد، ولا يزال في حاجة إلى هرون يسنده، ويشدّ أزره، ويثبت جنانه.
3- ثم ها هو ذا «موسى» بعد أن تمرّس بالموقف، وارتاد الطريق، واختبر المواجهة، واحتمل الصدمات الأولى لها- ها هو ذا يلقى فرعون وحده، ويسمعه بلسانه مضمون رسالته، فى قوة وصراحة، وتحدّ:
«يا فِرْعَوْنُ..
«إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ..
«حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ..
«قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..
«فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ.. (104- 105) (الإسراء) فيا للاعجاز الذي تذلّ لجلاله جباه الجبابرة، وتخضع له أعناق المكابرين، وتعنو له وجوه السفهاء المتطاولين..
«يا فرعون» ! هكذا يقولها موسى في وجه فرعون.. يناديه باسمه، متحدّيا، وينتزعه من سلطانه وجبروته انتزاعا.. فى غير تلطف أو رفق، أو مبالاة.
إنّها فعلة من يقدم على أمر محفوف بالمخاطر، بعد خوف، وتردد، حتى إذا لم يجد من المواجهة بدا ألقى بنفسه إليه، مخاطرا، يتوقع ما يطلع عليه وراء فعلته تلك من أهوال.
وما كان لموسى أن يقول هذه القولة: «يا فرعون» ولا أن يقول بعدها:
«إنى» بهذا الضمير المحقّق لشخصيته، المؤكد لذاته: «إنّى» لا أحد غيرى(10/122)
«رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. ولحرف الجر «من» هنا ماله من الإشعار بهذا الاعتزاز بتلك الشخصية، والرسالة التي تحملها، والجهة التي جاءت منها.. ففيها ما ليس في قوله تعالى: «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» من الشّحنة القوية، المليئة بالاعتزاز بهذا السلطان، الذي يستند إليه، وهو سلطان رب العالمين.
ما كان لموسى أن يقول هذا، ثم يمضى فيقول:
«حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» .. وهذا اعتزاز بعد اعتزاز لشخصه الذي يحمل رسالة السماء..
ما كان لموسى أن يقول هذا، لولا أن دخل على فرعون هذا المدخل الذي اختبر به الأرض التي تحت قدميه.
ومن هذا الأفق العالي، يتنزل أمر موسى هادرا مدويّا في وجه فرعون:
«فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .
ولك أن تضع هذا الأمر الصّادع، إلى جانب هذا الرجاء الذي أسمعاه- موسى وهرون- لفرعون من قبل، فى قولهما: «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» وسيتضح لك بعد ما بين الأمرين.
ويستشعر موسى أنّه وقع بين فكى الأسد وبراثنه.. وأن فرعون لن يدعه ينجو من العقاب الأليم، على هذه الجرأة التي اقتحم بها هذا الحمى الذي لا يقتحم.
4- وهنا لا يجد موسى بدّا من أن يصحح موقفه، وأن يلقى فرعون مترفقا متلطفا، كما أمره الله سبحانه بقوله: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» ..
وهنا يلقاه موسى بهذا الأسلوب اللّين الرقيق، لعله يكسر بهذا حدّة الموقف، الذي وصل إلى هذا الحدّ من الخطر.. فيقول له:(10/123)
«هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ؟
(17- 18) [سورة النازعات] وإلى هنا لم نجد حديثا عن فرعون.. ولكنا نقرأ في وجهه، ومن حركاته أكثر من حديث..
ثانيا: فرعون وقومه وسحرته
وماذا يكون من فرعون بعد أن سمع ما سمع مما لم يعهد سماعه من أحد من قبل؟
ننظر فنرى:
أن فرعون- فى هذا الموقف- يواجه موسى وتحدياته، فيلقاه دهشا عجبا، لهذا التطاول عليه، والخروج على المألوف في حضرته.
ثم هو- قبل هذا كله، وبعد هذا كله- هو فرعون! يبسط سلطانه على أهل المجلس.. يلقى نظرة هنا، ونظرة هنا، ويرمى بكلمة هنا وكلمة هنا.. إنه المحور الذي تدور به ومن حوله الأحداث.
وطبيعيّ ألا يأخذ الحديث اتجاها واحدا، فى هذا الموقف، لتعدّد الأطراف المشتركة فيه.. فرعون، وموسى، وحاشية فرعون، وشهود هذه المساجلة من الملأ..
ونودّ أن نشير هنا إلى أن هذه الصور التي عرضها القرآن لهذا الموقف، ليست للقاء واحد بين موسى وفرعون.. وإنما هى «لقطات» مركزة مجمّعة لأكثر من لقاء.. إذ أنه من غير الطبيعي أن ينحسم الأمر بين موسى وفرعون في لقاء واحد.. ولكن المقدّر في هذه الحالة أن يتكرر لقاء موسى وفرعون، ويتكرر الأخذ والعطاء بينهما، إلى أن بيئس كل منهما من الوصول إلى وفاق مع خصمه، فلا يكون بعد هذا إلا التحدّى والصراع.
ومع هذا فإن اقتدار القرآن وإعجازه، فى تصوير مشاهد هذا الموقف فى(10/124)
أزمنة مختلفة، وأحوال مختلفة أيضا، قد جعل منها مشهدا واحدا، يمسك بتلك المشاعر التي كان يعيش بها أصحابها في هذا الموقف، دون أن يحدث الانفصال الزمانيّ أو المكانيّ فيها خلخلة، أو ازدواجا.
ومع هذا- أيضا- فإننا سنعرض هذه المشاهد، على أنها صورة واحدة، فى موقف واحد، وسنرى أنها تقبل مثل هذا العرض، وتتلاقى فيه وجوهها، دون أن تتصادم، أو تتدافع! ولقد رأينا في المشهد السابق، أن فرعون، قد أخذ بالمباغتة، التي طلع بها موسى وهرون عليه، وأنه حين أسمعاه هذا القول، الذي قالاه له في قوّة وجرأة- وجم، ولم ينطق.
ثم صحا من هذا الذهول، وتنبه لحقيقة الموقف، فاتّجه إلى موسى بهذه الأسئلة الهازئة الساخرة:
«أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (الشعراء) (18- 19) .
وقد قدّر فرعون أن هذه الكلمات ستصيب موسى في الصميم منه، وأنها ستخفض رأسه في حضرته.. إذ أنه سيذكر من هذه الكلمات، طفولته وضياعه ووقوعه ليد فرعون.. ثم إنه ستطلع عليه من هذا الكلام صورة مخيفة لفعلته التي فعلها، وهي قتل المصري، وأن فرعون إذا لم يأخذه بجرأته عليه، أخذه بهذا المصريّ الذي قتله.
ولا يقف موسى عند ما ذكره له فرعون، من تربيته له، وضمه إليه، بل يجعل همّه كلّه دفع هذا الخطر الذي يتهدّده من حادثة القتل.. فيقول مجيبا فرعون:!(10/125)
«فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ؟» (الشعراء) .
وهنا يلقاه فرعون سائلا:
«فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟» .
وانظر إلى كيد فرعون في هذا السؤال الماكر.. إنه يطلب الجواب من موسى، وهو يعلم ما في لسانه من حبسة، وذلك أمام الجمع..
ويجيب موسى.. وقد أطلق الله سبحانه حبسة لسانه:
«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. (20) [طه] ويعاجله فرعون بسؤال آخر:
«فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟» ... (21) [طه] ويردّ موسى هذا الردّ المفحم:
«عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» .. [طه] وانظر كيف عدل موسى عن الجواب على سؤال فرعون، والدخول معه فى هذا المجال، الذي يكثر فيه اللجاج، ولا يستطيع أحد الخصمين- فى موقف العناد والجدل- أن ينال موقفا حاسما..
«فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟ إنه طوفان يغرق فيه من يتصدى للجواب عليه، إلا إذا كان مع من يطلب الهدى، ويسأل ليعلم، لا ليفحم.(10/126)
وانظر كيف خلص موسى من هذا الموقف الذي كان يدفعه فرعون إليه دفعا- إلى هذا العرض المحسوس الذي لا ينكر، لقدرة الله، وما لهذه القدرة من آثار تملأ وجوه الحياة! ويضيق فرعون بهذا التدبير الذي أفلت به موسى من المصيدة.. فيجىء إلى موسى من طريق آخر.. فيسأله:
«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟ (23) [الشعراء] .
ويكون جواب موسى حاضرا:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» [الشعراء] ويتلفت فرعون حوله عجبا، ودهشا، مستنكرا.. يقول لأهل مجلسه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟ ... [الشعراء] وإلى هذه الجبهة الجديدة التي فتحها فرعون يتجه موسى قائلا:
«رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» .... [الشعراء] وتثير هذه الجرأة حنق فرعون.. إذ كيف يجرؤ موسى على تخطى فرعون ومخاطبة غيره في حضرته.. أهناك من يكون له وجود مع وجود فرعون؟
ثم إن فرعون يخشى- من جهة أخرى- أن يكون لقول موسى أثر في الملأ الذين حوله.. فيقول لهم:
«إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ! ... [الشعراء] ويردّ موسى قول فرعون هذا، ويؤكد لمستمعيه ما قال من قبل، فيقول:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» [الشعراء] وفي قولة موسى هذه تحريض لهؤلاء الأتباع من قوم فرعون، أن يستقلّوا بوجودهم، وأن يحتفظوا بعقولهم، وأن يفكروا لأنفسهم، وألا يدعوا أحدا يفكّر لهم، ولو كان فرعون.. «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» !(10/127)
ويجنّ جنون فرعون لما يريد موسى أن يبلغه من القوم- قوم فرعون- من إغرائهم على الخروج عن طاعته، والخلاف عليه، فيلقاه بهذا الوعيد..
«لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» [الشعراء] ويلقى موسى هذا الوعيد بقوله:
«أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» ... [الشعراء] ويجيبه فرعون:
«فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.» .... [الشعراء] ويتوقف موسى قليلا يستجمع قواه، ويهيىء نفسه لهذا الامتحان الذي يلقى فيه بكل ما معه من أسلحة، وهو على حذر وإشفاق من أن تخونه عصاه، أو لا تستجيب له يده..
ويرى فرعون هذه الحال من موسى، ويخيّل إليه أن موسى لا يملك شيئا بين يديه، فيجدها فرصة للطعنة القاضية، يطعن بها موسى.. فيقول له:
«إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (106) [الأعراف] وعندها يكون موسى قد استجمع نفسه، واستردّ عزمه الذي ذهب به الموقف.. ولا يتكلم موسى.. بل يدع للآيات التي معه أن تتكلم عنه، وتنطق ببيان أفصح من كل بيان..
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» (107- 108 الأعراف) (32- 33 الشعراء) هكذا يحىء المشهد في كلّ من سورتى الأعراف والشعراء، على نسق واحد في النظم، لم يقع فيه أي خلاف بحرف أو كلمة، أو تقديم أو تأخير..
وهذا أمر يلفت النظر، ويدعو إلى التأمل والبحث.. حيث لا يلتزم(10/128)
القرآن الاحتفاظ بصورة النظم إلا عن قصد، ولغاية مرادة، لا تتحقق إلا بهذا الالتزام، بحيث لو اختلفت صورة النظم قليلا أو كثيرا، لفات الغرض، ولم تتحقق الغاية..
فإن من مألوف النظم القرآنى، أن ينوّع الأساليب، ويغاير بينها، إذا لم يكن في هذا التنويع، وتلك المغايرة، ما يجور على المعنى، أو ينتقص شيئا منه..
أي شىء.. وإلا فإن القرآن يكرر اللفظ ويعيده كما هو ولو عشرات المرات، كما في قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» من سورة «الرحمن» التي تكررت فيها هذه الآية بنظمها هذا، إحدى وثلاثين مرة.
والسؤال هنا:
ما سرّ التزام القرآن لهذا النظم، الذي جاء على هذه الصورة، فى كل من سورتى الأعراف والشعراء؟
والجواب- والله أعلم- أن المشهد الذي وقع من كل من العصا واليد، ظلّ على حالة واحدة ثابتة، لم يطرأ عليها تغيير من أول ما وقعت إلى أن رفعت.
فالعصا.. ألقى بها موسى من يده.. فإذا هي في الحال ثعبان مبين، مرة واحدة.
لم تتحول من حال إلى حال، ولم تتغيّر من صورة إلى صورة. كأن تبدأ صغيرة- كما هو المتوقع عادة في كل عمل إنسانى- ثم تظهر آثار التفاعل فيها، فتكبر شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها..
واليد.. أخرجها موسى من جيبه، فإذا هي كوكب دريّ متألّق.. مرة واحدة.. هكذا!! وهكذا شأن آيات الله ومعجزاته، التي يضعها بين يدى رسله.. تولد كاملة، وتظلّ محتفظة بهذا الكمال، دون أن يدخل عليها أي تغيير، حتى تزايل الموقف، فى الزمن المقدور لها أن تزايله..(10/129)
فثبات المعجزتين- العصا واليد- على هذا الوجه الذي ثبتتا عليه، اقتضى أن يكون النظم المصوّر لهما، والضابط لوقوعهما، ثابتا لا يتغيرّ، قليلا أو كثيرا..
وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن، كما أنه وجه آخر من وجوه صدقه، فى نقل الأحداث وضبطها..
وتكرار النظم لهذه الصورة وعرضها في معرضين على هيئة واحدة، هو الذي يكشف عن هذا المعنى الذي نلحظه في هذا الإعجاز الذي حملته المعجزتين، وبانتا به عن كل ما هو في مستطاع البشر أن يبلغه في مجالهما..
وإذ يرى فرعون والملأ حوله هذا الذي كان من عصا موسى ويده، تدور به الأرض، وتعتريه رعشة الخوف، ممزوجة بالغضب والحنق والنقمة، ثم لا يجد بدا من أن يقول قولا يمسك به وجوده، ووجود الملأ من حوله، وإلا استولى موسى على هذا الموقف، وأصبح السيد المتصرف فيه..
«قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ..
«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ..فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟ (34- 35 الشعراء) وتعمل هذه القولة عملها في قوم فرعون، ويصحو القوم من هذا الذهول الذي استولى عليهم، ولكنها صحوة أشبه بصحوة المخمور، يطلع عليه ما يزعجه، فيمسك بأى شىء، ويلقى بنفسه إلى أي شىء! والقوم لا يجدون شيئا يمسكون به إلا كلمة فرعون تلك، التي ألقى بها إليهم، إنه.. يسألهم فيجيبون بما سألهم.. إذ لا يملكون- فى تلك الحال المستولية عليهم- عقلا يفكر، أو رأيا يسعف..(10/130)
وقال الملأ من قوم فرعون:
«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟» . (109- 110: الأعراف) نفس الكلمات التي نطق بها فرعون.. يلتقطها القوم، ويجعلونها جوابا على ما سأل..
وهكذا يكشف القرآن الكريم عن المعجزة وأثرها في القوم، واستيلائها على وجودهم كلّه، بما لم ينكشف حتى لمن شهد الواقعة عيانا، أو وقع تحت تأثيرها مباشرة.
ويمسك فرعون مرة أخرى بخيوط واهية من الموقف الذي كاد يفلت منه، وقد شاع في قومه هذا الشعور بأن موسى ساحر عليم، فيجسّد لهم هذه المشاعر في تلك الكلمات المتحدّية المهدّدة.. يواجه بها موسى! «قال:
«أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» (57- 58) (طه) ويفزع القوم لما يسمعون من فرعون، وأن موسى يريد أن يخرجهم وفرعون معهم- من أرضهم، بقوة هذا السحر الذي بين يديه، ويتمثل لهم من هذا أنهم في وجه خطر داهم.. إن هم لم يعاجلوه بالعزم والحسم، عاجلهم بالبلاء والتشريد من ديارهم، والخروج عما هم فيه من دولة وسلطان في ظلّ من دولة فرعون وسلطانه.. إن الأمر جدّ ليس بالهزل، وإن فرعون يرى أنها معركة، وها هو ذا يحدد زمانها ومكانها.
وهنا يصحو القوم صحوة أشبه بصحوة المحتضر.. وإذا هم صوت واحد يهدّد ويتوعد، وإذا القرآن الكريم يمسك بالصميم من هذا الصوت، ويجمع(10/131)
ما تفرق منه على كل لسان، وإذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى:
«قالوا:
«أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» [يونس] ونلاحظ أن القوم قد أفاقوا شيئا من هذه الضربة، التي فاجأهم بها موسى، فكان لهم قول، لم يأخذوه من لسان فرعون.
وانظر في هذا الإعجاز الذي تتقطع دونه الأعناق.
لقد وزع القرآن هذا المشهد في أربع سور.. فجعل قولة فرعون عن موسى وسحره، فى سورة «الشعراء» .. ثم أعاد هذه القولة نفسها على لسان الملأ من قومه في سورة «الأعراف» .. ثم جعل مواجهة فرعون لموسى مهددا متوعدا في سورة «طه» .. ثم جعل ما ردّده القوم من تهديد فرعون ووعيده، فى سورة «يونس» .. وذلك حتى لا تتراكم الصّور وتتراكب، وحتى لا يقع التكرار على أية صورة.. لفظية، أو معنوية..
ثم انظر مرة أخرى، فى هذه المقولة: «فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟.
لقد جاءت على لسان «فرعون» يسأل بها «الملأ» حوله في سورة الشعراء، كما جاءت على لسان «الملأ» يسألون بها «فرعون» فى سورة الأعراف.
إنها الكلمة التي كانت تدور على كل لسان في هذا الموقف.. لا يملك أحد غيرها.. يقولها لنفسه، ويقولها لكل من يلقاه: «ما العمل» ؟
ثم يجىء الجواب ممسكا بالاتجاه الغالب الذي يكاد يستقرّ عليه الرأى، وتجتمع عليه الأكثرية:
«قالوا:
«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» [36- 37: الشعراء](10/132)
«قالوا:
«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» [111- 112 الأعراف] وقال فرعون:
«ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» [79 يونس] وإذا كان الرأى قد غلب في إرجاء موسى وأخيه حتى يعدّ فرعون العدّة للقائه، فإن الرأى يكاد يتوازن بين دعوة كل ساحر له أيّ إلمام وعلم بالسّحر، وبين دعوة كل من مهر في السحر.. فقال فريق بدعوة كل ساحر، وقال فريق آخر بدعوة كل سحّار..
ثم يجىء أمر فرعون وحكمه قاضيا بدعوة كلّ ساحر، أي كل قادر على حمل السلاح في هذه المعركة الفاصلة: «ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ! هذان مشهدان من المشاهد الأربعة التي ضمّ عليها هذا المقطع الذي قتطعناه من قصة موسى، وهو لقاؤه مع فرعون، ودعوته إلى الله، وإلى أن يرفع يده عن بني إسرائيل، ويرسلهم معه إلى حيث يخرج بهم إلى وجه آخر من الأرض غير أرض مصر..
وقد رأينا في هذين المشهدين، كيف تجتمع الصور فيهما، وكيف تتفرق، وهي في اجتماعها وافتراقها على سواء، فى عرض المشهد، وفي دقة تصويره، والإمساك بكل خاطرة وقعت فيه..
ولا أريد أن أمضى معك في عرض المشهدين الآخرين، حتى لا يطول بنا الوقوف هنا، ونبعد عن الغاية التي نحن على طريقها، مع تفسير كتاب الله..
فاصنع أنت صنيعك مع هذين المشهدين، على نحو ما رأيت في صنيعنا(10/133)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
بالمشهدين السابقين، أو على أي نحو تراه أنت.. وستجد بين يديك ألوانا مشرقة من الإعجاز القرآنى، تطالع وجوهها، فى كل وجه تلقاها عليه..
فإن أنت آثرت ألا تكلف نفسك هذا الجهد، ورأيت أن تقطف الثمر من قريب، فإنك ستجد ذلك بين يديك في كتابنا: «القصص القرآنى «1» » ..
والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
الآيات: (69- 89) [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
__________
(1) صفحة 275 وما بعدها. [.....](10/134)
التفسير:
مناسبة ذكر قصة إبراهيم، بعد قصة موسى، هى أنه في قصة موسى، قد رأى فيها المشركون أسوأ وجه لهم في فرعون، وما ركبه من عناد واستكبار واستبداد.. كما رأوا المصير الذي صار إليه هو ومن اتبعه..
وفي قصة إبراهيم يرى المشركون الجانب الآخر من هذا الوجه السيّء الذي يعيشون به في الناس.. فهم إذا كانوا قد رأوا في قوم فرعون عتوّهم واستكبارهم، فإنهم يرون في قوم إبراهيم جهلهم، وصغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم، وضآلة قدرهم فى الناس.. إذ ينقادون لأحجار صمّاء، ويعقّرون جباههم بين يدى ودمى خرساء..!
وفى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ» - يعود الضمير فى «عليهم» إلى المشركين من أهل مكة.. والنبأ: الخبر عن غائب..
وفي إضافة النبأ إلى إبراهيم، دون إشراك قومه معه، مع أن القصة حديث عنه وعنهم- إشارة إلى أن المنظور إليه هو «إبراهيم» ، وأنه هو الذي يجب أن يكون موضع القدوة والأسوة، للمؤمنين، ولأصحاب الرسالات الطيبة الداعية إلى الخير.. وعلى رأس أصحاب هذه الرسالات النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- حيث يجتمع في قومه، كبر فرعون واستعلاؤه، وصغار قوم إبراهيم، وحماقتهم..
قوله تعالى:
«إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» إن سؤال إبراهيم، هو من تجاهل العارف، الذي يسأل عن الشيء، وهو يعرف الجواب عنه.. ولكنه يريد بهذا السؤال أن يأخذ الجواب عن هذا الجرم، من فم المجرمين أنفسهم، ليكون ذلك موضعا للمساءلة والمحاسبة(10/135)
على ما نطقت به ألسنتهم.. ولهذا كان تعقيب إبراهيم على هذا الجواب، بأن سألهم قائلا:
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» ؟
وفي قولهم: «نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» تحدّ وقاح لإبراهيم، وإصرار على عبادة هذه المعبودات التي ينكرها إبراهيم.. فهو الذي يقول عنها إنها أصنام، وهو الذي يقول عنها إنما تماثيل، كما يقول: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» (52: الأنبياء) .. ونعم إنهم يعبدون الأصنام والتماثيل.. فما شأن إبراهيم؟ وماذا يريد؟ هكذا يردّون في تحدّ وسفه.
ويضع إبراهيم القوم أمام واقع يفضح ضلالهم، ويكشف صغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم.. إن هذه الأصنام التي يظلّون عاكفين عليها، جاثمين بين يديها- لا تسمع ما يقولون.. وإذن فلا يمكن أن تستجيب لما يدعونها إليه، من جلب خير، أو دفع ضر.. هذا ما تمثّل لهم في هذا الموقف، وهذا ما انكشف لهم من أصنامهم، حتى لكأنّهم يرون هذا منها لأول مرّة! ولا يجد القوم مخرجا من هذا الطريق المسدود، إلّا أن يحيلوا الأمر إلى غيرهم، ويعلقوا الجواب المطلوب على هذه الأسئلة برقاب آبائهم وأجدادهم! «قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ!» .. وإذن فنحن نفعل ما كان يفعل آباؤنا من قبل.. وما يفعله آباؤنا هو حجة علينا إن لم نفعله، ثم هو حجة لنا في وجه من ينتقص من فعلنا هذا!.
ويحيّل إليهم بهذا المنطق الصبيانى أنهم أفحموا الخصم، وأسقطوا حجته عليهم! وإذا إبراهيم يواجهم بهذا التحدي لهم، ولما يعبدون هم وآباؤهم.
«قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» .(10/136)
العدوّ: يطلق على الواحد والجمع.. والضمير فى «إنهم» يعود إلى «ما» فى قوله تعالى: «ما كُنْتُمْ» أي الذي كنتم تعبدون، وهو الأصنام..
فالعدوّ لإبراهيم، هو تلك المعبودات من الأصنام.. وعداوة إبراهيم لهذه الأصنام، ليست عداوة ذاتية لهذه المعبودات، من حيث هي نصب قائمة، وإنما لأنها مضلّة لهؤلاء الضّالين.. أما هي في ذاتها، فلا تعادى، لأنها لا تعقل، ولم يكن منها فعل تعادى من أجله.
- وفي قوله تعالى: «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» هو استثناء من العداوة التي أوقعها إبراهيم على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون من معبودات.. ولما كان من بين هذه المعبودات التي كان يعبدها القوم في مرحلة من مراحل حياتهم، الله سبحانه وتعالى، فقد استثنى إبراهيم هذا المعبود الحقّ، من تلك العداوة التي تقوم بينه وبين معبودات القوم.. وفي هذا ما يكشف للقوم على أن من بين ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، معبودا واحدا، هو الذي ينبغى أن يعبد، وهو الله ربّ العالمين، وأن ما سواه من معبودات هو باطل وضلال، وهو ما لا يمكن أن تقوم بينه وبين إبراهيم صلة، إلا أن تكون صلة عداوة وقطيعة!.
- وفي قول إبراهيم: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» دون أن يقول: «فإنى عدوّ لهم» حيث جعل العداوة منهم هم إليه، ولم يجعلها منه هو إليهم، كما يقضى بذلك ظاهر الأمر- فى هذا إشارة إلى أمور منها:
أولا: أنه لما كان الله سبحانه وتعالى في هذه المعبودات التي ذكرها إبراهيم، فقد حسن أن يجعل إبراهيم العداوة صادرة من تلك المعبودات، إلى من تعاديه.. لأن المعبود، لا العابد، هو الذي يقام لعداوته، أو رضاه،(10/137)
وزن، ويكون لعداوته أو رضاه أثر.. أما العابد، فلا وزن، ولا أثر لعداوته أو رضاه، فى من يعبده.. هكذا يجب أن يكون الحساب والتقدير..
وثانيا: أنه لما كان الوجه البارز من هذه المعبودات هو هذه الأصنام الصمّاء الخرساء- فقد حسن أيضا ألا يكون من عاقل أن يعاديها، لأنها لم يكن لها أن تفعل شيئا تعادى أو تحبّ من أجله.. وأنه إذا كان فيها من يفعل، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن عداوته لمن يعادى أو رضاه عمن يرضى عنه، هو من أمره وحده، إذ المعتبر هنا، هو عداوته لمن يعادى، أو رضاه عمن يرضى، لا عداوة من يعاديه، ورضا من يرضى عنه!.
ثم إنه بعد أن استصفى إبراهيم من بين تلك المعبودات، المعبود الحقّ، الذي يعبده، والذي ينبغى أن يعبده العابدون.. أخذ يعرض صفات هذا المعبود، وما بين يديه من سلطان مطلق، يحكم به في عباده.. فقال:
«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» .
هذا هو الإله الحق، مالك الملك، ومن بيده النفع والضرّ..
ويلاحظ هنا أن إبراهيم قد ذكر من صفات الله- سبحانه- ما يتناسب وربوبية الربّ لعباده.. فهو الذي يربّى عباده، ويحوطهم بنعمه وآلائه..
فيهدى الضالّين، ويطعم الجائعين، ويلقى خطايا المخطئين من عباده بالعفو والغفران، يوم الحساب والجزء.. ويروى الظّماء، ويشفى المرضى، ويحيى الموتى.. وفي هذا ما يكشف للقوم عن نعم الله وإحسانه إلى عباده..
وفي هذا ما يغريهم باللّياذ به، واللّجأ إليه، حتى لا يحرموا هذا الخير الكثير الذي في يديه.(10/138)
وإذ يفتح لإبراهيم هذا الباب الواسع من رحمة الله وإحسانه، فإنه يبادر بالدخول إلى هذا الجناب الرحيم، ليأخذ حظّه من الخير الممدود هناك..
فيمدّ يده طالبا الفضل والإحسان، من صاحب الفضل والإحسان.
«رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .
وأول ما طلبه إبراهيم من عطاء ربّه في هذه الدنيا، هو أن يهب الله له حكما أي سلطانا من العلم والحكمة، يمسك به حقائق الأشياء، ويقيمها على ميزانه، وبهذا يكون في المقربين الصالحين من عباد الله. ثم كان الطلب الثاني له من ربّه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين.. أي يبقى له ذكرا طيبا في الحياة من بعده، وذلك لا يكون إلّا لأهل الخير، والصلاح، من الناس..
ففى هذا الذكر الطيب، طريق من طرق الهداية للناس، حيث ينتصب لهم منه المثل الطيب، والقدوة الصالحة، وهذا ما علّم الله عباده المتقين أن يسألوه إباه، ويدعوه به، كما يقول سبحانه على لسانهم «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» (74: الفرقان) .. ثم يجىء الطلب الذي تختم به خاتمة الإنسان في هذه الآية، ويدرك به غاية مسعاه، وهو الفوز برضوان الله وجنات النعيم.
«وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وفي هذا النعيم العظيم، لا ينسى إبراهيم أباه، وما حرم نفسه منه، بضلاله، وشروده عن الله.. فيسأل ربّه أن يغفر لأبيه، حتى يذوق حلاوة هذا الرضوان: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ثم عاد إبراهيم إلى نفسه، وقد خاف أن يحرم هذا النعيم الذي هو أحرص ما يكون على أن ينال حظّه منه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ(10/139)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»
.. أي قلب خالص من الشرك، معافى من الضلال.
الآيات: (90- 104) [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
التفسير:
هذه الآيات، هى تعقيب على هذه المشاهد، التي شهد فيها المشركون من قريش، موقف أهل الضلال، كقوم فرعون وقوم إبراهيم، وما يعبدون من دون الله.. وتأبّيهم على الهدى، وخلافهم لمن يدعونهم إلى الله.. وفي هذا التعقيب، تنكشف عواقب الأمور، للمحسنين والمسيئين جميعا، فينزل كلّ منزلته، وينال كل جزاء ما عمل.
فأما المؤمنون المتقون، فتزلف لهم الجنّة، أي تدنو منهم، وتفتح أبوابها لهم فيدخلونها، وينعمون بما أعد الله سبحانه وتعالى لهم فيها من نعيم مقيم..
وكأن هذه الجنّة التي أزلفت ودنت للمتقين، كأنما هي جواب على سؤال(10/140)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
إبراهيم، واستجابة لدعوته في قوله: «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وكأن الجواب: هذه هي الجنة قد أزلفت لك وللمتقين، فتبوأ منها حيث تشاء..
وأما أهل الشقاء، والضلال، فها هي ذى الجحيم تبرز لهم، أي تطلع عليهم، ويحيط بهم سرادقها.. ثم يقال لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ أين هم؟ وما حيلتهم لكم في هذا البلاء الذي تساقون إليه؟ «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» ؟ وهل يمدّون إليكم يدا تخرجكم مما أنتم فيه؟ «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» هم لأنفسهم، إذا وقعوا فيما أنتم فيه من مهالك؟ لقد تقطع بينكم، وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون! وإذن فإلى مصيركم المشئوم: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» (7- 8: الطور) .
«فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» .
والكبكبة: أصلها الكبّ، وهو إلقاء الشيء على وجهه، والكبكبة:
تدهور الشيء وسقوطه في هوّة، حيث يكبّ مرة ومرة ومرات.
ثم إذ تجتمع هذه الأخلاط من الضلال بعضها إلى بعض، تتصارع وتتناهش كما تتناهش الحيات، يسوقها سائق عنيف إلى جحر واحد! وفي هذا الجحر الضيق الخائق، يكثر اللدغ والنّهش، ويعلو الصّراخ والعويل! «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) .
الآيات: (105- 122) [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)(10/141)
التفسير:
وعلى نهج القرآن الكريم، فى تنويع المعارض، والانتقال بالناس من مشاهد الحياة الدنيا، إلى مشاهد القيامة، ثم العودة بهم إلى حيث هم في حياتهم الدنيا، وما هم فيه من غفلة، حيث تعرض عليهم الآيات والنذر، ليكون لهم فيها عبرة ومزدجر- على هذا النهج، جاءت قصة نوح وما بعدها من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ليرى فيها هؤلاء المشركون من أهل مكة، بعد أن عادوا لتوهّم من مشاهد القيامة، وما يلقى فيها أهل الضلال من عذاب ونكال.. لعلّ في هذا ما يفتح لهم طريقا إلى الهدى والإيمان..
وفي قصة نوح صورة واضحة، تجرى فيها الأحداث على نحو مماثل تماما لما يجرى بين النبيّ وقومه.. يدعوهم إلى الله- وهو أخوهم- فلا تعطفهم عليه عاطفة النسب والقرابة، ولا ينكشف لأبصارهم شعاع من هذا النور(10/142)
المشرق الذي بين يديه، ولا يستجيب له منهم إلّا قليل من حاشية القوم، من عبيد وإماء، وصغار، وإلا بعض من أهل اللّين والتواضع، ممن لا يراهم القوم من أصحاب الجاه والسلطان فيهم! وهؤلاء الذين آمنوا من المستضعفين وأشباه المستضعفين، هم علة أخرى من العلل المريضة التي تدعو القوم إلى خلاف النبيّ، والوقوف في الجانب الآخر المعادى له.. «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» ؟ وهذا ضلال في التفكير، وسفاهة في الرأى.. فإن أول المستجيبين لأنبياء الله ورسله، كانوا دائما من عامة الناس، ممن لا يمسكهم الخوف على جاه أو سلطان أن يذهب به الدين الجديد.. وهكذا الشأن في دعوات الإصلاح والتجديد.. إن أكثر الناس حربا عليها، ووقوفا في وجهها، هم أصحاب المصالح من ذوى الرياسات المدنية أو الدينية.. على حين يكون أقرب الناس إليها، وأكثرهم استجابة لها هم من خلت أيديهم من كل سلطان مادّيّ، أو روحيّ! هكذا موقف النبيّ مع قومه، وهكذا كان موقف نوح مع قومه..
ولا يملك نوح إزاء هذا العناد الغاشم، إلا أن يرفع شكاته إلى ربّه، قائلا: «رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ» .. وإلا أن يسأله الحكم بينه وبينهم فى هذا الموقف، الذي بلغ الغاية من التأزم والحرج بينه وبينهم.. فهو إما أن يمسك عن الدعوة إلى الله، وإما أن يرجموه.. ولا ثالث غير هذين..
«فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. أي فاحكم بينى وبينهم، فإن الله هو الحكم العدل، الذي يقضى بهلاك الظالمين، ونجاة المؤمنين.. ولهذا طلب نوح النجاة له، ولمن معه من المؤمنين، من هذا البلاء الذي يحمله حكم الله في القوم الكافرين.. وقد نجّى الله نوحا ومن معه، وأغرق الكافرين الضالين.(10/143)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
وإن في ذلك لآية، فيها العبرة والموعظة، لهؤلاء المشركين من أهل مكة، ولكن أكثرهم لا يؤمنون بهذه الآيات، ولا يقفون عندها، ليطالعوا وجه العبرة فيها.
الآيات: (123- 140) [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
التفسير:
وآية أخرى من آيات الله هي في هذا الصراع الذي كان بين «هود» عليه السلام، وبين قومه. إن قوم «هود» على شاكلة قوم نوح.. سواء بسواء.. فهل يجد فيها المشركون عبرة لهم؟.(10/144)
«إن هودا» يدعوهم إلى الله، وإلى أن يستقيموا على طريقه المستقيم، وهو فى هذا الذي يدعوهم إليه، لا يريد إلّا الخير لهم، والنجاة لأنفسهم، من عذاب الله.. وليس له أجر على هذا، يقتضيه منهم، وإنما أجره على ربّه، الذي حمّله رسالته تلك.. إنه الطبيب الذي يكشف لهم عللهم وأدواءهم، ويقدّم لهم الدواء الذي إن قبلوه وتعاطوه، كان فيه شفاؤهم وسلامتهم.
وإن الداء المتمكن منهم، هو تكالبهم على الدنيا، واستعبادهم لزخارفها، دون أن يكون لهم نظر إلى ما وراء هذه الحياة..
«أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ» .؟
الرّيع: المكان المرتفع، وواحده ربعة.
فهذا هو بعض ما يشغلهم في دنياهم.. الافتنان في بناء مجالس ألهو والسّمر، والإبداع في تصويرها ونقشها، وجلب كلّ غريب نفيس إليها.. حتى لتبدو كأنها آية في الحسن والجمال.. ومن شأن الآيات أن تثير العقل، وتغذّى الوجدان، وتعلو بالنفس عن مدارج الأرض إلى معارج السماء! ولكن تلك الآيات، التي يبدعها القوم، هى آيات لاهية عابثة، تعلو بحيوانية الإنسان على آدميته، وتنتصر لجسده على روحه! «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» .؟
المصانع: الأمكنة الجيدة الصنع، وهي التي للإنسان فيها تقدير وتدبير، كما يقال: «صُنْعَ اللَّهِ» .. ويقال: رجل صنع، أي حاذق الصنعة جيّدها، وامرأة صناع.. والصنيعة: ما يصنع من خير للغير..
وهذا وجه آخر من الوجوه التي يصرف القوم فيها جهدهم، وهو أنهم يجوّدون في صناعة منازلهم وأمتعتهم، وأدوات ركوبهم.. حتى لكأنهم خالدون في هذه الدنيا، لا يموتون أبدا.. فليتهم إذ أجادوا الصنعة وأحسنوا(10/145)
العمل فيما هو لدنياهم- أن يجيدوا بعض الإجادة، ويحسنوا بعض الإحسان، لما بعد هذه الحياة الفانية.
«وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» .
فقد كان القوم على بسطة خارقة في الجسم، ومع هذه البسطة الخارقة فى الجسم قوة طاغية في الحرب والقتال.. وتلك نعمة أساءوا استعمالها، فاستبدّوا بمن حولهم، وأزعجوا أمّن جيرانهم، بغيا وعدوانا في غير رحمة..
فكانوا أشبه بالوحوش الكاسرة، تقتل كل ما يقع ليدها من حيوان أو إنسان، فى حال جوعها وشبعها على السّواء.. إنها تغذّى طبيعة الافتراس على أية حال.. وشأن القوم مع هذه العظات، شأن كل غويّ ضال، قد استبدّ به ضلاله، فلم ير إلا ما يراه، وهو الأعمى الذي لا يرى إلا ظلاما وأوهاما..
يلقاهم الداعي الكريم بهذا النذير: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» فيلقونه بهذا الرد الهازئ الساخر.
«سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» !! إننا لا نسمع لك قولا، ولا نقبل منك رأيا.
«إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» .
أي فما هذا الذي تحدث به إلا أكاذيب وأضاليل، تحدّث بها أناس قبلك، وتوعدوا الناس بالعذاب، فلم يقع شىء مما تحدثوا به.
«وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» إن كان هناك حقا عذاب. فنحن أقوى الناس قوة، وأعزهم مكانا، وأمنعهم سلطانا- فكيف نعذب؟ إنما يعذب هؤلاء الضعفاء، الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم الأيدى التي تمتد إليهم بأذى! .. ذلك ظن من غرهم(10/146)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
ما أنعم الله به عليهم من نعم، فاستكبروا، وعتوا، وقالوا ما قال صاحب الجنتين لصاحبه: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (35- 36: الكهف)
الآيات: (141- 159) [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
التفسير:
وتلك آية أخرى.. فى هذا الموقف الذي كان بين نبي الله صالح عليه السلام، وبين قومه «ثمود» ..! «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس)(10/147)
«وفي سورة هود» عرض لهذه القصة، فى معرض قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى.
والعرض الذي جاء هنا، هو مماثل في مضمونه للعرض الذي جاء في سورة هود، كما هو مماثل للمعارض التي جاءت في مواضع أخرى من القرآن، والتي تختلف بسطا وقبضا- ومع هذا، فإن في كل معرض دلالة جديدة، هى في معرضها روح يسرى في كيان الحدث كله، فإذا انضمت إلى غيرها، امتزجت بالروح الساري هناك، كما ينضم النور إلى النور، فتتسع رقعة الضوء، ولا تتغير صفته، أو كما تجتمع قطرات المطر بعضها إلى بعض، فيكثر كمها، والماء، هو الماء، صفاء، ونقاء، وطهرا.
وقد عرضنا لهذا في مبحثنا: «التكرار في القصص القرآنى» وعرضنا نموذجا للتكرار الذي جاء في قصة موسى: ورأينا كيف كان هذا التكرار مجسّما للأحداث، محركا لها، كاشفا عن ظاهرها وباطنها جميعا.. وهذا ما نجده في كل تكرار جاء في القصص القرآنى، أو في غيره من الموضوعات التي عنى القرآن الكريم بإبرازها، فى جميع وجوهها.. وهذا ما سنراه في قصة صالح، إذا نحن جمعنا للواضع التي ورد فيها ذكر من هذه القصة..
هذا، ويلاحظ التشابه القوى بين مواقف الأقوام من رسلهم، على اختلاف أزمانهم وأوطانهم.. إن رسلهم عندهم بموضع تهمة.. فهذا ساحر، أو مسحور، وهذا شاعر أو مجنون، وذك دعى يتلقى من غيره ما يحدّث الناس به.. إلى غير ذلك، مما يرمونهم به، من بذيء القول، وسفيه الحديث..
كما يلاحظ الشبه الكبير بين قوم عاد، وقوم ثمود.. من حيث فراهة الأجسام وقوة البناء. وذلك مما يقوم شاهدا على أنهم كانوا على قرابة قريبة فى النسب والجوار.(10/148)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: «وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» : أي داخل بعضه في بعض، كأنما شدخ، والطلع من النخلة أول ما يبدو من ثمرها، وهو حين تزهر، فيخرج منها الطلع على هيئة كيزان، تتشقق جوانبه، وتتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه..
وقوله سبحانه: «بُيُوتاً فارِهِينَ» أي حاذقين في صناعتها ونحتها وقوله سبحانه: «مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» أي ممن أصابهم السحر، ومسمم أثره..
وقوله جل شأن: «هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» : أي مورد، تشرب منه في يوم معين لها..
وقوله تعالى: «فَعَقَرُوها» أي ذبحوها..
الآيات: (160- 175) [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)(10/149)
التفسير:
ولا تختلف قصة لوط مع قومه، عن قصة كل نبى سبقه، أو جاء بعده مع قومه.. إنه داعية يدعو باسم ربه إلى خير، وإلى هدى، وقومه- إلا قليلا منهم- يتصدون له، ويقفون في وجه دعوته، مهددين، متوعدين، بالهلاك، أو الطرد من الديار..
وإذا كان ثمة اختلاف بين قوم وقوم، فهو في نوع الداء المتمكن منهم، والذي يتسط عليهم، ويحكم تصرفاتهم في الحياة.. فهم- أي الأقوام جميعا يحملون في كيانهم عللا نفسية، وأمراضا روحية، وعقلية، ولكنّ لكل قوم داءهم الغالب عليهم، وعلتهم المتمكنة منهم، إلى جانب العلة الغليظة المشتركة بينهم، وهي الكفر أو الشرك بالله.
والداء المتمكن من قوم «لوط» إلى جانب الكفر بالله، هو هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ويأتونه جهرة من غير حياء أو خجل، وكانوا في ذلك أول من حمل هذا الداء، الذي تفشّى في الناس فيما بعد، كما تتفشى الأمراض الجسدية، التي تظهر في الناس زمنا بعد زمن.. وفي هذا يقول الله تعالى على لسان لوط، مخاطبا إيّاهم بهذا القول: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (80: الأعراف) ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» أي أتتصلون بالذكور، من(10/150)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
بين العالمين، وبهذا تكونون أول من يذيع هذه الفاحشة في المجتمع الإنسانى! وقوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» .. عادون: جمع عاد، وفعله: عدا يعدو عدوانا، والعدوان: مجاوزة الحد، والخروج عن الطريق القويم.
وقوله سبحانه: «قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ» .. القالي: المجانب للشىء الكاره له..
وقوله تعالى: «إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» .! العجوز: هى امرأة لوط، فقد كانت من المخالفين للوط، فأهلكها الله بما أهلك به القوم.. وفي هذا يقول الله تعالى:
«إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (33: العنكبوت) .
والغابرون: أي الماضون، الذي هلكوا.
وقوله تعالى: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» المطر هنا، هو ما رماهم الله سبحانه وتعالى به من حجارة. أتت على القوم، وعلى ديارهم جميعا.. كما يقول سبحانه «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ» (82- 83: هود) .. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله:
«فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» .. أي أنه مطر يسوء من يحلّ به، ويقع عليه، وليس هو المطر الذي ينزل بالخصب والخير.. ونسبة السوء إلى المطر.. لأنه هكذا كان مطلعه عليهم، وأثره فيهم..
الآيات: (176- 191) [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)(10/151)
التفسير:
والداء الذي تمكّن من قوم شعيب، وتسلط على سلوكهم في الحياة، إلى جانب الداء الغليظ، وهو الكفر- هذا الداء، هو التلاعب بالمكاييل والموازين، والتعدّى على حقوق الغير بهذه السرقة الخفية، وخيانة الأمانة في الكيل والوزن..
ومع من هذا العدوان؟ إنه مع بعضهم.. فكل منهم يخون صاحبه..
فهذا يخسر الكيل وينقص الميزان مع غيره إذا كال له، أو وزن.. ثم هو يلقى نفس العمل إذا كيل له أو وزن له.. إنه يسرق، ويسرق.. وتلك حال لا ينتظم بها أمر مجتمع، ولا تقوم عليها صلة مودة، وإخاء، بين الناس والناس..
فكل منهم على اتهام لكل الناس، وعلى عداوة لكل من يتعامل معه..
آخذا أو معطيا.(10/152)
ولا يلقى شعيب من قومه- إذ يدعوهم إلى التي هي أحسن- لا يلقى منهم إلا التهديد والتكذيب، وإلا السّفه والتطاول، وإلا التحدي بنزول العذاب عليهم، إن كان صادقا.. «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .
وقد سقط عليهم العذاب الذي طلبوه.. فهلكوا به! ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: «أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الأيكة: الأرض ذات الشجر الكثير الكثيف، وكان أصحابها من أرض مدين بالشام.
وقوله تعالى: «بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ» : الميزان المعتدل، القائم على الحق..
وقوله سبحانه: «وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» : الخلق الذين كانوا قبلهم..
وقوله تعالى: «كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» : أي قطعا تنزل من السماء، من حجارة أو نحوها.
وقوله سبحانه «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» .. الظلة ما أظلهم وأطبق عليهم في هذا اليوم من عذاب الله.
هذا، ويلاحظ أنه لم يقترن «شعيب» بالوصف الذي وصف به الأنبياء، بأنه أخو القوم، فقد جاء النظم القرآنى هكذا: «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ» .. ولم يحىء على هذا النظم: «إذ قال لهم أخوهم شعيب» .
وليس هناك من سبب- والله أعلم- إلا البعد عن الرتابة، والتكرار، الذي يخلو من الفائدة، التي تلازم دائما كل تكرار جاء في النظم القرآنى..
فقد ذكر في غير موضع أن شعيبا، هو من القوم وهو بهذا أخ لهم، كما جاء فى قوله تعالى: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» (84: هود) .(10/153)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
وفي قوله سبحانه: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» (85: الأعراف) .
وملاحظة أخرى في التعقيب الذي لزم كل قصة من هذه القصص جميعا، بلا استثناء، وهو قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
ففى كل قصة من هذه القصص، آية، فيها مزدجر لمن سيقت فيهم القصة ولمن يأتى بعدهم.. ولكن لم يكن في هذه الآية ولا في الآيات التي تلتها، ما يفتح هذه العقول المغلقة، ولا ما يهدى هذه العيون العمى.. فأبى أكثر الناس إلا كفورا.. وقليل هم أولئك الذين نفعتهم هذه الآيات، وأغنتهم تلك النذر، فآمنوا، واهتدوا، ونجوا من بلاء الدنيا، وعذاب الآخرة..
أما التعقيب على القصص بقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .
فإن وصف الله سبحانه وتعالى بالعزة، يكشف عما لله سبحانه وتعالى من سلطان قاهر عزيز، بحيث يأخذ بناصية كل من يخرج عن سلطانه، ويكذب رسله.. ولكن مع هذه العزة القاهرة، رحمة الرحيم، الذي أمهل الظالمين، ومدّ لهم في العمر، وبسط لهم في الرزق، ولو أخذهم بذنوبهم لحرمهم شربة الماء، ونفس الهواء..
الآيات: (192- 209) [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 209]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)(10/154)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. الضمير فى «إنه» يعود إلى هذا القصص الذي قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم، فى هذه الآيات، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (62: آل عمران) .
وكما يقول جل شأنه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (13: الكهف) وكما يقول سبحانه وتعالى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» (3: يوسف) .
فالتعقيب على هذا القصص الذي اشتمل على أخبار سبعة أنبياء، مع أقوامهم، ومن أرسلوا إليهم، وهم حسب ترتيب ذكرهم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب- التعقيب على هذا القصص بهذه الآيات، وهو رد على ما يدور في خواطر المشركين، وما يتهامسون به حينا، ويجهرون به حينا، من أن هذا القصص، إنما هو من أساطير الأولين، ومن(10/155)
وإرادات هذا المورد الذي ينبع من الأوهام والخيالات..
وقوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» .
هو بيان لمتنزل هذا القصص، والمصدر الذي جاءت منه أخباره..
وأن متنزل هذا القصص، هو السماء، وأن مصدره، هو الله رب العالمين، وأن حامله إلى الرسول، هو الروح الأمين، وهو جبريل عليه السلام..
الذي هو أمين على أداء ما اؤتمن على أدائه، من كلمات الله، إلى رسول الله..
وفي قوله تعالى: «عَلى قَلْبِكَ» إشارة تمكن وصول كلمات الله إلى الرسول، وأنها لم تلق على سمعه وحسب، بل إنها نفذت إلى أعماقه، وخالطت مشاعره، واستقرت في قلبه..
[كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي؟]
كان أكبر همّ الذين صوبوا سهامهم إلى سيرة النبي، وإلى الرسالة الكريمة التي تلقاها من ربه، وقام بتبليغها للعالمين- كان أكبر همهم، أن يقطعوا صلة النبي بالسماء، وأن ينفوا عن القرآن أنه كلام الله، وأنه كتاب سماوى لشريعة الإسلام.. ثم لا حرج عندهم بعد هذا أن يسلّموا «لمحمد» بكل شىء..
فليكن مشرّعا عظيما، وليكن مصلحا عبقريا.. ليكن كما يشاء ويشاء له أتباعه، إلا أن يكون نبيا ورسولا، وإلا أن يكون صاحب رسالة سماوية، منزلة من رب العالمين.. فذلك ما يكثر شغبهم عليه، وتشرع سهامهم له، ولو كان في ذلك مصرعهم! وغاية هذا المكر الخبيث، هو أن ينفوا عن شريعة الإسلام صفة القداسة،(10/156)
وأن ينزلوها منزلة الشرائع والمذاهب الوضعية، ليكون ذلك داعية إلى الجرأة على العبث بها، وجعلها في معرض التجريح والتعديل، والتبديل، حسب مقتضيات الأهواء والنوازع..
ومن عجب أن يعوّل الطاعنون في نبوة النبي من المستشرقين، والملحدين- من عجب أن يقولوا في دراستهم لأحوال النبي مع الوحى، على الأحاديث والأخبار التي رواها الثقات من المسلمين، عن رسول الله، - صلوات الله وسلامه عليه- أو شاهدوها من أحواله عند الوحى، ثم يجعلوا هذه الأخبار، والأحاديث دليلا على نفى الوحى، الذي كانت تلك الحالات أعراضا له، وشواهد عليه..
وقد يكون من المستساغ أن يحلى هؤلاء الطاعنون أيديهم من الأحاديث والأخبار، التي تحدّث عن الوحى، وعن الأحوال التي كانت تعرض للنبى منه، ثم لينسجوا من مقولاتهم ومفترياتهم ما يشاءون، للطعن في حقيقة الوحى، وفي صحة ما يوحى إلى النبي.. فذلك على ما فيه من تلفيق وتزييف، أقرب إلى المنطق، من معالجة الحقائق الثابتة، وتحويلها إلى مخلوقات من الباطل الصريح..
إن خلق الشيء ابتداء أيسر من إقامته من أنقاض شىء آخر..
إنه بناء من أول الأمر، ولو كان هذا البناء على شفا جرف هار.. أما الخلق من شىء آخر.. فهو هدم وبناء.. يهدم الشيء ثم يبنيه من أنقاض ما هدم.. إنه أشبه بالثوب الجديد، يمزق قطعا ثم يعاد جمعه من تلك الأمزاق.. ولثوب بال مهلهل، خير من هذا الثوب المرقع.. كذلك فعل الملحدون الطاعنون في رسالة الرسول، وفيما تلقاه وحيا من ربه..(10/157)
جاءوا إلى هذا النسج المتين المتلاحم، فجعلوه أمزاقا، ثم وصلوا تلك الأمزاق بعضها ببعض، فكشف ذلك عن جنايتهم، وفضح مكرهم وسوء تدبيرهم..
إنهم ينقلون الأخبار الصحيحة، ويعمدون إلى الحقائق الثابتة من أوثق المصادر الإسلامية، ثم يتناولونها كما يتناول الحيوان فريسته، بمخالبه وأنيابه حتى إذا أسالوا دمها، وأخمدوا أنفاسها، ومزقوا أشلاءها- حاولوا أن يجمعوا من أشلاء هذه الحقائق الممزقة المتناثرة كائنا آخر، هو هذا الباطل، الذي يريدون أن يقيموه مقام الحق..
وهم- هنا- فى حقيقة الوحى، يعمدون إلى الأحاديث المروية عن الرسول، والأخبار المشاهدة من أحواله مع الوحى ثم يصوّبون إلى هذه الأحاديث وتلك الأخبار، سهاما مسمومة، يحرفون بها الكلم عن مواضعه، ليفسحوا لباطلهم، مكانا يشوّه الحق، ويشوش عليه..
فمن الأحاديث المروية عن الوحى وكيف كان ينزل على النبي، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن السيدة عائشة، أن الحارث بن هشام، سأل النبي صلّى الله عليه وآله: كيف يأتيك الوحى؟ فقال: «أحيانا يأتينى في مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه على، ثم يفصم عنى وقد وعيته.. وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا، فيكلمنى، فأعى ما يقول» ومن ذلك ما يروى عن السيدة عائشة أيضا أنها كانت تقول: «إن كان لينزل- أي الوحى- على رسول الله صلّى الله عليه وآله، فى الغداة الباردة ثم تفيض جبهته عرقا» ومن ذلك ما يروى عن عبادة بن الصامت، أنه قال: «كان نبى الله(10/158)
صلى الله عليه وآله- إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك، وتربّد وجهه» ..
أي تغير.
وهذا يعنى- كما هو ظاهر- أن اتصال النبي بالوحى، كان يستدعى منه مجاهدة روحية، ونفسية، وجسدية، كى تتيح له هذه المجاهدة، حالا مناسبة للعالم الروحي، الذي يتصل به.. إنه لقاء بين طبيعتين مختلفتين.. طبيعة بشرية، وطبيعة ملكية.. ولا بد أن يحدث هذا اللقاء احتكاكا، وتفاعلا، وفورانا.. فى الطبيعتين على السواء، حتى يلتقيا لقاء، يتم به التجاوب، والتفاهم! يقول «ابن خلدون» ، فيما يعرض للأنبياء عامة عند تلقى الوحى:
«وعلامة هذا الصنف- أي الأنبياء- من البشر، أن توجد لهم في حال الوحى غيبة عن الحاضرين معهم.. مع غطيط، كأنها- أي الحال- غشى أو إغماء في رأى العين، وليست منهما في شىء، وإنما هي في الحقيقة، استغراق في لقاء الملك الروحاني، بإدراكهم المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر بالكلية.، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية، بسماع دويّ من الكلام، فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله.. تنجلى عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقى إليه.. ويدركه- النبي- أثناء ذلك من الشدة والغطّ ما لا يعبر عنه:
ففى الحديث: «كان مما يعالج من التنزيل شدة» .. وقالت عائشة: «كان ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا» وقال تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (5: المزمل) ثم يقول ابن خلدون: «ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحى، كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون: «له رئىّ» أي تابع من الجن.. وإنما(10/159)
لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال «1» » .
ثم يمضى ابن خلدون، فى تقدير هذا الرأى، فيقول: «وهؤلاء الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم- قد جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، فطرة فطرهم الله عليها، وجبلّة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه، ماداموا ملابسين لها- أي الموانع- بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة، التي يحازون بها تلك الوجهة- أي الوجهة الملكية- ووكز في طباعهم رغبة في العبادة، تكلف بتلك الوجهة، وتسيح «2» نحوها..
فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ، متى جاءوا- بتلك الفطرة التي فطروا عليها، لا باكتساب ولا صناعة.. فلهذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه، وعاجوا- أي مالوا- به على المدارك البشرية، منزلا في قواها، لحكمة التبليغ للعباد.. فتارة يسمع دويا، كأنه رمز من الكلام، يأخذ منه المعنى الذي ألقى إليه، فلا ينقضى الدويّ، إلا وقد وعاه وفهمه، وتارة يمثل له الملك الذي يلقى إليه، رجلا، فيكلمه، ويعى ما يقوله.
ثم يقول: «واعلم أن الأولى- وهي رتبة الأنبياء غير المرسلين، على ما حققوه- أي العلماء- والثانية- وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب النبي- هى رتبة الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأول..
«إنما كانت الأولى أشد، لأنها مبدأ الخروج، فى ذلك الاتصال من القوة
__________
(1) مقدمة ابن خلدون صفحة 88.
(2) فى الأصل، تكشف، وتسبغ.. وهو تجويف.(10/160)
إلى الفعل، فيعسر بعض العسر.. ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط، ما هو معروف.
«وسبب ذلك، أن الوحى، كما قررناه، مفارقة البشرية، إلى المدارك الملكية، وتلقّى كلام الملك، فيحدث عنه شدة، من مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها عنها، من أفقها، إلى الأفق الآخر، وهذا معنى الغلط الذي عبر عنه النبي في مبدأ الوحى في قوله: «فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، وكذا ثانية، وثالثة.. كما في الحديث» .
ثم يقول ابن خلدون: «وقد يفضى الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا، إلى السهولة، بالقياس إلى ما قبله.. ولذلك كانت تنزل نجوم القرآن، وسوره، وآيه- حين كان بمكة- أقصر منها، وهو بالمدينة..
«وانظر إلى ما نقل- أي روى- فى نزول سورة «براءة» فى غزوة «تبوك» وأنها نزلت كلها، أو أكثرها، عليه- أي على النبي- وهو يسير على ناقة، بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصّل: فى وقت، وينزل عليه الباقي، فى حين آخر.. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدّين، وهي ما هي في الطول، بعد أن كانت الآية تنزل بمكة، مثل آيات الرحمن، والذاريات، والمدثر، والضحى، والفلق، وأمثالها ... » «1»
هذه بعض الأحاديث والأخبار، التي روتها كتب الحديث والسيرة، فى شأن الوحى، واتصال النبي به.. وقد عرضنا رأى عالم مفكر من علماء المسلمين، ومفكريهم، فى هذه الأحاديث، وفهمه لها، وتصوره للوحى،
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص: 94(10/161)
وللصلة التي بين النبي، وبين الملك المبلّغ له كلمات ربه، على نحو ما يفهمه المسلمون من هذه الأحاديث، وما يتفق ومقررات الشريعة الإسلامية..
وقد اتخذ الملحدون- كما قلنا- من هذه الأحاديث، وتلك الأخبار، مادة لخلق المفتريات، والأكاذيب، للطعن في رسالة الرسول، والتشكيك في صدق ما جاء به.. إذ كان عندهم، أن ذلك الذي نطق به النبي، وسماه قرآنا، ليس إلا هذيان محموم، وأخلاط مصروع، لا يعى ما يقول..
وشاهدهم على هذا، تلك الأحوال الجسدية، التي كانت تعرض للنبى، حين ينزل عليه الوحى، ويلقى إليه بما أمر الله أن يبلغه إياه..
وأعجب ما في هذا الموقف من أولئك الملحدين، الذين يقولون هذه المقولات، أنهم يلتقطون من الآيات، والأحاديث، والأخبار، كلمات، يتخيرونها، ويقتطعونها من الكيان الكلى للحقيقة، ويعزلونها عن السياق الذي تجرى فيه، ثم يقيمون عليها ما يقيمون من دعاوى ومفتريات..
والذي كان يقتضيه الأسلوب العلمي، فى البحث عن الحقيقة هنا، هو التثبت أولا من هذه الآثار، والوصول إلى حكم قاطع فيها، وفي مصادرها..
أهى صادقة، أم كاذبة؟ ثم يأتى بعد ذلك دور التطبيق لها، والتعامل بها..
فإما أن تقبل جميعا، أو تردّ جميعا، - أما أن يؤخذ من الخبر بعضه، ويترك بعضه، فذلك هو التلفيق، الذي لا تقوم به حقيقة أبدا! ونسأل أولا:
ما رأى هؤلاء الملحدين في هذه الأحاديث وتلك الأخبار- ما رأيهم فيها؟
وما مقدار اطمئنانهم إليها؟ أهي من الوثائق الصادقة في نظرهم؟ أم هي أحاديث موضوعة مكذوبة؟ فإن كانت الأولى، كان من المنطق والعدل، أن يأخذوا(10/162)
بها، وبكل ما جاء فيها.. وإن كانت الثانية، طرحوها، وبحثوا عن وثائق أخرى، يجدون فيها الصدق الذي يطمئنون إليه..!
ولو أننا تركنا هذه المفتريات جانبا، وضربنا صفحا عنها، لما وقع عندنا أن أحدا يعقل- مجرد العقل- أو يفهم- أدنى الفهم- يأخذ بهذه المقولات، ويضيف شيئا منها إلى سيرة الرسول، يمس جانب النبوة فيه، أو يغمز الصلة القائمة بينه وبين السماء، ورسول السماء! فليس يصح في عقل عاقل أن تجىء المصادر الإسلامية، بما يتهم الرسول بالصرع والجنون.. إذ كيف يسوغ لمؤمن، أن يروى حديثا عن رسول الله، أو ينقله عنه إمام من أئمة الحديث، ويكون في هذا الحديث، ما يعزل النبي عن النبوة.. ثم يصدّق بنبوته، ويدين بشريعته، ويتعبّد بالقرآن الذي نزل عليه؟.
هذه واحدة، تفضح فهم الملحدين لهذه الأخبار، وتخريجهم الملتوى السقيم لها.. وأخرى.. يسجلها الواقع، ويشهد لها التاريخ شهادة ناطقة بلسان بيّن على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان- وهي أنه ما كان لمصروع أو مجنون أن يقيم مجتمعا يدين لرسالته بالولاء، تلك الأجيال المتعاقبة عبر القرون، وتزداد مع الأيام اتساعا وامتدادا.. لا بعصبيّة أهله، ولا بقوة أتباعه، وإنما بما في الرسالة ذاتها من قوى ذاتية، تلقى الناس في كل أفق من آفاق حياتهم، وتلتقى مع كل طريق يتجهون فيه إلى الحق والخير، والعدل، والإحسان! ويكفى هذا وحده، فى فضح هذا الزور، وإلباس أهله الخزي والصغار! أمجنون، مصروع، يبنى دولة، وينشىء نظاما، ويقيم دينا يعيش في الناس(10/163)
منذ قام إلى اليوم، دون أن يصاب بنكسة أو خلل؟ ثم أمجنون، مصروع، ثبت لهذه العواصف العاتية المزمجرة، وحيدا في وجه أمة صحراوية النفوس صخرية الطباع، ثم لا يكون منه في حال من الأحوال، تخاذل أو ضعف، حتى تخصب هذه النفوس، وتلين تلك الطباع، وتخرج من أحشاء هذه الصحراء قادة الإنسانية، وأساتها، ومطلع شموس العلم والمدنية فيها؟
ثم! ثم أمجنون مصروع، مختلط العقل، هذا الذي يأسر قلوب معاشريه، ويملك أنفسهم، فإذا القلوب خافقة بحبه، وإذا النفوس لا تعرف لها غذاء إلا من ينابيع الحبّ له، ولولاء لشخصه، والتفانى في سبيل مرضاته؟
إن التاريخ، لا يذكر في سجله يوما، أن إنسانا كان له في الناس رصيد من الحب والولاء، ما كان لمحمد في هذه الدنيا من حب وولاء..!
ولا نسوق لهذا كثيرا من الأمثال، ففى كل خطوة من خطوات النبي، على مسيرة دعوته، شواهد تقوم من كل جانب، تنطق بما كان لمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- من سلطان على النفوس، ملكها بالإعجاب، والحب والولاء..
ففى بيعة الرضوان، ومعسكر الرسول بالحديبية، يريد دخول مكة، زائرا للبيت الحرام، وقريش تقف له، وتصده عن بيت الله.. وكادت تكون الحرب.. ثم بعثت قريش عروة بن مسعود، ليجد مع النبي سبيلا للخروج من هذا الموقف.. وقد التقى عروة بالنبي، وتحدث إليه، ورأى عن قرب ما للرسول الكريم عند أصحابه. من حب، يعلو كل حب عرفه الناس بين محب ومحبوب..
فلا يتوضأ النبي إلا ابتدر أصحابه وضوءه، وتسابقوا إليه، ولا يبصق بصاقا إلا تلقّوه، ولا يسقط من شعره شىء إلا تهافتوا عليه- رأى عروة هذا، رأى(10/164)
العين، فلما عاد إلى قريش، حدثهم بما رأى، وما وقع في نفسه من هذا الذي رآه، فقال: «يا معشر قريش.. إنى قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشيّ في ملكه.. وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل «محمد» فى أصحابه.. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا، فروا رأيكم» «1» وخذ مثلا آخر وقع خبّاب بن عديّ- رضى الله عنه- فى يد قوم من المشركين قبل الفتح، وأراد القوم أن يتقربوا به إلى قريش، ليكون في ذلك بعض الشفاء لهم مما في قلوبهم من موقعة بدر.. وحين قدّم خباب للقتل، قال له أبو سفيان، فى شماتة واستخفاف: «أيسرّك أن محمدا هنا تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟» فقال خبّاب في ثبات جنان، وقوة إيمان: لا، والله ما يسرنى أنى في أهلى وأن «محمدا» فى مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه.» «2»
فانظر إلى هذا الحب، وإلى تلك المشاعر القوية الصادقة المنبعثة منه، والتي تعلو بصاحبها فوق كل ما يحرص عليه الناس في دنياهم من نفس، وأهل، ومال..
رجل بين النطع والسيف، يهيج فيه أبو سفيان غريزة الحب للأهل والولد، فى تلك الساعة، والموت منه بمرصد، ويعرض عليه أمنية يكون فيها خباب بين أهله، ومحمد في هذا الموقف الذي فيه خباب.. فيندفع خباب يهدر في غيظ وحنق.. لا والله لا أرضى أن أكون في أهلى، على أن تصيب «محمدا» شوكة وهو في أهله!!
__________
(1) السيرة لابن هشام: جزء/ 3 ص 56
(2) زاد المعاد، من هدى خير العباد/ جزء/ 2 ص 27(10/165)
ومثل ثالث..
«أم حبيبة» زوج النبي، وبنت أبى سفيان، يدخل عليها أبوها في منزلها بالمدينة، قبل أن يدخل في الإسلام، وكانت قريش قد بعثته، ليوثّق الهدنة التي كانت بينها وبين المسلمين وليزيد في مدتها..
وليس هذا، هو المهم.. وإنما المهم هو الآنى:
عند ما دخل أبو سفيان على ابنته أم حبيبة، أراد أن يجلس، ولم يكن فى البيت غير فراش الرسول شىء يمكن أن يصلح للجلوس.. فهمّ أن يجلس على هذا الفراش، ولكن ابنته ردته عنه، وطوته دونه.. فعجب لذلك، وقال: يا بنية.. ما أدرى أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنى؟
قالت بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنت رجل مشرك..
نجس.. ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله! فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر «1» !!» .
والصورة في غنى عن كل تعليق. وحسبنا أن ننظر فنرى أبا سفيان سيد قريش، يدفع عن أن يلمس فراش رسول الله، ثم أن تكون اليد التي تدفعه، هى يد ابنته.!
وليس هذا الحب والتقدير للنبى، وقفا على أتباعه، بل إن كثيرا من أحرار العقول والقلوب، من مفكرى الغرب، قد انتصروا للحق، فرأوا «محمدا» على صورة أقرب إلى تلك الصورة التي يراها عليه أكثر أتباعه معرفة به، وحبا وإكبارا له..
__________
(1) زاد المعاد. جزء 1 ص 56.(10/166)
يقول «برنارد شو» فيلسوف الغرب في القرن العشرين الميلادى:
«لقد كان دين محمد موضع تقديرى السامي، دائما.. لما ينطوى عليه من حيوية مدهشة.. لأنه- على ما يلوح لى- هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة.. ولذلك فإنه يستطيع أن يجلب إليه كل جيل من الناس..
ثم يقول: لقد عمد رجال «الا كليروس» فى العصور الوسطى، إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان، وذلك بسبب الجهل أو التعصب الذميم..
والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد، وكراهية دينه، ويعدّونه خصما للمسيح.. أما أنا، فأرى واجبا أن يدعى محمد منقذ الإنسانية.. وأعتقد أن رجلا مثله، لو تولى زعامة العالم الحديث، فإنه سينجح في حل مشكلاته، وإحلال السلام والسعادة، فى العالم، وما أشد حاجة العالم إليها اليوم» ..
وحسبنا هذه الشهادة، من رجل لا يدين بالإسلام، ولا يتهم بتعصب لنبى الإسلام، تحت مشاعر الولاء الديني له.. بل إنه ليقول هذه الحقيقة عن منطق العقل الحر، البعيد عن كل تأثير عاطفى..
بقيت هنا مسألة، هى في الواقع كانت مبعث هذا البحث، وهي صورة الوحى الذي كان ينزل على النبي: أهو القرآن الكريم بكلماته ومعانيه؟
أم هو معانى القرآن، ثم يصوغها النبي في قوالب لفظية؟ أو بمعنى آخر.. هل القرآن لفظا ومعنى، كان وحيا من السماء، وليس للنبى إلا تلقى هذا الوحى وتبليغه.. أم أن المعنى من الله، واللفظ من محمد؟.
وقد أثار هذه المسألة، ما جاء في قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى(10/167)
«قَلْبِكَ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» «193: الشعراء» .. فكان من مقولات بعض المفسرين في هذه الآية، أن النبي صلوات الله وسلامه عليه، كان يتلقى من الوحى معانى القرآن، ثم ينقل هذه المعاني إلى كلمات.. وهذا يعنى أن القرآن سماوى المعنى، أرضى اللفظ!.
وهذه المقولة من بعض المفسرين، هى ضمن مقولات كثيرة، ينقلونها حكاية عن بعض الرواة ونقلة الأخبار، وهم يريدون بهذا أن يضعوا كل ما بلغهم من مقولات، دون أن يتحملوا تبعة تجريحها أو تعديلها، تاركين لغيرهم مهمة القبول أو الرد، والتعديل أو التجريح.. ونسوا أن هناك متربصين بكتاب الله وبرسول الله، مهمتهم هي اصطياد هذه المقولات المريضة، ثم محاجّة المسلمين بها، لأنها أبلغ حجة، إذ كانت مما قاله المسلمون فى كتابهم..
وندع هذا، لنقول: إن معنى الآية واضح صريح، فى أن القلب هو وعاء الإدراك السليم، والفهم الصحيح، وهو موطن المعتقدات القائمة على الفهم والإدراك.. فنزول كلمات الله على قلب النبي، معناه تمكن هذه الكلمات من القلب، ونفاذها إليه مباشرة، من غير معوّقات.. فليس كل كلام ينفذ من السمع إلى القلب. وليس كل مستمع بأذنه مصغيا بقلبه.. فهناك كلام هو مجرد ألفاظ جوفاء، تطنّ في الأذن، دون أن تجد طريقها إلى القلوب..
ومن هذا ما يروى عن الحسن البصري- رضى الله عنه- أنه سمع واعظا يعظ في مسجد البصرة، فوقف مليا يستمع إليه، فلما لم يجد ما ينفذ إلى قلبه منه، انصرف عنه قائلا: «يا هذا.. بقلبك شىء أو بقلبي» ! وكم من كلام طيب، لا يجد الآذان التي تسمع، وإن وجد الآذان السامعة(10/168)
لم يجد القلوب الواعية الفاقهة.. وفي هذا يقول الغزالي:
غزلت لهم غزلا رفيعا فلم أجد ... لغزلى نسّاجا فكسّرت مغزلى
وقد كانت قلوب كثير من المشركين من هذه القلوب المغلقة، التي لا تقبل الهدى، ولا تطمئن إليه.. فكانوا يستمعون إلى كلمات الله دون أن ينفذ إلى قلوبهم شىء من شعاعها السنىّ الوضيء.. وفي هذا يقول الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» (57: الكهف) إن بين الأذن والقلب ما بين الماء والأرض.. فإذا نزل الماء بالأرض الصلد، زال عنها، وأخذ طريقه إلى غيرها، وإذا نزل بالأرض الطيبة، سكن إليها، فاهتزت به، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج.. وكذلك كلمات الله، إذا مرت بالقلوب القاسية المظلمة، لم تترك فيها أثرا، ولم تثر منها إلا ما كمن فيها من ظلم وظلام، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» «200: الشعراء» أما إذا نزلت هذه الآيات في القلوب السليمة، الطيبة، هشّت لها، وغردت بلابل أيكها لهذا الحيا الذي يحيى موات القلوب! «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) .
فالقلوب، هى مستودع المعتقدات، وموطن المعقولات، من كل طيب وفاسد، وصحيح، وسقيم.. ولهذا كان نطق الأعراب بكلمة الإسلام، دون أن تسكن هذه الكلمة إلى مكانها من قلوبهم- كان هذا مجرد مدخل يدخلون به إلى الإسلام، فتعصم به دماؤهم وأموالهم، أما الإيمان، فليس لهم بعد نصيب منه، حتى يدخل الإيمان في قلوبهم.. وفي هذا يقول الله تعالى:(10/169)
«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) .. ومنه قوله تعالى في المنافقين: «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» (11: الفتح) .. أما المؤمنون، فالإيمان ملء قلوبهم، يعمرها باليقين والسكينة، والرضا.. كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» (22: المجادلة) .. أي مكنه من قلوبهم، وثبته فيها كما يثبت الشيء بالكتابة..! وأصله من الكتب، وهو ضم الشيء إلى الشيء، ووصله به.
وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» أنه ثبّت ما نزل به الوحى في قلبه، ومكن له فيه- فكان قلبه- صلوات الله وسلامه عليه- مستودع كلمات الله، تجد فيه مستقرها ومستودعها، حيث تعطى أكثر ما فيها من ثمر مبارك طيب، وحيث تنزل الكلمة الطيبة، فى هذا القلب الطيب المصفى من كل دخل، فتكون كما وصفها الله في قوله تعالى: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (24- 25: إبراهيم) ومن هنا تتحول كلمات الله في قلب الرسول إلى معان شريفة كريمة، وإلى سلوك شريف كريم.. فكان الرسول بهذا الأدب الرّبانى، كما يقول عن نفسه، صلوات الله وسلامه عليه: «أدبنى ربى فأحسن تأديبي» .
وكما تقول السيدة عائشة، رضى الله عنها، عنه: «كان خلقه القرآن» هذه واحدة..
وأخرى.. هى أن إعجاز القرآن، ليس في معانيه، وإن كانت تلك المعاني معجزة في سموها، واستوائها على ميزان، الحق، والعدل، والإحسان..
ولكن المعجزة المتحدية في القرآن هي نظمه الذي جاء عليه، وبلاغة هذا النظم هو الذي أعجز منطق العرب، وأخرس ألسنتهم.. ولهذا فقد تحداهم القرآن أن(10/170)
يأتوا بعشر سور من مثله، فى أي معنى يرد على خواطرهم، ولو كان من صيد الوهم والخيال.. «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» (13: هود) .
وثالثة..
وهي أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه، كان يتلقى من جبريل كلمات ربه، فيحمله الحرص على الإمساك بها أن يبادر بترديدها على لسانه، قبل أن يفرغ جبريل من إلقاء ما أمر بإلقائه إليه، وفي هذا يقول الله تعالى له: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (114: طه) ويقول:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
(16- 18: القيامة) فأى شىء كان يقرؤه جبريل على النبي، حتى يتّبع ما يقرؤه عليه؟ أكان معانى مجردة من ألفاظ؟ ثم هل يمكن أن يقوم المعنى مجردا من اللفظ الدال عليه، الكاشف عن حقيقته؟.، كيف؟ كيف؟
ورابعة..
وهي أن هذا القرآن وصف بأنه كلام الله، وذلك في أكثر من موضع فى القرآن نفسه.
فقال تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» (6: التوبة) .
ويقول سبحانه: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» (15: الفتح) ويقول سبحانه:
«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75: البقرة) .(10/171)
فكيف يصحّ مع هذا أن ينسب القرآن إلى الله، بهذا الوصف، فيقال عنه إنه كلام الله، إذا كان المعنى من عند الله، واللفظ من عمل محمد؟ وهل الكلام إلا هذه الألفاظ التي صيغت فيها هذه المعاني، وصبّت في قوالبها؟
إننا نأسف كثيرا، إذ نرى مثل هذه المقولات، تأخذ مكانها في كتب التفسير، ولو كانت على سبيل الحكاية لمقولات غير المؤمنين.. فكيف وهي تنسب إلى أئمة أعلام، وتدس عليهم من أعداء الإسلام. ثم تؤخذ هكذا على علاتها، دون أن تؤد في مهدها، وترد على المفترين والمروجين لها؟
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟» .
الضمير فى «إنه» يعود أيضا إلى القصص القرآنى، كما عاد إليه الضمير فى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
وقد خالفنا في هذا أكثر المفسرين، الذين جعلوا الضمير في الموضعين عائدا على القرآن الكريم.. وجعلناه نحن عائدا على القصص القرآنى وحده..
وقد رجح عندنا هذا الرأى لأمرين:
أولا: أن أكثر ما كان يتهم به النبي عند المشركين في شأن القرآن، هو ما جاء فيه من أخبار وحوادث، من القرون الغابرة، والعصور السحيقة..
ولهذا، فقد كان الأمر في تقديرهم لا يعدو أن يكون استماعا من النبي لهذه الأخبار، ثم تشكيلها، وتلوينها بألوان الخيال، وإخراجها على الصورة التي يتصورها..(10/172)
ومن أجل هذا حسبوا أنهم قادرون على أن يفعلوا فعله هذا، فقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (31: الأنفال) .. ثم كان من هذا، أيضا أنهم كانوا يهاجمون النبي من هذا الجانب ويمتحنون صدقه من هذا الباب.. فكانوا يسألون اليهود عن أخبار ماضية، ثم يأتون النبي يسألونه عنها، ويطلبون ما عنده من علم بها، إن كان على صلة بالسماء، كما يدعى.. فقد سألوا الرسول عن ذى القرنين، كما سألوه عن الساعة، وعن الروح، وغيرها من الغيبيات..
وثانيا: ما جاء في قوله تعالى بعد ذلك: «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» .. وفي قوله: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. ففى هذا إشارة إلى أن هذه الأخبار، ليست من واردات الوهم والخيال، وأنها ليست من أساطير الأولين، كما يقولون.. فهى من الأخبار التي دونت، وسجلت في زبر الأولين.
والزبر، جمع زبور. والزبور القطعة من الكتاب.!
ومعنى هذا، أن هذه الأخبار، هى من بعض ما ضمت عليه الكتب السابقة، وليست هي كل ما في هذه الكتب، إذ أن الكتب المنزلة على أهل الكتاب، كانت تحوى كثيرا من الشرائع والأحكام، والآداب، إلى جانب هذه الأخبار، فالأخبار، جزء من هذه الكتب، وزير- أي قطع- منها.
ومن جهة أخرى، فإن هذه الأخبار التي جاء بها القصص القرآنى، كانت معلومة عند علماء بني إسرائيل، الذين يلجأ إليهم المشركون في اصطياد الأخبار، التي يختبرون بها النبي. فإذا كانت هذه الأخبار التي جاء بها القرآن لا تخرج في مضمونها عما عند علماء أهل الكتاب، الذين هم موضع ثقتهم..(10/173)
فكيف تكون من جهة النبي أكاذيب وأساطير، ثم تكون هي ذاتها عند أهل الكتاب حقّا وصدقا؟
فالذى يدافع عنه القرآن الكريم هنا، هو دفع التهمة عن هذا القصص القرآنى، وقول المشركين عنه: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. وفي هذا الموقف ينكشف تعنّت المشركين، وضلالهم، وأنهم يقولون في الخبر يتلقونه من النبيّ بأنه كذب واختلاق، على حين أنهم يأخذونه من أهل الكتاب على أنه الصدق الذي لا جدال لهم فيه؟ أفليس هذا جورا في القضاء، واعوجاجا فى الحكم؟ وإذا كان هذا شأنهم في هذا القصص، فإن هذا هو شأنهم في كلّ موقف لهم مع آيات الله وكلماته..
والسؤال هنا، هو: ماذا للنبيّ في هذا القصص، وما حجته على المشركين وغيرهم به، إذا كان مدوّنا في الكتب السابقة، وكان معلوما لعلماء بني إسرائيل؟
إنه- والأمر كذلك- ليس للنبى فضل يبين به على القوم، حتى يأخذ مكان القيادة، فى الدعوة إلى الله، ويدّعى فيهم هذه الدعوى بأنه رسول ربّ العالمين؟ إن الأمر لا يعجز أيّا منهم أن ينقل هذا الأخبار من الكتب السابقة، أو أن يتلقّاها عن أحد علماء بني إسرائيل.. فما حجة النبيّ على القوم بهذا القصص، وهو سلعة معروضة لمن يشترى بأقل ثمن، وأقل جهد؟
والجواب- والله أعلم- هو أن حجة النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا القصص، ليس في مجرد الأخبار التي ضمّ عليها.. فهذه الأخبار- وإن كانت ذات دلالة عظيمة، على صدق النبيّ، من حيث صدقها الخالص، المصفّى من المفتريات، والأباطيل، التي عند أهل الكتاب- قد جاءت على هذا النظم المعجز من الكلام، الأمر الذي قام به التحدي، والذي استخزى أمامه القوم، وعجزوا عن أن يأتوا بشىء من مثله.. وهذا ما يشير إليه وقوله تعالى:(10/174)
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ/ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (13- 14: هود) .. ثم تحدّاهم- سبحانه- بسورة واحدة، فقال تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (23: البقرة) .
وإذ عجز القوم أن يقفوا هذا الموقف، وأن ينزلوا إلى هذا الميدان، إذ رأوا أن ما ينسجونه من تلك الأخبار، لا يعدو أن يكون رقعا مهلهلة، وخرقا بالية، لا يلتفت إليها أحد، وهي في مواجهة هذا النسج الإلهى، المعجب، المعجز- نقول إذ عجز القوم عن هذا، فإنهم لجأوا إلى أسلوب آخر، يروّجون به لهذا الزيف، ويغرون الناس بالإقبال عليه، بهذا الأسلوب الذي يقدمونه به، ويعرضونه فيه.. فجلبوا القيان، وعقدوا لهنّ مجالس السّمر والغناء، حيث يغنون ويرقصون، ثم يحىء في أثناء ذلك من يقصّ عليهم ضروبا من القصص الخرافيّ، لا تجد لها مساغا في الآذان إلا في هذا الجوّ الذي دارت فيه الرءوس، وغايت العقول، بين الكأس، والرقص! .. حتى إذا صحا القوم من خمارهم، طارت هذه الخرافات، كما تطير أضغاث الأحلام.. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (6: لقمان) .
قوله تعالى:
«وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» .
والضمير فى «نزلناه» يعود أيضا إلى هذا القصص، الذي جاء في الآيات السابقة.. كما يمكن أن يعود إلى القرآن الكريم كلّه، إذ كان هذا القصص(10/175)
بعضا منه.. وما يصدق على بعضه يصدق عليه كلّه..
والمعنى: أن هذا القصص، أو هذا القرآن، لو نزل على بعض الأعجمين، ممن لا يعرفون العربية، ولا ينطقون باللسان العربي، فقرأ على القوم هذا القصص أو هذا القرآن، بلسان عربيّ مبين، ما صدّقوه، وما كان لهم من ذلك آية، على أن هذا الكلام ليس من عند هذا الأعجمى، وإنما هو آية من آيات الله، تجلّت فيه.. وإلا فمن أين له هذا البيان المبين باللسان العربي، وهو الأعجمى الذي لا يحسن أن ينطق بكلمة عربية؟ ولكن القوم قد استبدّ الضلال بعقولهم، واستولى العناد على منطقهم..!
وفي الآية إشارة إلى أن النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو بالنسبة إلى هذا القرآن أشبه بالأعجمى.. إذ أنه لا يعرف من ذاته شيئا من تلك الأخبار، التي يحدّث بها هذا القصص الذي يتلوه على القوم.. تماما كما لا يحسن أن ينطق باللسان العربي من لم يتعلم هذا اللسان ويتقنه.. ومن جهة أخرى، فإن النبيّ لو عرف هذه الأخبار، ما أمكنه نسجها، وإخراجها على هذا النظم البديع المعجز.. فهو بالنسبة إلى هذا البيان القرآنى، أشبه بالأعجميّ كذلك حين يكلّف أن ينطق باللسان العربي! قوله تعالى:
«كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» سلك الشيء في الشيء، أو معه.. نظمه معه، وضمه إليه.. ومنه قوله تعالى:
«اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» أي أدخلها إلى جيبك، وأسقطها إسقاطا، كما تسقط الحبة على الحبّة في نظم العقد..
والإشارة في قوله تعالى: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ» - يشار بها إلى تلك الصورة المتمثلة للمشركين، وهم يستمعون إلى رجل أعجميّ خالص العجمة، لم ينطق أبدا(10/176)
بكلمة عربية، ثم يطلع عليهم فجأة، دون أن يبرح مكانه، وقد نطق بهذا اللسان العربي المبين، من آيات الله وكلماته- ثم هم مع هذا لا يجدون في هذا آية، لهم تدلّ على صدقه، وأن هذا الكلام ليس من عنده! فهذا القرآن يقع من قلوبهم، ويسلك فيها هذا المسلك، حين يسمعونه من رجل منهم، لم يكن يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه.. إنه أشبه بأعجمى ينطق بلسان عربى مبين، كأنما ولد بهذا اللسان، وعاش بين أهله..
ومع هذا فإنهم لا يجدون فيما يتلوه عليهم النبي الأمى آية، كما لا يجدون فيما يسمعهم إياه الأعجمى من لسانهم العربي المبين آية.. وهكذا تنتظم هذه الصورة الواقعة إلى تلك الصورة المفترضة وتسلك معها في خيط واحد.. النبي الذي يحدث بهذه الآيات، والأعجمى الذي ينطق بها لسانه.. إنهم لا يؤمنون بهذا أو ذاك، ولا يجدون آية في حديث النبي، أو منطق الأعجمى! ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي لا يؤمنون بهذا الحديث، سواء أكان من أمي، أو أعجمى.. وهذا لا يكون إلا من قلوب قد ضمت على داء خبيث، يغتال كل خير يمر بها، ويدفع كل هدى يطرق بابها، ولذا وصفوا بالإجرام..
«فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» وقوله تعالى: «يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» - إشارة إلى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وذلك حتى يروا بأعينهم ما أنذروا به من عذاب أليم، وعندئذ يؤمنون إيمان المضطر المكره، والذي لا حيلة من النجاة من هذا العذاب، إلا بأن يتعلق بحبل الإيمان، الذي كان ممدودا له من قبل.. ولكن قد فات الأوان، وحيل بينهم وبين ما يشتهون! قوله تعالى:
«فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ» (م 12 التفسير القرآنى ج 19)(10/177)
أي أن هذا العذاب الأليم سيقع بهم فجاءة، على غير توقع، أو انتظار..
وعندها يكربهم الكرب، ويأخذهم الفزع، فيسألون، الإمهال والانتظار، حتى يؤمنوا، ويصلحوا ما أفسدوا.. ولكن ذلك لن يكون.. «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ.. لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (4: نوح) والمنظر: هو من يؤخّر الوقت الموقوت له، لقاء دين أو نحوه.. ومنه قوله تعالى: «فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (280: البقرة) قوله تعالى:
«أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟» هو استفهام تهديد للمشركين، الذين يستخفون بعذاب الله، أو ينكرون وقوعه.. فهم لا يؤمنون به حتى يقع بهم ويروه عيانا.. وإن لهذا العذاب وقتا موقوتا يقع فيه.. وإنه إذا كان إيمانهم لا يقع حتى يقع بهم العذاب- أفنعجل لهم هذا العذاب حتى يؤمنوا؟
إننا قد فعلنا ذلك بكثير من الأمم قبلهم، فعجلنا لهم العذاب في هذه الدنيا، وأخذناهم بما كذبوا، فآمنوا حين رأوا هذا العذاب الواقع بهم، ولكن لم ينفعهم إيمانهم بما كذبوا به من قبل.. أما هؤلاء المشركون، فإن الله سبحانه- قد وعد نبيه الكريم ألا يعذب قومه، وهو فيهم، كما يقول سبحانه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) حتى لا يسوءه ما يراه من مصارعهم، وخراب ديارهم، وهو الذي قد جاء ليحيى مواتهم، وليرفع خسيستهم، ويكشف الجهل والظلام المطبق عليهم.. ولكن هذا الإمهال، إلى حين.. فإنهم إن أفلتوا من عذاب الدنيا، فإن هناك العذاب العظيم الذي ينتظرهم في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآيات التالية..
«أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ» أي إننا إذا أمهلناهم في هذه الدنيا، ولم نرسل عليهم(10/178)
المهلكات، التي أرسلناها على المكذبين قبلهم.. ثم هم إذا تركوا، حتى آخر يوم من أيام حياتهم- أليس بعد هذه السنين التي يقضونها في هذه الدنيا، موت؟ ثم إذا هم ماتوا، وجاءهم العذاب الذي أعدّ لهم في الآخرة، أينفعهم شىء مما كانوا فيه في دنياهم، من مال وبنين، وجاه وسلطان، وأهل وعشير؟ إنه لن يغنى عنهم من عذاب شىء مما كانوا فيه..
وقد نسب الاستعجال بالعذاب إليهم، لأنهم بكفرهم وعنادهم، قد أوجبوا وقوع العذاب عليهم، وتعجيله لهم.. لأن هذا المعجل هو انتقام منهم لتكذيبهم بآيات الله، وتحديهم لرسول الله، والله سبحانه وتعالى يقول في فرعون وآله:
«فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» (55: الزخرف) ويقول في ثمود، قوم صالح: «فَعَقَرُوها.. فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ.. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» (157- 158: الشعراء) ويجوز أن تكون نسبة تعجيل العذاب إليهم، على سبيل الحقيقة، لأنهم كانوا يستعجلون العذاب فعلا على سبيل التحدّى، كما يقول الله سبحانه وتعالى:
«وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) قوله تعالى:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو تعقيب على التهديد الذي حملته الآيات السابقة إلى المشركين، فى قوله تعالى: «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.. الآيات» .. أي أن هذا العذاب المرصود لمن يكذب برسل الله، ويمكر بآياته، إنما يقع في أعقاب ما يحمل الرسول إلى قومه من نذر بين يدى دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله، حتى إذا بلغهم ما أنذروا(10/179)
به، ولم يتحولوا عن موقفهم الضال الذي هم عليه- أخذهم الله بالعذاب المقدر لهم.. وقد رأى المشركون في القصص الذي قصه الله عليهم، لسبعة أنبياء كرام، ما حل بالمخالفين لكل نبى، من بلاء ونكال، كما يقول سبحانه:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) وهؤلاء المشركون، قد أنذروا، كما أنذر هؤلاء المكذبون المهلكون قبلهم.. وإنهم بهذا الإنذار ليقفون على حافة الهوة التي تردّى منها المكذبون إلى العذاب، ويردون المورد الذي ذاقوا منه البلاء، وكانوا في الهالكين!! فماذا ينتظر هؤلاء المشركون بعد هذا؟ إنه لا شىء غير العذاب.. فإذا لم يحل بهم في مصبحهم أو ممساهم، فذلك من إكرام الله سبحانه لنبيه الكريم، ومنزلته عنده.. أما إذا أهلكوا فإنما يهلكون بذنوبهم..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
..
وقوله تعالى: «ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هو ذكرى.. أي هذا الذي نقدمه بين يدى الإهلاك من نذر، هو ذكرى، لما في الناس من فطرة تدعوهم إلى الإيمان بالله.. فهذا الإنذار بالرسل، هو إيقاظ لهذه الفطرة الغافية، أو الغافلة، وتنبيه لها، وتذكير! وقوله تعالى: «وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو جملة حالية، لبيان فضل الله على الناس، وأنه سبحانه، قد أقام في كيانهم رسلا تهديهم إلى الله، وتكشف لهم الطريق إليه، وهي هذه الفطر، وتلك العقول.. وأنه سبحانه لو أهلك الكافرين منهم، لكان ذلك جزاءا وفاقا لهم، على هذا الانحراف، الذي(10/180)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
خرجوا به عن داعى الفطرة، ومنطق العقل.. ولكنه سبحانه، عزز هذه الرّسل المودعة في كيان الناس، برسل من عنده، يحملون إلى الناس آياته، ويذكرونهم بما عهد الله به إليهم في النشأة الأولى، فى قوله سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ.. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا!» (172: الأعراف) .. وهذا ما يشير إليه بعض المتصوفة في تفسيرهم لقوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» (13- 14 يس) .. فهم- أي الصوفية- يقولون: إن الاثنين، هما العقل والقلب، والقرية، هى الجسد.. والرسول الثالث هو رسول الله..
وهذا المعنى، وإن كان بعيدا، إلا أنه يشير إلى أن في الإنسان فطرة هي أشبه برسول من رسل الله إليه..
الآيات: (210- 220) [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 220]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)(10/181)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، من أكثر من جهة..
فأولا: أنه جاء في آيات سابقة قوله تعالى: «إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .. ثم أعقب هذه الآيات تعقيب على موقف المشركين من هذا الكتاب، المنزل من ربّ العالمين، ومقولاتهم المفتراة عليه.. فكان قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» توكيدا لقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
وثانيا: فى قوله تعالى: «ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» - إشارة إلى أن المشركين قد جاءهم ما جاء المنذرين قبلهم، من آيات الله.. ليكون لهم منها موعظة وذكرى.. وأن هذا الذي جاء إلى المشركين، هو كتاب الله، الذي تلقاه محمد وحيا من ربه.. وأنه ليس مما تنزلت به الشياطين، كما يتنزّل على الكهان والسحرة..
قوله تعالى:
«وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» .
أي أنه ما ينبغى للشياطين، أن يأخذوا هذا الموقف، وأن يكونوا سفراء بين الله وبين من يتخيرهم من عباده لرسالته.. إن الشياطين يعرفون قدرهم، والحدّ الذي ينبغى أن يقفوا عنده.. ومن جهة أخرى، فإنهم إذا أرادوا أن يخرجوا عن طورهم، ويتجاوزوا حدودهم، فإنهم لن يستطيعوا(10/182)
أن يرتقوا هذا المرتقى، وأن يبلغوا تلك المنزلة.. إنهم معزولون عن أن يسمعوا شيئا مما في الملأ الأعلى.. إذا أن بينهم وبين ملائكة الرحمن حجازا، كما أن بين الناس وبين الشياطين حجابا.. فكلّ يعيش في عالم، دون أن ينفذ الى العالم والآخر..
قوله تعالى:
«فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» .
هو تهديد للمشركين، بهذا الوعيد الموجّه إلى النبيّ في مواجهتهم..
فالنبيّ الذي يعرف المشركون- كما يقول لهم- هذه الصلة التي بينه وبين ربه، يتلقى هذا التهديد، إذا هو دعا مع الله إلها آخر، كما يفعل هؤلاء المشركون- فكيف يكون حال غيره ممن ليس لهم عند الله هذا المقام الذي له؟
فليس المراد بهذا النهى، وبهذا الوعيد، النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- إذ كان أبعد الناس من أن يطوف به طائف من الشرك بالله.. ولكن ذلك للتعريض، بالمشركين، والتلويح لهم بهذا العذاب الراصد لكل من يشرك بالله، ولو كان من أقرب المقرّبين إلى الله..!
قوله تعالى:
«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» .
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين، الذين انكشف لهم حالهم، وهم في مواجهة هذا العذاب، الذي يتهدّد به الله كلّ من يشرك به..
فهذه الدعوة إلى إنذارهم وتخويفهم من عذاب الله، تلقاهم وهم يتحسّسون أنفسهم، ليجلوا عنها هذا الشرك، الذي يوقعهم في العذاب الأليم.(10/183)