وهم إذ كانوا فى دنياهم هذه فى عافية، ولم يؤاخذوا بما أجرموا، فليس ذلك عن غفلة من الله تعالى عن أعمالهم- تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- وليس عن تجاوز عنهم، إذ هم ليسوا أهلا لأن يحلّوا فى ساحة المغفرة.. وإنما يؤخرهم الله ليوم تشخص فيه الأبصار، أي تتجمد الأبصار، فلا تطرف، لهول ما ترى، حيث يمسك بها هذا الهول، ويشدّها إليه هذا البلاء، فتسكن وتجمد! قوله تعالى: «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» .. تبيّن هذه الآية حالا من أحوال هؤلاء الظالمين، وهم فى موقف الحساب والمساءلة وبين يدى هذا الهول العظيم، الذي تنقلب فيه طبيعتهم، ويغيب عنهم صوابهم، وتفلت منهم جوارحهم..
- وفى قوله تعالى: «مهطعين» إشارة إلى أنهم يساقون سوقا عنيفا من قبورهم إلى ساحة المحشر.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» (43: المعارج) وكما يقول جل شأنه:
«مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ.. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (8: القمر) .
والمهطع: هو المسرع.
- وقوله تعالى: «مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ» أي مطأطئى الرءوس، ذلة، وانكسارا، وضعفا عن حمل هذا الهمّ الثقيل الذي ينوءون تحته، من بلاء هذا الهول العظيم.
- وقوله تعالى: «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» أي مأخوذة أبصارهم، إذا وقعت على هول من أهوال المحشر لصقت به، ولم تعد إلى أصحابها.. فذلك هو اليوم الذي تشخص فيه الأبصار!(7/200)
- وقوله تعالى: «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» أي قلوبهم فارغة، معطلة عن أن تنبض بأى شعور، أو تعى أي حديث، مما استولى عليها من ذهول: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (1- 2: الحج) .
قوله تعالى: «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» .
هذا نذير آخر من نذر يوم القيامة، يأتى فى صورة من صور تلك المحاولات الكثيرة، التي يحاولها أهل الشرك والضلال، ليفلتوا من عذاب هذا اليوم العظيم.
وفى هذه الصورة يضرع الظالمون إلى الله أن يعيدهم مرة أخرى إلى الحياة الدنيا، ليصححوا أخطاءهم، وليكفّروا عن سيئاتهم، وليأخذوا طريقا غير الطريق الذي أخذوه.. إنه لو تحقق لهم هذا الرجاء لأجابوا دعوة الله، واتبعوا رسل الله.. وآمنوا كما آمن المؤمنون، وكانوا فى عباد الله الصالحين!! ..
هكذا يقولون وهم كاذبون.
- وفى قوله تعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» تذكير للظالمين بما كان منهم فى دنياهم، وقراءة عليهم لصفحة من صفحات حياتهم المجللة بالسواد.. «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» لقد كنتم فى دنياكم- وقد غركم الغرور- على يقين بأنكم لن تخلوا مكانكم منها، ولن تتحولوا عنها أبدا.. هكذا كنتم مع الدنيا، ولو عدتم إليها لما كنتم أحسن حالا من حالكم الأولى معها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (28: الأنعام) .(7/201)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
وقوله تعالى: «وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» .
فى هذه الآية ردّ على أولئك الذين ظلموا، وبأن عودتهم مرة أخرى إلى الحياة لن تغير من أحوالهم شيئا، وأنهم لن يرجعوا عما كانوا.. ذلك لأن النّذر لا نقع منهم موقع العبرة والعظة.. فلو أنهم كانوا يأخذون من النذر عبرة وعظة، لكان لهم فيما وقع تحت أبصارهم فى حياتهم الأولى، مزدجر عما اقترفوه من آثام، وفعلوه من منكرات.. فلقد سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ورأوا ما فعل لله بهم، وما أخذهم به من عذاب ونكال.. ومع هذا فإنهم ساروا على نفس الطريق الذي سلكه أسلافهم هؤلاء.. من ظلم، وبغى، وضلال، ولم يكن لهم فيما حلّ بهم نظر واعتبار.! فكيف ينفعهم هذا الموقف الذي وقفوه فى الآخرة، وعاينوا فيه ما أعد الله للظالمين من بلاء وهوان؟ إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وإنه إذا كان فى عذاب الآخرة عبرة لمعتبر، فإن فى مصارع الظالمين فى الدنيا، وفيما يأخذهم الله به من بأساء وضراء، لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وفى هذا يقول تبارك وتعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ. لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (36- 37: فاطر) .
الآيات: (46- 52) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 46 الى 52]
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)(7/202)
التفسير:
قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» .
المكر: التدبير السيّء، والمراد به هنا، ما كان من المشركين من مواقف مع الدعوة الإسلامية، وما كانوا يبيتونه لها.
وعند الله مكرهم: أي أن هذا التدبير السيّء، وهذا الكيد الخبيث، هو مما علمه الله منهم، وسجله عليهم، وسيحاسبهم عليه..
والآية الكريمة، تعيد هؤلاء الضالين، إلى الحياة الدنيا، بعد أن عرضتهم الآيات السابقة على النار، وأشرفت بهم على أهوالها، وأرتهم اليأس من العودة إلى الحياة الدنيا، بعد الموت والبعث.. ثم هاهم أولاء يستيقظون من تلك الأحلام المزعجة على هذا الواقع، فإذا هم فى دنياهم لم يبرحوها بعد، وقد كانت أمنيتهم أن يعودوا إليها، ليصلحوا ما أفسدوا.. وها هم أولاء فى دنياهم تلك.. فماذا هم فاعلون؟ إنهم لن يفعلوا غير ما فعلوا، ولن يتحولوا عما هم فيه من كفر وضلال..(7/203)
- وفى قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ» إلفات لهم إلى هذا الكفر الذي هم فيه، وهذا الضلال المشتمل عليهم.. فهل سيظلّون على صحبتهم لهذا الكفر، ومعايشتهم لهذا الضلال؟ سنبصر ويبصرون! - وفى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» إشارة إلى أن هذا المكر هو الذي جعلهم أعداء لله.. يكفرون به، ويجعلون له أندادا، ويقولون فيه مقولات منكرة، تلك المقولات التي تتأذّى منها السموات والأرض، حتى لتكاد تتفطر منها رعبا وفزعا أن يصيبها شىء من غضب الله، الذي سينزل بأصحاب هذه الأقوال.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» (88- 91: مريم) .
والمشركون وإن لم يقولوا بنسبة الولد إلى الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وكما قالت النصارى: المسيح ابن الله.. لكنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله.. كما يقول الله تبارك وتعالى عنهم: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً.. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» (19: الزخرف) .
قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» - هو تثبيت للنبى الكريم، وتطمين لقلبه، بأن الله منجز وعده إياه، وهو النصر على كل قوى الشر والعدوان، المتربصة به.. فهذا حكم لله فيما بين رسله وأقوامهم، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» (21: المجادلة) ..
فالله سبحانه وتعالى «عَزِيزٌ» يغلب ولا يغلب.. «ذُو انتِقامٍ» يأخذ(7/204)
الظالمين بظلمهم، ولا يدعهم يفلتون من العقاب الراصد لهم.
وقوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .. أي فى هذا اليوم تتجلى عزة الله سبحانه وتعالى، ويتجلى انتقامه من الظالمين، حيث توفى كل نفس ما كسبت.. وأنه إذا كان منه سبحانه وتعالى إمهال للظالمين فى الدنيا، فإنهم إذا حشروا فى هذا اليوم، أخذوا بكل ما عملوا، وذاقوا وبال أمرهم، واستوفوا نصيبهم من العذاب الأليم..
- وفى قوله تعالى: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» إشارة إلى أنه فى هذا اليوم- يوم القيامة- تتغير معالم هذا الوجود الذي عرفه الناس فى حياتهم الدنيا..
فلا الأرض أرض، ولا السماء سماء، وذلك لما ترجف به الأرض من أهوال، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» (14: المزمل) وكما يقول سبحانه: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» (1- 5: الانفطار) ..
قوله تعالى: «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
مقرنين: أي يقرن بعضهم إلى بعض، ومنه القرين، وهو الصاحب..
والأصفاد: جمع صفد، وهو القيد.. والسرابيل جمع سربال، وهو القميص..
القطران: «الزفت» ..
والمعنى: أنه فى هذا اليوم يرى المجرمون وهم مقرنون فى الأصفاد، أي مقيدون بالأغلال، وقد قرن بعضهم إلى بعض.. فكانوا كيانا واحدا، مشدودا إلى سلسلة، قد شدّ كل واحد منهم إلى حلقة فيها.. إذلالا لهم،(7/205)
وامتهانا.. هكذا شأن المجرمين الذين يساقون إلى ساحة المحاكمة، ليسمعوا إلى حكم القضاء فيهم!.
وليس هذا فحسب، بل إنهم ليعرضون هذا العرض المهين، عراة حفاة..
قد طليت أجسادهم بالقطران، فكان هذا القطران لباسهم الذي يراهم الناس فيه، فى هذا اليوم العظيم.. «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ» ..
وليس هذا فحسب أيضا، بل إن لهم من نار جهنم لفحات، تداعبهم بها، ضربا على وجوههم، ولطما على خدودهم: «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» أي تغطى وجوههم بلهيبها!.
ذلك منظر تقشعر منه الأبدان، وتنخلع منه القلوب.. تتجلى فيه نقمة لله، حيث تنزل بالظالمين، وتأخذهم أحد عزيز مقتدر.. وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .
هو تعليل لهذا البلاء العظيم، وهذا الهوان المهين، الذي يلقاه هؤلاء الظالمون يوم القيامة، فهذا بما كسبته أيديهم، وقد كان من عدل الله سبحانه أن يعاقب المذنبين الظالمين، وأن يثبت المحسنين المتقين. وهو سبحانه وتعالى يقول:
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ (35- 36: القلم) - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» إشارة إلى أن كثرة المحاسبين بين يدى الله تعالى، من محسنين ومسبئين، لا يكون منها إبطاء أو إمهال فى أن ينال كل عامل جزاء عمله، فالمحسنون يعجّل لهم جزاؤهم الحسن، حتى يسعدوا به، ويهنئوا بالعيش فيه، وحتى لا يستولى عليهم الفلق، وتهجم عليهم الوساوس، وهم فى انتظار كلمة الفصل فيهم.. وكذلك المسيئون، لن(7/206)
يمهلوا فى لقاء العقاب الراصد لهم، وذلك حتى تنقطع آمالهم فى النجاة، فإن المحكوم عليه بالموت، لا ينقطع رجاؤه حتى يلقى مصيره، ويشهد الموت عيانا..
قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ.. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» .
- «هذا» إشارة إلى ما جاء فى آيات الله من هدى، فيه بيان للناس، وبلاغ مبين. وحجة دامغة، تخرص كل مكابر، وتفحم كل معاند.. ففى كلمات الله التي حملها رسول الله إلى الناس، بلاغ لهم، وزاد طيّب، يتزودون به فى طريقهم إلى الله، ويبلغون به شاطئ الأمن والسلام.
- قوله تعالى: «وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» معطوف على محذوف، تقديره هذا بلاغ للناس، ليدلهم على ربهم، وليكون نذيرا لهم من عذابه، إذا هم صمّوا وعموا عن الاستماع إلى آياته، وليعلموا إذا تدبّروا هذه الآيات وعقلوها، أن إلههم إله واحد لا شريك له..
- وقوله تعالى: «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» معطوف على محذوف أيضا.. تقديره- فإذا لم يكن لهؤلاء الضالين أسماع تسمع، أو عقول تعقل، أو بصائر تستبصر وتتذكر- فليتركوا وشأنهم، وليذكر أولو الألباب، الذين ينبغى لهم ألا يمرّوا بآية من آيات الله، دون أن يلتقطوا منها عبرة، أو يأخذوا منها موعظة.
وننظر فى الآية الكريمة نظرة شاملة: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» .. ننظر فنجد:
أولا: أن القرآن الكريم هو بلاغ للناس جميعا، يحمل فى مضامينه أضواء مشعة، تكشف الطريق إلى لهدى والإيمان: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ» .
وثانيا: أنه مع هذا البلاغ المبين، وذلك البيان الكاشف، فإن كثيرا(7/207)
من الناس لا تكتحل أبصارهم بهذا النور، ولا تتفتح قلوبهم لهذا الخير..
وكلّ حظهم من هذا البلاغ المبين أنه حجة عليهم، وإنذار لهم بالعذاب الأليم:
«وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» .
وثالثا: أن الذين نظروا فى آيات الله، وأعطوها آذانهم وقلوبهم، قد عرفوا بها طريقهم إلى الله، وعلموا أنه إله واحد، لا شريك له.. «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» ..
ورابعا: أن فى هذا الذي انكشف من أمر الناس، وموقفهم من آيات..
بين ضال لم يزده هذا البلاغ المبين إلا عمى وضلالا. وبين مهتد، زاده هذا البلاغ المبين هدى وإيمانا- فى هذا وذلك عبرة وعظة، فليعتبر بهذا أهل البصائر، وليتذكر أولو الألباب والعقول.. الذين هم أهل لهذا الخطاب المبين، من ربّ العالمين.(7/208)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
15- سورة الحجر
نزولها: مكية.. نزلت بمكة.. بلا خلاف.
عدد آياتها: تسع وتسعون آية.
عدد كلماتها: ستمائة وأربع وخمسون كلمة.
عدد حروفها: ألفان وسبعمائة وستون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 5) [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
التفسير:
مناسبة هذه السورة لما قبلها. هى أن ختام السورة السابقة كان قوله تعالى:
«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» - وهذا الختام يحدّث عن القرآن الكريم بأنه بيان مبين للناس، وبلاغ يبلغ بهم طريق الحق والإيمان- فكان مفتتح هذه السورة- سورة(7/209)
الحجر- حديثا آخر عن القرآن الكريم، بأنه كتاب وقرآن مبين، فكان هذا البدء مؤكدا لهذا الختام..
وقوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» - «الر» مبتدأ، وما بعده خبر..
والإشارة بتلك، مشار بها إلى آيات الكتاب، والتقدير: «الر» تلك هى آيات الكتاب، وآيات قرآن مبين..
وفى الإشارة، تنويه بهذه الآيات، وإلفات الأنظار إلى جلالها وعلوّ شأنها، وأنها إنما يشار إليها كما يشار إلى النجوم فى أفلاكها..
وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بأنه «آيات الكتاب» ، وأنه «قرآن مبين» . وصف للقرآن بصفتين:
الصفة الأولى: أنه آيات مكتوبه.. أي من شأنها أن تكتب، احتفالا بها، واهتماما بشأنها. وذلك فى أمة أميّة، لم تكن تكتب شيئا إلا ما يشتد حرصها عليه، وضنّها به، أن يفلت من ذاكرتها شىء منه.. وهذا ما فعلته بالمعلقات، وببعض العهود والمواثيق ذات الشأن العظيم عندها! فإذا نبّه المسلمون من أول الأمر إلى أن هذا الذي يتلوه عليهم رسول الله من كلمات ربّه، يجب أن يكتبوه، كان ذلك إلفاتا لهم إلى أن تلك الآيات، هى عهود ومواثيق بينهم وبين ربهم..
إذا عرفنا هذا أدركنا السرّ فى أن كان أول ما تلقاه النبىّ من كلمات ربّه هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فكانت نعمة التعليم بالقلم، وهى الكتابة، معادلة لنعمة الخلق، والحياة.. فكما أن الله- سبحانه- بالخلق(7/210)
أوجد الإنسان من عدم، كذلك بالعلم علّم الإنسان الكتابة، فسوّى خلقه، وأتمّ عليه نعمته! وفى هذا إشارة إلى أن خلق الإنسان لن يكمل ويقوم على الصورة السويّة، إلا إذا تجمل بالعلم، الذي وسيلته الأولى، التعلم، الذي مفتاحه الكتابة والقراءة!! والصفة الثانية التي وصف بها القرآن الكريم أنه «قُرْآنٍ مُبِينٍ» .. وفى هذا إشارة إلى أن آيات الله تلك، لم تكتب، ولم تودع فى كتاب، لتعلّق كما علقت المعلقات، وكما أودعت العهود والمواثيق بعد كتابتها فى أحراز، وإنما كتبت آيات الله هذه، لتقرأ وتتلى، ولتكون ذكرا دائما على ألسنة المؤمنين، تعمر بها قلوبهم، وتغتذى منها أرواحهم، وتستبصر بها بصائرهم.!
قوله تعالى: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» ..
ربّ: حرف جر يفيد التقليل.. فإذا اتصلت به «ما» دخل على الأفعال، وهو هنا مخفف «من ربّ» الثقيلة.
هذا، ولم يرد هذا الحرف فى القرآن الكريم إلّا فى هذا الموضع.
وقد بذل المفسرون كثيرا من الجهد فى التأويل والتخريج، ليجدوا لهذا الحرف وجها مفهوما، يستقيم مع الآية الكريمة.. وكان محصول هذا كلّه أقوالا متهافتة، رأينا من الخير ألا نقف عندها، وأن نأخذ بما أرانا الله سبحانه من فهم، استراحت له النفس، واطمأن إليه القلب..
فالآية التي سبقت هذه الآية، وهى التي بدئت بها السورة الكريمة، تشير إلى القرآن الكريم، وإلى آياته البينات.. «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.. وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» ..
ومقصود هذه الإشارة هو لفت الأنظار، وتوجيه القلوب والعقول إلى(7/211)
آيات الله تلك، ففيها الهدى لمن نظر واعتبر.. ولكن قليل من الناس هم الذين ينظرون، ويعتبرون، ويهتدون.. أما أكثرهم فهم عن ذكر ربّهم معرضون، وبآيات الله، وبرسله، يمكرون.. ومن هنا كان المؤمنون دائما قلّة بالنسبة إلى أهل الزيغ والضلال.. كما يقول الحق تبارك وتعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .. وكما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» (89: الإسراء) .. وكما يقول جل شأنه: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (116: الأنعام) .
- وفى قوله تعالى: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» تقرير لهذه الحقيقة الواقعة فى الحياة، وهى أن أكثر الناس هم الكافرون، وأقلّهم هم المؤمنون.. وأن هذه الآيات البينات التي بين يدى النبىّ الكريم لن يكون منها أن تهدى الناس جميعا، فليوطن النبىّ نفسه على هذا، وليعلم أنه مهما اشتد حرصه على هداية قومه، فلن يهتدوا جميعا، وحسبه أن يستنقذ من الكفر والضلال، تلك القلّة الكريمة التي استجابت له.. فقليلها خير من كثير.
فليحمل النبىّ الكريم هذا النور الذي بين يديه، وهو على علم بأنه يشق طريقه وسط ظلام كثيف، وأن قلّة من الناس، هى التي تكتحل عيونها بهذا النور، فتتبعه، وتهتدى به إلى الله! وفى هذا عزء للنبىّ، وتسرية له من الهموم التي كان يعانيها، من تأبّى قومه عليه، وعنادهم له.. فتلك هى سنّة الحياة، وأولئك هم الناس!! فالآية الكريمة هنا، هى خطاب خاص للنبىّ الكريم، يراد به أن يتخفف النبىّ كثيرا من مطامحه فى إقامة الناس جميعا على طريق الإيمان، حتى لا تذهب نفسه حسرة، على هؤلاء الذين يموتون بين يديه، وهم على ضلالهم وشركهم، كما(7/212)
يقول الله تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) وكما يقول جل شأنه: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (6: الكهف) .
وعلى هذا يكون معنى الآية.. ادع يا محمد بهذا الكتاب الذي معك، وأنت على بعض الرجاء، لاكل الرجاء فى أن تجد لدعوتك آذانا تسمع، وقلوبا تفقه، وتستجيب، وتؤمن.. فادع إلى سبيل ربّك، بآيات ربك، وقل: لعلّ وعسى!! أو قل: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ!» وهنا لا بد من الإشارة إلى أمور:
أولا: المراد من كلمة «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» ..
فإن الود للشىء، معناه الرغبة فيه، وإيثاره على غيره..
وهذا يعنى أن الإيمان لا يكون عن إكراه، وإنما عن رغبة، وحبّ، وإيثار..
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أنه ليس للنبى أن يحمل المعاندين حملا على الإيمان، وألا يجيئهم إليه عن طريق الإخراج الأدبى، تحت عواطف القرابة أو الصداقة.. إن ذلك يكون أشبه بطعام طيب يتناوله مريض، أو ممعود، فى غير اشتهاء له، ولا رغبة فيه.. فمثل هذا الطعام لا تهضمه المعدة، ولا ينتفع به الجسم.. والمعنى: ربما يرغب الذين كفروا فى أن يدينوا بهذا الدّين.
وثانيا: قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا» حيث يبدو من ظاهر اللفظ أنه يشمل الكافرين جميعا..
ونعم، هو كذلك.. فدعوة الله إلى الإيمان به موجهة إلى الناس كلّهم..
وعين الرسول الكريم تنظر إليهم جميعا، ويده الكريمة ممدودة لهم كلّهم..(7/213)
حيث لا يدرى من يستجيب له، ومن لا يستجيب.. فالإيمان مطلوب من الكافرين جميعا.. ومطلوب منهم كذلك أن يجيئوا إليه برغبة صادقة، ومودة خالصة.. تعمر القلب، وتشرح الصدر! ولكن قليل هم أولئك الذين يعرفون الحق ويؤثرونه على الأهل والولد..
وسؤال يعرض لنا هنا.. وهو: كيف يؤدى النبىّ رسالته، وكيف يعطيها كل مشاعره وأحاسيسه، وهو على يقين من أنه لن يبلغ بدعوته إلى قلوب الناس جميعا؟ أليس فى ذلك توهين لعزمه، وإخماد لجذوة الأمل التي ينبغى أن تكون مشتعلة فى نفس كل داعية، حتى يعطى دعوته كلّ جهده، وعزمه، وصبره؟
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من قبل ربه برسالة، ومأمور بأن يبلغها، وأن يجتهد فى تبليغها، وأنه إن لم يفعل فما بلغ الرسالة، ولا أدّى الأمانة..
وقد امتثل النبي أمر ربه، وصدع به، واجتهد الاجتهاد كلّه، حتى لقد كادت نفسه تذهب حسرة وأسى على من كان يفلت من يده، ويموت على الشرك والضلال من قومه..
فهذا التوجيه الرباني الذي حمله قوله تعالى إلى النبي الكريم: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» - هذا التوجيه، هو دعوة إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتخفف من هذا الشعور الضاغط عليه، والمؤرّق له، وأن يكون على علم من أنه لن يهدى من أضلّه الله، وختم على سمعه وقلبه.. وهم كثير غير قليل.. وقد عتب سبحانه وتعالى على النبي الكريم مشفقا عليه من هذا العناء الذي يعنّى به نفسه، فى شد المعاندين شدّا إليه، وهم يدفعونه، ويتأبّون عليه.. فيقول سبحانه: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟» (5- 7: عبس) .(7/214)
قوله تعالى:
«ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .
فى هذه الآية ما يؤيد الفهم الذي فهمنا عليه الآية السابقة، من أنها دعوة إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يرفق بنفسه، وألا يجعل من همّه أن يقيم الناس جميعا على طريق الإيمان، فذلك أمر لا يقع أبدا.
- وفى قوله تعالى: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ» توكيد لهذه الدعوة، وإخلاء ليد النبىّ الكريم من الإمساك بهؤلاء الذين يحرنون عليه، ويشردون منه.. فليدعهم وما اختاروا لأنفسهم من حياة، كل همهم فيها أن يأكلوا، ويتمتعوا، ويتلهّوا بالآمال الكاذبة، التي تقيم لهم من دنياهم تلك، عالما من سراب، تتراقص على أمواجه عرائس زائفة، ينخدع لها الحمقى والسفهاء من الناس، ويقطعون العمر فى جرى لاهث وراءها! - وفى قوله تعالى «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين رضوا بهذه الحياة، واطمأنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، واستهلكوا وجودهم فى لذاذاتها الفانية.. إنهم فى سكرة يعمهون.. فإذا جاء أجلهم، صحوا من سكرتهم، ووجدوا ما عملوا من سوء حاضرا بين أيديهم، يقودهم إلى عذاب السعير..
قوله تعالى:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» فى هاتين الآيتين الكريمتين، وعيد بعد وعيد، لهؤلاء المشركين..
وأنهم إذا كانوا لم يؤخذوا بكفرهم وعنادهم وضلالهم، إلى هذا اليوم الذي هم فيه، فما ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن بهلاكهم بعد، وذلك لما اقتضته حكمته.. فكل قرية لها عند الله أجل معلوم، كما أن لكل إنسان(7/215)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
أجله الموقوت ... فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» .. فلا يغترنّ هؤلاء الكافرون بإمهال الله سبحانه وتعالى لهم.. فذلك ابتلاء منه سبحانه كما يقول جلّ شأنه: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» (109- 111: الأنبياء)
الآيات: (6- 15) [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» لذّكر: هو القرآن، كما يقول الحق سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»(7/216)
والآية الكريمة تحدث عن مقولة من مقولات المشركين المنكرة، وتكشف عن موقف من مواقفهم السفيهة، من النبىّ، إذ يلقون النبىّ بهذا الاستهزاء، ويلقون إليه بتلك السبّة المفضوحة.. «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» .. يقولونها هكذا.. فى تأكيد وإصرار! - وفى الإشارة إلى النبي بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» استصغار للنبىّ وإحقار له، إذ ينادونه من مكان بعيد.. «يا أَيُّهَا الَّذِي» .. مع إعراضهم عن ذكر اسمه.. ومناداته بالصفة التي جاءهم عليها، إنما كأنه إنكار لتلك الصفة، وتشنيع عليه بها.. إذ كانوا ينكرون على النبي أن ينزل عليه هو الذكر، من بينهم، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (25: القمر) وقوله تعالى: «لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
يكشف عما أراده المشركون بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» وأنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وسخرية وتكذيبا، ولهذا جاء قولهم: «لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» تحدّيا للنبىّ أن يدفع التهمة التي يتهمونه بها، وهى الادعاء الكاذب، بأنه يحمل إليهم آيات الله التي أوحيت إليه.. فإن كان ذلك الذي يدّعيه حقّا، وأنه متصل بالسماء، فليأت بالملائكة تحدثهم، وتشهد له أنه رسول الله.. عندئذ يعرف صدقه، ويقبل قوله! ولو ما: حرف تحضيص، بمعنى هلّا.
قوله تعالى: «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» أي لا ينزل الله سبحانه الملائكة، استجابة لأهواء أصحاب الضلالات، وإنما ينزلهم سبحانه بما يأمرهم به، كالسفارة بينه وبين رسله، أو كالعذاب الذي يرسلهم به إلى من يريد إهلاكهم من القوم الظالمين. وكل هذا حقّ من عند الله سبحانه..!(7/217)
- وفى قوله: «وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا استجاب الله لهم، ونزلت الملائكة عليهم كما يقترحون، فإنهم لا ينزلون عليهم إلا بالهلاك والبلاء، بعد أن نزلوا عليهم على يد رسوله بالرحمة والهدى..
وفى هذا يقول الله سبحانه: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» (8: الأنعام) وقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين سخروا من النبىّ بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» فجاء قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» كبتا لهؤلاء المشركين، وردعا لهم، وإعلانا بما يملأ صدورهم حسدا وحسرة.. فقد أبوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبىّ إنه تلقّى الذّكر منها، فقالوا «نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» ولم يقولوا- ولو على سبيل الاستهزاء- نزّل الله عليه الذكر.. فجاءهم قول الحق جلّ وعلا: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» بهذا التوكيد القاطع.. ثم جاء قوله تعالى «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» مؤكدا لهذا التوكيد.. إذ أنه سبحانه هو الذي يتولى حفظه من كل عبث، وصيانته من كل سوء.. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله.. فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه.. فإنهم لو فعلوا، لكان لهم من ذلك حجة على أن ليس من عند الله! وقد حفظ الله القرآن الكريم، هذا الحفظ الربانىّ، الذي أبعد كلّ ريبة أو شكّ فى هذا الكتاب، فلم تمسسه يد بسوء، على كثرة الأيدى التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها.. وهكذا ظلّ القرآن الكريم، وسيظل إلى يوم البعث، حمى الله الذي تحرسه عنايته، وتحفظه قدرته، فلم تنخرم منه كلمة، أو يتبدل منه حرف.. وتلك حقيقة يعلمها أولو العلم(7/218)
من خصوم الإسلام، كما يؤكدها تاريخ القرآن الكريم، الذي تولّى النبىّ الأمى كتابته فى الصحف، كما تولّى غرسه فى صدور المؤمنين.. كلمة كلمة، وآية آية..
سئل بعض العلماء: لم جاز التحريف والتبديل على الكتب السماوية السابقة، ولم يجز هذا على القرآن الكريم؟ فقال: «إن الكتب السماوية السابقة قد وكل الله حفظها إلى أهلها، كما يقول الله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (44: المائدة) . فأهل الكتاب هم الذين «استحفظوا» أي وكّلوا بحفظ كتبهم.. ومن هنا جاز أن يفرطوا فى هذه الأمانة التي فى أيديهم، وأن يدخل عليها ما دخل من تبديل وتحريف.. أما القرآن الكريم فقد تولّى الله سبحانه وتعالى حفظه، ولم يكله إلى أهله.. فقال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ..
ومن ثمّ كان من المستحيل أن يدخل على القرآن الكريم- وهو فى حراسة الله- تغيير كلمة، أو تبديل حرف!!.
والسؤال هنا: لم وكل الله سبحانه وتعالى حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها، ولم يتولّ سبحانه وتعالى حفظها، وهى من كلماته، كما تولّى ذلك سبحانه، بالنسبة للقرآن الكريم؟.
والجواب على هذا، والله أعلم:
أولا: أن الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها.. وهو بهذا التقدير الرسالة السماوية إلى الإنسانية كلها فى جميع أوطانها وأزمانها..(7/219)
فلو أن الكتب السماوية السابقة، كان لها هذا الحفظ من الله سبحانه، لما دخلها هذا التحريف والتبديل، ومن ثمّ لم يكن للقرآن الكريم هيمنة عليها، ولم يكن ناسخا لها.. الأمر الذي أراد الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أن يجىء له.
وثانيا: هذا التبديل والتحريف الذي أدخله أهل الكتب السابقة على كتبهم، لا يدخل منه شىء على آيات الله وكلماته.. كما لم يدخل شىء من ذلك على آياته الكونية، التي يغوى بها الغاوون، وينحرف بها المنحرفون..
وكما لا يدخل شىء من النقص على ذاته الكريمة، أو صفاته وكمالاته، إذا جدّف المجدفون على الله، ونظروا إلى ذاته وصفاته بعيون مريضة، وقلوب فاسدة، وعقول سقيمة.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
الشّيع: جمع شيعة.. وشيعة المرء، من يجتمعون إليه من أهل وعشير..
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ» - إشارة إلى أن كل رسول أرسل من عند الله، كان مبعوثا إلى قومه الذين يعرفهم ويعرفونه.. كما يقول سبحانه: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (4: إبراهيم) ..
- وفى قوله سبحانه: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» مواساة كريمة للنبىّ، وتخفيف عليه، مما يلقى من قومه من عنت ومكروه..
فتلك هى سبيل الرسل مع أقوامهم.. كلها أشوك، يزرعها السفهاء والحمقى فى طريق رسل الله إليهم.. فليس الرسول إذا بدعا من الرسل، فيما لقى من قومه، من سفاهات وحماقات، فلقد كان إخوانه الذين سبقوه من رسل الله،(7/220)
يلقون مثل ما لقى، من استهزاء وتكذيب.. بل ومنهم من رجم وقتل، ولم يشفع لهم فى ذلك، ما بأيديهم من هدى، ولا ما بينهم وبين أقوامهم من آصرة النسب والقرابة.
قوله تعالى: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» .
يقال سلك الطريق: أي سار فيه، ومنه قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» (69: النحل) .. وسلك الشيء فى الشيء: إدخاله فيه، ومنه قوله تعالى: «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» (32: القصص) .. وقوله تعالى:
«فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» (27: المؤمنون) ومنه السلك، وهو الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد.
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ» إشارة إلى أن ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسل الله، واستهزاء بهم، هو الذي كان من هؤلاء المجرمين الذين وقفوا من «محمد» هذا الموقف اللئيم، فكذبوه، وسخروا منه، وآدوه بكل ما قدروا عليه من ألوان الأذى.. فكأن هذا الضلال المستولى على بعض النفوس الخبيثة والطبائع المنكرة، هو داء متنقل، وميراث موروث، يأخذه الخلف عن السلف: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» .. أي أن الضلال القديم، ينغرس فى قلوب هؤلاء المجرمين من مشركى قريش، فيكونون أشبه بحبة من حبات هذا العقد الذي ينتظم المقابح والمساويء، ويجمع الأشرار إلى الأشرار..
قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» .
الضمير فى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ» يرجع إلى هؤلاء المجرمين، وهم مشركو قريش، والضمير «به» يعود إلى النبىّ الكريم، الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ» .. والحديث عنه(7/221)
بضمير الغائب، تنويه بقدر النبي وتكريم له، وإشعار بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى الدفاع عنه، ومحاسبة المجرمين على استهزائهم به.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى القرآن الكريم، المذكور فى قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .
- وفى قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء المجرمين من كفار قريش، وأن سنّة الله التي مضت فى السابقين، كانت الهلاك والبلاء للمكذبين، والنصر، والعافية للمرسلين وأتباع المرسلين.. ولن تتبدل سنة الله مع هؤلاء المشركين من قريش ومن معهم! قوله تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» .
عرج إلى المكان: صعد إليه، والعروج، هو الصعود من أسفل إلى أعلى..
وسكرّت الأبصار: عميت وعشيت، وزاغت، شأن من تستولى عليه الخمر، ويصيبه دوار السّكر.
وفى الآيتين الكريمتين، ما يكشف عن الضلال الكثيف المنعقد على قلوب هؤلاء المجرمين، وأنهم- وهم فى هذا الضلال- لا يرون لمعة من لمعات الهدى أبدا، ولو جاءتهم كل آية مبصرة..
فلو أن الله سبحانه فتح لهم بابا من السماء، فظلوا فيه يعرجون ويرتفعون صعدا، حتى يشهدوا الملأ الأعلى، وما فيه من آيات، تدعوهم إلى الإيمان بالله- لأنكروا ما تشهده حواسّهم، ولاتّهموا أعينهم بأنها قد وقعت تحت حدث من الأحداث، فذهب بقدرتها على الإبصار.. أو لقالوا إن قوة خفية سحرتهم، وخيّلت إليهم(7/222)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
هذا الذي يرونه. وهذا يعنى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم تلك الآيات التي يقترحونها على النبىّ. إذ أن لهم، من ضلالهم، مع كل آية مكر، وفى كل معجزة قاهرة قول..
الآيات: (16- 25) [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى الآيات السابقة، ما استولى على قلوب المشركين من ظلام كثيف، وضلال مبين، حتى لو أنهم أصعد بهم إلى السّماء، وشهدوا ما فى الملأ الأعلى من آيات، ما كان لهم فى ذلك طريق إلى الهدى والإيمان بالله، ولاتّهموا حواسّهم، وكذّبوا المشاهد المحسوس بين أيديهم..(7/223)
أما الذين يرون الحق ويتبعونه، ويشهدون آيات الله، ويتلقون العبرة والعظة منها- فهؤلاء لهم فى كل شىء آية، ولهم من عقولهم معارج يعرجون بها إلى السموات، وهم حيث هم، على هذه الأرض لم يبرحوها..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ» - إشارة إلى ما للعقول السليمة من قدرة على النظر فى ملكوت الله، وارتياد مواقع العبرة والعظة من آياته المبثوثة فى هذا الملكوت..
فهذه السماء، وقد رفعها الله سبحانه بغير عمد، وجعلها بروجا ومدارات للكواكب والنجوم، وزينها بتلك الكواكب، وحلّاها بهذه النجوم- هذه السماء هى مراد فسيح للأنظار، ومسح معجب للعقول.. ينظر الناظرون إليها، فترتدّ إليهم أبصارهم منها وقد امتلأت عبرة وعظة، بما شهدت من جلال الله، وقدرته وعلمه وحكمته.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (191:
آل عمران) .. فذلك هو ما يعطيه النظر السليم لأهله، من إيمان بالله، وولاء لجلاله وعظمته.
قوله تعالى: «وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» .
إشارة إلى أن السّماء ليست معرجا لأهل الأرض، وإن كانت مرادا لأبصارهم، ومسبحا لعقولهم.. وأن الشياطين- وهم من سكان الأرض- إن أرادوا العروج إلى السماء بما لهم من طبيعة قادرة على الانطلاق إلى آفاق عالية بعيدة- هؤلاء الشياطين لا يستطيعون أن يعرجوا إلى السماء، وغاية ما يمكن أن يبلغه أحدهم هو أن يحلّق بعيدا، يريد أن يدنو من الملأ الأعلى، ويسترق السمع، إلى ما احتواه هذا الملأ من غيوب وأسرار.. وعندئذ يجد الشيطان(7/224)
شهابا راصدا يرمى به، فيحترق ويهلك، دون أن يقع على شىء من علم الله..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (212: الشعراء) .
وقوله سبحانه، على لسان الجن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (9: الجن) .
وهنا سؤال.. وهو: هل إذا كان الجن لا يستطيع أن يعرج إلى السماء وأن يسترق السّمع، فهل يستطيع الإنسان أن يعرج إلى السماء، ويبلغ إلى هذا المدى الذي لم يبلغه الجن؟
إن إرهاصات كثيرة تشير إلى أن الإنسان الآن فى طريقه إلى السماء، وأنه كاد ينجح فى أن ينزل على القمر، بعد أن ارتاده بمراكب ألقت بمراسيها على سطحه، وهى تحمل عددا وآلات نقلت إلى الإنسان كثيرا من طبيعة هذا الكوكب.. فهل إذا نزل الإنسان إلى القمر أو إلى أي كوكب من الكواكب، أيكون فى هذا ما يتعارض مع الآية الكريمة؟
والجواب على هذا، أن الآية الكريمة لم تعرض للإنسان، ولم تسلط عليه من السماء رجوما، كما سلطتها على الشياطين..
وعلى هذا،، فإن الطريق إلى السماء مفتوح للإنسان، وليس ثمة ما يحول بينه وبين أن يبلغ منها حيث وسع علمه وجهده.. إلّا أن الذي لا يبلغه الإنسان أبدا، هو أن يخترق حجب الغيب، ويعلم ما استأثر الله سبحانه وتعالى به من علم.. ذلك هو ما يقطع به إيماننا، ويحدّث به كتابنا.. أما ماوراء ذلك، فهو فى مجال الاختبار لقدرة الإنسان.. والقرآن الكريم يفتح للعقل كل طريق لاختبار قدرته، بل ويبارك عليه كل خطوة موفقة يخطوها إلى الأمام، فى ارتياد معالم الوجود، فى الأرض وفى السماء، وكشف ما يستطيع كشفه من أسرار هذا الكون، فى أرضه وسماواته على السواء! والله سبحانه وتعالى(7/225)
يقول: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا.. لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (32: الرحمن) ففى الآية الكريمة إغراء وتحريض لعالمى الإنس والجن، على التسابق فى ارتياد هذا الكون، والنفوذ من أقطار السموات والأرض، والغوص فى أعماقهما، ولكن ذلك لا يكون إلا لمن ملك بين يديه القوة التي تمكن له من اخترق أطباق الأرض، وأجواء السماء، وتلك القوة هى التي أشارت إليها الآية الكريمة بكلمة «سلطان» .. والسلطان الذي يمنح الإنسان تلك القوة، هو العلم..
فبسلطان العلم يمتلك الإنسان القوة، وبتلك القوة وبالقدر الذي يحصل عليه الإنسان منها، يكون مبلغه من النفوذ فى أقطار السموات والأرض..
ومع هذا، فإن هناك حرما إن دنا منه الشيطان احترق، كما أن هناك عوالم لا حصر لها، لا تطولها قدرة الإنسان، ولا يبلغ علمه منها شيئا: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . (85: الإسراء) فإذا بلغ الإنسان بعلمه وقدرته أن يستوى على ظهر هذه الكواكب المتصلة بفلك الأرض.. فهيهات أن يبلغ شيئا من العوالم الأخرى، التي تبلغ المسافات بينها وبين الإنسان ملايين من السنين الضوئية.. اللهم إلا أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويصبح خلقا آخر..
قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» - وكما فى السماء آيات لأولى الأبصار، فإن فى الأرض آيات وآيات للناظرين..
فهذه الأرض، قد مدّها الله، وألقى فيها رواسى، أي غرس فيها جبالا راسية، وأنبت فيها من كل شىء موزون، أي كل شىء بحساب وقدر، مما(7/226)
ينفع الناس، والدواب، والطير، وكلّ حىّ يشارك الإنسان الحياة على هذه الأرض..
فما أنبت الله سبحانه فى هذه الأرض، وما بثّ فيها من نبات، وحيوان، وجماد.. كل هذا بقدر مقدور، وبحساب موزون بميزان الحكمة، حتى يعتدل ميزان الحياة، ويكون للناس مستقر فيها ومتاع إلى حين.. ولو اختلّ هذا الميزان، بزيادة أو نقص، لما صلحت الحياة على هذه الأرض..
قوله تعالى: «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ» - هو تفصيل لما أجملته الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» - فهذا الذي تخرجه الأرض، هو مما يعيش فيه الإنسان، وتحيا عليه الأحياء الأخرى، التي لا يتولى الإنسان إطعامها.. من هوامّ، وحشرات، ووحوش، وطيور محلقة فى السماء، وأسماك سابحة فى البحار والأنهار..
وغير ذلك كثير، مما لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعالى.. فهذه الكائنات كلها يرزقها الله سبحانه، ويقدّر لها أقواتها.
قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» - إشارة إلى أن كل شىء هو إلى الله سبحانه، وفى يده جلّ شأنه، وأنه ينزّل من كلّ شىء بقدر معلوم، حسب ما تقضى حكمته، مما يصلح به أمر الناس وتعمر الأرض.
قوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» .. أي إن من قدرة الله سبحانه، ومن حكمته، أن أرسل هذه الرياح، فجعلها لواقح يكون من نتائجها هذا المطر الذي ينزل من الماء.. فالريح هى التي تحمل بخار الماء، فتنقله إلى أجواء باردة فى آفاق السماء، حيث يصير سحابا..
ثم تدفع هذا السحاب، فيصطدم بعضه ببعض، ويتولد من هذا الصدام(7/227)
شرارات، هى البرق، الذي يكون أشبه بإشارة إلى ميلاد المطر ونزوله.. كما يقول سبحانه وتعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (48: الروم) والرياح لقاح للنباتات، إذ تنقل لقاح كثير من ذكور النبات إلى إناثه، ولكن المنظور إليه منها هنا، هو لقاحها للسحاب، حيث جاء قوله تعالى بعد ذلك: «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» .. فالفاء هنا للسببية، بمعنى أن هذا اللقاح، هو الذي يتسبب عنه نزول الماء من السماء..
هذا، والقرآن الكريم يفرّق بين الريح، والرياح.. فيذكر الرياح فى مواطن الخير والرحمة، على حين يستعمل الريح فى مواطن البلاء والنقمة..
ذلك أن الريح إذا كانت من مهب واحد كانت عقيما، لا تنتج شيئا، أو تحمل سموما، وأذى، كما فى قوله: «وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» (41: 42 الذاريات) وقوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» (24: الأحقاف) .. فإذا أفردت الريح فى مواطن الرحمة، ألحقت بوصف حسن، يرفع عنها الصفة الغالبة عليها..
كما فى قوله تعالى: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» (22: يونس) .
أما إذا كانت الريح من جهات مختلفة، فإنه يلتقى بعضها ببعض، فتتوازن، وتعتدل، وتحمل الخير والرحمة، وتكون لقاحا للسحاب، وللنبات..
- وفى قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الماء، هو مما فى يد الله، وفى خزائنه، وأن ليس لأحد أن يتصرف فيه إلا بما يأذن الله به منه..(7/228)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» .. فهو مما فى خزائن الله، وفى ملكه، وليس للناس قطرة منه إلا ما يجود الله به عليهم منه..
قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» .. هو كشف لبعض قدرة الله، وأنه سبحانه بيده الحياة والموت.. وأنه ليس لهذه الحياة بقاء.. «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .. والله سبحانه يرث الأرض ومن عليها: «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» فلا يغترنّ أحد بهذه الدنيا، وإن أعطاه الله الكثير من زهرتها، وأفاض عليه الجزيل من متاعها.. فكلّ إلى زوال..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» ..
هو كذلك كشف عن بعض علم الله، وأنه سبحانه قد علم ما كان من خلق قبل أن يخلقوا، السابقين من الخلق واللاحقين.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .. (14: الملك) قوله تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تقرير للبعث، وأن الموت المحكوم به على الناس، ليس هو نهاية الحياة الإنسانية، بل هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا.. فقد اقتضت حكمة الله، أن يكون للناس حياة أخرى يحاسبون فيها على أعمالهم، وينزلون فيها منازلهم حسب ما كان لهم من أعمال فى دنياهم، وهو سبحانه «عَلِيمٌ» بما كان منهم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أعمالهم..
الآيات: (26- 50) [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 50]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)(7/229)
التفسير:
تعرض هذه الآيات قصة خلق آدم، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من طين، ثم نفخ فيه الحق جلّ وعلا من روحه، ثم أمر الملائكة بأن يسجدوا له،(7/230)
فسجدوا إلّا إبليس، فقد أبى أن يسجد، فلعنه الله وطرده.. ثم تذكر الآيات موقف إبليس من ربه سبحانه وتعالى، وتحدّيه لآدم وذريته، بإغوائهم، وإفسادهم، وخروجهم عن طاعة الله، ثم طلبه إلى الله سبحانه أن يؤخره إلى يوم القيامة، حتى تتاح له الفرصة فى أبناء آدم.. وقد أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وحذّر أبناء آدم منه، ونههم إلى هذا العدو المتربص بهم..
وقد وردت هذه القصة فى أكثر من موضع من القرآن، شأنها فى هذا شأن القصص القرآنى، الذي جاء فى معارض مختلفة، بين الإيجاز والتفصيل..
وفى سورة البقرة عرضنا بالتفصيل لقصة خلق آدم، وقلنا إنه لم يخلق خلقا مباشرا من التراب، وإنما كان خلقه خلقة فى سلسلة التطور.. وأنه إذا كان الطين مبدأ للخلق، فإنه قد تنقل فى هذا الطين من عالم إلى عالم، ومن خلق إلى خلق، حتى كان الإنسان آخر حلقة فى سلسلة هذا التطور، فظهر فيها الكائن العاقل.. وهو آدم، أو الإنسان..
ولا نعيد هذا القول، وحسبنا أن نقف بين يدى الآيات الكريمة وقفات نطلع فيها وجها من وجوه الإعجاز القرآنى فى التكرار لمعارض قصصه، والذي حسبه بعض الجهلاء السفهاء من المآخذ التي تؤخذ على القرآن، وعدّوه قصورا فى بلاغته..
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ..»
فى هاتين الآيتين عرض موجز لخلق آدم، وخلق الجانّ (إبليس) ، وبيان المادة التي خلق كلّ من آدم وإبليس منها..(7/231)
فآدم، خلق من صلصال من حمأ مسنون..
والصلصال: الطين الذي جفّ حتى صار له صوت وصلصلة..
والحمأ: الطين المتعفن. وهو الذي تخمّر فى ظروف معينة، وبدأ يأخذ بحكم هذا التخمر صورا وأشكالا، ولهذا وصف «بالمسنون» أي المسوّى والمشكل فى أشكال وقوالب..
وقد ورد فى آيات من القرآن الكريم، أن آدم خلق من تراب، ومن طين، ومن طين لازب..
وهذا يشير إلى أن التراب، هو المادة الأولى التي كان منها هذا الخلق..
ثم تحول التراب إلى طين، ثم تحول هذا الطين إلى طين لازب، أي زبد، ثم تحول هذا الطين اللازب إلى حمأ، ثم أخذ هذا الحمأ صورا وأشكالا فكان حمأ مسنونا.. ثم تحول هذا الحمأ المسنون إلى صلصال كالفخار.. وهكذا سار الإنسان فى هذا المسار الطويل عبر ملايين السنين، حتى ظهرت أول بشائر الحياة الإنسانية فى باكورة إنسان.. هو «آدم» ! أما «الجانّ» فقد خلق قبل آدم، وكان خلقه من نار السموم.. أي من لهب النار لا من جمرها.. فكان جسما هوائيا ملتهبا، مشوبا بدخان..
وقد ذكر فى القرآن الكريم، الجنّ، وإبليس، والشيطان، وكلها تعنى هذا المخلوق الذي أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين..
وقد عرضنا لبحث هذه المسميات- الجن وإبليس والشيطان- فى الجزء الأول من هذا التفسير.. فليرجع إليها من شاء..
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» .(7/232)
هنا يحدّث القرآن عن أن الله سبحانه وتعالى قد آذن للملائكة قبل خلق آدم، وقبل ميلاده المنتظر فى سلسلة التطور، آذنهم- سبحانه- بأن ينتظروا ميلاد هذا الكائن، وأن يسجدوا له ساعة مولده، سجود ولاء لله، وتمجيد لقدرته وحكمته إذ يشهدون هذا الطين يتحرك فى أحشاء الزمن، فيتمخض عن كائنات عجيبة.. ثم يلد أعجب مولود، هو هذا الإنسان، الذي ينطق، ويعقل، ويكون خليفة الله فى الأرض، ويقف بين يديه الملائكة موقف التلاميذ من أستاذهم، يتعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون..
فالسجود لآدم فى حقيقته، سجود لله سبحانه، فى مواجهة هذه الظاهرة العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله، وتطلع منها على الملائكة آية من آياته..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» - إشارة إلى أن آدم لم يظهر من الطين ظهورا مباشرا، وإنما ظل دهورا طويلة فى بوتقة الزمن، حتى استوى ونضح.. فالفاء فى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» تفيد التعقيب، ولكنه تعقيب يأخذ من عمر الزمن ملايين السنين.. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .
- وفى قوله تعالى: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» - إشارة إلى كيفية السجود، وأنه سجود لا يملك معه الملائكة أنفسهم، بل يخرون ساقطين على وجوههم، حين يأخذهم جلال الموقف، وتغشاهم رهبته..
والفعل «قعوا» هو أمر من الفعل «وقع» والأمر منه «قع» فإذا أسند إلى واو الجماعة كان: «قعوا» .. أي اسقطوا وخرّوا..
هذا، وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فى موضع آخر، فقال تعالى:(7/233)
«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (71- 72: ص) .
وهذا يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد لفت الملائكة أول الأمر إلى المرحلة الأولى من مراحل هذا الخلق الذي سيخرج من هذا الكائن البشرى..
وأن أول هذه المراحل، هى الطين.. وقد أخذ الملائكة منذ هذه اللفتة، يرقبون هذا الطين، ويلحظون مسيرته فى خط الحياة..
ثم حين انتقل الطين إلى مرحلة أخرى، هى مرحلة الصلصال، والحمأ المسنون- لفت سبحانه وتعالى الملائكة مرة أخرى إلى هذا التغيير الذي حدث للطين، والذي بدأ يأخذ طريقه متحركا نحو الغاية المؤدية إلى ظهور هذا الإنسان الذي ستلده الحياة المتولدة من هذا الطين، والذي يجب على الملائكة أن يستقبلوا مولده بالسجود فإن السجود لهذا المولود هو سجود لآيات الله، وما تجلى فيها من رائع حكمته وقدرته..
ويلاحظ أن هذين الأمرين الموجهين توجيها مباشرا إلى الملائكة بالسجود لآدم، يتضمنان الصفة التي يكون عليها هذا السجود، وهو أن يكون سجودا مستوليا على كيان الملائكة، بحيث يخرون خرّا، ويتهاوون هويّا: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» .
[إبليس ومن له سلطان عليهم]
«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ..»
وإنها لجرأة عجيبة أن يخرج هذا المخلوق الشقىّ عن أمر ربه، وأن يتحدّى(7/234)
الله سبحانه وتعالى هذا التحدّى الوقاح السافر.. ولكن تلك هى مشيئة الله فى هذا المخلوق الشقىّ التعس.. وقد أراده- سبحانه- ليكون، الظلام الذي يواجه النور، والشرّ الذي يقابل الخير.. وبهذا تتمايز الأمور، وتنكشف حقائق الأشياء.. إذ لولا الظلام ما عرف النور، ولولا الشرّ ما استبان الخير.. وهكذا كل ضدّ يكشف عن ضده.. «وبضدّها تتميز الأشياء» !: «قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ..
وإنها لشقوة غالبا، وبلاء مبين، وضلال تعمى معه البصائر، وتذهب العقول..
يسأله الحق جلّ وعلا، «ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ؟ وذلك ليأخذ اعترافه من فمه، وإلّا فالله سبحانه عالم بما سيقول هذا الشقىّ، مستغن عن أن يسأل، وعن أن ينطق إبليس بما نطق به..
ولقد نطق إبليس بهذا التحدّى لوقاح، «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» .. وفى آية أخرى كشف إبليس عن حجته الضّالة فى إبائه السجود لآدم، فقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ! (12: الأعراف) .
ومن أين لهذا اللّعين أن النار خير من الطين؟ وما وجه الخيريّة فى النّار؟
إنه الضلال، ولا شىء غيره، هو الذي زيّن لهذا الغوىّ رأيه فى نفسه.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أهل الغواية والضلال: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (32: الروم) ..
: «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ» .(7/235)
ذلك هو جزاء الظالمين.. الطرد من رحمة الله، واللعنة المصاحبة لهم إلى يوم القيامة، حيث يلقون العذاب الأليم المعدّ لهم.
والرجيم هو المرجوم.. وما يرجم به هنا هو اللعنة.
والضمير فى قوله تعالى «مِنْها» يعود إلى الجنة التي كان فيها..
: «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» .
وهكذا يعمى الضلال أهله، ويلقى بهم فى ظلمات المهالك، فلا يخرجون من مهلكة إلا إلى مهلكة..
فلقد أبت على إبليس شقوته إلّا أن يشرب كأس اللعنة إلى آخر قطرة فيها.. فطلب إلى ربه أن يمدّ له فى أجله، وألا يعجّل له العذاب قبل يوم القيامة، وذلك ليثأر لنفسه من هذا الإنسان الذي كان سببا مباشرا فى طرده من رحمة الله، وإلباسه لباس اللعنة.. بل وربما حدّثت هذا الشقىّ نفسه أن يتحدى الله، وأن يحاجّه فى آدم، وفى أنه أفضل منه، وأن امتناعه عن السجود له، كان عن حق، وأنه خير من هذا المخلوق، وما كان للأعلى أن يسجد للأدنى!! هكذا يبلغ الغرور بهذا الأحمق المغرور، فيقيم نظره كله على آدم، ولا ينظر إلى الله سبحانه، ولا يقع فى تصوره أن الله سبحانه هو الذي أمره بالسجود، وأنه ينبغى للمخلوق أن يمتثل أمر الخالق، دون مراجعة أو اعتراض! ولو كان هذا اللعين قد نظر إلى نفسه، ولم يعمه الحقد الأعمى- لكان له فى باب الرجاء عند الله متسع، ولكان طلبه من الله أن يؤخره إلى يوم الدين، التماسا للعافية من هذا البلاء الذي نزل به، فيرجع إلى الله من قريب، ويستغفر(7/236)
لذنبه، فيجد ربّا غفورا يقبل توبة التائبين، ويكفر عنهم من سيئاتهم..
ولكنه أبى إلا أن يهلك نفسه، فى سبيل إهلاك غيره، وإشباع شهوة الانتقام من عدوّه..
: «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» .
الإغواء: الإضلال، بتزيين القبيح، والإغراء به.
وبهذا القسم يتحدى إبليس أبناء آدم، ويلقاهم على طرق الضلال، فيغويهم بركوبها، ويغريهم بمتابعة خطوه عليها، ويمنّيهم الأمانىّ الكاذبة التي تلقى بهم بين يديه! فالباء فى قوله تعالى: «بِما أَغْوَيْتَنِي» هى باء القسم، والتقدير: يحق ما أغويتنى: أي أضللتنى «لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي لأفتننهم بما على الأرض من أشياء، أزينها لهم، وأغريهم بها، فيشغلون عن ذكرك، ويكفرون بنعمك، فيقعون تحت طائلة نقمتك وعذابك.
وهذا القسم يكشف عنه قوله تعالى فى موضع آخر: «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (82: ص) .
ويجوز أن تكون الباء للسببية، أي بسبب إغوائك لى، وأن تكون اللام فى قوله تعالى: «لَأُزَيِّنَنَّ» لام الأمر، الداخلة على الفعل المضارع، وأن إبليس قد ألزم نفسه بهذا العمل إلزاما، ليردّ به على هذا الإغواء.
وفى قصر التزين على الأرض، إشارة صريحة إلى أن إبليس قد أغوى آدم وزين له حتى أكل من الشجرة، وهو على هذه الأرض، وفى هذا دليل على أن ميلاد آدم كان على هذه الأرض، ولم يكن فى السماء..(7/237)
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» استثناء من هذا الوعيد الذي توعد به إبليس أبناء آدم.. فهو يعرف أن لله سبحانه وتعالى فى أبناء آدم أصفياء، أحلصهم لنفسه، واصطفاهم لطاعته، وأرادهم لجنته.. وهؤلاء لا سبيل لإبليس عليهم.. فقد سبقه قضاء الله فيهم، وأنهم من أهل جنته ورضوانه..
والمخلص: هو الخالص من كل سوء، المصفّى من كل شائبة..
أما من يتسط عليهم إبليس، ويتمكن من النّيل منهم، فهم أولئك الذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم، ولا أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) .
«قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» .
- الإشارة فى قوله تعالى: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» هى إشارة إلى الصراط المستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه السالكون إلى الله، ممن رضى الله عنهم، كما يقول سبحانه: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» ..
فهذا الصراط هو الذي يسلكه عباد الله لمخلصون، وليس لإبليس سلطان على أحد ممن سلك هذا السبيل، واستقام على هذا الصراط.. لأن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على نفسه حراسة المستقيمين عليه، من كيد الشيطان وإغوائه.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» ..
فهؤلاء هم عباد الله المخلصون، وقد أضافهم سبحانه إلى نفسه، وأظلهم بحمايته ورعايته، وحرسهم من كل شيطان رجيم..(7/238)
ويقوّى هذا المعنى قراءة من قرأ: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» أي هذا صراط عال لا يناله إبليس بكيده ومكره، وهو صراط الله، الذي دعا عباده إليه.
- وقوله تعالى: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» .. هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .. وفى إضافة الناس جميعا إلى الله سبحانه، هكذا: «عبادى» - فى هذا إشارة إلى أن الإنسان- أي إنسان- يحمل فى فطرته ما يستطيع أن يدفع به كيد الشيطان، فلا ينال منه.. هكذا هم عباد الله، وهم الناس جميعا.. ولكن من عباد الله من يعمل على إفساد فطرته، فيعطى الشيطان فرصته فيه.. وبهذا يكون من الغاوين، الذين أغواهم الشيطان، فاستجابوا له، وكانوا جندا من جنده الضالين الغاوين.
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» الضمير فى قوله تعالى: «لَمَوْعِدُهُمْ» يعود إلى الغاوين، الذين ذكرهم سبحانه فى قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» ..
فهؤلاء الغاوون الضالّون، من كافرين، ومشركين، ومنافقين، وكل من عبد غير الله، أو اتخذ مع الله شريكا- هؤلاء جميعا يلتقون عند جهنم، فهذا هو الموعد الذي يلتقون عنده.. فكما كان التقاؤهم فى الدنيا على الضلال والكفر، كذلك يكون التقاؤهم فى الآخرة على أبواب جهنم وعذاب السعير.
- وفى قوله تعالى: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» إشارة إلى أن جهنم دركات ومنازل، عددها سبعة.. وأن أصناف الضالين يصنّفون حسب درجات ضلالهم إلى سبعة أصناف، كل صنف منهم ينزل منزلة من منازل جهنم السبعة، ويدخل إلى مكانه فيها من الباب الذي يؤدى به إلى هذا المكان.(7/239)
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» وإذا كان أولياء الشيطان قد نزلوا هذا المنزل لدّون، يلقون فيه ما يلقون من عذاب وهوان- فإن أولياء الرحمن، وعباده الّذين لم يكن للشيطان سبيل إليهم- هؤلاء موعدهم جنات النعيم، حيث العيون التي تغذّى هذه الجنّة، وتفجّر الحياة فيها.. فالعيون يحقّها دائما الشجر، والظل، والثمر.
- وفى قوله تعالى «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» تحية طيبة، يؤذن بها للمؤمنين بدخول الجنة، على مسمع من أهل النار، فيزيد شقاؤهم، وتعظم مصيبتهم..
وفى العدول من الغيبة إلى الخطاب احتفاء بالمؤمنين، واستدعاء لهم من قبل الله سبحانه، ليسمعوا هذا الأمر المسعد لهم من ربّ العالمين:
«ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» .. ادخلوها إخوانا متحابين.
- وقوله تعالى: «لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» إشارة إلى الحياة التي يحياها أهل الجنة، وأنها حياة أمن، وسلام، وراحة.. فلا عمل إلا ذكر الله، والتسبيح بحمده، والشكر لنعمه.. ومن تمام هذا النعيم أن الذي فيه لا يتهدده خوف من أن يفارقه هذا النعيم أبدا، أو يفارق هو هذا النعيم..
بل هو نعيم دائم متصل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» .
«نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.»
الخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب لعباد الله جميعا، وبلاغ لهم كلهم، بأنهم عباد الله، وأن ربّهم الذي خلقهم وأضافهم إليه، هو رب غفور رحيم.. مغفرته شاملة، ورحمته عامة، تسع كل شىء..
وكذلك هو سبحانه- مع رحمته- ذو عذاب أليم، لمن كفر به، وأعطى(7/240)
ولاءه لغيره، أو لمن طمع فى رحمته، ولم يرع حرماته، مجترئا عليه، مضيفا آثامه وذنوبه إلى رحمة الله ومغفرته.. فذلك مخادعة لله، ومكر بآياته.
فمن آمن بمغفرة الله الشاملة، ورحمته الواسعة، آمن به ربّا كريما رحيما، محسنا، وكان ذلك داعيا إلى حبّ الله وطاعته، لا إلى عصيانه ومحاربته..!
فالحال التي ينبغى أن يكون عليها العبد مع ربّه هى الطمع فى رحمته، والخوف من عذابه..
فالطمع يحرسه من اليأس إذا هو واقع إثما، أو ارتكب معصية.. والخوف يحرسه من أن يأتى الفواحش، أو يترخّص فيها، ولا يتأثم عند ما يضعف أمام هواه، فيقع فى المنكر..
وقد امتدح الله المؤمنين الذين يخشون ربّهم بالغيب، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة من ألا يقبل منهم ذلك الإيتاء.. وفى هذا يقول تعالى:
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60- 61: المؤمنون) .
وقد روى عن بعض الصالحين أنه كان يقول: «لو أنزل الله كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، ولو علمت أنّه معذّبى لا محالة، ما ازددت إلا اجتهادا، لئلا أرجع على نفسى بلائمة» .
ذلك هو ما يمليه العقل السليم، وما توحى به الفطرة، التي لم تفسدها الأهواء وتغتالها الضلالات.(7/241)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
الآيات: (51- 60) [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 60]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
التفسير:
فى هذه الآيات، شرح لقوله تعالى: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» ..
ففى هذه الآيات نفحات من رحمة الله ومغفرته.. وفيها لفحات من بأسه وعذابه.. رحمته ومغفرته التي تحفّ بالمتقين من عباده، وبأسه وعذابه الذي يحلّ بالضالّين الذين يتخذون الشيطان وليّا من دون الله..
وفى قوله تعالى: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ» تذكير بقصّة إبراهيم عليه السلام، إذ جاءه ملائكة الرحمن على هيئة بشرية، فظنهم ضيفا نزل عليه، وإذ كانوا قد دخلوا عليه فجأة من غير استئذان، فإنه وجد فى نفسه وحشة منهم وإنكارا لهم.. فقال فيما بينه وبين نفسه: «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ!» كما ذكر ذلك(7/242)
فى موضع آخر من القرآن الكريم.. وهنا يقول لهم فيما بينه وبين نفسه أيضا:
«إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أي خائفون.
وفى قوله تعالى: «قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» إشارة إلى أن الملائكة قد وجدوا دلائل الخوف وأمارات النّكر تظهر على إبراهيم، فقالوا له: «لا توجل» .. وهذا الموقف شبيه بالموقف الذي كان من الملائكة حين دخلوا على داود، ففزع منهم، فقالوا له.. لا تخف، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.. قالُوا لا تَخَفْ» (21- 22: ص) .
- وفى قولهم: «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» تعجيل بهذه البشرى، لكى يطمئن قلبه إليهم، وتأنس نفسه بهم، وكى يذهب هذا الخبر العجيب بهذا الخوف الذي دخل عليه فجأة.
وقوله تعالى: «قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ» .؟
إنكار من إبراهيم لهذه البشرى بالولد أن يجيئه، وقد بلغ من الكبر حدّا انقطع فيه الأمل من الولد، وانصرفت الرغبة عنده عن طلبه، إذ فات الأوان الذي تهفو فيه النفس إلى الولد، ويشتد الطلب له..
وكان جواب الملائكة: «قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» وكان هذا الجواب تصحيحا لمشاعر إبراهيم نحو الولد، وأنه إذا لم يكن هو الذي يطلب الولد بعد هذا العمر الذي بلغه، فإن إرادة الله هى التي جاءت بهذا الولد فى هذا الوقت، وفى هذه المرحلة من العمر.. وذلك هو الحقّ الذي لا بدّ أن يقع.. ومن ثمّ كان وقوعه فى هذا الوقت هو أنسب الأوقات، حسب تقدير الله، وكان تأخيره إلى هذا الوقت لحكمة يعلمها الله، وإن خفيت على إبراهيم، وغاب عنه ماوراءها من خير.(7/243)
- وقوله تعالى: «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» .
القنوط: هو اليأس من أمر محبوب منتظر طال انتظاره، حتى فات وقته.. وقد كان ذلك النصح من الملائكة لإبراهيم، إلفاتا له إلى ما لله سبحانه من حكمة، فى تقدير الأمور، وتوقيت الأحداث، وأنه إذا كان لإنسان مطلب خاص عند الله، فليس له أن يوقّت له، وأنه إذا وقّت له، ثم لم يقع فى وقته فليس له أن ييأس من إجابة طلبه.. فإلى الله سبحانه وتعالى تقدير الأمور وتوقيتها.. وإن اليأس من تحقيق المطلوب بعد فوات الوقت الذي وقّته له- فيه انقطاع الرجاء من الله، وصرف الوجه عنه.. وهذا ما لا ينبغى من مؤمن يؤمن بالله، ويعرف لله قدره.. ولهذا جاء جواب إبراهيم: «قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» - تقريرا لهذه الحقيقة، وأنه عليه السلام لم يكن قانطا من رحمة الله، ولكنه كان متعجبا دهشا لهذا الأمر الذي طلع عليه فجاءة بولد غير منتظر! وهنا سؤال هو: كيف يقع من إبراهيم هذا الدّهش الذي يبلغ حدّ الإنكار من أن يكون له ولد، وهو الذي كان له ولد وهو «إسماعيل» عليه السلام، لذى سبق مولده مولد إسحاق؟
والجواب على هذا، أن إبراهيم كان ينتظر الولد من امرأته سارة، وأنه إذ طال انتظاره حتى مسّه الكبر، وبلغت سارة سنّ اليأس الذي لا يولد فيه لمثلها- اتجه إلى أن ينجب الولد من امرأة غيرها، فكان له من زوجته «هاجر» ولده إسماعيل، الذي انتقل به وأمّه إلى البيت الحرام، وأسكنه وأمّه هناك حيث المكان الذي هو مكة الآن..
وإذ لم يكن لإبراهيم غير «سارة» التي يعيش معها، فإنه أنكر أن يكون له ولد منها، بعد أن وصلا إلى هذه المرحلة من العمر!(7/244)
وسؤال آخر.. هو:
الوصف الذي وصف به الولد الذي بشّر به إبراهيم هنا من الملائكة هو أنه غلام «عليم» ثم ذكر هذا الوصف مرة أخرى فى قوله تعالى: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (28: الذاريات) على حين أن هناك وصفا آخر لولد بشّر به إبراهيم وهو أنه غلام «حليم» كما يقول سبحانه «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (100- 101: الصافات) ..
فما سرّ اختلاف الوصفين؟ وما دلالة هذا الاختلاف.؟
والجواب:
أولا: أن وصف الغلام بأنه غلام «عليم» هو وصف للولد الذي بشر به من الملائكة بعد اليأس، وهو «إسحق» عليه السلام..
وأما الوصف الذي وصف به الغلام بأنه غلام «حليم» فهو نصف لإسماعيل عليه السلام، وأنه لم يجىء بعد اليأس، وإنما جاء إجابة من الله سبحانه لدعوة إبراهيم إذ دعا ربّه، فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
وهذا مقام غير المقام الذي استقبل فيه البشرى بإسحاق.. فهنا يدعو دعاء الراغب الطامع، وهناك ينكر إنكار اليائس الذي انقطع طمعه فى الولد! وثانيا: أن الوصف الذي وصف به الغلام بأنه «حليم» والذي قلنا إنه وصف لإسماعيل- هذا الوصف، يشير إلى أن إسماعيل هو الذبيح، وأن صفة الحلم، هى الصفة التي تناسب الموقف الذي وقفه من أبيه حين قال له:
«يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» ؟ فكان جوابه:
«يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (102: الصافات) .(7/245)
وثالثا: يجىء بعد هذا الموقف بين إبراهيم وإسماعيل قوله تعالى:
«وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (112: الصافات) .
وفى هذا ما يقطع بأن الذبيح هو إسماعيل.
وسنعرض لهذا الموضوع فى مبحث خاص إذا شاء الله، عند تفسير سورة الصّافات..
قوله تعالى: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» ..
الخطب: الأمر العظيم، والشأن الجلل..
وفى سؤال إبراهيم للملائكة عن شأنهم، وعن الأمر العظيم الذي جاءوا له ما يشير إلى أن ما جاء إليه الرسل لم يكن هو البشرى بالولد، وأن هذه البشرى لم تكن إلا تطمينا لإبراهيم، وإجلاء للروع الذي استولى عليه..
وأنه بعد أن ذهب روعه وأنس إلى هؤلاء الملائكة الكرام.. سألهم:
«فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؟» فكان جوابهم: «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» .. وهؤلاء القوم، هم قوم لوط.. وقد استثنى منهم لوط وآله بقوله تعالى: «إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ» ..
وهنا سؤال:
إذا كان هؤلاء الرسل من الملائكة، قد جاءوا لمهمة خاصة، وهى إهلاك قوم لوط، فلم عرّج الرسل على إبراهيم، ولم يذهبوا رأسا إلى لوط، وهو نبىّ مرسل كما أن إبراهيم نبىّ مرسل؟ ..
والجواب على هذا: هو أن لوطا عليه السلام كان من قوم إبراهيم، وممن استجاب لدعوته من دون قومه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ(7/246)
لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
(26:
العنكبوت) ..
وقد خرج لوط من بين القوم، واتخذ له موطنا قريبا من إبراهيم، يدعو فيه إلى ربه، بدعوة إبراهيم.. وكانت القرية التي أوى إليها لوط قرية ظالمة فاسدة، وكان أهلها- فوق شركهم- يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. كما يقول الله تعالى على لسان لوط لهم: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (28- 29: العنكبوت) ولهذا فقد عجل الله لهم العذاب فى الدنيا، ولم يعجله لقوم إبراهيم، إذ كان قوم إبراهيم مجتمعا كبيرا يضمّ أمة فى إهلاكها قضاء على الحياة فى رقعة كبيرة من الأرض، قبل أن يتسع العمران، فيكون هلاكها أشبه بالطوفان الذي ذهب بقوم نوح.. أما قوم لوط، فقد كانوا عضوا خبيثا فى جسد هذا المجتمع الفاسد الذي يضم قوم إبراهيم، فكان من حكمة الله، بتر هذا العضو الخبيث، والإبقاء على هذا الجسد الفاسد يعانى من دائه، حتى يجىء من يطبّ له من رسل الله..
من ذرية إبراهيم..!
وعلى هذا، فإن مجىء الرسل إلى إبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط، هو مما تقتضيه طبيعة الأمور، إذ كان لوط- وإن كان نبيا مرسلا- هو من قوم إبراهيم، ومن الذين تابعوه، فكان إعلام إبراهيم بما سينزل على لوط من بلاء، مما لا يغفل عنه أدب السماء..
ولهذا فإن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقّى هذا النبأ من الملائكة، فزع وقال: «إِنَّ فِيها لُوطاً!!» (32: العنكبوت) وكان جواب الملائكة:
«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» .. ولم يقف إبراهيم عند هذا الحد، بل جعل يجادل(7/247)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
الملائكة فى هذا الأمر النازل بهؤلاء القوم، وفى ذلك يقول الله تعالى:
«فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» (74- 76: هود) ..
الآيات: (61- 77) [سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 77]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
التفسير:
قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» ..(7/248)
المرسلون، هم الملائكة، الذين كانوا مع إبراهيم منذ قليل.. وهنا تنتقل أحداث القصة من الموقف مع إبراهيم، إلى لوط.. عليهما السلام..
وكما وجد إبراهيم فى نفسه من مفاجأة الملائكة له ما وجد من فزع وتخوّف- وجد لوط هذه المشاعر منهم، فقال: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .
وفى هذا الموقف نجد فرقا بين إبراهيم ولوط..
فإبراهيم قال ما قال فى همس، وتخافت، دون أن يجبه الضيف بما يسوؤهم، طاويا تلك المشاعر فى صدره، ممسكا بها فى كيانه،. فقال: «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أما لوط فإنه لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الموحش الذي استولى عليه من القوم، فواجههم بما وقع فى نفسه منهم، وقال: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .
ولهذا كان إبراهيم أهلا لهذا الوصف الكريم، الذي وصفه الله سبحانه وتعالى به فى قوله سبحانه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» ..
ولعلّ مما يقوم للوط من عذر فى مجابهة القوم بهذا القول هو ما رآه فيهم من ملاحة وحسن، مما يغرى قومه بهم، الأمر الذي يسوؤه أن يقع لمن ينزل فى ضيافته..
وهنا سؤال أيضا.. وهو: لماذا كان الحديث عن لوط فى مجىء الرسل، إليه غير موجه إليه، بل كان موجها إلى آله.. هكذا: «ولمّا جاء آل لوط المرسلون» ؟ ولم التزم القرآن هذا التعبير فى كل مرة ورد فيها مجىء الرسل إلى لوط؟ ..
والجواب على هذا- والله أعلم- أن لوطا عليه السلام كان هو وآل بيته..
- غير امرأته- كلّ من آمنوا بالله فى القرية.. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَما(7/249)
وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»
(36: الذاريات) .. وبهذا يكون لوط ومن آمن معه من آل بيته، هم كيان واحد سليم، فى مجتمع هذه القرية الفاسدة، ومن هنا كان الحديث إلى لوط فى هذا الجسد الذي يضمه ويضمّ أهله الذين آمنوا معه، والذين هم أشبه ببعض أعضائه!.
قوله تعالى: «قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» ..
الامتراء: الجدل فى غير حق..
وهذا هو الردّ الذي واجه به الملائكة إنكار لوط لهم، فقد جاءوه ببشرى أشبه بتلك البشرى التي بشروا بها إبراهيم من قبله، حين بشروه بغلام عليم..
- وفى قولهم: «بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ» إضراب على تلك المشاعر التي وقعت فى نفس لوط منهم، وأنهم ما جاءوا بما يخيفه ويؤذيه، بل جاءوا لنجدته، ولتصديق وعيده للقوم، الذين كانوا يستخفّون بما أنذرهم به من عذاب الله ونقمته.. أي إننا لم نجىء بما يخيفك، بل جئنا بالبلاء الذي كنت نتوعد به القوم فيمترون فيه، ويكذبون به.. فهذا هو ما جئناك به، وإنه للحقّ الذي كنت تتحدى به القوم وهم يكذبون ويسخرون: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» فيما نحدّثك به، فليفرخ روعك، وليطمئن قلبك..
قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» ..
القطع من الليل: الجزء، والبقية الباقية منه.. والمراد به هنا، الجزء الأخير من الليل الذي يسبق الفجر..(7/250)
وهكذا دبّر الملائكة الأمور مع «لوط» ، وهو أن يسرى بأهله، أي يخرج بهم ليلا، من غير أن يشعر به القوم، وأن يكون هذا السّرى فى آخر اللّيل، وذلك بعد أن تسكن الحياة فى القرية، ويستغرق القوم فى نوم عميق.. وأن يكون وراء أهله السّارين معه، وعلى أثرهم، كالراعى وراء قطيعه.
- وفى قوله تعالى: «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» إشارة إلى أن يقطعوا ما بينهم وبين القرية وأهلها من كل شعور يلفتهم إليها، ومن كل عاطفة تعطفهم نحوها.
- وفى قوله تعالى: «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» إشارة إلى أن لوطا فى مسراه هذا لا يعرف الوجهة التي سيأخذها فى سيره، وإنما سيلهم ذلك من الله سبحانه، وسيأتيه الأمر بالاتجاه إلى الجهة التي أرادها الله سبحانه وتعالى له..
قوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ» .
أي أنهينا إليه ذكر الأمر، وأفضينا إليه بما فيه، وذلك عن طريق الوحى بوساطة هؤلاء الملائكة.. وهو أن «دابر هؤلاء القوم مقطوع مصبحين» أي مهلكهم هو الصبح، بحيث لا تبقى منهم باقية..
قوله تعالى: «وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ» ..
لقد أدّى الملائكة مهمتهم مع لوط، وأفضوا إليه بما جاءوا به.. ولكن كان ذلك بعد أن جاءه قومه، حين علموا بهؤلاء الضيوف الذين نزلوا عنده، يريدون الفاحشة بهم، فأقبلوا إليه، وقد طارت قلوبهم فرحا واستبشارا، بهذا الصيد السمين، الذي وقع فى الشرك! وقد دفعهم لوط عنهم، مستبشعا هذا الفعل المنكر فى ذاته، ثم هو أشد استبشاعا وإنكارا له، فى ضيوف نزلوا عنده..
قائلا: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ..»(7/251)
وكان ردّهم عليه، هو ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم فى قوله:
«قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟» أي ألم نحذّرك من أن تتعرض لنا، وأن تحول بيننا وبين أحد من الناس أيّا كانوا، سواء أكانوا من قومنا، أو من أي قوم آخرين؟ وهذا ما تشير إليه كلمة «العالمين» التي تشمل الناس جميعا من كل جنس، ومن كل أمة..
«قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» .. وهكذا يدفع لوط هذا المنكر بكل ما يملك من قوى الدفع.. لقد عرض على هؤلاء القوم الضالّين بناته، ليتخذوا منهن زوجات لهم، وليكون لكل منهم زوجة من نساء قريتهم..
فذلك هو الذي ينبغى أن يكون من الرجال..
«لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
هذه الآية الكريمة، جاءت معترضة فى ثنايا أحداث القصة.. وفيها التفات إلى النبىّ الكريم «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ليرى صورة من صور الإنسانية الضالّة، التي يستبدّ بها الضلال، ويركبها التزق والطيش، فلا تستمع لرشد، ولا تستجيب لنصح.
وفى القسم بالنبيّ الكريم، تكريم له، واحتفاء بشخصه، وتمجيد لقدره، ورفع لمنزلته.. فما أقسم الحق سبحانه وتعالى بإنسان غير هذا الإنسان، وفى ذلك إشارة إلى أنه واحد الإنسانية والممثل لها.. فقد أقسم الحق سبحانه وتعالى بكثير من العوالم الأخرى، إذ كانت كلّها قائمة على ما خلقها الخالق- سبحانه- دون أن تنحرف قيد أنملة.. أما عالم البشر وحده، ففيه انحرافات لم يسلم منها إنسان، إلا أنها فى رسل الله والمصطفين من عباده لا تعدو أن تكون ذبذبات خفيفة، لا تعكرّ صفوهم، ولا تميل بهم عن الصراط المستقيم..(7/252)
ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- كان فى هذا أكملهم كمالا، وأصفاهم صفاء!! إنه الإنسان الذي تتمثل فيه الإنسانية كلها فى أعلى منازلها، وأكرم صورتها.
والسّكرة: ما يعترى الإنسان من ذهاب عقله، بمعاطاة خمر أو نحوها، مما يذهب بالعقل..
والعمه: العمى والضلال..
قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ» . الضمير فى أخذتهم، يعود إلى قوم لوط، ومشرقين أي عند الشّروق.. شروق الشمس.. والصيحة، هى العذاب الذي أهلكوا به.
قوله تعالى: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» - هو بيان لآثار هذه الصيحة، وأنها قلبت القرية، فجعلت أعلاها أسفلها، أي أنها أتت على بنيانها، فجعلته أرضا.. ثم تبع ذلك مطر من حجارة موسومة، معّدة ومحمّلة بالمهلكات..
قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» .. المتوسّمون هم الذين يستدّلون على حقائق الأشياء بالسّمات الظاهرة أو الخفية منها.. وهذا لا يكون إلا عن نظر متفحّص، وبصيرة نافذة..
وهذا المصير الذي صارت إليه قرية لوط وأهلها، قد خلّف وراءه كومات من تراب.. فمن رآها بنظر غافل، وعقل شارد، لم ير إلا التراب المهيل، ومن تفحص فيما وراء هذا التراب، رأى ما يجنى الضلال على أهله، وما يخلف الهوى من شؤم وبلاء وراءه.
قوله تعالى: «وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» .. أي إن هذه القرية لا تزال من مخلفات الدمار والهلاك.. قائمة حيث كانت، يراها كل من يمر بها فى هذه المواطن..(7/253)
قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» أي فى هذه المخلفات آية لمن كان مستعدا للإيمان، حين تلوح له دلائل الحق، وتبدو له شواهده..
ومن إعجاز القرآن هنا ما نجده فى اختلاف النظم بين فاصلتى الآيتين فى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» وفى قوله سبحانه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» .. ومن أسرار هذا الاختلاف:
أولا: أن المتوسّمين- وهم كما قلنا- أصحاب البصر الحديد والبصيرة النافذة- تتكشف لهم من ظواهر الأشياء أمور لا تتكشف لغيرهم من سائر الناس..
فهم يرون آيات، على حين يرى غيرهم آية.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» وذلك فيما تحدّث به أخبار القوم الظالمين..
وثانيا: أن المؤمنين، أو من فى كيانهم استعداد للإيمان- هؤلاء، لا يحتاجون إلى كثير من الأدلة والبراهين، حتى يذعنوا للحق، ويهتدوا إلى الإيمان، وإنما تكفيهم الإشارة الدالّة، أو اللمحة البارقة، حتى يكونوا على طريق الإيمان.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» .. وذلك فيما تحدث به مخلّفات هؤلاء القوم الهالكين.
وثالثا: أن الإيمان أمره هيّن، ومراده قريب.. وأن القاصد إليه، الباحث عنه، لا يحتاج إلى معاناة نظر، أو كدّ ذهن، وكل ما يحتاج إليه فى تلك الحال، هو أن يخلى نفسه من التشبث، والعناد، والمكابرة، وأن يلقى وجه الإيمان بقلب سليم، ورأى مستقيم.. عندئذ يرى أن الإيمان أقرب شىء إليه، وآلف حقيقة عنده.. إذ كان جاريا مع الفطرة الإنسانية، متجاوبا مع أشواقها وتطلعاتها.
هذا، وقد جاء النظم القرآنى لقصّة لوط هنا، مخالفا لما جاء عليه فى مواضع(7/254)
أخرى.. ذلك أن الملائكة هنا أخبروه بهلاك القوم، وبما ينبغى أن يفعله هو وأهله حتى لا ينزل بهم ما ينزل بأهل القرية من دمار وهلاك- أخبروه بهذا قبل أن يعلم أهل القرية بهم، وقبل أن يجيئوا إلى لوط يريدون الفاحشة فى هؤلاء الضيوف.. هكذا تحدث الآيات هنا..
وفى مواضع أخرى جاء النظم القرآنى على غير هذا، كما يقول الله تعالى فى سورة «هود» مثلا: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» (الآيات: 77- 81: هود) وترتيب الأحداث هنا غير ترتيبها فى النظم السابق.. كما ترى..
فما جواب هذا؟
والجواب- والله أعلم- هو أن الملائكة فى هذه الآيات- قد ألقوا بالبشرى إلى لوط، حين التقوا به، ورأوا ما دخل عليه منهم من خوف وفزع، فقالوا له: «لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» .. ثم جاءه قومه بعد ذلك، وكان ما كان منهم معه ومع الملائكة.. فكان من لوط كرب وضيق مما حلّ بالملائكة، وتشبث قومه بهم، ومحاولة الاعتداء عليهم، فكان حديث الملائكة له بقولهم: «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» توكيدا لما حدّثوه به من قبل، وأنهم إذا كانوا على تلك الصفة فلن ينالهم أحد بمكروه.. ثم كان(7/255)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
من تمام ذلك أن أعادوا تذكيره بما حدثوه به من قبل، وهو أن يسرى بأهله بقطع من الليل ولا يلتفت منهم أحد إلى هؤلاء القوم الذين خلفوهم وراءهم ليلاقوا مصيرهم.
الآيات: (78- 84) [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 84]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
التفسير:
أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب.. والأيكة: الشجر الكثيف، المجتمع بعضه إلى بعض..
و «إن» فى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» هى إن المخففة من الثقيلة.. واللام فى قوله تعالى: «لَظالِمِينَ» هى لام التوكيد التي تدخل على خبر إنّ.. وقد دخلت هنا على خبر كان لأن كان هى ومعمولاها خبر لأن، واسم إنّ ضمير الشأن، والتقدير: وإنه كان أصحاب الأيكة لظالمين.
قوله تعالى: «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ» ..
الإمام: المقدّم، والإمام من كل شىء مقدّمه، لأنه يكون أمامه.. والمراد به هنا: الهادي والمرشد.. والمبين: الواضح البيّن..(7/256)
وضمير المثنى فى قوله تعالى: «وَإِنَّهُما» بعود إلى قوم لوط، وقوم شعيب.. وهذا ما يشير إليه عطف أصحاب الأيكة (قوم شعيب) على التعقيب الوارد على قصة قوم لوط، وهو قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» فكان قوله تعالى بعد هذا التعقيب. «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ» تعقيبا على هذا التعقيب، ويكون المعنى: إن فيما وقع لقوم شعيب من بلاء، لآية لمن كان مستعدّا للإيمان، متقبلا له، وإن أصحاب الأيكة لظالمون، إذ لم يجدوا فى هذه الآية عبرة وعظة لهم، فانتقمنا منهم كذلك، وقد كان بين يدى كل منهما إمام مبين يهديه، يكشف له معالم الطريق، فضلا عن الآيات التي كانت تطل عليهم من مصارع الظالمين فى القرون الغابرة.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ» هو إشارة موجزة لقصة «ثمود» قوم «صالح» عليه السلام، وسمّوا أصحاب الحجر، لأن ديارهم كانت منحوتة فى الجبال، فكانت حجرا يحجرهم عن أىّ عدو يريدهم، من إنسان أو حيوان.. ومنه الحجر، وهو العقل، وقد سمى حجرا لأنه يحجر صاحبه عن السوء، ويعصمه من الزلل.
قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» الصيحة: الرّجفة، وهى نفس البلاء الذي نزل بقوم لوط، وقد أخذتهم «مصبحين» أي وقت الصبح، كما أخذت قوم لوط فى هذا الوقت «مشرقين» أي وقت الشروق.
وهذا هو السرّ فى الإشارة إلى قوم صالح هنا، دون قوم «هود» ، كما اعتاد القرآن دائما أن يذكرهما معا..(7/257)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
الآيات: (85- 99) [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 99]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
التفسير:
قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن ما أخذ الله به أهل الضلال والعناد، ممن كفروا بالله، وآذوا رسله- هو من سنن الله فى خلقه، فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، ولم يخلقهما عبثا أو لهو، كما يقول سبحانه:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (16. الأنبياء) . والإنسان(7/258)
مما خلق الله، ولم يخلق الإنسان عبثا كما يقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) . لقد خلق الإنسان ليعبد الله، ويسجد لربوبيته، كما يقول جل شأنه: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (56: الذاريات) .. وقد خصّ الجن والإنس بالذكر، لأنهما هما الكائنان اللذان فيهما إرادة قادرة على أن تنزع بهما إلى الانحراف عن عبادة الله، وعن الخروج عن طريقه المستقيم.. أو تستقيم على هدى الله.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ» إشارة إلى حتمية الحساب والجزاء لهذين الكائنين- الجن والإنس- من بين المخلوقات جميعا..
إذ أنهما- كما قلنا- هما الكائنان اللذان يقع منهما الانحراف، ويكثر فيهما المنحرفون عن طريق الحق، الذي أقام لله سبحانه وتعالى الخلق عليه.
ففى هذا الجزاء الذي يلقاه المنحرفون تقويم لهم، وإصلاح لشأنهم..
- وفى قوله سبحانه: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» عزاء للنبى، ومواساة له، وربط على قلبه، لما يلقى من عناد المعاندين، وسفاهة السفهاء من قومه..
فالساعة آتية، وفيها يسوّى حساب هؤلاء الضالين، فليلق النبىّ سفاهاتهم وحمقاتهم بالصفح الجميل، وليدعهم ليوم الفصل: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» (13- 14: الطور) .
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» هو تعقيب على ما تضمنته الآية السابقة، من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق، وأن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما كسبت.. وفى وصف الحق جل وعلا بأنه «الخلاق» إشارة إلى أنه يبدع فيما خلق، يخلق.. السماء والأرض.. والنهار والليل، والملك والشيطان، والإنسان الذي يعلو فيكون مع الملائكة، ويسفّ فيكون مع الشياطين.. وفى وصفه سبحانه بأنه «العليم» إشارة أخرى إلى أن هذا(7/259)
التنويع فى الخلق، إنما هو عن تقدير وعلم وحكمة..
وفى إضافة النبي الكريم إلى ربه سبحانه وتعالى «ربك» ، إيناس للنبى، وتكريم له، حيث تحفّه ألطاف ربه، الذي يدنيه إليه، ويضيفه إلى رحاب ذاته العليّة.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» .
اختلف فى السبع المثاني.. ما هى؟ فقيل إنها السبع الطوال من سور القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، (والأنفال، والتوبة. باعتبارهما سورة واحدة) وقيل إنها الحواميم السبعة، وهى غافر (المؤمن) والسجدة (فصلت) والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وقيل إنها الفاتحة.. (أم الكتاب) .
والرأى الذي نطمئن إليه، أن السبع المثاني، هى الآيات السبع التي احتوتها أم الكتاب..
وسميت مثانى لأنها ثناء خالص على الله.. ليس فيها قصص، أو أحكام، أو غير هذا مما تضمنه القرآن الكريم.. فهذه السبع المثاني هى:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..» «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ..» «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..» «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ..» «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ..»
فهذا ثناء خالص على الله سبحانه. وتسبيح بحمده، وولاء بالعبادة له وحده، واستمداد للعون منه وحده، والبراءة من كل ما سواه.(7/260)
«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ..»
وهذا دعاء خالص لله سبحانه، والدعاء تسبيح وعبادة، بل هو- كما قيل- مخّ العبادة..
فهذه الآيات السبع هى ثناء على الله.. سواء ما كان منها تسبيحا صريحا، أو تسبيحا فى صورة دعاء..
والمثاني، جمع مثناة، وهى مفعلة من الثناء، اسم مرّة، أو مصدر ميمى..
- قوله تعالى: «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» عطف على «سبعا» . من عطف الكل على الجزء، إلفاتا إلى الجزء، واحتفاء به.. كما تقول أكلت العنب والفاكهة..
واختصاص الفاتحة بالذكر، مع أنها من القرآن الكريم، للتنويه بها، لأنها أم الكتاب، وهى التي اختصت من بين آيات القرآن الكريم بأن تكون الذكر الذي يذكر به الله سبحانه وتعالى فى الصلاة.. فمن صلى بغيرها كانت صلاته ناقصة، كما فى الأثر: «من صلّى بغير أم الكتاب فصلاته خداج» أي ناقصة، كما يولد المولود لغير تمام، فيقال: ولد خداجا..
وفى وصف القرآن الكريم بقوله تعالى: «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» إشعار بأن تقديم أم الكتاب عليه، وإن كان فيه تنويه بها، ورفع لقدرها، فإنه لا ينقص من عظمة القرآن، ولا ينزل من منزلته العالية التي لا تنال..
فهو القرآن العظيم.
قوله تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت تمهيدا لهذه(7/261)
التوجيهات التي تلقاها النبي الكريم من الله سبحانه وتعالى..
فقد ذكّر النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى الآية السابقة بما بين يديه من نعمة عظيمة، وفضل كبير من ربه.. فلقد آتاه الله السبع المثاني والقرآن العظيم.. وهذا عطاء لا توزن الدنيا كلها وأهلها، بكلمة من كلماته..
- وفى قوله تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» - استصغار لهذا الزخرف من الحياة الدنيا الذي جعله الله سبحانه وتعالى متاعا لهؤلاء المشركين الضالين، وإنه لا ينبغى للنبى الكريم أن يلتفت إلى شىء من هذا المتاع، راضيا بهذا الفضل العظيم الذي بين يديه من كلمات ربه، واصطفائه لتلقيها وحيا من السماء، مستغنيا عن كل ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع.
- وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى كثرة من أنعم الله عليهم، وابتلاهم بهذه النعم من المشركين.. فالأزواج كثرة، والأفراد قلة ثم إن التزاوج فى ذاته نعمة من نعم الله، كما يقول سبحانه مذكّرا بهذه النعمة: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (8: النبأ) .
وفى قوله تعالى «مِنْهُمْ» تهوين لشأنهم، وإضراب عن ذكرهم، بالحديث عنهم بضمير الغائب، فهم غائبون وإن كانوا حاضرين..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» استخفاف بهم أيضا، وأنهم لا يستحقون أن يحزن النبي، أو يجد فى نفسه شيئا من هذا الضلال الذي هم فيه، ولهذا المصير المشئوم الذي ينتظرهم.. فهم أهل لهذا الضلال، وهذا المصير الذي هم صائرون إليه وإن كانوا أهله، وقرابته.
- وقوله تعالى: «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» احتفاء بشأن للمؤمنين، ورفع لمنزلتهم، وأن على النبي أن يلقاهم حفيّا بهم، مكرما لهم، متجاوزا عن هناتهم.(7/262)
قوله تعالى: «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» - هو إعلام للنبى بالأذان الذي يؤذّن به فى الناس جميعا، وهو أنه النذير المبين، الذي يكشف لهم معالم الطريق إلى الهدى، ويريهم مغبة التنكّب عن هذا الطريق، وركوب طرق الكفر والشرك.. وقد قالها النبىّ الكريم صريحة لهم كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا النذير العريان» أي الفزع، كالنذير الذي جاء ينذر قومه بالهلاك المقبل عليهم، فأعجله ذلك عن أن يلبس ملابسه، فجاءهم عريانا.
قوله تعالى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» .
المقتسمين: الذين اقتسموا كلام الله، فأخذوا بعضه، وأعرضوا عن بعض..
وهؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (85: البقرة) .. والعضين: جمع عضو، وأصله عضوين.
والتشبيه فى قوله تعالى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ» يشير إلى المشبه، وهو قوله تعالى «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» أي قل هذا القول لقومك، كما قاله الرسل السابقون إلى أقوامهم، فيما أنزلنا على هؤلاء المقتسمين من أهل الكتاب على يدرسلهم.. إذ كل رسول كان لسانه إلى قومه هو قوله:
«إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» .
- وقوله تعالى: «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» هو صفة للمقتسمين، وكشف عن معنى ما اقتسموه، وهو القرآن الكريم الذي قبلوا بعضه، وردّوا بعضه، فجعلوه أبعاضا، وهذا- فوق أنه كفر- هو سفه، ومكر بآيات الله.. فإن الحقّ كيان واحد، فإما أن يقبل كله، أو يرد كلّه..
والقرآن الكريم إما أن يكون كلام الله، فيقبل، أولا يكون من كلام الله،(7/263)
فيردّ.. أما أن يقبل بعضه ويردّ بعضه، فذلك هو النفاق العقلىّ، الذي يخون به المرء نفسه، ويخادع منطقه.
قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» تهديد لهؤلاء المشركين المعاندين من قريش، وهؤلاء المكذبين المنافقين من أهل الكتاب، ولهذا جاء قوله تعالى «أجمعين» جامعا لهم جميعا فى موقف المساءلة، والجزاء..
قوله تعالى. «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» .
الصدع: أصله الشقّ فى المواد الجامدة.. ومنه قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (21: الحشر) .
والمراد بالصدع الذي أمر به النبي هنا، هو أن يكشف عما أوحى إليه من ربّه، وأن يظهره للناس، ويبلغه إياهم.. والتعبير عن هذا بالصدع، يشير إلى أمرين:
فأولا: أن هذه المهمة التي يقوم بها النبي مهمة شاقة عسيرة، من شأنها أن يتصدع لها كيان الإنسان، كما تتصدع الأرض حين تنشق عن النيات المخبوء فى صدرها.. كما يقول جل شأنه: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» (11- 12: الطارق) ، وإلى ثقل هذه المهمّة يشير قوله تعالى:
«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (5: المزمل) وثانيا: أن هذا الذي يصدع به النبىّ ويخرجه من صدره، هو مما تتزوّد به النفوس، وتحيا عليه القلوب، كما تتزود الأجساد بما تخرج الأرض من حب وثمر، يمسك وجودها، ويحفظ حياتها..
قوله تعالى: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» هو تطمين للنبىّ، وتثبيت له على طريق دعوته، وعون من الله له، على أداء مهمته الثقيلة. وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيتولى حساب(7/264)
هؤلاء الذين يقفون فى طريقه، يهزءون به، ويسخرون منه، وليس هذا منهم وحسب، بل إنهم ليجعلون مع الله إلها آخر.. فجريمتهم جريمتان.. استهزاء بالنبيّ، وكفر بالله، وواحدة منهما مهلكة لمقترفها، فكيف بمن اقترف الجريمتين معا؟.
- وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المستهزئين بالرسول، الكافرين بالله..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» .
التعبير بفعل المستقبل «نعلم» مع أن علم الله سبحانه وتعالى حاضر- إشارة إلى أن ما كان من المشركين من استهزاء بالنبي، وما يكون منهم، فإن الله يعلمه علما قديما قبل أن يكون، وعلما مقارنا للفعل بعد أن يقع.
وما يقوله المشركون مما يضيق به صدر النبي، هو ما يرمونه به من قولهم:
شاعر مجنون، وقولهم: هو كاذب، وقولهم: هو ساحر.. مما حكاه القرآن من مقولاتهم الحمقاء فى النبىّ الكريم..
- وقوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» هو إلفات للنبى ألّا يعطى أذنه لهذا اللغو الذي يلغو به هؤلاء المشركون، وأن يدع أمرهم إلى الله، فهو الذي يعلم ما يأتون من منكرات فى جانب النبىّ، والله سبحانه هو الذي يتولّى حسابهم، ويكفيه استهزاءهم.. ومن ثمّ وجب على النبىّ أن يتجه بكيانه كله إلى حمد ربّه، والسجود له، حمدا وشكرا، على ما أولاه من نعمه، وأفضاله..
- وقوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» معطوف على ما قبله وهو(7/265)
قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» .. أي اجعل هذا التسبيح، وذلك السجود، عبادتك لله، حتى آخر نفس من أنفاسك فى هذه الحياة، حيث يأتيك اليقين، وهو وعد الله الذي يشهد عنده الإنسان مشاهد الحق، وعندها يستيقن ما كان يؤمن به، أو ينكره، أو يشك فيه، من لقاء ربّه، ومن الحساب والجزاء.. فللإنسان عند لقاء الموت صحوة يطّلع منها على ماوراء هذه الدنيا، فإذا مات، رأى عالم الحقّ عيانا.. وفى هذا يقول النبىّ الكريم: «الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا»(7/266)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
16- سورة النحل
نزولها: مكية.. إلا آيات منها فمدنية عدد آياتها: مائة وثمان وعشرون آية عدد كلماتها: ألفان وثمانمائة وأربعون كلمة عدد حروفها: سبعة آلاف، وسبعمائة، حرف، وسبعة أحرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 9) [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)(7/267)
التفسير:
بهذا البدء: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» تبدأ هذه السورة، فيلتقى بدؤها مع ختام السورة التي قبلها، وكأنه جواب على سؤال تلوّح به الآية التي كانت ختاما للسورة السابقة..
ففى ختام سورة الحجر، كان قوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» - كان هذا مثيرا لبعض الأسئلة: ما هو اليقين؟ ومتى هو؟ وهل يطول انتظاره؟
وقد جاء قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» مجيبا على هذه الأسئلة.
فاليقين: هو أمر الله، وهو يوم القيامة.. وقد كان المشركون يسألون.. منكرين هذا اليوم، ومستعجلين وقوعه إن كان له وجود، وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» (51: الإسراء) .. ويقول سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» (17- 18: الشورى) .
أما موعد هذا اليوم، فعلمه عند الله.. ولكنه قريب.. وهل بعيد هو ذلك اليوم الذي ينتهى فيه عمر الإنسان، ويفارق هذه الدنيا؟ إن الموت قريب من كلّ إنسان، فقد ينتزع روحه وهو قائم، أو قاعد، أو سائر. فليس للموت نذر يقدمها بين يديه لمن انتهى أجله.. وإذن فالموت مصاحب لكل إنسان، دان منه، ممكّن من انتزاع روحه فى أي لحظة من لحظات حياته..
وإذا مات الإنسان، فقد قامت قيامته، بمعنى أنه رحل من الدنيا، دار الفناء، إلى الآخرة، دار البقاء..(7/268)
- وفى قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» تقرير لحقيقة واقعة، وهى أن أمر الله، وهو انتقال الناس من دار الفناء إلى دار البقاء- قد أتى فعلا منذ كان للناس حياة على هذه الأرض.. فلم يستعجلون أمر الله فيهم، وهو موجود بينهم، عامل فيهم؟ إن الموت يأتى كل يوم على أعداد كثيرة من الناس، فمن لم يمت اليوم، فهو سيموت غدا أو بعد غد فلم يستعجل الناس أمرا يطلبهم؟
وفى قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا الشرك الذي هم فيه، وعن هؤلاء الشركاء الذين يعبدونهم من دونه.. ثم هو إلفات لهم إلى أن يخرجوا من هذا المنكر الذي هم فيه، وقد أظلّهم يوم القيامة، ونزل بهم أمر الله.. فإنهم إن لم يسرعوا للفرار مما يعبدون من دون الله، أدركهم الموت، ووقعوا فى شباكه ولم يكن لهم ثمّة سبيل إلى النجاة..
وقوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» .
هو نذير بين يدى أمر الله الواقع، ينذر هؤلاء المشركين، أن يتخلصوا من شركهم، وأن يخلصوا عبادتهم لله وحده، وأن يتقوه، ويحذروا عقابه..
فهو سبحانه- رحمة بعباده- قد بعث فيهم رسله، وأمرهم أن ينذروا الناس بما أوحى إليهم من أمره، الذي هو دعوة إلى الإيمان به، والولاء له، والبراءة من كل شريك..
والرّوح، هو أمر الله الذي تحمله الملائكة إلى رسل الله، وهو كلماته المنزلة على الرسل، وسميت روحا لأن فيها الحياة للناس، فمن لم يأخذ حظّه منها، فهو ميت، وإن كان فى عالم الأحياء.. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا:
«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» (122: الأنعام) .(7/269)
قوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» .
هو استعراض لقدرة الإله الواحد، الذي يدعو رسل الله إلى عبادته وحده.. فهو سبحانه الذي خلق السموات والأرض بالحقّ.. فحقّ على هذه المخلوقات جميعها أن تعبده، وأن توجه وجوهها إليه..
- وفى قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» - إشارة إلى أن الإنسان، وهو مما خلق لله، قد خرج عن الولاء لله، وكفر به، ووقف خصما لله، ويحاربه.. وهو- أي الإنسان- مخلوق ضعيف خلق من ماء مهين، وجاء من نطفة أمشاج، ولكنّ قدرة الله، قد صورت من هذا الماء المهين، ومن تلك النطفة القذرة كائنا، له عقل، وله إرادة، وقد كان جديرا به أن يرتفع بعقله وإرادته عن عالم الطين، وأن يسمو إلى مشارف العالم العلوي، إلا أنه قد استبد به الغرور، واستولى عليه الهوى، فكان أن كفر بخالقه، وجحد الرّبّ لذى أنشأه وربّاه «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) وقوله تعالى: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
هذا عرض لبعض مظاهر قدرة الله، وفضله على عباده، الذين كفروا بنعمته، وضلوا عن سبيله. فهو- سبحانه- الذي خلق الأنعام كلها، ينتفع الإنسان منها فى وجوه كثيرة.. فمنها كساؤه وغطاؤه، الذي يدفع عنه عادية البرد والحر، ومنها طعامه الذي يغتدى به، فيأكل من لحمها، ولبنها.. ومنها يجد الرّوح لنفسه، والبهجة لعينيه، إذ يراها، غادية رائحة بين يديه، وعليها(7/270)
يحمل أثقاله، وبمتطيها ركوبة له إلى أماكن بعيدة، لم يكن يبلغها سعيا على قدميه إلا بشق الأنفس.. وذلك من رحمة الله به، وشفقته عليه.. «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ..»
وقوله تعالى: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» .
هو تفصيل لهذا الإجمال الذي جاء فى قوله تعالى: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» . فمن هذه الأنعام: الخيل والبغال، والحمير.. وهى دواب الركوب والحمل، ومراكب البهجة والمتعة، حيث يستوى الإنسان على ظهرها، فيجد لذلك ما ببهجة، ويشرح صدره، ويعلى فى الناس منزلته وقدره.
- وفى قوله تعالى: «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما خلق الله من مخلوقات لا يعلمها إلا هو، ولا يملك تسخيرها إلا هو، إذ لا تخضع لسلطان الإنسان، ولا تستجيب لعلمه.
- وفى قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ» إشارة إلى أن من هذه الحيوانات ما هو مستجيب لحاجة الإنسان، قد يسر الله سبحانه وتعالى طبيعته حتى توافق طبيعة الإنسان وتألفه، ومنها ما هو جائر، أي منحرف عن وجهة الإنسان، غير متلاق معه، أو آلف له.
- وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» دفع لهذا الاعتراض الذي يندفع فى بعض الصدور، حين يرى أصحابها هذه المخلوقات الكثيرة التي لا تفيد الإنسان. بل ربما كانت أعداء تتربص الشر به، وتتحين الفرصة للقضاء عليه، فينكر خلق مثل هذه الحيوانات، ولا يعترف لها بحق الوجود على الأرض، إذ لا حكمة من خلقها، ولا فائدة من وجودها، فى تقدير الإنسان وحسابه.(7/271)
وهذا خطأ من وجوه.
فأولا- ليس الإنسان وحده هو المالك لهذه الأرض، المستقل بها..
بل إنه كائن من كائناتها، ومخلوق من مخلوقات الله فيها. وكونه خليفة الله على الأرض ليس بالذي يمنع من أن يكون معه غيره.. بل أن خلافته لا تتم إلا إذا كانت له رعايا يسوسها، ويقوم على تدبيرها. وأنه كلما تعددت هذه الرعايا، واختلفت صورها وأشكالها، كان ضبط الإنسان لها، وسيادته عليها، دليلا على أهليته لهذه الخلافة، واستحقاقه لها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» (38: الأنعام) وثانيا- ليس ما لا ينتفع به الإنسان دليلا على أنه غير ذى نفع له، فقد يكون فيه نفع كثير للإنسان ذاته، وإن خفى ذلك عنه.. وأنه إذا لم يكن فى مقدور الإنسان الآن أن يسخر كثيرا من المخلوقات، وينتفع بها، فقد يستطيع يوما أن يجد الوسيلة التي تمكّن له من الانتفاع بها فى وجوه كثيرة.. فقد كان الإنسان الأول يخاف جميع هذه الحيوانات التي استأنسها اليوم وسخرها، بل إنه كان ليعبد بعضها اتقاء لشرّه، فأصبح الآن يتخذها مركبا له!! وثالثا: أن هذه الحيوانات، هى من قوى الطبيعة، التي استطاع الإنسان بذكائه، أن يدلل كثيرا من تلك القوى التي كانت فى وقت ما قوى مخيفة، تهدّد أمن الإنسان وسلامته، فما زال بها حتى انقادت له، وأصبحت قوة مسخرة بين يديه، سواء أكانت تلك القوى من عالم الحيوان أو عالم الجماد..
ومطلوب من الإنسان أن يوجّه مدركاته كلها، إلى كل حرون شارد من هذه القوى، ويتعرف إلى مواطن الخير فيها.. وبهذا تظل مدركات الإنسان معاملة غير معطلة، تزداد مع الأيام قوة وتمكينا..(7/272)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
رابعا: لماذا يرى الإنسان هذه الانحرافات فى عالم الحيوان- وهى انحرافات من وجهة نظره هو- ثم لا يرى ما يموج فى مجتمعه الإنسانى من منحرفين وضالين؟ أليس هذا من ذاك سواء بسواء؟ فكما فى الناس مصلحون ومفسدون، ومهتدون وضالون، كذلك فى عالم الحيوان، المسالم والشرس، والأليف والمتوحش.. هكذا أنتم أيها الناس، وهكذا عالم الحيوان..
«وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»
الآيات: (10- 19) [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 19]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)(7/273)
التفسير:
ومن عالم الحيوان، وما فيه من نافع وضار، ومسالم ومشاكس، إلى النبات الذي يتغذى من ضرع السماء، فتتزين الأرض بأشجاره وأزهاره، ويطعم الإنسان من حبّه وفاكهته.. ومن عالم الأرض وما فيها من حيوان ونبات، إلى عالم السماء، وما فيها من شمس وأقمار ونجوم- ففى كل عالم، وعلى كل موقع منه، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
وفى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» - مظهر من مظاهر قدرة الله.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء، فيه حياة كل حىّ، فيه حياة الإنسان، وحياة الحيوان، طعاما وشرابا.
- وقوله تعالى: «فِيهِ تُسِيمُونَ» أي فيه ترعون أنعامكم.. وسمّيت الأنعام سائمة، لأنها تسم الأرض بأرجلها، أي تترك فيها أثرا، أو تسم المراعى بما تأكل منها، فتترك آثارها عليها..
وفى قوله تعالى: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» .. بيان لما تخرجه الأرض من نبات يطعم منه الإنسان، بعد أن أشارت الآية السابقة إلى ما تخرج الأرض من نبات ترعاه الأنعام..
قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» - إشارة إلى مظهر من مظاهر القدرة الإلهية، وما تفيض على الناس من نعم. فبقدرته- سبحانه- سخّر لنا الليل والنهار، وجعلهما يتعاقبان، على هذا النظام، الذي قاما عليه، وانتظم وجودنا به..
- وفى قوله تعالى: «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» .. يمكن أن تكون(7/274)
الواو للحال، والجملة بعدها حالا، من فاعل الفعل «سخّر» وهو الله سبحانه وتعالى.. والتقدير: وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، فى حال أن النجوم مسخرات بأمره.. وبهذا يرتبط النظام الكونى للكواكب والنجوم بعضه ببعض، وتنتظمه حال واحدة، وهى التسخير لقدرة الله..
ويمكن أن تكون الواو للاستئناف، لا للعطف، على اعتبار أن للنجوم- فى ظاهر الأمر- وضعا غير وضع الليل والنهار والشمس والقمر.. إذ أن حركة الليل والنهار، والشمس والقمر، حركة تظهر آثارها، وتنطبع صورتها على الوجود الأرضى، بحيث يتأثر بها كل كائن. فى هذا الوجود، وينظم وجوده عليها.. وليس كذلك شأن النجوم.. إذ يمكن أن يهمل الإنسان شأن النجوم، فلا يلتفت إليها، ولا يقيم وزنا لوجودها، دون أن تتأثر حياته كثيرا بذلك، أو يشعر بأن شيئا ذا بال قد افتقده.. ومع هذا، فإن للنجوم شأنا كشأن الشمس والقمر، وأنها مسخرة بيد القدرة، كالشمس والقمر، وإن كان الإنسان فى غفلة عنها، ولهذا جاءت فاصلة الآية: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» لتلفت العقل إلى هذه الظاهرة، ظاهرة النجوم وحركاتها فى السماء، وتسخيرها فى مداراتها، وأن أصحاب العقول وحدهم هم الذين يرون هذه الظاهرة، ويتعرفون إلى آثار رحمة الله وقدرته.. وأنه إذا التفت العقل إلى هذه النجوم التفاتا جادّا متفحّصا، وجد عالما رحيبا لا حدود له، وأكوانا عجيبة تذهل لجلالها العقول، وتخشع لروعتها القلوب.. إذ ليست هذه النجوم التي تبدو وكأنها حبّات من اللؤلؤ المنثور فى السماء، إلا أجراما أكبر من الشمس، وأن أصغر نجم فيها يعدل جرم الشمس آلاف المرات، وأن صغر حجمها، وقلة ضوئها بالنسبة للشمس إنما مرجعهما إلى بعدها البعيد عنّا، حتى ليبلغ مدى هذا البعد مئات الألوف، وألوف الألوف من السنين الضوئية، كما كشف عن ذلك علم الفلك..؟(7/275)
ولعلك- بعد هذا- تدرك السرّ فى اختلاف فاصلة هذه الآية، عن الآية التي قبلها، والآية التي بعدها، حيث جاءت ثلاثتها هكذا:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ..»
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ..»
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ..»
(فاختصّت آية الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، بأصحاب العقول، كما اختصت بأن فيها «آيات» لقوم يعقلون، لا آية واحدة! .. ففى كل نجم آيات وآيات) (على حين اختصت آية الماء والزروع، بمن يتفكرون، فيرون فيما وراء هذا الظاهر الذي يجابه حواسّهم، دلائل تدل على قدرة الله وعلمه وحكمته) .. (ثم كان الإلفات إلى عالم النبات، وإلى اختلاف ألوانه وطعومه آية بعد آية لقوم يذّكرون، فيربطون بين هذه الوجوه المختلفة للنبات، ويصلون بعضها ببعض) ..
قوله تعالى: «وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» ..
ذرأ: خلق، وأوجد.. والذرء: إظهار الشيء..
والآية معطوفة على الآية التي قبلها، والتقدير، وسخر لكم الشمس والقمر، وسخر لكم ما ذرأ.. و «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» حال..
والمعنى، أن الله سبحانه قد سخّر لكم ما أنبت فى الأرض من نبات، مختلف الألوان، فجعله مستجيبا لكم، جاريا على ما ألفتموه منه، تغرسون الحب، فينمو، ويزهو، ويثمر.. هكذا على نظام لا يتخلّف أبدا.. إنه آلة مسخرة، لا يملك من أمره شيئا.. إذ ليس له إرادة يمكن أن تخرج به عن السّنن المعهود له، والنظام الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه.(7/276)
قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
تتحدث الآية هنا عن مقطع من العالم الأرضى، وهو مقطع البحار، وما سخّر الله سبحانه وتعالى فيها من منافع للناس.. حيث يؤكل منها السمك، ويستخرج منها اللؤلؤ والمرجان للزينة، وتجرى فيها السفن، تحمل الناس والمتاع من بلد إلى بلد..
وفى هذه الآية أمور..
فأولا: إفراد كلمة «البحر» .. وهذا يشير إلى أن عالم الماء كائن واحد، وأن أجزاءه الداخلة فى اليابسة متصلة به، بحيث ينبض كله بحياة واحدة، ويأخذ جميعه مستوى واحدا..
وثانيا: لم تذكر الأنهار، مع أنها مصدر الماء العذب الذي يحيا عليه الإنسان والحيوان والنبات، كما أنها كالبحر.. يؤكل منها السمك الذي يعيش فيها، وتجرى عليها السفن- وذلك لأن الأنهار وليدة البحار، فهى فرع من أصل، وذكر الأصل يغنى عن ذكر الفرع.. إنه أي البحر عالم وحده، وسيجيئ للأنهار ذكر فى مكانها، حين يجىء ذكر الأرض..
وثالثا: وصف لحم السمك بأنه لحم طرىّ، إشارة إلى أنه يختلف عن لحم الحيوان، من ضأن، وبقر، وجمل، وغيرها.. لأن لحم السمك هشّ، طرى، غير متماسك تماسك لحم هذه الحيوانات.. وهو لهذا هيّن المضغ، سهل الهضم..
ورابعا: فى قوله تعالى: «وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» - عدول عن خطاب الجمع إلى المفرد، وفى هذا مزيد عناية إلى هذه الظاهرة، وتوجيه نظر(7/277)
الإنسان إليها بذاته، دون أن يكون نظره من وراء نظر الآخرين، أو معهم، وذلك ليشهد بنفسه بعض مظاهر قدرة الله وحكمته، فى هذه الفلك التي تمخر عباب الماء، محمولة على ظهره بأثقالها، وما عليها من إنسان، ومتاع.. على حين أنك لو ألقيت فى هذا الماء حصاة لهوت إلى القاع! فكيف بهذا الماء، يحمل هذه السفن التي كالجبال على ظهره، دون أن تهوى إلى قاعه؟
قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» ..
وفى مقابل هذا البحر، وما فيه من نعم، هذه الأرض اليابسة وما فيها لله من آيات، وما تحدّث به تلك الآيات من قدرة الله، وحكمته..
- وفى قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» وفى التعبير عن إرساء الجبال على الأرض بقوله تعالى: «أَلْقى فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى أنها جاءت من عل، وذلك لعلوّها وإشرافها على الأرض. وفى تعدية الفعل «ألقى» بحرف الجر «فى» بدلا من «على» إشارة أخرى إلى أن هذه الجبال لم تطرح على الأرض طرحا، بل غرست فيها غرسا، كما تغرس الأوتاد فى الأرض.. كما يقول جل شأنه: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً» ؟
(6- 7: النبأ) .
- وقوله تعالى: «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» علة كاشفة عن بعض الحكمة فى غرس هذه الجبال فى الأرض، وذلك لأن وجودها على الأرض يعطى الأرض تماسكا وصلابة، فلا تضطرب أو تهتزّ أو تذوب فى مياه البحار، كما يذوب الملح فى الماء.
- وقوله تعالى: «وَأَنْهاراً وَسُبُلًا» معطوف على قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» أي وشق فيها أنهارا وسبلا أي طرقا.. وهذه الأنهار(7/278)
والطرق، هى التي تيّسر للإنسان الانتقال من مكان إلى آخر، فتصل الناس، بعضهم ببعض، حيث يتبادلون المنافع بينهم..
- وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» إشارة إلى ما لهذه الأنهار، والسبل من آثار فى هداية الناس، واتخاذها معالم يتعرفون بها وجوه الأرض ومكانهم منها، ومتّجههم فيها، ولولا ذلك لكانت الأرض أشبه بصفحة بيضاء، ليس فيها شىء يقرأ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَعَلاماتٍ» أي أن هذه الأنهار والسبل كما أنها طرق للسالكين يهتدون بها إلى وجهاتهم التي يقصدونها، هى كذلك معالم، وسمات لبقاع الأرض المختلفة، تميز بعضها من بعض.
ويجوز أن تكون «علامات» معطوفة على «أنهارا وسبلا» أي وجعلنا فى الأرض أنهارا وسبلا تهتدون بها، وجعلنا فيها كذلك «علامات» تميز بعض الجهات عن بعض، فبعض الأرض صحارى، وبعضها غابات، وبعضها أحراش، وبعضها سهل، وبعضها وعر.. وهكذا..
- وقوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» هو معطوف على قوله تعالى:
«لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» بهذه الأنهار والسبل، وتهتدون كذلك بالنجوم..
وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة حيث جاء النظم القرآنى «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» بضمير الغائب، على حين أن سياق النظم يقتضى أن يجىء بضمير المخاطب هكذا: - وبالنجم أنتم تهتدون- فى هذا العدول إشارة إلى أمور.. منها:
أولا: أن النجوم فى السماء مشرفة على الناس جميعا، بحيث لا يراها أحد دون أحد، على خلاف الأنهار والسبل، فإنها تختلف فى مكان عنها فى مكان آخر.. وتوجد فى أمكنة ولا توجد فى أخرى.. ومن هنا كان الخطاب(7/279)
فى حال الأنهار والسبل، ليكون ذلك فى مواجهة من عندهم الأنهار والسبل..
وكانت الغيبة فى حال النجم، ليكون ذلك حديثا عاما للناس جميعا غائبهم وحاضرهم.. ذلك أنه إذا كان الغائبون يهتدون بها، فأولى أن يهتدى بها المخاطبون.. ومن ثمّ فلا داعى لذكرهم، إذ هم مذكورون من باب أولى..
وثانيا: الأنهار والسبل، لا يهتدى بها إلا كلّ من أعمل عقله، وأجهد تفكيره، وأحسن التدبير، وإلا ضلّ الطريق.. فركوب الأنهار، والطرق يحتاج إلى فطنة وذكاء، وإلى جمع خاطر، وحضور فكر.. ومن هنا كان مقتضى الحال أن ينبه إلى ذلك بهذا الخطاب.. أما النجم فهو علامة ظاهرة ثابتة، لا تتبدّل ولا تتحول.. وما هى إلا نظرة يلقيها الناظر إليه، حتى يكون على علم بوجهته التي يريد أخذها.. ومن ثمّ لم يكن ما يدعو إلى استحضار من يهتدون به..
هذا وقد أفرد «النجم» هنا، لأن النجم الذي يهتدى به فى التعرف إلى الجهات هو نجم واحد، وهو النجم القطبي.. وهذا لا يمنع من أن يكون هناك نجوم أخرى يهتدى بها السائرون فى الليل، ولكنها ليست نجوما ثوابت، كالنجم القطبي.. فبعض النجوم تظهر صيفا، وبعضها شتاء.
أما النجم القطبي فهو ظاهر أبدا، وفى مكان ثابت دائما.. ومن أجل هذا اختص «النجم» بالذكر هنا، حيث كان فى سياق تعداد نعم الله، فيما هيأ سبحانه للناس من معالم للتعرف بها على مسالك الجهات والبلاد.. ولم يكن للنجم هذا الاختصاص، حين كانت الإشارة إلى هذه النعمة إشارة عامة فى سياق نعم أخرى، فذكر مع غيره من النجوم فى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» (97: الأنعام) .(7/280)
قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» هو تعقيب على هذه النعم التي بثّها الله سبحانه وتعالى فى الأرض، وفى السماء، وفى البحار، وفى اليابسة.. وفى هذا استحضار لعظمة الله وقدرته، فى مواجهة هؤلاء المعبودين الذين يعبدهم المشركون، ويسوّون بينهم وبين الخلاق العظيم.. وفى تلك المواجهة يظهر قدر هذه المعبودات، وتنكشف ضآلة شأنها عند من ينظر إليها، وينتفع بما يجىء به إليه نظره منها، إذا هو وازن ذلك بما يأتيه به النظر فى آيات الله ومبدعاته فى هذا الوجود..
قوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» هو خطاب لأولئك الذين نظروا فى آيات الله، وفى النعم التي أفاضها عليهم، وجعلوا يقرءون فى صحف الوجود هذه الآيات وتلك النعم، وإنهم لن ينتهوا أبدا من القراءة، ولن يطووا هذه الصحف، إذ كلما نظروا إلى آيات الله، جاءهم منها جديد، لا يحصيه عدّ، ولا يحصره عدد..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن هذه النعم التي أفاضها الله على عباده، والتي لا تحصى عددا، لا يقوم بشكرها الشاكرون، ولو أفنوا أعمارهم يسبحون بحمد الله ويشكرون له، ومع هذا فإن الله يقبل منهم القليل من الشكر، ويتجاوز لهم عن كثير.. «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» .. أي أن شكر الشاكرين وحمدهم، سواء أكان سرّا أو جهرا، هو معلوم لله، وأنه مقبول عنده السرّ والجهر، كما يقول سبحانه. «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (271: البقرة)(7/281)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الآيات: (20- 29) [سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 29]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
التفسير:
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - هو جواب لمن أعماه الضلال، فلم يجد الجواب لقوله تعالى: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ»(7/282)
لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .. فهؤلاء الذين جعلهم المشركون آلهة يعبدونهم من دون الله، لا يخلقون شيئا، بل هم مما خلق الله، سواء أكانوا أحجارا أو أناسا أو ملائكة.. فكل ما فى هذا الوجود مخلوق لله. وهو وحده سبحانه المتفرد بالخلق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ.. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (4: الأحقاف) .
قوله تعالى: «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» هو حكم على هؤلاء المشركين الذين امتهنوا عقولهم هذا الامتهان الذليل، فعبدوا هذه المخلوقات، ولم يفرقوا بينها وبين خالقها- فهؤلاء الضالون هم أموات غير أحياء، إذ لا حساب لهم فى عالم البشر، وإنهم لا يشعرون- أىّ شعور- أن لهم حياة أخرى بعد هذه الحياة، وأن لهم يوما يبعثون فيه.. «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» أي متى يبعثون.. والمؤمن وإن كان لا يعلم متى يبعث، فهو على يقين بأنه سيبعث بعد الموت، ويعود إلى الحياة مرة أخرى..
- وفى قوله تعالى: «غَيْرُ أَحْياءٍ» توكيد لموت هؤلاء المشركين، موتا أدبيّا، انسلخوا به عن عالم الإنسانية.. وهذا هو السرّ فى الإشارة إليهم بضمير الغائب فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. ولم تجىء الإشارة إليهم بضمير المخاطب «تدعون» .. وذلك لأنهم ليسوا أهلا لأن يخاطبوا..
وقوله تعالى: «إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» .. هو خطاب للمؤمنين، وإلفات لهم إلى إلههم الذي يعبدونه، وأنه إله واحد، لا شريك له.. أما المشركون، الذين لا يشعرون-(7/283)
مجرد شعور بالحياة الآخرة- فإن قلوبهم منكرة لهذا القول الحقّ، وهم مستكبرون، فلا يلتفتون إلى داعى الحقّ الذي يدعو إلى الله..
قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» أي لا شك أن الله يعلم من هؤلاء المشركين ما تنطوى عليه قلوبهم المنكرة، وما يظهر على ألسنتهم وأيديهم من أفعال السوء، ومنكر القول، وأنهم سيلقون جزاء هذا المنكر الذي هم فيه.. «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» فلا ينزلهم الله سبحانه منازل رضوانه، بل يلقى بهم فى عذاب السعير..
وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» هو عرض لبعض ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من أمر هؤلاء المشركين، وأنهم إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، وقالوا، «إن هى إلا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» والأساطير: جمع أسطورة، وهى ما كتب، وسطّر.. و «الأولين» الماضيين.. و «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أخبارهم التي يتناقلها الناس عنهم، فيكثر فيها- بحكم التداول- التحريف، والتبديل، ويدخل عليها من الغرائب ما يجعلها من قبيل الخرافات! وهنا سؤال: كيف يقال لهم: «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» وهم ينكرون هذا، ولا يعترفون بأن الله أنزل شيئا؟
والجواب: هو أن هذا تقرير للواقع، وإلزام لهم به، رضوا أو لم يرضوا..
إنه الحقّ.. فليقولوا فيه ما شاءوا..
ويجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، وفى هذا التفات إليهم، واحتفاء بهم، بإضافتهم إلى ربّهم، على حين يحرم المشركون من هذا الالتفات الكريم، من ربّ العالمين.. والمعنى: إذا قيل لهؤلاء المشركين ماذا أنزل ربكم أيها المؤمنون(7/284)
قالوا أي المشركون: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أي هذا الذي تقولون إنه منزل من عند الله، يقول عنه المشركون، هو من أساطير الأولين، وفى خطاب المؤمنين تكريم لهم، ومحاكمة للمشركين، وإشهاد لهم عليهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (143: البقرة) «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» .
يجمع المفسرون على أن اللّام فى قوله تعالى «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ» هى لام التعليل.. وعلى هذا يكون الفعل بعدها مسبّبا عن قول المشركين الذي قالوه فيما أنزل الله إنه «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. ويكون المعنى أنهم إنما يحملون أوزارهم، أي آثامهم وذنوبهم بسبب هذا القول المنكر، الذي قالوه فيما أنزل الله، فكان ذلك سببا فى كفرهم الذي أثمر هذا الثمر الخبيث، الذي يحملونه على ظهورهم، ليحاسبوا عليه يوم القيامة..
هذا، وإنى أستريح إلى مفهوم آخر، لهذه الآية، وهى أن اللام هنا للأمر، وأن هذا الأمر موجّه إلى هؤلاء المشركين، وفيه استدعاء لهم أن يحملوا هذه الأوزار وتلك الآثام التي جرّهم عليها هذا الموقف اللئيم الذي وقفوه من كتاب الله.. وأنّهم وإن كانوا سيحملونها يوم القيامة، فإنها محمولة عليهم منذ الآن.. وفى هذا ما يلفتهم إلى ما فوق ظهورهم من أحمال ثقال، تدفع بهم إلى النار.. فإن كان فيهم بقية من عقل ونظر، راجعوا أنفسهم، وتخففوا من هذه الأوزار، ورجعوا إلى ربّهم..
- وفى قوله تعالى: «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» .. «من» هنا للتبعيض، أي أن هؤلاء السّادة والرؤساء من المشركين يحملون ذنوبهم كاملة، مضافا إليها بعض الذنوب التي تضاف إليهم من ذنوب أولئك الأتباع الذين(7/285)
أضلّوهم.. لأن هذا الضلال الذي غرسوه فى قلوب أتباعهم، هو ثمرة مشتركة بينهم وبين هؤلاء الأتباع.. وكل واحد منهم سيحمل نصيبه من هذا الثمر الخبيث..
- وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى هؤلاء الأتباع، وأنهم إنما باعوا عقولهم لرؤسائهم، وأعطوهم مقاودهم من غير تفكير، أو مراجعة..
وفى هذا توبيخ لهؤلاء الأتباع، ووصم لهم بالغفلة والسّفه، كما أنه تهديد لهؤلاء السادة والرؤساء، إذ غرّروا بأتباعهم وزينوا لهم الضلال.
- وقوله تعالى: «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» تقبيح لهذه الأحمال التي يحملها أولئك الضّالون، وتأثيم لحامليها، وأنهم يحملون ما يسوؤهم، ويجلب البلاء عليهم ... والعاقل إنما يحمل ما يحمل، ابتغاء ما يؤمّل فيه من خير، وما يرجو من نفع.. أما أن يحمل ما يؤذيه ويرديه، فذلك هو السّفه، الذي ينزل بالإنسان إلى أخسّ مراتب الحيوان! قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» - هو إلفات لهؤلاء المشركين إلى عبر وعظات، يرونها ماثلة بين أيديهم، إن عميت أبصارهم عن أخذ العبرة من أنفسهم.. ففى الأمم الغابرة، كعاد وثمود، التي لا تزال آثار العذاب الذي أخذها الله به- باقية، يمر عليها هؤلاء المشركون، وهم عنها غافلون- فى هذه الأمم مثلات وعبر، إذ كان فيهم ما فى هؤلاء المشركين من مكر بآيات، وكفر بها، وتكذيب برسل الله، وإعنات لهم، فأخذهم الله من حيث لم يحتسبوا، ودمدم عليهم بذنوبهم، فأصبحوا كهشيم تذروه الرياح.. فهل يعجز الله أن يأخذ هؤلاء المشركين كما أخذ أسلافهم؟ أم أنّهم(7/286)
أخذوا على الله عهدا ألا تجرى عليهم سنّة الله فى الذين خلوا من قبل؟ «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ! (64: النمل) - وفى قوله تعالى: «فَأَتَى اللَّهُ. بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» - إشارة إلى أن البلاء الذي نزل بهم كان بلاء ماحقا، أتى على حياتهم كلّها من أساسها، واجتثّها من أصولها.. فلم يبق من آثارهم دار ولا ديّار..
- وفى قوله تعالى: «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» تأكيد لهذا البلاء الشامل الذي أخذهم الله به، من الأرض والسماء، وأن السماء- وقد كانت سقفا محفوظا فوقهم- قد أطبقت عليهم، ترميهم بحجارة من سجّيل، وأن الأرض، وقد كانت بساطا ممدودا تحتهم، قد فغرت فاها لهم، وألقت بهم فى بطنها..
فالمراد بالسقف هنا، السماء.. كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» وفى قوله تعالى: «مِنْ فَوْقِهِمْ» مع أن السقف لا يكون إلا من فوق توكيد لهذه الفوقية، وإلفات إليها، وإلى ما ينزل منها من بلاء، وقد كانت تنزل بالرحمة والغيث المدرار.
قوله تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» .
الضمير فى «يخزيهم» بعود إلى المذكورين فى قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ، مِنْ قَبْلِهِمْ» فهؤلاء الذين أخذهم الله بالبلاء فى الدنيا من الذين كذبوا الرسل- لم يوفّوا حسابهم بعد، وأنهم إذا كانوا قد رموا بهذا العذاب فى الدنيا فإن لهم فى الآخرة عذابا أنكى وأشدّ.. وإن من صور هذا العذاب الذي ينتظرهم يوم القيامة، هو هذا الخزي الذي يلبسهم، حين يعرضون هذا العرض الفاضح على الملأ، ويسألون هذا السؤال الذي يكشف لهم جريمتهم، حين يسألهم الحق(7/287)
جلّ وعلا: «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟» ثم يلتفتون فلا يجدون لهؤلاء الشركاء أثرا، فيركبهم الكرب، ويعروهم الهمّ والخزي!.
والمشاقّة: الشقاق والخلاف.. وفى تعدية الفعل «تشاقّون» بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن خلافهم وشقاقهم كان منحصرا فى هؤلاء الشركاء. فلم تتسع مداركهم للبحث عن شىء وراء هذا، بل جمدوا عليه، ولصقوا به كما يلصق المرض الخبيث بأهله.
- وقوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» .. هذا القول من شهود المحشر يوم القيامة، من الملائكة، والرسل، وأتباع الرسل، حيث وجم المجرمون فلم ينطقوا.
قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
هو صفة لأولئك الذين قال فيهم أهل العلم: «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» .. فهؤلاء الكافرون، تتوفاهم الملائكة وقد ظلموا أنفسهم بإغراقها فى الضلال، والتنكّب بها عن طريق الحق.. فإذا سيقوا إلى موقف الحساب فى ذلّة وصعار «ألقوا السّلم» - أي أعطوا أيديهم مستسلمين لمن يقودهم إلى هذا المصير المشئوم، الذي هم صائرون إليه، وعلى ألسنتهم- التي مرنت على الكذب ولافتراء- هذا القول الكاذب، يرددونه فى غير وعى: «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» ! هكذا المجرم يردّد كلمات البراءة من ذنبه، ويداه ملطّختان بدم قتيله- إنها كلمات عزاء ومواساة، يتعلّق بها المجرمون، كما يتعلّق الغريق بمتلاطم الأمواج!.
- وقوله تعالى: «بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. هو تكذيب لهم، وقطع لهذا الأمل الكاذب الذي تعلقوا به- بلى- لقد(7/288)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
عملتم السوء كلّه، إذ كفرتم بالله.. وإن الله عليم بما كنتم تعملون.. «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (22- 23: فصلت) .
قوله تعالى: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» هذا هو جزاؤهم، وذلك هو مصير المتكبرين..
- وفى قوله تعالى: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» - إشارة إلى تعجيل عقابهم، وأنهم لا ينظرون، فما هو إلا سؤال.. يكون جوابه إلقاؤهم فى جهنم..
وأبواب جهنّم، هى منازلها التي ينزلون فيها، فلكل طائفة من الضالين باب يلجون منه، إلى مثواهم من النار.. والمثوى: المنزل..
الآيات: (30- 32) [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
التفسير:
والصورة التي تقابل الكافرين فى موقف الجزاء يوم القيامة، هى صورة المؤمنين المتقين.. هكذا يواجه بعضهم بعضا، فيكون فى هذا إيلام فوق إيلام للكافرين، ونعيم فوق نعيم للمؤمنين، إذ يتضاعف عندهم فضل الله عليهم،(7/289)
ورحمته بهم، لأنهم نجوا من هذا البلاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيما يتحدث به أهل الجنة: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» (25- 27: الطور) وقوله تعالى: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً» .. هو فى مقابل قوله تعالى فى مساءلة الكافرين: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
فالذين اتقوا ربّهم، عرفوا طريقهم إلى الله، واهتدوا إلى مواقع الهدى مما أنزل الله على رسوله، فحين سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا: «خيرا» أي أنزل ربنا خيرا كثيرا، نتزود منه زادا طيبا لدنيانا وآخرتنا: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» .. فما يتزوده المؤمن من الإيمان والتقوى، كلّه طيب، والجزاء عليه حسن فى الدنيا، ولكن ما يجده المؤمن فى الآخرة من ثواب الله، ونعيمه، هو الذي يعتدّ به، إذ كان خالدا باقيا، لا يقاس بالقليل منه، ما فى الدنيا كلّها من متاع وقوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ.. كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» .. هو عطف بيان على قوله تعالى:
«وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» .. فدار المتقين هذه، هى تلك الجنات، التي تجرى من تحتها الأنهار، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.. خالدين فيها.
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» تنويه بهذا الجزاء العظيم، الذي لقيه المتقون، من ربّهم، وهو جزاء لا ينال إلّا من الله الكريم الوهاب، لأن ما فى أيدى الناس جميعا، وما فى هذه الدنيا كلّها، يحفّ ميزانه، مع أدنى جزاء جوزى به من نالهم الله برحمته، وأنزلهم منازل رضوانه..
قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ(7/290)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»
.. هو عطف بيان على قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» .. فالمتقون، هم الذين تتوفاهم الملائكة «طيبين» .. قد طابت نفوسهم، وزكت أرواحهم، بما مسّها من تقوى، وما عبق عليها من إيمان.. فإذا جاء الملائكة لقبض أرواحهم، أقبلوا عليهم فى بشر، يحملون إليهم بشريات مسعدة، حيث يلقونهم بالسّلام، الذي لا خوف معه..
«يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ..» ثم لا تكاد أرواحهم تفارق أبدانهم حتى يروا منازلهم فى الجنة، وبين أيديهم مناد يناديهم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
فتلك هى الجنة التي وعد المتقون.. لهم فيها دار الخلد، جزاء بما كانوا يعملون..
والسؤال هنا: كيف يقال لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.. والمعروف أن دخول الجنة، إنما هو فضل من فضل الله على عباده، وليس ذلك من كسب العبد، ولا بسبب ما قدم من صالح الأعمال، إذ أن الجنّة لا يستطيع أحد أن يقدّم الثمن الذي تنال به، مهما بلغ من إيمان وتقوى. وقد قال النبي- صلوات الله وسلامه عليه- «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟» قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» .. فما تأويل هذا؟
الجواب- والله أعلم- أن الإيمان والعمل الصالح، هما المطلوبان من الإنسان، ليحتفظ بإنسانيته على الصحة والسلامة من الرجس والدنس.. وإذ كان الناس فريقين: مؤمنا وكافرا، وشفيّا وسعيدا، وأصحاب الجنة وأصحاب النار.. هكذا أرادهم الله، ولهذا خلقهم- إذ كان الناس على هذا، فإن المؤمنين الذين عملوا الصالحات هم أهل الجنّة، والذين كفروا وضلّوا هم أهل النّار.. وفى إضافة المؤمنين إلى الجنة، وإنزالهم منازل الرضوان فيها، وحسبان ذلك بسبب إيمانهم وتقواهم- فى هذا تكريم من الله سبحانه وتعالى لهم، وفضل من فضله(7/291)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
عليهم.. حتى إنه- سبحانه وتعالى- ليريهم من هذا أنهم أحسنوا، وهذا جزاء إحسانهم، وأنهم غرسوا فى مغارس الخير، وهذا ثمر ما غرسوا، وفى هذا ما يضاعف نعيمهم، حين يلتقون بيومهم الذي كانوا يوعدون، فيقطفون ثمرا غرسته أيديهم، وينزلون منازل هيأتها لهم أعمالهم.! وليس كذلك من يجنى من غرس لم يغرسه، وينزل منزلا هو ضيف فيه! .. وذلك مزيد من ألطاف الله، وإسباغ من نعمائه على عباده وأهل ودّه، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» .. وإلّا.. فالمؤمنون، وأعمالهم.. ملك لله، إذ ليس للعبد شىء.. فهو وما ملكت يداه لسيده! أما الكافرون والضّالون والخاطئون.. فإنّهم قد تحوّلوا بإنسانيتهم عن طبيعتها، التي تألف الجنة وتسكن إليها، واصطبغوا بالصبغة التي تطلبها جهنّم، وتدعوها إليها، فكانوا لها حطبا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (63- 64: يس) .
الآيات: (33- 40) [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 40]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)(7/292)
التفسير:
قوله تعالى: َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .
الخطاب هنا لهؤلاء المشركين من أهل مكة، الذين قالوا فيما أنزل الله:
هذا «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. فكفروا بالله، وكذبوا رسوله..
والاستفهام إنكارى، ينكر الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف المنادي الضّال، الذي يقفونه من الرسول الكريم، ومن آيات الله التي بين يديه.. فماذا ينتظرون بعد هذا البيان المبين، وتلك الحجة الدامغة! َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ»
أي هل ينظرون فى هذا الموقف الضالّ إلّا أن تأتيهم الملائكة، تشهد لهم أن محمدا رسول الله، وأن الكتاب الذي بين يديه هو كلمات الله؟ لقد طلبوا ذلك فعلا فيما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (6- 7: الحجر) .. أم هل ينظرون أن يأتى أمر الله، وهو العذاب الذي أخذ به الظالمين قبلهم، فيهلكهم بعذاب من عنده كما(7/293)
أهلك الأولين؟ وقد طلبوا هذا فعلا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى:
«وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) - وفى قوله تعالى: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
إشارة إلى أن هؤلاء الذين أهلكهم الله من القرون السابقة، إنما أخذهم الله بذنوبهم، وما ظلمهم الله بهذا العذاب، بل هم أوجبوه على أنفسهم، بكفرهم وضلالهم..
فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم، إذ عدلوا بها عن طريق الأمن والسلامة، ومالوا بها إلى طرق البلاء والهلاك..
قوله تعالى: «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. هو بيان كاشف لما حلّ بهؤلاء الظالمين من بلاء، وأن هذا الذي نزل بهم هو من آثار ما عملوا من سوء، ومن معقبات مكرهم بآيات الله، واستهزائهم برسله.. وفى هذا تهديد للمشركين الذين يحادّون رسول الله، ويهزءون بآيات الله..
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» هو عرض فاضح، لمقولة من تلك المقولات الآثمة، التي يرمى بها المشركون بين يدى شركهم، ليتخذوا منها حجة يحاجّون بها رسول الله، ويلزمونه التسليم بها، إذ يجيئون إليه بهذا المكر السيّء، حين يقولون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ!» وتلك كلمة حق أريد بها باطل.. فلو أنهم آمنوا بمشيئة الله، واعترفوا بسلطانه المطلق، القائم على كل شىء، لآمنوا بالله، ولعبدوه، واتبعوا رسوله، الذي(7/294)
يكشف لهم الطريق إلى الله.. ولكنهم لا يؤمنون بالله.. فكيف يؤمنون بأن له- سبحانه- مشيئة غالبة، وسلطانا قاهرا؟ وهل يتفق هذا القول الذي يقولونه مع اتخاذهم الأصنام آلهة يعبدونها من دون الله؟ إن ذلك مما لا يستقيم مع منطق القول الذي يقولونه.. ولكن هكذا يفعل الضلال بأهله.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) - وقوله تعالى: َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»
هو وصل لهؤلاء المشركين بمن سبقهم من أهل الضلال، من القرون الغابرة.. إنهم ليسوا وحدهم هم الذين قالوا هذا القول.. فهم حلقة فى تلك السلسلة الآثمة، التي تنتظم الظالمين، وتجمعهم فى قرن واحد! - وفى قوله تعالى: «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو قطع لتلك الحجة الكاذبة التي يحتجّ بها المشركون من كلّ أمة، ومن كل جيل..
وأنهم إذ تنكبوا الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال، وجعلوا القول بمشيئة الله دليلهم على هذه الطرق- فليتركوا وما هم عليه من شرك، وما هم فيه من ضلال، حتى يلقوا ما يلقى المشركون الضالون من عذاب الله.. فلقد أعذر الله إليهم، وقطع حجتهم، بما أرسل إليهم من رسل.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. وليس على الرسل إلا البلاغ المبين.. وقد أدّى رسل الله رسالة الله، وبلغوها إلى أقوامهم بلاغا مبينا واضحا.. «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» ..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» - هو بيان لهذا البلاغ المبين الذي بلّغه رسل الله إلى أقوامهم.. ففى كل أمة بعث الله سبحانه وتعالى رسولا يدعوهم(7/295)
إلى عبادة الله، وإلى اجتناب الطاغوت، وترك ما هم فيه من ضلال.. «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» .. أي فمن هؤلاء الأقوام الذين جاءهم رسل الله، من هداه الله وشرح صدره للإيمان، فاهتدى إلى الحق، وآمن بالله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، أي وجب أن يكون من الضالين، إذ لم يرد الله سبحانه وتعالى أن يهديه، وأن يشرح صدره للإيمان.. وتلك هى مشيئة الله فى خلقه، مشيئة غالبة قاهرة.. ولكن لا حجّة لأحد على الله فيها..
وعلى الإنسان أن يسعى إلى الخير جهده، وأن يقيم وجهه على هدى الله..
فإن اهتدى، حمد الله وشكر له، وإن ضلّ وغوى، فليبك نفسه، ويؤثّم موقفه، ويسأل الله العافية من هذا البلاء الذي هو فيه..!
- وفى قوله تعالى: «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» - دعوة إلى إيقاظ تلك العقول النائمة، لتنظر عبر القرون الماضية، ولترى ما فى مصارع المكذبين برسل الله، من عبر وعظات..
قوله تعالى: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .. هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة له فى مصابه فى الضّالين المقيمين على ضلالهم من قومه.. ذلك أنه مهما حرص النبي على هداية هؤلاء الشاردين، فلن يبلغ به حرصه شيئا، فيما يريد لهم من هدى وإيمان.. إذ حقت عليهم الضلالة، وغلبت عليهم شقوتهم.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» .. «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ينصرونهم من دون الله، الذي ابتلاهم بما هم فيه..
قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ.. بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هكذا يلجّ أهل الضلال فى ضلالهم، فيحلفون جهد أيمانهم، أي أقصى(7/296)
ما عندهم من أيمان قاطعة مؤكدة، على أن الله لا يبعث من يموت.. وذلك فى مواجهة ما جاءهم الرسول به من ربه، عن الإيمان بالله، وباليوم الآخر، فعجبوا أشدّ العجب، أن يبعث الموتى من قبورهم، بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب، ويصبحوا عظاما نخرة.. وفى هذا يقول الله تعالى عنهم: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ.؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» (7- 8: سبأ) وفى قوله تعالى: «بَلى» تكذيب لهم.. أي أن الله يبعث الموتى.. كما يقول سبحانه: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ.. وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7: التغابن) - وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» هو توكيد لهذا التكذيب لحلفهم..
وأن هذا البعث واقع لا شك فيه، وقد جعله الله وعدا. أوجبه على نفسه، ولن يخلف الله وعده.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» حكمة الله فى هذا البعث، ولا ما لله من قدرة لا يعجزها شىء..
قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» - هو كشف عن بعض الحكمة فى البعث، الذي جعله الله وعدا عليه حقا.. ففى هذا البعث تتبين للناس مواقفهم من الحق، ويمتاز الخبيث من الطيب.. وهناك يستيقن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما يدّعون لأنفسهم ولآلهتهم من مدّعيات باطلة، وفيما يقولون عن البعث وإنكاره.. وفى هذا تهديد للكافرين، ووعيد لهم بما يلقون فى هذا اليوم من فضيحة، وخزى، وهوان..
قوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» هو توكيد للبعث، الذي جعله الله وعدا عليه حقا.. وأن أمر البعث هيّن أمام(7/297)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
قدرة الله سبحانه وتعالى، تلك القدرة التي يستجيب لسلطانها كل شىء..
فما هو إلا أن يصدر الأمر الإلهى لأى شىء حتى يصدع هذا الشيء بما يؤمر به.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .
الآيات (41- 50) [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
التفسير:
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .(7/298)
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات التي سبقتها ذكرت البعث وإمكانيته، وكشفت عن بعض الحكمة من وقوعه فى قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ..» وإذ كان هذا وجها من وجوه الموقف يوم القيامة، ناسب أن يذكر الوجه الآخر، وهو وجه الذين آمنوا بالله، وصدّقوا بآياته.. وأكرم ما فى هذا الوجه الكريم هم الذين هاجروا فى الله من بعد ما مسّهم الضر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وذلك بما ساق إليهم المشركون من ألوان العسف والبلاء.. فهؤلاء سيوفيهم الله سبحانه أجرهم مرتين.. فى الدنيا.. وفى الآخرة..
فهم فى الدنيا سينصرون على عدوّهم، وسوف تمتلئ أيديهم بالخير، بما يمكّن الله لهم فى الأرض.. أما فى الآخرة، فلهم جنات النعيم، ورضوان من الله أكبر.. وذلك هو الفوز العظيم..
وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ» إشارة إلى أن الهجرة جهاد فى سبيل الله، ولهذا ضمّن الفعل «هاجر» معنى الفعل «جاهد» ، فعدّى بحرف الجر «فى» .. ويجوز أن يكون حرف الجر «فى» بمعنى الباء، التي تفيد السببية.. ويكون المعنى: والذين هاجروا بسبب الله، أي بسبب الإيمان بالله.. وفى الحديث: «عذبت امرأة فى هرة» أي بسبب هرة..
وقوله تعالى: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» أي لننزلنهم منزلة حسنة فى الدنيا.. يقال: باء يبوء: أي رجع.. وسمّى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يأوى إليه الإنسان بعد طوافه وسعيه فى الحياة..
ولقد صدق الله وعده، فأيد المؤمنين بنصره، ومكّن لهم فى الأرض، وأذلّ الكافرين والمشركين.. والمنافقين، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا..(7/299)
وهذا الوعد الذي وعده الله المؤمنين، وأنجزه لهم لم يكن لأشخاصهم فردا فردا، وإنما هو لهم كجسد واحد، ومجتمع واحد.. هكذا المؤمنون، فيما أصابهم، من بلاء، أو عافية، فهم جميعا فيه شركاء، شأن الجسد حين تنزل به علة، أو تلبسه عافية..!
قوله تعالى: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» هو عطف بيان على قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ» .. فهؤلاء هم الذين صبروا على أذى المشركين، واحتملوا فى سبيل الله ما احتملوا من مفارقة الأهل والوطن..
مخلفين كل شىء وراءهم، فما كان لهم فى هجرتهم من مال ومتاع.. بل هاجروا متوكلين على الله، معتصمين به، مستغنين بما عنده.
قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» - هو ردّ مفحم للمشركين الذين أبوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وقالوا: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (24: القمر) .. وقالوا ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟» (21: الفرقان) .
- فجاء قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» : ليرى المشركين أمرا واقعا، لا سبيل إلى إنكاره، أو الجدل فيه، وهو أن كلّ رسل الله الذين بعثوا فى الأمم التي سبقتهم كانوا «رجالا» أوحى الله إليهم بما شاء أن يوحيه إليهم من آياته وكلماته.. فإذا لم يكن عند هؤلاء المشركين علم بهذا، «فليسألوا أهل الذكر، أي أصحاب العلم، وهم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .. فإن من واجب من لا يعلم أمرا أن يسأل عنه أهل العلم، قبل أن يتعامل به، ويجادل فيه.
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا رِجالًا» إشارة إلى أن رسل الله جميعا كانوا من(7/300)
الرجال، ولم يكن أحد منهم من النساء، وأنهم أوحى إليهم وهم رجال، قد بلغوا الرشد، وجاوزوا مرحلة الصبا والشباب، وأنه لم يكن أحد من رسل الله من عالم غير عالم البشر.
قوله تعالى: «بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» هو متعلق بقوله تعالى: «نُوحِي إِلَيْهِمْ» .. أي نوحى إلى هؤلاء الرجال الذين اخترناهم لرسالتنا «بالبينات» أي بالآيات البينات، وهى المعجزات المادية المحسوسة، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات عيسى. «والزبر» أي الكتب، والصحف.. كصحف إبراهيم، وصحف موسى، وكالتوراة والإنجيل..
- وفى قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» التفات إلى النبي الكريم، بهذا الخطاب الكريم من رب العالمين.. وأن الله سبحانه وتعالى قد نزّل إليه الذّكر أي القرآن الكريم، وسمّى ذكرا، لأن فيه من آيات الله ما يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى، ويلفت قلوبهم وعقولهم إليه..
كما أن فيه ذكرا باقيا للنبىّ الكريم وقومه، كما يقول سبحانه: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» .. فهذا الحديث الطيب المتصل مع الزمن، المردّد على أفواه الأمم، من سيرة النبي الكريم، وسيرة أصحابه الكرام، والهداة المصلحين من أئمة المسلمين وعلمائهم- هذا الحديث، هو أثر من آثار هذا الكتاب الكريم، الذي أنزل على النبي الكريم..
وفى تعدية الفعل «أنزلنا» بحرف الجر «إلى» بدل الحرف المطلوب له وهو «على» إشارة أن إنزال الكتاب لم يكن محمولا إلى النبي حملا، جملة واحدة، وإنما أوحى إليه وحيا، آية آية، أو آيات آيات..
وقد جاء قوله تعالى: «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» كما جاء(7/301)
الفعل فى آيات أخرى، متعديا بإلى وبعلى، وذلك ليجمع بين نزول القرآن مفرقا، وبين الجهة العالية التي نزل منها.
- وفى قوله تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزل إلى النبىّ، هو كذلك نزّل إلى الناس.. فهم شركاء للنبىّ فى هذا الكتاب، ومطلوب من كل إنسان أن يحسب أن هذا الكتاب هو كتابه المنزل عليه.. يفقهه، ويعمل به، ويدعو الناس إلى العمل به، مقتفيا فى هذا أثر النبىّ، مشاركا فى حمل الرسالة معه، فى حال حياته، أو من بعد وفاته..!
وفى مخاطبة النبىّ بقوله تعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» ومخاطبة الناس بقوله سبحانه: «نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» تفرقة من وجهين:
الأول: أن النبىّ الكريم خوطب خطابا مباشرا من الحقّ سبحانه وتعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» على حين أن الناس خوطبوا بفعل لم يذكر فاعله هكذا «نزّل إليهم» ، لأن التنزيل لم يكن مباشرا لهم، بل كان بوساطة النبىّ، الذي تلقّاه بدوره عن طريق الملك.
الثاني: أن الفعل «أنزل» يفيد الجمع، على حين أن الفعل نزّل، يفيد «التفرّق» ، وهذا هو ما يشير إليه الحال من أمر القرآن بين النبىّ والذين تلقوه منه.. فالنبى بالنسبة لهم هو المصدر الأول الذي تجيئهم منه آيات الله وكلماته.. وهم يتلقونها منه آية آية، أو آيات آيات، فناسب أن يخاطب النبي فى مواجهتهم بقوله تعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» .. وأن يخاطبوا هم بقوله تعالى:
«نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» .
قوله تعالى: «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» .. هو تهديد لهؤلاء الذين يكذّبون رسول الله من المشركين، ويمكرون السيئات، أي يدبّرون الأعمال السيئة، ويرسمون خططها.. فالمكر هو إعمال الرأى والحيلة فى الأمور.. ومنه ما هو(7/302)
حسن، ومنه ما هو سيّىء.. وهؤلاء إنّما مكرهم من النوع السيّء الذي يبعدهم عن الخير، ويعرضهم للهلاك، والبوار. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فهل أمن هؤلاء الذين يدبّرون السوء، ويبيتون الشرّ والعدوان أن يخسف الله بهم الأرض، كما خسفها بالظالمين من قبلهم، أو يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، كما أنى أمما وأقواما، مكروا بآيات الله وكذبوا رسله؟: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (99: الأعراف) .
وقوله تعالى: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» هو بيان لبعض الأحوال التي يقع فيها عذاب الله بأهل السوء والشقاق.. فهم إمّا أن يؤخذوا على حين غفلة.. وإما أن يلقاهم العذاب وهم فى يقظة، حيث يتقلبون فى وجوه الأرض.. أو يحلّ بهم البلاء وهم «على تخوف» أي على توقع للبلاء، بين يدى إرهاصات، تهدّد به وتنذر بوقوعه.. إن عذاب الله يقع حيث يشاء الله، ومتى يشاء.. وما هو من الظالمين ببعيد..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى الله سبحانه وتعالى من فضل على هذه الأمة، إذ عافاها مما ابتلى به الأمم السابقة، حين عجّل لها العذاب.. أما هذه الأمة، فقد أفسح لله سبحانه وتعالى للفجّار من أهلها فى الأجل، حتى تكون لهم إلى الله رجعة، حين يطول وقوفهم مع رسوله الكريم، وبين يدى ما معه من كلمات ربّه.. وفى هذا مزيد فصل من الله سبحانه على نبيّه، إذ لم يفجعه فى قومه، ولم يهلكهم بسبب خلافهم عليه، ومكرهم السيّء به.. «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. فهل يلقى هؤلاء المشركون المعاندون رأفة ربّهم بهم ورحمته لهم، بالإقبال عليه، ومصافاة رسوله وموادّته؟
ذلك ما كان يجب أن يكون!(7/303)
قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» .
تفيأ الظلّ: تنقل من جهة إلى أخرى.. والداخر: الصاغر، المستكين..
وفى الآية الكريمة وعيد للمشركين، واتهام لعقولهم الضالّة المظلمة، التي أخرجتهم عن نظام الموجود كلّه، فكانوا نغما نشازا، لا يتناغم مع لحن الموجودات، المسبّحة بحمد الله ربّ العالمين..
وقد أراهم الله سبحانه فى هذه الآية الكريمة صورة محسوسة لهذا الوجود وقد سجد فيه كل موجود، ولاء الله، وخشوعا لجلاله وعظمته..
فما خلق الله من شىء يرونه، فى عالم الجماد، أو النبات، أو الحيوان، إلّا كان له ظل، يتبعه، ساجدا على الأرض، سجود العابدين الخاشعين.. فى ذلة وانكسار لله الواحد القهار..
- وفى قوله تعالى: «ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» إشارة إلى تلك الأشياء المحسوسة، التي يحدّث جسمها عنها، وينبىء عن وجودها، فهى ليست من عالم المعقولات، ولهذا كان لها ظلّ، لما فيها من كثافة..
- وفى قوله تعالى: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» خروج على مألوف النظم، وهو إما أن يجىء هكذا: «يتفيّأ ظلّه» أو هكذا: «تتفيأ ظلاله» بمعنى أنه إذا أفرد الفاعل جاء الفعل مذكرا، وإذا جمع الفاعل، جاء الفعل مؤنثا.. ولكنه فى النظم القرآنى، جمع بين الأمرين.. فجاء بالفعل مذكرا وبالفاعل جمعا.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، إذ دلّ بهذا على أن الفاعل، وهو «الظل» هو مفرد فى أصله.. هو شىء واحد، ولكنه فى أفعاله، وحركاته، بين القبض والبسط، والتحرك من يمين إلى شمال، يكون ظلالا، لا ظلا واحدا.. فهو جمع فى واحد، وواحد فى جمع!! وهذا بيان لا يكون إلا فى كلمات الله، وفى كتابه المبين..(7/304)
وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» - هو استكمال لما قررته الآية السابقة من سجود ظلال الأشياء لله، وأنها ليست وحدها هى التي تسجد لله سبحانه، بل كل ما فى السموات وما فى الأرض.. من كل دابة تدبّ على الأرض.. ومن الملائكة فى السموات يسجدون لله، وهم لا يستكبرون.. يقول الله تبارك وتعالى فى آية أخرى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) .
وخصّت الدوابّ بالذّكر، لأنّها من مخلوقات الأرض، ذات الحسّ والحركة، وهى دون الإنسان منزلة.. وخصّت الملائكة بالذكر كذلك، لأنها من عالم السموات، وهى أشرف مخلوقاتها..
وفى هذا قطع لكل حجة للإنسان ألا يكون فى الساجدين لله.. فإذا عدّ نفسه من عالم الأرض، فهذه دوابّ الله كلّها تسجد لله.. فليسجد معها.. وإذا كان يرى أنّه فوق هذه الدواب، فهذه مخلوقات السماء، وهذه الملائكة أشرف مخلوقاتها وأكرمها عند الله، قد سجدت لله فى ولاء وخشوع.. فليسجد لله كما سجدت الملائكة، أو كما سجدت الدوابّ! وقوله تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» - هو وصف للملائكة الذين دأبهم العبادة، وشأنهم السجود لله.. فهم- مع منزلتهم عند الله- يخافون ربّهم الذي علا بسلطانه على كل سلطان «وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» به، من الله، فى غير تردد أو تكرّه.. إذ هم أعرف بما لله فى خلقه، وما على الخلق من واجب الطاعة والولاء للخالق..(7/305)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
الآيات: (16- 60) [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 60]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
التفسير:
قوله تعالى: «وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» ..
القول من الله سبحانه وتعالى، هو أمر.. بمعنى أمر الله..
وهو هنا أمر باجتناب منكر.. فالأمر واقع على نهى.. وهو قوله تعالى:
«لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ» .. فهو توكيد للنهى.. بترك المنهي عنه، والإتيان بما يقابله وهو المأمور به..(7/306)
ويكون المعنى: لا تتخذوا إلهين اثنين، واعبدوا إلها واحدا..
وفى وصف الإلهين بأنهما اثنان، تجسيد لتلك الصورة التي تجمع بين إلهين، وتقابل بينهما مقابلة الشيء للشىء..
وهذه صورة لا تتحقق أبدا، إذ ليس لله سبحانه وتعالى نظير يناظره، أو شبيه يقابله.. إذ هكذا يكون الإله الذي يعبد.. إلها متفردا بالكمال والجلال.. لا يشاركه أحد فى كماله وجلاله، وإلا كان ناقصا، لا يستحق أن يأخذ مكان التفرد، وعلى العقل أن يبحث عن الإله الذي لا مثيل له، ولا نظير، وإن البحث سينتهى به إلى الله الواحد الأحد.. الفرد الصمد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» .
- وفى قوله تعالى: «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» هو دعوة إلى الله الواحد الأحد، الذي يستحق العبودية، وهو الذي يخافه الملائكة، وهم أقرب الخلق إليه، فكيف لا يخاف ولا يرهب من هم دون الملائكة من خلقه؟
قوله تعالى: «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» ؟
الواصب: الخالص، المصفّى من كل شائبة.. ومنه قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» (9: الصافات) أي خالص، لا يختلط به شىء غريب عنه، يخفف من آثاره وأفعاله فى أهله، الواقع بهم.
فلله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض، لا شريك له، وله سبحانه الدّين الخالص، غير المشوب بشرك أو إلحاد، فهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيّبا.. كما يقول جل شأنه: «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» . (29:
الأعراف) ويقول سبحانه: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» (3: الزمر) .(7/307)
ومن كان هذا ملكه وسلطانه، وذلك دينه الذي يعبد عليه من خلقه..
فإن عبادة غيره كفر، وعبادته على غير دينه الذي ارتضاه وأمر به، ضلال.
قوله تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» ..
الجأر، والجؤار: رفع الصوت عاليا..
والآية الكريمة، تحدّث عما لله سبحانه وتعالى فى عباده من فضل وإحسان.. فكل ما هم فيه من نعم، هو من عند الله.. حياتهم التي يحيونها..
وحواسّهم، وجوارحهم، ونومهم ويقظتهم، وطعامهم وشرابهم، وما بين أيديهم من مال وبنين.. كل هذا، وأضعاف هذا مما يتقلبون فيه، ويقيمون وجودهم عليه، هو من عطاء الله، ومن فضل الله، ومن رحمة الله.. كذلك ما يبتلى به الإنسان من ضرّ هو من عند الله، وهو سبحانه الذي يدعى لكشف الضر، ويرجى لدفع الشدّة، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» (40- 41: الأنعام) .
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ.. فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» .
- هو بيان لجحود الإنسان وكفرانه بفضل الله عليه، ومكره بنعمه..
فهو إذا أصابته نعمة، بطر، وكفر، وأعرض عن الله، وإذا مسّه ضرّ جأر إلى الله، ورفع صوته شاكيا متوجعا، وعاهد الله لئن كشف الضّرّ عنه، ليؤمننّ بالله، وليستقيمن على صراطه المستقيم، فإذا كشف الله الضرّ عنه، نسى ما كان يدعو إليه من قبل، ولم يزده هذا الإحسان إلا ضلالا وكفرانا.. وقليل هم أولئك الذين يذكرون فى هذا الموقف ربّهم، ويشكرون له ما آتاهم من فضله..(7/308)
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» ..
- وفى قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» تهديد ووعيد، لهؤلاء الذين يمكرون بنعم الله، وينكثون عهدهم مع الله.. فليكفروا بما آتاهم الله من فضله، وليتمتعوا بما هم فيه من نعمة، فإن الله- سبحانه- لن يعجّل لهم العقاب، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وسوف يعلمون عاقبة ما هم فيه من كفر وضلال..
وفى الانتقال من الغيبة إلى الخطاب فى قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» مواجهة لهؤلاء الكافرين الضالين، بالبلاء الذي ينتظرهم، وبالعذاب المعدّ لهم.. وفى تلك المواجهة التي يجدون فيها ريح العذاب- ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، ومراجعة موقفهم الذي يشرف بهم على شفير جهنم..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» ..
- هو كشف عن وجه من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون بالله، وهو أنهم لا يقفون بكفرهم بنعم الله عند حدّ جحدها، وجحد المنعم بها، بل يتجاوزون ذلك إلى أن يضيفوا هذه النعم إلى غير الله، وأن يقدّموها قربانا إلى ما يعبدون من دون الله، من أصنام! وهذا فوق أنه كفر بالله، هو عدوان على الله، وحرب له..
- وفى قوله تعالى: «لِما لا يَعْلَمُونَ» حذف المفعول به، لإطلاق نفى العلم من هؤلاء المعبودين.. وأنهم لا يعلمون شيئا.. وفى هذا تشنيع على المشركين، وتسفيه لأحلامهم.. إذ عدلوا عن التعامل مع ربّ العالمين، الذي يعلم كل شىء، إلى التعامل مع ما لا يعلم شيئا..(7/309)
- وفى قوله: «نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ» إشارة إلى أن ما بأيدى هؤلاء المشركين من نعم الله، قد ضيعوا حق الله فيها، مما كان ينبغى أن يقدموه منها صدقة وزكاة، ابتغاء وجه الله، وجعلوه قربانا يتقربون به إلى هذه الأحجار المنصوبة، ويرجون الجزاء منها على ما قدموه.
- وفى قوله تعالى: «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم مسئولون عن هذا الضلال، وذلك الافتراء، ومحاسبون على هذا المنكر حسابا عسيرا، يلقون جزاءه عذابا أليما فى نار جهنم..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ.. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» .. هو بيان لوجه آخر من وجوه الضلال، التي يلبسها المشركون حالا بعد حال..
فمن ضلالاتهم أنهم يجعلون الملائكة بنات لله.. فلم يكتفوا بأن جعلوا لله- سبحانه- ولدا، بل جعلوه لا يلد إلا البنات، تلك المواليد التي لفظها مجتمعهم وزهد فيها، واستقبلها فى تكرّه وضيق.. وفى هذا ما يكشف عن مدى جهلهم بما لله من كمال، وما ينبغى أن يكون له من توقير.. فلقد أساءوا القسمة مع الله، حين سوّوه بهم- ضلالا وسفها- فجعلوا له البنات، وجعلوا لأنفسهم «ما يشتهون» من الذكور.. وقد سفّه الله أحلامهم، وكشف عوار منطقهم بقوله تعالى «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ.»
(19- 23: النجم) .. وذلك حين أطلقوا على تلك الأصنام هذه الأسماء المؤنثة، وادعوا أنها بنات الله..
وقوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ(7/310)
أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
- هو بيان لتلك الحال من الانزعاج، والكرب، والبلاء، التي تستولى على هؤلاء المشركين من العرب، حين يبشر أحدهم بأنه قد ولدت له أنثى.. هنالك ينزل عليه هذا الخبر نزول الصاعقة، فيضطرب كيانه، وتغلى دماء الكمد فى عروقه، ويضيق صدره، حتى لتختنق أنفاسه ويسودّ وجهه..
فإذا ظهر فى الناس جعل يتوارى منهم، ذلّة وانكسارا، حتى لكأنه لبس عارا، أو جنى جناية..! وهذا جهل فاضح، وضلال غليظ.. ولو كان معه شىء من النظر والتعقل، لعرف أن هذا الأمر ليس له، وأن ليس لأحد أن يخلق ذكرا أو أنثى، وإنما ذلك إلى الله وحده.. فلم يخجل من أن تولد له أنثى؟
ولم يمشى فى الناس مطأطىء الرأس، ذليل النفس؟ أيستطيع عاقل أن يتهمه بأنه جنى هذه الجناية المنكرة عندهم، وأنه ولد بنتا ولم يلد ولدا؟ ذلك قول لا يقال إلا فى مجتمع السفهاء والحمقى! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى» - إشارة إلى أن الولد نعمة من النعم التي يبشر بها، سواء أكان ذكرا أم أنثى، وأن من شأن هذه البشرى أن تملأ قلب الوالد بالفرحة والبشر.. تلك طبيعة الكائن الحىّ، حين يولد له مولود.. يهشّ له ويسعد به، بمجرد أن يرى وجهه، من قبل أن يتعرف عليه، ويعلم أذكر هو أم أنثى! .. فما يتوقف الحيوان عن فرحته حين يستقبل ولده، حتى يتبين الذكر من الأنثى.. بل إن مواليده كلّها سواء عنده.. هى قطعة منه، وثمرة شجرة الحياة المغروسة فى كيانه، والإنسان الذي يفرّق بين مواليده، هو خارج على الفطرة، منحرف عن سنة الحياة فى الأحياء..
- وقوله تعالى: «كَظِيمٌ» أي مكظوم، ممتلىء غيظا، وألما. ومنه الكظّة: وهى الامتلاء من الطعام..
- وقوله تعالى: «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» - هو تعقيب على هذا الموقف(7/311)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
المنحرف الضال، الذي يقفه المشركون من مواليدهم، من التفرقة فى الحكم بين الذكور والإناث..
وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لموقف المشركين من إضافتهم الإناث إلى الله، وإضافة الذكور إليهم، هو هذا الموقف الذي يقفونه هم أنفسهم مع ما يولد لهم من ذكور وإناث، وأنهم حين يبشر أحدهم بالأنثى ينزل به ما ينزل من حسرة، وحزن وبلاء.. فكيف ينسبون لله تعالى، ما لا يرضون نسبته إليهم؟ ذلك ما يعطيه المثل المضروب.. وتعالى الله سبحانه وتعالى عن أن يسوّى بينه وبينهم، فلله سبحانه المثل الأعلى، الذي لا يقابل بمثل..
أما المشركون فلهم كل خبيث، وكل خسيس، يضرب مثلا لهم، تصوّر به أحوالهم، ويكشف به ضلالهم..
- وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو «العزيز» الذي يعلو بعزته فوق كل مثل.. «الحكيم» الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجّهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.. حسب ما تقضى حكمته..
الآيات: (61- 67) [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 67]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)(7/312)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ.»
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن وجوه كثيرة، من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون حين كفروا بالله، ومكروا بآياته، وجحدوا أفضاله وأنعامه، فناسب ذلك أن يذكّرهم- سبحانه- بمزيد من فضله عليهم، وهو أن هذه المنكرات التي اقترفوها جديرة بأن تسوق إليهم المهلكات، وأن ينزل بهم ما نزل بالظالمين قبلهم من نقم الله، بل ويشمل البلاء كل ما بين أيديهم من أنعام سخرها الله لهم..
وفى التعميم الذي شمل الناس جميعا، وما على الأرض من دابّة، إشارة إلى أن رحمة الله لم تتخلّ عن الناس، حتى فى مواقع البلاء، والهلاك.. فلم يهلك الله الناس جميعا بسبب ما يقع منهم من ظلم، وشرك، وكفر، ولو أخذهم بظلمهم لما أبقى منهم باقية، ولأخذ غير الظالمين بالظالمين، بل ولما أقام حياة على هذه(7/313)
الأرض، من حيواناتها ودوابها.. إذ كانوا جميعا كيانا واحدا، مطالبا بأن يقيم خلافة الله فى الأرض، على صراط مستقيم..
قوله تعالى: «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» - أي ولكن شاءت رحمة الله بالناس ألا يعجّل لهم العقاب، وأن يقيمهم فى الحياة إلى أجل مسمّى، حتى تتاح لهم الفرصة لإصلاح ما أفسدوا، والرجوع إلى ربّهم.. إذ لا شك أن فى امتداد العمر للظالم رحمة به، حتى يراجع نفسه، ويرجع إلى ربّه.. فإن لم يرجع إلى الله، ويؤمن به فإن مطاولة الزمن له لم تضرّه، فقد كان بكفره غير متقبل لجديد من الضرر.. إذ ليس بعد الكفر ذنب.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام على كرم الله وجهه بقوله: «موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربّه، خير من موته طفلا، ولو دخل الجنة بغير حساب» ! قوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» - هو تنديد بالمشركين، واستنكار لأفعالهم وأقوالهم جميعا، فهم يجعلون لله ما يكرهون، أي ينسبون إليه الإناث، فيجعلون الملائكة بناته، ويسمّون آلهتهم بأسماء مؤنثة، ويقولون عنها إنها بنات الله! وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (27- 28: النجم) .. هذا، على حين يجعلون لأنفسهم الذكور، ثم لا يقف بهم الضلال عند هذا، بل يمنّون أنفسهم الأمانى المسعدة، ويقولون إن لهم العاقبة الحسنى عند الله.. كما يقول الله تبارك وتعالى فاضحا هذه الأمانى الخادعة:
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ»(7/314)
«عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» (77- 80: مريم) .
- وفى قوله تعالى: «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» - إشارة إلى أنهم يصفون الكذب بغير صفته، فهو قبيح، خبيث، لا يثمر إلا القبيح الخبيث، ولكنهم يعطونه صفة الشيء الحسن، ويرجون من ورائه ما يرجو المحسنون من إحسانهم..
ولهذا ضمّن الفعل تصف معنى القول: أي يقولون الكذب الذي يقولونه وهو قولهم «أن لهم الحسنى» .. فهو بدل من الكذب.
قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» . أي لا شك أن لهم النّار، وليست لهم الحسنى كما يزعمون.. وأنهم مفرطون.. أي سابقون إلى النّار.. فهذا هو المجال الذي يسبقون فيه، ويأخذون المكان الأول منه..
أما فى مقام الخير والإحسان فهم فى أنزل منزلة.
وقوله تعالى: «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
فى القسم من الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم تشريف للنبىّ، ومداناة له، وتلطف من الحقّ جل وعلا معه.. أي وحقّ ربّك، لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين، فوسوس لهم الشيطان، وزين لهم ما هم فيه من عمى وضلال، فلم يستجيبوا، لدعوة الحق، ولم يردّوا على رسل الله إليهم ردّا جميلا، بل أعنتوهم، ومدّوا إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى.. فلا تأس على ما يصيبك من قومك، وما ترى من عنادهم، وتأبّيهم على الحق الذي تدعوهم إليه، فالشيطان يتولاهم اليوم، ويقودهم كما تولّى الظالمين قبلهم، وقادهم إلى موارد الوبال والهلاك.. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي لأولياء الشيطان جميعا عذاب أليم فى الآخرة.(7/315)
وقوله تعالى: «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
هو بيان لمحامل الرسالة التي أرسل بها النبىّ الكريم، فالكتاب الذي أنزل إليه، ليس فيه ما يدخل منه الضيم على أحد ممن يستجيب له.. إنه لا ينزع من أحد سلطانا، ولا يعتدى على حرمة من حرماته، بل إن كل ما يحمله هو الخير، والرحمة، والأمن، والسلام.. فهو نور يكشف معالم الطريق إلى الحق والخير، ويقيم لمن يهتدى به فهما صحيحا للعقيدة التي يعتقدها..
فالقرآن الكريم ميزان عدل وحق، وفيصل ما بين الحق والباطل وحكم ما بين الخير والشر.. فما استقام على ميزانه، فهو الحق والخير، وما انحرف عنه، فهو الباطل والضلال.. فعلى هديه يجتمع أهل الكتاب على كلمة سواء منه، فيما اختلفوا فيه، وإليه يحتكم أهل الهدى، فيقضى بينهم بما يرفع الخصام والشقاق فيما كان سببا فى خصامهم وشقاقهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (59: النساء) .. وقوله سبحانه: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» (10: الشورى) .. وفى هذا يقول الرسول الكريم فى صفة القرآن الكريم: «القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته» ففى مأدبة الله هذه الشفاء والرحمة، والهدى والمعرفة.. إنه مأدبة علم وحكمة، وخلق، وليس مأدبة معدة، ولا طعام بطون..
- وقوله تعالى: «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. هو بيان لما فى القرآن الكريم من معطيات الخير التي لا تنفد.. فهو إذا كان ميزان الحق والعدل الذي تردّ إليه الأمور، وتنزل على حكمه الأحكام، فإنه كذلك هدى ورحمة، لمن آمن به واهتدى بهديه، واستظل بظلّه.. فهو الشفاء من كل داء،(7/316)
والعافية من كل سقام، والاستقامة من كل ضلال.. كما يقول الحق جلّ وعلا:
«وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (82: الإسراء) وكما يقول سبحانه: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ «آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» (44: فصلت) .
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لمّا ذكر فى الآية السابقة، أن القرآن الذي نزل على النبىّ، هو شفاء لما فى الصدور وروح للأرواح، وحياة للنفوس، فناسب أن يذكر ما ينزّل من السماء من ماء هو روح الحياة، وحياة الأحياء..
وبهذا تتم نعمة الله، حيث ينزل على عباده من رحمته، ما تحيا به حياتهم، المادية والروحية، جميعا..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن الآية المبصرة هى التي يتلقّاها الناس من كلمات الله، حين تتلى عليهم، لا من تلك الآيات الكونية التي يرونها بأبصارهم.. فهذه الآيات الكونية وإن كانت موطنا للعبرة، ومرادا للتبصرة، إلا أن كلمات الله التي تعيها آذان واعية، وتتلقاها قلوب متفتحة- هذه الكلمات هى أوضح بيانا، وأفصح لسانا، وأفعل أثرا، إذ هى النور الذي تنكشف على أضوائه الآيات الكونية المبثوثة فى الأرض والسماء.. وهذا هو السر فى أن جاءت فاصلة الآية الكريمة: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ولم تجىء هكذا: «لقوم يبصرون» حيث كان ذلك هو التعقيب المناسب للآية التي تحدّث عن الماء الذي ينزل من السماء، وأثره فى إحياء الأرض.. وكل هذه صور ترى ولا تسمع» .(7/317)
قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» ..
اختلف المفسرون، وتعددت آراؤهم فى تأويل الضمير فى قوله تعالى:
«مِمَّا فِي بُطُونِهِ» فهذا الضمير مفرد مذكر، يعود إلى «الأنعام» والأنعام جمع، فكان مقتضى هذا أن يعود الضمير إلى الأنعام مؤنثا هكذا: «بطونها» ..
إذ أن كل جمع غير عاقل، يعود عليه الضمير مفردا مؤنثا.. وقد جاء على تلك الصفة فى قوله تعالى فى سورة «المؤمنون» : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (الآيتان: 21- 22) فما تأويل هذا؟ ولم اختلف النظم فى الآيتين، فجاء فى آية النحل هكذا:
«مِمَّا فِي بُطُونِهِ» على حين جاء فى آية «المؤمنون» : «مِمَّا فِي بُطُونِها» .
يقول المفسرون: إن الأنعام، تجىء فى اللغة بمعنى المفرد، كما تستعمل جمعا.. وقد استعملت فى آية النحل بمعنى المفرد، واستعملت فى آية «المؤمنون» الاستعمال الآخر الذي لها، وهو الجمع!! ويأتون لهذا بكثير من الشواهد اللغوية للاستعمالين..
والقول بأن «الأنعام» لفظ مفرد، مثل ثوب «أخلاق» ونطفة (أمشاج) قول متهافت لا يراد منه إلا الخروج من هذا الموقف بين يدى الآية الكريمة، وتسوية نظمها على أية صورة!! فالقرآن الكريم لم يستعمل لفظ «الأنعام» مرة واحدة بمعنى المفرد، على كثرة ما ورد فيه من ذكر هذا اللفظ فى مواضع شتى.. فمن ذلك:
«وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ» .. (30: الحج)(7/318)
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» ..
(12: محمد) «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» .. (118: النساء) «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» (5: النحل) «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» .. (54: طه) «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» .. (33: النازعات) هذا هو بعض ما ورد فى القرآن الكريم من ذكر الأنعام.. وقد استعملت استعمال الجمع غير العاقل، فعاد إليها الضمير مفردا مؤنثا.. كما أضيفت إليها «الآذان» جمعا.. وكما أضيفت هى إلى الناس هكذا «أنعامكم» وليس بمعقول أن يرعى الناس جميعا بهيمة واحدة!! والذي نراه فى مجىء الضمير فى آية النحل مفردا مذكرا، على غير ما يقتضيه الاستعمال اللغوي، هو أن الحيوان الذي يشرب لبنه، ويؤكل لحمه، هو الحيوان المجترّ، بخلاف الحيوان الذي له لبن، ولكن لا يحل شرب لبنه، ولا أكل لحمه، وهو غير مجترّ، كالكلب، والخنزير.
والحيوان المجترّ، له خاصية فى جهازه الهضمى.. فله معدة، وله معى، وله كرش، يختزن فيه الطعام، وبعيد مضغة مجترا.. بخلاف الحيوان غير المجتر فإنه ليس له هذا «الكرش» الذي يختزن فيه الطعام..
ومن هنا يبدو الحيوان المجتر وكأنه لا يحمل بطنا واحدا كسائر الحيوانات، بل يحمل بطونا.. المعدة، والمعى، والكرش، الذي هو أشبه بمجموعة من البطون..
ومن هنا أيضا جاء النظم القرآنى: «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» مشيرا إلى(7/319)
بطون هذا الحيوان المجتر الذي أحلّ شرب لبنه، وأكل لحمه، وأن الحيوان الذي ليس له هذه البطون لا يؤكل لحمه، ولا يشرب لبنه..!
ومن هنا- مرة ثالثة- كان على الإنسان أن ينظر فى الحيوان الذي يشرب من لبنه ويأكل من لحمه، فإذا كان على تلك الصفة أكل من لحمه وشرب من لبنه، وإلا أمسك عنه..
فالآية الكريمة إذ تنبه الإنسان إلى ما فى بطون الأنعام من عبرة فى خروج اللبن من بين الفرث والدم تنبّهه كذلك إلى ما أحلّ له من الحيوان ذى اللبن، ولهذا جاء وصف اللبن بهذين الوصفين: «لَبَناً خالِصاً.. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» .
وعلى هذا يكون الضمير فى «بطونه» عائدا إلى الحيوان المجترّ ذى البطون، وذى اللبن الخالص، السائغ للشاربين.. هذا الحيوان المنتقى من بين مجموعة الأنعام كلها، فهو حيوانها الذي ينبغى أن يتجه النظر إليه فى هذا المقام! مقام أخذ اللبن الخالص السائغ منه.
أما آية «المؤمنون» فلم يكن المراد منها التنبيه إلى هذه الخاصية من الحيوان، ذى اللبن الخالص السائغ، حيث جاءت الآية هكذا: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» .. فهى تحدّث عن الأنعام فى جملتها، وعما يجنيه الناس منها من ثمرات، ليس اللبن إلا بعضا منها، وليس فى الآية ما فى آية النحل من إلفات خاص إلى اللبن الصافي السائغ، الذي يخرج بقدرة القدير، وتدبير الحكيم العليم.. من بين الفرث والدم..
فآية النحل تلفت الأبصار والبصائر فى قوة، إلى هذه الظاهرة العجيبة، التي تحدّث عن قدرة الله، وإلى ما تملك القدرة من قوى التصريف والإبداع..(7/320)
فمن بين الفرث، وهو «الروث» ، وبين الدم- يجرى اللبن الخالص، السائغ، دون أن تعلق به شائبة، أو يمسّه سوء، يغيّر لونه أو طعمه، أو ريحه.. ومن تلك الأخلاط التي تجمع من الأطعمة التي يتناولها الحيوان، وتتجمع فى كرشه ومعدته- من تلك الأخلاط يخرج الفرث، واللبن، والدّم.. فيأخذ الفرث سبيله إلى العمى، ثم إلى خارج الجسد، ويأخذ اللبن مجراه إلى الضرع، ويأخذ الدم مساره فى العروق! دون أن يبغى بعضها على بعض، أو يختلط بعضها ببعض، حتى لكان كلّا منها وارد من عالم لا يتصل بالعالمين الآخرين، بأية صلة.. فتبارك الله رب العالمين..!!
وفى تقديم قوله تعالى: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» على قوله سبحانه «لَبَناً» الذي هو مطلوب للفعل «نسقيكم» - فى هذا إلفات إلى الفرث والدم وما يخرج من بينهما، وهو اللبن الخالص السائغ للشاربين.. فإنه قبل أن يقع لنظر الناظر هذا اللبن، يلتقى نظره أولا بالفرث والدم، الذي لا يتصور أن يخرج منهما إلا ما يشاكلهما.. فإذا رأى بعد هذا أن ذلك اللبن الخالص السائغ يخرج من بين هذين الشيئين: الفرث والدم، عجب لذلك كلّ العجب، وحمله ذلك على أن يقف عند هذه الظاهرة وقوفا طويلا، يشهد فيها لمحات من قدرة الله، وعلمه، وحكمته.
قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .. «ومن» من هنا للتبعيض.. أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا.. وهو ما يؤخذ من التمر.. من خلّ، وما يتخذ من العنب.. من زبيب مثلا.. فليس كل ثمرات النخيل والأعناب، يتخذ، أي يصنع منها السكر، وغير السكر، وإنما يؤكل أكثره من غير صنعة، وقليله هو الذي يصنع من السّكر وغيره.. ولهذا عاد(7/321)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
الضمير فى «منه» على هذا البعض، أو هذا القليل.. أي وبعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذونه سكرا ورزقا حسنا ...
والسّكر: ما يسكر، وهو الخمر.. والرزق الحسن ما يصنع من التمر والعنب فى أغراض أخرى غير السّكر..
وفى هذا إشارة إلى أن السكر- وهو الخمر- رزق غير حسن.. وإن سمّى رزقا، لأن كثيرا من الناس يصنعه، ويبيعه، ويعيش من العمل فيه..
وهذه أول آية تنزل فى الخمر، وتومئ إليه هذه الإماءة التي تحقره، وتسمه بتلك السمة التي تعزله عن الحسن من الرزق.
الآيات: (68- 73) [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 73]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)(7/322)
التفسير:
قوله تعالى: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» .
الوحى هنا: الإلهام، المركوز فى الفطرة التي فطر الله النحل عليها..
فهكذا خلق الله النحل، تتخذ لها بيوتا فى الجبال، وفى جذوع الأشجار، وفى سقوف المنازل والحيطان، ونحو هذا..
وسميت أعشاش النحل بيوتا، لأنها قائمة على نظام دقيق بديع، تحكمه هندسة دقيقة بارعة، يحار فيها عقل الإنسان.
وقوله تعالى: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .
هو معطوف على ما قبله.. أي مما ألهمه الله سبحانه وتعالى النحل وجعله طبيعة قائمة فيها، أن يكون طعامها من زهر الزروع وثمارها.. والتقدير: وأوحى ربك إلى جماعة النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا.. ثم كلى من كل الثمرات..
- وفى توجيه الأمر إلى النحل فى قوله تعالى: «أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» .. وقوله سبحانه: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ثم قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» - فى هذا الأمر إشارة إلى أن الوحى الصادر إلى النحل ليس أمرا تكليفيا، وإنما هو أمر تقديرى، ليس للنحل معه تفكير(7/323)
أو تدبير، بل هو أشبه بجهاز عامل فى كيان النحل، أو قل هو الجهاز العامل فى كيانه..
- وفى قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» المراد بالسبل هنا ما فى كيان النحل من غرائز فطرية، هى التي تحكم حياته، وتضبط سلوكه.
والأمر الموجه إلى النحل بأن يسلك سبل ربه ذللا، هو إذن من الخالق جلّ وعلا، للنحل أن ينطلق على طبيعته، وأن يسير على ما توجهه إليه غريزته، حيث لا تتصادم هذه الغريزة، بشىء غريب يدخل عليها من إرادة أو تفكير..
فالسبل التي تسلكها النحل فى بناء بيوتها، وفى تناول طعامها، وفى الشراب الذي تخرجه من بطونها.. كل ذلك يجرى على سنن مستقيم لا ينحرف أبدا، ويسير فى طريق مذلل معبّد.. هو طريق الله، وهو فطرة الله.
وقد عاد الضمير على النحل بلفظ المفرد المؤنث: «اتَّخِذِي.. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ.. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» مع أن «النحل» اسم جمع مذكر، وذلك أن المراد بالنحل هو «جماعة النحل» أو النحل فى جماعته، من حيث كان النحل من الكائنات الحية التي لا تعيش إلا فى نظام جماعى، تتألف منه وحدة منتظمة، أشبه بالوحدات الإنسانية، فى أرقى المجتمعات، حيث تتوزع أعمال الجماعة على أفرادها، وحيث يؤدى كل فرد ما هو مطلوب منه فى غير فتور أو تمرد..
ومن حصيلة العمل الذي تعمله هذه الجماعة، ويشارك فيه ذكورها وإناثها، وجنودها وعمالها، والملكة ورعيتها- من هذه الحصيلة يتكون الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس.
- وقوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» -(7/324)
هو جواب عن سؤال يقع فى الخاطر، حين يستمع المرء إلى كلمات الله سبحانه وتعالى عن النحل، وعن وحيه إليه، وأمره له، فيلفته ذلك كله إلى النحل، وإلى أن يسأل نفسه، ما شأن هذا النحل؟ وما الرسالة التي يؤديها هذا المخلوق الضئيل الذي يتلقى من ربه وحيا كما يتلقى الأنبياء؟ فيكون الجواب:
«يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» - تلك هى رسالة النحل، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، يتلوّن بلون الغذاء الذي يتناوله.. أما ثمرة هذه الرسالة.. وأثرها فى الحياة، فذلك ما كشف عنه قوله تعالى: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ففى هذا الشراب الذي يخرج من بطون النحل شفاء للناس.. أي إن فى تناول الناس له شفاء لكثير من أمراضهم وعللهم، وليس لكل الأمراض والعلل.. ولهذا جاء التعبير القرآنى «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» بالتنكير، ولم يجىء: «فيه الشفاء للناس» ، الذي يدل بتعريفه على العموم والشمول، وهذا من حكمة الحكيم العليم.. فلو كان شراب النحل شفاء من كل داء لأدخل الخلل على نظام الحياة الإنسانية، التي لا تستقيم إلا مع الصحة والمرض معا.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه من يشكو إليه مرض أخيه، بداء فى بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا.. فسقاه فلم يشف ما به، فجاء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- شاكيا، فقال: اسقه عسلا..
فسقاه.. فلم يذهب بدائه.. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا، فقال:
«صدق الله وكذب بطن أخيك» اسقه عسلا.. فسقاه، فشفى! هذا ويجوز أن يكون الضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بُطُونِها» عائدا إلى السبل، أي يخرج من بطون هذه السبل شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس..
وهذا يعنى أن رسالة النحل فى هذه الحياة، هى أن تسعى هذا السعى فى الحياة،(7/325)
وأن تسلك السبل التي يسّرها الله سبحانه وتعالى لها، وأقام طبيعتها عليها، بحيث لا حياة لها فى غير هذه السبل، وأنه إذ تسلك النحل هذه السبل- ولا بد لها أن تسلكها- يخرج من بطون تلك السبل شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس..
وهذا يعنى مرة أخرى أن النحل ليس إلا أداة من الأدوات العاملة فى هذا الجهاز العظيم الذي يخرج من بطونه هذا الشراب.. وهذا يعنى مرة ثالثة ألا يقف نظر الإنسان عند النحل وما يخرج منه من شراب عجيب، بل يجب أن يمتد النظر إلى آفاق فسيحة وراء أفق النحل.. فهناك الأزهار المختلفة التي يتغذى عليها النحل ويمتص رحيقها، وهى ألوان وطعوم.. كل لون منها، وكل طعم، فيه نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.. فليس هذا الشراب المختلف الألوان الذي يخرج من بطون النحل- بأعجب من هذا الزهر المختلف الأصباغ الذي يخرج من بطون الأرض.. ثم هناك أيضا هذا التجاذب، والتوافق بين الزهر والنحل، فإنه لولا هذا التوافق والتجاذب لما جاء هذا الشراب، على صورته تلك..
فلو أنه كان من طبيعة النحل أن يتغذى بالحبّ، أو اللحم، أو ما شابه ذلك لما كان هذا الشراب.. فبطون النحل التي أخرجت الشراب، وبطون الأرض التي أخرجت الزهر، هى جميعا جهاز واحد فى صنعة هذا الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» .. هو آية من آيات الله فى خلقه.. وهى الحياة والموت.. فقد قضت حكمة الله أن يقرن الموت بالحياة، وأن يصله بها، ويسلطه عليها، مع اختلاف مدة الحياة التي يحياها الكائن الحىّ..
ففى الناس مثلا من يموت جنينا، ومنهم من يموت شابّا، ومنهم من يموت شيخا، ومنهم من يمتدّ به الأجل حتى يبلغ من العمر أرذله..! على أن النهاية هى الموت..!(7/326)
وفى وقوف القرآن الكريم عند تلك الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى أرذل العمر- إشارة إلى ما يلبس الإنسان فى تلك الحالة من صور فى الحياة، أشبه بما كان عليه فى أول مراحل العمر.. فيضمر جسده، وتضعف قواه، وتتحول مشاعره، ومدركاته، إلى مشاعر الطفولة ومدركتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ» (68: يس) .
- وفى قوله تعالى: «يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن امتداد العمر بالإنسان، ينتهى به عند نقطة معينة يبدأ بعدها الرجوع إلى الوراء، من حيث بدأ رحلة الحياة، وهو رجوع على وضع مقلوب، منتكس، يجرى على عكس الاتجاه الذي كان يأخذه فى أول حياته، التي كان طريقه فيها يمشى به صعدا، على حين أنه فى رحلة العودة إلى الوراء يهبط منحدرا، حتى ليكاد يقع على مستوى نقطة البدء التي بدأ منها.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى «أَرْذَلِ الْعُمُرِ..» فالرذل هو الخسيس من كل شىء.. وتلك المرحلة المتقدمة من العمر هى أسوأ مراحل العمر وأرذله.. وقد أحسن المعرى فى قوله:
وكالنّار الحياة فمن رماد ... أواخرها، وأولها دخان
فأول العمر دخان، ثم يتكشف هذا الدخان عن نار، هى شباب الحياة، وجذوته، ثم تخمد هذه الجذوة، وينطفىء هذا الشباب، فإذا هو رماد..
تسرى فيه بعض حرارة النار، ثم يبرد شيئا فشيئا حتى يكون ترابا.. وذلك هو آخر مطاف الإنسان فى هذه الحياة..!
- وفى قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي امتدّ به الأجل إلى هذا المدى، قد عاد من رحلته الطويلة فى الحياة، إلى النقطة التي بدأ منها.. فمن ولد لا يعلم شيئا، انتهى إلى حيث لا يعلم شيئا، كما يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» ..(7/327)
وفى الآية الكريمة صورة كاشفة لهذا الإنسان الذي مكّن الله سبحانه وتعالى له من القوى الجسدية والعقلية، فاتخذ منها أسلحة يحارب بها الله، ويتسلّط بها على خلق الله، فلو أنه عقل ونظر إلى نفسه فى مرآة الزمن، حين يمتد به العمر، لرأى كيف يكون حاله من الضعف والوهن.. وإذن لأقام حسابه مع هذه القوة التي بين يديه على العدل والإحسان، ولأبقى لنفسه رصيدا من الخير والمعروف.. يحتفظ به فى يد الحياة، لتقدّمه له فى تلك المرحلة الحرجة فى حياته..
قوله تعالى: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..؟
هذا التفاوت بين الناس، فيما فضّل الله به بعضهم على بعض، فى الرزق، يشير إشارة صريحة إلى أنه ينبغى أن يكون هناك تفاوت بين الخالق والمخلوق..
ذلك أنه إذا كان الناس وهم من صنعة الخالق، لم يطبعهم الله سبحانه وتعالى على صورة واحدة، ولم يقمهم فى الحياة على درجة واحدة، بل خالف بينهم فى الصورة، واللون، ففيهم الوسيم والدميم، والطويل والقصير، والأبيض والأسود- كذلك قسم الله معيشتهم فى الدنيا، فجعل فيهم الغنىّ والفقير، والمالك والمملوك- فكيف يسوغ بعد هذا أن يسوّى بين الخالق وما خلق؟
فهؤلاء الذين وسع الله لهم فى الرزق، وملأ أيديهم من الجاه والمال والسلطان- أيكون منهم من يردّ ما بين يديه من مال ومتاع على من تحت يده من عبيد وإماء، حتى يسوّى بينه وبينهم فى المأكل والمشرب، والملبس، وفى كل مظاهر الحياة؟ ذلك ما لا يكون، وإن كان شىء منه، فهو واقع- فى صورة لا تزيل الفارق بينه وبين من تحت يده، وإن ارتفع بهم شيئا قليلا!(7/328)
فكيف يسوغ هذا الضلال لعقل هؤلاء الذين يجعلون لله أندادا يسوّونهم به، وهم صنعة يده، وغذىّ نعمته؟
- وفى قوله تعالى: «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» إنكار لموقف هؤلاء المشركين، من نعم الله، التي أفاضها عليهم.. وتذكير لهؤلاء السادة من المشركين بما وسّع لهم من رزق، ولو شاء لجعلهم فى المكان الذي فيه عبيدهم ومواليهم.. فإنهم بهذا الرزق الذي رزقهم الله إياه كانوا سادة فى الناس، وكانت لهم الكلمة المسموعة فيهم.. ثم هم- مع ذلك- أئمة يدعون الناس إلى غير طريق الله، ويدفعون بهم إلى مهاوى الهلاك.. وكان الأولى بهم أن يقيموا وجوههم إلى الله، وأن يقدموا له ولاءهم وحمدهم، فإذا لم يكن شىء من هذا، فلا أقلّ من أن يدعوا عباد الله يعبدون الله، لا أن يضلّوهم ويصدّوهم عن سبيله! قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» .
هذا رزق من رزق الله، الذي جعله حظّا مشاعا فى عباده جميعا، وهو أنه سبحانه، جعل بين الذكر والأنثى فى عالم الإنسان- كما هو فى عالم الحيوان- إلفا ومودة، بما بينهما من مشاكلة وتوافق فى الطباع، الأمر الذي به يتم اجتماعهما، وتآلفهما، ثم ما يكون من هذا الاجتماع والتآلف من ثمرات طيبة، يقتسمان متعتهما منها، هى البنون والحفدة، وهم أبناء الأبناء، أو هم الكبار من الأبناء، الذين يكونون عضدا لآبائهم، يسعون معهم، ويحملون عبء الحياة عنهم..
فالحفد: السعى فى سرعة، ومنه ما ورد فى القنوت: «وإليك نسعى ونحفد» .. ثم إلى هذا الذي رزقه الله سبحانه وتعالى، الناس من بنين وحفدة،(7/329)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
ما رزقهم به من طيبات فى هذه الحياة، مما يتقلبون فيه من فضل الله ونعمته..
وهذا كلّه من عطاء الله، وهو جدير بأن يحمد ويشكر.. ولكن كثيرا من النّاس يكفرون بالله، ويجحدون فضله ويجعلون ولاءهم لغيره، مما هو باطل وضلال.. «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» ؟ .. إن ذلك وضع مقلوب للأمور.. حيث يكون الباطل متعلّق الإنسان وموطن رجائه، بدلا من الحق الذي ينبغى أن يكون متعلّقه ومناط ولائه ورجائه.. وحيث يستقبل النعمة بالكفران والجحود، بدلا من أن تستقبل بالحمد والشكران..
وفى العدول من الخطاب إلى الغيبة فى قوله تعالى: «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» .. إبعاد لهؤلاء المنحرفين عن طريق الحق، من أن ينالوا شرف الخطاب من رب العالمين، وأن يأخذوا مكانهم بين من هم أهل لهذا الشرف العظيم..
وقوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ» .. هو تسفيه لهؤلاء المنحرفين الضالين، ووعيد لهم، إذ تعلقوا بهذه الأوهام، وخدعوا أنفسهم بهذا السراب، فعبدوا من دون الله، ما لا يملك شيئا من هذا الرزق الذي ينزل عليهم من السماء، ويخرج لهم من الأرض، ولا يستطيع- هذا المعبود- إن هو حاول- أن ينال شيئا، وهو كله فى ملك الله، وفى سلطان الله..
الآيات: (74- 77) [سورة النحل (16) : الآيات 74 الى 77]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)(7/330)
التفسير:
قوله تعالى: «فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» الأمثال: جمع مثل، وهو شبيه الشيء ونظيره..
وضرب المثل: مقابلته بمثله، حين يجمع بين النظير ونظيره، أو الشيء وضده، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ» والأمر هنا موجه إلى المشركين، الذين يضربون أمثالا، يقيمون منها حججا لضلالهم، وهى أمثال باطلة فاسدة، تولدت من عقول مريضة، وقلوب سقيمة.. كما يحكى القرآن بعض أمثالهم فى قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» .. (78: يس) أما الأمثال التي يضربها الله، فهى التي تكشف الطريق إلى الحق والخير، لأنها أمثال مستندة إلى علم الله المحيط بكل شىء.. «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .
وقوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ(7/331)
مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
هذا مثل من الأمثال التي يضربها الله.. وفيه الحجة البالغة، والبيان المبين، لما بين الحق والباطل، من بعد بعيد! فهذا عبد مملوك.. هو فى يد مالكه، لا يملك من أمر نفسه شيئا..
وهذا إنسان رزقه الله رزقا حسنا، ليس لأحد عليه سلطان، فهو ينفق من هذا الرزق الحسن كيف يشاء، سرا وجهرا.. يعطى من يشاء مما فى يده، ويحرم من يشاء! فهل يستوى هذا، وذاك؟ هل يستوى العبد والسيد؟ هل يستوى المملوك والمالك؟ ثم هل يستوى المخلوق والخالق؟ هل يستوى من لا يملك ومن يملك؟
هل يستوى من لا يرزق ومن يرزق؟
العقلاء يحكمون بداهة أن لا مساواة بين هذين النقيضين.. ثم يخرجون من هذا إلى الاتجاه إلى الله بالحمد على أن كشف لهم الطريق إليه، وعرّفهم به..
أما أهل الزيغ والضلال، فإنهم لا يجدون فى هذا المثل شعاعة من أضوائه، بل يظلون على ما هم عليه من عمى وضلال..
- وفى قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» إشارة إلى أن هذا هو منطق الذين يستمعون إلى هذا المثل ويعقلون، فيؤمنون بالله ويحمدونه..
قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. وهذا مثل آخر، لما بين الحق والباطل من تفاوت كبير، وبعد بعيد..
هذان رجلان: أما أحدهما فأبكم، مغلق الحواس، والمشاعر، والمدارك.
لا يفهم شيئا، ولا يحسن شيئا.. إنه حيوان، يمسك به من مقوده إلى حيث(7/332)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
يقاد.. وأما الآخر فعاقل رشيد، حكيم، يرتاد مواقع الخير، ويلقى بشباكه فيها، فتجيئه ملأى بكل طيب كريم. إنه على طريق مستقيم، لا تزلّ قدمه، ولا تتعثر خطاه، ولا يظل به الطريق! فهل يستوى الرجلان! وهل هما فى ميزان الحياة، وفى تقدير العقلاء، على سواء؟ ذلك ما لا يقول به عاقل، ولا ينزل على حكمه إلا أحمق سفيه! قوله تعالى: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
ذلك هو ما يؤدّى إليه النظر فى هذين المثلين.. وهو أن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد وحده بجلاله، وقيّومته على هذا الوجود.. لا يماثله شىء من خلقه، ولا يوازن به كائن من مخلوقاته.. فله- سبحانه- غيب السموات والأرض.. يعلم ما تكسب كل نفس، وسيوفّى كل إنسان جزاء ما عمل..
وذلك فى يوم الحساب والجزاء، يوم يقوم الناس لرب العالمين..
وهذا اليوم، ليس ببعيد.. لا يحتاج مع قدرة الله إلى معاناة وجهد..
فما هو إلا أن يأذن الله به، فإذا هو واقع فى لمحة كلمحة البصر، أو أقرب..
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
الآيات: (78- 83) [سورة النحل (16) : الآيات 78 الى 83]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)(7/333)
التفسير:
قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. هو إلفات إلى قدرة الله، وإلى ما لهده القدرة من سلطان حكيم، وتصريف محكم.. ففى خلق الإنسان، وفى أطواره التي مرّ بها، ما يفتح للعقل كتابا مبينا، يرى فى صحفه من مظاهر قدرة الله، وعلمه، وحكمته، ما يأخذ بالألباب، ويأسر المشاعر..
من أبن جاء الإنسان؟ وكيف كان هذا الكائن السميع، البصير، العاقل، العالم؟ ألم يكن نطفة، ثم كان علقة، ثم كان مضغة، ثم جنينا.. ثم طفلا؟
ثم كيف بهذا الطفل، الذي استقبلته الحياة أشبه بقطعة من اللحم المتحرك، ثم هو يصبح هذا الإنسان الذي يقود سفينة الكوكب الأرضى، ويقوم عليها خليفة لله فيها؟
- وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» توجيه للقوى العاقلة المدركة فى الإنسان أن تؤدى وظيفتها فيه، وأن يفتح الإنسان منها طاقة على هذا(7/334)
الوجود، فيرى ما لبسه من نعم الله عليه، وإحسانه إليه، فيحمده، ويشكر له..
قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. هو إشارة إلى آية من آيات الله، خارج كيان الإنسان، وعالمه الداخلى.. فإذا لم يكن فى الإنسان نظر يرى به ما بداخل كيانه، كما يقول الله تعالى: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (21: الذاريات) - فليقم نظره على هذا العالم الخارجي..
وليوجه مدار نظره على هذا الطير السابح فى السماء، الصّافّ بأجنحته على هذا العالم الأثيرى، وليسأل نفسه: من يمسك هذا الطير أن يقع على الأرض؟
ومن أعطاه تلك القدرة التي يقهر بها جاذبية الأرض، ويخرج بها عن سلطان هذه الجاذبية، فلا يسقط كما يسقط لإنسان القوى العاقل إذا هوى من فوق شجرة، أو دابة مثلا؟ إن القدرة القادرة- قدرة الحكيم العليم- هى التي تمسك بهذا الطير السابح، أو الصاف على موج الأثير.. فى جو السماء! «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» .
أليس فى هذا آية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟ بلى إنها لآية لقوم لا يمكرون بآيات الله، ولا يخونون أنفسهم بما تحدثهم به من الحق، فينكرونه فى عناد ومكابرة.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» ..
وإذا قصرت بعض الأنظار أن ترى ما فى جوّ السّماء من طيور سابحة، أو زاغت عن أن ترى وجودها الإنسانى، وما بداخلها من آيات الله فيها، فهذه آيات مبثوثة على الأرض.. لا تحتاج إلى نظر، وإنما هى مما يمسك باليد..(7/335)
فهذه البيوت التي جعلها الله سكنا للإنسان، يأوى إليها، ويجد فيها أنس النفس وروح الروح، بما يجتمع إليه فيها من زوج وولد.. أليس هذا من نعم الخالق ومن سابغات أفضاله؟ ثم هذه البيوت الخفيفة الحمل التي يتخذها الإنسان من جلود الأنعام، أو مما على جلودها من أصواف وأوبار وأشعار- أليست مما يسّر الله للإنسان، ومكن له منها؟
أفبعد هذا يجد العاقل متجها إلى غير الله، يلوذ به، ويعطى ولاءه له؟
قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» .. أي ومن فضل الله على عباده أن جعل لهم- من غير صنعة منهم- ظلالا يستظلون بها من وقدة الشمس، حيث يجدون هذه الظلال الفسيحة فيما أنبت الله من شجر، كما جعل لهم- من غير عمل ولا جهد- أكنانا من الجبال، يأوون إليها من البرد.. وذلك رحمة من رحمة الله بكثير من الناس الذين لا يتسع حولهم أو حيلتهم، لبناء البيوت، وصنعة المساكن..
كذلك من فضله سبحانه على عباده، أن هيأ لهم أسباب العلم والمعرفة فنسجوا من الحرير، والصوف، والشعر، والوبر.. وغيرها «سرابيل» أي ملابس يتسربلون بها، ويغطون أجسادهم، يتقون بها لفح الهجير، ولذعة السموم..
ثم مكن لهم سبحانه، من أن يتخذوا من الحديد سرابيل، أي دروعا يتقون بها عدوان بعضهم على بعض بالحراب والسيوف..
وفى قصر منفعة السرابيل، التي تتخذ لوقاية الجسم من عادية الحرّ، على هذه المنفعة وحدها، دون ما يتخذ من الملابس لانقاء البرد، أو التجملّ والتزين- فى هذا إشارة إلى تلك المنفعة الخفية التي ربّما غفل عنها كثير من الناس، حيث يحسبون أن اتقاء البرد، هو الدافع الأول للإنسان على اتخاذ الملابس والأغطية(7/336)
وقاية له.. وهذا وإن كان صحيحا إلا أن اتقاء لفح الحرّ بالملابس لا تقلّ دواعيه عنها فى حال البرد. فإن لفح الهواجر، ولذعة السّموم، تحرق الأجسام، وتشوى الوجوه، إن لم يتوقّها الإنسان بما يتسربل به..
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» الإشارة هنا، إلى تلك النعم السابغة الشاملة، التي تلقى الإنسان حيث كان، وتستقبله أنّى دعت حاجته إليها، وذلك ما لا يخلى إنسانا من واجب الشكر لله ذى الطول والإنعام..
قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تعقب على تلك النعم التي أفاضها الله على عباده، ولم يحرم أحدا حظه منها.. وفى هذه النعم تتجلّى قدرة الله، وحكمته- فكان لقاء النبىّ قومه بعد هذا العرض العظيم لآيات الله، وتذكيرهم بالله سبحانه، أنسب الدواعي التي تدعو الإنسان إلى لله، وإلى الإيمان به.. فإن تولّى بعد هذا، فليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد بلّغ الرسول أبين بلاغ وأوضحه..
قوله تعالى: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» هو كشف عن هؤلاء المشركين، وما انطوت عليه نفوسهم من ضلال وظلام..
«يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» ويشهدون آثارها فيهم وفيمن حولهم «ثم ينكرونها» ظلما وبغيا.. ومن نعم الله التي أنعم عليهم بها، هذا القرآن الكريم، الذي يعرفونه ويعرفون ما فى آياته من حق وصدق.. ولكنهم يكابرون ويعاندون، فينكرونه، ويصمّون آذانهم عنه، ويغلقون قلوبهم دونه.
- وفى قوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» إشارة إلى ما استولى على قلوب الكثرة فيهم، من كفر صريح غليظ، كما يدل على ذلك تعريف الخبر(7/337)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
المحدّث عنهم بالكفر.. بقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» .. أي الكافرون كفرا بالغا الغاية التي ليس وراءها شىء منه..
الآيات: (84- 89) [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
التفسير:
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .. هو وعيد للكافرين، وما يلقون يوم القيامة من ذلّة وهوان، وما ينزل بهم من بلاء وعذاب.. ففى هذا اليوم تجىء كل أمة، ومعها رسولها الذي بعث فيها، ليؤدّى فيهم الشهادة بين يدى الله، كما يقول سبحانه:
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (6: الأعراف) وكما يقول تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (71: الإسراء) .(7/338)
- وقوله تعالى: «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .. أي لا يؤذن لهم بالكلام، إذلالا لهم، وكتبا.. كما يقول سبحانه: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» أي ليقيم المذنب لنفسه عذرا عما فعل من قبيح.. والمراد بعدم الإذن لهم بالكلام هو فى تلك الحال التي يواجهون فيها رسلهم.. الذين يتكلمون.. أمامهم فيسمعون شهادة رسلهم فيهم دون أن ينطقوا بكلمة، إذ ليس لهم كلمة يقولونها هنا، بين يدى هذا الحق الذي تخرس معه الألسنة.
قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» .. أي حين يشهد الظالمون، العذاب، ويستيقنون أنهم صائرون إليه، يفزعون منه، ويشتد بهم البلاء، ويحيط بهم الكرب.. ولكن لا مفزع لهم..
فذلك هو العذاب لذى أعدّ لهم، ولن ينظروا ويمهلوا، بل يلقى بهم فيه قبل أن يردّوا أبصارهم عنه.
قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» .
هذا مشهد من مشاهد القيامة. وفيه، يرى المشركون وقد دارت أعينهم تبحث عن طريق للنجاة، من هذا البلاء المحيط بهم، حتى إذا رأوا شركاءهم الذين عبدوهم من دون الله تعلقوا بهم قائلين: «رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» .. إنهم هم الذين أضلونا، ووقفوا فى طريقنا إليك..
«فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» أي رموهم بهذه الكلمات القاتلة التي قطعت هذا الحبل الذي تعلقوا به، وظنوا أنهم ناجون.. «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» أي إننا لم ندعكم إلى عبادتنا، بل عقولكم الفاسدة، هى التي أضلتكم، وأرتكم منّا ما رأيتم، حتى جعلتمونا آلهة تعبد من دون الله..
قوله تعالى: «وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ..»(7/339)
أي حين أفلت من المشركين هذا المتعلق الكاذب الذي تعلقوا به، وملأ اليأس قلوبهم، أسلموا أمرهم لله، وقد تخلّى عنهم ما كانوا يفترون على الله من أباطيل..
قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» - وأولئك هم الذين كفروا بالله ثم لم يقفوا عند هذا الجرم الغليظ، بل حالوا بين الناس وبين الهدى والإيمان، فقعدوا لهم بكل سبيل، وتسلطوا عليهم بكل سلطان ليردّوهم عن مورد الحق.. فهؤلاء لهم عذاب فوق العذاب الذي استحقوه بكفرهم.. وفى هذا يقول الله تعالى.
«وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (13: العنكبوت) .
- وفى قوله تعالى: «بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» بيان للسبب الذي من أجله ضوعف لهم العذاب، وهو أنهم مع كفرهم بالله، كانوا يفسدون فى الأرض، ويفتنون الناس فى دينهم.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ..
هو خطاب للنبىّ الكريم، وبيان لموقفه من قومه يوم القيامة، فهو الشهيد عليهم، كما أن كل نبى سيكون شهيدا على قومه..
- وفى قوله تعالى: «وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» الإشارة هنا بهؤلاء، تتجه أولا إلى أولئك المشركين، الذين يتولّون كبر الوقوف فى وجه الدعوة الإسلامية، ويحادّون الله ورسوله.. ثم إلى من بلغته الدعوة.
- وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ..(7/340)
هو بيان كاشف لاستحقاق النبىّ أن يقوم شاهدا على قومه، وذلك لأنه قد جاءهم بالكتاب الذي تلقاه من ربّه ليبيّن لهم ما اختلفوا فيه، وليكون حكما يحتكمون إليه، ومنار هدى يهتدون به إلى الحق والخير، ومورد رحمة يستظلون به، ويجدون الشفاء فى آياته وكلماته، وبشير خير بما أعدّ الله المسلمين من حياة طيبة فى الدنيا، وجنات لهم فيها نعيم مقيم فى الآخرة..
وخصّ المسلمون بالذكر، لأنهم هم أهل هذا الكتاب، وهم المسمّون بالمسلمين، كما يقول الله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (78: الحج) فهم مؤمنون ومسلمون.. أما غيرهم من أتباع الرسل فهم مؤمنون أصلا، مسلمون تبعا.
[القرآن الكريم.. والحقائق الكونية]
هذا، وقد أخذ بعض المفسرين من قوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» أن القرآن الكريم يحوى فى آياته وكلماته علوم الأولين والآخرين،، وأنه خزانة المعارف كلها، ما عرفت الإنسانية منها وما لم تعرف، وجاءوا على هذا بشاهد آخر من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» (38: الأنعام) .. وهذا ماحدا بكثير من علماء المسلمين إلى أن ينظروا فى كتاب الله على أنه كتاب علمىّ، يقرر حقائق علمية، تكشف عن أسرار هذا الوجود، وتحدّث عن القوانين المتحكمة فيه، وخرّجوا على هذا كثيرا من الآيات الكريمة، يقابلون بينها وبين ما كشف عنه العلم من أسرار الكون، وقوانينه.
إن داء التحكك بالقرآن الكريم، ومحاولة استخلاص علوم كونية، وأسرار دفينة- داء قديم، أصيب به كثير من الناس، فانحرفت نظرتهم إلى كتاب الله(7/341)
ونظروا إليه بعيون حولاء، تذهب بآياته وكلماته مذاهب مختلطة إلى مقررات العلوم والفنون، فتخرّجها عليها وتلوى زمامها نحوها.. وقد انفتح هذا الباب على مصراعيه، فدخل منه كثير من أهل الأهواء والبدع، يتأولون كلمات الله وآياته تأويلات فاسدة يدّعونها على القرآن، ويقولون إنها من علوم الباطن التي احتواها كتاب الله واشتمل عليها، والتي لا يعلم علمها إلا الراسخون فى العلم! فكان ذلك مدّعى يدعيه كلّ ذى هوى يريد أن يدعم مذهبا فاسدا، أو ينتصر لفرقة مارقة.. وكان من ذلك ما رأيناه فى تلك الفرق المنحرفة من فرق الشيعة والخوارج وإخوان الصفاء، وغيرهم ممن تأولوا كلمات الله، وصرفوا منطوق ألفاظها على غير ما وضعت له فى اللسان العربي، الذي جاء عليه القرآن الكريم..
يقول الإمام الشاطبي: «إن كثيرا من الناس، تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحدّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين.. من علوم الطبيعيات، والتعاليم- أي العلوم الرياضية- والمنطق، وعلم الحروف- اليازرجة- وجميع ما نظر فيه الناظرون، من هذه الفنون وأشباهها..
ثم يقول: «وربما استدلّوا على دعواهم بقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» .. وقوله: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» ..
ونحو ذلك.. وبفواتح السور- وهى ما لم يعهد عند العرب- وبما نقل عن الناس فيها، وربّما حكى ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وغيره- أشياء..!
«فأما الآيات.. فالمراد بها عند المفسّرين، ما يتعلق بحال التكاليف والتعبّد، أو المراد بالكتاب فى قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» :
اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها- أي التفاسير- ما يقتضى تضمنه- أي القرآن- لجميع العلوم النقلية والعقلية.(7/342)
«وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسب ما ذكره أصحاب السير، أو هى المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به، فلا يكون» «1» .
هذا ما يقرره الإمام الشاطبي فى جلاء لا يحتاج إلى تعقيب! والذي يمكن أن نقوله، هو أن القرآن الكريم هو مادة العلم، ومائدة العلماء، وأنه مادة لا تنفد أبدا بالأخذ منها، بل تزداد على الأخذ وتعظم، وأنه مائدة تسع الناس جميعا، وتعذّى عقولهم، ومشاعرهم، غداء طيّبا مشبعا، على اختلاف مداركهم، وتباين مشاعرهم..
وإن العلم هو الذي يجعل لنا نظرا كاشفا لبعض ما فى آيات القرآن الكريم من روائع وعجائب، وإن العلم هو الذي يعين على فهم المستور من أسرار الكتاب الكريم، وما أودع فيه من علم وحكمة..
إن العلم ليلتقى مع القرآن الكريم لقاء الماء يدفع به السيل فى صدر المحيط، فيذوب فيه، ويصبح بعض مائه، إذ ليس العلم كله- ما عرف الناس منه وما سيعرفون- إلا قطرة أو قطرات من محيط هذا البحر الزخار..
«قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (109: الكهف) .
فإذا انكشف للناس فى الحياة ضوءة من أضواء العلم، فهى بعض ما فى القرآن الكريم من علم، إذ كان مجتمع آيات الله ومكنون علمه.
هذا، ومع قولنا بأن القرآن الكريم، قد حملت آياته المطهرة، أسرارا
__________
(1) الموافقات للشاطبى: الجزء الأول: ص 81.(7/343)
عجبا، تتكشف حالا بعد حال، كلما جاء إليها الناس بمزيد من العلم والمعرفة- فإننا لا نعرض القرآن الكريم على المخترعات العلمية، ولا الآيات الكونية، التي تنكشف للناس زمنا بعد زمن.. إذ ليس القرآن الكريم كتاب علم يشرح للناس قضايا العلوم.. من طب، وهندسة، وفلك، ورياضة وغيرها.. وإنما هو كتاب عقيدة وشريعة، يتجه أول ما يتجه إلى ضمير الإنسان، ليصحح صلته بخالقه، ثم يقيم لهذه الصلة من التشريع، ما يمسك بها سليمة قوية فى كيانه.. فإذا تمّ ذلك، صحح صلة الإنسان بالإنسانية، ووضع لذلك من التشريعات ما يقيم هذه الصلة بين الناس.. على أساس من الحق والعدل والإحسان..
تلك هى المهمة الأولى للقرآن الكريم، وقد انكشفت هذه الغاية من القرآن الكريم للمسلمين، فى الصدر الأول للإسلام، انكشافا تامّا، فأحذوا حظهم كاملا منها، على نحو لم يكن للخلف من بعدهم أن يبلغوا منه بعض ما بلغوا، على وجه لم تشهد الحياة مثيلا له فى سموّ الإنسان وعظمته، واستعلائه على كل ضعف بشرى..
مهمة القرآن الكريم الأولى إذن، هى أن يصنع هذا الإنسان المتكامل السوىّ فى مداركه، وعواطفه، ومشاعره.. أو بمعنى آخر هى أن يحفظ على الإنسان فطرته السليمة، وأن يغذيها بهذا الغذاء السماوىّ، الذي يقيمها على طريق الحق، والعدل، والإحسان. ثم يدع لهذا الإنسان وجوده هذا، يتعامل به مع الوجود كله، فينظر فيه بعينه، ويفكر فيه بعقله، ويقطف من ثماره ما تطول يده، ويبلغ عزمه، وصبره، وجهده..
هذا هو الإنسان الذي يتربّى فى حجر القرآن، ويغتذى من أنواره.. هو الإنسان الذي يتقدم ركب الإنسانية فى عصره الذي يعيش فيه.. فإذا تخلف عن مكان القيادة والصدارة، لم يكن هو الابن الذي ينتسب إلى القرآن، ويحسب على الإسلام.(7/344)
إن القرآن الكريم، لم يكن كتابا قد جاء بمقررات علمية، تشرح حقائق العلوم، وتكشف أسرار الوجود، وتضع فى أيدى الناس مفاتح هذه الأسرار.
ولو كان هذا من تدبير القرآن، ومن غاياته، لما جاء على هذا الأسلوب ذى الرنين النفاذ والإشعاع اللماح من النظم، بل لجرى على ذلك الأسلوب العلمىّ، الذي تبرز فيه الحقائق العلمية مضغوطة فى قوالب من اللفظ، أشبه بالأرقام الحسابية، التي لا يختلف عليها أحد، ولا تكتم عن أحد شيئا وراءها..
ولو كان ذلك من شأن القرآن، لما كان معجزة الدهر الخالدة، ولأخذ الناس منه كل ما فيه، لأول عهدهم به، ثم لم يطلعوا إلى جديد غيره، شأن الكتب العلمية، التي تعيش فى الناس زمنا، ثم لا يكادون يلتفتون إليها بعد هذا.
ولو كان ذلك من شأن القرآن أيضا لكان ذلك داعية من دواعى التخدير العقلي للإنسان، والتحريض له على الاستنامة فى ظل هذا الغذاء الممدود له على مائدة مهيأة، لم يعمل لها، ولم يسع إليها.. الأمر الذي يقطع الصلة التي أراد القرآن أن يقيمها بين أتباعه وبين هذا الوجود أبد الدهر، ينظرون فيه نظرا مجددا، ويطالعون فى صحفه آيات الله وكلماته التي لا تنفد أبدا..
إنه ليس هذا من شأن القرآن أبدا، ولا من تدبيره بحال.. فإن دعوة القرآن، هى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتنبيه ملكاته، وتوجيه نوازعه وسلوكه إلى العمل فى طريق مستنير، واضح، مستقيم..
ومن هنا كانت آيات القرآن الكريم متجهة إلى القلب أولا.. إلى المشاعر، والوجدانات، والأحاسيس المائجة فيه، المتقلبة بين صفو وكدر، وبين نور وظلام، فإذا أصابها قبس من نور الحق الذي نزل به القرآن، سكن مائجها، وصفا(7/345)
كدرها، وانجلى ظلامها، وأصبح الإنسان وقد اطمأن قلبه، وعمرت بالحق جوانبه، وخلت من وساوس الضلال نوازعه..
إن القرآن الكريم، هو شريعة ووازع معا، هو قانون، وهو فى الوقت نفسه السلطان الذي يقيم أحكام هذا القانون.. أو هو بلغة العصر هو سلطات:
تشريعية، وقضائية، وتنفيذية.. جميعا..
وبالكلمة، وبالكلمة وحدها، جاء القرآن، ليقيم فى كيان المسلم قانونا يدركه بعقله، ويحتكم إليه بقلبه، ويمضيه بوجدانه، وينفّذه بجوارحه.. ولن يكون ذلك للكلمة إلا إذا كانت كلمة الله، كلمة القرآن، التي تملك بسلطانها الإنسان كله: عقله، وقلبه، وضميره..!
وينتهى من هذا إلى القول بأن القرآن الكريم، هو تبيان لكلّ شىء، كما وصفه تبارك وتعالى، وأنه كما يقول الحق جلّ وعلا فيه: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» .. ولكن لا بما تحمل آياته وكلماته من حقائق علمية، يجدها الناظرون فى منطوق تلك الآيات وهذه الكلمات، أو فى مفهومها- وإنما بما تنير هذه الآيات وتلك الكلمات من بصائر، وبما تكشف من عمى، وبما تمكّن للإنسان من قوى روحية وعقلية يستطيع بها أن يثبّت قدمه على طريق الحقّ، ويتهدّى بها إلى مواقع الخير..
فالإنسان الذي يعرف ربّه مهتديا بهدى القرآن، مستضيئا بنوره، هو إنسان قد عرف كلّ شىء يستطيع أن يبلغه العقل الإنسانى فى أعلى مستوياته، وأرفع منازله.. فإذا بلغ الإنسان هذه المنزلة، وارتفع إلى هذا المستوي كانت آيات الله وكلماته فى كتابه الكريم، هى الوجود كله، وكان الوجود بين يديه صفحات يقرأ فيها ما يفتح الله له من أبواب العلم والمعرفة..!
فهذا القصور العلمي الذي نحن فيه، وهذا التخلف الاجتماعى الذي يضع(7/346)
المجتمع الإسلامى فى مؤخرة العالم الإنسانىّ- هو نتيجة لازمة لانفصالنا عن هذا الدستور السماوي، الذي أمرنا الله باتباعه، ووعدنا الحياة الطيبة الكريمة فى ظله..
ففى كتاب الله مفاتح العلم كلّها، بما يفتح من بصائر، وما يشرح من صدور، وما يعمر من قلوب، وما يشيع فى النفوس من سلام، ورضى وطمأنينة، وبهذا يقف الإنسان من هذا الكون وقفة خبير بصير، وينظر إليه نظرة متوسّم دارس، يربط المسببات بالأسباب، ويصل المعلولات بالعلل، فإذا هذا الوجود وحدة متماسكة متناعمة، يجتمع قريبها إلى بعيدها، ويلتقى علوها مع سفلها، بيد القدرة القدرة، وتدبير الحكمة العالية.. «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» ! والنظر الذي يدعو إليه القرآن الكريم، ويوجهه إلى هذا الوجود، ليس نظرا حالما مستسلما لتلك المشاعر الغافية، التي تهدهدها نغمات الجمال والانسجام التي تنجلى فى صفحة الكون، فذلك نظر سلبى لا يغنى من الحقّ شيئا.. إنه أشبه بأحلام اليقظة، وخيالات الشعراء.. وإنما الذي يدعو إليه القرآن الكريم، هو النظر اليقظ الجادّ، الباحث عن الحقيقة، فى أعماق الأشياء، وإن صحبه فى ذلك ما يصحبه من مشاعر الجمال والجلال، فذلك هو الذي يشوقه إلى الحقيقة، ويغريه بالبحث عنها والتعامل معها، فيكون له من تلك المشاعر قوىّ تعينه على البحث والدرس، وتخفف عنه معاناة التأمل والتخيل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ(7/347)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ»
.. فمن ثمرة هذا النظر الذي ينظر به أولوا الألباب فى خلق السموات والأرض، هى تلك الحقيقة التي إليها يؤدى هذا النظر، وهو التعرف على الله سبحانه وتعالى، والاستدلال على وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وأن هذا الوجود ما خلق إلا بالحق، وما قام إلا على سنن وقوانين تمسك به، وتحفظ عليه وجوده ونظامه..
الآيات: (90- 97) [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 97]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)(7/348)
التفسير:
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه وقد ذكر الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ناسب أن يجىء بعدها بيان لما فى القرآن الكريم من تبيان لكل شىء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين.. وهذا ما ضمت عليه هذه الآية:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ..»
فما فى القرآن الكريم كله، هو دعوة إلى العدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، ونهى عن الفحشاء، والمنكر والبغي..
فالعدل هو القيام على طريق الحق فى كل أمر.. فمن أقام وجوده على العدل استقام على طريق مستقيم، فلم ينحرف عنه أبدا، ولم تتفرق به السبل إلى غايات الخير..
ومن أتبع العدل بالإحسان، انما الخير فى يده، وطابت مغارسه التي يغرسها فى منابت العدل..
وقد جاء الأمر بالعدل والإحسان مطلقا، ليحتوى العدل كله، ويشمل الإحسان جميعه.. فهو عدل عام شامل.. حيث يعدل الإنسان مع نفسه، فلا يجوز عليها بإلقائها فى التهلكة، وسوقها فى مواقع الإثم والضلال.. ويعدل(7/349)
مع الناس فلا يعتدى على حقوقهم، ولا يمدّ يده إلى ما ليس له. ويعدل مع خالقه، فلا يجحد فضله، ولا يكفر بنعمه، ولا ينكر وجوده وقيّومته عليه، وعلى كل موجود..
كذلك الإحسان، هو إحسان مطلق، يتناول كل قول يقوله الإنسان، وكل عمل يعمله.. وإحسان القول أن يقوم على سنن العدل، والحق والخير..
وإحسان العمل ينضبط على موازين الكمال والإتقان.. كما بقول سبحانه:
«وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (195: البقرة) .
بل إن الإحسان، هو الإيمان بالله على أتم صورة وأكملها، بحيث لا يبلغ درجة الإحسان، إلا من عبد الله على هذا الوجه الذي بينه الرسول الكريم، فى قوله حين سأله جبريل، وقد جاء على صورة أعرابى، فقال: «ما الإحسان؟
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..»
- وقوله تعالى: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» هو عدل وإحسان معا.. والإيتاء هو الإعطاء، وفعله آتى، بمعنى أعطى.. ولا يستعمل الإيتاء إلا فى مقام البرّ والإحسان.. والبر بذي القربى هو عدل، لأنه وفاء لحق القرابة، وهو إحسان إذا قدمته النفس فى سماحة ورضى.
- وقوله تعالى: «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» هو نهى عن محظورات، فى مقابل ما أمر الله به من عدل وإحسان، وبرّ بالأقارب.. وفى توارد الأمر والنهى على أمر من الأمور، توكيد للإتيان بالمأمور به..
فالفحشاء، ما قبح من الأمور، وعلى رأسها «الزنا» .. وإتيان الفاحشة ظلم للنفس، وعدوان على حرمات الناس.. وفى هذا مجافاة للعدل..
والمنكر، كل ما تنكره العقول السليمة على من يفعله.. سواء أكان(7/350)
قولا أو فعلا.. ولا يكون هذا إلا بالتخلي عن الإحسان فى القول أو العمل..
والبغي: الجور، والظلم، وهضم الحقوق. وهو مجف للعدل والإحسان معا..
- وقوله تعالى: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» هو تنبيه لما تحمل آيات الله للناس من آداب. وأحكام، تدعو إلى الحق، والخير، وتذكّر بهما، وتفتح للعقول الراشدة والقلوب السليمة طريقا إليهما..
وهذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها.. فهى أقرب شىء إلى أن تكون عنوانا للرسالة لإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» . وما فى كتاب لله كله هو شرح لما أمر الله سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذى القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي.
قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» .
العهد: الميثاق، يكون بين الناس والناس، أو بين الناس ورب الناس..
وعهد الله.. هو العهد الذي يوثق باسمه، ويقام تحت ظل سلطانه..
ونقص العهد: نكثه، وعدم الوفاء به..
والكفيل: هو الضامن لما كفل من عهد.
ومعنى الآية الكريمة، هو أمر ملزم للمؤمنين بالله بالوفاء بعهد الله، الذي وثقوه باسمه، وجعلوه كفيلا وضامنا لما عاهدوا عليه.. إذ كان باسمه تعالى(7/351)
أمضى المتعاهدان ما تعاهدا عليه.. فأعطى أحدهما ما تعهّد به وعدا، وأقام اسم الله تعالى كفيلا على هذا الوعد، وقبل الآخر ما أعطى الأول، مطمئنا إلى كفالة الله، وإلى أن صاحبه لن يخون عهد الله! وإنه لجرم عظيم أن يعطى الإنسان عهدا باسم الله، ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلا إلى ثقة الناس به، واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة! إنه عدوان على الله، ومخادعة باسمه، وسرقة تحت ستار من جلال الله وخشيته..!
وتلك جرأة على الله، واستخفاف بقدره، وليس لمن يتعرض لهذا، إلا أن ينتظر ما يحلّ به من غضب الله ونقمته.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» تحذير من نكث العهد، ومن التلاعب باسم الحق جل وعلا.. فهو- سبحانه- يعلم من بفي بعهده، ويعرف لاسمه الكريم جلاله، ومن لا يوقّر الله، ولا يحفل بالعهد الذي قطعه، وأشهد الله عليه.. والله- سبحانه- غيور على حماء أن يستباح.. فمن استباحه، فقد أورد نفسه موارد الهالكين..
قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .
الغزل: ما يغزل من صوف، وغيره.. ونقض الغزل: حلّه بعد فتله وغزله، فيتقطع، ويتفتت، ولا يعود إلى مثل حالته الأولى لو أعيد غزله، كشأن من بينى ثم يهدم ما بنى.. فلو أراد أن يبنى بما هدم، لا يستقيم له بناء..
والأنكاث: جمع نكث، وهو ما يكون من خيوط النسيج بعد نقضها، لإعادة غزلها ونسجها، بعد أن تصبح قطعا مهلهلة.
الدّخل: الفساد. والأمة: الجماعة. وأربى: أكبر قوة، وأكثر عددا.(7/352)
وهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن يعطون العهد باسمه تعالى، ثم ينقضون ما عاهدوا عليه.. فهؤلاء هم أشبه بامرأة خرقاء، تغزل غزلا محكما، ثم تعود بعد هذا فتنقض ما غزلته، وأجهدت نفسها فيه.. وهذا لا يكون من عاقل، يحترم عقله، ويعرف لآدميته قدرها.. وهؤلاء الذين أعطوا العهد باسم الله ثم نقضوه، كانوا قد أحكموا أمرهم، ووثقوه ثم أفسدوه، وأحلّوا أنفسهم من هذا الميثاق الذي واثقوا الله عليه..
- وقوله تعالى: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» جملة حالية.. فهم إذ يتخذون أيمانهم التي يوثّقون بها العهود بينهم. ثم ينقضونها- هم أشبه بتلك المرأة التي تغزل غزلا، ثم تعود فتنقضه، قبل أن تنسجه، وينتفع به! وقوله تعالى: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» هو تعليل لنقص العهد، واتخاذ الأيمان ذريعة للإفساد، وتلبيس الأمور على الناس، وذلك أن هذا النكث بالعهد كان ممالأة لجماعة قوية على حساب جماعة ضعيفة. أي أنكم تتخذون أيمانكم التي لا تبرّون بها، للإفساد لا للإصلاح، حين تميلون عن الحق، وتنحازون إلى جانب الأقوياء، فتنقضون العهد الذي كان بينكم وبين الجانب الضعيف، لتتحولوا بذلك إلى الجانب القوىّ.
وهذه الآية خاصة بحال من أحوال نقض العهد، وهى تلك الحال التي يكون الداعي فيها إلى نقض العهد هو الميل إلى جانب الأقوياء، والتخلّي عن جانب الضعفاء، وذلك بأن يكون الناقض للعهد، بينه وبين جماعة عهد موثق، فإذا رأى جماعة أخرى ذات شوكة وقوة انضمّ إليها، ونقض عهده الذي كان بينه وبين الجماعة الضعيفة، غير ملتفت إلى هذا العهد الذي بينه وبينها.
أما ما يتصل بنقض العهود عامة، فقد جاء فى قوله تعالى بعد هذه الآية:
«وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ... الآية» .(7/353)
- قوله تعالى: «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» .. الضمير فى به، يعود إلى «عهد الله» الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» .. أي أن هذا العهد يقطعه المرء على نفسه، ويجعل الله كفيلا عليه فيه- هذا العهد، هو ابتلاء من الله، وأمانة من الأمانات التي يطالب الإنسان بصيانتها والوفاء بها..
فمن وفّى بالعهد فقد أبرأ ذمته، واستحق الجزاء الحسن من ربه، ومن نكث، فهو غريم لله سبحانه وتعالى، وسيقتصّ الله منه.
قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .. هو معطوف على محذوف تقديره: «ليعلم» . ومعنى الآية مرتبط بالآية قبلها، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، إنما ابتلاكم بهذا التكليف، وهو الوفاء بالعهود، ليعلم المفسد من المصلح، والناكث للعهد والموفى به، وليبين لكم يوم القيامة هذا الذي أنتم مختلفون فيه، بين مفسد ومصلح، وعاص ومطيع، وناقص للعهد، وموف به.
قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .
هو تعقيب على قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» - أي هذا الخلاف الواقع بين الناس، هو مما قضت به حكمه لله فيهم.. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، تجرى أمورهم جميعا فيها على نمط واحد، كما هو شأن الأمم الأخرى من عالم الحيوان، لا اختلاف بين أفراد الأمة الواحدة منها، فى سلوكها، وفى منازع حياتها، وأسلوب معيشتها، حيث تسير جميعا فى طريق واحد، وعلى اتجاه واحد، لا يشذّ عنه فرد من أفرادها.. وليس كذلك شأن الناس، فكل فرد، هو أمة فى ذاته. له مدركاته، ومشاعره، وأنماط سلوكه.. بحيث لا يكاد يتشابه إنسان بإنسان، أو يلتقى(7/354)
إنسان مع إنسان، لقاء مطلقا! وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118: 119 هود) .
على أن اختلاف الناس هذا الاختلاف الذي لا يتشابه فيه إنسان مع إنسان، ليس بالذي يفرّق بينهم، أو يقطع علائق الإنسانية التي تشدّ بعضهم إلى بعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، فهم وإن تفرقوا مدركات، وطبائع، ومنازع، واختلفوا مشارب ومسالك وسبلا- هم مجتمعون على مورد الإنسانية، حيث يجتمعون شعوبا، وقبائل، وأمما.. ثم تضيق شقّة الخلاف بينهم شيئا فشيئا، حتى تكون خطا واحدا يفصل بين المجتمع الإنسانىّ كله، ويجعله فريقين: مؤمنين وكافرين.. مهتدين وضالين. حتى لكأن ذلك فى أصل خلقتهم، كما يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. هو بيان لمشيئة الله الشاملة، التي إليها إضلال الضالين، وهداية المهتدين..
- وفى قوله تعالى: «وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تحريك لمشيئة الإنسان وإرادته، مع إرادة الله سبحانه ومشيئته.. وذلك حتى لا يعطل الإنسان وجوده كإنسان له إرادة، وله مشيئة.
فمطلوب من الإنسان أن يعمل إرادته ومشيئته، وأن يحركهما فى الاتجاه الصحيح الذي يقضى به العقل، وتدعو إليه الشرائع السماوية، وتحدده القوانين الوضعية..
وكما لا يعفى الإنسان نفسه من التحلل من القوانين الوضعية، بل يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له(7/355)
إن هو خرج عليها- كذلك ينبغى ألا يعفى نفسه من التحلل من القوانين السماوية، بل يجب أن يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له إن هو خرج عليها.. فهذا من ذاك.. سواء بسواء..
إن الإنسان مسئول عن تصرفاته كإنسان رشيد، وليس من شأنه أن يسأل الله سبحانه وتعالى عن مشيئته فيه، وما يريده به.. فذلك إلى الله وحده..
يقضى فيه بما يشاء ويريد.!
قوله تعالى: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
هو توكيد للوفاء بالعهود والمواثيق التي أعطيت باسم الله، وتحذير من الاستخفاف بجلال الله الذي أشهد على هذه العهود والمواثيق.. فإنّه لا يجرؤ على النكث بعهد الله إلا من استخفّ بالله، واتخذ من اسمه الكريم وسيلة يتوسّل بها إلى الغدر بالناس، وأكل أموالهم بالباطل.. وذلك إن لم يكن كفرا صريحا، فإنه مدخل واسع إلى الكفر! - وفى قوله تعالى: «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» إشارة إلى أن الاستخفاف باسم الله، ونقض العهد الموثّق باسمه، هو مزلق إلى الكفر، حيث ينزلق الإنسان شيئا فشيئا إليه، فتزل قدمه عن طريق الحق، فإذا لم ينتزع نفسه، مما وقع فيه، مضى به الطريق إلى حيث يضع قدميه جميعا على طريق الضلال.. ثم يمضى فيه إلى غايته.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار.. وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ..
- وقوله تعالى: «وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» هو بيان للنهاية التي تنتهى إليها حال من يستخفّ باسم الله، حتى(7/356)
لا يبالى بما يعطى أو يأخذ به.. كاذبا، حانثا.. فمثل هذا الإنسان لا بد أن يرد يوما موارد الكفر، ويتحول من الإيمان بالله، إلى الكفر به، إذ صدّ عن سبيل الله الذي كان قائما عليه، وولى وجهه نحو الضلال، وثبت أقدامه عليه..
وليس لمثل هذا الإنسان إلّا أن يذوق السوء والهوان فى الدنيا، والعذاب العظيم فى الآخرة..
قوله تعالى: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
هو تحذير، بعد تحذير، بعد تحذير، من الاستخفاف بعهد الله، وبالأيمان التي يحلف بها الحالفون باسمه.. إذ أن ما يبتغيه الناكثون لعهد الله، والحانثون بيمينه، هو التوسل إلى الحصول على متاع من متاع هذه الحياة الدنيا بغير حق.. وهذا المتاع وإن كثر، هو إلى زوال، وهو قليل إلى ما يعقب من خسران وحسرة وندامة فى الدنيا والآخرة.. فلو أن الإنسان الذي أعطى عهدا باسم الله، حفظ هذا العهد، ووقّر الله فلم يحنث بيمينه، ووطن نفسه على الصبر إزاء هذا المتاع الزائل الذي يلوح له من وراء الحنث بيمينه- لو أنه فعل هذا لوجد عاقبة ذلك خيرا كثيرا، وجزاءا حسنا جزيلا عند الله، ولتقبّل الله تعالى منه هذا العمل الطيب، وجعله له عدّة فى الدنيا، وزادا كريما طيبا فى الآخرة، لا يخالطه خبث مما عمل من سيئات، كما يقول الحق جلّ وعلا: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» (16 الأحقاف) .
قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .(7/357)
هو حكم عام بالجزاء الحسن على العمل الصالح مطلقا، بعد الحكم الخاص بالجزاء الحسن على الوفاء بالعهد، والصبر على احتمال تبعات الوفاء به..
فالأعمال الحسنة جميعها مقبولة عند الله، سواء ما كان منها من قول أو عمل، وسواء أكانت صادرة من ذكر أو أنثى من عباد الله.. فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتباين صورهم وأشكالهم، سواء عند الله، يخضعون لقانون سماوى عام، لا محاباة فيه، ولا تفرقة بين إنسان وإنسان.. إلا بالعمل..
وقد خصّ الذكر والأنثى بالذّكر هنا، لأنهما يمثلان جانبى الإنسانية كلها، إذ كانا مصدر المجتمعات الإنسانية كلها.. كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» (13: الحجرات) .. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان الاختلاف النوعىّ بين الذكر والأنثى أمام القانون السّماوى على منزلة سواء- كانت التسوية بين الناس جميعا أمام هذا القانون أحق وأولى..
وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» جملة حالية، وهذه الحالة قيد واقع على الشرط الذي لا يتحقق جوابه إلا وهو مقترن بهذا القيد.. فالإيمان شرط لازم لقبول العمل الطيب، والجزاء عليه.. وكل عمل لا يسبقه إيمان بالله، هو عمل ضالّ، مردود على صاحبه.. لأنه قدّمه غير ناظر إلى الله سبحانه وتعالى، ولا محتسب له أجرا عنده، إذ كان غير معترف بوجوده.. فالعمل الصالح الذي لا يزكيه الإيمان بالله، أشبه بالميتة التي لم تدركها زكاة بالذبح، ويذكر اسم الله عليها..
وقوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» .. المراد بالحياة، هى الحياة الدّنيا، وطيب هذه الحياة يجىء من نفحات الإيمان بالله، تلك النفحات التي تثلج الصدر بالطمأنينة، والرضا، وتدفىء النفس بالرجاء والأمل، بتلك القوة التي لا حدود لها، والتي منها مصادر الأمور، وإليها مصائرها.. وذلك كلّه من(7/358)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
عاجل الثواب الجزيل الذي أعدّه الله لعباده المؤمنين، كما يقول تبارك وتعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..» (134: النساء) - فى قوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» اختلف النظم هنا بعودة الضمير جمعا على أداة الشرط «من» بعد عودته عليها مفردا فى قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» ، وذلك ليتحقق أولا لكل من جنسى الذكر والأنثى هذا الحكم، فإذا تقرر ذلك، وعرف كل منهما أنه مجزىّ عن عمله، بلا تفرقة من حيث النوع- عاد الضمير إلى من يشملهم الجنسين ممن يعملون الأعمال الصالحة.. من الناس جميعا.
الآيات: (98- 102) [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
التفسير:
قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة جاءت بوعد كريم من رب كريم، لعباده الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات، بأن لهم حياة طيبة فى الدنيا، وأجرا عظيما فى الآخرة- فناسب ذلك أن يقدّم للمؤمنين دستور(7/359)
إيمانهم، وكتاب شريعتهم، وهو القرآن الكريم، وأن يدعوا إلى تلاوته، ومدارسته، وتلقّى أصول الإيمان، وشريعة العمل.. من آياته وكلماته..
ومن آداب تلاوة القرآن، أن يستفتح التالي تلاوته بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.. وذلك أن قارئ القرآن إنما يلتقى بالله عن طريق كلمات الله التي يتلوها.. وإذ كان هذا شأنه، فقد كان من المناسب فى هذا اللقاء الكريم أن يخلى نفسه من وساوس الشيطان، ومن كل داعية إليه، وأن يرجم الشيطان بمشاعر الإيمان التي يستحضرها وهو يتهيأ للقاء الله مع كلمات الله.. ثم يستعين على ذلك بالله، فيدعوه متعوّذا به من هذا الشيطان الرجيم، الذي رحمه الله سبحانه بلعنته، وطرده من مواقع رحمته..
فالدعوة إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فى هذا الموقف الذي يقف فيه الإنسان بين يدى كلمات الله، هى فى الواقع دعوة إلى إعلان الحرب من داخل الإنسان على هذا الشيطان، الذي يتربص بالإنسان، ويقعد له بكل سبيل.. وبهذا يقبل قارئ القرآن على آيات الله بقلب قد أخلاه لها من كل وسواس.. وبهذا أيضا تؤثّر كلمات الله أثرها الطيب فيه، فينال ما شاء الله أن ينال من ثمرها المبارك.
قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - هو تعليل لتلك الدعوة إلى الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند الاستفتاح بتلاوة القرآن الكريم.. وذلك أن الإنسان إذا ذكر الله، واستشعر جلاله وعظمته، ولجأ إليه، مستعيذا به من وساوس الشيطان، وكيده، ومكره- إنه إذا فعل الإنسان ذلك فرّ الشيطان من بين يديه، ونكص على عقبيه مستخزيا ذليلا، ولم يكن له ثمّة سلطان عليه حينئذ، لأنه أصبح بذلك من عباد الله الذين يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ(7/360)
سُلْطانٌ»
(65: الإسراء) .. وعباد الله، هم الذين يتعاملون مع الله، ويعادون عدوّ الله.
قوله تعالى: «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» ..
الذين يتولون الشيطان هم الذين يوالونه، ويسلمون إليه زمام أمرهم، فلا ينظرون إليه نظر العدوّ المتربص بهم، ولا يلقون كيده، ومكره بأى شعور محاذر منه..
فهؤلاء هم أولياء الشيطان.. وهؤلاء هم الذين أصبحوا رعيّة للشيطان، يتسلط عليهم كيف يشاء، ويسوقهم إلى المرعى الذي يريد.. وهو مرعى وبيل..
لا ينبت فى أرضه إلا الخطايا والآثام..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» - الباء فى «به» للسببية، والضمير يعود إلى الشيطان.. والمعنى أن الشيطان إنما يتسلط بسلطانه على من يستسلمون له، ويتخذون وليّا من دون الله، ويصبحون بسبب هذا الولاء له، من المشركين بالله. لأنهم عبدوا الشيطان من دون الله.
قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
[مع النسخ.. مرة أخرى] أكثر المفسرين على أن الآية الكريمة نصّ فى تقرير النسخ فى القرآن، وتبديل آية بآية.. ولهم على ذلك كلمة «بدّلنا» التي تدل على التبديل، وإحلال آية مكان آية.. ثم قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» فيه قرينة دالة على أن التبديل واقع فى المنزّل من عند الله، وهو القرآن.. ثم ما يظاهر هذا من قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» .. فهذه(7/361)
الآية جاءت صريحة بلفظ النسخ، على حين جاءت الآية السابقة بلازم النسخ، وهو تبديل آية بآية..!
ثم إنهم- بعد هذا، أو قبل هذا- يأتون شاهدا على ذلك بأكثر من رواية تحدّث عن سبب نزول هذه الآية.. وأنها كانت ردّا على المشركين، الذين كانوا كلما ورد نسخ لحكم من الأحكام التي كانت شريعة للمسلمين زمنا- قالوا: إن محمدا يقول ما يشاء، حسبما يرى.. ولو أن هذا القرآن كان من عند الله، لما وقع فيه هذا التناقض فى الأحكام، ولجاء الحكم قولا واحدا، لا نقض له، ولا تبديل فيه!! هذه بعض مقولات القائلين بالنسخ، وتلك بعض حججهم عليه..
ونحن على رأينا الذي اطمأن إليه قلبنا، من أنه لا نسخ فى القرآن.. وأن هذه الآية الكريمة- مع شىء من النظر والتأمل، ومع إخلاء النفس من ذلك الشعور المتسلط على جمهور المسلمين من أن النسخ فى القرآن حقيقة مقررة، تكاد تكون شريعة يدين بها المسلم، ومعتقدا يعتقده- نقول إن هذه الآية الكريمة لا تفيد بمنطوقها أو مفهومها دلالة على النسخ.. وذلك:
أولا: منطوق الآية هو: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» .. فلو كان معنى التبديل المحو والإزالة، لما جاء النظم القرآنى على تلك الصورة، ولكان منطق بلاغته أن يجىء النظم هكذا: «وإذا بدّلنا آية بآية» .. ولما كان لكلمة «مكان» موضع هنا..
فما هو السر فى اختيار القرآن الكريم لكلمة «مكان» بدلا من حرف الجر وهو الباء؟ نرجئ الجواب على هذا الآن، إلى أن نفرغ من عرض القضية.
وثانيا: مفهوم كلمة «التبديل» بأنه محو وإزالة، أو تعطيل ونقض- يتعارض مع ما تنزهت عنه كلمات الله، من أي عارض يعرض لها، فيغيّر وجهها،(7/362)
أو ينقض حكمها، والله سبحانه وتعالى يقول مخاطبا نبيه الكريم: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا.. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (115: الأنعام) فكيف تبدّل كلمات الله، وينسخ بعضها بعضا، وينقض بعضها ما قضى به بعضها؟ والله سبحانه وتعالى يقول فى وصف كتابه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً» (1- 2: الكهف) ويقول فيه سبحانه: «قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (28: الزمر) ويقول فيه سبحانه وتعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) .
وإذن فما تأويل هذه الآية؟ وما المراد بالتبديل لآية مكان آية؟
الجواب- والله أعلم- أن المراد بتبديل آية مكان آية هنا، هو ما كان يحدث فى ترتيب الآيات، فى السور، ووضع الآية بمكانها من السورة، كما أمر الله سبحانه وتعالى.. وذلك أن آيات كثيرة كانت مما نزل بالمدينة، قد وضعت فى سور مكية، كما أن آيات مما كان قد نزل بمكة، ألحقت بالقرآن المدنىّ..
وهذا الذي حدث بين القرآن المكي والمدنىّ من تبادل الأمكنة للآيات بينهما، قد حدث فى القرآن المكىّ، والمدني- كلّ على حدة- فكانت السورة المكية مثلا تنزل على فترات متباعدة، فتنزل فاتحتها، ثم تنزل بعد ذلك آيات آيات، حتى يتم بناؤها..
وعلى هذا، فإن تبديل آية مكان آية، هو وضع آية نزلت حديثا بمكانها الذي يأمر الله سبحانه وتعالى أن توضع فيه بين آيات سبقتها بزمن.. قد يكون عدة سنين..!
فقد اتفق علماء القرآن على أن آيات نزلت بمكة، ثم حين نزل من القرآن(7/363)
فى المدينة ما يناسبها، أخذت مكانها فيه.. وهذا يعنى أنها نقلت من مكانها فى السورة المكية، إلى مكانها الذي كانت تنتظره أو كان ينتظرها.. فى السورة المدنية..!
ومن أمثلة هذا، قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» .. فهذه الآية مكية باتفاق، وقد وضعت فى سورة الأنفال، وهى مدنية باتفاق أيضا..
وهذا يعنى أن الآية من هذه الآيات كانت تأخذ مكانها مؤقتا فى السورة المكية، حتى إذا نزلت سورتها المدنية أخذت مكانها الذي لها فى تلك السورة..
ومن هذا أيضا قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ..» إلى آخر سورة التوبة.. وهاتان الآيتان مكيتان، وقد وضعتا بمكانهما من آخر التوبة، وهى مدنية..
وهكذا كان الشأن فى السّور المكية، فإنها كانت تستقبل جديدا من الآيات المدنية، تأخذ مكانها المناسب لها بين آيات السورة، حيث يأمر الله..
وذلك كثير فى القرآن الكريم، وقلّ أن تخلو سورة مكية من دخول آية أو آيات مدنية على بنائها..
فهذا التدبير السماوي لبناء القرآن الكريم، وترتيب الآيات فى السور- اقتضى أن تأخذ بعض الآيات أمكنة ثابتة دائمة، بدلا من أمكنتها الموقوتة التي كانت تأخذها بين آيات أخرى غير تلك الآيات التي استقرت آخر الأمر معها..
ولا شك أن كثيرا من المشركين والمنافقين، ومرضى القلوب، كانوا ينظرون إلى هذا التبديل والتغيير، الذي كان يؤذن النبي أصحابه وكتاب الوحى(7/364)
به- كانوا ينظرون إليه نظر اتهام للنبىّ بأنه إنّما يعيد بناء قرآنه، ويغيّر ويبدل فيه، ويصلح من أمره ما يراه غير مستقيم عنده، شأنه فى هذا شأن الشاعر، ينشىء القصيدة، ثم يجرى عليها من التعديل والتبديل ما يبدو له: حتى تستقيم لنظره، وتقع موقع الرضا من نفسه.. هكذا فكروا وقدّروا! وإذن.. فما محمد والقرآن الذي معه، والذي يجرى عليه هذه التسوية، بالتبديل والتغيير فى بنائه- إلّا واحدا من هؤلاء الشعراء، الذين يجوّدون شعرهم، ويسوّون وجوهه، فيكون لهم من ذلك تلك القصائد المعروفة بالحوليّات التي يعيش الشاعر معها حولا كاملا، يعالج ما فيها من عوج، حتى تستقيم له! وإذن، فما دعوى محمد بأن هذا القرآن من عند الله، إلا محض كذب وافتراء! هكذا كان يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض، فى النبىّ الكريم، حين كانوا يرونه يصنع هذا الصنيع فى ترتيب الآيات القرآنية فى سورها، حسب الوحى السماوي الذي يتلقاه من ربّه..
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء السفهاء بقوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» .
وروح القدس، هو جبريل، عليه السلام، وهو السفير بين الله سبحانه وتعالى، وبين النبىّ الكريم، بهذا القرآن الكريم..
- وقوله تعالى: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي ليربط على قلوبهم، ويقوّى عزائمهم، ويثبت أقدامهم على طريق الإيمان، بما ينزل عليهم من آيات تؤنس وحشتهم، وتكشف لهم عن العاقبة المسعدة التي ينتهى إليها صراعهم، مع قوى البغي والعدوان..(7/365)
فالثابت من تاريخ القرآن- كما قلنا- أن آيات كثيرة نزلت، ثم لم تأخذ مكانها فى السور التي هى منها، إلا بعد زمن امتدّ بضع سنين..!
فهذه الآيات التي سبقت سورها، إنما كانت للتعجيل ببشريات للنبىّ وللمؤمنين.. معه..
فسورة الأنفال مثلا، وهى مدنيّة باتفاق.. قد ضمّ إليها سبع آيات كانت قد نزلت بمكة.. وهى قوله تعالى:
«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» [30- 36: الأنفال] ..
ففى ظلّ هذه الآيات استروح النبىّ والمؤمنون- وهم فى مكة- أرواح الأمل والرجاء، ومن تلقاه هذه الآيات استقبل النبىّ والمؤمنون بشائر النّصر لهذا الدّين، الذي تلقّى على يد المشركين ألوانا من الكيد والمكر، وضروبا من السفاهة والجهل..
لقد كانت تلك الآيات، وكثير عيرها، هى الزاد الذي يتزود به النبي والمؤمنون، أثناء تلك الرحلة القاسية التي قطعها النبي والمؤمنون معه فى شعاب(7/366)
مكة ودروبها، من أول البعثة إلى أن أذن الله سبحانه وتعالى له بالهجرة..
وبهذا الزّاد تقوّى النبي والمؤمنون معه على حمل هذا العبء الثقيل خلال تلك الرحلة المضنية القاسية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا» . وقد اختصّ الذين آمنوا بالذّكر هنا، لأنهم كانوا فى حاجة ماسّة إلى هذا الزّاد، ليثبتوا فى مواقفهم، وليصبروا على هذا البلاء الذي كانوا فيه، انتظارا لهذا الوعد الكريم الذي وعدهم الله سبحانه وتعالى به، فيما سيأخذ به المشركين من خزى وخذلان، كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها.. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً.. ثُمَّ يُغْلَبُونَ.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» ..
ولم يذكر النبىّ الكريم هنا لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- محفوف دائما بألطاف ربّه، وعلى يقين راسخ من نصر الله.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه، - يحمل فى كيانه من قوى الحقّ والإيمان ما لا تنال منه الدنيا كلها لو اجتمع أهلها على حربه والكيد له. وفى هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه لعمه أبى طالب: «والله يا عمّ لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه.. ما تركته» ! وهذه الظاهرة فى القرآن الكريم، من تبادل الآيات أماكنها خلال الفترة التي نزل فيها، تقابلها ظاهرة أخرى، وهى نزول القرآن منجّما، خلال ثلاث وعشرين سنة، حيث لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل آية آية، وآيات آيات، حتى كمل، وتمّ بناؤه على الصّورة التي أراده عليها سبحانه وتعالى كما تلقاه النبي الكريم من جبريل، فى العرضة الأخيرة التي كانت بينهما، بعد أن تم نزول القرآن، قبيل وفاة النبي بزمن قليل..
فهناك إذن عمليتان، قام عليهما بناء القرآن الكريم، وهما:(7/367)
أولا: نزوله منجما.. أي مفرقا..
وثانيا: نزوله غير مرتب الآيات فى السور..
وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن السبب الذي من أجله كان بناء القرآن على هذا الأسلوب.
أما عن نزول القرآن مفرقا، فالله سبحانه وتعالى يقول ردّا على المشركين الذين أنكروا أن يحىء القرآن على هذا الأسلوب: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33: الفرقان) .
فتثبيت فؤاد النبي هو من بعض ما فى نزول القرآن على تلك الصورة، من حكمة..
وأمّا عن نزول القرآن غير مرتب الآي، فقد رأينا أن من حكمته تثبيت قلوب المؤمنين، بما تحمل إليهم الآيات التي تسبق سورها، من بشريات، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» .
ففى هذا التدبير، من نزول القرآن الكريم غير مرتب الآي، - فى هذا ما يسمح بنزول بعض الآيات متقدمة زمنا على سورها التي ستلتقى بها، وتأخذ مكانها فيها، بعد أن يتم نزول القرآن كله..
وفى هذه الآيات التي كانت تنزل متقدمة زمنا على سورها، تثبيت لقلوب المؤمنين، وهدى لهم، وبشرى بالمستقبل المسعد الذي ينتظر الإسلام، وينتظرهم معه..(7/368)
ولو كان معنى قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» - لو كان معنى ذلك، نسخ آية بآية، لما كان من المناسب أن يكون التعقيب على ذلك قوله تعالى: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» .. إذ أن النسخ للآيات القرآنية، ليس من شأنه أن يثبّت قلوب المؤمنين، بل إنه يكون داعية من دواعى الإزعاج النفسىّ، بسبب تلك الآيات التي يعيش معها المسلمون زمنا، ثم يتخلّون عنها.. ثم إنه من جهة أخرى لا يحمل النسخ على إطلاقه، بشريات للمسلمين.. إذ أن أكثر ما وقع النسخ- كما يقول القائلون به- على أحكام مخففة، نسخت بغيرها، مما هو أثقل منها، كما يقال فى الآيات المنسوخة فى الخمر وفى الربا، وفى حدّ الزنا..
ثم- قبل هذا كله- إن هذه الآية: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» .. هى مكية النزول، بل من أوائل القرآن المكىّ، حيث لم تكن قد شرعت الأحكام بعد، فى العبادات، والمعاملات، وفى القتال، وما يتصل به من غنائم، وأسرى، وغير ذلك مما يمكن أن يرد عليه النسخ، إن كان هناك نسخ.. إذ أن النسخ، إنما تناول الأحكام الشرعية وحدها.
هذا، وقد استدل القائلون بالنسخ فى القرآن بآية أخرى، هى قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (52- 53: الحج) .. وسنعرض لهذه الآية فى موضعها إن شاء الله.. وحسبنا أن نقول هنا: إن النسخ وارد على ما يلقى الشيطان، لا على آيات الله، وأن الله سبحانه وتعالى يحكم آياته ولا ينسخها.. وإذن فلا نسخ فى آيات الله..(7/369)
ولعل فى قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (114: طه) .. لعل فى هذا ما يشير إلى شىء من هذا التدبير السماوي فى نزول القرآن غير مرتّب الآي، إذ ربما كان صلى الله عليه وسلم تتنزل عليه الآية من القرآن، غير منسوبة إلى سورة من السور التي نزلت، فيبادر إلى وصلها بما سبقها أو لحقها، حتى لا تظل فى عزلة، بين سور القرآن التي تتلى فى الصلاة، أو ترتّل فى غير الصلاة.. فجاء قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ليدفع عن النبي هذا الشعور من القلق على تلك الآيات المفردة أن ينظر إليها غير تلك النظرة التي للقرآن الذي جمعت آياته، وتمت سورة! .. فتلك دعوة للنبىّ ألّا يعجل ببناء القرآن قبل أن يتمّ وحيه إليه به، إذ ما زال هناك قرآن كثير لم ينزل بعد، وفى هذا القرآن الذي سينزل علم كثير، يزداد به النبي علما إلى علم..
ويؤنسنا فى هذا الفهم لتلك الآية الكريمة، ما نجده فى قوله تعالى:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
(16- 19: القيامة) .. ففى هذه الآيات ما يكشف عن مشاعر النبي نحو تلك الآيات التي كانت تتنزل مفردة غير منسوبة إلى سورة من السور، وإشفاقه من أن تفلت منه حيث لم ترتبط بغيرها من آيات القرآن وسوره.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
تطمين للنبى بهذا الوعد الكريم من الله سبحانه، بأنه جل شأنه، هو الذي سيتولى جمع هذا القرآن المفرّق، وبناءه على الصورة التي أراده الله سبحانه أن يقرأ عليها.. وذلك ما كان بعد أن تمّ نزول القرآن، وانقطع الوحى، فكان القرآن على تلك الصورة، التي تلقاها(7/370)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
النبىّ من جبريل، فى العرضة الأخيرة للقرآن، ثم تلقاها من النبي الصحابة وكتّاب الوحى.. ثم تلقاها المسلمون.. جيلا بعد جيل، إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين..
الآيات: (103- 105) [سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .. هو رد على المشركين الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» .. فهم- أي المشركون من قريش- يتهمون النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه التهمة، وأنه يفترى على الله الكذب، إذ يقول إن هذا القرآن منزل عليه من الله.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا، بل يرمون النبىّ بأنه لا يفترى هذا الافتراء من ذاته هو، بل يستعين على ذلك بأهل العلم، الذين يتصل بهم، ويتلقى عنهم ما يجىء به من مفتريات.. وذلك أنهم إذ يرون هذا العلم الذي تحمله آيات الله وكلماته، لا يرون أن مثل محمد- وهو واحد منهم- يستطيع أن يكون عنده شىء من هذا، ولكنه باتصاله بأهل الكتاب،(7/371)
وبأخذه عنهم، يمكن أن يفعل هذا، وأن يحدثهم بما يحدثهم به من أخبار الأولين، وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى عنهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (5: الفرقان) ..
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» بالتعبير بفعل المستقبل- إشارة إلى أن علم الله محيط بهم، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما قالوا، وما سيقولون من تلك المقولات المنكرة، التي يقولونها فى النبي الكريم، وفى كتاب الله الذي بين يديه..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» - إلفات لهم إلى كلمة «بشر» وإلى أنه يجب أن يقفوا عندها، وأن ينظروا فى هذا القول الذي يقولونه من غير رويّة، ولا تدبر.. وهل فى استطاعة بشر- أيّا كان- أن يأتى بمثل هذا القرآن؟ أليسوا هم بشرا؟ فما لهم إذن لا يأتون بسورة من مثله؟ .. ثم ما لهذا البشر الذي يعلم محمدا ألّا يأخذ مكان محمد، ويدّعى لنفسه هذا الذي يدّعيه محمد من أنه نبىّ، وأنه متصل بالسّماء، يتلقى منها هذا القرآن؟
- وقوله تعالى: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ.. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .. هو فضح لهذا المنطق السقيم، الذي أقام عليه المشركون اتهامهم للنبى.!
فالبشر الذي «يلحدون إليه» .. أي يشيرون إليه، ويتخذونه تكأة يتكئون عليها فى هذا الاتهام- هذا البشر، هو رجل أعجمىّ، لا يحسن العربية، ولا يستقيم لسانه عليها.. وهذا القرآن الذي بين يدى محمد، هو بلسان عربىّ مبين، قد تحدّى ببيانه وفصاحته بلغاءهم، وفصحاءهم، وأهل اللّسن فيهم، من خطباء وشعراء.. فما لهم وهم أصحاب هذا اللسان، ألا يقفوا لمحمد، ويتحدّوه يقول كقوله، وحديث كحديثه؟ .. ثم ما لهم لا يتلقون أخبار الأولين من هؤلاء(7/372)
الأعاجم، ثم ينسجونها بلسانهم العربىّ كما نسجها محمد؟ تلك حجة داحضة، وقول هزل! وقد اختلف فى اسم هذا الأعجمى الذي يشير إليه المشركون، كما اختلف فى أهو يهودى أم نصرانىّ! وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الذين لا يؤمنون بآيات الله، هم هؤلاء المشركون، وهم كلّ من فى قلبه مرض، وفى عقله دخل، فلا يلتفت إلى آيات الله، ولا يفتح عقله وقلبه لها، بل يلقاها معرضا منكرا، ويمرّ بها مجانبا مجافيا.. فهؤلاء الذين يقفون من آيات هذا الموقف، لا يهديهم الله، ولا يمدّهم بأمداد توفيقه وهدايته.. لأن «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» .. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» جزاء هذا الضلال، وهذا الصدّ عن آيات الله..
قوله تعالى: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» - هو اتهام لهؤلاء المشركين، بأنهم هم الذين يفترون الكذب ويتعاملون به، ولا يجدون حرجا فى أن يكذبوا، ويكذبوا، فى غير حياء! إنهم لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثمّ فهم لا يؤمنون بالله، ولا يخشون عقابه..
ولا يجدون فى أنفسهم وازعا يزعهم عن الكذب والافتراء على الله..
أما الذين يؤمنون بآيات الله، فإنهم يؤمنون بالله، ويوقّرونه، ويخشون عذابه.. فلا يخرجون عن الجادّة، ولا يقبلون أن تكون كلمة الكذب من بضاعتهم! وفى هذا دفاع عن النبىّ، ودفع لهذا الاتهام المفترى، الذي يتهمه المشركون به.. كما أنه دمغ للمشركين بالكذب والافتراء حيث حكم الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الحكم الأبدى بقوله: «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» .. حتى لكأن(7/373)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
الكذب مقصور عليهم وحدهم، من دون الناس جميعا.. فهم أصل فى الكذب والافتراء، ومن سواهم تبع لهم، يقتدى بهم، ويتعلق بأذيالهم..
الآيات: (106- 111) [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
التفسير:
قوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
فى هذه الآية أمور:
أولا: مناسبتها لما قبلها.. فقد ذكرت الآيات السابقة، موقفا من تلك(7/374)
المواقف اللئيمة، التي كان يقفها المشركون من النبىّ.. وهذا الموقف هو اتهامهم للنبىّ، بأنه افترى على الله هذا القرآن الذي جاءهم به، وأنه إنما تلقى هذا القرآن من أحد علماء أهل الكتاب.. ولهذا كان تكذيبهم له، وتصدّيهم لدعوته، وتطاولهم عليه وعلى من آمن به، بالضرّ والأذى.. وقد امتحن كثير من المؤمنين فى أنفسهم.. كبلال، وعمّار بن ياسر، وأبيه وأمه، حتى لقد مات بعضهم تحت وطأة العذاب الذي كان المشركون يرمونهم به، فى غير رحمة أو مبالاة! وفى مواجهة هذا البلاء الذي استمر بضع سنوات، لم يكن أمام المسلمين إلا أن يهاجروا، وأن يوطنوا أنفسهم على استقبال الأذى، والصبر على المكروه حتى الموت.
وقد هاجر كثير من القادرين على الهجرة.. الذين يملكون أمر أنفسهم..
وتخلف كثيرون، لم يكن أمرهم إلى أيديهم، إذ كانوا فى جملة العبيد والإماء..
أو تحت حكم العجز والمرض.. ونحو هذا..
وفى المتخلفين من صبر حتى مات تحت وطأة البلاء، مثل سميّة أم عمار بن ياسر، ومنهم من رأى أن يرى المشركين منه، أنّه قد استجاب لهم، ورجع عن الدين الذي آمن به على يد محمد- فأعطاهم بلسانه ما لم يسمح به قلبه، الذي ظلّ على إيمانه بالله، وولائه للدّين الذي دخل فيه.. ومنهم من أعطى المشركين بقلبه ما أعطاهم بلسانه.. فعاد كافرا.. ودخل فى الكفر فى غير تحرّج أو تأثّم، بل اطمأن إليه، وشرح صدره له! ولا شك أن هذه حال أثارت البلبلة والاضطراب فى نفوس المسلمين، وخاصة أولئك الذين انعقدت قلوبهم على الإيمان، وإن صرحت ألسنتهم بالشرك، تقيّة، تحت حكم القهر والاضطرار.. فهم- والحال كذلك-(7/375)
يعانون من صراع حاد، بين ظاهرهم هذا الذين يعيشون به فى الناس، وبين باطنهم الذي يعيشون فيه مع دينهم الذي أمسكوا به فى قلوبهم.. فكان من رحمة الله بالمؤمنين أن تقبّل ما فى قلوبهم، وتجاوز لهم عما قالوا بأفواههم.
- فقال تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» .. فهذا الاستثناء يخرج من أكره، فقال كلمة الكفر بلسانه، واحتفظ فى قلبه بالإيمان الذي انعقد عليه.. ويلاحظ هنا أنه لم يتقرر فى الآية حكم لأولئك المستثنين من الكفر، بل تركوا هكذا، بمعزل من الكافرين، الذين عادوا إلى الكفر بأفواههم وبقلوبهم جميعا.. وهذا يعنى أن «التقيّة» وإن كانت بابا من أبواب التيسير والرحمة بالمؤمنين، إلا أنها باب محفوف بالمخاطر، لا يدخله الإنسان إلا على حذر وإشفاق، وإلا ريثما يمسك نفسه من التّلف.. فإن هذه حال لا ينبغى أن يركن إليها المؤمن، أو يطمئن إلى مقامه فيها.. إذ هو يلبس فيها ثوب النفاق ظاهرا.. ولا يجتمع إيمان ونفاق أبدا..
روى أن المشركين من قريش أرادوا عمار بن ياسر، وأباه ياسرا وأمّه سميّة، على الكفر بعد أن أسلموا، وأخذوهم بالبأساء والضراء، فأبوا، فربطوا سميّة، بين بعيرين ثم وجئت بحربة فى قبلها، وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال، فماتت، ومات ياسر قتيلا كذلك، فكانا أول قتيلين فى الإسلام، أما عمار فأعطى المشركين بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن عمارا كفر!! فقال- صلى الله عليه وسلم- «كلا. إن عمّارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه!!» وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما ما تقول فى محمد؟
قال: «رسول الله» فما تقول فىّ؟ قال: وأنت أيضا..! فخلّى سبيله.. ثم قال للآخر: ما تقول فى محمد؟ قال: «رسول الله» قال: فما تقول فىّ؟ قال: أنا(7/376)
أصمّ! فقتله.. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق.. فهنيئا له» .
وثانيا: هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة..
فقد جاء نظم الآية على غير مألوف اللغة، حيث جاء الشرط: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» ولم يذكر له جواب.. ثم دخل على هذا الشرط الاستثناء:
«إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ثم لم يذكر لهذا الشرط والاستثناء الوارد عليه جواب.. ثم ورد هذا الاستدراك: «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - محمّلا بشرط، وجواب..
أما الشرط، فهو الشرط السابق موصوفا بمفهوم المخالفة للاستثناء الوارد على هذا الشرط، وأما الجواب، فهو الجواب الذي يصلح للشرطين معا.. ولكنه اتجه إلى الشرط الثاني، بعد أن وقع الاستثناء على الشرط الأول.. والتقدير: من كفر بالله من بعد إيمانه شارحا بالكفر صدره فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان..
هذا ما يدل عليه مفهوم الآية الكريمة، وإن جاء نظمها على هذا الأسلوب الذي تراه!! والسؤال هنا هو: ماذا وراء هذا النظم الذي جاء على غير مألوف اللغة؟
والجواب- والله أعلم- هو أن تلك الحال التي تعرضها الآية الكريمة من أحوال المؤمنين، حين يمتحنون فى دينهم، ويتعرضون للفتنة فى عقيدتهم- هذه الحال ليست من الأحوال المألوفة للإنسان، بحيث يروض نفسه عليها، ويوطنها على احتمال مكروهها.. وإنما هى تجربة قاسية يلقاها الإنسان مرة واحدة فى حياته، حين تحمله البلوى على أن يتبدّل دينا بدين، وعقيدة بعقيدة، ولو كان ذلك فى ظاهر أمره، وعلى ما يرى الناس منه.. فليس الدين ثوبا يلبسه الإنسان زمنا حتى إذا يلى خلعه، واستبدل به غيره.. وإنما هو أشبه بجلد(7/377)
الإنسان، وبالصبغة التي صبغه الله عليها.. فهو لون واحد لا يتغير، ولا يتبدل! هى تجربة قاسية إذن، تلك التجربة التي يخرج فيها الإنسان عن دينه، ولو ظاهرا، تحت حكم القهر والتسلط.. حيث يعالج الإنسان فى كيانه الداخلى صراعا صارخا، تتمزق معه مشاعره، وتتصدع به وحدة بنائه الفكرى، وإذا هو فى تيه، لا يطلع عليه من آفاقه، إلا ما يزعجه ويؤرقه..
ومن هنا جاء النظم القرآنى فى الآية الكريمة على هذا الأسلوب، الذي يمسك بتلك المشاعر المضطربة، ويصور تلك النفوس القلقة المذعورة، التي انعقدت فى سمائها سحب متراكمة، ترمى برعودها، وبروقها، وصواعقها، فى غير مهل أو انقطاع..
وهكذا يحكى النظم القرآنى بموسيقى ألفاظه، ما تحدّث عنه الألفاظ بدلالة معانيها، فيقع المعنى فى النفس موقعا متمكنا، حيث يدخل عليها مصوّرا، مجسدا..
قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» .
الإشارة هنا إلى هذا الوعيد الذي توعد الله به سبحانه، أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا فيه، وأنسوا إليه كما يأنس الغريب بلقاء أهله، بعد غيبة وفراق، فلم يقع فى نفوسهم وحشة للكفر، ولا تكرّه له.
فهذا الغضب الذي صبّه الله عليهم، وهذا العذاب العظيم الذي أعده لهم، إنما هو بسبب أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وآثروا العافية مع(7/378)
الكفر، على البلاء مع الإيمان..! «فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .
والإيمان- فى حقيقته- هو ابتلاء، وأقلّ ما يبتلى به المؤمن، هو التكاليف الشرعية التي تحملها أوامر الدين ونواهيه.. ثم فوق هذا ضروب من الابتلاء، فى هذا الصراع الذي يكون بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، قد ينتهى آخر الأمر إلى الاستشهاد فى سبيل الله! وفى هذا يقول الحق جل وعلا: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» (1- 3: العنكبوت) .
- وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى سبب آخر من أسباب وقوع الكافرين تحت طائلة هذا الوعيد، وهو أنهم من جبلّة مظلمة، لا تقبل النور، ولا تتهدّى إليه.. فكان أن أضلهم الله، وتركهم فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» .
الإشارة «بأولئك» واردة على هؤلاء الكافرين الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وبأنهم حرموا من هداية الله وتوفيقه، لما انعقدت عليه قلوبهم من ظلام وضلال.. إذ قد طبع الله على قلوبهم، وختم عليها بخاتم الكفر، فلا تقبل إيمانا، ولا تطمئن إليه.. كما ختم الله على سمعهم، فلا يسمعون كلمة الحق، ولا يستجيبون لها، وختم على أبصارهم، فلا يبصرون مواقع الهدى، ولا يتجهون إليها.. فكانوا فى غفلة مطبقة، عن كل ما يصلهم بالحق، أو يلفتهم إليه.(7/379)
قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» .. هو تعقيب على هذا العرض الكاشف لأولئك الذين كفروا، وعموا عن الهدى، وصمّوا عن الداعي الذي يدعوهم إليه..
فهؤلاء لا شك فى أنهم هم الخاسرون، إذ يجيئون إلى هذا اليوم العظيم، وليس معهم غير الكفر، وحسبه جرما، أن يكون صاحبه حصب جهنم خالدا فيها أبدا.
قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .
العطف «بثم» هنا، هو عطف حدث على حدث، وموقف على موقف..
فهناك موقف للكافرين الذين لبسوا الكفر بعد أن دخلوا فى دين الله، ونكصوا على أعقابهم لأول مسّة مستهم من أذى فى سبيل الله.. وهنا موقف لأولئك الذين لبسوا الكفر ظاهرا، واستبطنوا الإيمان.. تقية من تلف النفس، وفرارا من وطأة البلاء.
وفرق كبير بين هؤلاء، وأولئك.. ولهذا جاء العطف بالحرف «ثمّ» ، الذي يشير إلى هذا الفاصل المعنوي الشاسع، الذي يفصل بين الفريقين..
فأولئك كافرون.. وهؤلاء مؤمنون.. وما أبعد ما بين الكافرين والمؤمنين:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» .
وفى قوله تعالى: «رَبَّكَ» بإضافة النبي الكريم إلى ربه الكريم، مزيد من الفضل والإحسان إلى رسول الله من ربه، الذي يضيفه إليه، ويدعوه إلى ساحة كرمه وإحسانه، وقد كررت هذه الدعوة، فكانت إحسانا إلى إحسان، ولطفا إلى لطف، وحقّ للنبى الكريم بهذا الإحسان أن ينزل من ربه هذه المنزلة التي لا تعلوها منزلة لبشر.. وكيف والله سبحانه وتعالى يقول له:(7/380)
«وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
(113: النساء) . ويقول له: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» .
- وقوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا» .. هو تطمين لقلوب أولئك الذين فتنوا فى دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بألسنتهم، ولم يعطوا من الإيمان الذي انعقدت عليه قلوبهم شيئا..
فهؤلاء قد كشفوا عن حقيقة إيمانهم بهذا السلوك الطيب، الذي أخذوا فيه طريقهم مع المؤمنين.. فهاجروا مع المهاجرين، وجاهدوا مع المجاهدين، وصبروا على ما لقيهم من بلاء وشدة فى مواقف الجهاد. فوطّنوا أنفسهم على الموت فى سبيل الله، دون أن تحدثهم أنفسهم بالفرار من وجه العدو.. فهؤلاء يغفر الله لهم ما كان منهم، ويقبلهم فى عباده المؤمنين، المهاجرين، المجاهدين..
وفى العطف «بثم» فوق أنه عزل للذين أعطوا كلمة الكفر بألسنتهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، عن أولئك الذين شرحوا بالكفر صدرا- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فيه إشارة إلى أن مغفرة الله لم تجئهم إلا بعد تراخ، وإبطاء، حتى لقد كادت لا تلحقهم، وفى هذا ما يلقى ظلالا معتمة على التقية، وأنه لا يلجأ إليها المؤمن إلا عند الضرورة القصوى.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى المغفرة التي عاد الله سبحانه وتعالى بها على أولئك المفتونين، بعد أن هاجروا، وجاهدوا وصبروا.. فقد رحمهم الله، وغفر لهم، وأدخلهم فى عباده المؤمنين..
والضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى تلك الحال التي تلبّس بها المفتونون حين فتنوا فى دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بأفواههم..
وفى عودة الضمير إلى تلك الحالة دون ذكرها، إشارة إلى أنها شىء بغيض لا يذكر فى هذا المقام، الذي لبس فيه أولئك المفتونون ثوب الإيمان ظاهرا(7/381)
وباطنا، والذي شملتهم فيه رحمة الله ومغفرته.. فكان من تمام تلك النعمة التي أنعم الله بها عليهم ألا يذكّروا فى هذا المقام بما يسوءهم، وألا تمسّ مشاعرهم ذكريات هذا الماضي البغيض، الذي انسلخوا منه وفارقوه.. ثم كان من الحقّ أن يدفن هذا المنكر، وألا يرى المؤمنون له وجها أبدا..
قوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
هو تذكير بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، حيث يحاول كل إنسان جهده أن يدفع عن نفسه شرّ هذا اليوم، فيتعلّق بكلّ ما يظن أنه مغن عنه شيئا فى هذا الكرب العظيم، وحيث يكون الإنسان أكثر ما يكون حاجة إلى مغفرة الله ورحمته.. فإذا ذكر الإنسان هذا اليوم فى دنياه، وذكر ما يستقبل الناس فيه من أهوال، ثم ذكر رحمة الله، ومغفرته، اللتين ينالهما المتقون من عباده، ويستظل بظلمها المؤمنون الذين يخشون ربّهم بالغيب- إذا ذكر الإنسان ذلك كلّه، كان فى ذلك ما يشدّ عزمه ويقوّى يقينه، ويمسك به على طريق الإيمان، وإن مسّه الضرّ، وأصابه المكروه..
- فقوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ» متعلق بقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .. أي إن مغفرة الله ورحمته يتجليان فى هذا اليوم، يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها.. وليس هذا بالذي يقصر تجلّى رحمة الله ومغفرته على هذا اليوم، إذ رحمة الله ومغفرته لا يحدهما زمان، ولا يحصرهما مكان.. ولكنّ الإشارة إليهما فى هذا الظرف، إشارة إلى شدة الحاجة إليهما فيه، وأنه إذا كان الإنسان فى حاجة دائمة إلى مغفرة الله ورحمته، فإنه فى هذا اليوم أكثر ما يكون طلبا لهما، واحتياجا إليهما..(7/382)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
الآيات: (112- 119) [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 119]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)
مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
التفسير:
قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» ..
«الواو» هنا للاستئناف، ووصل حدث بحدث..(7/383)
وهذا الحدث هنا، هو المثل الذي ضربه الله لمن يعقل، ويعتبر، ويأخذ من مضرب المثل عظة وعبرة..
والمثل المضروب هنا، هو تلك القرية التي كانت آمنة مطمئنة، بما يسوق الله إليها من نعم.. فبطرت معيشتها، وكفرت بأنعم الله.
وقد اختلف المفسّرون فى هذه القرية.. أهي قرية من قرى الأولين التي أهلكها الله ودمدم على أهلها؟ أم هى مكة..
والذي نميل إليه هو أن هذه القرية هى واحدة من تلك القرى التي أهلكها الله، والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» (11: الأنبياء) .. وبقوله سبحانه: «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» (59: الكهف) وبقوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (48: الحج) .
فأية قرية من تلك القرى الظالمة التي أهلكها الله بظلمها، والتي عرف المشركون أخبارها وما حلّ بأهلها- أية قرية من تلك القرى صالحة لأن تكون المثل المضروب لأهل مكة.. يرون فى مخلّفاتها العبرة والعظة، إن كانوا يعتبرون ويتعظون.. فلقد عرف مشركو قريش ما حلّ بالقرى التي حولهم من عذاب الله.. فيما قصّ عليهم سبحانه وتعالى من أخبار «سبأ» فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» (15- 17: سبأ) .(7/384)
فهذه القرية- مثلا- كانت- كما يقص القرآن الكريم من أخبارها- فى حياة طيبة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، تحفّ بها الجنات عن يمين وشمال، فأكل أهلها من رزق الله، ولم يشكروا له، بل كفروا بنعمه، ومكروا بآياته، فأخذهم بالبأساء والضرّاء، وبدّلهم بجنتيهم ذواتى الثمر الطيب، والخير الموفور، أرضا قفرا لا تمسك إلا ببقايا حياة باهتة من شجر لا يعطى إلا خسيس الثمر، وقليله..! وهكذا كل من يكفر بنعم الله، ويمكر بآلائه.
- وفى قوله تعالى: «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» إشارة إلى ما حلّ بهذه القرية الظالمة من بلاء، وما وقع عليها من بأس الله إذ جاءها، فقد بدل الله أمنها وطمأنينتها، جوعا دائما وخوفا متصلا، حتى لقد اشتمل عليها الجوع والخوف، كما يشتمل الثوب على الجسد ويحتويه، وحتى أنه كلما بلى هذا الثوب، ألبسهم الله ثوبا غيره.. وهكذا، لا يخلعون ثوبا إلا لبسوا غيره، ليذوقوا العذاب، بما كانوا يصنعون..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ» - هو إشارة إلى أن هذه القرية الظالمة، التي حلّ بها هذا البلاء، لم تؤخذ هكذا على غير حجّة قامت عليها، بل لقد بعث الله سبحانه وتعالى إلى أهلها رسولا منهم، فبلغهم رسالة ربّه إليهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله، وإلى الاستقامة على طريق الحقّ والخير، فأبوا إلا عنادا وكفرا.. فكان أن أوقع الله بهم البلاء، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .
وقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» هو إلفات إلى أهل مكة خاصة، وإلى كل ذى عقل ونظر، أن يأخذوا العبرة من هذا المثل، وأن يجدوا فى النعم التي أنعمها لله عليهم،(7/385)
داعية يدعوهم إلى شكر الله، والولاء له.. وإلّا حلّ بهم عذاب الله، كما حلّ يتلك القرية الظالمة..
- وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» تحريض المؤمنين على التمسك بالإيمان بالله، وإخلاص العبادة له وحده، وأن يقطعوا كل صلة كانت تصلهم بمعبوداتهم التي عبدوها من دون الله، وذلك أنهم كانوا فى جاهليتهم يدّعون أنهم مؤمنون بالله، وأنهم إنما يعبدون هذه الأوثان التي يعبدونها ليتقربوا بها إلى الله، كما يقول الله سبحانه على لسانهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .. وهذا ضلال مبين، وشرك صراح بالله، فهو سبحانه الذي تفرّد بالخلق والرزق، فواجب أن يفرد بالولاء والعبودية.
قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو بيان لتلك المآكل الخبيثة التي يجب على المؤمن بالله أن يتجنّبها، حتى يكون مأكله حلالا طيبا. وتلك المآكل الخبيثة، هى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير اسم الله عليه.. فمن اضطر إلى أخذ شىء من تلك المآكل، «غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ» أي غير محلّ لها، وغير متجاوز حدود الحاجة التي يدفع بها الهلاك الذي يتعرض له- «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي يتجاوز للمضطر عن هذا المنكر الذي ألمّ به، وعليه أن يخلّص نفسه منه فى أقرب فرصة تسنح له.
إنه أشبه بالتقيّة، التي يتقى فيها المؤمن بلسانه، الأذى الذي يعرض له، إذا هو وقع ليد عدوّ من أعداء الله..
قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..(7/386)
فى هذا تحذير لأولئك الذين تدعوهم أهواؤهم إلى إتيان المنكر، فيسوّغونه بتلك الصفات الكاذبة التي يخلعونها عليه، ويلبسونه بها ثوب الحلال الطيب.. فما اشتهته أنفسهم جعلوه حلالا طيبا، وإن كان فى حقيقته حراما خبيثا، وما لم تمل إليه أهواؤهم وسموه سمة الحرام، وإن كان حلّا مباحا..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» إشارة إلى أن هذه المقولات التي يقولونها فى حلّ الأشياء وحرمتها، إنما هى مما أملته عليهم أهواؤهم، وأنهم لم يحتكموا فيها إلى شرع أو عقل..
- وقوله تعالى: «الْكَذِبَ» بدل من ضمير النصب المحذوف، وهو العائد على الاسم الموصول من الفعل «تصف» - أي ولا تقولوا لما تصفه ألسنتكم، الذي هو الكذب، فما تصف ألسنتهم إلا كذبا، ولا تقول إلا زورا وبهتانا..
- وقوله تعالى: «هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» هو مقول قولهم، أي إن قولهم عن مطعوماتهم، هذا حلال، وهذا حرام، هو قول كذب، قالوه لينتهى بهم إلى الافتراء على الله.. فاللام فى قوله تعالى: «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» هى لام العاقبة..
- وقوله تعالى: «مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» - هو تعليل لنفى الفلاح عن الذين يفترون على الله الكذب، فإنهم بافترائهم الكذب قد خسروا خسرانا مبينا.. ذلك أن هذا الذي عاد عليهم من كذبهم وافترائهم، هو شىء تافه، استرضوا به أهواءهم فى هذه الحياة الدنيا، فأوقعهم فى هذا الذي هم فيه،(7/387)
من عدوان على حرمات الله، وعصيان لله، وشرك به.. وذلك هو الخسران المبين..!
قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .
هو ردّ على الذين هادوا، أي اليهود، الذين كانوا من وراء المشركين، يزكّون أفعالهم المنكرة، ويقولون لهم: إن هذا الذي أنتم عليه فيما تحلّون وتحرّمون من مطاعمكم، هو الحق، وأنه من شريعة إبراهيم، وأن ما يحدثكم به محمد، هو مما يفتريه على الله.. فاثبتوا على ما أنتم عليه، ولا تستمعوا له..!
وقد رد الله عليهم سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.. أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ..» (145: الأنعام) .. ثم كشف سبحانه وتعالى عما أخذ به اليهود من عقاب، فحرّم عليهم طيبات كانت أحلّت لهم، نكالا لهم، بسبب عدوانهم على حرمات الله، وافترائهم عليه.. فقال تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) .
ففى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» إلفات إلى هذا الموقف الذي وقفه اليهود من النبي، حين دعا المشركين بكلمات ربه، إلى أن يدعوا الزور الذي أدخلوه على مطاعمهم، كما ذكر الله لهم ذلك فى قوله تعالى: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ(7/388)
بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»
(138- 139: الأنعام) .. فجاء اليهود إلى المشركين يكذبون النبي فيما يقول لهم عن ربه فى هذه المطاعم، فرمى الله اليهود بهذا الخزي الذي حملته إليهم الآية الكريمة: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... » .. فهذا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى على اليهود فى تلك الآية هو، ما أشارت إليه الآية:
«وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» .. وهذا يقطع بأن آية الأنعام قد سبقت آية النحل نزولا..
قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .. هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى الضالين عن سبيله، والشاردين عن الحق الذي يدعو إليه رسوله، أن يرجعوا إلى الله من قريب، وأن يتوبوا إليه، ويصلحوا من أنفسهم ما أفسدوا.. فإن فعلوا، وجدوا ربّا غفورا رحيما، يغفر لهم ما كان منهم، ويدخلهم فى عباده المؤمنين..
- والجهالة فى قوله تعالى: «عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ» ليس المراد بها الجهل بالشيء، والوقوع فى الإثم عن جهل بأنه إثم.. فهذا من المعفوّ عنه ابتداء، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) .
وإنما المراد بالجهالة هنا، ما يركب المرء من نوازع الحمية والعصبية، وما يستولى عليه من حماقات الكبر والعناد.. وهذا هو أكثر ما يحمل الناس على معاندة الحق، ومعاداته، ويدعوهم إلى إتيان المنكرات، وركوب الضلالات وإلى هذا المعنى للجهالة، يشير الشاعر الجاهلى، عمرو بن كلثوم بقوله:(7/389)
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالدعوة هنا إلى الرجوع إلى الله، دعوة عامة إلى كل شارد عنه، مسوق بهواه، محمول على مطية حميته، وعناده.
وفى العطف «بثم» فى الموضعين هنا، إشارة إلى هذا البعد البعيد، الذي ينتقل به الإنسان من حال إلى حال..
فالذين عملوا السوء بجهالة، ثم كانت لهم إلى أنفسهم عودة، وكان لهم معها حساب.. هم على حال مباينة بونا شاسعا، لأولئك الذين يعملون السوء، ثم لا يقع فى أنفسهم ما بسوؤهم منه، ولا تمس ضمائرهم نخسة من آثاره..
فالأولون لا بد أن تكون لهم إلى الله رجعة، وقليل منهم من يمضى على طريق السوء الذي هو فيه إلى آخره.. والآخرون هيهات أن يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم.. وقليل منهم من يفعل. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (17: النساء) .. وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (135: آل عمران) والذين انتقلوا من حال المراجعة مع أنفسهم إلى حال التوبة وإصلاح ما أفسدوا، هم فى حالهم الثانية على بعد بعيد من حالهم الأولى.. ولهذا جاء العطف «بثم» فى قوله تعالى: «ثُمَّ تابُوا» .
والضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى التوبة، المفهومة من قوله تعالى «تابُوا» .. وهذا يعنى أن المغفرة والرحمة من الله تجىء بعد التوبة من الذنب، لا قبلها..(7/390)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
الآيات: (120- 124) [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
التفسير:
مناسبة ذكر إبراهيم- عليه السلام- هنا فى قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً» .. هو ما ذكر فى الآيات السابقة من موقف المشركين واليهود، من أحكام الله، فى حلّ المطاعم وحرمتها..
ولما كان كلّ من المشركين واليهود ينتسب إلى إبراهيم- عليه السلام- ويدّعى كل منهم أنه على دينه- فناسب هذا أن يذكر إبراهيم- عليه السلام- ويذكر دينه الذي كان عليه، وإيمانه بربه، وشكره لنعمائه، الأمر الذي لم يستقم عليه أىّ من الفريقين من أبنائه.
فإبراهيم- عليه السلام- كان أمة، أي كان مجتمعا وحده، يؤمن بالله، بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر.. فهو بهذه الصفة يمثل أمة مميزة عن غيرها، بالإيمان، تقابل تلك الأمم التي تمثل الكفر.. فهو الإنسان المؤمن، الذي يقابل بإيمانه الكفر والكافرين جميعا.(7/391)
وكان إبراهيم مع إيمانه بالله قانتا، أي خاشعا لله، مسلما أمره له.. وكان «حنيفا» أي مائلا عن طرق الضلال والكفر.. «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي لم يشرك بالله أبدا، ولم تستجب فطرته لأن يعبد ما كان يعبد أبوه وقومه، فنشأ مجانبا لهذه الضلالات، عازفا عنها.
وفى وصف إبراهيم- عليه السلام- بأنه كان «حنيفا» - إشارة إلى أن المجتمع الذي كان يعيش فيه إبراهيم كان مجتمعا يسير على طرق الكفر والشرك، حتى لكأن ذلك هو وجهة الحياة فى زمنه، وحتى لكأن الخروج على هذه الوجهة، يعدّ ميلا وانحرافا.. وهذا مما يعظم من شأن إبراهيم، ويرفع قدره فى العالمين، بين أتباع الحق، وأهل الإيمان.. فقد خرج إبراهيم بإيمانه عن هذا الإجماع المطلق، وشق لنفسه ثقبا فى هذا الحائط الصفيق، المضروب حوله من الكفر، ونفذ إلى عالم النور! ولهذا استحق إبراهيم بأن يوصف هذا الوصف الكريم من ربه، بأن كان حنيفا.. والحنيف هو المائل.. ولكنه هنا ميل إلى الحق والهدى والإيمان.. ولهذا أيضا اختصّ إبراهيم- عليه السلام- بهذا الوصف دون سائر الأنبياء.. إذ كان أمة وحده.
- وفى قوله تعالى: «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين من أهل مكة، إذ كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم.. فكيف يكونون على شريعته، وهم مشركون، وهو الحنيف، الذي لم يكن فى يوم من أيامه من المشركين؟
وقوله تعالى: «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
هو معطوف على خبر كان فى قوله تعالى: «كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً..» أي وكان شاكرا لأنعم ربه، إذ اجتباه ربه، أي اصطفاه لرسالته، وأخرجه من عالم الكفر المتكاثف حوله، وهداه إلى الحق، والخير، والإيمان..(7/392)
وفى هذا تعريض باليهود، الذين خرجوا على شريعة أبيهم إبراهيم خروجا صارخا، فكفروا بأنعم الله، ومكروا بآياته، وكذبوا رسله، وتنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.
قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» ..
هو عطف على قوله تعالى: «اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» :
وفى الحديث عن الله سبحانه وتعالى بضمير الغيبة فى قوله تعالى: «اجْتَباهُ وَهَداهُ» .. ثم الحديث عنه تعالى بضمير الحضور «وآتيناه» .. إشارة إلى تلك المنزلة التي بلغها إبراهيم عند ربه، بعد أن اصطفاه لرسالته، وهداه إلى دينه.. فقد استقام إبراهيم على هذا الطريق المستقيم، مجتهدا فى الطاعة، مخلصا فى العبادة، حتى اتخذه الله سبحانه وتعالى خليلا له، وأقبل عليه بعطاياه ومننه:
«وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» .. فهو عطاء كريم تناوله من ربه من غير واسطة.
والحسنة التي آتاها الله سبحانه وتعالى إبراهيم، هى على إفرادها وتنكيرها، تسع ببركتها وخيرها، الناس جميعا.. ومن ثمرات هذه الحسنة هذا الذّكر الطيب الذي لإبراهيم فى هذه الدنيا، حيث كان من ذريته الأنبياء، ومنهم:
موسى، وعيسى، ومحمد، أصحاب الرسالات السماوية التي يدين بها المؤمنون بالله!.
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» إشارة إلى ما لإبراهيم عند الله فى الآخرة.. فهو عند الله من الصالحين، الذين سلموا من كل سوء، فاستحقوا منازل الرحمة والرضوان..
قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .(7/393)
العطف بثم هنا، إشارة إلى الفاصل الزمنى بين رسالة إبراهيم، ورسالة محمد، عليهما الصلاة والسلام.. وليس هذا الفاصل الزمنى على امتداده بالذي يفصل بين حقيقة الرسالتين، فهما من معدن واحد.. بل هما شىء واحد، فى الأصل الذي قامتا عليه، وهو توحيد الله، وإخلاص العبودية.
قوله تعالى: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
السبت هو اليوم الذي جعله الله لبنى إسرائيل، يوم طاعة وعبادة، يتخففون فيه من شئون الحياة الدنيا، ويراجعون أنفسهم فيما وقع منهم من سيئات، خلال أيام الأسبوع الستة.. وبذلك يمكن أن يجد الواحد منهم فرصته فى إصلاح نفسه، وتصحيح أخطائه، قبل أن يمضى بها الزمن فينساها، أو تكثر ويزحم بعضها بعضا، فيعجز عن معالجتها، وتفتر عزيمته عن لقائها..
هكذا كان يوم السبت، لبنى إسرائيل، يوما خالصا لله، وفرصة مهيأة للتطهر من الآثام، والتخفف من الذنوب.. شأنهم فى هذا شأن النصارى فى يوم الأحد، والمسلمين فى يوم الجمعة.. فهذا اليوم من كل أسبوع، هو أشبه بالمنازل التي ينزلها المسافر خلال رحلة طويلة شاقة، حيث تتهيّأ له فى هذا المنزل فرصة للراحة والاستجمام، والتزود بالماء والطعام، وإصلاح أدوات السفر ومعدّاته، إلى غير ذلك مما يعين المسافر على قطع المرحلة القادمة، من رحلته.. وهكذا..
حتى تنتهى الرحلة، ويلقى عصا التسيار! ..
ولو أحسن بنو إسرائيل استقبال هذا اليوم، واستقاموا على ما أمرهم الله به فيه- لكان لهم من ذلك خير كثير فى دينهم ودنياهم جميعا.. ولكنهم مكروا بنعمة الله وكفروا بها، شأنهم فى هذا هو شأنهم مع كل نعمة أنعم الله بها(7/394)
عليهم، فخانوا الله فى هذا اليوم، وجعلوه يوم لهو، وعربدة.. فجعله الله نقمة عليهم، وابتلاهم فيه بتحريم، صيد البحر، فلما لم يستقيموا مع هذا الأمر، ضاعف عليهم البلاء، فأمسك عنهم السمك أن يجدوه فى البحر إلا يوم السبت، وبهذا وضعهم الله أمام هذا البلاء، وأوقعهم فى هذا الحرج.. فإن صادوا فى يوم السبت أثموا، وإن لم يصيدوا حرموا الصيد أبدا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ»
.. (163: الأعراف) ولم يحتمل القوم هذا البلاء.. فاعتدوا فى السبت، وصادوا فيه ما حرم الله عليهم صيده.. فأخذهم الله بعذابه، وأوقع بهم نقمته.. فمسخهم الله، وألبسهم طبائع القردة، كما يقول الله سبحانه: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» .. (65: البقرة) .
وأكثر من هذا.. فإن الله قد حرم عليهم أن يعملوا فى هذا اليوم عملا، وأن يتحولوا إلى جمادات لا حس لها ولا شعور.. وفى هذا تقول التوراة:
«اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك..
«لأن فى ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح فى اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه» .
هكذا تقول التوراة فى الأصحاح العشرين من سفر الخروج، ولكن بنى إسرائيل لم يستقيموا على هذا الأمر ولم يحتملوا الصبر على هذا التكليف، الذي لا حرج فيه.. ولا إعنات، فكثرت حوله تأويلاتهم الفاسدة، حتى أبطلوا(7/395)
الأثر الطيب الذي كان سيعود عليهم منه.. ولهذا جاءهم الله سبحانه وتعالى بما هو أشقّ وأمرّ، نكاية بهم، ولعنة لهم.. فكان حكم التوراة بعد هذا هو:
«ستة أيام يعمل كل عمل وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب كل من يعمل فيه عملا يقتل.. لا تشعلوا نارا فى جميع مساكنكم يوم السبت» هكذا تقول التوراة فى «الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر الخروج» ..
فالعمل فى يوم السبت، يوجب على اليهودي القتل، وهذا ابتلاء عظيم من الله سبحانه، لهذا القطيع المعربد، حتى يكونوا من هذا الابتلاء بين أمرين، أحلاهما مر.. فإن عملوا أي عمل فى يوم السبت، ولو فى دفع عدوّ مغير عليهم وقعوا تحت حكم الله، وهو استحقاقهم للقتل، وإن لم يعملوا كانوا صيدا دانيا لكل من يريد اقتناصه..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» .. هو بيان لما حل ببني إسرائيل بافترائهم على الله فى يوم السبت، وخروجهم على حكم الشريعة فيه، بما تأوّلوا من تأويلات فاسدة، أملتها عليهم أهواؤهم، فكان لكل جماعة منهم رأى فيه، وكلها آراء فاسدة قائمة على الهوى..
- وفى تعدية الفعل «جعل» بحرف الجر «على» إشارة إلى أن هذا اليوم جعل لعنة على بنى إسرائيل، بعد أن كان رحمة لهم.. فما كان للإنسان، فهو خير، وما كان عليه فهو شر، كما يقول الله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» (286: البقرة) - وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» تهديد لليهود، وأنهم سيؤخذون بآثامهم التي حملوها معهم، من تلك الخلافات التي وقعت بينهم فى شريعة الله الواضحة الصريحة، التي لا تحتمل(7/396)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
تأويلا، ولا تثير خلافا، إلا حيث تتنازعها الأهواء، وتتوارد عليها النظرات الزائغة والعقول السقيمة.
الآيات: (125- 128) [سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
التفسير:
بهذه الآيات تختّم سورة النّحل.. وهى السورة التي تدعو إلى الإيمان بالله، بما تكشف من آيات قدرته، المبثوثة فى هذا الوجود، والتي تحدّث كل آية منها عن قدرة الصانع، وعلمه وحكمته، كما تحدّث عن النعم التي أفاضها الخالق جلّ وعلا على الإنسان، حيث أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، وجعل له السّمع والبصر، والفؤاد، ثم سخّر له ما فى السموات وما فى الأرض، وهيأ له أسباب الانتفاع بما فى الأرض والسماء.. من عوالم وموجودات..
ودعوة الرسول إلى الله سبحانه وتعالى، إذ تحمل هذه الدلائل البيّنة على قدرة الله، لا تحتاج إلى قوة قاهرة، توجه إليها الأبصار، وتفتح لها العقول والقلوب.. فإن القوة هنا تضرّ ولا تنفع، حيث أن العقل هو المدعوّ إلى(7/397)
التعرف على الله، والإيمان به، وليس سبيل العقل إلى العلم والمعرفة، هو القهر والقسر، وإنما سبيله النّظر والاقتناع، فى جوّ من الحرّية المطلقة، البعيدة عن الضغوط المادية، أو المعنوية..
فالإيمان الذي يكون تحت أىّ مؤثر خارجى، يختل العقل، أو يقهره، هو إيمان مدخول، لا يطمئن إليه القلب، ولا تتأثر به المشاعر، ولا يجنى منه صاحبه ما يجنى المؤمنون من إيمانهم من ثمرات طيبة مباركة..
ولهذا كان أمر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم بأن تكون دعوته قائمة على هذا المنهج الذي يمثّل الكمال كلّه فى غرس المعارف، وتربية النفوس:
«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» .. ومن الدعوة بالحكمة مراعاة مقتضى الحال، ومخاطبة كل قوم بما يعرفون، وأخذهم بالرفق والتلطّف، واختيار الوقت المناسب للموعظة التي يراد وعظهم بها، حتى تتقبلها النفوس، وتنتفع بما فيها من خير..
إن الرسول طبيب يحمل الدواء إلى العقول، والقلوب، والأرواح..
ومن هنا كانت مهمته عسيرة شاقة، يحتاج معها إلى بصيرة نافذة، تتدسس إلى خفايا النفس الإنسانية، وتضع يدها على موطن الداء. ثم تختار من الدواء ما يشفى العلة، ويذهب بالداء..
وقوله تعالى: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» هو بيان لمرحلة من مراحل الدعوة، وهى المرحلة التالية، للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. فالرسول مطالب بأن يعرض دعوته فى أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا تقبّل المدعوّون دعوة الرسول فى هذا الأسلوب، من غير عناد أو جدال، فذاك، وإن كان من المدعوين عناد وجدال، فلا يلقى النبىّ المعاندين المجادلين، معاندا(7/398)
مجادلا، فذلك من شأنه أن يعمّى على الحق، وأن يسدّ المنافذ الموصلة إليه، وإنما على الرسول أن يلقى جدال المجادلين بالحسنى، وأن يصرفهم عن هذا الجدل العقيم، إلى ما هو أجدى وأنفع لهم..
وقد أرى الله سبحانه وتعالى النبىّ المثل الأمثل فيما يلقى به المجادلين، حين أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال إلى المشركين عن الأهلة، فقال تعالى:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (189: البقرة) ففى هذا الجواب الحكيم، دعوة للمشركين أن ينصرفوا عن هذا الجدل العقيم حول الأهلة، وكيف تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود صغيرة- إلى ما فى هذه الأهلة، ودورتها، من آثار يتعرفون بها المواقيت لأمور الدين والدنيا جميعا..
ذلك هو الجدل بالتي هى أحسن وأقوم.. وعلى هذا المنهج ينبغى أن يكون جدل النبىّ، فى كل موقف يكون بينه وبين المشركين أو الكافرين، جدال..
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» - هو تهديد لأولئك الذين يجادلون بغير علم، ولغير غاية، إلا المراء والإعنات.. فالله أعلم بهؤلاء الضالين عن سبيله، لا يجتمعون مع المهتدين، ولا ينزلون منازلهم، بل يعزلون عنهم، ويلقى بهم فى عذاب السعير.
قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» .. قيل إن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها نزلت بالمدينة، بعد غزوة أحد، ولهذا حسبت الآيات الثلاث من القرآن المدني، على حين أن السورة كلها- فيما عدا هذه الآيات الثلاث- مكية..(7/399)
والمستند الذي يقوم عليه القول بنزول هذه الآيات بعد غزوة أحد- هو ما يروى من أن المشركين حين ظفروا بالمسلمين فى غزوة أحد مثّلوا بالشهداء تمثيلا لم تعرفه العرب، فبقروا بطونهم، وصلموا آذانهم، وجدعوا أنوفهم، إلى غير ذلك مما يقال من أن المشركين ونساءهم فعلوه بالشهداء، تشفيّا لما أصابهم فى يوم بدر، حتى ليقال إن هند بنت عتبة، زوج أبى سفيان، بقرت بطن حمزة- رضى الله عنه- وأخذت كبده، وأكلت شيئا منها! ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبىّ صلى الله عليه وسلم، حين رأى ما فعل المشركون بحمزة، وغيره من الشهداء حزن لذلك حزنا شديدا، وحلف لئن أظفره الله بالمشركين أن يمثّل بسبعين منهم.. وكذلك فعل كثير من المسلمين.
فنزل قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ..» .. فأخذ النبىّ بما هو خير، ولم يعاقب المشركين بمثل ما عوقب به، وكفّر عن يمينه.. واقتدى المسلمون به.
ومما يؤيد القول بأن هذه الآيات مدنية، ما تضمنته من دعوة المسلمين إلى أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، أو يصبروا على ما أصابهم، فذلك خير لهم، وأولى بهم.. وتلك حال لم تكن للمسلمين فى مكة، إذ كانوا ولا قدرة لهم على ردّ العدوان بالعدوان، وإنما كان الصبر على المكروه، هو كل عدّتهم فى هذا الدور من الصراع الذي كان بينهم وبين المشركين..
قوله تعالى: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» - هو دعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بما هو خير له من الأمرين اللذين خيّره الله سبحانه وتعالى بالأخذ بأيّ منهما، فى قوله تعالى:
«وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» ..(7/400)
فإذا كانت الدعوة إلى الأخذ بالصبر على سبيل التخيير فى جانب المسلمين عامة فإنها فى جانب النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أمر وإلزام.
وقد اختص النبىّ الكريم بالدعوة إلى الأخذ بالصبر وحده، دون أن يعاقب بمثل ما عوقب به- لأن ذلك مقام لا يحتمله إلا قلة قليلة من الناس، على رأسهم أنبياء الله ورسله.. ولهذا جاء أمر الله خاصة إلى النبىّ الكريم:
«وَاصْبِرْ» .. ولم يجىء هكذا: «واصبروا» وإن كان هذا لا يمنع من أن يتأسّى المسلمون بالنبيّ فى هذا.. فهو قدوة المسلمين فى كل ما هو كمال، وخير، وإحسان..
- وفى قوله تعالى: «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» .. هو تطمين للنبىّ الكريم، وتثبيت لفؤاده على التزام الصبر، وإيناس له من وحشة هذا العبء الثقيل الملقى عليه، إذ أنه سيتلقى المدد والعون من الله، وأن هذا الصبر الذي يدعى إليه، إنما هو صبر عظيم، لا تحتمله النفوس إلا بالاستعانة عليه بالله.. والله سبحانه وتعالى معينه وممدّه بألطافه.
وفى إضافة الصبر إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه-: «وما صبرك إلا بالله» - إشارة إلى أنه صبر من طبقة عالية، لا ينالها إلا النبىّ الكريم، المؤيد من الله، والمزوّد منه سبحانه بالقوة والعزم على احتمال هذا النموذج الفريد من الصبر.. فهو صبر ذو صفة خاصة.. هو صبر النبىّ صلوات الله وسلامه عليه..
وقوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» - هو عزء للنبىّ الكريم، فيما كان يجد فى نفسه من حزن وأسّى على قومه الذين غلبت عليهم شقوتهم فماتوا على الكفر، حتف أنوفهم، أو فى ميدان القتال بأيدى المسلمين..
- وقوله تعالى: «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» .. هو مواساة للنبىّ، وتخفيف لما يقع فى نفسه من ألم، إذ يرميه قومه بالضرّ والأذى، ويبيّتون له(7/401)
الكيد، ويدبرون له السوء.. كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (30: الأنفال) .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى عنه دفع هذا الكيد، وإبطال هذا المكر..
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .. هو حكم عام لله سبحانه وتعالى فى عباده، وهو أنه سبحانه وتعالى، يتولّى المتقين المحسنين منهم، ويحوطهم برعايته، ويمدهم بأمداد عونه ونصره.. وفى هذا الحكم يرى النبىّ الكريم أن هذه الأمداد التي يمدّه بها ربّه، إنما هى مما قضى الله به فى حلقه، وأن هذا العطاء الكريم هو من نصيب المحسنين المتقين، وأنه بقدر ما يبلغ الإنسان من إحسان وتقوى، يكون قربه أو بعده من معيّة الله.. والنبىّ الكريم- لا شك- أوفر عباد الله حظّا من التقوى والإحسان، فهو لهذا أكثر عباد الله قربا من ربّه..
والمعيّة فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» هى معيّة القرب من ألطاف الله، والتعرض لنفحات رحمته وإحسانه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (56: الأعراف) .
والتقوى: أساسها الإيمان بالله.. لا تنبت مغارسها، ولا يثمر زرعها، إلا إذا غرس فى تربته، وارتوى من مائه..
وملاك أمر التقوى، هو امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، أو كما يقول بعض العارفين: «هى ألّا يراك الله حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك» .
أما الإحسان.. فهو التقوى فى كمالها وتمامها.. حيث يستقيم المؤمن على شريعة الله، ويلتزم حدوده، فيصطبغ بصبغة التقوى، التي يصبح بها من عباد(7/402)
الله المحسنين المقربين.. وقد أجاب النبىّ صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، حين سئل عنه، فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
وقد كشف الله سبحانه عن حقيقة الإحسان فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93:
المائدة) .. ففى هذه الآية ما يكشف عن قيمة الإحسان، ومكانة المحسنين. إذ هو الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم، وينالها المتقون بتقواهم..
وعلى هذا، يكون المتقون، والمحسنون، فى منزلتين من منازل الإيمان..
وأن كلّا من المتقين والمحسنين له شرف «المعيّة» مع الله.. وإن كان المحسنون أقرب قربا، وأكثر عطاء ورفدا..
جعلنا الله سبحانه وتعالى من عباده الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنزلنا منازلهم، وحشرنا فى زمرتهم، ونفعنا بهم فى الدنيا والآخرة..
إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
تم بعون الله الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر إذا شاء الله.(7/403)
[الجزء الثامن]
17- سورة الإسراء
نزولها: نزلت قبل الهجرة بنحو عام، فهى مكية.. وقيل إن فيها بضع آيات نزلت بالمدينة، منها قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ» ..
إلى قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» .. ومنها آية:
«أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» .. وآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» ويقول «الفيروزآبادي» فى كتابه «بصائر ذوى التمييز» : إن السورة مكية باتفاق!! عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية..
عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وثلاث وستون كلمة..
عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا..
[ما يقال فى تسمية السورة]
الرأى على أنها سميت الإسراء.. لأنها بدأت بالإسراء، ولأن الإسراء أعظم حدث فى حياة النبىّ، بل وفى حياة البشرية كلها.. فلم يقع هذا الحدث فى الحياة البشرية، إلا تلك المرّة.. فكان بذلك أعظم معلم من معالم تلك السورة، وحقّ له أن يكون وحده دون غيره، عنوانا لها.
هذا، و «البيضاوي» فى تفسيره، يسمّى هذه السورة سورة: «أسرى» جاعلا فعل الإسراء «أسرى» ، هو العنوان للسورة، دون تغيير فيه..
ومن أعجب الأعاجيب هنا، أن نجد لهذه السورة اسما، يجعله المفسّرون من بعض أسمائها، على ما جرت به عادتهم من تكثير الآراء وحشدها،(8/405)
للأمر الواحد.. فجعلوا من أسماء هذه السورة، اسم: «بنى إسرائيل» ..
وواضح أن هذا الاسم دخيل منتحل، تسلّل إلى المفسّرين وأصحاب السّير، فيما تسلّل من الإسرائيليات، التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء، فقبلوها منهم بحسن نيّة..
ولو كان لبنى إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم فى القرآن الكريم، لكانت سورة البقرة- مثلا- أولى من الإسراء فى هذا المقام، إذ كانت البقرة تحوى من أخبار بنى إسرائيل، أكثر مما تحويه سورة الإسراء، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة، وهى بقرة بنى إسرائيل، ولم تأخذ اسمهم! الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلا أن يكون لبنى إسرائيل سورة باسمهم فى كتاب الله، وإن كان لأبى لهب سورة باسمه! ومن جهة أخرى، فإنا نرى سورا فى القرآن، فيها حديث مستفيض عن بنى إسرائيل، كسورة الأعراف، وسورة طه، مثلا، ومع هذا فلم تسمّ أىّ منهما سورة بنى إسرائيل!! فلماذا كانت سورة «الإسراء» بالذات، هى التي يدخل عليها هذا الاسم، وينازعها شرف هذه التسمية التي سميت بها تلك السورة؟
إننا نشمّ هنا ريح «اليهود» ونجد بصمات أصابعهم المتلصصة، التي تريد أن يكون حديث «الإسراء» حديثا خافتا، لا بذكر إلا عند تلاوة الآية، دون أن يجرى له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم، كلما ذكرت آية من آيات هذه السورة، ونسبت إليها الآية.. وذكر السورة فى القرآن الكريم يحرى عادة أكثر من ذكر أي آية من آياتها.
هذه واحدة، من فعلات اليهود فى حديث الإسراء!(8/406)
وأكثر من هذا كيدا، ومكرا، ما أدخلوه على حديث الإسراء ذاته من زور الأحاديث، التي أخذها عنهم بعض العلماء، عن غفلة، ونيّة حسنة، باعتبار أن هذه الأحاديث المبالغ فيها تعالى من قدر النبىّ، وترفع من شأنه.. وما دروا أن تلك المفتريات إذ تجتمع مع الحقّ، تبعث حوله الشك والاتهام، الأمر الذي يذهب بجلال الحقيقة وروعتها، وإنما مردّ ذلك الجلال، وتلك الروعة، إلى قربها من الطبيعة البشرية، ومداناتها للواقع المألوف.. وحسبنا شاهدا لهذا، القرآن الكريم، فى إعجازه الذي قصرت عن مداناته أيدى الإنس والجن، ومع هذا، فهو من كلام لم يخرج عن مألوف اللسان العربىّ، ولم يجاوز حدود اللغة العربية! وسنرى فى حديث الإسراء، ما دخل على هذا الحديث من دسّ اليهود وكيدهم، الأمر الذي ألقى شبها كثيرة عند من يستمعون إلى هذا الحديث وما اختلط به، فلا يدرى المؤمن ماذا يأخذ من هذه الأحاديث وماذا يدع، فلو أنه أخذها جملة لما اطمأن إليها قلبه، ولما سكن إليها عقله، ولو أخذ بعضا وترك بعضا، لفقد الثقة فيما أخذ أو ترك.. جميعا!!
[مناسبتها للسورة التي قبلها]
ختمت سورة النحل، التي قبل هذه السورة بقوله تعالى: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .
وهذا الختام يحدّث عما كان يعانيه الرسول الكريم من ضيق، وما يجده فى نفسه من مشاعر الحزن والألم، لما يلقى من قومه وأهله من كيد، وما يرى فيهم من عناد وإصرار على الكفر والضلال.. فناسب ذلك أن يذكر معه، ما كان من فضل الله على النبي الكريم، بهذه الرحلة المباركة التي رأى فيها النبىّ(8/407)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
الكريم ما رأى من آيات ربّه، فوجد فى هذا، الروح لنفسه، والانشراح لصدره، والعزاء الجميل من مصابه فى أهله..
ولعلّ فيما حدّث به ختام سورة النّحل ما يكشف عن بعض حكمة الإسراء، وأنه- كما سنرى- كان استضافة للنبىّ الكريم فى رحاب الملأ الأعلى، ليستشفى مما نزل به من ضيق، وما ألمّ به من ألم، فى هذا الصراع الذي كان محتدما بينه وبين قومه، حتى لقد كانت تتنزّل عليه آيات الله تدعوه إلى أن يرفق بنفسه، وأن يتخفف من مشاعر الحزن على أهله، ألا يكونوا مؤمنين. وفى هذا يقول سبحانه «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) ويقول جلّ شأنه:
«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) ويقول سبحانه:
«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) ..
ويجتمع هذا كله فى قوله تعالى فى آخر سورة النحل: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» ..
فناسب هذا الختام للسورة أن تجىء بعدها سورة الإسراء، وما كشف الله لنبيه فى هذه الرحلة المباركة من جلال ملكوته، وما أراه من أسرار علمه وحكمته! بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآية: (1) [سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)(8/408)
التفسير:
سبحان: مصدر، منصوب، بفعل محذوف تقديره سبّح الله تسبيحا، أو سبّحه سبحانا..
أسرى: أسرى بكذا، أي سار به ليلا.. وأصل الفعل من السرّ، وهو ما خفى عن غير صاحبه من الأمور.. ولأن الليل يستر الناس، ويخفى شخوصهم وأفعالهم عن الناس، فقد سمّى السير فيه سرى.. وسمّى تحرك الليل نفسه، سرى، وذلك لأنه يقطع رحلته فى دورة الفلك من أول الليل إلى آخره دون أن يدلّ دليل على حركته، إلا شواهد باهتة خفية لا يراها إلا من يتربص له، ويرصد مسيرته.. فأول الليل وآخره سواء، فى مرأى العين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» .. فالليل نفسه يسرى، أي يسير متخفّيا فى ظلام، مستترا به، لا ننكشف حركته للناس..!
وعلى هذا، فكل حركة، أو عمل، يكون فى خفاء يمكن أن يطلق عليه لفظ «سرى» ، فيقال: أسريت بهذا الأمر أي فعلته سرّا، دون أن يطلع عليه أحد..
وقيد السّرى باللّيل هنا، يراد به تحقيق أمرين:
أولهما: اتخاذ الليل ستارا للسير، وظرفا حاويا له، حتى لا تنفذ إليه الأبصار..
وثانيا: التحرك فى حذر، وحيطة، وفى خفاء، دون جلبة أو ضوضاء..
الأمر الذي يعين على إنفاذ الأمر دون أن يفضح.. فإن الليل وإن كان سترا(8/409)
يحجب الأبصار، فإن مع الأبصار التي حجبها الليل أسماعا، لا يعطّل وظيفتها ظلام الليل، بل سكونه يزيد من قدرتها على التقاط الأصوات، والإمساك بها.. ولعلّ هذا هو ما نلمحه فى قوله تعالى للوط عليه السلام: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» (81: هود) وقوله تعالى لموسى عليه السلام: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» (23: الدخان) .. فقد جاء الأمر إلى النّبيّين الكريمين بالسّرى ليلا، ليكون اللّيل ستارا لهذا السير، إلى جانب ما يكون من حذر وحيطة واحتراس، فى إخفاء كل حركة، وكل صوت، ينبىء عن هذا السير، أو السّرى..! ومن هنا سمّى النّبع الجاري فى سلاسة، ورفق- سمّى «سريّا» كما يقول سبحانه وتعالى لمريم: «فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» (24: مريم) .
وقد توسعنا فى شرح كلمة «أسرى» وفى قيدها بظرف الليل، لندرك السرّ فى قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» وأن قيد السّرى هنا بالليل، وجعله وعاء حاويا له، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل، كما يقول بذلك المفسّرون، فهذا الظرف- فى رأيهم على هذا القول- ليس له أثر فى معنى لفظ «الإسراء» .. إذ الإسراء أو السّرى- عندهم- لا يكون إلا ليلا.. فكلمة «ليلا» عندهم لمجرد التوكيد، بالتكرار!! وقد رأيت أن معنى الإسراء، أو السّرى، هو الخفاء، وأنه مشتق من السّرّ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر فى ستر من الخفاء، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل..(8/410)
فقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» يشير إلى أمرين:
أولهما: أن ظرف الإسراء كان ليلا، وثانيهما: أنه كان بحيث لم يشعر به أحد، بل وقع فى ستر، بحيث لم يلحظه أحد من المتصلين بالنّبيّ، القريبين منه، الذين كانوا يشاركونه الحياة فى بيته، وفى الحجرة التي كان ينام فيها.
ونستظهر من هذا أمرين أيضا:
أولهما: أن الإسراء بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، كان بجسده، ولم يكن بروحه الشريف وحده.. وأنه لو كان بروحه لما جاء التعبير القرآنى عنه بلفظ «أسرى» الذي يدلّ فى ذاته على الستر والخفاء، ولما جعل هذا السّتر فى مضمون ستر آخر هو الليل، كما يقول سبحانه: «ليلا» ..
وثانيهما: أن هذا الإسراء بالنبيّ الكريم، لم يكن معجزة متحدّية، وإنما هو رحلة روحيّة، واستضافة من الله الرحمن الرحيم، للنبىّ، فى رحاب ملكوته، حيث يشهد من ملكوت الله، ويتزود من ألطاف الله، ما لم يشهده بشر، وما لم يتزود به إنسان! هذا، وقد كان للإسراء حديث طويل متصل، امتلأت به كتب التفسير، والسّير، وقد دخل على هذا الحدث كثير من الخيال، وكثير من الكذب والدسّ، حتى كاد يختنق الشعاع المنبعث منه، وتغيب عن نظر الناظر فيه، مواقع العبرة والعظة منه..
ولهذا رأينا أن نقف من هذا الحدث وقفة، ندفع بها ما نستطيع دفعه من هذا الضباب المتكاثف حول «الإسراء» ، حتى يستطيع المسلم أن يرى وجه هذه الآية الوضيئة التي اختص الله سبحانه وتعالى بها خاتم النبيين، وإمام المرسلين..(8/411)
[وقفة مع الإسراء.. والمعراج]
قد رأينا فى مفتتح هذه السورة أنها تبدأ بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .
فهذه الآية، هى كلّ ما ذكر القرآن ذكرا صريحا عن الإسراء..
وكان من أجل هذا أن سمّيت السورة سورة «الإسراء» ، باعتبار أن «الإسراء» هو أبرز حدث فيها، وأظهر وجه من وجوه الأحداث التي عرضت لها هذه السورة.
وإذن، فالحديث الحقّ عن الإسراء، ينبغى ألا يخرج عن مضمون هذه الآية، وألا يجاوز حدودها..
والإسراء- كما يفهم من هذه الآية- هو رحلة سماوية، أرادها الله سبحانه لنبيّه الكريم، ليريه سبحانه وتعالى من آياته، ما لا تراه العيون، ولا تتظنّاه الظنون! وحدود هذه الرحلة- كما يذكر القرآن- هى: من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وزمانها، لحظة من لحظات الليل.. كما يقول سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..»
فالآية صريحة فى «الإسراء» وفى أنه كان فعلا للنبى الكريم، وأنه واقعة حقيقية، وليس رؤيا مناميّة، وإلّا لما كان له ذكر خاص فى سورة خاصة.
والذي يقف بالإسراء عند هذا الحدّ الذي قطعت به هذه الآية الكريمة، يجد أن تلك الإضافات الكثيرة، وتلك الذّيول الطويلة التي علقت بحديث(8/412)
الإسراء، ليس من معطيات الآية الكريمة، من جهة، ولا تستدعيه غاية الإسراء، ولا يحتاج إليها الكمال الذي يجب أن يكون عليه- من جهة أخرى..
فالإسراء، على ما تشهد به الآية- لم يكن- كما أشرنا من قبل- معجزة متحدية، وإنما هو- كما قلنا- رحلة روحية إلى بيت المقدس، مجمع الأنبياء، وأول قبلة للإسلام!!
دواعى هذه الرحلة:
كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قبيل الإسراء، فى وجه خصومة عنيفة ظالمة، من قومه.. يدعوهم إلى الرشاد والخير، فيلقونه بالتكذيب والبهت، وبرمونه بالسّوء والأذى.. وهو رحيم بهم، حريص على هدايتهم، تكاد تذهب نفسه حسرة عليهم، إذ يراهم يتمزقون شعبا، ويتقطعون أوصالا، بين يدى دعوته التي يدعوهم إليها..
وليس حال أدعى من هذه الحال، للخروج من هذا الجوّ الثقيل الخانق، إلى جوّ آخر، فيه راحة للصدر واسترواح للنفس! ولكن: إلى أين المذهب والنبىّ قائم على دعوة السماء، موجه برسالتها؟
إنه لا مفرّ للنبىّ- إن أراد أن يظل فى سجل الأنبياء- من أن يثبت فى موقفه، لا يزايله، ولا يتحول عنه أبدا، وإن هلك! وقد قالها رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- لعمّه أبى طالب، حين دعاه عمّه إلى أن يترك ما هو فيه، ويلقى قومه بالموادعة، حتى لا تتمزّق وحدة قريش، ويقتل بعضها بعضا، فقال قولته الخالدة: «والله يا عمّ لو وضعوا الشّمس فى يمينى ولقمر فى بسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه» !(8/413)
ولكن.. ها هى ذى الأحداث تزداد شدة، والشر يشتد اشتعالا، فتأتمر قريش فيما بينها على أن تكون جبهة واحدة فى وجه النبي، ومن يقف إلى جواره من قومه..
وقد أبت العصبية العربية على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب- رهط النبي الأدنين- أبت عليهم العصبية العربية، أن يتخلوا عن النبي، وأن يسلموه لقريش، تنال منه، وتستبد به! وكان من هذا أن عمدت قريش إلى مقاطعة بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وعقدت فيما بين بطونها وأفخاذها عهدا، على ألا يتعاملوا مع بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، فلا يزوّجوهم، ولا يتزوجوا منهم. ولا يأخذوا منهم أو يعطوهم.
بل إنها القطيعة التامة فى كل شىء بتواصل الناس به.
وقد واجه بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية، بشجاعة وصبر، وإباء، وأبوا أن يعطوا الدنيّة فى هذا الامتحان، الذي تعرف فيه معادن الرجال.. فجمع أبو طالب- عميد بنى هاشم- أهله، وانحاز بهم إلى شعب أبى طالب «1» .. واستمر هذا الحصار، نحو ثلاث سنين، بلغ بهم الجهد فيها غايته، حتى سمع أصوات صبيانهم يتضاغون جوعا من وراء الشّعب! وطبيعى أن النبي الكريم، كان خلال هذه المحنة يحمل فى نفسه كل ما لقى آل عبد المطلب، وآل هاشم، من جهد ومشقة.. فكل ما كان يقع من آلام فى محيط أفرادهم، فردا فردا، وفى جماعاتهم، أسرة أسرة، كان يقع على مشاعر
__________
(1) شعب أبى طالب: هو محلة انحاز إليها بنو هاشم مدة الحصار، فسميت بهذا الاسم.(8/414)
النبي، ويهيج خواطر الألم والإزعاج فى نفسه. قبل أن يصل إليهم.. أضعاف ما كانوا يجدون من ألم وإزعاج! ذلك أنه- وهو النبي- يألم لآلام الناس جميعا، ويود لو حملها عنهم، أو رمى بها فى مكان سحيق.. فكيف بما يقع فى نفسه من هذا، للآلام التي يراها فى أهله وذوى قرابته القائمين على نصرته؟ ثم هو من جهة أخرى، يرى أن ما نزل بأهله من آلام وشدائد، خلال تلك المحنة، إنما كان بسببه هو، وأن ذلك الذي احتملوه من أجله، لم يكن بسبب العقيدة والدّين، وإنما كان من أجل القرابة والدم. ولو كان من أجل العقيدة والدين، لهان الأمر، ولكان على أصحاب العقيدة أن يؤدّوا ضريبة الدفاع عن عقيدتهم، لقاء الثواب العظيم الذي ينتظرهم من رب العالمين! إن الآلام النفسية والروحية، بل والجسدية، التي احتملها النبي حلال تلك المحنة التي عاش فيها أهله.. كانت من أقسى ما لقى النبي فى طريق دعوته من آلام.. إنه حمل آلام أهله كلها، وإن ذهب كل منهم بنصيبه منها.. فمن أجل النبىّ احتملوا هذه التجربة القاسية، وفى سبيل حمايته، والدفاع عنه، واجهوا هذه القطيعة المرة، واحتملوا عبء هذا الحصار المحكم الظالم. ثلاث سنين!
رحلة فى العالم الأرضى:
وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه فى نفس النبي، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا.. أراد- صلوات الله وسلامه عليه- أن يلتمس له متنفسا خارج مكة، لعله يجد أعوانا على الحق، وأنصارا للخير، يستمعون له، ويستجيبون لدعوته.
كان لا بد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة، بعد أن(8/415)
لقى هو وأهله الأدنون ما لقوا من هذا البلاء الشديد، أثناء الحصار الذي ضربته عليهم قريش نحو ثلاث سنين..
ومما ضاعف من وقع الآلام فى نفس الرسول، أن سقط فى ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا.. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار، ويفسد تدبير قريش، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم، بعد أن سلّط الله عليها الأرضة فأكلتها جميعا، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم الله عز وجل- ما كادت تنتهى هذه المحنة.
حتى مات عمه أبو طالب، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر.. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة، بعد موته بثلاثة أيام!! فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء فى عمه وفى زوجه، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟
إنه كان فى أحرج مواقف الدعوة، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه، بين قريش، وبين النبي.
إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه، يغادبهم، ويراوحهم بآيات الله وكلماته، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء، ولا يلقى منهم إلا ما يكره- نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها- حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما، وتطورات خطيرة فى حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة، وسيسمع أحاديث متباينة، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات الله، وسيهجر النبي موطنه، ويهاجر إلى موطن(8/416)
آخر، وأقوام آخرين غير قومه.. وستدور معارك، وتسيل دماء، ويبتلى النبي فى نفر كريم عزيز من أصحابه، يسقطون فى هذه المعارك، وسيقوم النبي على توجيه مجتمع إسلامى ضخم، بعد أن يجيئه نصر الله، ويفتح مكة، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا! إن هذا البلاء العظيم الذي ابتلى به الرسول، هو- كما قلنا- إعداد لما سيستقبل من تلك الأحداث الكبرى، وإن هذا البلاء أشبه بعمل المحاريث والفئوس، فى شقّ الأرض، وتقليب تربتها قبل أن يلقى فيها الحبّ.. فذلك هو الذي يتيح لها الجو الصالح، لأن تعطى خير ما فيها من عناصر الإنبات، لما يلقى فيها من حبّ! نقول إنه فى هذا الجو الثقيل الخانق، الذي كان يضيق به صدر الرسول فى مكة- خرج إلى الطائف، يعرض نفسه، ويقدّم دعوته إلى «ثقيف» يلتمس منهم الاستجابة له، والنصرة لدعوته، والمنعة بهم من قومه.. وكان معه فى رحلته تلك، مولاه زيد بن حارثة! ولما انتهى الرسول الكريم إلى الطائف، عمد إلى سادة ثقيف وأشرافهم، فدعاهم إلى الله، فلم ير منهم إلا إعراضا، وسفها، وتكذيبا، واستهزاء..
وكان فيما قال له صاحب كلمتهم: «والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على الله. ما ينبغى لى أن أكلمك!!» إنها سفسطة أحمق، وضلالة ظلوم جهول! فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خيرهم، إن كان فيهم خير، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: «أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى..»
إذ كره رسول الله، أن يبلغ ذلك قومه عنه، فيغربهم ذلك به، ويدفعهم إلى(8/417)
الانتقام منه، ومضاعفة الكيد له.. ولكن القوم لم يفعلوا، وبعثوا إلى قريش من يخبرها بما كان من أمر محمد معهم، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يسفهون عليه، ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج فى رأسه! وترك الرسول الكريم- بأبى هو وأمي- الطائف على تلك الحال، وقد امتلأت نفسه أسى وحسرة، وفاض صدره، ضيقا وحزنا! ولكن إلى أين المسير؟ وهل هناك غير مكة؟ إنه على أي حال، لا يزال يمسك منها على شىء من الأمل والرجاء، ولا يزال يطمع فى خير من أهل أو صديق فيها! وقبل أن يتخذ الرسول وجهته إلى مكة، أسند ظهره إلى شجرة نائية هناك، حتى تجتمع نفسه، وتسكن خلجاته ويخف عنه بعض ما حمل من أهل ثقيف من آلام! وفى ظل هذه الشجرة، وجّه الرسول وجهه إلى ربّه، يناجيه، ويطلب العون والمدد من رحمته، فخلق قلبه بهذا النداء الدافئ العميق، وتحركت شفتاه بهذا الدعاء الندىّ العطر، المعقود بأنفاس الأمل والرجاء فى مالك الملك، ومن بيده ملكوت السماوات والأرض.. فيقول صلوات الله وسلامه عليه:
«اللهمّ.. أشكو إليك ضعف قوّتى، وقلّة حيلتى، وهو انى على الناس! «يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربى ...
«إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى «1» ؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟
«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى..
__________
(1) أي يتنكر بي. والمراد بالبعيد ثقيف، وبالعدو: قريش.(8/418)
«غير أن عافيتك أوسع لى..
«أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلّ علىّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك.
«لك العتبى حتى ترضى «1» «ولا حول ولا قوّة إلا بك..
بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق بالله، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة، اتجه الرسول إلى ربّه.. متضرعا، متوجعا، طالبا رضا ربّه ورحمته، فى صبر وحمد، على السّرّاء والضرّاء! مدد غير منتظر:
وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة، نزل منزلا بمكان يسمّى «نخلة» وقضى فيه ليلته، ثم قام فى جوف الليل يصلّى، ويتهجّد بكلمات ربّه، فصرف إليه نفر من الجنّ، فاستمعوا له، وباتوا الليل معه، دون أن يشعر بهم! ..
وفى الصّباح، وقبل أن يزابل النبىّ مكانه الذي بات فيه، تلقّى خبر السّماء فى قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..» ..
(الآيات: 29- 32) من سورة الأحقاف.
فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبىّ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن، فشاع فى كيانه الرّضا والاطمئنان.. إنه ليس وحده، وإن صوت السماء متصل به، وإن جندا
__________
(1) العتبى: ما يزيل آثار الأمر الذي استوجب العتاب أو اللوم.(8/419)
من جنود الله- لا يراهم- يحفّون به، ويستمعون إليه، ويؤمنون به، وبالكتاب الذي أنزل عليه.
ومن هذا الذي يستمع إلى كلام الله، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من «الجنّ» .. الجنّ الذي يضرب به المثل فى الخروج على كل نظام، والتأبّى على كل نداء!.
فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر فى نفوس الناس، وفى أضلّهم ضلالا، وأعتاهم عتوّا؟
ولا شك أن فى هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول الله، والتطييب لخاطره، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به فى الطائف.. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول، ويجد منه القوة على مواصلة السّير فى طريقه إلى قومه، وفى مواجهة تحدّيهم له، وعنادهم وتأبّيهم عليه!.
وعلى هذا العزم، ومع تلك القوة، مضى الرسول إلى مكة!.
ولا يجد الرسول قومه، على غير ما عرف منهم.. إنهم على هذا الضلال المبين، وعلى تلك العداوة له، والخلاف عليه.. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه، ما يشدّ عزمه، ويدفع به إلى مواجهة قومه فى مكة- فإنه ما زال فى حاجة إلى أمداد أخرى، تثبّت قدمه، وتشدّ عزمه، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد فى سماء مكة، بينه وبين قومه.
لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه، فى الأرض، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها، فكان لا بد من عالم آخر، يتزود منه بزاد روحى، يشيع فى كيانه قوى مجدّدة، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها فى هذا النضال المتصل بينه وبين قومه، حتى يحكم الله بينه وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين..
فكانت رحلة الإسراء!(8/420)
رحلة فى العالم العلوي:
وفى الإسراء إلى العالم العلوي.. يجد الرسول من آيات ربّه، ومن دلائل قدرته، وعجائب ملكوته، ما تذوب فى عباب محيطاته كل شرور العالم الأرضى وآلامه..
فلم يكن الإسراء فى صميمه، إلا رحلة روحية لرسول الله، فى عالم النور، وإلّا استدناء له إلى مواطن الرحمة واللطف.. وإن ذلك لهو الجزاء الحسن للرسول على جهاده الصّادق، فى سبيل الله، وفى قيامه على أداء الرسالة التي أرسل إليها، واحتمل ما احتمل من أجلها..
وماذا يكون للرسول من جزاء فى هذه الدنيا، على مالقى فى سبيل الدعوة من عنت وإرهاق، وما أصابه من ضرّ وأذى فى نفسه، وأهله، وصحبه؟ إن كلّ ما فى الأرض لا يقوم ببعض هذا الجزاء.. وإن الرسول الزاهد فى كل ما فى هذه الأرض، وما عليها من مال ومتاع.. فلم يكن إلا ما فى السماء، هو الذي يناسب حال الرسول، ويليق به! وقد ذكر القرآن الكريم حادثة الإسراء فى، أول سورة الإسراء..
والذي ذكره من أمر الإسراء، أنه وقع ليلا، وأن حدوده كانت من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقد وصف بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، فهو فى مكان قصىّ بالإضافة إلى المسجد الحرام.
يقول ابن إسحق فى سيرته: «وكان مسراه- صلّى الله عليه وسلّم- وما ذكر منه، بلاء وتمحيصا، وأمرا من أمر الله، فى قدرته وسلطانه.. فيه عبرة لأولى الألباب، وهدى ورحمة، وثبات لمن آمن به وصدّق، وكان من أمر الله على يقين.. فأسرى به كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين(8/421)
من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد» «1» .
وقد طلع النبىّ على قريش بهذا الخبر، وأنه أسرى به فى ليلته تلك من مكة إلى بيت المقدس، فبهتوه، وكذّبوه، وأطلقوا ألسنتهم بالقول السيّء فيه.. وقال قائلهم: «هذا والله الإمر «2» ، والله إن العير لتطّرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة.. أفيذهب محمد فى ليلة واحدة ويعود إلى مكة» ؟
ولم يقف الأمر عند كفّار قريش، بل تجاوزهم إلى ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، فارتدّوا عن الإسلام، وارتابوا..
وتحدّث الروايات أن الكفار ذهبوا إلى أبى بكر- رضى الله عنه- لعلهم يجدون عنده ما وجدوا عند ضعاف الإيمان، فقالوا له: «هل لك يا أبا بكر فى صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلّى فيه، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: أنتم تكذبون عليه؟ فقالوا: ها هو ذا فى المسجد يحدّث به الناس! فقال أبو بكر: «لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟
فو الله إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه.. فهذا أبعد مما تعجبون منه «3» » .
ونحن نشكّ فى هذه الرواية.. فما كان أبو بكر بالذي يخفى عليه شىء من أمر النبىّ، حتى يعلمه كفار قريش قبل أن يعلمه، وما كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يحدث بهذا الخبر العجيب قبل أن يلقى به أبا بكر، وهو الذي كان أشبه بظلّ رسول الله، لا يفارقه أبدا!
__________
(1) السيرة لابن هشام: جزء 2 ص 2.
(2) الإمر بالكسر- الأمر العظيم فى شناعته: «لقد جئت شيئا إمرا»
(3) زاد المعاد جزء 2 والسيرة لابن هشام جزء 2 ص 4.(8/422)
ونعود إلى «الإسراء» فنقول- كما قلنا من قبل- إنه كان شأنا خاصّا بالنبيّ، ورحلة روحيّة فى الملأ الأعلى، أرادها الله سبحانه وتعالى له، ليشرح بها صدره، وينعش بها روحه، ويذهب بها ما ألمّ به من ضيق وحزن، بموت عمّه، وزوجه، وبتألّب قريش عليه، وعلى آله، وبما لقى من أهل الطائف من لقاء بارد ثقيل، وردّ سمج قبيح.
وفى حدود هذا المعنى ينبغى أن نقيم نظرتنا إلى الإسراء.. فهو بهذا المعنى، ليس معجزة للتحدّى، تقف من الناس موقف التعجيز لهم، والتحدّى بالإتيان بمثلها، وإنما هى إخبار بأمر شهده الرسول وحده.. فإذا حدّث به كان حديثه الصدق كلّه، لا ينبغى لمن آمن بأنه نبىّ أن يكذّبه، أو يشك فى شىء مما يقول..
إنه أمين السّماء.. لا يكذب أبدا.. هذا مبدأ يجب أن يسلم به كل من يدخل فى هذا الدين، ويؤمن بالله ورسوله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (7: الحشر) .
إن حديث الإسراء اختبار عملىّ لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله، لا يكون إيمانه إيمانا حقّا، حتى يؤمن برسوله، ولا يكون مؤمنا برسوله حتى يصدّق كل قول يقوله، ويسلّم به، قبل أن ينظر فيه، أو يعرضه على عقله.. وإن كان ذلك لا يمنعه من أن ينظر بعد هذا فى قول الرسول، وأن يعرضه على عقله فذاك نظر غايته الفهم والإدراك لمرامى قول الرسول والعمل به..
فهذه آيات الله التي كانت تنزل على الرسول الكريم، إنها لم يقم عليها شاهد بأنها كلام الله، إلّا إيمان المؤمنين به، بأنه رسول من عند الله، وإن كان فى آيات الله ذاتها ما يحدث عن إعجازها، وأنها ليست من قول بشر.. ولكن هذا لا يعرف إلا بعد نظر فى وجه آيات القرآن، واستعراض ما فيها من قوى الحق، وشواهد الإعجاز!(8/423)
هذا ما ينبغى أن نقف عنده من حديث الإسراء، فإذا كان لنا أن نمدّ النظر إلى ماوراء هذا، فهو ما جاء من ذكر المسجد الأقصى، وجعله معلما من معالم الإسلام، يناظر المسجد الحرام.. وفى هذا، ما يصل مشاعر المسلمين بهذين المسجدين، ويجعلهما معا آيتين من آيات الله فى الأرض، يستظلّ المسلمون بظلهما، ويقومون على عمارتهما وتأمين السّبل إليهما.. وهذا لا يكون إلا إذا كان هذان المسجدان داخل دار الإسلام، وتحت يد المسلمين، الأمر الذي يكشف عن وجه من وجوه إعجاز القرآن، فى إخباره بالغيب، الذي لم يكن يقع لنظر أحد من المسلمين يومذاك، أو يدور فى خواطرهم..
وقد مكّن الله للمسلمين من المسجد الأقصى، ودخل هو وما حوله فى دار الإسلام، منذ خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم، وإلى يوم الدين.. وإنه على رغم ما بذل أعداء الإسلام من جهود فى إخراج هذا البيت من يد المسلمين- فإنه لا يلبث أن يعود إليهم، كما يعود إليهم، كما يعود المسافر إلى أهله، بعد رحلة، قد تطول وقد تقصر! ونحن نكتب هذا، فى سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة (1969 من الميلاد) وبيت المقدس فى يد اليهود، منذ عامين تقريبا، اليهود الذين عملوا لذلك من قبل ظهور الإسلام يوم كانوا خاضعين لحكم الرومان، ثم عملوا له بعد الإسلام، فأشعلوا الفتن، وأقاموا الحروب، وأغروا النصارى بالمسلمين، حتى وقع الشر بينهم فى تلك الحروب التي اتصلت نحو قرنين، والتي عرفت بالحروب الصليبية..
- كل هذا ليجد اليهود فرصتهم إلى هذا البيت الحرام، وها هم أولاء قد وجدوها اليوم، مستعينين بأموالهم، وسلطانهم على أمريكا، التي ساندتهم، ووقفت وراءهم، وأمدتهم بالعتاد والرجال والأموال..
ولا ندرى السبيل الذي نستردّ به هذا البيت.. أهو بالحرب أم بالسلم،(8/424)
ولكن الذي ندريه ونستيقنه، هو أن هذا البيت لا بد أن يعود للمسلمين، وأن يدخل فى دولة الإسلام، وأن غربته فى يد اليهود ستنتهى حتما، ويعود الغريب إلى أهله.. إن شاء الله..
هذا عن الإسراء..
أما المعراج، فإن حديثه يطول.. ولكنّا سنكتفى بلمحات نشير بها إليه، لنكشف عن تلك المقولات التي قيلت فيه.. بلا حساب، ولا تقدير، حتى اشتبه فيه الحق بالباطل، وغلب فيه الخيال على الواقع.
قصّة المعراج:
والمراد بالمعراج، هو عروج النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أي صعوده إلى السماء، من بيت المقدس بعد أن أسرى به إليه..
والآيات التي يستند إليها الذين يصورون حديث المعراج هى ما جاء فى أول سورة النجم فى قوله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» .
وهذه الآيات محتملة لكثير من التأويلات، بحيث لا يرى فيها المعراج إلّا بعد جهد، وطول نظر، ومن خلال ثقب ضيق جدّا.. وذلك ليكون(8/425)
المعراج فى حدود هذا الإطار، الذي يومأ فيه إليه إيماء، ولا يتحدّث عما احتواه من أسرار وعجائب، لم يطلع عليها إلا الرسول وحده، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..!
وقد رويت عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، فى بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت الله، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورا ويقينا! وليس فى هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة.
ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، فى هذه القصة، دور كبير فى دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال فى هذا العالم العلوى، وفى المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به..
وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى فى حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى- عليهما الصلاة والسلام- وأن موسى سأل النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- عما افترض الله على أمّته من الصلاة، فلما قال النبىّ لموسى: إنها خمسون صلاة افترضها الله سبحانة وتعالى على المسلمين فى اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك» .. ثم تقول الرواية: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف فاستجاب له ربّه فجعلها أربعين، فلما عاد النبىّ إلى موسى وأخبره بما خفف الله سبحانه وتعالى من(8/426)
الخمسين إلى الأربعين- قال موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.. ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبىّ ما زال يراجع ربه، فيخفف عنه، ثم يعود إلى موسى فيطلب منه أن يسأل زيادة فى التخفيف.. فكانت ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرة.. ثم خمسة..
وعندها قال النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لموسى: «لقد استحيت من ربى» ..!! وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسا فى العمل وخمسين فى الأجر!!.
هذه الرواية تشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة.. هذا، إذا جعلنا فى اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه، إذ كانوا ينكرون نبوّة النبىّ أصلا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث، هذا الأثر الذي أشرنا إليه! وثانيا: ما وجه الحكمة فى أن يكون من تدبير الله سبحانه وتعالى أن تجىء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات!! والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة فى أن يغدو النبىّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟
ألا غدوة وروحة واحدة تكفى إن كان لا بد من هذا؟.
إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة فى هذا، فيجعل من تمام الرواية: «أنها خمس فى العمل وخمسون فى الأجر» !!(8/427)
وهذا الذي جعله واضع الرواية وجها داعيا إلى قبولها، هو فى الواقع الوجه الذي يكشف عن ردّها.. إذ ليست الصلاة وحدها هى التي تختص بهذه المزية فى اعتبار الصلاة بعشر صلوات، بل إن كل الأعمال الطيبة توزن عند الله سبحانه وتعالى بهذا الميزان، كما يقول سبحانه وتعالى: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» .
هذا، وقد فصّل القاضي «عياض» فى كتابه «الشفا» ، مذاهب القول فى الإسراء والمعراج.. وهل كان مع الإسراء معراج؟ وهل كان الإسراء بالروح وحده؟ أو بالروح والجسد معا؟
يقول القاضي عياض:
«اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراؤه- عليه الصلاة والسلام- بروحه أو جسده.. على ثلاث مقالات:
1- فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء حق، ووحي.. وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن (البصري) - والمشهور عنه خلافه- وإليه أشار محمد بن إسحاق.. وحجتهم قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» وما حكوه عن عائشة رضى الله عنها من قولها: «ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
2- «وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة..
وهذا هو الحق. وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حية البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.. وهو قول الطبري،(8/428)
وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين.. وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدّثين، والمتكلمين، والمفسرين.
3- وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة، إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلّى الله عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه.. قال هؤلاء: «ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد عن المسجد الأقصى، لذكره، فيكون أبلغ فى المدح.»
وبعد أن انتهى القاضي عياض من عرض هذه الآراء، عرض رأيه هو، فرجح جانب القول بأن الإسراء كان بالروح والجسد معا.. فقال:
«والحق من هذا، والصحيح إن شاء الله، أنه إسراء بالروح والجسد فى القصة كلها- أي الإسراء والمعراج- وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار ...
ثم يقول: «وليس فى الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: «بروح عبده» ولم يقل «بعبده» وقوله تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» .. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به.. إذ مثل هذه المنامات لا ينكر.. بل لم يكن ذلك الإنكار منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه، وحال يقظته.»
وممن قال بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا.. البيضاوي فى تفسيره، وقد أراد أن يخرج هذا الرأى على أسلوب البحث العلمي، وأنه من الممكنات التي لا ينكرها العلم.. يقول البيضاوي: «والأكثر- أي من آراء العلماء-(8/429)
أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجّب قريش واستحالوه.»
ثم يقول: «والاستحالة مدفوعة بما ثبت فى الهندسة أن ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها- الشمس- الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى فى أقل من ثانية!! وقد برهن فى الكلام أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض، وأن الله سبحانه قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فى بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات.»
والذي نقف عنده من كلام البيضاوي هنا قوله: «وقد برهن فى الكلام أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض» .. وهذا يعنى أن الأجسام جميعها ترجع إلى أصل واحد، وأن هذا الأصل قابل لجميع الأعراض التي تقبلها الأجسام، بمعنى أن المادة التي شكل منها كائن ما، قابلة لأن يشكل منها كائن آخر مخالف له، مع اختلاف فى نسب الأجزاء التي يتكون منها الكائن وفى أوضاع هذه الأجزاء، بل إن ذلك نفسه واقع فى أجزاء الكائن الواحد..
فالعين مثلا هى من نفس المادة التي تخلّق منها الأنف، أو الكبد أو القلب، أو الشعر.. فكلها جميعا ترجع إلى ما عرف اليوم باسم «الذرّة» أو ما كان يعرف قديما بالجوهر الفرد.. فمن كتل الذرات تتكون الأجسام، ومن الاختلاف فى بناء الذرات، وترتيب أوضاعها، تظهر الأجسام فى صورها وأشكالها..
وهذا ما فهمه البيضاوي وقرّره فى قوله: «إن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض» يعنى أنه من الممكن أن يتحلل جسم الإنسان- مثلا- إلى ذرات فيصبح كائنا لطيفا غير مرئى، ثم يعاد تركيبه إلى وضعه الأصلى، فيكون جسدا(8/430)
كثيفا كما كان.. كل ذلك فى لحظة خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب، دون أن يخرج الجسد عن سلطان «الروح» فى حالى تحليله أو تركيبه..! وذلك هو الإعجاز أو المعجزة التي تظهر من انتقال النبي الكريم بجسده الشريف إلى المسجد الأقصى، أو العروج به إلى السماء فى طرفة عين! ونعود بعد هذا، فنقول: إن الخلاف فى أن الإسراء والمعراج، كان بالجسد، وبالروح، خلاف لا يؤثر فى حقيقة الإسراء، وما نال الرسول الكريم فيه من ألطاف ربه، وما رأى من آياته.. وإن قدرة الله سبحانه وتعالى لا تتقيد بتلك القيود التي تحكمها الضرورات البشرية، وخير من هذا الخلاف الذي يذهب بجلال الإسراء، ويعبث بالستر الخفىّ الملقى عليه من عالم الروح- خير من هذا أن ننظر إلى الرسول الكريم فى موكب جلاله وعظمته، تحفّ به ألطاف ربه، وتحدوه رعايته، إلى حيث يسبح فى عالم الحق، ويطعم بروحه من طيبات الملأ الأعلى..
أما أن نجسّد العالم العلوىّ، ونحيله إلى أشياء من عالم التراب الذي نعيش فيه، فذلك مما يهوّن من خطر الإسراء والمعراج، ويزرى بقدرهما، ويبخس من قيمتهما..
إن الذي يطالع قصة الإسراء والمعراج، على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضها كتب السيرة، والتفسير، ليموت فى نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية، التي كان خليقا أن يثيرها فيه حديث الإسراء والمعراج، لو أزيح من طريقه هذا الركام الكثير من العوائق والسدود.. ولا تنخدع لتلك الأصباغ الساذجة التي يلطخ بها القصاص وجه الحقائق المادية، ليحعلوا لها بتلك الأصباغ وجها تدخل به إلى العالم العلوىّ.. فإن هذا «المكياج»(8/431)
المصطنع يجعل منها مسخا أكثر منها حقيقة..
فالبراق مثلا.. الذي يأخذ فى حديث «الإسراء» لونا بارزا صارخا- والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي- هذا البراق ليس إلا «أتانا» ركب عليه جناحان من ريش، فصار أشبه بلعبة من لعب الأطفال التي يؤلفونها من حطام بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم..!
ثم هذا الحجر الذي يشدّ إليه الأنبياء دوابهم عند المسجد الأقصى، وتلك الحلقات المغروسة فى هذا الحجر لتمسك المقاود واللّجم- إنها جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كان يجدها المرء فى نفسه لو أزاح هذا الحجر من طريقها، وانزاحت معه اللّجم والمقاود والسروج وغيرها، مما يكون فى مرابط الحيوان! وعلى أىّ فإن الإسراء، على أية صورة وقع، لم يكن فيه ما يخرج النبىّ الكريم عن بشريّته، ويباعد ما بينه وبين الإنسان الذي هو «محمد» ..
فقد عاد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعد الإسراء، ولقى قومه مؤمنين، وكافرين، فلم ينكر أحد من أمره شيئا مما كان يعهد فيه.. حتى إن أعداءه أنفسهم لم يجدوا عليه أمارة من أمارات هذه الرحلة المباركة..
فإن خيرها كلّه كان مخبوءا فى كيانه، منطويا فى صدره، ساريا فى روحه..
إنه شأن من شأن الله مع نبيّه، وزاد روحىّ زوّده به ربّه، تكريما له، وترويحا عن كيانه المجهد المكدود.
وحديث المسلمين عن الإسراء، ينبغى أن يكون حمدا لله، وتنزيها له، وثناء عليه، أن أنزل نبيّهم هذا المنزل الكريم، ورفعه إلى هذا المقام العظيم،(8/432)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
وأفاض عليه ما أفاض من ألطافه ومننه.. وهذا ما يدعونا إليه الله سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه:
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» أي فسبّحوا الله واحمدوا له، أن أسرى بعبده محمدا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن أراه من آياته وأسبغ عليه من آلائه، ما هو أهل له عند ربّه «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
الآيتان: (2- 3) [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
التفسير:
مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما، هى أنه لما كانت الآية السابقة التي افتتحت بها السورة، قد ذكرت تلك النعمة العظمى التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على النبىّ، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فى تلك الرحلة العجيبة، التي رأى فيها ما رأى من آيات ربّه- فناسب ذلك أن يجىء ذكر النعم التي أنعم الله بها على عباده.. ولما كان أجلّ تلك النعم وأعظمها إرسال الرسل إلى الناس، يحملون إليهم هدى الله، ويدعونهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، ولما كانت التوراة التي نزلت على موسى، هى الشريعة القائمة عند أهل الكتاب المعاصرين للنبوّة- من يهود ونصارى-(8/433)
فقد كان ذكر موسى.. والكتاب الذي أنزل عليه، أقرب وأولى ما يذكر فى هذا المقام.. ولهذا جاء قوله تعالى:
«وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» .
فهذه الآية معطوفة على ما قبلها. والتقدير: سبّحوا- أيها الناس- ربّكم الذي أسرى بعبده محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والذي آبى موسى الكتاب وجعله هدى لبنى إسرائيل، فوجب عليهم أن يشكروا الله، وأن يأخذوا حظهم من هذا الهدى الذي جاءهم به رسول الله، وألا يتخذوا من دون الله وكيلا يتعاملون معه، ويسندون إليه أمورهم، ويجعلون عليه معتمدهم! ..
[الحقيقة المحمّدية.. وما يقال فيها]
ونلمح فى هذا العطف سرّا لطيفا، تشّع منه دلالات تشير إلى مقام النبي الكريم، ومنزلته عند ربّه، وأنه صلّى الله عليه وسلّم، هو هدى فى ذاته وشخصه، يقابل الهدى الذي حملته التوراة إلى بنى إسرائيل! فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى من آيات ربّه الكبرى فى إسرائه ومعراجه، وما حمل فى كيانه من معالم الحق فى هذه الليلة المباركة- قد أصبح هو فى ذاته كتابا من كتب الله، ورسالة من رسالاته، يجد فيها أولوا البصائر للشرقة، وأصحاب القلوب السليمة، ما يجد المؤمنون بالله، فى آياته وكلماته من هدى ونور.. وهذا ما يحدّث به الحديث الشريف: «أنا رحمة مهداة» ..
فالنبىّ الكريم فى ذاته، هو رحمة، بما نطق به من كلماته، وبما استملى الناس من سيرته، وبما اقتبسوا من أدبه وعلمه وحكمته..(8/434)
وإنّا لنجد مصداق هذا، فى هذا المجتمع الإسلامى الأول الذي أقامه الرسول الكريم، واستنبته من جدب الصحراء وقفرها، وأطلعه من غياهب ظلامها، وضلالها.. وذلك بما حمل إلى الناس من كلمات الله، وبما أراهم من آثار كلمات الله فيه، وتربيته له سبحانه وتعالى على منهجها، فكان إنسانا يقرأ الناس فى سيرته- قولا وعملا- منطوق كلمات الله ومفهومها، كما تحدّث السيدة عائشة رضى الله عنها، فتصف خلقه عليه الصلاة والسلام بقولها: «كان خلقه القرآن» .
فما أعظمه من إنسان! وما أكرمه من رسول! وما أعلى مقامه فى العالمين! وأحبّ هنا أن أقف وقفة قصيرة مع تلك المقولة التي تقال وتذاع بين المسلمين، فيما يعرف عند أصحابها «بالحقيقة المحمدية» .
فالذين يستمعون من المسلمين إلى هذا العنوان: «الحقيقة المحمدية» وما يجىء وراء هذا العنوان من حديث عن هذه الحقيقة، قد يجدون فى صدورهم حرجا من أن يدفعوا عن هذه الحقيقة تلك الدعاوى التي يدّعيها عليها القائلون بها، والتي يصوّرون فيها النبىّ الكريم هذا التصوير العجيب، الذي يقطعه عن العالم البشرى، بما يضيفون إليه من صفات وأعمال، لا تقتضيها طبيعة البشر، ولا تثقل بها موازينه فى المصطفين من عباد الله.!
إنها مقولات كثيرة مغرقة فى الخيال، تضفى على ذات النبىّ أثوابا فضفاضة- بل مهلهلة- من نسيج الوهم، ومن واردات الخرافة، يحسب بها أصحابها- عن إيمان، أو عن كيد- أنّهم إنما يمجّدون النبىّ، ويفردونه وحده بتلك المنزلة التي تتقطع دونها الأوهام والظنون! ومن هنا، كان خطر هذه المقولات وأثرها داهما مزلزلا، فى المجتمع الإسلامى،(8/435)
إذ هى مقولات- كما قلنا- يجد كثير من المسلمين حرجا فى دفعها، والوقوف لها.. لأنها كلّها- كما تبدو فى ظاهرها- تمجيد فى مقام النبىّ، وإعلاء لقدره، وإنه لأحبّ شىء عند المؤمن أن يمجّد مقام النبىّ، وأن يعلى قدره! وإنه لا حرج فى هذا المقام من المبالغة والغلوّ.. فذلك خير، والمبالغة فى الخير خير!! هكذا يلقى كثير من المسلمين تلك المقولات التي تقال فى «الحقيقة المحمدية» .. حيث يستقبلها المسلم بمشاعره، فيجد فيها ريحا طيبة، تحدّث عن مقام النبوة، وكمالها، فتتخدّر لذلك مشاعره، وتغيب مدركاته، وإذا هو مهيأ لقبول كل ما يقال فى هذا المقام.. فإذا صحا بعد هذا، وجد كلمات كثيرة قد علقت بصدره، ودارت فى كيانه، تحدّث عن النبىّ بأنه النّور الذي خلق منه هذا الوجود، وأنه الرّوح العظمى التي سرت فى هذه الكائنات.. وأنه لولاه- صلّى الله عليه وسلّم- ما خلق الله هذا الوجود، ولما كانت أرض ولا سماء، ولا شمس ولا قمر، ولا كواكب ولا نجوم، ولا ملائكة ولا لوح ولا قلم! إلى غير ذلك من المقولات التي تقال فى «الحقيقة المحمدية» ! مما لا مستند له من كتاب، أو سنّة، أو عقل..
فالقرآن الكريم، يقرر فى مواضع كثيرة منه أن «محمدا» بشر من رأسه إلى أخمص قدمه..
فيقول سبحانه وتعالى، آمرا نبيّه الكريم أن يعلن الناس به: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» (110: الكهف) ويقول سبحانه: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» (9: الأحقاف) .
فهو- صلوات الله وسلامه عليه- فى الناس، واحد من النّاس.. وهو-(8/436)
صلوات الله وسلامه عليه- فى الرسل، واحد من الرسل، ليس بدعا من بينهم! فماذا يقول القرآن أصرح من هذا القول، فى تحديد صفة النبىّ، وأنه بشر لم تتخلّ عنه بشريته، ولم يخرج هو عن بشريته بحال أبدا؟
ثم ماذا يقول النبىّ عن نفسه أكثر وأوضح من هذا القول الذي أمره به ربّه أن يقوله، حتى يدفع عن نفسه ما ليس له، مما يقوله عليه من يقولون من المغالين فيه، هذا الغلوّ، الذي هو وقول المتطاولين على مقامه- سفاهة وجهلا- والمتنقّصين لقدره- افتراء وكذبا على سواء؟
بل وماذا يقول النبىّ أكثر وأصرح من قوله: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد» - حتى يمسك هؤلاء المغالون فيه على طريق قاصد مستقيم فى شأنه؟
يتكىء القائلون بالحقيقة المحمدية، وبالصفات التي يوردونها عليها- يتكئون على حديث يروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، هو قوله: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين، وكنت نبيّا ولا آدم ولا الطين» .. ويتخذون من هذا منطلقا ينطلقون به إلى اصطياد كل واردة وشاردة.. فلقد فتح عليهم هذا القول الذي يفهم منه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان نبيّا قبل أن يخلق آدم- نقول فتح عليهم هذا القول بابا بل أبوابا يلجون منها إلى اصطياد المقولات التي تتخذ من هذا المفهوم منطلقا إلى كل قريب وبعيد، وإلى كل معقول وغير معقول، حتى لقد اجتمع للقوم من هذا، ما تسمع من تلك المقولات التي لا تنتهى، ولا ينتهى حديث أصحابها عنها! ولا نعرض لصحة هذا الحديث، ولا لمكانه من القوة أو الضعف..
بل نأخذه مسلّمين به، قائلين بصحته.. سندا، ومتنا!(8/437)
فماذا فى هذا الحديث؟ بل ماذا وراءه مما يسر أو يعلن من الحقيقة المحمدية؟
ولكن قبل أن نجيب على هذا، نسأل القائلين بالحقيقة المحمدية عن معنى منطوق الحديث: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين.. وكنت نبيا ولا آدم ولا الطين! ..»
أين كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه قبل آدم؟
يقولون فيما يقولون: إنه كان درة أو ياقوتة فى العرش! ونقول لهم بما يقوله الله سبحانه وتعالى فى المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ.. وَيُسْئَلُونَ» (19: الزخرف) أفشهد هؤلاء القائلون بتلك المقولة- أشهدوا خلق محمد؟
ثم نسأل، هؤلاء القائلين بالحقيقة المحمدية: أين كان «محمد» قبل أن يولد لأبويه: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب؟» يقولون إنه ما زال منذ آدم يتنقل من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة إلى أن ولد! ونقول: إنّ كل إنسان تنقّل منذ آدم من الأصلاب، إلى الأرحام، حتى انتقل من صلب أبيه إلى رحم أمّه.. فماذا فى هذا؟
والحديث الذي يقول: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين ... » إن صحّ- فإنه لا يخرج عن هذا المعنى، الذي فهمناه عليه. إذ تنقّل ويتنقل الناس جميعا فى أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات! فالحديث- إن صحّ- يشير بهذا إلى تلك الحقيقة التي يؤمن بها المؤمنون بالله، وهى أن علم الله سبحانه وتعالى، قد وسع كل شىء، وأن هذه الموجودات كلها، فى ملكوت السموات والأرض، هى فى علم الله سبحانه وتعالى، وأنها فى كتاب مكنون، كما يقول سبحانه جلّ شأنه: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ(8/438)
إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ»
(75: النمل) وكما يقول تبارك وتعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22: الحديد) .
فالذى يفهم من هذا الحديث- إن صحّ- أنه يحدّث عن علم الله سبحانه وتعالى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان فى علم الله نبيا قبل أن يخلق آدم، ويتحقق له وجود على هذه الأرض.. وليس هذا شأن النبي وحده، بل هو شأن كل مخلوق، إذ كان فى علم الله على تلك الصفة التي جاء، أو يجىء عليها، قبل أن يخلق آدم، بل وقبل أن يخلق أي مخلوق فى السموات والأرض.. إذ قبل الخلق، كان العلم، وفى مستودعات هذا العلم كانت المخلوقات جميعها، قبل أن تخلق وتبرز من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وعلى هذا، فلك أن تقول كنت جالسا على هذا الكرسي الذي أجلس عليه، أو نائما فى هذا المكان الذي أنام فيه، أو آكلا من هذا الطعام الذي آكل منه. إلى غير ذلك مما أنت فيه من شئونك وأحوالك- لك أن تقول: «كنت على هذه الحال، أو على هذا الشأن، وآدم بين الماء والطين، وكنت على تلك الحال وهذه الشأن ولا آدم ولا الطين..» !!
وبعد، فإن الحقيقة المحمدية ليست هى تلك الصورة المشوهة المضطربة التي تتراقص فى عالم الخيالات والأوهام، والتي تسبح فى سموات من الدخان والضباب.. وإنما هى تلك الحقيقة التي عاشت فى هذه الدنيا، فكانت نورا هاديا، وسراجا منيرا، يجلّى غياهب الظلمات، ويكشف للناس الطريق إلى الله، وإلى الحق، والخير.. ذلك هو محمد رسول الله، كما ينبغى أن يراه المسلم، وذلك هو «محمد» رسول الله، كما وصفه ربه جلّ وعلا: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ(8/439)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً»
(45- 46: الأحزاب) .
ثم لينظر أولئك الذين يتحدثون عن «الحقيقة المحمدية» هذا الحديث الأسطورىّ.. فهل يجدون للنبىّ فى دخان هذا الحديث، وجودا؟ وهل يحققون له ذاتا؟
إنهم قد يقولون: إنا نراه بعيون غير عيونكم، وبقلوب غير قلوبكم، وبمشاعر وأحاسيس غير مشاعركم وأحاسيسكم!! ونقول لهم: إننا لسنا من عالم الملائكة، ولا من عالم الشياطين.. إننا بشر مثلكم نعيش على هذه الأرض.. ننظر بعيون بشرية، ونتعامل بقلوب إنسانية، ونعيش بمشاعر وأحاسيس آدمية! وبهذا الكيان البشرى نرى محمدا، ونتعامل معه، ونوليه قدره من الحب والاحترام والإجلال، ونتخذه إمامنا وقدوتنا، ونصلّى عليه، ونطلب له المزيد من الدرجات العلا عند ربه..!
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (110: الكهف) إننا لم نلتق بمحمد إلا على أنه إنسان، نعرفه، ونعرف أصوله وفروعه، وقد عاش بيننا أربعين سنة من عمره لم يكن فيه ولا له إلّا ما فى الناس، وإلا لما للناس، حتى إذا شرّفه الله سبحانه وتعالى بالرسالة، أصبح بهذا التشريف رسولا من رب العالمين، شأن رسل الله جميعا.. وهذه الرسالة لم تغير من بشريته شيئا، ولو كان شىء من ذلك لما أنكرت عليه قريش أن يكون بشرا ثم يكون رسولا.. وفى هذا يقول الله على لسانهم، هذا القول الذي ينكرون فيه على الرسول رسالته: «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟» . (94: الإسراء) فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، رسولا من أنفسنا، ورحمة وهدى للعالمين.(8/440)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
قوله تعالى: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» .
الذرية: أي النسل، الذي تناسل من نوح وأبنائه، وهى فعلية، من الذّرء، وهو الخلق.. وأصلها: ذرئية.
أي أن بنى إسرائيل هؤلاء، هم من أبناء وذرارى البقية الباقية من قوم نوح، الذين آمنوا معه، وحملوا فى السفينة، ونجوا من الغرق..
وفى وصف بنى إسرائيل بهذه الصفة إلفات لهم إلى أنهم من ذرية قوم مؤمنين، نجّاهم الله بإيمانهم من الغرق الذي حلّ بإخوانهم الكافرين..
وإذن، فخروج بنى إسرائيل من الإيمان الذي كان عليه آباؤهم الأولون، وعودتهم إلى الكفر الذي كان عليه إخوان آبائهم هؤلاء- هو تضييع لهذا الميراث الكريم الذي تركه لهم آباؤهم، ثم هو عدوان على الله، وتعرّض لنقمته، كما انتقم من عمومتهم، فأغرقهم واجتثّ أصولهم.
وقد نصب «ذرية» على الاختصاص، وقيل نصب بالنداء، أي يا ذرية من حمل الله سبحانه، مع نوح..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» تحريض لبنى إسرائيل على أن يلحقوا بنوح، ويتأسّوا به، ويشكروا الله أن بعث فيهم رسولا، وأنزل معه كتابا يهديهم ويبين لهم طريق الحق!
الآيات: (4- 7) [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 7]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)(8/441)
التفسير:
قضينا: أي أوجبنا، وقدّرنا، وحكمنا..
فهذا هو ما حكم الله سبحانه به، على بنى إسرائيل، وقضاه عليهم..
[بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة]
فقد حكم الله سبحانه وتعالى عليهم: أن يفسدوا فى الأرض مرتين [وهو قضاء لا مردّ له] ولهذا جاء الفعل مؤكدا: «لتفسدنّ» .. فكأنه أمر لهم بأن يفسدوا- وذلك لأنهم واقعون تحت هذا القضاء الذي لا يردّ، حتى لكأنهم مأمورون به! وهذا من ابتلاء الله لهم، وغضبه عليهم، لما سبق فى علمه- جل شأنه- من أنهم لن يستقيموا على هدى، ولن يسكنوا إلى عافية! والفساد الذي ينضح من كيان بنى إسرائيل، هو فساد يجىء عن بطر وكبر، وكفر بنعم الله التي يفيضها عليهم، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» معطوفا على هذا الفساد، مؤكدا لتأكيده، حيث أنه كائن منه، ومتولد من كيانه.. فهو علوّ فاسد، نتاج غرس فاسد. فهم إنما يفسدون حين يمكن الله لهم فى الأرض، ويفيض عليهم الكثير من نعمه، وعندئذ يستبدّ(8/442)
بهم الغرور، ويستولى عليهم الأشر والبطر، شأن أصحاب النفوس النكدة، والقلوب المريضة، إذا مستها رحمة من رحمات الله، مكرت بها، وأحالتها فى كيانها شرّا وبلاء، تتغدى منه، وتلقى بثمره النكد إلى كل ما حولها..
كالأرض الملح، ينزل عليها الغيث، فتتحول إلى برك ومستنقعات، لا تفوح منها إلا الروائح العفنة، ولا يتحرك على صدرها إلا الهوامّ والحشرات! وفى قوله تعالى: «فى الكتاب» إشارة إلى أن ما قضى الله به فى بنى إسرائيل، وألزمهم إياه- هو مما فى كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ.. وفى هذا توكيد لهذا القضاء المبرم، المكتوب، وأنه لا مفرّ منه..
هذا، ويرى «الزمخشري» أن المراد بالكتاب هو «التوراة» متابعا فى هذا من سبقه من المفسرين، وقد تبعه على هذا الرأى من جاء بعده..! وقليل من المفسرين من قال بأن الكتاب هو «اللوح المحفوظ» باعتبار أن ذلك رأى مرجوح..
والذي نقول به، هو أن المراد بالكتاب، هو الكتاب المسطور، وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» وهذا هو الأنسب والأولى فى هذا المقام.. وذلك لأمرين:
أولهما: أن الله سبحانه وتعالى قد وصف الكتاب الذي جاء به موسى- وهو التوراة- بأنه هدى لبنى إسرائيل.. وليس يتفق مع هذا الوصف أن يحمل إليهم هذا الكتاب دعوة إلى الإفساد والتحبّر فى الأرض! أما ما فى كتاب الله المسطور، فهو قدر مقدور لهم، خفى عليهم أمره.. شأنهم فى هذا شأن ما قدّر على الناس من أقدار.. فهم- والحال كذلك- مدعوّون إلى الهدى، بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى، ثم هم- مع هذا- واقعون تحت هذا القضاء الذي حجبه الله عنهم!!(8/443)
فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- مطالبون بدعوة الناس إلى الله، ومدّ أيديهم إليهم بالهدى الذي معهم والناس مطالبون بأن يقبلوا على هذه الدعوة، وأن يستجيبوا لها. ثم ينجلى الموقف آخر الأمر، عن مؤمنين آمنوا بالله، وانتفعوا بهذا الهدى، وعن كافرين، كفروا بالله، ولم يأخذوا بحظهم من هدى الله.. وكلا الفريقين- من مؤمنين وكافرين- أخذ الطريق الذي رسمه له القدر، دون أن ينكشف له ما قدّر الله عليه، ولا أن يجد فى نفسه أنه مقهور تحت سلطان هذا القدر، وإنما هو مطلق العنان، يأخذ الطريق الذي قدّره هو، ورآه هو.. وهو عين ما قدره الله، وقضى به! وثانيهما: أنه لو حملت التوراة إلى بنى إسرائيل هذا القضاء المقضى به عليهم، فى صورة الأمر أو فى صورة الخبر.. لكان ذلك مما يسقط التكليف عنهم، إذ يضعهم تحت أمر نافذ لاسلطان لهم عليه، ولا قدرة معهم لدفعه، وتعالت حكمة الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا..
أما ما أنذر الله سبحانه وتعالى، به بنى إسرائيل من سوء، وما رماهم به من لعنة، وما أخذهم به من مسخ، فقد كان ذلك واقعا على جماعات منهم، بحيث يبقى بعد ذلك بقية منهم خارجة عن هذا الحكم.. وتلك البقية هى متعلق أنظار القوم جميعا، بحيث يرى كل واحد منهم أنه فى غير الملعونين، والممسوخين، وإن كان- فيما قدّر عليه- فى الصميم منهم! - وفى قوله تعالى: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ» خبر محقق بأن الإفساد الذي يقع من القوم سيكون «مرّتين» يقعان على امتداد حياة بنى إسرائيل فى هذه الأرض..
وقد اختلف فى الزّمن الذي يقع فيه هذا الفساد فى كلّ مرة من المرتين، وهل وقعت هاتان المرتان أو لم تقعا بعد؟ أم وقعت إحداهما ولم تقع الأخرى؟(8/444)
والذي عليه أكثر المفسّرين أن هاتين المرتين قد وقعتا بالفعل، وأن إحداهما كانت عند الأسر البابلىّ، على يد بختنصّر، الذي استولى على دولة بنى إسرائيل ودمرها تدميرا، وهدم بيت المقدس، وساق القوم أسرى إلى «بابل» ..
وأما المرة الثانية، فكانت بعد أن قتلوا النبىّ «أرميا» ، وقيل بعد أن قتلوا النبىّ «يحيا» ..!
والذي ينظر فى قوله تعالى: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» يرى أن الإفساد الذي يقع من بنى إسرائيل مصاحب لصفة دالّة عليه، مرهصة به، وهى أن يكونوا فى حال، هم فيها أصحاب قوة متمكنة وسلطان ظاهر، وعلوّ فى الأرض.. وأن هذا السلطان الظاهر لهم، وهذه القوة العتيدة بين أيديهم، وهذا العلوّ البادي لهم، إنما هو نعم مستنبتة فى أرض فاسدة، وغيث هاطل على مستنقع عفن.. ومن هنا يكون البناء الذي أقاموا منه سلطانا، وحصلوا منه على قوة، وبلغوا به ما بلغوا من علو- هو بناء فاسد، يحمل فى كيانه معاول هدمه وتدميره..
فإذا نظرنا إلى بنى إسرائيل من خلال هذه الصفة التي يكونون عليها حين يأخذهم الله سبحانه وتعالى بما يأخذ به الظالمين، فيسلط عليهم من يرميهم بالنقم، ويأخذهم بالبأساء والضراء.. نجد أن تاريخ القوم يحدّث عن أنهم قد كانوا على تلك الصفة، بعد سليمان عليه السلام، الذي أقام لهم دولة، وأنشأ فيهم ملكا واسعا عريضا.. وأنهم بعد أن ورثوا هذا الملك العريض، وملكوا هذا السلطان العتيد- بغوا وطغوا، وأقلقوا من حولهم من أمم وشعوب..
فسلط الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض أولا، فانقسموا إلى مملكتين، مملكة «يهوذا» فى الجنوب، وتضم بيت المقدس، ومملكة إسرائيل فى الشمال، وتضم سامريّا..(8/445)
ثم سلط الله على المملكتين من يضربهما الضربة القاضية، ويقضى عليهما القضاء التام- فقام الأشوريون فى عام (853 ق. م) وقضوا على مملكة إسرائيل، وضموها نهائيا إلى أشور، وقضوا على كل وجود للشخصية الإسرائيلية حيث وقع معظمهم تحت القتل، ومن نجا منهم من القتل، وقع فى الأسر، وأصبح سلعة تباع فى الأسواق..
ولما ورث البابليون دولة الأشوريين فى العراق، فعلوا فى مملكة «يهوذا» ما فعله الآشوريون فى مملكة «إسرائيل» .
ففى سنة (586 ق. م) غزا البابليون مملكة «يهوذا» بقيادة ملكهم بختنصر، واستولوا عليها، ودمّروا الهيكل، وقادوا القوم ورؤساءهم أسرى..
وهكذا أصبحت مملكة سليمان كلها تحت الحكم البابلي، أو الأسر البابلي.
وعلى هذا يمكن أن نقول إن هذا الأسر البابلي هو الذي يشير إليه قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا» . فهذا الحدث هو أقرب وأبرز بلاء وقع على بنى إسرائيل، بعد أن أفسدوا فى الأرض وعلوا علوّا كبيرا..
وليس يعترض على هذا بأن «بختنصّر» لم يكن من المؤمنين بالله، وإذن فلا يصحّ أن ينسب إلى الله. فى قوله تعالى: «عِباداً لَنا» فإن بختنصر- إذا صحّ أنه لم يكن مؤمنا بالله- ليس إلا عبدا من عباد لله، فالناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم عبيد الله. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) .
ويقول سبحانه لإبليس- لعنه الله-: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» فقد أضاف الله سبحانه الناس جميعا إليه.. هكذا: «عبادى» .. ومن عباده هؤلاء الغاوون.(8/446)
وليس يعترض على هذا أيضا بقول من يقول: كيف يسلّط لله الكافرين على المؤمنين، فقد كان بختنصر وقومه وثنيين، على حين كان بنو إسرائيل أهل كتاب.. مؤمنين بالله؟
والجواب: أن بنى إسرائيل، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد مكروا بآيات الله، وبغوا فى الأرض، وملأوا الدنيا من حولهم ظلما وبغيا.. فهم- وإن كانوا مؤمنين ظاهرا- لم يكونوا أحسن حالا من الوثنيين فى أفعالهم السيئة المنكرة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (129: الأنعام) وكذلك يبتلى الله الظالمين بالظالمين، أو بمن هم أشد ظلما منهم، فهى نقم تضرب فى وجه نقم، وظلم يسوء وجوه الظالمين! ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» .. وفى هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى بعد أن أخذهم بعقابه، وألقى بهم فى هذا الضّياع زمنا، كما فعل بهم حين ضرب عليهم التيه أربعين سنة- عاد الله سبحانه بفضله عليهم، وأخرجهم من هذا البلاء، بعد أن جعل من الآباء عبرة للأبناء..
ومعنى ردّ الكرة عليهم أنهم أخذوا مكان القوة، على حين نزل القوم الذين ابتلاهم الله بهم إلى حال أشبه بتلك الحال التي كان عليها اليهود من الذلة والهوان، وذلك حين أغار الفرس، على البابليين، واستولوا على أوطانهم، وجعلوهم غنيمة لهم، كما فعل البابليون ببني إسرائيل.. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» (140: آل عمران) .
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» إشارة إلى القوة التي لبسوها(8/447)
بعد هذا الضياع، وأنهم أصبحوا أصحاب شوكة أكثر من شوكة البابليين الذين ساموهم الخسف.. والنفير: الجماعة التي تنفر للحرب وتخفّ مسرعة إليها..
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» تحذيرا لبنى إسرائيل، أن يركبوا الطريق الذي ركبه آباؤهم من قبل، وأن يفسدوا فى الأرض كما أفسدوا، فيحلّ بهم ما عرفوه من بلاء حل بآبائهم.
ثم إذا أعدنا النظر إلى بنى إسرائيل بعد الأسر البابلي، لم نجد لهم دولة ظاهرة ولا ملكا قائما.. وإنما هم دويلات ممزقة، متقاتلة فيما بينها، تخرج من حكم البابليين لتقع تحت حكم الفرس فى سنة (518 ق. م) .. ثم تحت حكم الرومان، إلى أن جاء الفتح الإسلامى.. الذي أدخل بيت المقدس فى دولته، فأصبح المسجد الأقصى من مساجد الإسلام.. ليس لبنى إسرائيل شأن به منذ ذلك الوقت إلى يوم الناس هذا..
وإذن، فهناك المرّة الثانية، وهى التي أشار إليها قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» ..
والسؤال هنا هو:
هل جاء وعد الآخرة.. أي المرة الثانية؟ وإذا لم يكن قد جاء فمتى يجىء؟
وما الإرهاصات الدالة عليه؟
والجواب على هذا:
أولا: أن هذا الوعد- وعد الآخرة- كان إلى نزول القرآن الكريم غير واقع، وأنه سيقع فى المستقبل، القريب، أو البعيد.. والدليل على هذا ما يحدّث به القرآن الكريم فى هذا المقام.(8/448)
فقد تحدّث القرآن الكريم عن مجىء المرة الأولى هكذا:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا» ..
وتحدث عن مجىء المرة الثانية هكذا:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .
فالآيتان تحدثان عن المستقبل، الذي يدل عليه الشرط: «إذا» .. وهذا يعنى أن المرتين على سواء، فى تعليقهما بالمستقبل، وقت نزول القرآن.. الأمر الذي يجعل القول بأن إحداهما قد وقعت، والأخرى لم تقع.. قولا لا حجة عليه، ولا مبرّر له..
ولكن الذي ينظر فى الآيتين، يجد:
- أن الشرط الذي يعلّق الفعلين بالمستقبل، هو منظور فيه إلى ما قضاه الله سبحانه وتعالى فى كتابه، وجعله قدرا مقدورا على بنى إسرائيل، فى وقوع هاتين المرتين من الإفساد.. وعلى هذا يكون وقوع الأحداث المسطورة فى كتاب الله كلها، لم تكن وقعت، حين قضى الله بها، وأودعها خزائن علمه..
- وعند النظر فى الآيتين الكريمتين، نجد أن النظم القرآنى قد خالف بينهما.. فجعل ما وقع منهما عند نزول القرآن معبّرا عنه بلفظ الماضي:
«بعثنا.. جاسوا» .. على حين جعل المرّة التي لم تقع بلفظ المستقبل: «لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ.. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا» .
- ولو تساوت المرتان، فى الوقوع، أو عدم الوقوع، عند نزول(8/449)
القرآن، لم يكن لاختلاف النظم فيهما سبب ظاهر، وهذا أبعد ما يكون عن بلاغة القرآن وإعجازه، حيث لا تجىء كلمة أو حرف فيه، إلا ومعها ما لا حصر له من أسرار! وثانيا: إذا تقرر أن المرة الثانية، لم تجىء حتى نزول القرآن الكريم..
فهل وقعت بعد هذا، أم أنها لا تزال معلقة بالمستقبل، لم تقع بعد؟
والقرآن الكريم هو دليلنا فى الإجابة على هذا السؤال..
ففى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» - فى هذه الآية نجد حديثا عن «المسجد» .. والمسجد كما هو معروف معلم من معالم الإسلام، وسمة من سمات بيوت الله التي يتعبّد المسلمون فيها.. إذ كان السجود أبرز عمل من أعمال المسلمين فى الصلاة.. ولهذا فقد كان الاسم الذي يعرف به المسجد الأقصى هو: «بيت المقدس» حتى إذا أسرى الله سبحانه وتعالى بالنبي الكريم إليه، أسماء- سبحانه- المسجد الأقصى.. وجعله بهذا الاسم، القبلة الأولى للمسلمين، كما جعله بهذه التسمية، مسجدا لهم يعبدون الله فيه.. ثم كان الوصف الذي يعرف به المسلمون فى المجتمع الإنسانى هو سمة السجود الذي فى وجوههم. كما يقول تعالى: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» (29: الفتح) .
فذكر «بيت المقدس» باسم «المسجد» يشير إشارة واضحة إلى أن المرة الثانية، التي يقع فيها من بنى إسرائيل هذا الإفساد، إنما تكون فى العهد الإسلامى، وفى الوقت الذي يكون فيه بيت المقدس مسجدا للمسلمين، على خلاف ما كان عليه من قبل، حيث لم تشر الآية الأولى إلى المسجد، من بعيد أو قريب.. بل جاءت الآية هكذا «فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ» أي تنقلوا كما(8/450)
يشاءون بين الديار، وهذا يعنى أن العدو الذي ابتلاهم الله به، كان متمكّنا، بحيث يمشى فى ديارهم، ويتخلل طرقاتها دون أن يخشى أحدا.
ونسأل مرة أخرى:
هل وقعت المرة الثانية؟ وهل جاء وعد الآخرة قبل يومنا هذا؟
والجواب هنا نأخذه أيضا من القرآن الكريم، ثم من أحداث التاريخ..
وننظر مرة أخرى فى الآية: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .
فهناك حقائق تقررها الآية الكريمة، وهى:
- أن الذين يتسلّطون على بنى إسرائيل فى هذه المرة، سيدخلون المسجد الأقصى.. «كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» .
وهذا يعنى أمورا:
- أن الذين يدخلون المسجد الأقصى هذه المرة، قد كان لهم دخول إليه من قبل، وأنهم إنما يفعلون فى هذه المرة، ما فعلوه فى المرة السابقة..
- ودخول المسلمين المسجد الأقصى أول مرة، كان فى خلافة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وقد ظل فى أيديهم إلى أن دخله بنو إسرائيل فى هذه الأيام، من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين للهجرة..
نعم.. خرج المسجد الأقصى من يد المسلمين إلى يد الصليبيين.. ثم أعيد إليهم مرة أخرى، على يد صلاح الدين.. ولم يكن لبنى إسرائيل حساب أو تقدير فى هذا الأمر..
- ودخول المسلمين إلى المسجد الأقصى وانتزاعه من يد الصليبيين، ليس له شأن بالدخول الذي سيدخله المسلمون، بعد أن ينتزعوا هذا المسجد من يد بنى إسرائيل، لأن بنى إسرائيل لم يدخلوا المسجد، ولم يستولوا عليه منذ الفتح الإسلامى، حتى وقع لأيديهم فى هذه الأيام.(8/451)
- فهذه إرهاصة من إرهاصات المرة الثانية، أو وعد الآخرة، وهى أن يكون المسجد الأقصى فى يد بنى إسرائيل، ثم يجىء إليهم من يخرجهم منه، وينتزعه من أيديهم، وهم أولئك الذين كان «المسجد» مسجدهم الذي «دخلوه أول مرة» ! وليس المسجد إلا مسجد المسلمين، وليس الذي يدخله للمرة الثانية وينتزعه من اليهود، إلا المسلمين..
- والإرهاصة الثانية، هى الحال التي عليها اليهود أنفسهم، وهى أن يكونوا على الصفة التي وصفهم الله بها، حين يفسدون فى الأرض، ويعلون علوّا كبيرا، وحين يدخل عليهم أصحاب المسجد كما دخلوه أول مرة، ليسوءوا وجوههم، أي يلبسوهم الخزي والسوء، وقد اختصّت الوجوه بهذا، لأنها الصفحة التي ترتسم عليها أحوال الإنسان كلها، وما يمسّه من خير أو شر، وما يلقاه من نعيم أو بؤس.
والذي ينظر فى واقع بنى إسرائيل اليوم يجد:
أولا: أنهم منذ عهد سليمان لم تقم لهم دولة، بعد الدولة التي خربها يختنصّر، حتى قامت لهم دولة فى هذه الأيام، هى المعروفة باسم «إسرائيل» والتي تدعمها وتسندها قوى كثيرة من قوى البغي والعدوان.. التي تكيد للإسلام وتتربّص به.
ثانيا: أن هذه الدولة التي أقامها بنو إسرائيل هذه الأيام دولة ولدت من أحشاء الظلام، تحمل معها كل ما عرفت الإنسانية من أدوات الشر، والبغي، والعدوان.. فقد ملكت بكيدها ومكرها، كثيرا من الوسائل الخبيثة، التي مكنتها من تلك القوة، وأقامت بها هذه الدولة..
فالمال الذي أقيمت به هذه الدولة، هو عصارة تلك الدماء التي امتصها(8/452)
اليهود من الأمم والشعوب، فى شتى أقطار الأرض.. بما أشعلوا من حروب وبما أثاروا من فتن، وبما اشتروا من ضمائر وذمم..
وثالثا: هذه الدولة، هى غاية ما يمكن أن يبلغه بنو إسرائيل من علوّ، وغاية ما يمكن أن تطوله أيديهم من إفساد فى الأرض..
فهم الآن يضعون أيديهم على فلسطين كلها، وعلى شبه جزيرة سينا من مصر، وعلى مرتفعات جولان من سوريا..
وكل ذلك قد وقع ليد إسرائيل فى لحظة خاطفة، من لحظات الزمن، لا تتجاوز ستة أيام، الأمر الذي جعل لبنى إسرائيل اسما ذائعا رهيبا فى العالم، جعلت تتغذى منه إسرائيل بمشاعر العظمة والزهو والغرور، حتى تورّمت، وأوشكت أن تنفجر، مما بها من كظة وامتلاء، من الزهو والخيلاء.. ومن هنا كان منهم ذلك البغي والعدوان، والإفساد فى الأرض.. بنسف الدور، وقتل الأطفال والنساء، بلا وازع من حياء أو ضمير، وبلا خوف من قوة رادعة فى الأرض، أو فى السماء! المرة الثانية إذن هى ما فيه إسرائيل الآن.. من فساد فى الأرض، وعلوّ واستكبار.. فساد إلى أبعد مداه، وعلوّ واستكبار إلى غاية حدودهما.
أما الذي ينتظر بنى إسرائيل بعد هذا، فهو ما يقع تأويلا لقوله تعالى:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .
والذي سيتولّى هذا- بلا شك- هم المسلمون، أصحاب المسجد، الذين دخلوه أول مرة، أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والذين سيدخلونه اليوم- إذا شاء الله- كما دخلوه أول مرة.(8/453)
وفى قوله تعالى: «لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ» إشارة إلى هذا الخزي الذي سيلبس بنى إسرائيل، حين تحل بهم الهزيمة، ويقع بهم البلاء، ويهوون هويّا من هذا العلوّ الساحق، الذي تسلقوا إليه متلصصين فى الظلام.. ويومها يعرف العالم أنهم هم اليهود، أجبن خلق الله، وإن لبسوا جلود النمور والأسود! - وفى قوله تعالى: «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» - إشارة إلى صحوة جديدة، ستبعث القوة، وتعيد الحياة إلى الأمة الإسلامية، وتجدد شبابها..
وإذا هى أقرب ما تكون إلى عهد الفتح الأول..
وشواهد هذا البعث للأمة الإسلامية كثيرة.. فقد تحررت أوطان العالم الإسلامى جميعها من الاستعمار، وأخذت الحياة تدبّ فى أرضها الموات، بما يتدفق منها من ينابيع الذهب الأسود «البترول» الذي أمدها بأقوى قوة تقوم عليها الأمم فى العصر الحديث، وهى المال، الذي يمكّن لها من العلم، وما يقوم على العلم من أسباب المدنية والعمران..
- وفى قوله تعالى: «وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» ..
التبار، والتتبير: التدمير، والإهلاك..
وفى هذا إشارة إلى أن المسلمين سيجيئون بقوة قاهرة، ذات بأس متمكن غالب، يأتى على القوم، وعلى كل ما معهم من سلاح وعتاد..
فكلمة «ما» وهى اسم موصول لغير العقلاء، يراد به بنو إسرائيل، وما معهم من معدات الحرب، وأدوات القتال، التي جلبوها من كل مكان، ورصدوها للشر والعدوان..
إن بنى إسرائيل بغير معدات الحرب هذه، لا حساب لهم، ولا وزن.. ولهذا كان ميزان الأسلحة والمعدات أثقل من ميزانهم، ولهذا أيضا جاء التعبير يلفظ(8/454)
«ما» تغليبا لغير العاقل، وهو الأسلحة والمعدات، على العاقل، وهم بنو إسرائيل كان السلاح والعتاد أرجح منهم كفة، وأعظم أثرا.. فإنهم بغير هذا السلاح شىء لا وزن له..
إننا لنقطع عن يقين، أن بنى إسرائيل معنا اليوم، واقعون تحت قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» ..
وإذن فالجولة التالية بيننا وبين بنى إسرائيل، هى لنا، وسندخل المسجد إن شاء الله كما دخلناه أول مرة، وسنخزى القوم ونعرّيهم من كل ما لبسوا من أثواب الزهو والغرور.. وسنقضى على هذه الدولة المولودة سفاحا.. فلن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة..
بقي هنا أمران، نود أن نشير إليهما فى إيجاز..
أما الأمر الأول: فهو أن هذه الدولة قامت تحت اسم «إسرائيل» ولم تقم تحت اسم «اليهود» أو دولة «يهوذا» ..
وهذا ما يجعل لقوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ... » متوجها إلى تلك الدولة القائمة تحت اسم «إسرائيل» الأمر الذي يجعل من العسير أن تدخل تحت حكم هذه الآية، لو أنها اتخذت أي اسم آخر غير هذا الاسم.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن..
وأما الأمر الثاني: فهو ما جاء فى قوله تعالى فى آخر هذه السورة: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ(8/455)
الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً»
.. (101- 104: الإسراء) ونقف من هذه الآيات عند قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» ..
ففى قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ» إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن سكنى بنى إسرائيل الأرض، لن تكون إلا سكنى ذليلة مهينة، لا يرتفعون فيها عن هذه الأرض، ولا يستعلون بآدميتهم عن الدوابّ التي تدبّ عليها.. فهم أبدا لا صقون بهذه الأرض، يغوصون فى طينها، ووحلها إلى أذقانهم، بحثا عما تعطى الأرض.. أما ما وراء هذا من مطالب الروح، فلا حظّ لهم فيه، ولا شغل لهم به..!
وثانيهما: أنهم سيشرّدون فى الأرض كلها.. فى طولها وعرضها.. إذ كان همّهم من سكنى الأرض، هو البحث عن كل مرعى فيها، فهم يتتبعون مواقع الرعي حيث كانت، وهذا ما تحدث عنه حياة اليهود، حيث هم فى كل صقع من أصقاع الأرض..
وفى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» - إشارة إلى ما جاء فى قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» فبنو إسرائيل الذي جاءوا لوعد الآخرة، واجتمعوا اليوم فى فلسطين، وأقاموا الدولة الواقعة تحت حكم الله الذي قضى به عليهم يوم يجىء وعد الآخرة- بنو إسرائيل هؤلاء، قد جاءوا من كل أفق من آفاق الأرض مسوقين إلى حتفهم، مدعوّين إلى قدرهم المقدور، فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» .. أي جمعناكم من كل جهة.. فاللفيف من الناس: الجماعة(8/456)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
التي تجتمع من وجوه شتّى، كما يجتمع الناس فى الأسواق، والأسفار.. ثم ينفضّ السوق، ويتفرق السّفر! «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
الآيات: (8- 14) [سورة الإسراء (17) : الآيات 8 الى 14]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
التفسير:
قوله تعالى: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ..
هو خطاب لبنى إسرائيل، وإلفات لهم إلى بأس الله الذي لا يردّ عن القوم الظالمين، وأنهم بعد أن ينفذ فيهم قضاء الله، ويقعوا تحت «وعد الآخرة» لن يرفع عنهم التكليف المفروض على كل إنسان.. فهم- شأنهم شأن الناس-(8/457)
معرضون لرحمة الله، إن نزعوا عماهم عليه من شر وفساد، ورجعوا إلى الله، واستقاموا على طريق الحق والخير.. فإن عادوا- بعد أن يضربوا الضربة الثانية تلك- عاد الله سبحانه وتعالى عليهم بالبلاء ورماهم بالنقم، وسلط عليهم من عباده من يأخذهم بالبأساء والضراء.. ثم حشروا محشر الكافرين، فكانت لهم النار حصيرا، أي سجنا مطبقا عليهم، يحصرون فيه، ولا يجدون لهم طريقا للخلاص منه..
وقوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن بنى إسرائيل قد تنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الباطل والضلال، فضربهم الله سبحانه وتعالى هاتين الضربتين المدمرتين، وكانت إحدى هاتين الضربتين، على يد المسلمين، أصحاب المسجد، الذي استولى عليه بنو إسرائيل.. فكان قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» دعوة لبنى إسرائيل إن هم أرادوا أن يرفع عنهم بلاء الله، وتستقيم طريقهم فى الحياة أن يؤمنوا بهذا القرآن، الذي يهدى للطريق المستقيم وألا يبحثوا عن دواء غيره يطبّون به لدائهم، إن أرادوا أن يخرجوا من هذا البلاء الذي ضربه الله عليهم.
- وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم المرادون بهذا الخطاب، فهم لا يؤمنون بالآخرة، كما يؤمن بها المؤمنون، وإنما يرون أن الجزاء معجل فى هذه الدنيا، وأن الجنة والنار هما فى هذه الدنيا، حيث السعداء والأشقياء، وحيث الأغنياء والفقراء.. هذه هى عقيدة بنى إسرائيل فى الآخرة.. وقد أشار إليهم سبحانه(8/458)
وتعالى فى أول سورة البقرة بقوله: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .. فالمراد بهذه الآية هم اليهود.. والمطلوب منهم أن يؤمنوا بالآخرة وأن يستيقنوها.. فهم وإن ذكروا الآخرة لا يذكرونها إلا بألسنتهم، ولكن قلوبهم منعقدة على إنكارها..
قوله تعالى: «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» .
تكشف هذه الآية عن حال من أحوال الإنسان، وهو أنه مولع بحبّ العاجل من المتاع، يطلبه، ويؤثره على الآجل، وإن كان فيه من الخير أضعاف العاجل الذي طلبه وآثره..!
ومن هنا، كان أكثر الناس يطلبون الدنيا، ويستوفون حظوظهم منها، دون أن يتركوا للآخرة شيئا.. وهذا ما يحملهم على أن يهتفوا بالشرّ، ويلحّوا فى طلبه، حتى كأنه خير محقق.
ووصف ما يستعجله الناس من متاع الحياة الدنيا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الحال التي يتلبّس بها طالبوه، حيث يصرفهم عن الآخرة، ويعمى أبصارهم عن النظر إليها.. فهذا المتاع ليس شرا فى ذاته، وإنما هو شرّ بالنسبة لمن شغلوا به عن الآخرة، وأذهبوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا، واستمتعوا بها.. وفى هذا أيضا نخسة لبنى إسرائيل، وأنهم طلّاب دنيا، لا ينظرون إلى ما وراءها..
قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. أنها تكشف عن وجهين من وجوه الحياة المتسلطة على الناس، وهما النور والظلام، وهما أشبه بالوجهين اللذين يعيش فيهما الناس، وهما وجها الخير والشرّ اللذان أشارت إليهما الآية السابقة..(8/459)
والليل والنهار آيتان من آيات الله، تحدّث كل آية منهما عن قدرة الله، وعن حكمته.. وكلّ منهما مكملة للأخرى، بل ومعلنة عنها، ومحققة لوجودها..
فلولا الليل ما كان النهار، ولولا النّهار ما عرف الليل..
وكذلك الخير والشر.. آيتان من آيات الله فى الناس.. كلّ منهما مكمّل للآخر، ومعلن عنه، ومحقق لوجوده.. فلولا الخير ما كان الشر، ولولا الشرّ ما عرف الخير..
والدنيا والآخرة.. آيتان من آيات الله.. فى الناس.. فكل منهما مكملة للأخرى، موصولة بها.. فلولا الدنيا ما كانت الآخرة، ولولا الآخرة ما كانت الدنيا إلا لعبا ولهوا، وما غرس الغارسون ما غرسوا فيها من معالم الحق والخير.. وما أعدّوا فيها هذا الزاد الطيب الكريم، الذي ادخروه للآخرة.
- وفى قوله تعالى: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» إشارة إلى أن الليل موقف سلبىّ بالنسبة لحياة الإنسان.. يخلد فيه الإنسان إلى الراحة، ويسلم فيه نفسه للنوم، ليعبّىء ذاته بأسباب القوة، والنشاط، حتى يعمل فى وجوه الحياة حين يطلع النهار بآيته المبصرة! والليل هو الليل، وإن بدّد الناس ظلامه بتلك المصابيح التي تجعل منه نهارا أو ما يشبه النهار! فهو سكن الناس، وهو الظرف الذي يأخذون فيه حظهم من الراحة والنوم.. إنه أشبه بالدنيا، والنهار أشبه بالآخرة..!
أكثر الناس فى الدنيا، فى ليل لا يبصرون، وفى سبات لا يستيقظون..
فإذا كانت الآخرة، فهم فى نهار مبصر، وفى يقظة واعية مدركة.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .(8/460)
- وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» إشارة إلى أن النّهار سعى وعمل، حيث يبصر فيه الإنسان طريقه ومسربه فى الحياة.. فلينتفع بهذه النعمة، وليضع قدمه على طريق مستقيم، حتى يتجنّب العثرات والزلات..
وقد قرىء: «مبصرة» بفتح الميم وسكون الباء، وفتح الصاد.. اسم آلة.. أي جعلنا آية النهار آلة للإبصار..
- وقوله تعالى: «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.» أي أن الليل والنهار، إذ يقتسمان الزمن، ويتداولانه فيما بينهما، كان سببا فى معرفة الزمن، وفى رصد حركاته، وعدّ السنين وحسابها.. وأنّه لو كان الزمن ليلا سرمدا، أو كان نهارا دائما، لما عرف الناس للزمن حركة، ولما تولّد لهم من حركته الأيام، والسنون! قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» ..
ألزمناه: أي أوجبنا عليه، وأخذنا به..
وطائره: عمله، من خير أو شر.. وسمّى عمل الإنسان طائره، لأنه حصيلة سعيه فى هذه الدنيا، وقد كان العرب، يتخذون من الطير فألا يجرون عليه أعمالهم.. فإذا أطلقوا طائرا، فطار من الشمال إلى اليمين، تفاءلوا به وسمّوه «سانحا» وإذا طار من اليمين إلى الشمال، تشاءموا به وسموه «بارحا» ..
فأعمالهم كلها- على هذا التقدير- من خير أو شر، هى مما جرى به الطير:
سانحا، أو بارحا..
وقد ورد فى القرآن الكريم، ما جرى على ألسنة الذين يتخذون من الطير(8/461)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
فألا! فقال تعالى: «قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ» (18: يس) وقال سبحانه: «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ.. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» (131: الأعراف) .
والمعنى: أن كل إنسان يأنى يوم القيامة، وقد حمل معه حصيلة أعماله كلها، التي عملها فى دنياه، من خير أو شر، وقد لزمته، ونيطت به، حتى لكأنها قلادة تمسك بعنقه..
فهذه هى الحلية التي يتحلّى بها الإنسان من دنياه.. هى طائر، قد علق بعنقه، لا يطير يمينا أو شمالا، ولا يتحرك سانحا أو بارحا.. حيث لا عمل بعد أن يترك الإنسان هذه الدنيا.. لقد انقطع عمله، وسكن طائره الذي كان يصحبه فى الشرّ والخير ونزل معه إلى قبره، متعلقا به، كما يتعلق الطفل بصدر أمه، ويشدّ يديه إلى عنقها..
وقوله تعالى: «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» .. أي أنه بعد أن يبعث الإنسان، يجد هذا الطائر قد أصبح كتابا منشورا.. «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» ..
قوله تعالى: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» هو أمر إلى كل ذى كتاب أن يقرأ كتابه، وأن يحاسب نفسه بما فى هذا الكتاب، فهو ناطق مبين.. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية)
الآيات: (15- 22) [سورة الإسراء (17) : الآيات 15 الى 22]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)(8/462)
التفسير:
قوله تعالى: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» .
فى هذه الآية أمور:
أولا: أنها تعقيب على الأحكام، والمقررات التي عرضتها الآيات السابقة، وعرضت فيها المؤمنين، والكافرين، وحصيلة كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا، وحسابه عليه فى الآخرة..
- «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فما يعمله الإنسان من خير فهو له، وما يعمله من شر فهو واقع عليه، لا يصيب أحدا غيره.. «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .
ثانيا: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.. فلا يلقى حمل أحد على أحد..(8/463)
والوزر: الحمل، ويستعمل للدلالة على الأعمال السيئة، إذ كانت هذه الأعمال عبئا على أصحابها، بما يصيبهم منها من عناء وضنى، فصحّ أن تشبّه بالأحمال الثقيلة..
ومعنى: «تزر» تحمل، والوازرة الحاملة..
وقد أسند الفعل إلى «النفس» ولهذا أنّث.. والمعنى: ولا تحمل نفس حمل نفس أخرى.. كما يقول سبحانه وتعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) .
ثالثا: أنه مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بالناس، أن يقيم حجته عليهم، قبل أن يحاسبهم، وذلك بدعوتهم إليه عن طريق رسل يختارهم من الناس، ليبلغوهم رسالة الله إليهم، ويكشفوا لهم الطريق إليه.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. فإذا جاء الرسول إلى الناس لم يكن لهم على الله حجة فى أخذهم بالعذاب إن لم يستجيبوا لرسول الله، ولم يؤمنوا بالله! وإنه مما يسأله الكافرون، والضالون يوم القيامة، وهم يعرضون على الله سبحانه، هذا السؤال التقريرى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى! وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» (71: الزمر) .
قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» .
قرىء فى هذه الآية «أمرنا» آمرنا، بمدّ الهمزة، وأمرنا بكسر الميم، وأمّرنا بتشديدها، وفسّرت كلها بمعنى كثّرنا.
هذه الآية الكريمة تشير إلى قضاء الله سبحانه، النافذ فى العباد، وسنّته الجارية عليهم، المطّردة فيهم..(8/464)
فإذا أراد الله سبحانه وتعالى أمرا استدعى له أسبابه، ثم أجراه على هذه الأسباب، وأقامه على سننه الكونية..
وهو سبحانه مبدع، قادر، يقول للشىء كن فيكون.. وليست هذه الأسباب وتلك السنن حدودا تحدّ من سلطان القدرة، والإبداع.. وإنما هى فى ذاتها من عمل القدرة، ومن آيات الإبداع، إذ كانت الحكمة قائمة مع الإبداع والقدرة.. وإلا فلو كانت القدرة قدرة مطلقة لا تتلبس الحكمة بها لكانت قوة طاغية، ترمى بالفوضى، والاضطراب.. تعالت قدرة الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وصفات الله سبحانه وتعالى، فى كمالها وجلالها، ليست على هذا التصور الذي نتصوره، من أنها صفات متعددة.. وإنما هى فى ذاتها صفة واحدة لله..
فكما أنه سبحانه واحد فى ذاته، هو سبحانه واحد فى صفاته.. ولكن هذا التعدد فى الصفات، إنما هو من حيث نظرتنا نحن إلى تجلّيات الله سبحانه وتعالى، فحين ننظر إلى العلم مثلا، ننسب العلم الكامل الشامل لله سبحانه وتعالى..
ولكنه علم من؟ إنه علم الله المتصف بصفات الكمال كلها.. وهكذا الشأن فى كل صفة نصف الله جلّ وعزّ بها.. إنها صفة الله المتصف بكل كمال، المنزّه عن كل نقص..
والآية الكريمة تحدّث- كما قلنا- عن قضاء الله فى عباده، وسنّته فيهم، وأنه- سبحانه- إذا قضى بأن يهلك قرية لم يهلكها حتى يقيم الحجة عليها، بإرسال الرسل أولا، ثم بما يكون منها من عصيان الرسول، وكفر بالله، وبما يسوق إليه الكفر من ضلال وفساد.. ثانيا.
- وفى قوله تعالى: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها»
إشارة إلى قضاء الله النافذ فيهم، وأنهم- تحت حكم هذا القضاء، لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كلّ آية..(8/465)
فكأنهم مأمورون بالكفر والعصيان، وإن لم يكن ثمّة أمر ولا إلزام..!
«إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» ..
وتسأل: ما الحكمة من إرسال الرسل إلى من حقّ عليهم القول؟
والجواب، ما علمت من قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وذلك لإقامة الحجة عليهم، ولإظهار مالديهم من إرادة تواجه إرادة الله..
وإن كانت إرادة الله هى الغالبة! وتسأل: ما بال هؤلاء الذين حقّ عليهم القول يعذّبون وهم مسوقون سوقا إلى قدرهم المقدور؟
ولا جواب، إلّا أنّ هذه هى مشيئة الله فى عباده.. «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» ..
ولا يسأل الخالق عما يفعل فيما خلق: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) .
وفى الإشارة إلى «المترفين» وهم أصحاب الثّراء، الذي يعيش له أهله فى فراغ وبطالة- يعنى أن هؤلاء المترفين لا يرجى منهم خير، ولا يطبّ لدائهم بدواء.. فهم كائنات فاسدة هازلة، لا تجدّ أبدا.. ثم هم مع هذا قدوة الناس، وقادتهم بما لهم من ثراء! - وقوله تعالى: «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ»
- هو إشارة إلى ما قضى الله به فى عباده، وما حكم به على هذه القرية، من الهلاك والتدمير.. فقول الله: هو قضاؤه وحكمته.. وإحقاق القول: هو وقوعه، ونفاذه..
وأخذ القرية كلها بفساد المفسدين من أهل الترف فيها، إنما لأن أحدا من أهل القرية لم يضرب على أيديهم، ولم ينكر عليهم هذا المنكر، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (25: الأنفال) .(8/466)
قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ..
أي من سنن الله فى عباده، هذا الموت الذي كتبه عليهم، وجعله حكما واقعا على كل حىّ.. وهذه القرون، التي خلت من بعد نوح إلى اليوم، قد هلك أهلها جميعا، وهم أعداد كثيرة، تضمّ أمما وشعوبا لا يعلمها إلا الله، وقد مضوا جميعا إلى ربّهم، ليس معهم شىء مما كان لهم فى دنياهم، إلا ما عملوا من خير أو شر..
- وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ..- إشارة إلى أن علم الله محيط بكل ما عمل الناس، لا يعزب عنه مثقال ذرة مما عملوا..
وخصّ الذنوب بالعلم، لأنها هى الخطر الذي يتهدد الناس، حتى يحذروه، فيكتب لهم الأمن والعافية.. فإنه إذا توقّى الإنسان الذنوب، استقام على طريق الحق والخير، لأنها هى الوارد الذي يرد عليه ويفسد فطرته..
قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً» .
العاجلة، هى الدنيا، وما فيها من متاع..
فمن قصر نظره على الدنيا، وعمل لها، ولم يلتفت إلى الآخرة.. فذلك هو كل حظّه، وهو حظ قدّره الله تبارك وتعالى له، لا أنّه جاء عن تقديره وتدبيره، وإرادته.. فليس كل من أراد الدنيا بمستجيبة له، وإنما الذي يستجاب له منها، هو ما أراده الله له..
وفى هذا ما يشير إلى أن طالب الدنيا قد بخس نفسه حظّها من الآخرة، حيث لم يعمل لها، ولم يصرف من همّه شيئا إليها، على حين أن طلبه للدنيا وحصر همّه فيها لم يجىء إليه بشىء إلا ما أراده الله له.. وهذا ما يشير إليه قوله(8/467)
تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» (20: الشورى) .
- وفى قوله تعالى: «لِمَنْ نُرِيدُ» إشارة إلى أن طالبى الدنيا لم يطلبوها إلا لأن الله سبحانه وتعالى أرادهم لها، وجعلهم من أهلها..
- وقوله تعالى: «مَذْمُوماً مَدْحُوراً» .
المذموم: المنحوس الحظ، والمدحور: المخذول..
قوله تعالى: «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» .
هو الوجه المقابل لطلاب العاجلة.. وفى هذا الوجه يظهر أولئك الذين يريدون الآخرة، ويعملون لها.. وعملهم هذا محمود طيب، يشكره الله سبحانه وتعالى لهم، ويجزيهم الجزاء الطيب عليه..
- وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» هو قيد وارد على العمل الذي يعمله العاملون للآخرة، حتى يكون عملا مبرورا مشكورا، وهذا القيد هو الإيمان.. فكل عمل- وإن كان فى أصله حسنا- لا يقبل عند الله، إلا إذا زكّاه الإيمان بالله، وبهذا يكون العمل مرادا به الله، ومبتغى به مرضاته.. فيتقبله الله، ويجزل الثواب عليه..
قوله تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» ..
هو تعقيب على ما كشفت عنه الآيات السابقة من العاملين للدنيا، والعاملين للآخرة.. فهؤلاء وهؤلاء جميعا، إنما يرزقون من فضل الله، وينالون من عطائه.. «وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» فهو عطاء يشمل الخلق جميعا..(8/468)
محسنهم ومسيئهم..! فهذه النعم التي يتقلب فيها الذين لا يؤمنون بالله، هى من عطاء الله، ولكنهم فى عمى وفى ضلال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) ..
قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» - هو إلفات إلى هذه الدرجات المتفاوتة بين الناس، فيما أمدهم به الله سبحانه وتعالى فى هذه الدنيا.. فهم ليسوا على حظ واحد فيما نالوا من حظوظ الدنيا.. إذ فيهم من وسّع الله له فى الرزق، فملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفيهم من لا يملك إلا ثوبا مرقعا وكسرات من الخبز.. وبين هؤلاء وأولئك درجات..
هذا كلّه فى الدنيا.. الناس على تفاوت كبير فى حظوظهم منها.. وهم فى الآخرة كذلك، درجات متفاوتة، وحظوظ متباينة.. فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. وأهل الجنة درجات، وأصحاب النار دركات.. وشتّان ما بين الدنيا والآخرة، وما بين النار والجنة.. «وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» .. إنها دار البقاء والخلود.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185: آل عمران) .
قوله تعالى: «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا» ..
الخطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب عام يشمل الناس جميعا، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه- إمام الإنسانية، ورسولها، وفى توجيه هذا النّهى للنبىّ ما يشير إلى خطر الأمر المنهىّ عنه، وإلى أنّه إن وقع من إنسان- أي إنسان- حبط عمله، وساء مصيره..
وفى التعبير عن سوء المصير، بالقعود، ما يشير إلى فداحة الخطب، وأنه من الهول بحيث ينهار معه بناء الإنسان، وتنحلّ قواه، فلا يقدر على الحركة،(8/469)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
بل يتهاوى، ويسقط على الأرض، وعن يمينه وشماله، بقاياه ومخلّفاته، التي لا يأتيه منها غير الذم والتأنيب، على ما فرط منه، وإلا الخيبة والخذلان مما جمع وأوعى!
الآيات: (23- 30) [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 30]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
التفسير:
قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» .(8/470)
فى الآية السابقة على هذه الآية جاء قوله تعالى: «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» - جاء ناهيا ومحذّرا ومتوعدا من يشرك مع الله إلها آخر..
وفى هذه الآية جاءت دعوة الله الناس جميعا إلى الإيمان بالله. فهذا ما قضى الله سبحانه وتعالى به فى عباده، حين أخذ عليهم العهد، وهم فى ظهور آبائهم..
كما يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا» (172: الأعراف) .. فالناس جميعا- بحكم هذا العهد- مؤمنون بالله، بفطرتهم، يولد المولود منهم، وهو على هذه الفطرة، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصّرانه، ويمجّسانه» .
ومن هنا يبدو إيمان الناس بالله وكأنه قضاء قضى الله به عليهم، وألزمهم إياه.. فهم مؤمنون بالله، بحكم فطرتهم المودعة فيهم، ومطلوب منهم أن يستقيموا على هذه الفطرة، وألّا يخرجوا عنها.. فالإيمان بالله غريزة مركوزة فى كيان الإنسان، أشبه بتلك الغرائز التي تتحكم فى سلوك الحيوان.. ولكن الإنسان حين يعقل ويدرك، يصبح كائنا ذا إرادة.. وهو بهذه الإرادة قد يلتقى مع الفطرة، وقد يصطدم بها.. ومن هنا يكون الإيمان والكفر، والهدى والضلال..
- وقوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» معطوف على ما قبله، ويصحّ عطف النهى على الأمر، والأمر على النهى، لأنهما طلبيّان.. وفى النهى معنى الأمر..
فقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» يحمل معنى الأمر، وهو اعبدوا الله.. فحسن عطف الأمر عليه: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ..
وقدّم معمول المصدر، على المصدر، للاهتمام به، لأنه مطلوب الإحسان(8/471)
وغايته.. وأصل النظم «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وإحسانا بالوالدين» ..
ونصب إحسانا بفعل محذوف، تقديره «أحسنوا» ..
وفى عطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين، على النهى عن عبادة غير الله، مزيد اهتمام بالوالدين، واحتفاء بقدرهما، وتنويه بفضلهما.. وذلك لأنهما هما السبب المباشر فى إيجاد الإنسان، حيث ينظر الناظر إلى مواليد الحياة، فيجد أنها ترجع إلى الذكر والأنثى، أو الأب والأم، وإن كان الخلق كله لله سبحانه وتعالى..
ثم لا يقف أمر الوالدين عند حدّ ولادة المولود، بل إنهما يقومان على أمره، ويسهران على كفالته، وتنشئته، حتى يجاوز مرحلة الطفولة والصبا، وحتى فى مرحلة الشباب، لا تنقطع رعاية الأبوين، ولا عنايتهما بأولادهما..
ومن هنا كان للأبوين هذا الحق فى عنق الأبناء، وهو حق توجبه المروءة، ويقتضيه العدل، قبل أن يوجبه الدين، وتقتضيه الشريعة..
وقد دعت الشريعة إلى أداء هذا الحق، فى صورة عامة مجملة، وهو الإحسان إليهما، الإحسان المطلق، الذي يشمل كل خير، ويضمّ كل إحسان.. سواء بالقول، أم بالعمل.. فكل ما هو داخل فى باب الإحسان ينبغى على الأبناء أن يقدموه إلى آبائهم.. «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .
- وفى قوله تعالى: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما» .
إشارة إلى مقطع من مقاطع الحياة، ومرحلة من مراحلها، يبلغها الأبوان، فيكونان فيها فى حال من الضعف والوهن، وذلك حين يتقدم بهما العمر..
وهنا قد يجد بعض الأبناء أن الفرصة ممكنة لهم فى أن يتخفّفوا من حقوق الوالدين، أو أن يسيئوا الأدب معهما..(8/472)
ولهذا جاء قول الله هنا منبّها إلى تلك المرحلة التي قد يبلغها الأبوان من العمر، وما ينبغى أن يكون عليه سلوك الأبناء فيها معهما: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» .
و «إمّا» أصلها «إن» الشرطية، «وما» الزائدة للتوكيد.
و «أفّ» صوت، يدل على الضجر، والضيق من قائله إلى المقول له..
ولا تنهرهما: النّهر: الزجر، والتعنيف فى الخطاب..
فالآية الكريمة، ترسم أدب الحديث مع الوالدين فى حال بلوغهما الكبر..
فالكلمة النابية تجرح مشاعرهما، وتكدر خاطرهما، والكلمة الطيبة تنعش روحيهما وتشرح صدريهما..
إن الأبوين فى حال الكبر لا يحتاجان إلى كثير من الطعام أو الكساء، أو غيرهما من متع الحياة، وإنما الذي يحتاجان إليه فى تلك الحال، هو الإحسان إليهما بالكلمة الطيبة، إذ كان أكثر ما يملكانه ويتعاملان به فى هذه الحال هو الكلام، أخذا، وعطاء..
قوله تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» ..
وخفض الجناح، كناية عن لين الجانب، ولطف المعاشرة، ورقّة الحديث.
والإنسان فيه جانبان من كل شىء.. جانب الخير، وجانب الشر.. جانب القوة، وجانب الضعف، جانب الشدة، وجانب اللين، وهكذا..
وبين جانبى الإنسان إرادة، هى التي تنزع به إلى أي الجانبين.. فهو فى(8/473)
هذا أشبه بالطائر، حين يريد الاتجاه إلى أية جهة، يخفض جناحه لها، على حين يفرد الجناح الآخر..
فكأنّ الإنسان حين دعى إلى أن يلين لأبويه، وأن يرّق لهما، قد مثّل بطائر أراد أن يأخذ هذا الجانب من جانبيه، وهو جانب الرحمة والعطف، فخفض جناحه ومال إليه..
قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» ..
هو تعقيب على ما تضمنته الآيات السابقة من النهى عن الشرك بالله، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.. وهذا التعقيب يقرر أنّ أساس الأعمال كلها، هى القلوب، وما تنطوى عليه، من صلاح.. فإذا كان قلب الإنسان سليما، ونيّته معقودة على الإيمان بالله، والإحسان إلى الوالدين، ثم كان منه زلة أو عثرة، فذلك مما لا يفسد على المؤمن إيمانه، ولا يضيّع على المحسن إحسانه، إذا هو رجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» ..
والأوابون: جمع أواب، وهو كثير الأوب، أي التوبة والرجوع إلى الله.. وهذا يعنى أن الإنسان فى معرض الخطأ والزلل.. وأن الذي يصلح من خطئه، ويصحح من عوجه، هو رجوعه إلى لله، وطلب الصفح والمغفرة منه.
قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» .
هو دعوة إلى الإحسان إلى جماعات لهم حقوق على الإنسان، بعد حقّ الوالدين، وهؤلاء هم:(8/474)
ذوو القربى: أي الأقارب.. غير الأبوين.. كالإخوة، والأخوات، والأعمام والعمّات، وغيرهم ممن تربطهم بالإنسان رابطة القرابة والنسب..
والمساكين: وهم وإن لم يكونوا ذوى قرابة قريبة من الإنسان، فإنهم ذوو قرابة له فى الإنسانية، وهم بعض المجتمع الذي هو منه..
وأبناء السبيل: وهم الذين يقطعهم السفر عن أهلهم، ومالهم.. فهم فى عزلة ووحشة، وهم لذلك، فى حاجة إلى من يؤنسهم ويذهب بوحشتهم.
- وفى قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» إشارة إلى أن ما يبذله الإنسان لهؤلاء الجماعات هو حقّ لهم عنده! فإذا أداه لهم، فإنما يؤدى دينا عليه.. ثم هو مع أداء هذا الدين مثاب عند الله، يضاعف له الأجر، ويجزل له المثوبة..
وقد أطلق الحق، فلم يحدّد، ولم يبيّن، ليشمل كل ما هو مطلوب، حسب الحال الداعية له.
- وفى قوله تعالى: «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ما يشير إلى أمرين:
أولهما: الإغراء بالبذل والإنفاق.. وهذا على خلاف منطوق النظم «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» .. فإن النهى عن التبذير هنا، يشير إلى أن الدعوة إلى الإنفاق قد وجدت أو من شأنها أن تجد قلوبا رحيمة، وأيديا سخيّة، تنفق وتنفق، حتى تجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف، والتبذير.. فجاء قوله تعالى:
«وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ليمسك المسرفين فى البذل والعطاء على طريق الاعتدال.!
وهذا الإغراء إنما هو لما يغلب على النفوس من شحّ وبخل..
وثانيهما: النهى عن التبذير حقيقة.. وذلك أن بعضا من الناس، قد يشتد بهم الحرص على مرضاة الله، والمبالغة فى تنفيذ أمره، فيجاوزون حدّ(8/475)
الاعتدال، ويجورون على أنفسهم، سواء فى العبادة، أم فى غير العبادة من القربات والطاعات.. فإلى هؤلاء يكون النهى عن التبذير طلبا موجّها إليهم..
حتى يلتزموا الطريق الوسط، كما يقول سبحانه، فى مدح المنفقين: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (67: الفرقان) .
قوله تعالى: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً» .. هو تنفير من التبذير، والإسراف.. فى أي وجه من الوجوه، حتى فى مجال الخير والإحسان.. وكفى بالتبذير نكرا أن يكون وجهه دائما مصروفا فى وجوه الشرّ، وقلّ أن يظهر له وجه فى باب الإحسان.. ومن هنا كان مكروها على أي حال، إذ كان الغالب عليه هذا المتّجه المنكر..
قوله تعالى: «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً» .
الضمير فى «عنهم» يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» ..
والإعراض عنهم، هو الإمساك عن إعطاء الحق الذي هو لهم.
والرحمة المرجوّة من الله: هى الرزق المنتظر من فضله سبحانه وتعالى..
ومعنى الآية: إنك أيها الإنسان، إن أمسكت لضيق ذات يدك عن أن تؤدّى حق ذى القربى والمسكين وابن السبيل، منتظرا رزقا وسعة فى الرزق من الله.. فلا يمنعنّك هذا من أن تحسن إليهم بالكلمة الطيبة «فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً» .. أي طيبا ليّنا، فيه مسرّة لهم، وجبر لخاطرهم، وتيسير لمعسورهم، وفى الحديث: «الكلمة الطيبة صدقة» ..
قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» .(8/476)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
هو تحذير من الشحّ والبخل، وقد صوّر بهذه الصورة التي يبدو فيها البخيل الشحيح، وقد غلّت يده إلى عنقه، فلا ينتفع بها فى أي وجه من وجوه النفع، كما أنه لم يكن يوجهها بخير إلى أحد.. فهى يد معطلة، فكان شدّها إلى عنقه إعلانا عن صفتها التي أصبحت عليها..
وكما أن الشحّ مذموم، فكذلك السّرف مذموم.. كلاهما خروج عن حدّ الاعتدال، الذي هو ميزان العدل، والحكمة! والبخيل والمبذر، كلاهما ينتهى أمره إلى الندم والحسرة.. البخيل إذ لم ينتفع بما بين يديه من نعم الله.. والمبذر، إذ ضيّع هذه النعم، ولم يبق على شىء منها..
قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ..
بسط الرزق: سعته وكثرته..
وقدر الرزق: قلّته بالنسبة للرزق الكثير المبسوط..
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يرزق الناس، وهو سبحانه الذي يبسط الرزق ويوسعه لبعضهم، على حين يعطى منه بقدر لآخرين.. وهذا وذاك إنما هو بحساب وتقدير، وعن علم وحكمة.. «إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ..
الآيات: (31- 39) [سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 39]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)(8/477)
(العرب. وقتل الأبناء ووأد البنات) التفسير:
رسمت هذه الآيات منهجا متكاملا لبناء لإنسان على أسس سليمة، وقواعد ثابتة، من الحق، والخير، ولإحسان. ففى اجتناب منهيات هذه الآيات، وإتيان مأموراتها، ضمان لسلامة الإنسان، وسعادته فى الدنيا والآخرة، ولهذا جاء وصف هذا المنهج بأنه مما أوحى به الله سبحانه وتعالى إلى نبيه، من معالم الحكمة، كما يقول سبحانه: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» .
وقوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» - هو وصاة للآباء بما يجب عليهما نحو أولادهم، وذلك مقابل ما أوصى به سبحانه الأولاد، بما يجب عليهم نحو آبائهم..(8/478)
والآباء- فى الواقع- فى غير حاجة إلى تنبيه إلى ما يجب عليهم نحو أولادهم، من صيانة ورعاية، فتلك فطرة، أقوى من أن تخضع لمؤثرات من الخارج، تضعفها، أو تنحرف بها عن غير طريقها المرسوم لها.. فحبّ الأبناء غريزة فى كل كائن حىّ، حتى النّبات، الأمر الذي يجعل من الأصول قوة عاملة، ساهرة، على صيانة الفروع، وتثبيت أقدامها فى الحياة، وذلك لحفظ النوع، الذي هو أقوى قوة عاملة فى الكائن الحىّ..
والنهى عن قتل الأولاد، إنما هو لمحاربة آفة عارضة، أصابت بعض القبائل العربية فى الجاهلية، فدفعت بهم إلى قتل أبنائهم، ووأد بناتهم.!
والذي يتأمل فى هذه الظاهرة التي فشت فى بعض القبائل العربية، يجد أنها إنما قامت أصلا على غريزة حبّ الآباء للأبناء، وحرصهم على كفالتهم، وضمان أمنهم وسلامتهم.. وذلك أن ما كان يلقاه الأعرابى من فقر، وما يقاسيه من بلاء وضرّ فى سنى الجدب والمحن، هو شىء مفزع مخيف.. إذا نظر الأعرابى إليه وهو يتجه إلى بنيه، ويمدّ يده إليهم، ويبسط جناحه المشئوم عليهم، هاله ذلك وأفزعه، ورأى الموت لبنيه رحمة من هذا البلاء، وشفاء من هذا الداء.!
لهذا، كان التخلص من الأبناء، عند الولادة، هو المهرب الذي فرّ إليه بعض الأعراب بأبنائهم من وجه هذا المستقبل الكئيب الذي ينتزع أبناءهم من بين أيديهم- تحت وطأة الجوع، ويسلبهم الحياة نفسا نفسا، ويذيقهم الموت موتات، لا موتة واحدة! قد يكون هو الجهل، وسوء التدبير، وفساد العقيدة، ذلك الذي سوّل لبعض الأعراب أن يصنعوا بأبنائهم هذا الفعل الشنيع المنكر.. ولكن ليس هو جفاف العاطفة، ولا جفاء الطبع، ولا بلادة الحس، بل ربّما كان ذلك- كما قلنا- عن زيادة فى خصب العاطفة، ورقة الطبع، ورفاهة الحسّ، حيال(8/479)
تلك الظاهرة- ظاهرة الميلاد- التي يرى فيها البدوىّ وجه الحياة مطلّا عليه، فى صورة وليد أو وليدة له من بين هذا الموات العريض الذي يملأكل دنياه، وإذا هذه الحياة البازغة عنده، محملة بألوان الضرّ والبلاء، ملففة فى أكفان الموت الرهيب! وفى «الرثاء» الذي نجده فى مخلفات الشعر الجاهلىّ، ما يشهد لما فى الطبيعة العربية الجاهلية من تعلق بالحياة والأحياء، وخاصة حياة الأبناء، وفلذات الأكباد.. ففى تلك المقطعات من الشعر، نشمّ ريح أكباد تحترق، ونجد مسّ أنفاس تلتهب، ونحس أنين زفرات لا تكاد تنقطع، وتساقط عبرات لا تكاد ترقأ.
فعلى الذين يتخذون من هذا الفعل الذي كان يفعله بعض الأعراب بأبنائهم- شاهدا على وحشيّة العرب، وفساد طبيعتهم، وانتكاس البشرية فيهم- عليهم أن يصححوا نظرتهم إليهم، وأن يردّوا هذه الظاهرة إلى أصلها الذي جاءت منه، وسيرون من هذا، أن قتل بعض الأعراب لأبنائهم، كان- حسب تقديرهم- حماية لهم من الموت البطيء، وفرارا بهم من ملاقاة تلك الحياة القاسية المهلكة.. ولأمر ما تأكل بعض الحيوانات أبناءها..
كما تفعل القطط مثلا، حين ترى أولادها فى معرض الهلاك، من عدوّ يهجم عليها، وينتزعها منها.. إنها حينئذ لا تجد مكانا أمينا تغيبهن فيه عن عين عدوّها إلا بطنها الذي خرجن منه منذ قليل! أمّا وأد البنات، فهو فرع من هذا الأصل، وهو قتل الأبناء خشية الفقر.. وأنه إذا كان بعض الآباء يمسك البنين، ويئد البنات، فلأن البنات أقلّ احتمالا من الأبناء، ولأن فى تعرضهن لهذه الحياة القاسية ما قد يمسّ شرفهن. ويلحق العار بهن وبآبائهن! ولهذا كان وأد البنات فاشيا أكثر من قتل الأبناء!(8/480)
ولا نجد عاطفة للأبوة أرقّ وأحنى وأنبل من تلك العاطفة التي كان يحملها العربي «للبنت» وحسبنا أن نذكر قول أبى خالد المازني، وكان من «الخوارج» .. وقد لامه قطرىّ بن الفجاءة على أن يكون فى القاعدين عن الحرب، فقال:
لقد زاد الحياة إلىّ حبّا ... بناتي إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنفا «1» بعد صاف
وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كوم عجاف «2»
ولولا ذاك قد سوّمت مهرى ... وفى الرحمن للضعفاء كاف
والأبيات فى غنى عن الشرح والتعليق.. فهى كما ترى من توهج العاطفة، وصدق الشعور، وقد جاءت نغما رائعا يأخذ بمجامع القلوب، ويستولى على مواطن الحبّ والرحمة والحنان..
وفى الشعر العربىّ كثير من مثل هذه المواقف التي تكشف عن تلك العواطف الرقيقة التي كان يحملها العربىّ لبناته، صغيرات وكبيرات.
الفقر إذن، وما قد يقاسيه الأولاد من مسغبة قاتلة بيد الحرمان، هو الذي دفع ببعض العرب، إلى هذا الفعل المنكر، الذي كانوا يفعلونه، وأكبادهم تتمزق حسرة، وقلوبهم تتنزّى ألما، ولهذا جاء قوله تعالى: «خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» كاشفا عن العلّة التي من أجلها كان يقتل العربي ابنه، أو أبناءه، أو يئد بنته أو بناته.
وقد صحّح الله سبحانه وتعالى ما وقع فى تفكيرهم من خطأ، أدّى بهم إلى
__________
(1) الرنق: العكر.
(2) الكوم: جمع كوماء، وهى الناقة الفتية، والعجاف: جمع عجفاء، وهى الهزيلة.(8/481)
هذا التفكير السقيم، وذلك السلوك المنحرف، فقال تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» .. فهؤلاء الأولاد قد خلقهم الله، كما خلق آباءهم من قبل، وقد تكفّل بأرزاقهم كما تكفّل بأرزاق آبائهم، حتى كبروا وصاروا آباء.. فلم يقطعون على أبنائهم طريق الحياة؟ ولم لا يدعونهم يعيشون كما عاشواهم؟ إنّهم لا يرزقونهم، ولكن الذي يرزقهم ويرزق آباءهم- هو الرزّاق ذو القوة المتين.. الله ربّ العالمين..
وفى تقديم رزق الأبناء على الآباء ما يشير إلى أنهم جميعا على سواء فى الرزق عند الله، لا يملك هؤلاء، ولا هؤلاء رزقا لأنفسهم، وإنما يرزقون جميعا من فضل الله..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» تأثيم لهذا الفعل، وتجريم له، وتشنيع عليه، وأنه خطأ ارتكبه الآباء عن نيّة حسنة، ولكنه يحمل قدرا كبيرا من الشناعة والمنكر، فهو خطأ وخطء معا.. والخطء، هو الذنب، والخطيئة.
قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» ..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تضمنت فيما تضمنت نسبة الأبناء إلى الآباء.. وهذه النسبة لا تعرف إلا إذا كانت علاقة الرجل بالمرأة قائمة على أساس سليم، فلا يتصل الرجل بغير امرأته، ولا تتصل المرأة بغير زوجها..!
فاتصال الرجل بغير امرأته، والمرأة بغير زوجها، فيه عدوان على هذه الحرمة التي يجب أن تقوم بين الزوجين.. ثم فيه من جهة أخرى، اختلاط للأنساب، وضياع للحقوق التي تقوم على هذه الأنساب، فلا تكون هناك صلة جامعة بين آباء وأبناء.
والفاحشة، والفحش: المنكر، السيّء، القبيح. والوصف الملازم للزنا(8/482)
دائما، هو أنه فاحشة، حيث يطلّ منه هذا الوجه المنكر الكريه، الذي ينطق بالخيانة، والعدوان..
قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» ..
بعد أن نهت الآية السابقة عن قتل الأولاد بيد الآباء، صيانة للنفس من حيث هى نفس، ورعاية لهذه الصلة الوثيقة، وتلك الرابطة القوية التي تربط بين الآباء والأبناء- جاءت هذه الآية ناهية عن قتل النفس- أىّ نفس- لتلك الاعتبارات التي تمسك يد الآباء عن قتل أبنائهم.. فالناس جميعا أبناء نفس واحدة، وإن تفرقوا شعوبا وقبائل، واختلفوا ألسنة وألوانا.. فكما تقوم بين الآباء والأبناء صلة الدم التي تحجزهم- أو من شأنها أن تحجزهم- عن قتلهم، كذلك تقوم صلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من شأنها أن تكفّ يده عن قتله..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِالْحَقِّ» قيد وارد على النهى المطلق، وهو أنه وإن كان للنفس الإنسانية هذه الحرمة التي تعصمها من القتل، فإن هناك بعض النفوس ترفع عنها هذه العصمة فتستحق القتل، وذلك حين يستخفّ صاحبها بنفس غيره، ويستبيح دمه.. هنا يكون القصاص، ويكون قتل القاتل، حقّا مشروعا.. فذلك هو العدل الذي إن لم يستقم ميزانه بين الناس على هذا الوجه، اضطرب أمنهم، وشاع الفساد فيهم.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» وتقتل النفس كذلك، وقتلها حق، فى حال الكفر بعد الإيمان، والزنا مع الإحصان. فالكفر بعد الإيمان عدوان على الله، وإهدار لآدمية النفس التي لبست الإيمان، ثم خلعت هذا اللباس وارتدت الكفر.. إنها كانت حيّة بالإيمان، فأماتها صاحبها بالكفر، فكان(8/483)
الحكم عليها بالموت تحقيقا لأمر هى فيه، فعلا.. وكذلك الزاني المحصن، قد اعتدى على حقّ غيره، وغرس فى مغارسه، التي يستنبت منها حياة إنسانية مثل حياته.
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» .
- الذي قتل مظلوما، هو الذي قتل عدوانا وبغيا من غير جريرة استحق عليها القتل، وهو أن يكون قاتلا لنفس بغير حق..
والولىّ، هو من يكون إليه أمر القصاص من القاتل، سواءا كان قريبا، أم سلطانا.. والسلطان، هو سلطان الحق، الذي فى يد ولىّ المقتول على القاتل..
فهو بهذا الحق يقتل القاتل..
وليس لولىّ المقتول، أن يجاوز الحق الذي له على القاتل، فيقتل غير القاتل، أو يقتل مع القاتل غيره، كابن أو أخ.. كما أنه ليس له أن يمثّل بالقاتل.. وإنما هى ضربة بضربة..!
فهذا هو الإمام علىّ- كرم الله وجهه- حين طعنه ابن ملجم- لعنه الله- هذه الطعنة الغادرة، استدعى أبناءه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- رضى الله عنهم- وأوصاهم فيما أوصاهم به، فقال: «إن عشت فأنا صاحب الحق، إن شئت أخذت بحقّى، وإن شئت عفوت، وإن متّ فضربة بضربة، ولا تمثّلوا» .. فالتمثيل بالقاتل هو من الإسراف فى القتل الذي تضمنه النهى فى قوله تعالى. «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» ..
هذا، السلطان، الحاكم، هو ولىّ دم كل قتيل يقتل ممن هم تحت سلطانه.. وله أن يتولىّ قتل القاتل، أو أن يسلّمه إلى يد أولياء القتيل، ليقتلوه هم بأيديهم، شفاء لما فى أنفسهم من حزن على قتيلهم، ومن نقمة على قاتله.(8/484)
قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» ..
تنهى هذه الآية عن حرمة من حرمات الله، وهى مال اليتيم، التي هى أشبه بحرمة النفس، التي حرّم الله قتلها، إلا بالحقّ.. فمال اليتيم، قد حرّم الله سبحانه وتعالى أن يقربه أحد إلا بالتي هى أحسن، أي بما فيه إحسان إلى اليتيم، وتنمية لماله، وتثمير له.. وبهذا يستحق القائم على هذا المال أن يأكل منه، فى مقابل الجهد الذي بذل فيه.. «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (6: النساء) .
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا» تنبيه إلى هذا الخطر، الذي يتهدّد من يقرب مال اليتيم، ويطوف بحماه، حيث نوازع النفس إليه، ودواعى الطمع فيه، إذ كان ولا قدرة لصاحبه على دفع يد من يريده بسوء..
- وفى قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» هو إلفات إلى الأوصياء على اليتامى، وأن أموالهم هى أمانة فى يد هؤلاء الأوصياء، فهذا عهد أخذه الله عليهم وألزمهم الوفاء به.. وإن العبث بهذا المال، أو التفريط فيه، أو العدوان عليه- هو نقض لهذا العهد، وخيانة لتلك الأمانة.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» تنويه بهذا العهد، وتشديد النكير على من يغدر به، إذ جاء النظم مصورا العهد، بتلك الصورة الحيّة العاقلة، التي ترى وتعقل ما كان من أصحابها من غدر أو وفاء.. فإن هى سئلت، أجابت، وكشفت عن حالها مع الغادرين أو الموفين! قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» .
القسطاس: الميزان، ويقول اللغويون والمفسرون، إن الكلمة فارسية معرّبة..(8/485)
وقد استعمل بمعنى العدل، كما فى قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» - ونحن نرى أنها عربية صميمة، فى بنائها، وفى ميزانها الصرفى..
وقد تصرّف القرآن الكريم فى هذه الكلمة على جميع الوجوه، فجاء منها بالفعل.. فقال تعالى: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. وبالمصدر فى قوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» وباسم الفاعل فى قوله سبحانه: «وَمِنَّا الْقاسِطُونَ» .. وهكذا تصرّف القرآن بهذه الكلمة كما يتصرف فى كل كلمة عربية متمكنة فى عروبتها..
أما وزنها، فهو جار على وزن المصدر من الفعل الرباعي.. فقسطاس على وزن فعلال، من قسطس، مثل دحراج من دحرج، وزلزال من زلزل..
والتأويل: العاقبة، وهو ما يؤول إليه الأمر وما ينكشف مع الزمن منه..
والآية، تدعو إلى رعاية الحقوق، وقيامها على ميزان الحق والعدل، أخذا وعطاء..
والكيل والوزن، هما أكثر ما تقع الخيانة فيهما، ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الذين يعبثون بهما، ولا يرعون الأمانة فيهما، فقال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .. بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد بعث الله نبيا كريما هو «شعيب» كانت رسالته قائمة على رعاية الكيل والميزان..
قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» ..(8/486)
اختلف النظم فى هاتين الآيتين عنه فى الآيات السابقة، حيث جاء الخطاب فيهما بلفظ المفرد، على حين كان الخطاب فى الآيات السابقة موجها إلى الجمع..
والسرّ فى هذا، هو أن المنهي عنه فى الآيات السابقة كان عن أمور لا تحقّق إلّا بأكثر من شخص، كقتل الأبناء، الذي هو فى أضيق صوره لا يتم إلا بين أب وابنه، وكقتل النفس، الذي لا يكون إلا بين قاتل ومقتول.. ومال اليتيم، الذي هو بين اليتيم والوصىّ عليه.. والزنا، الذي بين رجل وامرأة، وكذلك الكيل والميزان، ونحوهما.. إنها عمليات لا تتم إلا بين آخذ ومعط..
أما ما جاء فى قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» .. فهو شأن من شئون الإنسان وحده، لا يكاد يطّلع عليه أحد سواه..
- ومعنى قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ» أي لا تتّبع.. وأصله من القفو والقفا، وهو أن يتبع الإنسان خطو غيره، ويسير وراءه، أي يجىء من قفاه.. ومنه القافية فى الشّعر، لأنّها آخر البيت..
وفى الآية الكريمة دعوة آمرة، إلى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتوجيه ملكاته إلى هذا الوجود، فلا يقول إلا عن علم، ولا ينطق إلا بما يمليه عليه عقله، ويوحى إليه به إدراكه..
فالآية الكريمة تنهى عن أن يكون الإنسان إمّعة، يتبع كل ناعق، ويجرى وراء كل داع، دون أن يكون له رأى فيما يعمل ويقول.. وهذا معناه تعطيل لمدركاته، وعدوان على إنسانيته بحرمانها من حقّها فى التزوّد بزاد العلم والمعرفة..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى ما للسمع، والبصر، والفؤاد من قوة قادرة على اصطياد(8/487)
المعرفة، وتحصيل العلم.. إنها أجهزة قادرة على أن تمكّن للإنسان من أن يتهدّى إلى مواقع الخير، وأن يصل إلى مواطن اليقين من كل أمر يعرض له، إذا هو أحسن استعمال هذه الأجهزة، وأصغى لندائها.. إنها أجهزة عاقلة رشيدة، فى كيان الإنسان العاقل الرشيد، ولهذا جاءت الإشارة إليها بلفظ العقلاء:
«أولئك» .. والفؤاد: هو القلب، وما يتصل به من قوى الإدراك والشعور.
- وفى قوله تعالى: «كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن الإنسان سيسأل عن تلك الجوارح وهذه القوى التي أمدّه الله بها، ليتعرف بها إلى الحق والخير، فإن هو عطلها أو وجهها إلى وجوه الشر والفساد، كان مسئولا عنها، محاسبا على تفريطه أو إفراطه فيها..
قوله تعالى: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» ..
هو دعوة إلى الإنسان فى ذات نفسه إلى أن يعرف قدره، ولا يجاوز حدوده..
فإذا كان فى الناس من يزرى بقدر نفسه، فلا يرى لها حقّا فى أن تأخذ مكانها فى الحياة، وموقفها مع الناس، ويرضى لنفسه أن يقاد فينقاد، دون أن يفكر أو يقدر.. فإن فى الناس من يذهب به الغرور بنفسه إلى حدّ يجعله يقيم لنفسه مقاما من مدّعيات وأباطيل، يطاول به السماء، ويتعالى به على العالمين..
وكلا الرجلين مذموم، مجانب لطريق الحق والهدى.
والمحمود من الإنسان هو أن يأخذ طريقا وسطا.. فيستعمل قواه وملكاته بحكمة، واعتدال، ثم إذا بدا له أنه ممن آتاهم الله بصيرة نافذة، وعقلا راجحا،(8/488)
فلا يكن ذلك داعية له إلى التعالي على الناس، وإلى النظر إليهم معجبا بنفسه، مزهوّا بعلمه.. فإنه مهما بلغ من قوة وعلم، فإنه إنسان، وفى حدود البشرية ينبغى أن يعيش.. وإنه مهما بلغ من قوة، فلن يخرق الأرض بقدميه الواهيتين، إذ يضرب بهما وهو يسير فى الأرض مرحا.. وإنه مهما شمخ بأنفه، ونفخ فى أوداجه فلن يطاول الجبال.. فلم إذن هذا الضّرب على الأرض بالقدمين؟ ولم هذا التشامخ بالأنف والتطاول بالعنق؟ إن ذلك عناء لا جدوى منه، ولا طائل تحته! قوله تعالى: «كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» .
لفظ الإشارة «ذلك» مشار به إلى كل ما تقدم من منهيّات وأوامر..
وأن هذا الذي وقع النهى عليه هو السيّء، المكروه عند الله، يجب اجتنابه وحراسة الإنسان نفسه من أن يلمّ به..
قوله تعالى: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» ..
الإشارة «ذلك» إلى ما تحدثت به الآيات السابقة من منهيات ومأمورات، وهى من الحكمة التي أوحى الله سبحانه وتعالى بها إلى النبىّ.. وفى الخروج عليها مهلكة وضياع.
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» إظهار مزيد من العناية بهذا الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى من الحكمة، وهو النهى عن الشرك بالله، إذ كان الشرك بالله- عصمنا الله منه- هو كبيرة الكبائر، لا يصلح لإنسان مع الشرك عمل أبدا.. وليس للمشرك مصير إلا النار.(8/489)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
وفى توجيه الخطاب إلى النبي الكريم، تشنيع على الشرك، وتهويل لخطره، وأنه مطلوب من النبىّ- وهو من هو عند الله- أن يحرس نفسه منه..
ويتوقّى المواطن التي يجىء منها.
فإذا كان هذا شأن النبىّ، وهو المصطفى من بين عباد الله، والمحفوف بألطاف الله ورحمته.. فكيف شأن الناس، وهم فى مواجهة هذا الداء الخطير؟ إنّهم فى حاجة إلى مراقبة شديدة، وإلى حراسة دائمة، من أن يندسّ إليهم هذا الداء، فى سرّ أو علن.. فما أكثر المسارب الخفيّة التي ينفذ بها الشرك إلى الناس..
الآيات: (40- 44) [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
التفسير:
قوله تعالى: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» ..
ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، الشرك، والخطر الذي يتهدّد الناس(8/490)
منه.. فناسب أن تجىء هذه الآية، لتضبط المشركين من أهل مكة، وهم متلبسون بشركهم بالله، وعبادتهم الملائكة واتخاذهم لهن ربّات، على حساب أنهن بنات الله! وفى هذا الاستفهام إنكار عليهم، وتوبيخ لهم أن يجعلوا لله البنات، على حين أنهم لا يرضون أن يولد لهم البنات.. فكيف يئدون البنات، ثم يعبدونهن؟ ثم كيف يجعلون لله البنات، ويجعلون لهم البنين؟ أهذا يتفق- حتى فى منطقهم- مع مقام الله الذي يعبدون بناته؟ إنّ أقل ما يقتضيه هذا المنطق أن يكون أبناء الله ذكورا، إذ كان الذكور عندهم فى مقام محمود محبوب! ولهذا جاء قوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (21- 22: النجم) .. منكرا عليهم هذه القسمة الجائرة، مسفّها أحلامهم الفاسدة، وتصوراتهم المريضة! - وفى قوله تعالى: «إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» اتهام لهم بهذا القول المنكر الشنيع الذي يقولونه على الله سبحانه وتعالى.. ووراء هذا الاتهام إدانة، وعقاب راصد شديد! وأصفاه بالشيء: اختصه به، وجعله خالصا له..
وفى نسبة الإصفاء إلى الله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي يهب لكم ما يهب من بنين، إنه لا يستقيم مع منطق أن يخصهم الله تعالى بالبنين، ثم يجعل لنفسه البنات؟
قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ..
التصريف: عرض الأمر على وجوه مختلفة، حتى يظهر ظهورا تاما، ويتضح وضوحا مبينا.. وفى القرآن الكريم معارض كثيرة للقضايا التي عرضها(8/491)
على العقل الإنسانى، حتى يراها على كل وجه من وجوهها، وذلك زيادة فى البيان، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد هذا البيان المبين..
- وفى قوله تعالى: «لِيَذَّكَّرُوا» إشارة إلى الحكمة من هذا التصريف الذي جاء فى القرآن لآيات الله.. وذلك ليكون للناس منه عبرة وذكرى، حيث تلقاهم العبر، ناطقة الدلائل والشواهد..
- وفى قوله تعالى: «وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» إشارة إلى ما فى الناس، وخاصة هؤلاء المشركين من قريش، من عناد، يعمى أبصارهم عن الحق، ويصمّ آذانهم عن الاستماع إلى آيات الله وكلماته.. فلا يبصرون شيئا، ولا يعقلون حديثا..
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» ..
فى هذه الآية ردّ على مفتريات المشركين، على الله، واتخاذهم آلهة يعبدونها من دونه، ويجعلونهم شركاء له، قائلين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .
فالله سبحانه وتعالى- عند المشركين- هو إله مع آلهة، وربّ مع أرباب، وإن كان له المقام الأول فيهم.. وهذا ما لا يجعل لله السلطان المطلق فى هذا الوجود، بل يجعل لهذه الآلهة، وتلك الأرباب شأنا معه، كشأن الأمراء مع الملك مثلا..
الأمر الذي لا بد أن ينتهى يوما إلى منازعة وشقاق، بين هؤلاء الآلهة وبين الإله الأكبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» أي لو كان مع الله آلهة، لتطاولت أيديهم إلى صاحب العرش، ولنازعوه السلطان، فرادى أو مجتمعين.. وهل سلم صاحب سلطان من أن ينازعه فى سلطانه من هم دونه من أمراء، ووزراء؟ فكيف يكون مع الله سبحانه وتعالى(8/492)
آلهة أخرى ثم لا ينازعونه سلطانه؟ وهل إذا وقع تنازع فى هذا الملكوت، يستقيم له نظامه هذا الذي يقوم عليه؟
قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً» ..
هو تنزيه لله، وتقديس لمقامه أن يقال فيه هذا القول المنكر، وهو ما يقوله المشركون، من أن لله أبناء، أو بنات، هن آلهات معه..
قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» .
إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من مخلوقات ناطقة أو صامتة، كبيرة أو صغيرة كلها، تسبّح بحمده، تسبيح ولاء وخضوع، كما يقول جلّ شأنه:
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وكما يقول سبحانه عن الملائكة: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (26- 27: الأنبياء) .
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. أي إن هذه العوالم المبثوثة فى السموات والأرض، تسبّح لله تسبيحا لا يفقهه إلا العالمون، الذين يرون فى تجاوب هذا الوجود، وفى خضوعه للسنن التي أجراه الله عليها، تسبيحا وولاء، وعبودية خالصة لله ربّ العالمين.. ففى التعبير بكلمة «تفقهون» إشارة إلى أن هذا التسبيح لا يراه ولا يدرك معناه إلا أهل الفقه، الذي اختصّ به الراسخون فى العلم.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» إشارة إلى تلك المقولات الضّالة التي يقولها المشركون فى الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخذهم بحلمه، فلم يعجّل لهم العقاب، بل أفسح لهم فى الأجل، ومدّ لهم فى العمر، حتى يتاح لهم إصلاح ما أفسدوا، ويرجعوا إلى الله، ويستقيموا على طريق(8/493)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
الحق، حيث مغفرة الله الواسعة التي تظلل بجناحها التائبين اللائذين بجناب الله، الطامعين فى رحمته.
الآيات: (45- 47) [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» ..
الواو هنا للاستئناف، والآية حديث مستأنف، يكشف عن حال المشركين، وهم فى حال يستمعون فيها إلى النبي، وهو يقرأ القرآن.. إن الله سبحانه وتعالى قد جعل بينهم وبين النبىّ حجابا مستورا، فلا يصل شىء مما يقرأ من القرآن إليهم، ولا ينفذ إلى قلوبهم..
- وفى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» إشارة كاشفة عن الداء الذي يسكن إلى كيان المشركين، ويفسد عليهم مدركاتهم وتصوراتهم وإيمانهم بالله. إنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله.. ومن هنا، كانت الصلة بينهم وبين الله قائمة على هذا الضلال والفساد..(8/494)
- وفى قوله تعالى: «حِجاباً مَسْتُوراً» إشارة إلى أن هذا الحجاب، شىء معنوى، غير محسوس، لا يرى، فهو مستور عن نظر القوم.. إنه حجاب مضروب على آذانهم فلا تسمع، وعلى قلوبهم فلا تعقل.
قوله تعالى: «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» ..
هو بيان لهذا الحجاب المستور، الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين المشركين وبين النبىّ، وهو يقرأ القرآن، ويرفع منه للناس معالم الهدى.. فهؤلاء المشركون قد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي أغطية كثيفة، أشبه بالجحر الذي يستكنّ فيه الحيوان، ويعتزل فيه العالم الخارجي، فلا يرى أحدا، ولا يراه أحد..
كذلك جعل على آذانهم «وقرا» أي ثقلا فى السّمع، فلا تسمع شيئا.. فقد يحتجب الحيوان داخل كنّه عن العالم الخارجي، ولكن يظل مع ذلك متصلا به عن طريق السّمع.. أما هؤلاء المشركون، فقد أخذ الله سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم.. فهم أموات غير أحياء، وإن خيل إليهم أو للناس أنهم أحياء.. يسمعون، ويبصرون، ويعقلون! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» - إشارة إلى ما ركب المشركين من ضلال، فى تصورهم لمقام الألوهية..
فهم يقبلون الاستماع إلى أي حديث يذكر فيه الله مع الآلهة التي يعبدونها..
أما إذا ذكر الله وحده فى قرآن أو غيره، فذلك حديث بغيض إليهم، يلقونه منكرين، بل مذعورين، إذا وقع على آذانهم: «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» أي صدموا به، فارتدوا على أدبارهم كما ترتدّ الكرة، اصطدمت بحائط! قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ..(8/495)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
فى الآية الكريمة، تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين يستمعون إلى القرآن، بقلوب مريضة، ونيّات خبيثة، منعقدة على الكيد، لا تبتغى بهذا الاستماع طلب هدى، أو التماس حق.. وإنما غايتها اصطياد المعاثر، والوقوع على ما يغذّى ضلالهم، ويقيم لهم حجة على هذا الضلال.
- وفى قوله تعالى: «بِهِ» إشارة إلى تلك الأجهزة الفاسدة التي صحبوها معهم، ليستمعوا بها إلى القرآن.. فهذا الذي يستمعون به من أجهزة، إن هو إلا قلوب مريضة، وطوايا خبيثة، مبيّتة للشر، راصدة للعدوان! - وفى قوله تعالى: «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» فصح لهؤلاء المشركين، وهم يستمعون إلى القرآن.. إنهم يستمعون إليه متلصصين، بعيدا عن أن يراهم أحد.. حيث تقع لآذانهم كلمات الله، فيتناجون فيما بينهم بها، ويبحثون عما يقولونه من زور وبهتان فيها.. ثم تنتهى بهم تلك المناجاة إلى هذا الحكم الفاسد، الذي يصدرونه على القرآن، وعلى النبىّ لذى يتلو هذا القرآن فيقولون: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي إن اتبعنا هذا الرجل فلن نتبع «إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» قد مسّه طائف من الجنّ، فاضطرب عقله، واحتلّ تفكيره، وأصبح يهذى بهذا القول الذي يردّده، ولا يملّ ترديده.. «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» (25: المؤمنون) .
الآيات: (48- 52) [سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 52]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)(8/496)
التفسير:
قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ..
الأمر هنا «انظر» هو إلفات للنبىّ، ولكلّ مؤمن، أن ينظر فى تلك المقولات التي يقولها المشركون، وإلى تلك الأمثال التي يضربونها، ويتحدون منها حجة على إنكار البعث.. وقد كانت تلك الأمثلة التي ضربوها مما أملته عليهم أهواؤهم الفاسدة، وعقولهم المريضة- كانت سببا فى أن ضلّوا هذا الضلال، الذي ألقى بهم فى متاهات لا يستطيعون الخروج منها، ولا يجدون فيها من يدلّهم على طريق يسيرون فيه، حتى فى وسط هذا الضلال.. إنهم فى حيرة مطبقة، يدورون فيها حول أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» حيث نفى الاستطاعة المطلقة عنهم، إلى التعرّف على أي طريق.. ولو كان من طرق الضلال..
وقدّم الأمر بالنظر إلى تلك الأمثال التي ضربوها، على هذه الأمثال، حتى يتهيأ الناظر إليها، ويخلى نفسه من كل نظر إلى غيرها.. وذلك لما فيها من فتنة وضلال.. الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر فيها، حتى يتوقى الناظر إليها ما فيها من شرّ مستطير، وخطر داهم..
قوله تعالى: «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» هذا هو المثل الذي ضربوه.. وهو مثل واحد، وقد سمّى «أمثالا» لأنه(8/497)
يحوى منكرا غليظا، تتولد منه منكرات.. إذ هو ينكر البعث أولا، وينكر قدرة الله ثانيا، ثم يتولّد من هذا وذاك ما يتولّد، من كفر، وضلال، وشرك بالله ثالثا والاستفهام هنا، استفهام إنكارى.. ينكرون فيه أن يبعثوا، بعد أن تبلى أجسادهم وتصير ترابا.
والرّفات: العظام المتحلّلة، التي ضاعت معالمها، وصارت ترابا فى التراب..
قوله تعالى: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» ..
ينغضون إليك رءوسهم: أي يحركونها فى إنكار، وإباء، وتكرّه..
شأن من يأخذ دواء مرا، فيأتى بهذه الحركة الجنونيّة برأسه، من غير وعى! والآية تردّ على المشركين هذا الضلال، الذي ضربوا له مثلهم هذا.. إنهم يستنكرون أن يبعثهم الله بعد أن تبلى عظامهم، وتتحلل أجسامهم.. فدفع الله سبحانه مثلهم هذا بمثل هو أشدّ إنكارا عندهم للبعث، فقال تعالى: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» .. أي كونوا على أية صفة هى أبعد وأغرب من صفتكم التي تكونون عليها بعد الموت.. كونوا حجارة جامدة، لا صلة بين الحياة وبينها، أو حديدا، أصلب من الحجارة، وأبعد منها نسبا إلى الحياة.. أو كونوا أي خلق آخر يكبر فى صدوركم، ويكون أبعد من الحجارة والحديد استحالة فى بعث الحياة فيه.. كونوا عدما مطلقا.. فإن قدرة الله سبحانه وتعالى لا يعجزها شىء.. وإنكم إذا أنكرتم هذا، وقلتم: من يبعثنا إذا صرنا على هذه الحال أو تلك، فهذا هو الجواب: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إنه سبحانه، قد خلقكم من تراب وفطركم منه، أي أنبتكم كما ينبت(8/498)
النبات، الذي يفطر الأرض، أي يشقّ وجهها.. وإذا قلتم فى إنكار: «متى هو؟» أي متى هذا البعث؟ فهذا هو الجواب أيضا: «عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» . إنكم لا تعلمون وقته، ولكنه آت لا ريب فيه، وربما كان ذلك قريبا، أقرب مما تقدّرون وتتصورون.. «وعسى» فعل يفيد الرجاء، وتوقع الحدوث لما وقع عليه.. وهذا الرجاء إنما هو بالنسبة إلى المخاطبين.. وأنهم فى موقف الانتظار لهذا الأمر لذى لن يطول انتظارهم له..
قوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» ..
هو بيان لميقات هذا البعث الذي سأل المشركون عنه هذا السؤال الإنكارى، بقولهم: «متى هو؟» ..
إنه اليوم الذي ينتظر أمر الله، ودعوته الموتى من قبورهم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» (25: الروم) - وفى قوله تعالى: «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» - ما يسأل عنه، وهو: كيف يستجيبون لدعوة الله لهم من قبورهم، بالحمد، وقد جاء فى قوله تعالى فى سورة يس «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» فهم ينادون هنا بالويل، فكيف يستجيبون هناك بالحمد. والموقف هو هو؟
والجواب على هذا- والله أعلم-: أن هذا وذاك وإن كان منهم فى يوم البعث، إلا أن كلّا منهما فى موقف غير الموقف الآخر.. فهم حين يبعثون من قبورهم، يحمدون لله، على أن أحياهم بعد موتهم، فالحياة نعمة تستوجب الحمد والشكر لله ربّ العالمين.. ولكنهم حين يشهدون أهوال هذا اليوم، ينادون بالويل، إذ يرون بأعينهم المصير الذي هم صائرون إليه، كما يقول سبحانه:(8/499)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
«وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف) ..
ويصحّ أن يكون هذا الحمد على سبيل القهر، إذ لا يملكون من أنفسهم شيئا، فهم والحال كذلك- مسلمون، مستسلمون، يحمدون الله على السّرّاء والضرّاء..
- وفى قوله تعالى: «وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» - إشارة إلى هذه الدنيا، ومتاعها القليل الزائل.. فإنه مهما عاش الإنسان فيها، ثم طويت صفحته منها، وجد أن ما عاشه فى هذه الدنيا لم يكن إلا ساعة من نهار، كما يقول سبحانه وتعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (46: النازعات) وكما يقول جل شأنه: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (35: الأحقاف) .
الآيات: (53- 57) [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 57]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)(8/500)
التفسير:
قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» .
الواو، فى قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبادِي» للاستئناف، وما بعدها كلام مستأنف، موجّه إلى «عباد الله» ..
وعباد الله، هم الذين أضافوا أنفسهم إلى الله، فقبل الله سبحانه وتعالى ضيافتهم، وأضافهم إليه، إضافة تكريم هكذا: «عبادى» .. حتى لكأن غيرهم من المشركين والضالين، ليسوا عباده، الذين يستحقون إضافتهم إليه سبحانه، وإن كانوا عبيدا له: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) .
- وقوله تعالى: «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي القولة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ، وهى الإيمان بالله واليوم الآخر، على حين قال المشركون والكافرون القولة السيئة، قولة الكفر بالله وباليوم الآخر.. فهذه القولة من عباد الله، هى اعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وذلك هو الذي يؤهّلهم لهذا المقام الكريم، فيضيفهم المولى جل وعلا إليه: «عبادى» وقوله تعالى: «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ» أي يفسد بينهم، ويعمل على إضلالهم، وعباد الله هم الذين يحرسون أنفسهم منه، ويردّون كيده إلى نحره، كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» (42: الحجر) .
قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» .
هذه الآية ردّ على اعتراض، قد يدور فى بعض الرءوس، فيقول قائل:(8/501)
لم اختار الله أناسا من خلقه، فأضافهم إليه. وجعلهم عبادا له؟ ولماذا لم يضف الناس جميعا إليه، وكلّهم عبيده، وصنعة يده؟
وقد جاء الجواب: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» إنّه كما خلقكم بيده، أقامكم بعدله وحكمته.. كلّ فى مكانه الذي أراده له.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) .
إنه ليس لمخلوق شىء مع الخالق.. «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» أيها المخلوقون، فيجعلكم من عباده، وأهل طاعته «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» فيضلكم، ويختم على قلوبكم.. وليس للمرحومين من الناس، ولا للمعذبين منهم مذهب إلى غير هذا المقام الذي أقامهم الله فيه، وأرادهم له: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) .
- وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» إشارة إلى أنه ليس إلى النبىّ أن يغيّر من قدر الله فى الناس شيئا.. فمن قدّر عليه الشقاء فهو من أهل الشقاء، لا يتحول عنه أبدا، ومن كتبت له السعادة فهو من السعداء لن يدفعها عنه أحد.. وليس الرسول وكيلا على الناس، يدبّر أمرهم، ويتسلط على مصيرهم، وإنما هو بشير ونذير، يؤذّن فى الناس بكلمات الله وآياته.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» (7: الرعد) .
قوله تعالى: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» .
فى الآية الكريمة ردّ على شبهة قد تقع لبعض الناس من قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» .. إذ قد يسأل بعض الناس: لماذا كان هذا الحكم واقعا فى أبناء آدم، حيث يرحم بعضهم ويعذّب بعضهم؟
فكان الجواب: إن ذلك هو حكم لله فى المخلوقات جميعا، فى السموات وفى(8/502)
الأرض، حيث يأخذ كل مخلوق حظّا مقدورا له.. فيجىء على صفة خاصة، وفى وقت معين، ومكان محدود.. فيكون فى عالم الأرض، أو السماء، ويكون نباتا، أو حيوانا أو جمادا، ويكون كوكبا أو ملكا.. وكلّ مخلوق من تلك المخلوقات، هو فى عالمه، وفى جنسه، آخذ وضعا خاصا به، لا يشاركه فيه غيره من عالمه، أو جنسه! تلك هى سنة الله فى خلقه: الإبداع فى الخلق، والتّباين بين المخلوقات..
ثم بيّنت الآية بعد هذا صورة من صور التباين والاختلاف بين جماعات، هم من صفوة خلق الله، وهم الأنبياء.. فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم فى هذا المقام الكريم، وفى تلك المنزلة العالية- ليسوا على درجة واحدة، وفى مقام واحد.. وإنما هم درجات عند الله.. وإن كانوا جميعا فى مقام القرب، وفى منازل الرضوان..
وهنا سؤال، وهو: لماذا اختصّ داود عليه السّلام بالذّكر، هو والزبور الذي آتاه الله إياه؟ وداود- عليه السلام- لم يكن فى منزلة إبراهيم، خليل الله، ولا موسى كليم الله، ولا عيسى كلمة الله، ولا محمد خاتم رسل الله. ولم يكن الزّبور فى منزلة التوراة أو الإنجيل أو القرآن.. فما تأويل هذا؟
الجواب على هذا- والله أعلم- أن داود عليه السلام، هو النبىّ الذي جمع الله سبحانه وتعالى له الملك والنبوة معا، كما جمعهما لابنه سليمان من بعده.. أي أن الله قد جمع له الدنيا والآخرة جميعا، فآتاه للدنيا خير ما فيها، وهو الملك، وآتاه للآخرة خير مالها، وهو النبوّة.. ولهذا يقول تبارك وتعالى مخاطبا إياه:
«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. ولهذا أيضا لم يكن داود عليه السلام صاحب كتاب يحمل شريعة، وإنما كان الزّبور الذي آتاه الله إياه، صلوات وتسابيح، يمجّد(8/503)
فيها الله سبحانه، ويشكر له.. إذ أن هذا الملك الذي فى يده يحتاج- كى يستقيم على ميزان الحق والعدل- إلى اتصال دائم بالله، حتى يدفع بهذا الاتصال ما يعرض له من شهوة السلطان، ومغريات الملك..
وعلى هذا، فاختصاص «داود» بالذكر هنا، إنما هو لبيان أن التفاضل الذي يقوم بين الموجودات كلها، هو قائم بين الأنبياء والرسل.. فمنهم من جعله الله سبحانه نبيا ورسولا، ومنهم من جعله نبيا ولا رسالة له، إلا فى خاصة نفسه وأهله، ومنهم من جعله رسولا إلى قرية، أو أمة، ومنهم من جعله رسولا إلى الناس كافة، وذلك هو مما اختص به «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- من بين رسل الله جميعا.. وفى ذلك يقول الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (253: البقرة) وداود- عليه السلام- قد جمع له حظ الدنيا والآخرة جميعا.. فهو ملك ليس خالص الملك، إذ يقوم على ملكه سلطان النبوة، وهو نبىّ غير خالص النبوّة، إذ يقوم على سلطان نبوته سلطان ملكه.. فهو نمط وحده بين أنبياء الله، وفى ملوك الأرض.
قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» ..
هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم، وتسفيه لعقولهم، إذ يعبدون من دون الله مالا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. فهاهم أولاء وتلك هى معبوداتهم التي يعبدونها، فليدعوها لضرّ مسّهم، أو لبلاء وقع بهم، فهل تستجيب لهم آلهتهم تلك؟ وهل يسمعون أو يعقلون؟ فكيف إذن يتعاملون مع من لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا؟ ولكنه السّفه والضلال.
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ(8/504)
أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً»
..
المشار إليه هنا باسم الإشارة «أولئك» - هم المؤمنون الذين يعبدون الله، إلها سميعا بصيرا مجيبا.. وهؤلاء المؤمنون، هم فى مقابل أولئك المشركين الذين يدعون خشبا مسنّدة، أو أحجارا منحوتة.. لا تسمع ولا تبصر.. وشتان بين دعاء ودعاء! وفى الإشارة إلى المؤمنين من غير ذكرهم، تنويه بهم، ورفع لمنزلتهم، وأنهم أعرف من أن يعرّفوا..
- وفى قوله تعالى: «يَدْعُونَ» وفى حذف المفعول به، إشارة إلى أنهم يدعون من ينبغى أن يدعى، إذ لا مدعوّ- على الحقيقة- غيره، وهو الله سبحانه وتعالى..
- وفى قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» بيان لما يدعو به المؤمنون ربّهم، وهو أنهم يدعونه مسبّحين بحمده، شاكرين لفضله.. فهذا هو دعاء المؤمنين: عبادة، وصلاة، وتسبيح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» (28:
الكهف) ..
وابتغاء الوسيلة، طلبها، وإدراكها.. والوسيلة ما يتوسّل به، ويتقرب به إلى الله، من عبادات وقربات.
- وفى قوله تعالى: «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» إشارة إلى محذوف، تقديره: أيهم أقرب إلى ربّه أكثر توسلا إليه بالطاعات والعبادات.. إذ أنه كلما قرب العبد من ربّه، اشتدت خشيته له، لازدياد معرفته بجلاله، وعظمته، فيشتدّ حرصه على مرضاته، والتفانى فى العبودية والعبادة، ليزداد من الله قربا، كلما ازداد طاعة وخشوعا وعبودية.(8/505)
- وقوله تعالى: «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ» هو بيان للدوافع التي تدفع المؤمنين إلى دعاء الله سبحانه، وإلى ابتغاء الوسيلة إليه، وهو الطمع فى رحمته، والخوف من عذابه.. وتلك هى الحال التي ينبغى أن تقوم عليها الصلة بين العبد وربّه وهى منزلة بين الرجاء والخوف.. فالرجاء يدفع المؤمن إلى الإحسان، والتزام الطاعات.. والخوف، بحرسه من العدوان على محارم الله، ومواقعة الآثام والمعاصي.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» تعقيب على قوله سبحانه:
«وَيَخافُونَ عَذابَهُ» .. وهو أن هذا العذاب شديد، حيث يقع بأهله، لا يدفعه عنهم من الله دافع، وهو لهوله وشدته، يحذره ويتوقى الدنوّ منه، كلّ من يطلب الأمن والعافية لنفسه.
ولم يأت فى النظم القرآنى تعقيب على قوله تعالى: «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» كما جاء التعقيب على قوله سبحانه: «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» .. لأن أكثر ما يؤتى النّاس من استخفافهم بعذاب الله، أو غفلتهم عنه.. أمّا الرجاء فى مغفرته ورحمته.. فالناس جميعا واقفون على باب الرجاء، حتى أن أكثرهم عصيانا لله، ومحدّة له يتخذون من الطمع فى رحمة الله، مدخلا يدخلون به على المعاصي فى جرأة فاجرة، حتى ليقول صاحب الجنتين الذي كفر بربّه: «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (36: الكهف) .. وهذا مكر مع الله، وتغرير بالنفس.. إن من يرجو ويطمع فى رحمته، يجب أن يكون ممن يخشاه، ويتوقّى محارمه.. فإذا زلّ، كان طمعه فى الله قائما على منطق.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .. (56: الأعراف) هذا، وفى الآية الكريمة وجه آخر..
وهو أن المشار إليه فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ» هم المعبودون(8/506)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
الذين كان يعبدهم المشركون، من ملائكة وغيرهم، من عباد الله الصالحين..
ويكون قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» هو خبر لقوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ» .. أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، هم عباد من عباد الله المؤمنين به، يبتغون رحمته ويتخذون الوسائل إلى مرضاته بالطاعات والعبادات، وهم أبدا على رجاء فى رحمته، وخشية من عذابه.. كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (50: النحل) وكما يقول جلّ شأنه: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (19- 20: الأنبياء) .
الآيات: (58- 60) [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» .
«إن» حرف يفيد النفي.. بمعنى «ما» أي: ما من قرية إلا نحن(8/507)
مهلكوها قبل يوم القيامة.. فهذا حكم الله فى عباده.. «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» (29: يس) .
وإهلاك ما يهلك الله من القرى، هو تركها للزّمن، يفعل فيها ما يفعل فى الأحياء، فإذا عمارها خراب، وإذا أهلها تراب فى التراب.. كما يقول سبحانه:
«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .
أما عذاب ما يعذّب من القرى، فهو ما يحلّ بتلك القرى من نقم الله، فيأخذها بما أخذ به القرى الظالمة، كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، حيث أهلكها الله سبحانه مرة واحدة، بما سلط عليها من عذاب- وقوله تعالى: «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» تقرير لحكم الله فى خلقه.. وهو أن ذلك مما قضى الله به فى أم الكتاب، وجرى به القلم وسطّره فى اللوح المحفوظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22: الحديد) .
وفى هذا، إنذار لمشركى قريش، ولقريتهم التي تقف من النبىّ هذا الموقف العدائى، الظالم.. فتؤذى رسول الله، وتصدّ الناس عن سبيل الله..
إن هذه القرية لن تفلت من هذا المصير الذي تصير إليه القرى جميعا..
فإذا لم يأخذها الله سبحانه وتعالى ببأسه، ويعجّل لها العذاب، أخذها بسنته فى خلقه، فابتلعها باطن الأرض فيما ابتلع قبلها من قرى وأمم! قوله تعالى: «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» ..(8/508)
فى هذه الآية ردّ على مقترحات المشركين التي كانوا يقترحونها على النبي، وهى أن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون إلى أقوامهم، وجاءوهم بآيات ماديّة.. كعصا موسى، ويد عيسى، وناقة صالح، وطوفان نوح! فهذه الآيات، التي يقترحها المشركون، قد جاءت إلى أقوام مثلهم، فكفروا بها، ولم يروا فيها الدلائل التي تدلّهم على الله، وتهديهم إلى الإيمان به..
فكان أن أخذهم الله ببأسه، وعجّل لهم العذاب.
وهذا هو السبب الذي من أجله، لم يجىء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قومه بآية كتلك الآيات.. لأنها كانت بلاء على من جاءت إليهم ولم يؤمنوا بها، ولن يكون حال هؤلاء المشركين مع أيّة آية يأتيهم بها النبي، بأحسن من حال الذين سبقوهم.. والله سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء المشركين:
«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (14- 15: الحجر) .
- وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» وفى وصفها بأنها مبصرة إشارة إلى أنها كانت آية واضحة، تعيش فى النّاس، وتتمشّى بينهم، يمرّون بها مصبحين وممسين.. وليست كعصا موسى، ولا يد عيسى، فكلتاهما تظهر المعجزة فيها بإذن من صاحبها، ثم تختفى، دون أن يتاح للناس تقليبها، وترديد النظر فيها.. وهذا هو بعض السرّ فى اختصاص ناقة صالح بالذكر هنا، إنها كانت تعيش مع الناس، بين سمعهم وبصرهم..
- وقوله تعالى: «فَظَلَمُوا بِها» إشارة أنها كانت سببا فى أن اعتدوا عليها، فأصبحوا آثمين، ظالمين.. فحقّ عليهم العذاب.
- وقوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» أي ما نبعث بهذه الآيات(8/509)
المادية إلا لتكون نذر هلاك وبلاء لمن تأتيهم.. لأنه إذا لم يؤمن بها القوم المرسل بها إليهم- وهيهات أن يؤمنوا- كان لا بد أن يقع العذاب بهم، ويصبحوا فى الهالكين..
فمن رحمة الله بهذه الأمة، أن لم تأتها الدعوة إلى الله بين يدى آية مادية..
فإنه لو حدث هذا، لكان فيه القضاء على أهل مكة التي طلعت منها شمس الدعوة الإسلامية، ثم لا نقطع ما بين النبىّ وقومه الذين يدعوهم إلى الله، إذ لم يكن له- والأمر كذلك- قوم.. وبهذا تطوى الدعوة كتابها، وينسحب الرسول من الميدان..!
ولكن الله بالغ أمره.. فجاءت الدعوة الإسلامية على هذا الأسلوب، لتعيش فى الناس، ما دام للناس حياة فى هذه الحياة! قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» .
فى هذه الآية أمور:
- أولها: قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» «إذ» هنا ظرفية، تشير إلى وقت قيل فيه هذا القول للنبىّ.
فمتى كان ذلك؟ وما هو القول الذي قاله سبحانه وتعالى للنبىّ؟ وقيل هذا وذاك.. ما معنى الإحاطة بالناس؟ وما المراد منها؟
إحاطة الله بالناس، علمه بهم، علما محيطا، كاشفا لكل شىء منهم..
وإذن فكل آية فى القرآن جاءت تحدّث عن علم الله، صالحة لأن تكون هى هذا القول الذي قيل للنبىّ، والذي دعى هنا إلى تذكّره..(8/510)
وأقرب آية نجدها هنا، هى قوله تعالى: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وقد ذكرت قبل هذه الآية بثلاث آيات.. فتكون إذن هى الآية المقصودة، ويكون وقتها معلوما للنبىّ! - ويكون معنى قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» هو ردّ على المشركين الذين يقترحون الآيات المادية.. فهذه الآيات إنما ينزلها الله حسب مشيئته، وبما يقضى به علمه فى عباده.
- ثانيهما: قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ما هى الرؤيا؟ وما الفتنة التي فتن بها الناس منها؟
اختلف فى الرؤيا التي أريها النبىّ هنا.. وهل هى «الإسراء» ؟ أم أنها الرؤيا التي رآها وهو فى مكة من أنه سيدخل المسجد الحرام؟ أم أنها الرؤيا التي أريها فى مكة أيضا من أنه سيكون بينه وبين قريش حرب، وأن القوم سيهزمون؟. وكان فيما نزل من القرآن المكي قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» حتى ليروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقول:
«كنت لا أدرى أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .. أي أنه عرف أن هذه الآية قد جاء يوم بدر بتأويلها..
ولا يعترض على الرأى الأول بأن «الرؤيا» تشير إلى أن الإسراء كان رؤيا منامية، مع أن الرأى المعوّل عليه أنها كنت رؤية اليقظة.. ذلك أن الرؤيا تستعمل فى اللغة بمعنى الرؤية.. وخاصة إذا كانت الرؤية بالليل، كالسير فإنه إذا كان فى الليل سمّى سرى، مع أنه فى حقيقته سير.
أما الفتنة التي فتن بها الناس من هذه الرؤيا، فقد ارتدّ بعض ضعاف(8/511)
الإيمان من المؤمنين، بعد الإسراء.. كما أن رؤياه صلّى الله عليه وسلّم دخول المسجد الحرام، كانت مثار اضطراب وبلبال بين المسلمين، حين جاء النبىّ بالمسلمين معتمرا قبل الفتح فردّته قريش، وعقد صلح الحديبية بينه وبينها..
وكذلك الشأن فى رؤياه- صلّى الله عليه وسلّم- أنه سينتصر على قريش فى أول معركة معها..
والرأى الراجح أن «الرؤيا» هى الإسراء، وقد عرفت الاعتراض على هذا الرأى، وردّنا عليه.
- وثالثها: قوله تعالى: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» .
ما الشجرة الملعونة فى القرآن؟ ولم لعنت؟ ثم لم كانت فتنة؟
لم يذكر القرآن الكريم، شجرة موصوفة بتلك الصفة، وهى اللعنة..
ومن هنا ذهب المفسّرون مذاهب شتّى فى هذه الشجرة.
والذي نتخذه دليلا فى بحثنا عن تلك الشجرة، أنها ذات صلة بقريش، وأنها مثار فتنة للمشركين..
وعلى هذا، فإنا نجد فى القرآن الكريم شجرة ذكرت فى سورة «الصافات» وهى من القرآن المكي، وقد تهدّد بها الله سبحانه وتعالى، المشركين، وأذاقهم طعامها النكد، فى هذه الدنيا، قبل أن يملئوا منها بطونهم فى جهنم، فقال تعالى: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» (62- 68: الصافات) . وفى سورة الواقعة، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ(8/512)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56: الواقعة) وفى سورة الدخان، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46) .
فهذه الشجرة قد ذكرها الله سبحانه وتعالى فى القرآن المكي، وعرضها فى هذه المعارض، مهددا بها المشركين، متوعدهم بها، مذيقهم طعامها الذي يغلى فى البطون كغلى الحميم.
وقد كان المشركون، يستمعون إلى هذا القرآن، ويتناجون بما تملى لهم أهواؤهم وضلالاتهم فيه، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» (47: الإسراء) .
وقد كانت هذه الشجرة مثار استهزاء وسخرية فيما بينهم، كما أنها كانت مادة للعبث منهم بالمسلمين، وبمعتقدهم فى صدق الرسول، الذي يقول لهم مثل هذا القول.. إذ كيف يقول «محمد» بأن النار التي سيعذّب فيها من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، هى جحيم، وأنّها نار تلظى، وقودها الناس والحجارة- كيف يقول هذا، ثم يقول إن هناك شجرة أو أشجارا من زقّوم تطلع فيها، ثم تثمر ثمرا يأكله المعذّبون بتلك النار؟ أهذا قول يتفق أوله مع آخره؟ النار التي تأكل كل شىء، تصلح لأن تكون مغرسا ومنبتا لشجر؟
وأكثر من هذا، فقد بدا لبعض الذين سفهوا أنفسهم من هؤلاء المشركين، أن يتخذوا من هذا الوعيد الذي توعدهم الله به، مادة للتسلية، والعبث، إمعانا فى الاستهزاء والسخرية، ومبالغة فى التكذيب والتحدي..
فمن ذلك ما روى عن أبى جهل أنه كان يقول: «هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر؟ وما نعرف الزّقوم إلا التّمر(8/513)
بالزّبد، ثم يأمر جارية له، فتحضر تمرا وزبدا، ثم يقول لأصحابه: تزقّموا» ! وقد وجد هذا القول سبيلا إلى بعض ضعاف الإيمان، وصغار الأحلام من الذين دخلوا فى الإسلام، فوقع الشك فى نفوسهم، فكان ذلك داعية لهم إلى أن يرتدّوا عن الإسلام، خاصة وأنهم فى وجه محنة قاسية، وبلاء عظيم، لا يمسكهم عليه إلا إيمان وثيق، فإذا زاحم هذا الإيمان شىء من هذه الشكوك الكاذبة، التي يسوقها إليهم المشركون، وجد ضعاف الإيمان منهم الفرصة سانحة للخروج من هذا البلاء، بأوهى سبب! وهذا، ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» ..
فهاتان آيتان من آيات الله المأدبة، وهما القول بالإسراء، والقول بتلك الشجرة التي تنبت فى أصل الجحيم.. وفى هاتين الآيتين فتنة للناس، أي لهؤلاء المشركين، كما كانت الآيات المادية فى الأمم السابقة فتنة لتلك الأمم! وأنه إذا كان المشركون يريدون آيات مادية فهاتان آيتان مادّيتان، أو شبه ماديتين، وقد كانتا فتنة لهم.. فهل تزيدهم الآيات المادية إلا فتنة إلى فتنة؟
- وفى قوله تعالى: «وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» إشارة إلى أن هذه الآيات المادية أو شبه المادية، هى نذير بلاء وفتنة، ومطلع عذاب عاجل يقع بالمشركين، إن هم أصروا على موقفهم هذا الذي يقفونه من آيات الله..!
بقي أن نعرف لم وصفت الشجرة بأنها ملعونة؟ ولم تلعن وهى لم يكن منها ما يستوجب اللعن؟
والجواب:
أولا: أن الله سبحانه وتعالى قد وصفها بأنها تنبت فى أصل الجحيم،(8/514)
ووصف طلعها- أي ثمرها- كأنه رءوس الشياطين.. والشيطان ملعون من الله.. فهى لهذا عدوّ مبين للإنسان، الذي سيسوقه شؤمه إلى أن يطعم منها، فيجب أن يحذرها، كما يحذر الشيطان.. فناسب ذلك أن تبدو لأعين النّاس فى صورة الشيء الملعون، الذي يحذر، ويتوقّى.
وثانيا: أن وصف الشجرة بأنها ملعونة، لا ينبنى عليه أنها ملعونة من الله، وإنما هو وصف بالنسبة لآثارها فيمن يذوق طعمها، فهو طعام كريه، لا يطعمه إلا الخاطئون.. فإذا وصف الشيء بأنه مرّ المذاق، أو خبيثه، فهو بالنسبة لطاعمه.. وقد لا يكون طعمه على تلك الصفة فى حقيقته..
ثالثا: جاء فى قوله تعالى فى وصف الشجرة: «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ» ..
فهى فتنة، كما أن الشيطان فتنة.. وقد جاء فى قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» أي هى فتنة كذلك..
وهذا مما يرجح القول بأن المقصود بالشجرة هى شجرة الزقوم، كما يقيم ذلك دليلا على أنها شجرة ملعونة..
أما عن استنكار المشركين للجمع بين النار، والشجر.. فذلك لجهلهم بقدرة الله، أولا، ولجهلهم بأسرار الطبيعة ثانيا.. فالنار، والشجر، والماء، والطين.. وكلّ ما يرون فيه من تناقض. هو من أصل واحد، ومن مادة واحدة، وإن اختلفت صوره وأشكاله.. وقد استطاع العلم الحديث أن يحوّل الأشياء من حال إلى حال، بإجراء بعض التغييرات فى تركيب عناصرها، كتحويل الصلف إلى لبن، والخشب إلى ورق مصقول، أو حرير ناعم..
إلى غير ذلك مما يتحول به الشيء من النقيض إلى النقيض..
بل إن الطبيعة نفسها لتقوم بهذه العمليات كل يوم، فتحول الهواء الشفاف إلى ماء، وتحول الماء إلى هواء.. كما تحول الماء السائل إلى ثلج جامد، والملح(8/515)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
الذي يتغذى به النبات إلى مادة سكرية، كما فى القصب، وأشجار الفاكهة.
وقد أشار القرآن الكريم، إشارة خاطفة إلى تحوّل الأشياء إلى طبيعة غير طبيعتها، كالشجر يتحول إلى نار، فيقول سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ»
(80: يس) .. ففى الشجر نار مستكنة، كما أن فى النار ماء مستكنّا.. فليس إذن بالمستحيل أن يجتمع الشجر والنار، وأن تنبت فى أصل الجحيم أشجار تأخذ طبيعة النار، وتتغذّى منها.
الآيات: (61- 65) [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ؟
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة أشارت إلى بعض ما يفتن(8/516)
به الناس من آيات الله.. كالإسراء، وشجرة الزّقوم.. والأولى، نعمة وخير، والثانية، شرّ وبلاء. فناسب أن يجىء بعد شجرة الزّقوم، التي فتن بها المشركون، شىء يشبهها، هو مضلّة للمشركين، وفتنة للغاوين، وهو إبليس، لعنه الله.
وقد دعى إبليس من الله تعالى أن يسجد لآدم، فأبى واستكبر وقال:
«أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟» .. وقال فى موضع آخر: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» .. وقد كان خلق آدم من طين آية من آيات الله المادية، وكان على إبليس أن يؤمن بها.. ولكن هذه الآية كانت سببا فى كفره بالله، وطرده من رحمته.
قوله تعالى: «قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا» .
أرأيتك: أي أرأيت يا الله.. والكاف حرف خطاب للمولى سبحانه وتعالى، يؤكد الضمير المتصل قبله، والمراد بالرؤية هنا، العلم.. أي أعلمت يا الله!.
أحتنكنّ: أي أفسدنّ، وأستولينّ.. احتنك الشيء: لاكه فى حنكه وعلكه، كما تعلك الدابّة لجامها.
وهذا تحدّ من إبليس- لعنه الله- لله سبحانه وتعالى، فى آدم، وأنه أضعف شأنا من إبليس، وأنه إذ كان كذلك، فكيف يسجد القوىّ للضعيف؟ ..
هكذا فكر إبليس وقدّر.!
قوله تعالى: «قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً» .
اذهب: أمر مراد به الطرد من رحمة الله..(8/517)
- وفى قوله تعالى: «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» إشارة إلى أن البلاء واقع على إبليس، ومن تبعه من أبناء آدم.. إذ كانوا فى اتّباعهم له أنصارا له وأعوانا، على هذا التحدّى الذي تحدّى به الله فى أبناء آدم.. وقد كان جديرا بهم أن يكونوا أعداء لهذا العدو لله ولهم..
وفى هذا تسفيه لهؤلاء المشركين الذين اتبعوا آباءهم، كما اتبع أبناء إبليس، إبليس. فمتابعة الذرّية لآبائهم، مضلّة لهم، إذ كان عليهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يأخذوا الطريق الذي يؤدى إليه نظرهم..
- وقوله تعالى: «جَزاءً مَوْفُوراً» أي جزاءا كاملا، لا ينقص منه شىء..
فلا يخفف عنهم العذاب، ولا يقصر مداه..
قوله تعالى: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» .
استفزز: أي: أخف، وأفزع، واستفزّ فلان فلانا: أي أخافه وأفزعه.
وأجلب: أي: أجمع أمرك، وادع كل ما تملك من قوة.. وأجلب القوم، جاءوا من كل صوب، ومنه الجلب، وهم التجار الواردون على السوق..
والخيل: المراد بها راكبوها..
والرّجل: جمع راجل، وهو من يمشى على رجليه إلى غايته، سواء فى حرب أو غيره..
والأمر هنا، يراد به الاستخفاف بإبليس، وبكيده الذي يكيد به للناس.(8/518)
والاستخفاف إنما هو بالإضافة إلى أبناء آدم.. فإبليس بما معه من كيد ومكر، هو مدحور مخذول أمام الإرادة الصادقة، والعزم الوثيق، فهو أضعف من الإنسان، الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده كإنسان كرّمه الله، ورفع بين العالمين قدره.. والله سبحانه وتعالى يقول بعد هذا: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» (70: الإسراء) : ويقول عن الشيطان: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76: النساء) .
فليعلن الشيطان الحرب على أبناء آدم، وليأت بكل ما معه من عدد وعدّة.. وليجلب بخيله ورجله، وليشاركهم فى أموالهم وأولادهم، وذلك بما يفسد عليهم من أموال وبنين.. ثم إذا لم يجد فى ذلك ما يمكنه منهم، فليأتهم متلطفا، متودّدا، بعد أن جاءهم مهددا، متوعدا، مفسدا.. وليمدّ لهم فى حبل الأمانىّ، وليكثر لهم من الوعود المعسولة الكاذبة.. فذلك كلّه لن يبلّغه شيئا من أبناء آدم الذين جعلهم الله من أهل طاعته، وأرادهم لجنته، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» فهؤلاء هم أبناء آدم، ليس لإبليس سلطان عليهم، إلا من كان من أهل الشّقوة والضلال..
فهؤلاء- بما سبق فيهم من قضاء الله- هم مستجيبون للشيطان موالون له..
إذ كانت أهواؤهم متفقة مع هواه، ووجهتهم قائمة على وجهته.. إنهم، وهو، من أهل الشقاء والبلاء.
- وفى قوله تعالى: «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» تحذير من الشيطان، وأمانيه ومغرياته التي يمنّى بها الناس، ويغريهم بها، فما هى إلا ضلال فى ضلال، وأباطيل لا تجىء إلا بالأباطيل! وتحذير الناس من الشيطان ومغرياته، وإن كان لا يردّ شيئا مما قضى به الله(8/519)
فى عباده، فإنه تحذير من الشر، وترغيب فى الخير.. وعلى التحذير والترغيب يعتدل ميزان الناس، حيث يجدون القانون الذي يحتكمون إليه.. وهنا يصحّ الابتلاء، ويقع الاختبار.. فمن كان من أهل السعادة، اهتدى بهدى الله، وعمل بأوامره، واجتنب نواهيه، ومن كان من أهل الشقاء، أخذ طريقه مع الشيطان، فضلّ بضلاله، وغوى بغوايته.. وكل ميسّر لما خلق له..
قوله تعالى «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» .
فعباد الله، هم أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وهؤلاء لا سبيل للشيطان إليهم، إنهم فى عصمة منه بهذا القضاء الأزلىّ من الله فيهم.. وهو قضاء خفىّ لا يعلمه أحد، ولا يدرى مخلوق إن كان من أهل السعادة أو أهل الشقاء.. ومن هنا كان السعى والعمل، والتسابق إلى الإحسان- من مطلوبات الناس، ومن مبتغياتهم.. لأن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة.
فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين.. وفى الحديث: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل الجنة!» .. وهكذا نحن فى الحياة.. طلاب العلم مثلا:
العاقلون المجدّون منهم، هم على طريق النجاح عند الامتحان، والمهملون الغافلون، هم على طريق الإخفاق..
وقد يجدّ للعامل المجدّ ما يصرفه عن العمل والجدّ، فيخفق، ويجدّ للكسول المهمل ما يدفعه إلى الجدّ والتحصيل، فينجح. وكل سائر إلى القدر المقدور له.. ولكن سنّة الله قائمة فى الناس: أن لا ثمرة بغير عمل، ولا حصاد إلا بعد زرع!(8/520)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
- وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» .. فى هذا ما يسأل عنه، وهو:
كيف يخاطب إبليس بهذا الخطاب الذي يشعر بالقرب: «كَفى بِرَبِّكَ» ؟
والجواب على هذا، - والله أعلم- أن هذا الخطاب ليس لإبليس، وإنما هو التفات إلى الإنسان، الذي هو داخل فى عموم قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» وكأنهم بمشهد من هذا الخطاب.. ثم إنه بدلا من أن يجىء النظم بصيغة الجمع هكذا: «وكفى بربكم» جاء النظم القرآنى بصيغة المفرد «وَكَفى بِرَبِّكَ» .. وذلك لينظر كل إنسان إلى خاصة نفسه، وليعمل ما وسعه العمل على أن يتوقّى هذا الشيطان المترصد له، والمتربص به، وليكن مما يستعين به على ذلك أن يتوكل على الله، وأن يستعين به، وليجعل فى يقينه أنه من عباد الله، الذين لا سلطان للشيطان عليهم..
ويجوز أن يكون الخطاب للشيطان، قهرا له: وإلزاما له بسلطان الربوبية، الذي خرج بكفره عن سلطانه.. وأنه مقهور مخذول، ليس له على عباد الله سلطان، وهو سبحانه وتعالى وكيلهم الذي يدفع عنهم كيده.
الآيات: (66- 70) [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)(8/521)
التفسير:
قوله تعالى: «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» ..
بعد أن خوطب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، بقوله: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» جاء الخطاب إلى النّاس جميعا، شارحا هذه الوكالة، وما يجىء منها إلى الإنسان من إمدادات الخير والإحسان من ربّ العالمين، فالله سبحانه، هو الذي سخّر للناس البحار والأنهار، تجرى فيها الفلك بأمره حاملة الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد، دون أن يطغى الماء على الفلك، أو يمسكها على ظهره بلا حراك.. كما يقول سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (33: الشورى) وهو سبحانه بهذه الوكالة القائمة على الناس قادر على أن يدفع عنهم ما يكيد به الشيطان لهم، إذا هم آمنوا بالله واتخذوه وكيلا.
قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» وفى الحال التي تتعرض فيها الفلك لريح عاصف، أو موج صاحب، لا تجدون أيها الناس من يكشف هذا البلاء، إلا الله.. «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» فليس لمعبوداتكم التي تعبدونها سبيل إليكم وأنتم فى هذا الكرب..
إنهم قابعون هناك حيث تركتموهم فى معابدكم، أحجارا جاثمة، أو جثثا هامدة.. ولكن سرعان ما تنسون أيها الناس فضل الله عليكم، ورحمته(8/522)
بكم: «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» عنه، وأعطيتم وجوهكم لآلهتكم..
وهذا فوق أنه سفه وضلال، هو كفران وجحود.
قوله تعالى: «أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» .
ولكن أين تذهبون؟ إذا أنتم أمنتم جانب البحر؟ أو تخرجون من ملك الله؟ ثم أتدفعون بأس الله عنكم إذا جاءكم؟ فهل تأمنون، وأنتم فى البرّ أن يرسل الله عليكم ريحا عاصفة، محملة بالهلاك والدمار، فتغرقكم فى الأرض، وتدفنكم فى بطنها.. فإذا كنتم قد سلمتم من الغرق فى البحر، فهل تعجز قدرة الله من أن تنالكم بالبلاء وأنتم على ظهر اليابسة؟ وهل إذا وقع بكم هذا البلاء، هل هناك من يتولى دفعه عنكم؟.
- وفى قوله تعالى: «جانِبَ الْبَرِّ» إشارة إلى هذا الحمى وذلك الجناب الذي يجد فيه الإنسان طمأنينة وأمنا حين يضع قدمه على اليابسة، بعد أن يترك البحر ومخاطره.. فهذا الجانب لا يعصم من أمر الله، ولا يردّ بأسه.
قوله تعالى: «أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً» .
وهل أمنتم، بعد أن نجاكم الله من الغرق وأنتم على ظهر السفين، ثم كفرتم بالله، ولم تذكروا فضله عليكم ورحمته بكم- هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى، مسوقين إليه بسلطان قدره وقدرته، ثم يرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.. إنه انتقام من كفركم بالله ومكركم بنعمه عليكم.. فهل إذا أغرقكم الله فى تلك المرّة، هل يكون لكم على الله حجة؟ أليس هذا هو الجزاء العادل الذي أنتم أهل له بكفركم، وضلالكم؟
لقد أراكم الله سبحانه فضله ورحمته، فأنكرتم الفضل والرحمة.. وهذا بلاؤه(8/523)
ونقمته.. فهل تنكرون البلاء والنقمة؟ «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» !.
(165: آل عمران) والتبيع: من يتبع غيره، والمراد به هنا من يطالب الله بما يحلّ بالمشركين من بلاء.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» .
هو استعراض عام لنعم الله على الناس جميعا.. أبناء آدم.. فقد كرمهم الله سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي خلقهم عليها، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، كما يقول سبحانه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (4: التين) وكما يقول جلّ شأنه: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» (6- 8: الانفطار) .
ومع هذا التكريم فى الخلق، فقد سخر الله للناس ما فى البرّ والبحر، وأفاض عليهم من الخيرات والنعم، وأقامهم على هذه الأرض، وجعلهم خلفاءه عليها.. وهذا كلّه من شأنه أن يدعو الإنسان إلى الولاء لله، وإفراده سبحانه بالحمد والثناء! - وفى قوله تعالى: «وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» - ما يسأل عنه وهو: ما منزلة الإنسان بين المخلوقات؟ وما المخلوقات التي فضّل عليها؟
وما المخلوقات التي فضّلت عليه؟
صريح منطوق الآية يدل على أمرين:
أولهما: أن الإنسان فضّل على كثير من المخلوقات التي بثّها الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجود كلّه.(8/524)
وثانيهما: أن هناك مخلوقات لا يفضلها الإنسان، وهى إما أن تكون مساوية له فى الفضل، أو هى أفضل منه..
والذي لا شك فيه، هو أن الإنسان فى أصل خلقته، أفضل المخلوقات التي تعيش معه على هذا الكوكب الأرضىّ، ولهذا جعله الله خليفته فى هذه الأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ولكن هذه الخلقة المهيأة لأن تكون بمقام الخلافة لله تعالى على الأرض، لا يتحقق لها هذا، حتّى تحقق هى ذاتيتها، وتخرج القوى الكامنة فيها، وتفجّر الطاقات المندسّة فى كيانها.. كالنواة التي تضمّ فى كيانها عناصر شجرة عظيمة، أو نخلة باسقة.. تظلّ هكذا شيئا ضئيلا ميتا، حتى تندسّ فى صدر الثّرى، ثم تتفاعل معه، وتخرج خبأها بعد جهد وصراع.
أما الإنسان الذي لا يعمل على الانتفاع بما أودع الله فيه من قوى، فسيظل كتلة باردة من لحم ودم، لا يرتفع كثيرا عن مستوى أدنى الحيوانات وأحطها منزلة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 6: التين) .
هذا هو مقام الإنسان فى العالم الأرضى.. إنه سيد المخلوقات كلها فى هذا العالم، مادام محتفظا بإنسانيته، عاملا على الارتقاء بوجوده.. أما المخلوقات التي فى غير هذا العالم الأرضى، فلا شأن للإنسان بها، كما أنها لا شأن لها بالإنسان، ومن ثمّ فالمفاضلة بينه وبينها شىء غير وارد، وغير منظور إليه.. إذ لا تعامل بين الإنسان وبين تلك المخلوقات!(8/525)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
الآيات: (71- 77) [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
التفسير:
قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» .
الإمام: المقدّم من كل شىء.. وإمام القوم: رئيسهم، وصاحب الكلمة فيهم..
والفتيل: النّتوء البارز فى شقّ النواة، ويضرب به المثل فى الشيء الحقير.
والآية تنتقل بهؤلاء الناس، الذين كرمهم الله، وفضلهم على كثير من خلقه، وحملهم فى البر والبحر، ورزقهم من الطيبات- تنتقل بهم من الدنيا، التي يتقلّبون فيها، ويسرحون ويمرحون، فإذاهم بين يدى الله فى مقام الحساب(8/526)
والجزاء يوم القيامة.. وإذا كل جماعة مع إمامها الذي كانت تتبعه، وتنقاد له..
فأتباع الأنبياء مع أنبيائهم، وأتباع الضلال مع أئمتهم.. وهكذا كل طائفة، وكل جماعة، وكل أمة، مع إمامها، وقائدها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» (69: الزمر) .. فالنبيون والشهداء، يشهدون على أتباعهم بما كان منهم فى الدنيا..
وليس علم الله سبحانه وتعالى بهم، فى حاجة إلى من يقيم الشهادة عليهم، ولكن هذه الشهادة هى خزى وفضح للمجرمين، بعرض مخازيهم على الملأ.
- وقوله تعالى: «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» هو عرض لأهل الفوز والنجاة فى الآخرة.. وهم الذين أخذوا كتابهم بيمينهم.. فهؤلاء يجدون مسرّة بلقاء كتابهم، وتهشّ نفوسهم لقراءته، والاستمتاع بما يرون فيه من أعمال طيبة، تؤهلهم لرضوان الله، والفوز بالجنة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» (7- 9: الانشقاق) ويقول جل شأنه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (19: الحاقة) .. إنه لسعيد بهذا الكتاب، وإن الفرحة لنملأ كيانه، فيطير بها فرحا هنا وهناك، يدعو من يلقاه ليقرأ ما فى كتابه، وليشاركه هذه الفرحة، فيتضاعف فرحه، ويعظم سروره..
وفى إفراد الضمير العائد على الموصول فى قوله تعالى: «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» ثم إعادته إليه جمعا فى قوله سبحانه «فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» - فى هذا ما يشير إلى أن كل واحد يدعى ليأخذ كتابه بيده.. ثم إذا أخذ كلّ كتابه، اجتمع بعضهم إلى بعض، والتقى أهل اليمين بأهل اليمين، وأهل الشمال بأهل الشمال.. ومن هنا كانت قراءة أهل اليمين لكتبهم فى صورة جماعية.. كل(8/527)
يقرأ كتابه، ويقرأ كتب أصحابه! أما أهل الشمال.. فكل منهم فى شغل بما بين يديه من همّ ثقيل!! قوله تعالى: «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا» هو بيان للجماعة المقابلة لأهل اليمين، الذين أخذوا كتبهم بأيمانهم، وجعلوا ينظرون فيها، ويقرءون أعمالهم الطيبة التي تبشرهم بالفوز والفلاح..
ولم تذكر الآية أصحاب الشمال ذكرا صريحا، وإنما دلّت عليهم بأوصافهم..
فهم عمى يوم القيامة، لما يغشاهم من كرب هذا اليوم، وما يطلع به عليهم كتابهم الذي يأخذونه بشمالهم، من نذر الشؤم والبلاء.. فلا ينظرون إليه، وإذا نظروا لم يبصروا شيئا.. حيث ملك الرعب وجودهم، وأخذ الفزع قلوبهم وأبصارهم! إنهم كانوا عميا فى هذه الدنيا، فلم يروا آيات الله، ولم ينظروا فيما جاءهم به رسل الله من هدى ونور.. وهاهم أولاء فى الآخرة على ما كانوا عليه فى الدنيا، قد غرقوا فى بحر متلاطم الأمواج من الكرب والبلاء، فلا يجدون طريقا للنجاة، ولا يرون وجها للفرار من هذا الهول العظيم..
قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» ..
فتنه يفتنه عن الشيء فتونا: أضلّه عنه، وصرفه إلى غيره.
والافتراء: الاختلاق، وتلفيق الأخبار..
وفى هذه الآية، يردّ المكذّبون بالآخرة، إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن رأوها عيانا فيما يشبه أحلام اليقظة.. وما يكادون يصحون من غفوتهم تلك حتى يواجهوا بما كانوا يأخذون به النبىّ من عنت، وما يتهدّدونه من أذى..
حيث يريدونه على أن يترك آلهتهم، ولا يعرض لها فى القرآن الذي يتلوه على(8/528)
الناس بشىء ينقص من قدرها عندهم، وينزل من منزلتها فى نفوسهم..
ويقولون له فيما يقولون: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا، أَوْ بَدِّلْهُ» .. فيجيئه أمر الله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (15: يونس) .
ولا يجد هؤلاء الضالّون المتكبّرون مقنعا فيما يجيبهم به النبىّ على ما يسألون، ولا يرضيهم منه، أو يدفع عنه سفههم، إلّا أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن..
- وفى قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» إشارة إلى هذا الصّراع العنيف بين هؤلاء المشركين وبين النبىّ، وإلى ما يسوقون إليه من ألوان التهديد والوعيد.. حتى ليبلغ الأمر غايته من الشدّة والبلاء، وحتى ليكادا لنبىّ يصل إلى حال يوشك أن يفلت فيها الأمر من يده، إذ جاوز حدود ما تحمل الطاقة البشرية من جهد وعناء، كما يقول سبحانه وتعالى فيما يعرض للرسل من بلاء: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (110: يوسف) .
فهذا التصوير للموقف، يكشف عن مدى ما يسوق الكافرون إلى النبىّ من أذى، وما يأخذونه به من عنت.. وأنه صلوات الله وسلامه عليه وهو فى معرض هذه العواصف الهوجاء، يمسك نفسه على الطريق الذي أقامه الله تعالى عليه، ويضمّ يديه فى قوة وإصرار على الرسالة التي حمّلها الله إياه، إلى أن يحكم الله بينه وبين قومه! ..
- وفى قوله تعالى: «وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» إشارة إلى أنه لو تحوّل النبىّ قليلا إلى ممالأة قومه، ونزل شيئا عما يدعوهم إليه، لجاءوا إليه موادعين مسالمين، ولهدأت هذه العواصف المزمجرة حوله، ولجرت سفينته فى ريح رخاء!.(8/529)
قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» بيان لفضل الله تعالى، على النبىّ الكريم، إذ شدّ أزره، وثبّت على الحق قدمه، فلم يزلّ ولم ينحرف.
- وفى قوله تعالى: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» إشارة إلى ما عند النبىّ صلى الله عليه وسلم من رصيد عظيم من العزم والصبر، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- مع هذا الكيد العظيم الذي يكيد له به قومه، لو ترك وشأنه لما تزحزح عن موقفه إلا شيئا قليلا.. ولكنّ أمداد السماء قد جاءته فى وقتها فأمسكت به، فربطت على قلبه، وشدّت من عزمه وثبتت من قدمه.. وهكذا يصنع الله لأوليائه وأحبائه، فيدفع بهم إلى مواطن البلاء، حتى يبلوا بلاءهم، ويعطوا كل ما عندهم، وحتى إذا كاد يفرغ كل ما معهم، وينفد كلّ ما لديهم، جاءهم نصر الله، وتتابعت عليهم أمداده.
- وقوله تعالى: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» .
ركن إلى الشيء: مال إليه..
والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يركن إليهم، ولم يمل إلى ما يدعونه إليه، ولو قيد أنملة، وإن كاد يفعل ذلك، ولكن الله سلّم.. ونحو هذا قول الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله
وقوله تعالى: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» .
أي لو فعلت هذا- أيها النبىّ- وملت هذا الميل القليل لكان حسابك عسيرا.. فإن صغيرتك كبيرة، لمقامك الكريم الذي أنت فيه، وإنه على قدر علوّ مقامك يكون حسابك.(8/530)
والمراد بضعف الحياة وضعف الممات، مضاعفة العذاب فى الدنيا، ومضاعفته فى الآخرة.. ومثل هذا قوله تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» (30: الأحزاب) .
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» إشارة إلى ما لله سبحانه من سلطان فى خلقه، وأنه- سبحانه- يجرى حكمه فى عباده كما أراد، دون أن يكون لأحد اعتراض على حكمه، أو دفع له..
قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» .
استفزّه: أجفله، وأزعجه..
أي أن هؤلاء المشركين من قومك أيها النبىّ، قد أعنتوك، وأجلبوا عليك بكل ما استطاعوا من صور البغي والعدوان، حتى لأوشكوا أن يخرجوك من الأرض، أي يطردوك منها طردا، فلا يدعون لك موضعا فيها، تدعو فيه إلى الله، وتبلغ رسالته.. وإنهم لو فعلوا لأخذهم الله بالعذاب، ولما بقيت لهم فى الأرض باقية بعدك.. فهذه هى سنّة الله فى الرسل من قبلك مع أقوامهم.
وأنهم إذا تأبّوا عليهم، وأخذوهم بالبأساء والضرّاء، أخرجهم الله من بين أقوامهم، ثم صبّ على هؤلاء الأقوام عذابه، فأهلكهم، مصبحين، أو ممسين.
وفى هذا تهديد للمشركين، وإنذار لهم، وأنهم إن فعلوا بالنبيّ هذا الفعل أخذهم الله بما أخذ به الظالمين من قبلهم.
«سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62: الأحزاب)(8/531)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
الآيات: (78- 82) [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 82]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
التفسير:
قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ.. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. هى أنه لما كانت الآيات السابقة قد حملت شيئا من التلويح للنبىّ الكريم أن يعدّ نفسه للصبر والاحتمال على ما يلقى من المكاره من قومه، فقد ناسب أن تجىء هذه الآية وما بعدها، محمّلة بالزّاد الذي يتزود به، فى هذا الموقف المتأزّم، الذي تنحلّ فيه العزائم، وتزلّ الأقدام، فيجد منه المدد الذي يقوّى عزمه، ويثبت قدمه. وذلك بإقامة الصّلاة من دلوك الشمس، أي من وقت الزّوال عند الظهر، «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» أي ظلمته..
- «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» أي وصلاة الفجر، وهى صلاة الصبح، وسميت قرآنا، لأن قراءة القرآن أظهر وجوهها.. «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» أي(8/532)
ذا شأن عظيم، يلفت إليه الأنظار، ويستدعى إليه المشاهدين.. وقيل إن هذا الوقت يحتشد فيه الملائكة، حيث يلتقى ملائكة الليل، وملائكة النهار..
ودعوة النبىّ إلى إقامة الصلاة من وقت زوال الشمس عن كبد السماء، إلى دخول الليل واشتداد ظلامه، هو دعوة له- صلوات الله وسلامه عليه- إلى إقامة أربع صلوات، هن: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.. وأما صلاة الصبح، فقد جاء الأمر بها فى قوله تعالى: «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» .. وقد أفردت وحدها، لما فيها من مشقّة، ولما فى وقتها من بركة.
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» - دعوة خاصة إلى النبي الكريم، أن يتهجّد بالقرآن.. إلى جانب إقامة الصلاة المفروضة.. وقد كانت تلاوة القرآن هى عبادة النبىّ فى أول الدعوة، حيث جاء أمر الله سبحانه وتعالى إليه بقوله: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا..» فلما فرضت الصلاة، ظلت تلاوة القرآن فريضة واجبة على النبىّ، مندوبة، للمؤمنين..
والتهجّد: اليقظة بالليل بعد النوم..
ومن الليل: أي من بعض الليل، لا كلّه.. فحرف الجرّ «من» للتبعيض.
والنافلة: الزيادة، على المطلوب..
فالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، مطالب فى هذا، بما لم تطالب به أمته، وهو أن يقوم من الليل، بعد أن ينزع عنه لباس النوم، وأن يصحب القرآن معه،(8/533)
يصلّى به ما شاء الله له أن يصلّى.. وذلك واجب عليه هو، مندوب لأمّته..
- وفى قوله تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» شرح لصدر النبىّ، وإغراء له بهذا التهجّد الذي تحمل فيه النفس ما تحمل من عناء ومشقة، فذلك قليل فى سبيل مرضاة الله سبحانه، والقرب منه، والفوز بالمقام المحمود عنده..
والمقام المحمود، هو مجمع المحامد كلّها، حيث لا يناله إلا من جمع المحامد جميعها..
وفى التعبير عن الرفع إلى المقام المحمود، وإحلال النبىّ به- فى التعبير عنه بالبعث، إشعار بأنّ هذا المقام هو مرتبة لن تصل إليها البشرية، إذ لم تؤهلها لها طبيعتها.. فالإنسان الذي ينال هذا المقام كأنما خلق خلقا جديدا. وانسلخ انسلاخا يكاد يكون تامّا عن طبيعة البشر..! وهذا هو سرّ من أسرار تصدير هذا الوعد الكريم من ربّ العالمين بفعل الرجاء «عسى» ليظل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- متطلعا إلى هذا المقام، طامعا فيه، راجيا أن يبلغه.. وقد بلغه- صلوات الله وسلامه عليه- كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» ولا يتحقق رضاه- صلوات الله وسلامه عليه- إلا إذا تحقق له هذا الرجاء، الذي تعلّقت به نفسه، وهو أن يبعثه ربّه مقاما محمودا..
قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» .. هو دعاء علّمه إياه ربه، ليدعو به عند كل أمر يعالجه، ويعمل له، وهو أن يستعين ربّه عليه، بأن يدخله مدخل الصّدق إلى هذا الأمر، ويسدّد خطاه عليه، ويهيىء له الأسباب(8/534)
المنجحة له، حتى يخرج منه موفقا، بالغا الغاية المرجوة منه..
فالدخول إلى أي أمر ما، هو مباشرته، والخروج منه، هو الفراغ منه..
كالمعركة مثلا فى ميدان القتال.. الدخول إليها هو الالتحام فى القتال، والخروج منها هو انتهاء المعركة بانتصار أحد الفريقين المتقاتلين..
والدخول مدخل الصدق إليها، يكون أولا وقبل كل شىء بتخليص دوافعها من البغي والعدوان، بأن تكون دفاعا عن حق، ودفعا لظلم..
ثم يكون ثانيا، بالإعداد لها إعدادا روحيا وماديا، بتوطين النفس على الاستشهاد فى سبيل الله، وباستيفاء وسائل الحرب، وخطط القتال.
وهكذا كل أمر يعالجه النبىّ.. يدعو الله أن يكون دخوله إليه من مدخل الحق، لا يبغى غير الحق ولا يعمل لغير الحقّ. وأن يكون خروجه منه من مخرج الحقّ، فلا يتلبّس أثناء ممارسته لهذا الأمر بشىء من الباطل.. وهذا إنما يستعان عليه بالله سبحانه وتعالى، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» فبهذا السلطان الذي يمدّه الله به، يجد الحراسة القوية الأمينة، التي تدفع عنه كلّ عارض يعرض له من وهن أو ضعف أو خذلان.
قوله تعالى: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» .. هو الوصف الكاشف لخاتمة أمور النبىّ كلّها، قبل أن تجىء خاتمتها.. فكل أموره- صلوات الله وسلامه عليه- سيدخلها مدخل صدق، وسيخرج منها مخرج صدق، مستندا إلى سلطان الله، مؤيّدا بنصره.. وهذا إعلان- مقدّما- بانتصار الحق الذي يدعو إليه النبىّ، ويعمل له، وهو دعوة الإسلام، وهداية الناس إلى الله..
وقد تحقق هذا.. فانتصرت دعوة الإسلام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا! ..(8/535)
روى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، حين دخل مكة فاتحا، دخل الكعبة وفيها حشود حاشدة من الأصنام التي كان يعبدها المشركون، فجعل صلوات الله وسلامه عليه- يدفع بها صدورها، فتتهاوى على الأرض، وهو يقول:
«جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» .
قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً» .
هو إلفات إلى هذا القرآن الذي بين يدى النبىّ، والذي يتلقّى آياته وكلماته من ربّه- إنه هو الحقّ الذي فيه الشفاء لما فى البصائر من عمى، وما فى القلوب من ضلال، وهو الرحمة التي تبسطها يد الرحمن الرحيم إلى عباده ليستشفوا بها من جهالتهم وضلالهم.. ثم هو الرائد الأمين الذي يدخل المصاحب له مدخل الصدق، ويخرجه مخرج الصدق، ويجعل له من عند الله سلطانا نصيرا.
والمؤمنون، الذين يستجيبون لدعوة النبىّ هم الذين ينتفعون بكلمات الله وآياته، ويجدون فيها الشفاء والرحمة.
أما الذين يشاقّون النبىّ، ويصدّون عن سبيل الله، فلن يزيدهم القرآن إلّا ضلالا إلى ضلالهم، ومرضا إلى مرضهم.. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (10: البقرة) .
- وفى قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» إشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما يتنزل حالا بعد حال، ولم ينزل جملة واحدة.. وهذا يعنى أن كل ما ينزل من القرآن، هو شفاء ورحمة، سواء ما نزل، أو سينزل.. لا أنّ بعضه فيه شفاء ورحمة، وبعضه الآخر ليس فيه شفاء ورحمة، كما يذهب إلى ذلك(8/536)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
أكثر المفسّرين.. فكل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، وكل القرآن لا يزيد الظالمين المكذبين به إلا خسارا وتبابا.
الآيات: (83- 88) [سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 88]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها قد جاءت لتذكر الناس بنعمة من أعظم النعم عليهم، وهى هذا القرآن، وما يحمل إليهم من شفاء ورحمة: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» .
وإذا كان كثير من الناس يكفرون بنعم الله، ويستقبلونها بالجحود والنكران، فقد ناسب أن يجىء قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ» ليكشف بذلك عن طبيعة مندسّة فى كيان الإنسان(8/537)
فى عمومه، وهو أنه إذا ألبسه الله نعمة من نعمه، بعد عن الله، وشغل بهذه النعمة، وأنه لا يذكر الله إلا إذا مسّه الضرّ.. فإذا ذكر الله فى تلك الحال، ذكره وقد بعدت به الطريق عن الله إذ قطع كل صلة بربّه، وهذا من شأنه أن يضعف ثقته بالله، ويؤيسه من رحمته.. وهكذا الذين لا يؤمنون بالله.. إنهم لا يرجون ثوابه، ولا يطمعون فى رحمته، لأنهم لا يعرفونه، بل ولا يعترفون به إلّا عند الشدّة والبلاء، حيث تطيش أحلامهم، ويضيع صوابهم.. وليس كذلك المؤمنون بالله، إنهم على طمع دائم فى رحمته، وعلى رجاء وثيق فى كشف ما يحلّ بهم من سوء، وما ينزل بهم من ضر.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (87: يوسف) .
هذا وفى الآية الكريمة باب فسيح من أبواب رحمة الله، يدخل منه الناس جميعا إلى حيث يجدون الرحمة والإحسان.. «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .. فسبحانك سبحانك من ربّ كريم رحيم..
وشاهت وجوه من اتجهوا إلى غيرك، ومدّوا أيديهم إلى سواك.
قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا» ..
الشاكلة: الطبيعة التي يكون عليها الإنسان، وهى التي تحدد طريقه ومذهبه فى الحياة.
وفى هذه الآية إشارة إلى أن الناس ليسوا كلّهم على شاكلة هذا الإنسان الذي تحدثت عنه الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً»
.. ففى الناس من يقدر الله حقّ قدره، إذا أنعم الله عليه، شكر، وإذا مسّه الضّرّ، صبر، وانتظر فى أمل ورجاء رحمة الله، وفضله..(8/538)
- وفى قوله تعالى: «كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» تحريض لأهل الغواية والضلال أن يكونوا من أهل الهدى والاستقامة.. وأن تكون أعمالهم على صورة طيبة مرضية.. فالأعمال، مشاكلة، ومشابهة لأصحابها. فإذا ساءت الأعمال كان أهلها أهل سوء، وإذا صلحت الأعمال، كان أهلها أهل استقامة وصلاح.
- وفى قوله تعالى: «فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا» - وفى إضافة الناس جميعا إلى ربّهم، دعوة لهؤلاء الشاردين عن طريق الحق، أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يعودوا إلى ربّهم، حتى يكونوا أهلا لأن يضافوا إليه، وينزلوا دار ضيافته وكرمه..
قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ..
«الواو» فى ويسألونك، للاستئناف، وهى فى نظمها هذا، إنما تنادى بصوت عال فاضح لهؤلاء الذين يسألون هذا السؤال الذي لا يريدون به هدى، ولا يبغون منه معرفة، وإنما هو المراء والجدل، واللّجاج فى والضلال والعناد..
وفى الحديث عن هؤلاء السائلين بضمير الغيبة «الواو» فى «ويسألونك» دون أن يجرى لهم ذكر- فى هذا تجهيل لهم، وإتاحة الفرصة لمن اشترك فى هذه الجريمة أن يفرّ بنفسه، وأن يطلب السلامة بالبعد عن هذا الموطن، الذي من ضبط فيه متلبسا بهذا التساؤل المنحرف عن طريق الاستفادة والمعرفة- كان فى وجه الاتهام والمؤاخذة..
- وقوله تعالى: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» أي من شأنه سبحانه وتعالى، ومما وسعه علمه هو، جلّ شأنه..
- وفى قوله سبحانه: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .. أمور.. منها:(8/539)
أولا: الإشادة بمقام العلم، والاحتفاء بأهله.. وأنه بقدر حظ الإنسان من المعرفة، ومبلغه من العلم، تكون منزلته، ويكون قدره.. وأن الله سبحانه وتعالى، وقد أحاط بكل شىء علما، فإنه- سبحانه- قد استأثر بكثير من أسرار الوجود، لا يصل إليها علم العلماء.. وهكذا، كل من حصّل شيئا من العلم، هو مستأثر بسرّ ما علم، مالك له، متصرف فيه، وإن على من أراد أن يكون له مكان فى هذا المقام، فليطلب العلم وليلحق بركب العالمين..
وثانيا: أن العلم الذي يحصّله العلماء، وتتسع له المدارك والعقول.. هو علم قليل قليل.. لا يبلغ شيئا إلى جانب علم الله.. ويكفى الإنسان جهلا وصغارا أنه يجهل نفسه، ويجهل الروح السارية فيه، والتي هى مبعث حياته، وحركته.. فكيف يكون له علم مع علم الله الذي وسع الوجود كله علما وحكمة ورحمة.؟
وثالثا: التحريض على طلب العلم، والاستزادة منه، حتى يكون هذا العلم القليل الذي نعلمه، كثيرا، نفيد منه فى أمور معاشنا ومعادنا.. فما أكثر ما نجهل من عالمنا الأرضى المحدود الذي نعيش فيه، وما أكثر ما ينكشف لنا كل يوم من خباياه وأسراره.. فلنطلب العلم، ولنجدّ فى الطلب.. ولكن ليكن ذلك لحساب العلم والمعرفة، لا لإشباع شهوة المماحكة والجدل..
هذا، والرأى عندنا أن يكون المراد بالروح هنا القرآن الكريم، فهو روح الأرواح، وحياة النفوس، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بهذه الصفة فى قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» (2: النحل) وفى قوله سبحانه: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» (15: غافر) .(8/540)
فالروح هنا، كلمات الله تنزل بها الملائكة على رسل الله، ليبلغوها أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.. وقد اتصلت كلمة الروح فى هاتين الآيتين بقوله تعالى:
«مِنْ أَمْرِهِ» كما اتصلت فى قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» .. فكان الرّد عليهم: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» .. وفى هذا قرينة على أن الروح هنا هو الروح هناك..
وأصرح من هذا، فى الدلالة على أن المراد بالروح هو القرآن الكريم ما جاء فى سورة الشورى فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (الآية: 52) .. فالروح هنا صريح الدلالة على أن المراد به هو القرآن الكريم..
وكذلك ما جاء فى سورة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ..» ففى ليلة القدر تنزل الملائكة، كما نزل القرآن الكريم فيها، إذ يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ..
وفى اقتران نزول «الروح» بقوله تعالى: «مِنْ أَمْرِ رَبِّي» و «مِنْ أَمْرِهِ» و «مِنْ أَمْرِنا» و «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» إشارة إلى ما يحمل القرآن الكريم من أحكام الله سبحانه وتعالى، وما قضى به سبحانه، من أمر ونهى.. وخصّ الأمر بالذكر، لأن النهى فى حقيقته أمر بالترك للمنهىّ عنه ومجانيته، فهو داخل حكما فى الأمر..
وهذا المفهوم لكلمة «الروح» وأن المراد بها القرآن الكريم، يسانده ما جاء فى الآية الكريمة بعد هذا «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» حيث كان المشركون يسألون عن القرآن الكريم سؤال استهزاء، من أين جاء به؟(8/541)
وعمن أخذه؟ ومن أعانه عليه، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» (4: الفرقان) .
وقد جاء الرد عليهم فى قوله سبحانه: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أي فهذا القرآن وما اشتمل عليه من علم، هو من بعض علم الله..
قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» .
المشيئة الإلهية هنا غير مرادة ولا واقعة، لأنها معلقة بإرادة الله سبحانه وتعالى.. والله سبحانه وتعالى لا يريدها.. فهى مشيئة غير مشاءة.. «فلو» حرف شرط، يفيد امتناع الشرط لامتناع جوابه.. والتقدير: لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك.. ولكننا لم نشأ..
والغرض من هذا الشرط غير الواقع، الإشارة إلى أنه ممكن الوقوع، وأن إمكان وقوعه متوقف على مشيئة صاحب المشيئة.. ومنه قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» .. ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يقع هذا، ولذلك جاء التعقيب بعد ذلك: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» وفى توكيد الفعل الواقعة عليه المشيئة: «لنذهبنّ» - إشارة إلى ما لمشيئة الله سبحانه وتعالى من سلطان غالب لا يدفع، وقوة قاهرة لا تردّ..
وفى الآية إلفات إلى العلم الكثير الذي اشتمل عليه القرآن الكريم، والذي ضمّت عليه آياته وكلماته، وأنه إذا أصغت الآذان إليه، وتفتحت القلوب له، ووردت العقول موارده- وجد عنده واردوه، والمتعاملون معه، والآخذون منه، مذخورا لا ينفد من العلم والمعرفة.. كما يقول سبحانه وتعالى:(8/542)
«وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» وكما يقول جل شأنه:
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» (51: العنكبوت) فهذا القرآن، وما حمل إلى الناس من هدى ورحمة، وما جمع بين دفتيه من علم ومعرفة- هذا القرآن، وهذا شأنه، قد غفل عنه هؤلاء الغافلون الجاهلون.. ولم يقفوا عند هذا، بل تصدّوا له، وحاربوه، وقال بعضهم لبعض:
«لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (26: فصلت) .. ثم ها هم أولاء يجيئون من خلف القرآن، ويتسلّلون من ورائه، فى خبث ومكر، يسألون سؤال من يطلب العلم، ويبغى المعرفة، وما هم بطلاب علم، ولا روّاد معرفة.. إذ لو كانوا كذلك لكان فيما نزل عليهم من قرآن ما يملأ عليهم حياتهم علما ومعرفة: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» ؟
(51: العنكبوت) ..
- ففى قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» .. تهديد لهؤلاء المشركين بتحويل هذا القرآن عنهم، ورفعه من بينهم، وحرمانهم هذا الخير العظيم المسوق إليهم! ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى بك أيها النبىّ وبقومك، هى التي أمسكت هذا الخير عندهم، وأبقته فيهم: «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» فبفضل الله سبحانه وتعالى عليك، وإكرامه العظيم لك، قد أبقى على قومك، فلم يعجّل لهم العذاب، ولم يقطع عنهم هذا الخير الذي حملته إليهم بين يديك.. بل جعله الله سبحانه مائدة ممدودة لهم، وموردا يردونه أنّى شاءوا، غير مدفوعين عنه، ولا محرومين منه.
قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» .(8/543)
الظهير: السّند والمعين.. وهو الذي يسند إليه الإنسان ظهره، فيكون قوة من ورائه.
بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم، تلك الإشارة الدالة على ما فيه من علم غزير، وخير كثير، قد غفل عنه المشركون، وأنهم- إذ فعلوا ذلك- ليسوا أهلا لأن يعيش بينهم هذا الخير وذلك العلم، ولكن فضل الله العظيم، على نبيّه الكريم، قد أمسك على قومه هذا القرآن فيهم، ليتداركوا أنفسهم، وليأخذوا بحظهم منه..
نقول: بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم وموقف المشركين منه- جاء قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» - ليكون ذلك بيانا كاشفا عن قدر هذا القرآن، وعن علوّه الذي لا ينال، وأنه روح من أمر الله، يحيى موات القلوب والنفوس.
فهذا القرآن، مع أن مادته مما يصوغ منها العرب شعرهم ونثرهم، ومع أن كلماته وتراكيبه جارية على ألسنتهم، معروفة لهم- هو معجزة قاهرة متحدّية للإنس والجنّ، أبد الدهر، فمن شاء منهم، فليقف لهذه المعجزة، وليتحدّ هذا التحدي، وليدع إليه من استطاع من الإنس والجنّ، ثمّ لينظر ماذا يكون هذا الذي استطاع هو ومن معه أن يأتوا به، وليعرضوه فى مقام الموازنة والمقايسة بينه وبين القرآن العظيم، ثم ليكن حكمهم فى هذا هو مقطع القول فى إعجاز القرآن أو غير إعجازه! وهو الجواب المفحم عن الروح الذي سألوا عنه! نقول هذا، ولا نحسب أحدا منذ نزل القرآن إلى اليوم، قد دخل فى هذه التجربة، ثم استقام له منها شبهة فى أن أي كلام، مهما بلغ من البلاغة، يدنو من سماء القرآن، وينتظم فى عقده.. وكيف وهو أرض والقرآن سماء، وهو حصى والقرآن جواهر؟!(8/544)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
روى أن أبا العلاء المعرى كان يردد قوله:
كم بودرت «1» غادة كعاب ... وعمّرت أمّها العجوز
أحرزها الولدان خوفا ... والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد فى الدهر لا يجوز
ثم تأوّه مرات، وتلا قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» (103- 105: هود) .. ثم صاح وبكى بكاء شديدا، وطرح وجهه على الأرض زمانا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه، وقال: سبحان من تكلم بهذا فى القدم.. سبحان من هذا كلامه! وإنها لشهادة ناطقة على إعجاز القرآن، وأنه يسقط بين يديه كل كلام وإن علا، وأنه يستخرى بين يديه كل بليغ، وأنه ملك البلاغة، وبزّ البلعاء «2» .
الآيات: (89- 96) [سورة الإسراء (17) : الآيات 89 الى 96]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
__________
(1) بودرت. أي عاجلها الموت، وهى كعاب أي صبية قد نهد ثدياها. [.....]
(2) انظر فى هذا كتابنا «إعجاز القرآن» فى الجزءين الأول والثاني.(8/545)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» .
صرّفنا: بيّنا، وكشفنا، وذلك بعرض الأمر على وجوهه كلّها، حتى ينكشف للناس جميعا.. والتصريف التنويع، ومنه تصريف الرياح، وهو هبوبها من جهات مختلفة.
بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى ما فى القرآن الكريم من هذا الإعجاز الذي أعجز الإنس والجنّ، جاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» - جاء ليكشف عن هذا الضلال المبين، وذلك العناد الأعمى، الذي يستبدّ بالناس، فيعميهم عن الحق، ويصرفهم عن الهدى، ويزين لهم الباطل..
فهذا القرآن فى بيانه المبين، وحجته المشرقة القاهرة، وهذه الآيات التي صرّفها الله سبحانه وتعالى فى هذا القرآن، والأمثال التي ضربها للناس فيه، كلّ(8/546)
هذا لم تبصره أبصار الضالين، ولم تطمئن به قلوب المشركين، بل إن ذلك قد زادهم نفورا عن الهدى، وبعدا عن الحق.. شأنهم فى هذا شأن كثير من الهوامّ والحشرات التي يأخذ ضوء النهار على أبصارها، فتفرّ من كل مكان يلوح منه ضوء! قوله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» .
هذا بيان لما كان عليه المشركون من عناد ومكابرة فى الحق.. فهم إذ عموا عن آيات الله، وإذ لم يروا منها ما يراه أهل السلامة والعافية، لم يتّهموا أنفسهم، ولم ينظروا إلى هذا الداء المتمكن منهم، فلجّ بهم فى الضلال، وساقهم إلى هذا التيه الذي هم فيه، بل اتهموا القرآن نفسه، وقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ثم راحوا يتحدّون النبىّ، ويقترحون عليه فى مجال التحدّى أن يأتيهم بآيات مادّية يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم..
- «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» .. فهذه واحدة من مقترحاتهم.. أن يفجر لهم ينبوعا من الأرض يتدفق منه الماء، كما فعل موسى مع بنى إسرائيل بعصاه.
وأخرى.. هى أن تكون للنبىّ جنة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار فى وسط هذه الصحراء الجديب.. «أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً» ..
وثالثة.. هى أن يسقط عليهم السّماء، فتطبق على الأرض وتحيلهم وديارهم ترابا فى ترابها.
«أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» .. والكسف: القطع..(8/547)
ورابعة.. وهى أن يأتيهم بالله ومعه الملائكة..
«أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» .. والقبيل: ما يقابل الشيء ويواجهه، ومنه القبلة، لأنها فى مقابل من يتجه إليها، ويقبل عليها..
وخامسة.. وهى أن يكون له بيت عظيم، وقصر مشيد، كقصر كسرى أو قيصر، تحتشد فيه الزخارف، وتجتمع فيه ألوان الزينة والترف..
«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» أي من ذهب.
وسادسة، وهى أن يرقى فى السماء، ويرى صاعدا إليها، كما تصعد الطيور الى ما فوق السحاب..
«أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ..»
وإنهم لن يصدّقوا ما تراه أعينهم، إذا هو صعّد إلى السماء، فقد يكون ذلك من قبيل السّحر، وإنّما الذي يجعل من صعوده إلى السماء آية عندهم، أن يعود إليهم، ومعه كتاب كالكتاب الذي جاء به موسى..
«وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» ..
فهذه مقترحاتهم المتحدية، التي اقترحوها على النبىّ، وله أن يختار أيّا منها.. فإن أعجزته واحدة، فليختر غيرها.. فإن أعجزته هذه المقترحات كلها، فقد أسقط فى يده، وظهر عجزه، وكان عليه أن يستسلم لهم، ويدع ما يدعوهم إليه..
وفى هذه المقترحات أمور.. منها:
أولا: أنها صيغت صياغة يبدو منها أن القوم قد أنصفوا النبىّ، ولم يجيئوا إليه متعنّتين، حيث وضعوا بين يديه أكثر من سبيل، فيتخيرّ أيسرها عليه، وأقربها تناولا منه..(8/548)
وثانيا: أنهم لم يقصروا مقترحاتهم على مطالب ذات نفع خاص بهم، حتى يقال عنهم إنهم طلّاب منفعة، وأصحاب أهواء.. فهم إذ طلبوا أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، طلبوا أن يسقط السّماء عليهم كسفا.. وهم إذ طلبوا لأنفسهم أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، طلبوا له أن ينشىء لنفسه جنّة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار وليس نهرا واحدا، كما طلبوا أن يقيم له قصرا مشيدا، مزخرفا، مموها بالذهب.
وثالثا: أن أصابع اليهود تبدو بصماتها واضحة على تلك المقترحات، وأنهم هم الذين صاغوها للمشركين تلك الصياغة الخبيثة الماكرة.. إذ هم أصحاب قدم راسخة فى هذا الضلال الذي كانوا يلقون به رسل الله إليهم.. فقد سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، كما يقول الله تعالى عنهم: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) . ومن مواقفهم الماكرة مع موسى أنهم أرادوا أن يمتحنوا قدرته على الاتصال بالله، فطلبوا إليه أن يأتيهم بطعام غير المنّ والسّلوى، وهو طعام سماوى وضعه الله فى أيديهم.. فقالوا «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها، قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» (61: البقرة) .
فهذه المقترحات التي اقترحها المشركون على النبىّ لم يكن مرادا بها إلّا التحدّى، حتى ولو كان فى هذا التحدّى هلاكهم! فقولهم: «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» هو من قبيل ما طلبه بنو إسرائيل، من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير!! وقد أمر الله نبيّه أن يردّ على مقترحاتهم تلك بقوله سبحانه: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» ..
وقد تضمن هذا الرد أمرين:(8/549)
أولهما: أنه- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إلا بشرا مثلهم، وأنه محكوم بهذه البشرية التي تحكمهم، وأنه بحكم هذه البشرية ليس مما يحسب عليه، أو ينقص من قدره ألّا يأتى بشىء من هذه المقترحات التي اقترحوها عليه.. لأنها خارجة عن حدود البشر.
وثانيا: أنه رسول، ومن شأن الرسول ألّا يخرج عن الحدود التي رسمها له من أرسله، وإلا كان خائنا للرسالة، وحينئذ يكون ما يعمله أو يقوله هو لحسابه الشخصي، وفى حدود مقدرته..
والرسول حريص على أداء الرسالة التي أمر بتبليغها، ملتزم الحدود المرسومة له.. فإذا حدثته نفسه بالخروج عن حدود رسالته، فمعنى هذا أنه انسلخ عن صفته تلك، ولم يعد رسولا، وأصبح مجرد «بشر» لاصلة له بالسماء.. وإذا كان كذلك، فإنه ليس له سبيل إلى الإتيان بشىء من هذه المقترحات التي يقترحها المشركون عليه، والتي هى فوق طاقة البشر! ففى هذا الرد المعجز: «هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» إفحام لهؤلاء المشركين، الذين يجهلون تلك البديهيات، وهى أن الرسول الذي يقترحون عليه هذه المقترحات، هو بشر منهم، قبل أن يكون رسولا، وأن كونه رسولا لا يخرجه عن بشريته، وأنه إنما يعطى ما تقدمه له السماء، كما يقول الله سبحانه وتعالى له: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» (110: الكهف) وكما يقول سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47: الحاقة) .
قوله تعالى: «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» ..
الناس، هنا، هم مطلق الناس، فى كل زمان ومكان.. والمراد بهم(8/550)
أولئك الذين يلقون رسل الله بالبهت والتكذيب، ويقفون منهم موقف العناد والتحدّى، وقد جاء النظم القرآنى بكلمة «الناس» على إطلاقها، لأن الكثرة الغالبة فى الناس، هى التي لا تؤمن بالرسل، وقليل منهم أولئك الذين يؤمنون..
كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) ..
والشبهة التي تفسد على هؤلاء الضالين رأيهم فى رسل الله، وتصوّرهم للطبيعة التي يكونون عليها- هى أن الرسل الذين يكونون سفراء بين الله والناس، ينبغى أن يكونوا- حسب تقديرهم- على مستوى فوق مستوى البشر، إذ لو كان من الممكن أن يتصل إنسان بالله، لكانوا هم- أي هؤلاء الضالون المنكرون- أهلا لهذا الأمر، وأولى به من هذا الرسول، الذي يدّعى تلك الدعوى على الله..!!
فهذا الإنكار الذي يواجه به المشركون رسل الله، إنما يقوم أساسا عند هؤلاء المنكرين، على أمرين:
أولهما: أن البشر عموما فى مستوى دون هذا المستوي الذي يستطيع فيه إنسان أن يتصل بالله.
وثانيهما: أنه لو كان فى الإمكان أن يتصل إنسان بالله، فلن يكونه هذا الإنسان الذي يدّعى أنه رسول من عند الله! فهناك عندهم من هم أولى منه.. حتى لكأن ذلك مما يتزاحمون عليه من مظاهر الحياة المادية.. والله سبحانه وتعالى يقول: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) .
وقوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» - هو ردّ على هؤلاء الذين ينكرون أن يبعث الله بشرا رسولا، ويرفضون التعامل مع أي إنسان يقول إنه رسول من ربّ(8/551)
العالمين.. ويطالبون أن يكون المبعوث إليهم ملكا من ملائكة الله، أو الله ذاته، كما يقول سبحانه على لسانهم: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» (21: الفرقان) .
- وفى قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ» استبعاد لصلاحية الملك أن يؤدى رسالة الرسول بين الناس.. إنه ملك، وهم بشر..
فلو جاء إلى الناس على صورة غير صورة البشر لفتنوا به إذا خاطبهم- وهو غير إنسان- بلسانهم وتحدّث إليهم بلغتهم.
ولو جاءهم فى صورة إنسان، لظلت الشبهة قائمة عندهم فى أن هذا الرسول بشر.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» (9: الأنعام) أي أنه إذا كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن يبعث إلى الناس ملكا رسولا لاقتضت حكمته أن يكون هذا الملك فى صورة بشرية كاملة، حتى يمكن أن يلتقى بالناس ويبلغهم رسالة ربّه! وهذا لا يغيّر من واقع الحال شيئا.. فملك فى صورة بشر.. هو فى حساب الناس بشر.
قوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يتركهم النبىّ وشأنهم، وما هم فيه من ضلال وعمى، بعد أن أبلغهم رسالة ربّه، ورفع لأبصارهم أضواء الحق، وأنوار الهدى.. والله شهيد على ما كان من النبىّ وما كان منهم، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، مطلعا على ما يسرّون وما يعلنون.(8/552)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
الآيات: (97- 100) [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 100]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
التفسير:
قوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن وجوه منكرة للمشركين، الذين أعماهم الضلال، وأصمهم الكبر، فلم يروا ما يشع من آيات الله من أضواء، ولم يستمعوا إلى ما تحمل إليهم من هدى، بل جعلوا يهزءون ويسخرون برسول الله، وبكلمات الله، ويجيئون إلى الرسول الكريم يتحدّونه بتلك المقترحات التي يقترحونها عليه، وبتلك الأسئلة المتعنتة التي(8/553)
يسألونه إياها- فناسب أن يجىء قوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ» ليكشف عن طبيعة هؤلاء المشركين، وأنهم ممن لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم، وأنهم لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم..
فهؤلاء المشركون هم ممن حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار، وأنهم إن يدعوا إلى الهدى فلن يسمعوا، ولن يهتدوا أبدا..
هكذا كانت مشيئة لله فى هؤلاء الضالين المشركين، ولن يردّ عنهم مشيئة الله، ولىّ ولا نصير. وإذن فإنهم سيموتون على ما هم عليه من كفر وضلال، فإذا حشروا يوم القيامة، سحبوا على وجوههم إلى جهنم، وجرّوا إليها جرّا، كما يقول سبحانه وتعالى: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (48: القمر) وفى سحبهم على وجوههم إذلال لهم وامتهان لإنسانيتهم، وقد كانت هذه الوجوه تلبس ألوانا من الكبر، والصّعر، والتعالي على العباد.
- وفى قوله تعالى: «عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا» إشارة إلى ما يحيط بهم من هول، وما ينزل بهم من كرب، حتى لتذهب حواسّهم، وتتعطل جوارحهم..
فلا يبصرون، ولا يتكلمون، ولا يسمعون.
- وقوله تعالى: «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» أي مصيرهم، ومستقرّهم.
- وقوله تعالى: «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» أي كلّما أخذت هذه النار فى الخمود، وخفّ عليهم سعيرها، زادت اشتعالا وسعيرا، وذلك مما يضاعف فى آلامهم، ويزيد من عذابهم، حيث تتغاير بهم أحوال العذاب، فيتقلبون بين اليأس والرجاء، وبين الموت والحياة.. وذلك هو العذاب فى أقسى صوره، وآلمها.. على خلاف ما لو كان العذاب الواقع بهم على حال واحدة، ولو كان بالغا غاية الشدة، فإنه بعد فترة من الزمن يصبح شيئا رتيبا، يجرى على وتيرة(8/554)
واحدة، أشبه بالمألوف المعتاد من مرّ الأمور وحلوها.
قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» .
هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ هؤلاء الضالّون بما أخذوا به، من عذاب ونكال.. إنهم كفروا بآيات الله، وبرسول الله، وبما دعاهم إليه من الإيمان بالله، وباليوم الآخر.. ولم يقع فى تصورهم أنهم يبعثون بعد الموت، وشكّوا فى قدرة الله أن يعيد إليهم الحياة بعد أن يموتوا ويصبحوا عظاما نخرة، ورفاتا ضائعا فى التراب.
والاستفهام هنا إنكارى، حيث ينكر المشركون البعث، ويقولون «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (29: الأنعام) .. بل إنهم ليقسمون على هذا قسما مؤكدا حتى يقطعوا على أنفسهم طريق النظر فى هذا الأمر أو التفكير فيه.. «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (38: النحل) .
قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً» .
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يكذبون بالبعث، ويقولون منكرين:
«أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» .. فلو أنهم كانوا على شىء من الإدراك السليم، لرأوا فى قدرة الله سبحانه وتعالى ما ينزهها عن العجز.. فهى قدرة قادرة على كلّ شىء.. ولو لحقها العجز عن شىء ما لما كانت من صفات الكمال الواجبة لله.
فهذا الوجود كله فى سمائه وأرضه، هو بعض صنعة هذه القدرة.. وتلك(8/555)
القدرة التي أوجدت السموات والأرض ومن فيهن، قادرة على أن تخلق مثل ما خلقت.. فالخلق الثاني أهون من الخلق الأول، الذي جاء على غير مثال..
«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (27: الروم) ..
وبالتالى فإن خلق الناس من جديد، وهم بعض هذا الوجود، هو بالقياس إلى الطبيعة البشرية- أهون- من خلق السموات والأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (57: غافر) .
- وفى قوله تعالى: «قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» مبالغة فى الرد على المشركين المنكرين للبعث.. فالناس لا يخلقون خلقا عند بعثهم من الموت، وإنما البعث إعادة لما كانوا عليه.. ولكن جاء التعبير القرآنى بلفظ الخلق ردّا على قول المشركين: «أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» ؟
- وقوله تعالى: «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ» . الفعل معطوف على قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا» الذي يراد به الماضي، بمعنى لقد رأوا، وإن كانت هذه الرؤية لم ترفع عن أبصارهم هذا الضلال الذي هم فيه.. والمراد بالأجل، هو الأجل الموقوت للبعث والقيامة، وهو آت لا ريب فيه.. كما يقول سبحانه:
«وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ» (104: هود) .
- وفى قوله تعالى: «فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً» وفى ذكر الظالمين باللفظ الظاهر بدلا من الضمير، الذي يقتضيه السياق- فى هذا ما يكشف عن حقيقتهم، وأنهم موصوفون بالظلم، لبعدهم عن الحق، ومكابرتهم فى الحقائق المسلّمة، وافترائهم على الله الكذب.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ(8/556)
افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
(7: الصف) .
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» .. القتور. البخيل، البالغ الغاية فى البخل، والإقتار: ضد الإسراف، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (67: الفرقان) .
وضمير الخطاب: موجه إلى هؤلاء المشركين، الذين أشار إليهم قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» ..
وفى العدول عن الغيبة إلى الخطاب، ليواجه المشركون بهذا الاتهام، وليكونوا هم وحدهم الممثلين للإنسانية فى هذه الصفة الذميمة، صفة البخل، الذي ينضح عن طبع جاف، غليظ، مستبدّ.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت فيما ذكرت عن المشركين، أنهم أعنتوا النبىّ وأبوا أن يستجيبوا له، ولم يكن ذلك منهم عن جهل بهذه المعجزة الكبرى التي جاءهم بها النبىّ، فهم أعلم الناس بالقرآن، وأنه فوق أن يأتى البشر بسورة من مثله، ولكن آفتهم التي ذهبت بهم مذاهب الضلال بين يدى هذا الصبح المشرق المبين، هى أن الذي جاءهم بهذه المعجزة، بشر مثلهم.. فكيف يكون لإنسان مثلهم أن يستأثر بهذا الفضل، ويستولى على هذا السلطان؟ - فناسب ذلك أن يجىء قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» وفى هذا ما يكشف عن الطبيعة الكامنة فيهم، بل الطبيعة الغالبة على الناس جميعا، وهى حسد الناس بعضهم لبعض، لما ركّب فيهم من أثرة وحبّ للذات!(8/557)
فلو أن إنسانا ملك الدنيا كلها بين يديه لاستحوز عليها لنفسه، ولأبى أن يشاركه أحد فيما ملك.. وأكثر من هذا.. فإنه لو أن إنسانا من الناس ملك خزائن رحمة الله التي لا تنفد أبدا على الإنفاق منها، لما أعطى أحدا منها شيئا..
لا لشىء، إلا لأنه يريد بهذا أن يكون السّيد المفرد بين الناس! فالإنسان يرى أخاه الإنسان منافسا خطيرا له، وفى مجال هذا التنافس يقوم، بين الناس والناس التحاسد، حتى ليتمنّى بعضهم لبعض الفقر والحاجة! على حين أن الإنسان لا ينفس على المخلوقات الأخرى ما حباها الله به من قوة أو سلطان أو جمال! وقد قيل: «لا كرامة لنبىّ فى وطنه» .. ولله درّ المعرّى إذ يقول:
أولو الفضل فى أوطانهم غرباء ... تشذّ وتنأى عنهم القرباء
ومن هنا كانت العداوة أشدّ بين الناس كلّما تشاكلت أحوالهم، وتقاربت ديارهم! - ففى قوله تعالى: «لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» كلام محذوف، تقديره:
لأمسكتم خشية أن تنفقوا فتتسع أرزاق الناس، ويكثر الخير فى يدهم، وفى هذا ما يفوت عليكم مقام التفرّد، والاستعلاء على الناس! - وقوله تعالى: «وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» هو حكم عام على الناس فى جملتهم، وأنهم يمسكون أيديهم عن الإنفاق، ولو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا، ليحقّق ذاته، ويفردها بين الناس بما جمع من كنوز الدنيا..
والرسول الكريم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لمنّى ثالثا!!» .. وإنه ليس به من حاجة إلى هذا الثالث، بل إنه ليكيه القليل مما ضمّ عليه أحد الواديين.. ولكنه كما قلنا- الأثرة وحبّ الذات!(8/558)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
الآيات: (101- 104) [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت المشركين، وموقفهم من النبىّ إذ جاءهم بالمعجزة القاهرة، البادية لهم فى كلمات الله، فأبوا أن يستمعوا لها، ووقفوا من النبىّ الكريم موقف التحدّى، يطالبونه بآيات مادّية محسوسة.. فناسب ذلك أن يذكّروا بهذا المشهد من الحياة الماضية، الذي أعاد التاريخ سيرته فيهم، فكانوا صورة مكررة له..
فهذه آيات مادية محسوسة.. ليست واحدة، ولكنها تسع آيات بيّنات، قد جاء بها موسى إلى فرعون، وعرضها عليه، واحدة واحدة، وكل واحدة منها تحدّث بلسان مبين أنها من عند الله، إذ كانت معجزة محسوسة لا ينكرها إنسان له عين يبصر بها.
فماذا كان من فرعون إزاءها؟ لقد أنكرها، وكفر بها، وازداد معها(8/559)
بغيا وعدوانا. وقال فى موسى تلك القولة التي يقولها المشركون فى «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» ..
فبين هؤلاء المشركين من قريش، وبين فرعون نسب قريب، يجمعهما فيه، الجبروت والطغيان، واستغلاق القلوب، وظلام النفس، وضلال الرأى..
وهذه المقترحات التي يقترحها مشركو قريش على النبىّ، قد جاء بمثلها نبىّ من أنبياء الله إلى «فرعون» فلم يجد فيها مقنعا، ولم ير إلا أنها كيد من كيد موسى، وسحر من سحره.. ولو جاء النبىّ إلى هؤلاء المشركين بتلك الآيات، أو ما يماثلها، أو يزيد عليها، لما تغير موقفهم من النبي، بل لزادهم ذلك ضلالا إلى ضلال، وفتنة إلى فتنة..
والآيات التسع التي قدّمها موسى بين يدى فرعون.. هى: العصا التي يلقيها فإذا هى ثعبان مبين، ويده التي يدخلها فى جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء..
فهاتان آيتان..
ثم ما أخذ الله به فرعون وقومه على يد موسى من السّنين، وهى سنوات من القحط والجدب، حيث كان النيل يجفّ.. ثم مارماهم الله به من الآفات المهلكة التي أتت على الزروع والثمار، بعد أن أينعت وأثمرت! .. فهاتان آيتان.. كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) ..
ثم ما سلّط الله سبحانه وتعالى على فرعون وقومه من الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم.. كما يقول سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (133: الأعراف) وهذه خمس آيات.. وقد شرحنا هذا فى سورة الأعراف..(8/560)
وفى قوله تعالى: «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» دعوة إلى بنى إسرائيل، ليشهدوا على هذا الذي يقوله القرآن الكريم، فيما يقصّ من خبر موسى وفرعون..
وفى دعوة بنى إسرائيل إلى الشهادة هنا، فضح لهم، ولماهم عليه من ضلال.. إذ أنهم يعلمون منذ اليوم الأول للرسالة الإسلامية، أن رسولها مبعوث من عند الله، وأن ما بين يديه من قرآن، هو كلمات الله.. وقد كان الواجب يقتضيهم- ديانه وخلقا- أن يؤازروا النبىّ، وأن يؤيدوه فى دعوته، وأن يؤدّوا الشهادة فى النبىّ على وجهها، إذا هم سئلوا من قريش.. لا أن يكونوا قوة مستترة وراء المشركين، يمدونهم بكلمات الزور والضلال، ويلقون بها بين يدى الدعوة الإسلامية.. حيث كان اليهود عند المشركين موضع ثقة فيما يتصل بالرسل والرسالات، لأنهم أهل كتاب. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من تلك المواقف اللئيمة التي كان يقفها اليهود من النبىّ ومن رسالته..
كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (51: النساء) ..
قوله تعالى: «قالَ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» .
البصائر: جمع بصيرة، وهى القوة العاقلة فى الإنسان، التي تكشف له الأمور، وتربه عواقبها.
والمثبور: الهالك.. وهو من الثبور، أي الهلاك..
- وفى قول موسى لفرعون: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ» - إشارة إلى أن هذه الآيات التي رآها فرعون، من شأنها أن تقيم(8/561)
فى كيان من يراها، علما محققا، ويقينا راسخا بأنها من عند الله.. فهى آيات ناطقة، لا تحتاج إلى أكثر من إنسان، له ما فى الإنسان من سمع وبصر وعقل، إذا هو التقى بها، ونظر فيها، أرته من وجهها ما يشهد بأنها من عند الله، وأن الرسول الذي جاء بها، إنما هو رسول الله! وإذن، فمن شأن فرعون- إن لم يكن قد علم- أن يعلم أن هذه الآيات إنما نزلت من عند الله، وأن موسى ليس إلا حاملا لها، ومبلغا إياها..! وهو ما يشير إليه قول موسى لفرعون: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. أي إنك لتعلم هذا، ولكن العناد والكبر، يأخذان عليك الطريق إلى الإقرار بالحق، والإذعان له..
وفى الإشارة إلى الآيات بإشارة العقلاء «هؤلاء» ما يدل على أنهن آيات تنطق بلسان مبين، وتحدّث عن نفسها، وتبين عن حقيقتها، حتى لكأنها ذات عقل يدرك، ولسان ينطق.
- وفى قول موسى لفرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» ردّ على قول فرعون له: «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .. والظن هنا بمعنى اليقين، سواء ظن فرعون، أو ظن موسى.. ففرعون يقول عن يقين قائم على جهل وعناد، وموسى يقول عن يقين، يشهد به واقع الحال، ويدلّ عليه ما ركب فرعون من كبر وعناد! قوله تعالى: «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً» .
الاستفزاز: الإفزاع، والإزعاج..
وإرادة فرعون، هى همّه، وتأهبه.. أي أنه عند ما رأى فرعون ما رأى من معجزات، وأبى أن يؤمن بها، وأعجزته الحيلة عن أن يتحدّى تلك المعجزات- أراد أن ينتقم من بنى إسرائيل، الذين جاء موسى ليخّلصهم من(8/562)
يده، ويخرج بهم من مصر، وذلك بأن يبطش بهم، ويقضى عليهم قضاء مبرما، حتى لا يكون لموسى موقف معه بعد أن يصبح أو يمسى فلا يجد لبنى إسرائيل أثرا، ولكن مكر الله به كان أسرع، فساقه هو وجنوده إلى البحر، حيث هلك وهلك كل من ركب البحر وراء بنى إسرائيل معه..
قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» .
اختلف المفسرون فى المراد من «الأرض» التي دعى بنو إسرائيل إلى سكناها.. وأكثر الآراء على أنها الأرض المقدسة التي أشار إليها قوله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» (21: المائدة) .
كذلك اختلف المفسرون فى المراد بوعد الآخرة: فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» ويكاد يكون إجماعهم على أنه يوم القيامة..
والرأى الذي نميل إليه، أن المراد بالأرض، هو مطلق الأرض.. وهذا يعنى أن يتبعثر بنو إسرائيل فى وجوه الأرض كلها، وأن يتناثروا فى أقطارها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً» (168:
الأعراف) .. وقد قطّعوا أمما، وتناثروا فى آفاق الأرض كلها..
وعلى هذا يكون المراد بوعد الآخرة هنا، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (7: الإسراء) ..
ويكون معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على بنى إسرائيل بأن يتقلبوا فى هذه الأرض، فيجتمعوا ويتفرقوا، فإذا اجتمعوا وقامت لهم دولة وسلطان، فسدوا وأفسدوا، فيسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يضربهم بيد البلاء، فيشتت شملهم، ويمزّق جمعهم.. وأن هذا الجمع والتفرق سيقع منهم(8/563)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
مرتين.. أما المرة الأولى، فهى تجربة لهم، فإذا كانت الثانية، وعادوا إلى ما كانوا عليه فى المرة الأولى، ضربهم الله سبحانه وتعالى الضربة القاضية، التي لا قيام لهم بعدها.. وهذا يعنى أنه إذا جاء وعد المرة الآخرة، جاء بهم الله سبحانه وتعالى «لَفِيفاً» أي من شتّى بقاع الأرض، وعندئذ تقوم لهم دولة، ولكنها دولة تحمل فى كيانها عوامل هدمها، كما تقوم عليه هذه الدولة الآن، من بغى، وعدوان وعندئذ تحقّ عليها كلمة الله.. «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .
وأصل «اللفيف» من اللّفّ، وهو لفّ الشيء فى الشيء، وإخفاؤه فيه.. ومنه الشجر الملتفّ، وهو الذي تشابكت أغصانه، فأطبقت على ما تعلوه من أرض، حتى لا يكاد ينفذ إليها شىء من خارج..
وهذا يعنى أن مجىء بنى إسرائيل إلى وعد الآخرة، إنما يكون من حيث تاهوا وضلوا فى وجوه الأرض، ولم يكن له وضع ظاهر فيها..
وقد أشرنا إلى هذا فى أول السورة، فى مبحث خاص..
الآيات: (105- 111) [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)(8/564)
التفسير:
قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» .
الضمير فى أنزلناه، يعود إلى القرآن الكريم، وليس هناك مذكور يعود إليه هذا الضمير، وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام القرآن، وأنه أظهر وأشهر من أن يذكر للدلالة عليه.. فإذا ذكر الحقّ الذي نزل من السماء، واستقرّ حقّا قائما فى هذه الأرض، مصاحبا للناس- كان ذلك معنيّا به القرآن الكريم وحده، دون سواه.
وهنا سؤال:
كيف يكون ذلك الوصف خاصّا بالقرآن الكريم وحده، مع أن الكتب السماوية كلّها إنما نزلت بالحقّ، لأنها من عند الله؟
والجواب على هذا، هو أن هذه الكتب، وإن تكن قد أنزلها الله سبحانه وتعالى، بالحقّ، كما أنزل القرآن.. إلا أنها حين اتصلت بالنّاس، عبثوا بها، وغيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي نزلت به..
أما القرآن الكريم، فقد أنزله الله سبحانه وتعالى بالحق، وأنه سبحانه تولّى حفظ هذا الحقّ الذي نزل به، فلم تبدّل آياته، ولم تحرّف كلماته.. وهذا هو بعض السرّ فى قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» .. أي ملازما للحقّ، قائما عليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ..(8/565)
(9: الحجر) فالقرآن محفوظ بقدرة الله من أن تمتد إليه يد التحريف والتبديل.. فهو نعمة تامّة، أنعم الله بها سبحانه وتعالى على هذه الأمة، لتكون منار هدى ورحمة للناس إلى يوم الدّين. أما الكتب السماوية السابقة، فهى نعم من عند الله، ابتلى بها من أنعم الله عليهم بها، وشأنها فى هذا شأن كل نعم الله، يخلى الله سبحانه وتعالى بينها وبين أهلها، إن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها..
ولهذا، فقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الكتب، أمانة فى يد القائمين عليها من أحبار ورهبان.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (44: المائدة) فهم الموكّلون بحفظ كتبهم التي هى أمانة فى أيديهم.. فإن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها، شأنهم فى هذا شأنهم فى كل أمانة يؤتمن الناس عليها.. وقد ضيع أهل الكتاب هذه الأمانة، فلم يرعوها حقّ رعايتها، بل مكروا بآيات الله، فغيّروا وبدّلوا، وألقوا بأهوائهم فيها.. على هذه الصورة الشائهة التي فى أيديهم..
- وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» إشارة إلى أن مهمّة النبىّ هى إبلاغ هذا الكتاب، والتبشير بما يحمل إلى الذين يؤمنون به من رضوان الله، وثوابه العظيم لهم، فى الدنيا والآخرة، والإنذار بما يحمل إلى المكذبين، من وعيد بالبلاء والنقمة وسوء المنقلب.! تلك هى وظيفة النبي مع هذا الكتاب الذي أنزله الله عليه.. أما حفظه، فقد تولّاه الله سبحانه وتعالى.
فليفرغ النبىّ جهده كلّه، إلى إبلاغه للناس!(8/566)
قوله تعالى: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» .
والواو فى قوله تعالى: «وَقُرْآناً» هى واو العطف، وما بعدها معطوف على الآية قبلها.. لتثبت وصفا آخر للقرآن.. فكما أنه نزل بالحق، وبالحق استقرّ وثبت، ولم يلحقه تبديل أو تحريف- هو كذلك نزل قرآنا منجّما، ولم ينزل مرة واحدة.
وفى تنكير «قُرْآناً» تنويه به، ورفع لقدمه، وأنه لتفرده بهذا الوصف، مستغن عن كل تعريف.. إذ كان هو وحده المستأهل لأن يقرأ، وأن يؤثر بالقراءة من كل قارئ.
و «فرقناه» أي نزلناه مفرّقا، ولم ينزل كلّا واحدا، كما نزلت الكتب قبله.. وأصله من الفرق، وهو الفصل بين الشيئين، كما يقول سبحانه وتعالى:
«فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» (63: الشعراء) أي أن موسى حين ضرب البحر بعصاه انفلق، وانشق، فكان كل فرق، أي جانب، كالجبل العظيم وقد قرىء «فرّقناه» بتشديد الراء.. وهذا يؤيد المعنى الذي أشرنا إليه كما يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» .. فهذا تعليل للسبب الذي من أجله أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن على مكث، أي على زمن متطاول، فنزل منجّما، أي مفرّقا فى نحو ثلاث وعشرين سنة..
وذلك ليعيش النبىّ والمؤمنون معه، على هذا الزاد الكريم، المختلف الألوان، والطعوم، طوال تلك المدّة التي كان القرآن يتنزل فيها، وهم يرصدون مطلع كلّ آية، ويشهدون بزوغ كل كلمة.. وبهذا ظل النبي والمؤمنون معه خلال هذه السنين الثلاث والعشرين فى مقام الانتظار لهذا الضيف العظيم، تطلع عليهم مواكبه موكبا، موكبا، وتلقاهم أضواؤه، شعاعة شعاعة، حتى إذا كان(8/567)
آخر كوكبة فى مواكبه، وآخر ضوءة بين السماء والأرض- أذّن مؤذّن الحق:
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» وعندها صافح النبىّ هذا الوافد الكريم، فى موكبه الحافل، وسناه المشرق، ثم ودّعه، لينتقل هو- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى، وليقيم القرآن فى الناس مقامه، حيث يجتمع عليه المسلمون، ويستقبلون من آياته وكلماته إشارات الهدى، إلى حيث الفلاح والنجاة، فى الدنيا والآخرة جميعا..
- وفى قوله تعالى: «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» وفى تعدية الفعل «قرأ» بحرف الجرّ «على» «على الناس» بدلا من اللام: «للناس» . إشارة إلى علوّ هذا القرآن، وأنه بحيث يشرف عليهم من عليائه، فيملأ وجودهم نورا، وألقا، وبحيث يكشف لهم كلّ خفيّة، إذا هم جعلوا أبصارهم إليه، ووجهوا عقولهم وقلوبهم له.. فلا تعمّى عليهم المسالك، ولا تتفرق بهم السبل، وفى هذا يقول الرسول الكريم «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنّتى» .
- وفى قوله تعالى: «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» بيان للأسلوب الذي نزل به القرآن خلال هذا الزمن الذي نزل فيه، وأنه نزّل تنزيلا.. أي نزل شيئا شيئا، وهذا يعنى أن القرآن الكريم وإن تلقّاه النبىّ آية آية، وآيات آيات، وسورة سورة- فإنه فى جميع أحواله تلك، هو القرآن الكريم كلّه.. ففى الآية الواحدة، أو الآيات، يعرف القرآن الكريم، ويعرف أنه كلام ربّ العالمين، وأنه المعجزة القاهرة المتحدية، التي تقصر دونها أيدى البلغاء، وتخضع لجلالها رقاب الفحول من الشعراء والخطباء! فالآيات القليلة التي تلقّاها النبىّ فى صدر دعوته، كانت صورة مصغرة(8/568)
للقرآن الكريم كله.. بها تحدّى قريشا، وبها أفحمهم وأعجزهم!.
وإذا كان لنا أن نمثّل الصورة التي تنزل بها القرآن، فإنه يمكن أن نرى فى القمر وفى مطالعه ومنازله، أقرب صورة له.. حيث القمر هو القمر فى جميع مطالعه، وإن لم ينكشف من وجهه، هلالا، ما انكشف منه، بدرا.. إنه فى جميع أحواله آية من آيات الله، وإن أية لمعة بارقة منه هى إشارة مبينة عنه، ونبأ عظيم يحدّث عن بهائه وجلاله وروعته! .. ومع هذا، فإن العيون الكليلة لا تنبهر به، والقلوب المريضة لا يروعها ما يروع القلوب من هذا الجلال والجمال المطلّ به على الوجود.. تماما كالقرآن الكريم الذي لم تتفتح له قلوب، المستكبرين الضالين، حتى بعد أن تم وكمل، على حين انجذب إليه المهتدون المؤمنون مع أول آية من آياته، ولأول إشارة من إشاراته..
قوله تعالى:
«قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» .
فى هذه الآية إشارة إلى أن شأن أولئك المكابرين المعاندين، الذين يقفون من كتاب الله هذا الموقف المنحرف، وينظرون إليه هذا المنظر المريض- إشارة إلى أنهم لا يعلون من قدر القرآن شيئا، إذا هم آمنوا به، ولا ينزلون من قدره شيئا، إذا هم أمسكوا أنفسهم على الكفر، وأبوا أن يعترفوا بأنه كلام الله، وأن الرسول الذي جاء به هو رسول الله.. إنه مائدة الله الممدودة بهذا الخير الذي لا ينفد على كثرة الطاعمين منه، ولا يفسد على مر الزمن لقلة الأيدى التي تمتد إليه، وتنال منه.. فالشمس هى الشمس، وإن اكتحلت بضوئها الأبصار، أو عشيت عن ضوئها العيون!! - وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ(8/569)
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا»
.. فى هذا إشارتان:
أولاهما: أن هذا القرآن لا يقدره قدره، ولا يعرف فضله، إلا من انتفع بعقله، وأحسن الاستماع إليه، والتلقّى عنه.. وأنّ أصحاب العقل والحجا وأهل العلم والمعرفة، هم أقرب الناس نسبا إلى هذا القرآن- وأكثرهم معرفة به، وأصدقهم نظرا إليه، وعرفانا بقدره وفضله.
وثانيتهما: أن هذا القرآن، قد جعل للعرب عامة، ولأهل مكة خاصة فضل السبق إليه. والوقوف على موارده.. فجاء إليهم بلسان عربى مبين، هو لسانهم الذي به يتعاملون.. ثم هو من جهة أخرى قد سعى إليهم، وحلّ بينهم، دون أن يبذلوا جهدا أو مالا.. فإن هم أحسنوا استقباله، وأخذوا بحظّهم منه، فذلك هو خيرهم المدعوّون إليه، وإن هم أساءوا مقامه فيهم، وغلّوا أيديهم عن تناول قطوفه، والأخذ من ثمره، ارتحل عنهم إلى غيرهم، ونزل عند من يعرف قدره، ويحسن الأخذ عنه..
والقوم الذين يتلفت إليهم القرآن فى هذا الموقف، ويؤذن أهل مكة بالتحول عنهم إليهم، هم أهل العلم، من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
فأهل العلم هؤلاء يعرفون قدر هذا القرآن ويعلمون- بما عندهم من علم- أنه كلام الله، وأن الرسول الذي يتلوه- هو رسول الله.. وأن هذا القرآن إذا يتلى عليهم خشعوا له، وخرّوا على أذقانهم سجّدا بين يدى آياته وكلماته.. كما يقول سبحانه وتعالى فى القسيسين والرهبان من النصارى: «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (83: المائدة) ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا(8/570)
يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا»
..
والذي ينبغى الالتفات إليه هنا، هو أن أهل العلم من أهل الكتاب، هؤلاء الذين إذا يتلى عليهم القرآن «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» - لم يكونوا قد وجهوا بالقرآن بعد، ولم يكونوا قد دعوا إلى الإيمان به.. إذ كانت الدعوة لا تزال تمهدّ الأرض التي تركّز رايتها فيها، وتجعل منها منطلقا لرسالتها فى الناس جميعا.. حيث تخيرت الأمة العربية التي نزلت بلسانها، لحمل هذا الشرف العظيم.. ومع هذا، فإن أهل الكتاب- وخاصة أهل العلم منهم- كانوا يرصدون مطلع النبوة، ويشهدون هذا الصراع المحتدم فى مكة بين قريش وبين النبىّ الذي ظهر فيهم، وما يتلو عليهم من آيات الله.. وكانت تلك الآيات، تطرق أسماع العلماء من أهل الكتاب، فيعرفون وجه الحق فيها، فتخشع لذلك قلوبهم، وتفيض بالدمع عيونهم ويخرّون للأذقان يبكون! وفى هذا الذي يتحدث به القرآن إلى أهل مكّة عن علماء أهل الكتاب، وعن موقع كلمات الله وآياته هذا الموقع منهم- فى هذا تسفيه لأهل مكة، ولتفّلتهم عن هذا الخير الوارد عليهم، ثم هو من جهة أخرى تحريض لهم على أن يبادروا هذا الخير فيأخذوا حظهم منه، قبل أن يقلت من أيديهم، ويسبقهم إليه أهل الكتاب، وهم الذين كانوا ينفسون على أهل الكتاب هذا العلم الذي جاءتهم به رسل الله فى هذه الكتب التي فى أيديهم، والذين كانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ (157: الأنعام) .. فها هم أولاء قد أنزل عليهم الكتاب الذي كانوا يتمنّونه، وها هم أولاء يزورّون عن هذا الكتاب، ويزهدون فيه، بل ويرجمونه بأيديهم(8/571)
وألسنتهم.. فهل بعد هذا السّفه سفه؟ وهل مع هذا الغباء غباء! - وفى قوله تعالى: «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً» إشارة إلى عظم وقع القرآن على قلوبهم، وأنهم إذا تليت عليهم آياته استولت عليهم حال من الخشية والرهبة، فسقطوا مغشيا عليهم، بكيانهم كلّه. وألقوا بثقل أجسامهم على الأرض، ولصقت وجوههم بها.!
قوله تعالى:
«وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» .
هو بيان لحال أخرى من أحوال أهل العلم من أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم القرآن.. فهم لأول الصدمة يخرّون على أذقانهم سجّدا.. ثم هم إذا صحوا من سكرتهم قليلا، وفاء إليهم ما عزب من عقولهم، وجدوا أنفسهم مع آيات الله، تطالعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخرّون للأذقان باكين، لما عرفوا من الحق.. فيزدادون خشوعا إلى خشوع، وإيمانا إلى إيمان! فهما إذن حالان للمستمعين إلى آيات الله، من أهل العلم هؤلاء..
الحال الأولى، حين تلقاهم آيات الله، وتطلع عليهم كلماته لأول وهلة..
فإذاهم بين يديها فى حال من الجلال والرهبة، تنعقد معه الألسنة، وتسكن معه الجوارح، وتخمد الأنفاس.. شأنهم فى هذا شأن من تبغته آية من آيات الله، يرى فيها من الحسن والجمال ما لم تشهده عين، ولم يتصوره خاطر، فيخرّ مغشيا عليه، جلالا ورهبة..
والحال الثانية.. أنه حين يعيشون مع هذه الآيات وقتا ما، ويأنسون إليها، ويزايلهم بعض ما وقع عليهم أول الأمر من سطوة جلالها وجمالها، عندئذ يجدون شيئا من العقل يلقونه بها، وإذا هى لعقولهم أبهى جلالا، وأروع(8/572)
جمالا، مما استقبلته منها أول الأمر مشاعرهم.. وهكذا يلتقى عندهم على كلمات الله، منطق العقل، مع بداهة الشعور، فيتأكد لذلك حكم البداهة.. «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» .
قوله تعالى:
«قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» .
فى هذه الآية يعود الخطاب إلى المشركين، بعد أن وقفت بهم الآيتان السابقتان إزاء أهل الكتاب، وأرتهم منهم أنهم يتعاملون مع هذا القرآن الذي لم يدعوا إليه بعد، ويلقونه بهذا الاحتفاء العظيم، على حين أنهم- أي المشركين- يلقون هذا القرآن الذي دعوا إليه، بوجوه منكرة، وقلوب مغلقة، وعقول شاردة.
وفى تجديد الخطاب إليهم، دعوة مجدّدة لهم إلى أن يتدبروا أمرهم هذا الذي هم فيه، وأن يبادروا فيصلحوا موقفهم من القرآن، ويصطلحوا معه، ويلقوه لقاء كريما غير هذا اللقاء الذي كان منهم.. هذا إن كان لهم حاجة فى أنفسهم، وفى استنقاذها من الضلال والضياع! وإلا فهم وما اختاروا! - وفى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» تصحيح لمعتقد المشركين فى الله.. ذلك أنهم كانوا لا يعرفون عن الله إلا أنه «الله» أي الإله الأكبر، الذي يرأس الآلهة الآخرين، الذين يعبدونهم من دونه.. من ملائكة وكواكب، مثّلوها فى تلك الأصنام التي نحتوها من أحجار، وسوّوها من خشب، أو ذهب.. كاللات، والعزّى، ومناة، وغيرها..
فاسم «الله» هو عند هؤلاء المشركين، هو العلم الذي يطلقونه على الإله الأكبر.. ليس له عندهم اسم أو صفة أخرى..(8/573)
ولهذا عجب هؤلاء المشركون حين كانوا يسمعون من النبىّ تلك الأسماء والصفات التي كان يذكرها فيما يذكر القرآن الكريم، من أسماء الله وصفاته..
كالرحمن، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم، والحكيم.. وكانوا يقولون:
أإله هو أم آلهة هذا الذي يدعونا محمد إلى الإيمان به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ.. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» (60: الفرقان) .
فكان قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» - تصحيحا لمعتقدهم الفاسد فى الله، وأنه سبحانه وتعالى ليس- كما تصوّروا- ذاتا كدواتهم، أو ذوات معبوداتهم، يطلق عليهم اسم واحد، يستدلّ به عليه، ويتعامل معه به! فالله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال كلها، فأىّ وصف من أوصاف الكمال، هو لله سبحانه، وهو اسم وصفة معا لذاته.. فالله، هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو العليم، وهو السميع، وهو البصير، وهو الخالق، وهو الرازق.. إلى ما يمكن أن تحمل للغة من صفات الكمال والجلال، التي لا يشاركه أحد فيها..
فكل اسم حسن يدعى الله به، ويعبد عليه، هو إيمان بالله، وإقرار بالعبودية له. وذلك بأية لغة، وبأى لسان! - وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» - هو بيان للأسلوب القاصد، المستقيم، الذي يدعى الله سبحانه وتعالى به، ويعبد عليه، وهو ألا يكون جهرا صارحا بالدعاء، وبالصلاة- وهى دعاء أيضا- ولا هما خافتا به.. وإنما هو وسط بين هذا وذاك.. فالجهر الصارخ، يدخل على الإنسان بشعور حفىّ، بأن الله بعيد عنه، لا يسمع إلا إذا(8/574)
نودى نداء عاليا، ولهذا نهى النبىّ أصحابه فى بعض أسفاره، وكانوا كلّما علوا شرفا من الأرض رفعوا أصواتهم بالتكبير- نهاهم أن يبالغوا فى هذا، وقال: «إنكم لا تدعون ربّا أصمّ» .
أما الهمس بالدعاء والمخافتة به، فإنه يعزل صاحبه عن أن يسمع ما يناجى به الله، ومن ثمّ فلا يتشكل له من دعائه من المعاني ما يصل شعوره بالله، ويشدّ عقله وقلبه إليه!.
قوله تعالى:
«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» .
بهذه الآية تختم هذه السورة الكريمة.. فيلتقى ختامها مع بدئها، حيث بدأت بتسبيح الله وتنزيهه ثم ختمت بحمده وتقديسه.
وكأنّ هذا الحمد هو مما أوجبه استقبال تلك المنّة الكبرى التي منّ الله بها على عبده محمد، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
ثم لكأن هذا الحمد أيضا هو بيان لصورة من صور الكمال التي يدعى بها الله أو الرحمن، كما جاء الأمر فى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» .
ونرتّل قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» ، فنجد أننا بين يدى صلاة هى الصورة المثلى للدعاء لذى أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ الكريم والمؤمنين معه، أن يقيموا دعاءهم عليه فى قوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» .(8/575)
- ففى هذا الدعاء: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» فى هذا الدعاء أكثر من ظاهرة.
فأولا: مضمون الدعاء.. فهو فى كلمات قليلة، قد جمع فيها ما تفرق من صور الدّعاء، فى مقام الولاء لله، وإخلاص العبادة والعبودية لله.. فهو حمد لله، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ هو إقرار بأن الله سبحانه المتفرد بالكمال، والمنزّه عن النقص، فلا حاجة له إلى ولد يؤنس وحشته، ويتخذ منه سندا وعضدا، ولا منازع له، ولا شريك معه فى هذا الوجود، ولا معين له فى القيام على هذا الوجود، والإمساك بنظامه الحافظ له.. فحيث نظر ناظر، فرأى قوة لقوىّ، أو عظمة لعظيم، أو سلطانا لذى سلطان، أو غنى لذى غنى..
أو ما شاكل ذلك مما يكبر فى صدور الناس- فالله سبحانه وتعالى له القوة كلها، وله العظمة جميعها، وله السلطان المطلق، وله الغنى الشامل، وله الكمال فى كل شىء، وإليه أمر كل شىء.. وهذا هو بعض السرّ فى أن ختم هذا الدعاء بقوله تعالى: «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» .. أي قل: الله أكبر، الله أكبر..
تكبيرا مطلقا، من غير مقايسة أو مفاضلة.. الكبير فى كل مقام.. فهو- سبحانه- الكبير المتعال، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
وثانيا: الكلمات التي ختم بها هذا الدعاء، قد انتظمت صورتها من حروف، من شأنها أن تمسك من ينطق بها على حال بين الجهر والتخافت، حتى دون أن يكون ذلك عن قصد منه.
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فلو ذهب من يتلو هذه الكلمات أن يجهر بها إلى حيث يبلغ صوته من العلوّ، لأسكت به عند طبقة معينة من الأداء الصوتى، لا يستطيع أن يرتفع فوقه، وذلك لخلوّها من أي حرف من حروف المدّ.. وهى الواو، والألف، والياء.. الأمر الذي يحجز الصوت عن أن يذهب مذهبا فوق حدود الاعتدال..(8/576)
ومن جهة أخرى، فإن الذي يتلو هذه الكلمات، لو أراد أن يخافت بها، لتفلّتت منه، وحملته حملا على أن ينطق بها، وأن يجريها خارج شفتيه.
وانظر، فإنك تجد أكثر حروف هذه الكلمات من اللامات والميمات والدالات والذالات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» .
فهناك خمسة عشر لاما وستة ميمات، ودالان، وثلاثة ذالات.
ومخرج حرف اللام من طرف اللسان حيث يضرب فى مقدمة الحلق، على حين أن الميم مخرجه من الشفتين، ومخرج الدال والذال من أقصى طرف اللسان، حيث يضرب فى الأسنان..
فالحركة الغالبة عند النطق بهذه الكلمات، هى حركة طرف اللسان مع الشفتين، حيث لو أراد الإنسان أن يحرك لسانه بهذه الكلمات من داخل شفتيه، لاضطر اضطرارا إلى أن يفتح شفتيه عند النطق بالميم، ولو أراد أن يزمّ شفتيه عند النطق بالميمات، لوجد هناك ما يقسره قسرا على أن يفتح شفتيه عند الالتقاء بثلاث واوات رصدت له، وأخذت مكانها فى مقاطع هذه الكلمات.. والواو حرف لا يتحقق نطقه نطقا صحيحا إلا بحركة الشفتين، حركة تجمعهما، ثم تفرقهما فى فتحة أشبه بنصف دائرة! فسبحان من هذا كلامه! سبحانه! سبحانه!!(8/577)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
18- سورة الكهف
نزولها: مكية بالإجماع، إلا بعض آيات اختلف فيها.
عدد آياتها: مائة وعشر آيات.
عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وتسع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف، وثلاثمائة وستة أحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
التفسير:
بدأت هذه السورة بحمد الله، فكان هذا البدء جوابا على ختام السورة التي قبلها، واستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى فى الآية الأخيرة منها، وهى(8/578)
قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» .. فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ..»
فقوله تعالى:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» هو وجه آخر من وجوه الحمد لله سبحانه وتعالى.. فإذا استوجب الله سبحانه وتعالى الحمد لجلاله وعظمته، وتنزهه عن أن يتخذ ولدا، أو يكون له شريك فى الملك أو ولىّ من الذل- فإنه سبحانه، مستوجب الحمد كذلك على تلك النعمة الجليلة التي أنعم الله بها على عبده محمد، فأنزل عليه هذا الكتاب الذي تستنير بآياته البصائر، وتعمر بتلاوته القلوب، وتهتدى به العقول.. فتلك النعمة الجليلة هى التي تمت بها نعم الله على الإنسان، إذ خلقه، ورزقه، وسخر له ما فى السموات وما فى الأرض.. «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» (1: الأنعام) فالذى يجعل لهذه النعم ثمرات مباركة طيبة، والذي يجعل إلى يد الإنسان ميزانا يضبط به هذه النعم على وجه الخير والإحسان- هو تلك الهداية التي يستمدّها من هذا الكتاب الكريم.. وبغير هذا لا يستطيع أن يحسن الانتفاع بهذه النعم، بل ربما تحولت هذه النعم فى يده إلى أسلحة قاتلة، له وللناس معه.. فكان نزول هذا الكتاب من تمام نعم الله على عباده..
فاستوجب سبحانه الحمد والشكران.
وفى ذكر محمد صلوات الله وسلامه عليه بالعبودية تكريم له من ربّه، ورفع لمقامه، إذ جعله عبدا استحق أن يضاف إليه سبحانه! - وفى قوله تعالى: «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» إشارة إلى سماحة الشريعة الإسلامية، التي جاء بها محمد صلوات الله وسلامه عليه، والتي حملها هذا الكتاب(8/579)
الذي لا عوج فيه، ولا خروج فى أحكامه وتشريعاته عن سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153: الأنعام) .
فالقرآن الكريم لم يجىء بأيّ تكليف فيه حرج، ومشقة، كما جاءت الشرائع السابقة، التي حملت إلى المدعوّين إليها، ضروبا من الإعنات والإرهاق.
تأديبا، وإصلاحا، لما فيهم من اعوجاج حادّ، كما فى شريعة موسى، ووصايا عيسى، فقد حرّم الله فى شريعة موسى على بنى إسرائيل طيبات كانت أحلّت لهم كما يقول سبحانه: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) وكما يقول سبحانه: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) ..
ومن البلاء الذي أخذ الله به بنى إسرائيل، أن جعل من شريعتهم حرمة العمل فى يوم السبت، ولم يكن ذلك رحمة بهم، بل نكالا وبلاء، كما يقول سبحانه: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» (124: النحل) .. أما وصايا السيد المسيح لهم، فيكفى أن يكون دستورها قائما على هذا المبدأ: «من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا» .
ولا شك أن هذا عوج مقصود فى الشريعة التي شرعت لهم، ليقابل هذا العوج ما فيهم من عوج! أما هذه الأمة- أمة الإسلام- فقد عافاها الله من هذا البلاء، وجعل شريعتها قائمة على السماحة واليسر، متجاوبة مع الفطرة التي فطر الله الناس(8/580)
عليها، كما يقول سبحانه: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) .. فالله سبحانه، قد اجتبى هذه الأمة واصطفاها، ليخرج منها خير أمة أخرجت للناس..!
هذا، هو المعنى الذي أطمئن إلى فهم الآية الكريمة عليه، وإن كنت فى هذا لا أعرف أن أحدا من المفسرين قد نظر إليه، أو عدّه مقولة من تلك المقولات الكثيرة التي قيلت فى تفسير هذه الآية، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدى لولا أن هدانا الله..
وفى تعدية الفعل «يجعل» باللام «له» بدلا من «فى» - إشارة إلى أن هذا العوج الذي جاء فى الكتب السابقة- تأديبا وتقويما- لم يكن فى أصل هذه الكتب، وإنما هو «لها» أي أداة من الأدوات التي تملكها، لتؤدب بها الطغاة المتمردين.. فهذا العوج هو شىء تملكه، وهو خارج عن ذاتها، وطبيعتها..
وقوله تعالى:
«قَيِّماً» .. هو حال أخرى، من أحوال هذا الكتاب الذي أنزله الله مستقيما لا عوج فيه..
والقيّم: هو الذي يهيمن على غيره، ويضبط موارده ومصادره..
وذلك هو شأن القرآن الكريم، مع الكتب السماوية التي سبقته، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) .
قوله تعالى:
«لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» .(8/581)
البأس الشديد: هو العذاب الأليم، الذي توعّد الله سبحانه وتعالى به الذين لا يؤمنون بالله، ولا يعملون الصّالحات، على خلاف الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات، فقد بشرهم الله سبحانه، بالأجر الحسن، والجزاء العظيم، الذي يفيضه سبحانه وتعالى عليهم، من رضوانه، ويلبسهم إياه، فلا ينزعه عنهم أبدا.
والآية لم تشر إلى صفة هؤلاء المنذرين بالبأس الشديد، اكتفاء بالوصف الذي استحقّه أصحاب الأجر الحسن الذي يمكثون فيه أبدا، وهم المؤمنون الذين يعملون الصالحات..
قوله تعالى:
«وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» .
أعادت الآية الإنذار هنا، لتواجه طائفة من الذين لا يؤمنون بالله، ولا يقدرونه حقّ قدره، وهم الذين نسبوا إليه سبحانه وتعالى ولدا، وهم اليهود، الذين قالوا «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» ، والنصارى، الذين يقولون: «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» .
وفى اختصاصهم بالذكر هنا لإزالة شبهة قد تبدو من اعترافهم بوجود الله، وإيمانهم به إلها.. فهذا الإيمان قد يجعل لهم مدخلا إلى المؤمنين بالله، مع تلك المقولات الشنيعة التي يقولونها بنسبة الولد إليه.. ومن هنا يشتبه أمرهم على المؤمنين، ومن ثمّ فلا يكون لقوله تعالى: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ» متوجّه إليهم..
- فقوله تعالى: «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» عزل لهؤلاء القائلين بتلك المقولة الشنعاء فى الله، عن أن يكونوا فى المؤمنين.! فإنه لا يجتمع الإيمان بالله، ونسبة الولد إليه.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.(8/582)
- وفى قوله تعالى: «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ» .. إشارة إلى أن هؤلاء المعتقدين فى الله هذا المعتقد لا علم لهم بما لله سبحانه من قدر، يتنزه به عن الصاحبة والولد، وعن الشريك فى الملك..
فالضمير فى «به» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.. وهذا يعنى أن علمهم بالله هو علم ناقص، مشوب بالأوهام والضلالات.. وليس الخلف خيرا من السّلف فى هذا العلم بالله، فهم جميعا على جهل، وسفه، وضلال.. «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ..»
- وفى قوله تعالى: «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» تشنيع عليهم، وتهويل لهذه الكلمة الحمقاء التي يقولونها فى الله، وأنها قولة لا تستند إلى عقل، ولا تقوم على منطق، وإنما هى مما يجرى على الأفواه من لغو الكلام وساقطه! - وقوله تعالى: «إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» هو وصف كاشف لهذا القول الذي يقولونه فى الله، سبحانه وتعالى، وأنه قول كذب صراح وبهتان مفضوح! وهذا ما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (30: التوبة) . و «إن» حرف نفى، بمعنى «ما» .. أي ما يقولون إلا كذبا.
قوله تعالى:
«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
الخطاب هنا، للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. والضمير فى قوله تعالى:
«عَلى آثارِهِمْ» يعود إلى مشركى العرب، وخاصة مشركى مكة.
والباخع: من مات غمّا، والبخع، هو الموت غمّا، وبخع بما عليه من حقّ:
أقرّ به مكرها على مضض.(8/583)
والأسف: الحزن الشديد، الذي يجىء من رقة الشعور ورفاهة الحسّ.
وفى الآية دعوة إلى النبي الكريم، أن يتخفف من دواعى الحسرة والأسف على قومه، الذين يأبون الاستجابة له، والإيمان بهذا الكتاب الذي يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى اتباعه.
- وفى قوله تعالى: «عَلى آثارِهِمْ» تلويح بالتهديد لهؤلاء المشركين، وبالهلاك المطلّ عليهم، إذا هم أصروا على هذا الموقف المنحرف، الذي يقفونه من النبي والكتاب الذي معه، وأنهم فى معرض أن يصبحوا أو يمسوا، فإذا هم فى الهالكين، وإذا هم أثر بعد عين.
«إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً» .
الأرض الجرز: التي لا نبات فيها، سواء كان ذلك لأنها لا تنبت أصلا، أو كان فيها نبات ثم اقتلع من أصوله..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما كان الذي صرف المشركين عن الإيمان بالله، وبالكتاب الذي أنزل على رسوله- هو اشتغالهم بالحياة الدنيا، وبالتكاثر والتفاخر بينهم، فقد جاءت هذه الآية لتكشف لهم عن دنياهم هذه التي صرفتهم عن النظر فى آخرتهم، وأن هذا المتاع الذي فى هذه الدنيا، إنما جعله الله سبحانه وتعالى زينة لها، حتى يكون للناس نظر إليها، واشتغال بها، وعمل جاد نافع فيها.. وفى هذا ابتلاء لهم، وامتحان لما يحصّلون منها..
فالذين يأخذون حظّهم من الدنيا ولا ينسون نصيبهم من الآخرة، هم الفائزون، والذين يجعلون الدنيا همّهم، دون التفات إلى الآخرة، هم الذين خسروا أنفسهم، وباعوها بالثمن البخس.. فهذه الدنيا وما عليها، ومن عليها.. كل هذا إلى(8/584)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
زوال، ولا يبقى من ذلك إلا ما ادخره المؤمنون المحسنون من زاد طيب فى دنياهم، ليوم الحساب والجزاء.
أصحاب الكهف
الآيات: (9- 26) [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)(8/585)
التفسير:
حرصنا على أن نأتى بقصة أصحاب الكهف، فى هذه الآيات الثماني عشرة، حتى تكون تلاوة هذه الآيات فى نظمها هذا الذي جاءت عليه، صورة كاملة لتلك القصة..(8/586)
والآيات- كما ترى- واضحة المعنى، بحيث تقع القصة والأحداث التي ضمّت عليها، لأدنى نظر، بمجرد تلاوتها..
ومع هذا، فقد رأينا أن نقف وقفة، مع هذه القصة، نمعن فيها النظر.
إلى ما وراء «النظرة الأولى» وسنرى، أن هناك أعماقا بعيدة لا نهاية لها..
وأننا كلما زدنا الآيات نظرا، أطلعتنا منها على مذخورات من الأسرار، التي تخلب اللبّ، وتذهل العقل..
ونبدأ أولا بشرح بعض المفردات، التي ربّما كانت الحال داعية إلى إلقاء نظرة أولى عليها:
فى الآية: (9) .. «الكهف» : هو الغار الواسع فى الجبل، «وَالرَّقِيمِ» :
المرقوم، المعلم، ويمكن أن يكون ذلك هو بعض الآثار المنحوتة فى هذا الكهف، كأعمدة عليها نقوش، أو كتماثيل قائمة على مدخل الكهف، على ما كان مألوفا فى الزمن القديم.. فهناك إذن كهف، ومرقّمات وآثار متصلة بهذا الكهف.
وفى الآية: (11) .. «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ» : الضرب: إبقاع الشيء على الشيء.. والضرب على الآذان: إحاطتها بما يحجبها عن السمع، كضرب الخيمة على من بداخلها.. ومنه قوله تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» .
وفى الآية: (14) «رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» : أي شددنا على قلوبهم، وأمسكنا بها من أن تطير شعاعا من الجزع أو الخوف. «والشّطط» : البعد، والمراد به فى الآية: البعد عن الحق.
وفى الآية: (16) «يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» : أي يبسط لكم من رحمته.. و «المرفق» : ما يرتفق به، ممّا يقوم عليه شأن الإنسان فى أمور معاشه(8/587)
ومعاده.. وكأنه الرفيق الذي يعينه ويؤنس وحشته.
وفى الآية: (17) «تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ» : أي تميل، والمزورّ عن الشيء:
المائل عنه.. «تَقْرِضُهُمْ» أي تقطعهم، وتنحاز عنهم، كما يقطع المقراض «المقصّ» الشيء، ويفرق بين أجزائه.
وفى الآية: (18) .. «بِالْوَصِيدِ» : باب الكهف، الذي من شأنه أن يوصد على من بداخله.. والمراد به فى الآية مدخل الكهف..
وفى الآية: (19) .. «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» : الورق: الفضّة، مضروبة أو غير مضروبة.. «أَزْكى طَعاماً» : أي أطيبه وأطهره، بحيث لا يعلق به دنس أو رجس. «لْيَتَلَطَّفْ» : يترفّق، ويأتى الأمر بلطف ولباقة.
وفى الآية: (20) . «يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» يطّلعوا عليكم، ويعرفوا مكانكم.
وفى الآية: (21) .. «أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» : أي أطلعنا الناس على أمرهم، وكشفناهم لهم عن غير قصد منهم لذلك، وإنما هو صدفة على غير توقع.
وفى الآية: (22) «رَجْماً بِالْغَيْبِ» : أي ظنّا ووهما.. كأنهم يرجمون شيئا محجبا فى الظلام لا يرونه، وقد يصيبون وقد يخطئون.. «فَلا تُمارِ فِيهِمْ» أي لا تجادل.. «إِلَّا مِراءً ظاهِراً» .. أي غير متعمق فيه، أو متجاوز حدود ما نطق به القرآن من أمرهم..
«عرض القصة»
وقبل أن نعرض القصة، كما تحدثت عنها الآيات، نرى أن نعرض كلمة موجزة عن «القصة» كفن من فنون القول، وعن مكانتها فى فنون القول، من شعر، ونثر، ومثل، وحكمة.. وما إلى ذلك مما ينسج من كلمات اللغة وعباراتها.(8/588)
كلمة عن القصة:
القصّة فى هذا العصر- كما هى فى كل عصر- أفضل وسيلة للتربية والتهذيب.. فعن طريق العرض القصصى لحوادث القصة وأشخاصها، تتفتح أشواق النفس إلى متابعة هذا العرض، وإلى المشاركة الوجدانية، فى مواقف القصة، وأحداثها، وأزمانها، حتى لكأن القارئ أو المستمع، أو المشاهد- جزء منها، وواحد من أشخاصها، يأخذ الموقف الذي يرتضيه لنفسه من بين مواقفها، ويعيش مع كل حدث من أحداثها، متأثرا به، ناظرا إليه، كلما وقف مثل هذا الموقف من الحياة.. إذ لا تنتهى القصة، حتى يكون المستمع لها، أو القارئ أو المشاهد قد عاش فى تجربة نفسية، وقطع مرحلة، تطول أو تقصر، حسب طول القصة أو قصرها- مرحلة تترك فى كيان الإنسان آثارا عقلية، ووجدانية، وروحية، أشبه بتلك الآثار التي يتركها الصوت على صفحة لوح التسجيل.. بعضها عميق، وبعضها ضحل الغور، حسب قوة الإحساس وضعفه، وتبعا لتلقى القارئ أو السامع، أو المشاهد، وتجاوبه أو تباعده، من القصة.
ولا تبلغ القصة مبلغا من النفس، ولا تصل أحداثها ومؤثراتها إلى وجدان الإنسان ومشاعره، إلّا إذا أحكم تصويرها، وجرت على اتجاه العقل والمنطق، وتجاوبت مع واقع الناس والحياة.. وإلا كانت خرافة، إن جنح بها الخيال، وحلقت فى عوالم لا يعيش فيها الناس ولا يتصورونها.. أو كانت غثّة باردة، إن هى أمسكت بالأمور التافهة، التي لا يلتفت إليها أحد، ولا يعلق بها نظر! والقصة الناجحة، هى التي ينتزع موضوعها من أحداث الحياة وواقع الناس، أو ما يمكن أن يكون من أحداث الحياة وواقع الناس.. ثم يجرى(8/589)
أشخاصها فى هذا المنطلق، وتوضع كل شخصية فى المكان المناسب لها..
ولا نريد أن نجعل القصة موضوع هذا البحث، فإن الحديث عن القصّة، وما يجب أن يتوفر لها من عناصر النجاح يتطلب بحثا خاصا مستقلا «1» ، ليس هنا موضعه، ولا موضعه.. وإنما تلك إشارة مجملة تشير إلى ما للقصة من أثر فى التربية والتهذيب، وأنها من هذه الناحية أداة قوية من أنجح أدوات التربية فى يد المصلحين والمربين.
والقرآن الكريم- وهو مدرسة المسلمين، وجامعة المجتمع الإسلامى- لم يغفل شأن القصة، فهو يعتمد عليها فى كثير من المواقف، لتكون وسيلة من وسائله الفعّالة، فى تقرير الحقائق، وتثبيتها فى النفوس، وفى تجليتها للعقول، وفى الكشف عن مواطن العبرة والعظة فيها.
وقصص القرآن الكريم، قصص جادّ، مساق للعبرة والعظة، وليس فيه مجال للتسلية واللهو، وليس من غايته ترضّى الغرائز المريضة، أو تملّق الرغبات الفاسدة، التي كثيرا ما تكون مقصدا أصيلا من مقاصد القصة عند كثير من كتاب القصص، الذين يجذبون القراء إليهم بهذا الملق الرخيص للغرائز الدنيا، التي تعيش فى كيان الإنسان، وتترقب الفرصة السانحة التي تستدعيها، وتقدم «الطّعم» المناسب لها.
وعناصر القوة فى القصص القرآنى مستمدة من واقعية الموضوع وصدقه، ودقة عرضه، والعناية بإبراز الأحداث ذات الشأن فى موضوع القصة، دون التفات إلى الجزئيات التي يشير إليها واقع الحال، وتدلّ عليها دلالات ما بعدها
__________
(1) ذلك ما عرضنا له فى كتابنا-: «القصص القرآنى» .(8/590)
وما قبلها من صور.. وذلك مما يشوق القارئ ويوقظه، ويفرض عليه مشاركة فعّالة فى تكملة أجزاء القصة، واستحضار ما غاب من أحداثها، وهذا ما يجعله يندمج فى القصة، ويعيش فى أحداثها، ومن ثمّ يتأثر بها، وينتفع بما فيها من عظات وعبر.
قصة أصحاب الكهف
وقصة أصحاب الكهف من القصص القرآنى، الذي خلا من عنصر المرأة، على خلاف كثير غيرها من قصص القرآن الذي كان للمرأة دور فيه.. كما أن موقف أبطالها جميعا، موقف تغلب عليه السلبيّة.. ليس فيه صراع ظاهر، ولا صدام محسوس بين طرفين، يقف كل منهما من صاحبه موقف الخصومة والتحدّى، ثم الكيد والصراع، ثم الانتهاء إلى نهاية بغلبة أحد الطرفين، وانهزام الطرف الآخر.
ليس فى قصة أصحاب الكهف شىء من هذا الصراع، مع أية قوة من قوى الحياة، طبيعية كانت أو بشرية، بل إن الأمر لأكثر من هذا، حيث نرى الأشياء كلها متعاطفة حانية على هؤلاء الفتية، لا تلقاهم إلا بما هو خير لهم، وأصلح لشأنهم.
ولا شك أن خلوّ القصة من عنصر المرأة، يفقدها كثيرا من مقومات الحياة والقوة، بما يثير ظهور المرأة من عواطف، وما يوقظ من مشاعر..
فالمرأة فى القصة، داعية من دواعى الإثارة والتشويق، لا يكاد يعرف للقصة طعم بغيرها.. كما أن خلوها من الأزمات، والمصادمات، يلقى عليها ظلالا من الخمود، والركود، ويعقد حولها جوّا من السآمة والملل.
فإذا خلت القصة من المرأة، ثم جاءت أحداثها- مع ذلك- سلبية،(8/591)
كان ذلك أدعى إلى فتورها، وضعفها، وزيادة البرودة فيها.. فإن السلبية معناها انسحاب الأشخاص، والأحداث، إلى الوراء، والاتجاه إلى حيث العزلة والانزواء، فلا تتبعهم عين، ولا يشخص إليهم شعور!.
وننظر فى قصة أصحاب الكهف، كما عرضها القرآن الكريم، وقد خلت شخصياتها من المرأة، كما تجردت أحداثها من الإيجابية- ننظر فى هذه القصة فنرى القرآن الكريم، قد ألبسها الحياة، وخلع عليها روحا من روحه، حتى لقد تحركت أمكنتها، ونطق صامتها، وجرت الحياة قوية دافقة فى كل ما شمله موضوعها من كائنات، حية وجامدة، وناطقة، وصامتة.. وكان هذا الحسن فى العرض، وهذه الدّقة المعجزة فى تحريك الأحداث، عوضا عن حسن المرأة ودلّها، وبديلا من واقف الإيجاب، وتفاعل الأحداث.
ولولا هذا العرض المعجز، لما كانت هذه القضة قصة، ولما خرجت عن أن تكون خبرا يروى، أو حديثا ينقل.
وسورة «الكهف» التي سمّيت هذه التسمية به، لم يكن فيها قصة أصحاب الكهف وحدهم، وإنما ورد فى هذه السورة ثلاث قصص أخرى..
هى قصة الرجلين: المؤمن والكافر، وما انتهى إليه أمر كل منهما.. ثم قصة موسى والعبد الصالح، ثم قصة ذى القرنين، وما جرى على يديه من أحداث.. كما سنرى.
ويلاحظ أن هذه القصص- شأنها شأن قصة أصحاب الكهف- قد خبت جميعها من عنصر المرأة.. ثم يلاحظ أيضا أن حوادثها جميعها من الخوارق المعجزة، التي يعجز الإنسان عن تصوّرها فى عالم الواقع، إلّا أن يكون(8/592)
له دين يصله بأسباب السماء، فيضيف هذه الأحداث إلى قدرة القادر..
رب العالمين.
فنومة أصحاب الكهف، على تلك الصورة العجيبة، طوال هذا الزمن المتطاول، ثم يقظتهم بعد مئات السنين.. وإحاطة التدمير والتخريب بهذه الروضة الأريضة على هذه الفجاءة، التي لا تتصل بها أسباب ولا مقدمات..
وهذه الأحداث التي يجريها الرجل الصالح على غير ما يبدو من طبائع الأشياء، والتي ينظر إليها «موسى» نظر عجب واستنكار، ثم يظهر له فيما بعد أن هذا هو الوجه السليم لها.. وذو القرنين، وما مكّن الله له فى مشارق الأرض ومغاربها، والحاجز العجيب الذي أقامه فى وجه يأجوج ومأجوج- كل هذه الأحداث، معجزات قاهرة، تدعو الإنسان إلى أن يقف طويلا حيالها، ثم لا يجد لها سندا يضيفها إليه، إلا أن يكون الإله القادر، الذي ينبغى أن ينفرد بالألوهية.. فلا يكون للإنسان معبود سواه، يولّى وجهه إليه، ويخلص العبودية له.
فقصّة أصحاب الكهف، تجىء مع هذه القصص، وكأنها جميعها قصة واحدة، تخدم جميعها دعوة التوحيد، والتعرف على الخلاق العظيم، وما أودع فى الموجودات من آيات قدرته، وعلمه، وحكمته.
ونعود لقصة أصحاب الكهف، من حيث هى قصص فنّى، يعالج فكرة، ويهدف إلى غاية!.
وأول ما يطالعنا من هذه القصة أنها تعرض فى صورتين:
الصورة الأولى، صورة مصغرة، تضغط فيها الحوادث، وتطوى فيها الأزمان والأمكنة، فلا تتجاوز الآيات التي ترسم هذه الصورة- ثلاثا، هى:(8/593)
قوله تعالى:
«إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) » هذه هى القصة مجملة، وهى فى هذا الإجمال تمسك بالقصة كلها، وتبرز أهمّ العناصر المراد عرضها فيما بعد، على صورة ينفسح فيها المجال لتحرّك الأحداث، وانطلاق الأشخاص..
وهذا الملخص الموجز للقصّة، يثير الشوق، ويحرّك الرغبة للتعرف على ما وراء هذه الإشارات واللمحات.. وهنا يستجيب القرآن لداعى الحال، فيعرض القصة، مفصّلة بعض التفصيل، مسلّطا الأضواء على الجوانب المثيرة من موضوعها!.
ونودّ أن نشير هنا إلى أنه قبل بدء هذا العرض الموجز للقصة، قد سبقها تمهيد بارع، يؤذن بأن حدثا من الأحداث المثيرة يوشك أن يطلع وراء هذا التمهيد، وبهذا يتهيأ الحضور للقاء هذا الحدث، ويستحضرون له ما تفرق من مشاعرهم، وما شرد من خواطرهم.. وأشبه بهذا الصنيع تلك الطّرقات الخفيفة التي تسبق عرض القصة على مسارح التمثيل.. حيث تنبه الجمهور، وتستحضر وجودهم لما جاءوا لمشاهدته..
وهذا التمهيد الذي سبق القصة، هو قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» فهناك كهف، وهناك رقيم، وأصحاب هذا الكهف وذاك الرقيم.. وأنهم..
- أي أصحاب هذا الكهف والرقيم- آية من آيات الله المعجبة، المبثوثة فى هذا الوجود.. وأنهم على ما اشتملت عليه قصّتهم من آية معجبة معجزة، ليسوا(8/594)
بأعجب ولا أعجز من أية آية من آيات الله.. فإن أصغر ذرّة فى هذا الوجود، لو صادفها عقل رشيد، ونظرت إليها عين مبصرة، لرأت فيها من آيات الله ما يملأ القلب عجبا ودهشا.. ولكن النّاس- إلا قليلا منهم- لا يلفتهم إلى آيات الله إلا ما تلقاه حواسّهم لقاء مباشرا. حيث يتحرك أمام أعينهم، ويتحدث إليهم بما فى كيانه من آيات ومعجزات.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) .
فهذا التمهيد، هو نخسة قويّة تنبه الغافلين، وتوقظ النائمين، وتنحى باللائمة على أولئك الذين لا يفتحون عيونهم، ولا يوجهون عقولهم على هذا الوجود، الذي كلّ ذرة من ذراته، وكل موجود- وإن صغر فى العين، وخفّ ميزانه فى التقدير- هو آية باهرة معجزة، من آيات الله.
وإذن فليست قصة أصحاب الكهف، التي يكثر الطالبون للتعرف عليها، ويلحّ المجادلون وأدعياء العلم فى معرفة ما عند النبي منها- ليست هذه القصة بأعجب فى ظاهرها وباطنها، من قصّة نواة أو حبّة، تدفن فى التراب، ثم لا تلبث أن تكون نبتة مخضرة، تجرى فيها الحياة، كما تجرى فى الوليد ينفتق عنه رحم أمه.. ثم إذا هى بعد زمن ما قد علت، واستوت على سوقها، وأخرجت زهرا ذا ألوان زاهية معجبة، يفوح منها ريح عطر.. ثم، وثم.. إلى آخر قصتها! ثم بعد هذا التمهيد، وبعد هذا العرض الموجز للقصة.. يبدأ العرض..
عرض القصة كلها.. فى كلمات متناعمة، تتردد منها أصداء موسيقى خافتة عميقة، كأنها تجىء من بعد بعيد، فى أغوار الزمن السحيق.. فتنقل المشاعر والعواطف(8/595)
فى براعة، ولطف، إلى حيث الماضي البعيد، الذي عاشت فيه أحداث القصة وأشخاصها..
فيقول الله تبارك وتعالى:
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) . «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) .
«وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) «وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) .(8/596)
«سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) .
«وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.. ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» (26) .
والقصة بهذا التصوير الرائع المثير المعجز، تنقل القارئ إلى جوّها الممتدّ فى الزمن السحيق، من أول أن يبدأ العرض.. فلا يجد فرصة بعد هذا للانفصال عن هذا الجوّ، بل يظل فى رحلته تلك البعيدة فى أعماق الزمن، مبهور الأنفاس، مشدود الأحاسيس، متوتّر المشاعر.. حتى تنتهى القصّة ويسدل الستار!! فهؤلاء فتية.. فيهم شباب، وقوة ونضارة.. قد هدتهم فطرتهم السليمة منذ مطلع شبابهم، قبل أن يمتد بهم العمر، وينضح عليهم ما تفيض به بيئتهم من ضلالات وجهالات، وإذا هم يخرجون على مألوف قومهم، وينكرون ما عليه آباؤهم من كفر وإلحاد.
إن الشباب دائما، هو مطلع الثورات، ومهبّ ريحها، حيث التفتّح للحياة، والقدرة على التفاعل معها.. فإذا ولّى الشباب فهيهات أن تتحرك فى الإنسان رغبة إلى اتجاه غير الاتجاه الذي قطع فيه هذه المرحلة الممتدة من عمره..
وفى وصف القرآن الكريم لهم: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ(8/597)
هُدىً»
، إشارة إلى أنهم اتجهوا إلى الله، ووضعوا أقدامهم على الطريق إليه، فاستقبلهم الله سبحانه وتعالى بألطافه على الطريق، ودفع بهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. وهذا يعنى أنه مطلوب من الإنسان أن يتحرك نحو الغاية التي يقصدها، فإن كانت حركته على طريق الخير، وجد من الله سبحانه العون والسداد، وإن كان على طريق الضلال والفساد، تركه الله لهواه، وأسلمه لشيطانه..!
- وفى قوله تعالى: «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً» - فى هذا توكيد للعون الذي أمدّهم الله به، منذ أن اتجهت قلوبهم إليه، وانعقدت نيّاتهم على الإيمان به.
- وفى قوله تعالى: «إِذْ قامُوا» إشارة إلى أن ما تتجه إليه القلوب، وتنعقد عليه النيّات- وإن كان مقدّمة طيبة من مقدمات الفوز والنجاح- سيظلّ جسدا هامدا، حتى تنفخ فيه الإرادة، وينضحه العمل، فإذا هو كائن سوىّ الخلق، دانى القطوف.
وهؤلاء الفتية، لم يقفوا عند حدّ النيّة، بل «قاموا» أي تحركوا، وعملوا، فربط الله على قلوبهم تلك التي اتجهت إليه، وشدّ على هذه النيّات التي انعقدت على الإيمان به..
وإذ يتجه الفتية إلى الله هذا الاتجاه القوىّ الخالص من شوائب الشرك، وإذ تفيض قلوبهم إيمانا يباعد بينهم وبين قومهم، فلا يشاركونهم فيما هم فيه من ضلال الوثنية وسخافاتها- عندئذ يجدون أنهم غرباء فى قومهم، معرضون للسخط، والإزدراء، ثم القطيعة، ثم الطرد، وربما القتل! إنهم قلة صالحة فى مجتمع فاسد.. فليطلبوا لهم وجها فى الأرض.. والا ساءت(8/598)
العاقبة، ووقع البلاء، وتعرضوا للفتنة فى دينهم، الذي ارتضوه وآمنوا به.
وتناجى الفتية فيما بينهم، وارتادوا مواقع النجاة والسلامة لهم، ولدينهم..
إنه الفرار إلى أرض غير هذه الأرض، والهجرة إلى بلد غير هذا البلد! ولكن كيف يكون هذا، والقوم لهم بكل طريق؟
إن على مقربة من المدينة، وعلى الطريق الذي انتووا أن يأخذوه إلى موطنهم الجديد- كهفا يعرفونه. فليتخذوه سترا لهم، يختفون به عن أعين القوم أياما، حتى يفتقدهم القوم.. ثم يطلبونهم، ثم لا يجدون لهم أثرا! فإذا سارت الأمور على هذا التقدير.. خرجوا من الكهف- وقد نامت عنهم أعين الرقباء- ثم تابعوا السير إلى حيث ينتهى بهم المطاف إلى الجهة التي يريدونها..
«وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» .
أرأيت إلى هجرة الرسول، وما كان لغار «جراء» فيها؟ إنه كهف مثل كهف أصحاب الكهف هذا، ولكأن القرآن الكريم يجىء بهذه القصة، وتتنزل آياتها على جماعة المسلمين، وهم فى مكة يلقون ما يلقون من عنت وكيد وبلاء فى سبيل عقيدتهم- لكأن القرآن إنما يجىء بهذه القصة فى هذا الوقت، ليربط على قلوب تلك الجماعة القليلة المستضعفة من المؤمنين، وليريهم مثلا طيبا للمؤمنين الذين يسكن الإيمان قلوبهم، ويملأ مشاعرهم، استجابة لدعوة الفطرة من غير نبىّ ولا كتاب.. ثم لكأن فيما اتجه إليه أصحاب الكهف من الهجرة بدينهم، إشارة واضحة إلى منافذ الفرج والخلاص، من مواطن الكيد والبلاء، بالتحول من دار إلى دار، والانتقال من بلد إلى بلد!!(8/599)
وغير بعيد أن تكون هجرة المسلمين إلى الحبشة، من وحي هذه القصة..
وغير بعيد أيضا أن تكون الخطة التي رسمها الرسول وصاحبه أبو بكر، فى هجرتهما إلى المدينة، منظورا فيها إلى تلك القصة أيضا.. فقد جعل الرسول وصاحبه من غار «حراء» كهفا يؤويهما أياما، إلى أن تنقطع عنهما عين المتربصين من أشرار قريش.. ثم يكون بعدها الاتجاه إلى المدينة التي كانت مقصد الرسول وهجرته..!
ونعود إلى القصّة.. فنرى عجبا عجابا..
دنيا صامتة، يخّيم عليها السكون والوحشة، وغار يأخذ مكانه فى هذه الدنيا الصامتة، وهذا السكون المطبق، وتلك الوحشة الخانقة..!
ولقد ألقى الفتية بأنفسهم فى جوف الكهف، كما تلقى بضع حصيات فى جوف المحيط..
ولكن سرعان ما يتبدل الحال، ويأتى القرآن بآياته المعجزة، فيكشف عما وراء هذا الصمت من حياة متدفقة، وإذا بنا بين يدى هذا الغار الموحش المخيف، إزاء مسرح يموج بالأحداث العجاب.
ولا نرى فى هذا المقام أروع، ولا أصدق من كلمات الله فى عرض الموقف، وكشف هذه الأحداث.
«وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ.. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ.. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» .(8/600)
فالشمس هنا كأنها جزء من هذا الكهف، قد شغلت به عن الدنيا كلّها، وجعلت مدار فلكها حوله وحده، حتى لكأنها مسخرة لمن هم فى هذا الكهف دون الكائنات كلها، وحتى لكأنها أمّ حانية عليهم، ترعاهم بعينها، وتظلّهم بظلها: «إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ.. وَإِذا غَرَبَتْ.. تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ!» .
وهنا تأخذ الحياة تظهر شيئا فشيئا، فى هذا السكون المطبق.. فهؤلاء النيام يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.. وكلبهم قائم بالحراسة فى مداخل الكهف «باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ!» إنه لمنظر عجيب! حياة تدب فى هذا الموات العريض.. حيث لا يقع فى الوهم أن كائنا حيّا يسكن إلى هذا الكهف، الذي يفغر فاه ليلتهم كلّ من يدخل إليه، اللهم إلا أن تكون جماعة من الجن، أو نفرا من الشياطين:
«لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» .
ثم ما هى إلا كرّة من كرات الزّمن، حتى تكتمل الحياة، ويصحو القوم، ولا تزال على أعينهم أطياف الكرى.. يتثاءبون، ويتمطّون، وبين التثاؤب والتمطّى، يدور بينهم حديث متخافت، متخاذل، متكسّر.. يصحب معه بقية من أثر هذا النعاس الثقيل.. وإنك لا تجد أبرع ولا أروع ولا أدقّ ولا أصدق من كلمات الله، فى تصوير هذا المشهد، الذي تتحرك فيه الكلمات متثاقلة متباطئة تتقلّع من أفواههم كما تتقلّع خطا المقيد يمشى على كثيب من الرمال! «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.. قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.. فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.. وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» .(8/601)
وانظر كيف بدأ هذا الحديث.. بتلك القافات المتكررة، وما فيها من ثقل وتقلّع، ثم تلك الواوات والياءات، وما فيها من رخاوة وتميّع.. إنك لو ذهبت تسرع بقراءة الآية الكريمة: «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» لما استجاب لك لسانك، ولعقلته تلك الكلمات والحروف، عن أن يجاوز الحركة البطيئة المقدورة له فى هذا الموقف.. وإلّا تعثّر واضطرب.
ثم يأخذ النعاس ينجلى شيئا فشيئا، حتى يصحو القوم صحوة واعية، فإذاهم يتدبرون أمرهم، ويأخذون فى العمل.. وإذا الكلمات تحيا على شفاههم، وتأخذ طريقا جادّا حازما..
- «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» ! وينتقل المنظر من الكهف إلى المدينة.. وإذا رسول الجماعة يسعى هناك، مقتصدا فى مشيته، مكثرا من التلفّت التائه فى هذا العالم الغريب، الذي يراه كما يرى النائم حلما يطوّف به فى عالم غير عالمه الذي عاش فيه! وفجأة ينكشف أمر الرجل لأهل المدينة، وإذا هو ظاهرة غريبة، أشبه بالظواهر الكونية التي تبغت الناس.. وإذا رجّة طاغية تستولى على المدينة كلها، وإذا الناس جميعا إلى حيث الرجل، كأنما يساقون إلى الحشر..
والذي انكشف للقوم من غرابة الرجل، هو غرابة هيئته فى زيّه، ثم إن الذي نمّ عليه كذلك، هو هذا النقد الذي قدّمه ليشترى به طعاما..
فالزّى الذي يتزيّا به الرجل قديم، من زمن مضى لا يلتقى مع زىّ القوم فى هذا الوقت الذي طلع عليهم فيه، إذ أن الناس يستحدثون فى كل زمن زيّا(8/602)
غير زىّ الآباء والأجداد، وكذلك النقد الذي يتعاملون به، إنه يأخذ صورا وأشكالا فى كل عصر..
وبهذا الزىّ، وهذا النقد.. افتضح أمر الرجل للقوم، وبدا واضحا أنه من عالم غريب عنهم..
أما ما يقال من أن فتية الكهف قد تغيّرت حالهم الجسدية، فطالت شعورهم حتى جاوزت قاماتهم، وطالت أظافرهم.. إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض لمظهر الإنسان بفعل الزمن- ما يقال من هذا فهو غير صحيح، والدليل على بطلانه، أنه لو كان شىء من هذا قد عرض للفتية أثناء نومهم لرأوا هذا ظاهرا فيهم، حيث يرى بعضهم بعضا، ولأنكروا أنفسهم قبل أن ينكرهم الناس.. ولما قالوا: «لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» والأقرب إلى ما تشير إليه أحداث القصّة، أن الفتية لم يتغير منهم شىء، منذ ناموا إلى أن بعثوا من رقدتهم، بل جمدوا على الحال التي دخلوا فيها الكهف، وأسلموا أنفسهم للنوم.. وهذا أبلغ فى الدلالة على ما للقدرة الإلهية، من سلطان على الوجود، وعلى الأسباب والمسببات جميعا.
«وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها.. إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» .
فقد اختلف رأى القوم فى شأن الفتية، وما يصنع بهم بعد أن ماتوا، ثم انتهى الرأى إلى أن أقاموا مسجدا عليهم، تكريما لهم، واعترافا بأنهم من أهل الإيمان..
ويخيل للمرء أن القصة قد انتهت، وأن هذه هى خاتمتها.. ولكن سرعان ما تنتقل به القصة عبر القرون، وتطوّف به فى الأمم والشعوب، فيسمع(8/603)
أصداء القصة تتردد فى كل أفق، وتجرى على ألسنة الأمم، يتناولها الناس بتعليقاتهم، على ما اعتاد الناس أن يصنعوه مع كل حدث عجيب من أحداث الحياة.. وإذا الأحاديث مختلفة، والأخبار متضاربة، كلّ يحدّث بما وقع له فى تصوره، مما اجتمع لديه من مختلف المقولات..
«سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.. وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» .
ويخيّل للمرء مرة أخرى أن القصة قد انتهت، ولكن ما إن يستريح لهذا الخاطر، حتى تظهر له تلك المفاجاة الكبرى التي تملأ النفس عجبا ودهشا.
فالقصة إلى الآن تكاد تدور فى محيط الواقع الممكن..
جماعة أنكروا باطل قومهم، حين أشرقت قلوبهم بنور الحق، ثم فرّوا بدينهم خوف الفتنة فيه، فلجأوا إلى الكهف ليختفوا فيه أياما.. ثم أخذتهم فى الكهف نومة، استيقظوا بعدها جياعا، فبعثوا أحدهم إلى المدينة يجلب لهم طعاما حلالا.. ثم كان أن وقع المحذور، وعرف القوم أمرهم وكشفوا سرّهم..
قصة تحدث كثيرا فى الحياة، يستمع إليها المرء، وينتهى منها، ولا يكاد يدهش لشىء فيها، إلا ما تحمله الآيات من روعة التصوير، وبراعة العرض، وإعجاز البيان.
ولكن ما يكاد المرء يطمئن إلى هذا، حتى يفجأه هذا الخبر المذهل:
«وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً» .
يا لله! ..
نومة تستغرق هذه المئات من السنين، ثم يكون بعدها يقظة وحياة؟(8/604)
«ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» ولا جواب غير هذا!
وقفة أخيرة مع القصة
ولا نريد أن نترك القصة دون أن نقف وقفة قصيرة مع بعض تلك التلبيسات التي يدخل بها بعض الدارسين الذين يتأثّرون خطا المستشرقين، الذين ينظرون إلى القرآن نظرتهم إلى أي عمل بشرىّ.. فالقرآن عندهم هو من عمل «محمد» ضمّنه ما وقع فى خاطره وتأملاته من آراء.
يقول أحد هؤلاء الدارسين للقصص القرآنى، وهو يستدعى من شواهد القرآن ما يؤيد به زعمه الذي يزعمه فى القصص القرآنى، وهو أنه يستملى مادته من أساطير الأولين.. يقول فى قصة أصحاب الكهف:
«أما قصة أصحاب الكهف، فنقف منها فى هذا الموطن- أي موطن الاستدلال على أسطورية القصص القرآنى- كما يتخرص- عند مسألتين:
الأولى: مسألة عدد الفتية، والثانية: مدة لبثهم فى الكهف..
ثم يتحدث عن المسألة الأولى.. فيقول:
«أما من حيث العدد، فليس يخفى أن القرآن لم يذكر عددهم فى دقة (كذا) وإنّما ردّد الأمر بين ثلاثة، ورابعهم كلبهم، وخمسة وسادسهم كلبهم، وسبعة وثامنهم كلبهم..
«وليس يخفى أن القرآن الكريم، قد ختم هذه الآية بتلك النصيحة (كذا!) التي بتوجه بها إلى النبىّ، وهى قوله تعالى: «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ(8/605)
بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.. فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» .
ثم يسأل هذا العالم ببواطن الأمور، فيقول:
«ما معنى هذا التردد فى العدد؟ وما معنى هذه النصائح؟
ثم هو يجيب:
«لا نستطيع أن نقول: إن المولى سبحانه وتعالى كان يجهل عدد الفتية من أصحاب الكهف، وأنه من أجل هذا لم يقطع فى عددهم برأى! فالمولى سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، وإنه يعلم السرّ وأخفى! «وإنما نستطيع أن نقول: إن هذا لم يكن إلا لحكمة.. والحكمة فيما نعتقد هى أن المطلوب من النبىّ عليه السلام أن يثبت أن الوحى ينزل من السماء (!!) وأن يثبت ذلك لا بالعدد الحقيقي للفتية من أصحاب الكهف- فذلك لم يكن موطن الإجابة- وإنما بالعدد الذي ذكره اليهود من أهل المدينة للمشركين من أهل مكة، حيث ذهب وفدهم ليسأل عن أمر محمد، أنبيّ هو أم متنبىء.. وإذ كان أحبار اليهود قد اختلفوا فى العدد، وذكر كل منهم عددا معيّنا، كان على القرآن أن ينزل بهذه الأقوال، حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبىّ! ولو ذكر القرآن العدد الحقيقىّ وأعرض عن أقوال اليهود لكان التكذيب القائم على أن محمدا لم يعرف الحقيقة.. وليس وراء هذا إلا أن الوحى لا ينزل من السماء!!» .
ولا نذهب مع هذا الباحث إلى أكثر من هذا، فلا نعرض رأيه فى عدد السنين التي ذكرها القرآن عن نومة أهل الكهف، ويكفى أن نردّ هذا الاتهام الصريح للقرآن الكريم.. فإن هذا القول يصيب القرآن فى صميمه.
فأولا: إذا سلمنا بأن القرآن قد جاء فى قصصه بما يطابق ما عند اليهود(8/606)
من معارف، وذلك ليثبت لهم، ولمن تلقّى عنهم من مشركى مكة- صدق محمد، وأنه نبىّ يوحى إليه من ربّه، وأنه لو جاء بالواقع الذي يخالف ما عندهم لما سلّموا به- نقول: لو سلمنا بهذا القول فى القرآن لكان معنى هذا، أنه كان عليه أن يجرى مع اليهود إلى آخر الشوط، فلا يجىء بشىء مما يخالف ما هم عليه من مذاهب وآراء، ولكان عليه ألا يقول فى المسيح غير ما قالت النصارى من أنه ابن الله، بل ولما كان له إلا أن يقول بما يقول به المشركون أنفسهم فى آلهتهم، وذلك حتى يسلّموا له، وينتهى الأمر عند هذا الحدّ، وكفى الله المؤمنين القتال.
ألهذا إذن جاءت رسالة محمد؟ وأ لهذا أيضا جاءت رسالات الرسل، تجرى على ما عند الأقوام من آراء ومعتقدات؟ وأين مكان الرسالة إذا فى الناس؟ وما محتواها؟ إذا كانت لا تخرج على ما عند المرسل إليهم؟
ونقول فى عدد أصحاب الكهف: إن القرآن الكريم لم يذكر فى عدد أصحاب الكهف قولا له، وإنما ذكر ما يجرى على ألسنة الناس من حديث عنهم، وعن عددهم، على مدى الأزمان، حاضرها ومستقبلها.. ولهذا جاء التعبير القرآنى: «سَيَقُولُونَ» ولم يقل قالوا.. ولو كان من تدبير القرآن أن يردد أقوال اليهود، لينال بذلك موافقتهم، ويأخذ منهم شهادة بأن القرآن وحي من عند الله، لكان من الحكمة أن يأخذ بقول واحد من هذه الأقوال، وينتصر له، وبهذا يوقع الخلاف بين أصحاب هذه الأقوال المختلفة!.
ثم نسأل: كيف يكون فى موافقة القرآن لمقولات اليهود المتضاربة المختلفة فى عدد الفتية ما يجعل عند اليهود وعند المشركين دليلا على أن القرآن وحي؟ ألا تكون التهمة قائمة بأن محمدا قد تلقّى هذه المقولات من اليهود(8/607)
أنفسهم، كما يقال إن مشركى مكة قد تلقوها منهم؟ فما هو الجديد الذي جاء به محمد ليشهد له بأن القرآن وحي من عند الله؟ وهل كانت هذه المقولات من الأسرار التي احتفظ بها اليهود فيما بينهم؟ وكيف تكون سرّا وهى على هذا الخلاف الشديد بينهم؟ كلام لا معقول له أبدا.
أما التعليل الذي يمكن أن يفهم عليه إغفال القرآن لذكر العدد الحقيقي لأصحاب الكهف، والقطع به، فهو ما جرى عليه أسلوب القرآن فى كل موقف يلتقى فيه بأصحاب المراء والجدل، الذين يريدون أن يسوقوه إلى المماحكات والمهاترات، التي لا تنتج إلا اضطرابا وبلبلة.. والقرآن يعرف طريقه إلى غاياته التي يريدها، فهو لا يقف عند هذه المواقف، ولا يلقاها بما يقدره أصحابها من صرفه عن وجهته، وشغله بهذا اللغو من الكلام عن رسالته! ففى كل مرّة كان يسأل فيها النبىّ سؤالا متعنّتا، لا يراد به كشف حقيقة، أو جلاء غامضة- كان يدع السائلين لما هم فيه، ويصرف وجهه عنهم، ليلقى الحياة كلها، بالجواب الذي فيه نفع للناس، وهدى للعالمين! سأل المشركون النبىّ عن الهلال: ما باله يبدو صغيرا، ثم يكبر، ثم يعود صغيرا؟.
وكان الجواب: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» !. (189: البقرة) وكذلك الشأن فى فتية أصحاب الكهف.. إن العبرة الماثلة فى قصتهم، ليست فى عددهم قلّ أو كثر.. فليكونوا ثلاثة، أو مائة، أو ألفا.. أو ما شئت من عدد.. وإنما العبرة، هى فى موقف هؤلاء الفتية من الضلال الذي كان(8/608)
مطبقا على البيئة التي يعيشون فيها. وفى تخليص أنفسهم من هذا الضلال، وفى التضحية بالأهل، والمال، والوطن، فى سبيل العقيدة، والفرار من وجه الفتنة فيها!.
وماذا يعود على من يقف على هذه القصة، إذا هو علم على وجه التحديد، عدّة هؤلاء الفتية وعدد السنين التي لبثوها فى كهفهم؟.
إن كثرة العدد أو قلته- سواء فى الأشخاص أو فى السنين- لا يقدّم ولا يؤخّر كثيرا أو قليلا، فى مضمون القصة ومحتواها، وفى الأثر النفسي الذي تحدثه، وفى المعطيات التي تجىء منها وتقع موقع العبرة والعظة! وفى قوله تعالى: «فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» إلفات إلى النبىّ الكريم، بألا يقف من مقولات القائلين فى أصحاب الكهف، وفى تحديد الزمن الذي عاشوا فيه، والبلد الذي كانوا من أهله، وفى أسمائهم، وأسماء ملوكهم، ورؤسائهم.. إلى غير ذلك- ألا يقف النبىّ من هذه المقولات موقف الباحث الطالب للحقيقة.. فكل هذه قشور، لا لباب فيها، وإنما اللباب، هو الأحداث والمواقف، واتجاهات تلك الأحداث وهذه المواقف..
والمراد بالمراء الظاهر هنا، هو، ألا يدفع النبىّ ما يقول القائلون فى عدّة أصحاب الكهف، وأسمائهم، وأزمانهم، وغير هذا، وألا يستقصى الحقيقة فى هذا. فالحقيقة، وما وراء الحقيقة، سواء فى هذا المقام! فأى جديد يدخل على محتوى القصة إذا كان عدد أصحاب الكهف كذا أو كذا، أو كان أسماء أبطالها فلانا، وفلانا وفلانا، أو غير فلان وفلان وفلان؟ وقل مثل هذا، فى الزمن الذي الذي لبثوه فى الكهف، وفى البلد الذي جرت فيه أحداث القصة!(8/609)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
الآيات: (27- 31) [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
التفسير:
الملتحد: الملجأ، الذي يميل إليه الإنسان فرارا من شىء يتهدده.. ومنه الإلحاد، وهو الميل عن طريق الحق.. فرارا من أضوائه المسلطة على الباطل الذي يحرص عليه أهله.
الفرط: الإسراف فى الشيء، وتبديده، وتضييعه.. وهو ضدّ التفريط.
والسرادق: الفسطاط، المحيط بما فيه. والمهل: حثارة الزيت، ونفايته، وقيل، هو النحاس المذاب.. والمرتفق: ما يرتفق به الإنسان، ويعتمد عليه(8/610)
فى معاشه، فيجعله رفيقا له.. والسندس: الرقيق من الديباج.. والإستبرق:
الخشن الغليظ من الديباج.
قوله تعالى:
«وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» .
هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: «فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ... الآية» وما بين الآيتين، وهو قوله تعالى:
«وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» .. هذا الفصل بين الآيتين، لا يقطع الصلة بينهما، إذ كان ما فصل به بينهما هو أشبه بالتعقيب على الآية السابقة على هذا الفاصل، إذ قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يمارى فى أخبار القوم إلا مراء عابرا، لا يقف طويلا عنده، ولا يستفتى فى شأن أصحاب الكهف أحدا ممن يظنّ عندهم علم منه.. وكذلك مما يدخل فى النهى عن المراء هذا الخبر الذي جاء به القرآن عن مدة لبثهم فى الكهف، وهو ثلاث مائة سنين وتسع سنوات، فهذا الخبر الذي أخبر به الله سبحانه وتعالى عن مدة لبثهم فى الكهف- سوف يمارى فيه الممارون ويطعنون فى صدقه وإذن فقد كان على النبىّ ألا يقف لهذه المماراة، بل يلقاها فى غير اكتراث، وليقل لنفسه، وللمؤمنين، وغير المؤمنين: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فعلمه سبحانه هو العلم الحق، وما سواه فظنون وأوهام.. وقد قال الله سبحانه قولة الحقّ «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .
- ثم كان قوله تعالى: «وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ.. الآية»(8/611)
طيّا لهذا الحديث عن لبث أصحاب الكهف فى الكهف، وإلفاتا للنبىّ إلى كتاب الله الذي معه، وإلى ما نزل إليه من ربّه، فى شأن أصحاب الكهف، الذين يكثر الحديث عنهم، ويدور الجدل حولهم.. وإنه بحسب النبىّ فى هذا أن يتلو ما أوحى إليه من كلمات ربّه، وألا يلقى أذنه إلى ما يدور فى مجالس القوم وأنديتهم، من حديث عن أصحاب الكهف.. فما جاء به القرآن الكريم، هو الحق الذي لا ينقص أبدا، ولا يتبدّل على الزمن، بما يستجدّ من أخبار، وما ينكشف من آثار: «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» .
- وفى قوله تعالى: «وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» توكيد لقوله تعالى:
«وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» .. والملتحد هو الملجأ، وهو الذي يفرّ إليه الإنسان فى الأزمات، وليس للنبى ملجأ إلا الله، فى كل أمر يطرقه، وفى هذا الامتحان الذي يمتحن به فى أصحاب الكهف من المشركين، وأعوان المشركين.
قوله تعالى:
«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» .
قيل إن هذه الآية نزلت فى شأن بلال وصهيب، وغيرهما من المستضعفين من المسلمين الأولين، فى مكة، وأنها دعوة للنبىّ الكريم أن يجعل عاطفته كلها مع هؤلاء المستضعفين، وألا يصرفه عنهم صارف الاهتمام بأصحاب السيادة والرياسة فى قريش، طمعا فى هدايتهم إلى الله، ليكون له منهم سند للدعوة الإسلامية، وقوة تدفع عن المسلمين الأذى والضرّ، مما لا تفتر قريش عن سوقه إليهم.
وإذا صح سبب نزول هذه الآية على هذا الوجه، فإن المراد بها قبل كل(8/612)
شىء، هو مواساة كريمة وعزاء جميل من رب كريم، لهؤلاء المستضعفين، الذين نظر إليهم ربّهم، فجعلهم فى هذا المقام الكريم الذي يوجّه إليه وجه النبىّ كلّه، دون أن يعطى المشركين لفتة منه! فإنه شتان ما بين هؤلاء وأولئك.. فهؤلاء المسلمون المستضعفون، قد آمنوا بربّهم، يدعونه بالغداة والعشىّ، وأولئك المشركون، قد ألهتهم دنياهم، وأعماهم ضلالهم، فشغلوا عن النظر فى أنفسهم، وضلّوا الطريق إلى ربّهم.
- وفى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» إشارة إلى أن هذا الجانب الذي يقفه النبي مع أصحابه المستضعفين، هو جانب فيه شدة وبلاء، ومعاناة، لا يصمد له إلا أولوا العزم والصبر! إنه انحياز إلى الجانب الضعيف، وإيثار له على الجانب القوىّ، ذى الجاه والسلطان.
- وفى قوله تعالى: «وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» تسفيه لهؤلاء المشركين، وما هم فيه من عناد يسوقهم إلى الهلاك، ويخرجهم من الدنيا، وقد خسروا الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى:
«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ.. إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً» فى هذه الآية وعيد شديد لهؤلاء المشركين الذين لجّوا فى طغيانهم، وعدوانهم.. فقد أعدّ الله لهم «ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» أي ضربت عليهم النار، فكانت سرادقا يشتمل عليهم، لا يخرجون منه أبدا.. إنها دارهم، لا دار لهم غيرها.. وإن استصرخوا فيها طالبين الغوث، كان الصّراخ لهم، والإسراع لنجدتهم، هو أن يسقوا ماء آسنا، يغلى، فيشوى الحرّ المتصاعد(8/613)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
منه وجوههم قبل أن يصل إلى أفواههم.. ذلك هو نزلهم، وتلك هى عيشتهم.. فبئس الشراب شرابهم، وبئس العيش عيشهم! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ.. نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً» هذا هو الوجه الآخر من وجوه الناس يوم القيامة، وهم المؤمنون، الذين آمنوا، ثم أتبعوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، فهؤلاء لا يضيع أجرهم عند الله.. فقد أعدّ لهم سبحانه جنات عدن، أي جنات الخلود، لا يخرجون منها أبدا.. يقال: عدن فى المكان، أي أقام واستقرّ.
هذه الأنهار التي تجرى من تحت الجنات، وتلك الأساور من ذهب التي يحلّون بها، وهذه الثياب الرقيقة من السندس، وما فوقها من إستبرق، وتلك الأرائك التي يتكئون عليها.. هذا كلّه، هو بعض ما يجد أصحاب الجنة فى الجنة، مما كانت تشتهيه أنفسهم فى الدنيا، ولا يجدون سبيلا إليه، إما لقصر أيديهم عنه، وإما لنزولهم طوعا عما فى أيديهم، إيثارا لدينهم، واستعلاء على متاع هذه الحياة الدنيا الذي لا بقاء له.. أما ما فى الجنة من نعيم، فهو مما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
الآيات: (32- 44) [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(8/614)
التفسير:
الصعيد: التراب.. والزّلق: الذي لا نبات فيه.. والحسبان: المبالغة فى الحساب، والمراد به أنه من تقدير الله، وأنه واقع بحساب وبقدر.
غورا: أي غائرا، قد انسرب فى باطن الأرض..
فى هذه الآيات مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لرجلين، أحدهما مؤمن بالله، والآخر كافر به..(8/615)
فالرجلان بهذا الوضع يمثلان الإنسانية كلها، إذ كان الناس أبدا فريقين:
مؤمنين، وكافرين.. مستجيبين لدعوة الرسل مؤمنين بها، أو منكرين لها، خارجين عليها.. وإذ كان ذلك من كسبهم واختيارهم، فقد استحق كل أن ينال جزاء ما عمل: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .
والرجلان اللذان تعرضهما الآيات، يقف كل منهما فى الجانب الذي اختاره، وحرص عليه، واعتزّ به..
أما الكافر.. فقد وسّع الله له فى الرزق.. فجعل له الله سبحانه وتعالى:
«جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ» وهاتان الجنّتان قد تكونان فى قطعتين من الأرض، تنعزل كل منهما عن الأخرى.. فهما فى مرأى العين جنّتان، وقد تكونان جنّة واحدة، ولكنها لا تساع رقعتها، تبدو وكأنها جنتان..
والرأى الأول هو المقول به هنا، حيث جاء حديث القرآن عنهما باعتبارهما جنتين، لكل جنة كيانها، واعتبارها..
وقد حفّت هاتان الجنتان بالنخيل، ليكون ذلك أشبه بسور لهما.. إلى جانب الثمر الذي يجىء من هذه النخيل..
وليس هذا، فحسب، فإن بين أشجار العنب زروعا أخرى، من حبّ، وفاكهة، وغيرها.. فهما إذن جنّتان فى أعدل بقعة.. تربتها خصبة، وماؤها كثير.. «وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» .. ولهذا كان ثمرهما كثيرا مستوفيا: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» أي لم ينقص شىء مما ينبغى أن تعطيه الأرض الطيبة من ثمرات ما يغرس فيها.. ثم إلى جانب هذا كان للرجل مال آخر يثمّره وينمّيه، كالأنعام، وغيرها: «وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ» .
هذا هو الرجل الكافر.. صاحب خير كثير أفاضه الله عليه، ورزق واسع(8/616)
ابتلاه الله به.. وكان شأنه- لو عقل- أن يحمد الله، ويذكر ما ألبسه من نعمه..
ولكنه لم يفعل هذا، بل كفر بالله، ولم يوجه إليه وجها، أو يرفع إليه بصرا..
وليته وقف عند هذا، بل لقد استبدّ به الغرور، وركبه الطيش والنّزق، فأخذ يكيد للمؤمنين، ويغريهم بالضلال، ليفتنهم فى دينهم.. إذ كانوا مع إيمانهم بالله، فى فقر ومعسرة، وهو مع كفره بالله، فى هذا الغنى الواسع، وذلك الثراء العريض!! فلم الإيمان بهذا الإله إذن؟ وما جدوى التعلّق به إذا كان المتعاملون معه، على تلك الحال من الفاقة والبؤس؟ هذا هو المنطق الذي يبشرّ به هذا الكافر، فى الناس، ويحاجّ المؤمنين به.
«فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» .
هذا موقف من مواقف الفتنة، يلقى بها هذا الكافر بين عينى المؤمن.
إنه أكثر من صاحبه المؤمن مالا وأعزّ نفرا! ولا سبب لهذا إلا لأنه كافر..
وصاحبه مؤمن! ذلك هو منطق من أعمى الله أبصارهم وختم على قلوبهم.. يقول لصاحبه: «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» ولو كنت على ما أدين به لكنت مثلى، ولكان لك مالى، من مال، وبنين، وجاه، وقوة! ولم يقف الضلال بهذا الضّال عند هذا، بل لقد أخذ بيد صاحبه، يطوف به فى جنتيه، حتى يريه بعينيه هذا النعيم الذي ينعم به من كفر بالله!! ..
ويمضى الرجل المؤمن معه فى رحاب هذه الجنات العريضة.. ولعلّ صاحبه قد هيأ له أكثر من مجلس فيها، وأعدّ له أكثر من لون من ألوان الطعام من ثمارها.!
وينتظر الكافر أن تتحرك فى نفس صاحبه شهوة إلى هذه الجنات، أو يبدو فى عينيه إكبار وإعظام لها ولصاحبها- فلا يرى شيئا من هذا كلّه، يدخل على نفس صاحبه، أو يقارب ما بينه وبينه قيد أنملة..(8/617)
وهنا، يجىء الكافر إلى صاحبه من ناحية أخرى، فيسمعه بأذنه ما رآه بعينه، لعل الكلمة هنا تفعل مالا تفعله الصورة.. واستمع إلى تصوير القرآن لهذا المشهد، وهو يصف الرجل وقد دخل بصاحبه إحدى جنتيه:
«وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» .
هكذا يكيد هذا الضالّ لصاحبه، ويجىء إليه بما يظن أنه يملأ قلبه حسرة وحسدا.. فيتحدث عن جنّته هذا الحديث الذي يتيه فيه فخرا وزهوا، بما يملك بين يديه، من ثراء طائل، وجاه عظيم.. إنه ينظر إلى جنّته كأنه يراها لأول مرة، فيقول: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» .. ثم ينظر فى وجه صاحبه ليرى وقع هذه الكلمة على مشاعره، فيرى استنكارا وامتعاضا، وتعجبا، من هذا الغرور الذي يذهل صاحبه عن بدهيّات الأمور.. فهل رأى هذا الأحمق الجهول، فيما يدور فى دنياه هذه، شيئا لا يبيد أبدا؟ وهل هذه أول جنّة كانت فى هذه البقعة؟ ألا يجوز أنها قامت على أنقاض دور كانت عامرة، أو جنات كانت خيرا من جنته؟
ولكنّ هذا الغوىّ الضالّ لا يرعوى عن غيّه وضلاله، ولا يجد فيما رأى على وجه صاحبه من أمارات الاستنكار، والاستهجان، ما يمسك لسانه عن هذا الهذيان.. فيتبع قولته: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» بقولة أشنع منها، وأمعن فى الضلال.. فيقول: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» ! وهكذا يخلى شعوره من كلّ خاطرة تخطر له، عما وراء هذا العالم المادىّ الذي هو غارق فيه!! ويتفرّس مرّة أخرى فى وجه صاحبه، ليرى وقع هذه الكلمة عليه، إذ هى ركيزة إيمانه، وأساس معتقده، بعد الإيمان بالله..! وربّما كرّر هذه القولة مرة(8/618)
ومرة: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» ! .. وذلك إنما يقوله ويكرره إمعانا منه فى الكيد لصاحبه، والسخرية به، وبالدين الذي يدين به.!
ثم لا يقف هذا الآثم الجهول عند هذا الحدّ، بل يقطع على صاحبه تلك الخواطر التي تنبعث من إيمانه، والتي تمسك به على طريق الإيمان، وتبعث فى نفسه العزاء بما سيلقى فى الآخرة من جزاء حسن عند الله، ذلك الجزاء الذي يزرى بكل ما يملك الناس جميعا فى هذه الدنيا من مال ومتاع- فيقول لصاحبه:
«وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» .. فلست وحدك يا صاحبى الذي يذهب بحظّه الذي يؤمّله فى الحياة الآخرة.. فأنا كذلك سيكون لى فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- حظ خير من حظك، ومقام خير من مقامك.. فكما أنا وأنت فى هذه الدنيا على ما ترى، كذلك سنكون فى الآخرة على هذا الحال.. أنا صاحب جنات خير من هذه الجنات.. وأنت كما أنت! فالوضع هناك هو الوضع هنا.. تماما كما ننتقل أنا وأنت من بلد إلى بلد.. لن يغيّر هذا الانتقال من حال أىّ منا شيئا! وهكذا يذهب الضلال بأهله إلى تلك المذاهب الممعنة فى السّفه والجهالة، فيرون حقائق الأمور مقلوبة على وجوهها، وهم فى هذا الوضع المنكوس الذي أقاموا فيه رءوسهم مقام أرجلهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) ويقول سبحانه: «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (49- 50: فصلت) .
وهنا يأخذ الموقف بين الرجلين وضعا آخر.. فيتكلم المؤمن، ويستمع الكافر..(8/619)
«قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» ؟.
فهذا هو محصّل ما وقع فى نفس المؤمن من هذا الحديث الطويل، الذي تحدث به الكافر، صاحب الجنتين، المدلّ بجاهه وترائه.. إنه لم يستطع بحديثه هذا، وبما استعرض على الطبيعة من خيرات جنتيه، وما يؤمله فى الآخرة من جنات خير منهما- لم يستطع أن يغيّر من موقف صاحبه، أو يؤثر فى إيمانه شيئا.. فيلقاه صاحبه بما اعتاد أن يلقاه به، من إنكار عليه لهذا الضلال الذي هو غارق فيه، «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟» .
وفى توجيه الخطاب إليه بصيغة الماضي.. هكذا: «أَكَفَرْتَ» بدلا من صيغة الحاضر: «أتكفر» إشارة إلى أن هذا المنكر الذي هو فيه، ليس أمرا مستحدثا عنده، بل هو داء قديم، سكن فى كيانه، واستقر بين مسرى الدم من عروقه، لا يغيره شىء. ولو كان ذلك مما يمكن أن يتغيّر لكان له فى هذا الموقف الذي وقف من جنتيه، ورأى فيهما ما رأى من آيات الله وآلائه- ما يخفق له قلبه، وترقّ به مشاعره.
وفى هذه الصورة التي رسمها المؤمن لصاحبه، وأراه فيها وجوده كله، منذ كان ترابا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فجنينا، فوليدا، فطفلا، فرجلا مكتمل الرجولة كما هو الآن، يختال تيها وعجبا- فى هذه الصورة ينظر المؤمن إلى صاحبه، فيكره أن يكون على سمت هذه الصورة التي شوهها الكفر، ومسخها الضلال.. وفى سرعة خاطفة ينتزع نفسه من جنب صاحبه، ويعزل شخصه عنه.. ثم- وبسرعة خاطفة أيضا- يرسم لنفسه صورة ارتضاها، واطمأن إليها.. فيقول:(8/620)
«لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي.. وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» ..
فها هو ذا أنا.. أنا هو الذي تراه أيها الصاحب والذي عرفت موقفه من قبل.. «اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» أما أنت فكما رأيت وعلمت!.
فالضمير: «هو» - كما أحبّ أن أفهمه- هو ضمير الغيبة، المقابل لضمير الحضور «أنا» المدغم فى حرف الاستدراك لكن.
وبهذين الضميرين: ضمير الحضور، وضمير الغيبة، تتحقق للرجل المؤمن صورتان: صورة حاضرة له بعد أن دخل الجنتين، مجدّدة للصورة الماضية التي كانت له قبل أن يدخل مع صاحبه جنتيه.. فهو هو لم يتغير منه شىء، بعد تلك التجربة المثيرة التي أدخله فيها صاحبه، وأراد بها أن يجرّه وراءه، فى طريقه القائم على الكفر والضلال!.
وإذ ينكشف كل من الرجلين لصاحبه على هذا الوجه.. يعود المؤمن إلى صاحبه، ناصحا هاديا، لا كما جاء إليه صاحبه مضلّا مغويا.. فيقول له:
«وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ.. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً.. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً.. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» .
وفى هذا العرض، يكشف المؤمن لصاحبه الموقف الذي كان جديرا به أن يقفه، حين دخل جنّتيه، ورأى فيهما ما رأى من بديع صنع الله، وروعة قدرته.. فيقول: «ما شاءَ اللَّهُ» أي هذا ما شاءه الله وقدّره لى.. ولو شاء غير هذا لكان.. فسبحانه له الحمد، والشكران.. وليس لى من هذا الذي بين(8/621)
يدى شىء.. فأنا العاجز الضعيف، الذي لا يملك من أمره شيئا.. «لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» .. فما لم يكن للإنسان عون من الله، فهو الضائع المخذول..
ثم إذ لم يكن من «الكافر» أن يقول هذا القول، ولم تحدثه نفسه بشىء منه.. لوّح له صاحبه بهذا النذير الشديد، وقرعه بتلك القارعة المزلزلة:
فقال له: انظر إلىّ «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ» .. فذلك ليس بالذي تعجز عنه قدرة الله.. فالله سبحانه يملك الناس ويملك ما بأيدى النّاس، وبسلطان قدرته، وبتقدير حكمته، يبدّل أحوال الناس كيف يشاء، فيفقر ويغنى، ويذلّ ويعزّ، ويضع ويرفع.. فإذا كنت كما ترانى الآن أقلّ منك مالا وولدا، فغير بعيد على الله أن أصبح أو أمسى، فإذا أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا..
وليس الأمر واقفا عند هذا، بل إنه من الممكن أن يقع فى يدىّ من المال والبنين أكثر مما معك، ثم إن هذا الذي معك يفرّ من بين يديك، فتلتفت فلا تجد منه شيئا..
وانظر إلى قوله تعالى: «فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً» .. ثم أمعن النظر فى هذا العطف بين الفعلين: «يؤتين» و «يرسل» حيث تتجلّى من ذلك قدرة الله فى التبديل والتغيير، ففى الحال التي يرسل الله فيها رحمة من رحمته إلى هذا الفقير المعدم، فيلبسه ثوب الغنى، يرسل على هذا الغنىّ ما يذهب بغناه، وإذا هذه الجنة الزاهية الزاهرة ينقضّ عليها «حسبان» من السماء، أي جائحة، تجىء فجأة، وتهبّ من حيث لا يدرى أحد، فتعصف بها، وتجعلها رمادا! أو يغور هذا الماء المتدفق من هذا النهر الذي يقيم حياتها، فإذا هى وقد جفت شرايين الحياة منها، وأخذت تموت موتا بطيئا بين عينى صاحبها الذي لا يملك لدائها دواء..(8/622)
والذي تذهب نفسه حسرة مع كل يوم يطلع عليها وعليه..
وقد صدق حدس الرجل المؤمن، وصحّ ما توقعه لصاحبه هذا الذي أطغته النعمة، فنصب لله الحرب، يقاتل أولياءه، ويصدّهم عن دينه، ويضلّهم عن سبيله..
«وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ.. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها.. وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً» .
وهكذا تجىء الخاتمة، وتحقّ كلمة الله على القوم الظالمين.. وإذا هذه الجنة وقد أحيط بها، وشملها البلاء من كل جانب، وإذا صاحبها يقف على أطلالها كما يقف الأب على أشلاء أبنائه، وقد نزلت بهم نازلة أخذتهم جميعا..
«فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» حسرة وكمدا.. «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من مال وجهد «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» .. لا ترقّ لنحيبه، ولا تستجيب لصراخه، بل تظل هكذا خاوية على عروشها، لا تريه منها إلا هذا الموات الذي يزيد فى حسرته، ويضاعف من آلامه..
- فقوله تعالى: «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» حال كاشفة عن حاله، وهو يندبها، ويقطّع نفسه حسرة عليها، وهى بين يديه جثة هامدة، لا يجدى معها هذا العويل الصارخ، وهذا النحيب المتصل..
- وقوله تعالى: «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» هو حكاية لقوله الذي سيقوله يوم القيامة، يوم يساق إلى موقف أشدّ هؤلاء، وأقسى قسوة من هذا الموقف الذي هو فيه إزاء جنته تلك الخاوية على عروشها.. ففى هذا اليوم تشتد حسرته، ويتضاعف ندمه، ويقول فيما يقول: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ(8/623)
بِرَبِّي أَحَداً»
.. ولكن أنّى له أن يصلح ما أفسد؟ لقد فات وقت الندم..
وهل نفعه بكاؤه، وأغنت عنه حسرته فى الدنيا، حين أخذ الله جنّته، وأرسل عليها حسبانا من السماء، فأصبحت خاوية على عروشها؟ إن يكن ذلك قد ردّ عليه ما فات، فقوله يوم القيامة: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» قد يكون له أثر فى إصلاح ما أفسد.. وأما وقد هلكت جنته إلى غير رجعة، فإنه هو أيضا هنا فى الهالكين المعذبين فى النار، من غير أمل فى الخروج مما هو فيه.
ولو كان قوله: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» .. لو كان هذا قولا قاله فى دنياه- كما يقول بذلك بعض المفسّرين- لكان له فى هذا القول رجعة إلى الله، ولا نتقل به من الكفر إلى الإيمان، فإنه لا زال فى دار عمل.
وقوله تعالى: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً» .. هو تعقيب على موقف هذا الكافر الذي لجّ به كفره..
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى.. أما فى الأولى فقد أهلك جنته أمام عينيه وبين أهله وقومه، وأما فى الآخرة: فهو إلى مصير أسوأ من هذا المصير الذي أحرق كبده، وأذلّ كبرياءه.. وليس له هنا أو هناك من فئة ينصرونه، ويحولون بينه وبين أمر الله فيه.. «وَما كانَ مُنْتَصِراً» هو بذاته وبما كان يجده فى كيانه من عزة وقوة..
وقوله تعالى: «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً» .
«هنالك» : الإشارة هنا إلى يوم القيامة، وإلى كل موقف يكون بين الحق والباطل.
والولاية: النصرة، والتأييد، والعون..
والمعنى: أنه فى يوم القيامة، حيث يشتد البلاء، ويعظم الكرب،(8/624)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
وتدور أعين الناس فى كل مدار، باحثين عمن يدفع عنهم هذا البلاء، ويأخذ بيدهم إلى طريق الخلاص والنجاة.. فيتلفت الصديق إلى صديقه، والابن إلى أبيه، والأخ إلى أخيه، والعابد إلى معبوده الذي كان يعطيه كل ولائه، ويفوض إليه كل أموره.. ولكن لا أحد يسأل عن أحد، ولا أحد يعنيه شأن أحد.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .
والمؤمنون بالله وحده، هم الذين يجدون ولاءهم لله سبحانه، هو الذي قد خفّ لنجدتهم، فى ساعة العسرة، وأخذ بيدهم إلى جانب النجاة.. فكل ولىّ كان للإنسان فى دنياه قد فرّ عنه فى هذا الموطن، أما من كان ولاؤه لله، فقد وجد هذا الولاء إلى جانبه، مؤيدا له، وناصرا! فالولاية الحقّ، هى ما كانت لله، حيث لا تخذل صاحبها أبدا..
أما ولاية غير الله، فإنها سراب خادع، إذا جاءه الإنسان لم يجده شيئا.
والضمير «هو» يعود إلى معنى الولاية، وهى الإيمان بالله، واللجأ إليه، فذلك خير «ثوابا» أي جزاء وخير «عقبا» أي عاقبة، حيث الجنة والنعيم المقيم..
الآيات: (45- 49) [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 49]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)(8/625)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» .
فى الآيات السابقة على هذه الآية، ضرب الله مثلا لرجلين، أحدهما كافر، والآخر مؤمن، وهذان الرجلان- كما قلنا- يمثلان الإنسانية كلها، فالناس جميعا رجلان: كافر، ومؤمن.. والكافر إنما كانت آفته تلك، من واردات الحياة الدنيا، وزخارفها، والاغترار ببهجتها وزينتها.. وهذا ما كشفت عنه الآيات السابقة، فى المحاورة التي كانت بين الكافر وصاحبه، واغتراره بما بين يديه من مال وبنين.
- وفى قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا» الآية، ما يكشف عن الصورة الحقيقة لهذه الدنيا، التي ينخدع لها الناس، ويفتنون بها، ويبيعون من أجلها آخرتهم، ويقطعون بسببها كل صلة تصلهم بالله رب العالمين..
فهذه الدنيا، وما يموج فيها من ألوان الزخارف والمتع، وصور الجاه والسلطان، لا تعدو أن تكون زرعا، زها واخضرّ، وأزهر، وأثمر..(8/626)
ثم جاء الوقت الذي يحصد فيه.. فإن لم يحصد، قطعت الأرض صلتها به..
فصار هشيما، وحطاما. تذروه الرياح كما تذرو التراب! - «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويقيم من الأرض الجديب جنات وزروعا، ويحيل الجنات والزروع إلى جدب وقفر.. وكذلك يخلق الناس من تراب، ثم يعيدهم ترابا، ثم يردّهم بشرا سويّا!.
قوله تعالى:
«الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» .
تشير الآية إلى أبرز لونين وأزهاهما فى هذه الحياة الدنيا، التي يفتن الناس بها، ويشغلون بها عن الله، وعن الحياة الآخرة، وهما المال والبنون.. وقدم المال على البنين، لأنه المطلب الأول للإنسان، فكل إنسان طالب للمال، وليس كل إنسان طالبا للولد.. فكثير من الناس لا يطلبون الأولاد، بل يعيشون بغير سكن إلى زوجة، ولكنهم جميعا لا يستغنون عن طلب المال.. ومع هذا فإنه إذا حصل الإنسان على الولد، تعلق قلبه به، وكان الولد عنده مقدّما على المال! فالمال والبنون، هما أشدّ مظاهر الحياة فتنة للناس، وأكثرها داعية لهم، وأقواها سلطانا عليهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ..»
(15: التغابن) .
- وفى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» إشارة أخرى إلى ما هو خير من الأموال والأولاد، مما يمكن أن يحصّله الإنسان فى هذه الحياة الدنيا.. وتلك هى «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» التي هى الإيمان بالله، الذي هو رأس الأعمال الصالحة التي أمر الله بها من عبادات، ومعاملات،(8/627)
وأخلاق.. فهذا هو الذي يبقى للإنسان، ويجده حاضرا يوم القيامة، أما ما سواه فهو سراب، وقبض الريح لا يجد الإنسان منه شيئا.. «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. ووصف الباقيات بالصالحات، هو عزل لها عن باقيات غير صالحات، وهى المنكرات التي عليها أهل الضلال والكفر، إذ هى باقية لهم يجدونها يوم القيامة، ويجدون منها الحسرة والندامة قوله تعالى:
«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» الواو هنا للاستئناف، لعرض صورة للحياة الآخرة، التي أشارت إليها الآيات السابقة تلميحا فى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» حيث أن هذه الباقيات الصالحات لا تتجلّى آثارها كاملة، إلا يوم القيامة..
وفى هذا اليوم تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.. فتسيّر الجبال وتزول عن مواضعها، حيث تسوّى بالأرض. وإذا الأرض كلها «بارزة» أي عارية، لا يخفى منها شىء، وإذا الناس جميعا قد حشروا بعد أن خرجوا من قبورهم، ولم يترك منهم أحد.
قوله تعالى:
َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً» .
بيان لعرض الناس على الله بعد الحشر، وفى هذا العرض يكون الحساب، ثم الجزاء، حيث يلقى كل عامل جزاء ما عمل.. من خير أو شر: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (7- 8: الزلزلة) .
- وفى قوله تعالى: َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا»
إشارة إلى أن هذا العرض الذي يجمع الإنسانية كلها، والخلائق جميعها، هو عرض ينكشف فيه كل(8/628)
إنسان، ويظهر فيه كل مخلوق، فلا يختفى أحد فى زحمة هذه الجموع الحاشدة..
فهم جميعا فى عين القدرة صفّ واحد، يأخذ كلّ مكانه، ويلقى حسابه وجزاءه.. «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (18: الحاقة) .
- وفى قوله تعالى: َقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»
إشارة إلى أن الناس يجيئون يوم القيامة ولا شىء معهم، مما كان لهم فى الحياة الدنيا، من مال وبنين، وما كان بين أيديهم من جاه وسلطان.. لقد جاءوا عراة حفاة، عزلا من كلّ شىء، ضعافا، مجردين من كل قوة، كما ولدوا عراة، حفاة، لا شىء معهم! - وفى قوله تعالى: َوَّلَ مَرَّةٍ»
إشارة إلى الخلق الأول للإنسان، وهو خلق الميلاد.. وفيه إشارة أيضا إلى أن الأطوار التي ينتقل فيها الإنسان من الطفولة إلى الصبا والشباب، والكهولة والشيخوخة.. وإلى ما يجدّ للإنسان فى هذه الأطوار من أحوال التملك، والتسلط، وغيرها- إنما هى جميعها من تدبير الله سبحانه وتعالى للإنسان، ومن صنيعه به.. فكأنه فى تنقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، هو خلق جديد له.. غير الخلق الأول الذي ولد به! ولكن البعث إنما يكون على صورة أشبه بصورة الميلاد، من حيث التعرّى من كل شىء ملكه الإنسان فى الدنيا.
- وقوله تعالى: َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
هو خطاب خاص موجّه إلى أولئك الذين أنكروا البعث: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (38: النحل) ..
قوله تعالى:
«وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» ..(8/629)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
الكتاب هنا، هو الكتاب الذي سجّلت فيه الأعمال- كل الأعمال، الصالحة، والسيئة.. كما يقول سبحانه: «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» (10: التكوير) .. حيث ينكشف لكل إنسان عمله، من خير أو شر..
«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6- 8: الزلزلة) .
ويعجب الّذين كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، مما يطلع عليهم به هذا الكتاب.. لقد أحصى عليهم كل شىء.. ويقولون: «مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» .. إنهم ما كانوا يحسبون أن شيئا من هذا سيقع، وأنه إذا وقع فلن يكون على تلك الصورة التي فضحت كل شىء كان منهم فى دنياهم.. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) ..
الآيات: (50- 53) [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)(8/630)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد عرضت الناس بين يدى الله يوم القيامة، فإذا هم مؤمنون، وكافرون.. مؤمنون قد آمنوا بالله، واستجابوا لدعوته على يد رسله، وكافرون قد خرجوا عن أمر الله، وعصوا رسله.. وهنا صورة فى الملأ الأعلى، تشبه هذه الصورة التي وقعت فى الأرض..
حيث جاءت دعوة الله إلى الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجدوا امتثالا لأمر الله.. ولكن كائنا من كائنات الملأ الأعلى قد غلبت عليه شقوته، ففسق، أي خرج عن أمر ربّه، وأبى أن يسجد!! فطرده الله من الملأ الأعلى، وألقى به إلى العالم الأرضى، صورة للتمرد والعصيان، ودعوة من دعوات الإغواء والإفساد والفسوق عن أمر الله، إلى جانب الدعوة التي يحملها رسل الله إلى الناس بالهدى والإيمان..
وفى قوله تعالى: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟» تحذير للناس من هذا العدوّ، الذي لعنه الله وطرده من رحمته- تحذير لهم من أن ينقادوا له، فمن انقاد له فقد فسق، أي خرج عن أمر ربّه، كما فسق هذا الرجيم الملعون عن أمر ربّه، وكان وضعه فى المجتمع الإنسانى المؤمن، كوضع إبليس من الملائكة..
- وفى قوله تعالى: «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» إشارة إلى هذا الخسران المبين الذي لحق أهل الضلال الذين استغواهم الشيطان فغووا، وخيّروا بين الهدى(8/631)
والضلال، وبين الله والشيطان.. فانحازوا إلى جانب الشيطان وركبوا معه مركب الغواية والضلال..
قوله تعالى:
«ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» ضمير النصب فى قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ» يراد به أولئك المعبودون، الذين يعبدهم المشركون من دون الله! فهؤلاء المعبودون أيّا كانوا، هم ممن زيّن الشيطان للنّاس عبادتهم، حيث أضلّهم، وأعمى أبصارهم، ثم دعاهم فاستجابوا له، وعبدوا من المعبودات من صوّره لهم، وأراهم فيه الإله الذي يعبدونه.. ومن هنا صح أن يكون كلّ من عبد غير الله، عابدا للشيطان، أصلا، وإن كان فى واقع الأمر عابدا صنما، أو إنسانا، أو ملكا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ.. أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (40- 41: سبأ) .
- وفى قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» تشنيع على أولئك الذين يعبدون غير الله، ويستجيبون لدعوة إبليس، وذريته.. فإن إبليس لم يكن هو وذريته إلا خلقا من خلق الله، وأنهم ليس لهم سلطان مع الله، فما شهدوا خلق هذا الوجود، وما فيه من سموات وأرضين، بل إنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم.. إذ كيف يشهد المخلوق خلق نفسه؟ وإذن فما سلطان هؤلاء المخلوقين على الناس، وهم خلق مثلهم؟ وكيف يقبل مخلوق أن يستدلّ لمخلوق مثله، بل ويعبده، من دون الله؟.
- وفى قوله تعالى: «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» عرض لإبليس(8/632)
وذريته فى هذه الصورة الساقطة من بين المخلوقات جميعا، وأنهم مضلّون، مفسدون.. وأنه إذا جاز أن يتخذ الله سبحانه وتعالى من خلقه عضدا، أي معينا- وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- فإنه لن يتخذ أرذل خلقه، وأبعدهم من رحمته.. إنه لا يستقيم أبدا أن يقرّب الإنسان أبغض الناس إليه، ويتخذهم أعوانا له، وبين يديه من هم أحباؤه، وأصفياؤه، وأهل ودّه؟ فكيف بالله سبحانه وتعالى، وبحكمته وعلمه بخلقه؟
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً» .
الموبق: المهلك، وهو هنا النار التي يلقى فيها المشركون.
وهذه الآية عرض عام لما يكون بين المشركين، وبين من اتخذوهم شركاء من دون الله، حين يجدّ الجدّ، وتقع ساعة الحساب.. عند ذلك ينادى منادى الحق على هؤلاء المشركين: أن ادعوا شركاءكم الذين زعمتم، أي الذين اصطنعتموهم من مزاعم أوهامكم وظنونكم.. «فَدَعَوْهُمْ.. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» .. بل أنكروهم، وأنكروا أن لهم صلة بهم.. أو لم يستجيبوا لهم أصلا، إذ كان ما عبدوه وهما باطلا، لا وجود له.. «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً» أي جعلنا بين المشركين وبين من أشركوا بهم «موبقا» أي حاجزا من النار يلقى فيها هؤلاء المشركون، دون أن تمتد إليهم يد من هؤلاء الشركاء الذين كانوا يعبدونهم، ويلقون إليهم بالمودة والولاء، فهذا الذي كان بين المشركين وبين معبوداتهم من ولاء ومودة، قد صار هلاكا، ووبالا، ونارا تلظّى! وفى قوله تعالى: «شُرَكائِيَ» بإضافتهم إليه سبحانه وتعالى، مع أنهم ليسوا شركاءه على الحقيقة- فى هذا عرض لتلك الجريمة الشنعاء على أعين هؤلاء(8/633)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
المجرمين، ليروا فى هذا الموقف ماذا كان منهم من منكر غليظ، إذ جعلوا لله شركاء! إن ذلك أشبه بعرض جثة القتيل على قاتله، وهو مقود إلى القصاص منه، حتى يعاين من ذلك، الحال التي سيصير إليها، وهى أن يقتل كهذه القتلة! قوله تعالى:
«وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» .
المجرمون هنا، هم هؤلاء المشركون، الذي عرضوا فى هذا العرض الذي جمع بينهم وبين من أشركوا بهم من دون الله.. فقد أمروا أن يدعوا شركاءهم، فلما دعوهم ولم يستجيبوا لهم، تلفتوا فإذا هى النّار بين أيديهم.. فلما رأوها ظنوا أنهم واقعون فيها.. وقد صدق ظنهم فى هذه المرة، وأصبح يقينا واقعا..
إذ لا مصرف لهم عنها، ولا نجاة لهم من الوقوع فيها..
الآيات: (54- 59) [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)(8/634)
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف الذي جاءت به الآيات السابقة، لمواقف المؤمنين والمشركين، وأولياء الرحمن وأتباع الشيطان، وما يرى هؤلاء وأولئك من جزاء فى الآخرة- بعد هذا، تعود آيات القرآن الكريم، فتلتقى بالمشركين من أهل مكة مرة أخرى، وتذكرهم بما يتلى عليهم من آيات الله.. فيقول سبحانه:
«وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بقوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنِ» - وهو معروف لهؤلاء المخاطبين- تنويه بشأن هذا القرآن، وبمقامه العالي الرفيع، الذي لا يراه إلا من رفع رأسه عن تراب هذه الأرض، واستشرف ببصره إلى مطالع الحق فى آفاقه العليا، عندئذ يأخذ الإنسان الوضع الذي يمكن أن يرى فيه من معالم الوجود، ما لم يكن يرى منها شيئا، وهو ينظر إلى موقع قدميه! والتصريف: هو الإرسال، والبعث، والسوق.. ومنه تصريف الرياح، وهو هبوطها من أكثر منه؟؟؟ .. وتصريف الأمثال: سوقها، وبعثها، مثلا بعد مثل..
وكلّ مثل فيه العبرة والعظة، وفيه ما يفتح للعاقل الطريق إلى الحقّ والهدى.. فكيف وهى أمثال كثيرة، تلتقى مع كل عقل، وتتجاوب مع كلّ فهم.. ولكن الجدل والمراء، آفة الإنسان، والحجاز الذي يحجز عقله عن أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين النور والظلام! «وَكانَ الْإِنْسانُ(8/635)
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»
.. فتلك هى بليّة الإنسان، ومضلّة الضالين، ومهلك الهالكين، من أبناء آدم.
قوله تعالى:
«وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» .
الناس هنا، ليسوا مطلق الناس، ولكنهم المكابرون المعاندون، الذين غلبت عليهم شقوتهم، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يصيخوا لصوت الدّاعى الذي يدعوهم إليه، وهم مشرفون على هاوية سحيقة تلقى بهم فى مهاوى الهلاك.. والهدى الذي جاءهم: هو القرآن الكريم.
فهؤلاء الأشقياء الضالون، لم يمنعهم مانع من خارج أنفسهم أن يؤمنوا، ويستغفروا ربّهم على ما فرط منهم فى جنب الله، وفى جنب رسل الله- ما منعهم من ذلك إلا ما ركّب فيهم من عناد عنيد وجدل سقيم، وأنهم- وهذا شأنهم، وتلك حالهم- لن يؤمنوا «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» وهى وقوع البلاء بهم، وأخذهم بما أخذ الله به الضالين المكذبين قبلهم، من هلاك مبين، لا يبقى لهم أثرا.. «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» أي أو حين يطلع عليهم العذاب فيرونه عيانا، مقبلا عليهم، كما رأى فرعون الموت مقبلا عليه.. فقال: «آمنت» ! ففى النظم القرآنى الذي جاءت عليه الآية حذف، يدل عليه السياق..
وتقديره: «وما منع الناس شىء أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربّهم- ولكنهم لن يؤمنوا- إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا» .
قوله تعالى:
«وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً» .(8/636)
أي إنه ليس هناك قوة خارجة عن كيان الإنسان ترغمه على الإيمان بالله..
وإن رسل الله الذين أرسلوا لهداية الناس، ودعوتهم إلى الحق، لا يملكون هذه القوّة التي تحمل الناس حملا على الهدى، وتكرههم إكراها على الإيمان:
«وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» فتلك هى مهمّة الرسل، وهذه هى وظيفتهم فى أقوامهم.. يبلغونهم رسالة ربهم، وما تحمل إليهم من مبشّرات ومنذرات..
- وفى قوله تعالى «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» بيان لموقف المعاندين الضالين، من دعوة الرسل، وأنهم يلقون رسالة الله، ودعوة الرسل بالمراء والجدل، وليس بين أيديهم فى هذا الجدل، إلا الباطل يرمون به فى وجه الحق، يريدون به أن يدحضوه، أي يوقعوه ويهزموه..
- وفى قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً» تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يسخرون بآيات الله، ويهزءون برسله، وبما ينذرونهم به من عذاب الله، فيقولون فيما يقولون: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (32: هود) .
قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» وإنه لا أظلم من إنسان جاءه من يذكّره بآيات ربّه- وكان من شأنه بما معه من عقل أن يذكر آيات ربّه المبثوثة فى هذا الوجود، ويتهدّى إليه، ويؤمن به- من غير أن يدعوه أحد «فَأَعْرَضَ عَنْها» وأصمّ أذنه عن الاستماع إليها، «وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من آثام وضلالات» .
إنه لهو الظلم أعظم الظلم، وهو الضلال أظلم الضلال، أن يقع الإنسان(8/637)
فى الوحل، ثم يجىء من يمدّ يده إليه لاستنقاذه، بعد أن يكشف له الحال الذي هو فيه، فيأبى أن يسمع، ويمتنع أن يجيب!.
وانظر إلى تلك المنّة العظيمة، بإضافة هذا الإنسان الجحود، إلى «ربّه» واستدعائه إليه باسمه تعالى: وبآلائه التي يضفيها عليه، وهو يأبى إلا نفورا، وإلا إمعانا فى الكفر والضلال!.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» بيان للعلة الكامنة فى هؤلاء الضالين، الذين أعرضوا عن آيات الله، واتخذوا آياته وما أنذروا به هزوا، وتلك العلّة هى أن الله سبحانه وتعالى- لحكمة أرادها- قد جعل على قلوبهم «أكنّة» ، أي حجبا تحجبها عن الهدى، وأن تفقه آيات الله، وجعل فى آذانهم «وقرا» أي صمما، فلا تسمع ما يتلى عليها من آيات الله.. فهم لهذا لن يهتدوا أبدا: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) .
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (23: محمد) .
قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» .
الموئل: الملجأ، والمهرب.. والخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وفحوى الخطاب مراد به قومه.. وإذ كشفت الآية السابقة عن جحود الإنسان، وكفره بآلاء ربّه، وإعراضه عن الاستماع لدعوته إليه- فقد جاءت هذه الآية لتكشف عن سعة رحمة الله ومغفرته لعباده، وهم على حرب معه ومع أوليائه..
فقد وسعتهم رحمته، ومغفرته، فلم يعجل سبحانه وتعالى لهم العذاب، ولم يأخذهم بما هم أهل له من نقمة وبلاء، كما أخذ الأمم السابقة من قبلهم، بل أمهلهم،(8/638)
وأفسح لهم المجال لإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، والرجوع إلى ربهم من قريب..
وهذا- ولا شك- من خصوصيات هذه الأمة، التي اختصها الله بها، تكريما لرسوله الكريم، حيث يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»
(33: الأنفال) ..
وأكثر أنبياء الله ورسله، قد شهدوا بأعينهم مصارع أقوامهم.. ولكن هذه الأمة قد عافاها الله من هذا الابتلاء، وأكرم نبيّها فلم يفجعه فى أهله وقومه..
وكان من تمام هذه النعمة على النبي الكريم وعلى أمته، أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى رأى بعينيه قومه جميعا يدخلون فى دين الله أفواجا، ورأى العرب جميعا أمّة مؤمنة بالله، وحتى تلقى من ربّه- سبحانه وتعالى- هذا الثناء العظيم على أمته بقوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110: آل عمران) وفى قوله تعالى: «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» - إشارة إلى أن مغفرة الله ورحمته، لا يدفعان بأسه عن القوم المجرمين.. فهناك حساب، وهناك جزاء، توفى فيه كل نفس ما كسبت.. وليس لأحد سبيل إلى الفرار من هذا الحساب، وذاك الجزاء!.
قوله تعالى:
«وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» .
الإشارة هنا، إلى تلك القرى التي أهلكها الله من قبل، كقرى عاد، وثمود، ولوط.. فهذه القرى وغيرها ممن كفروا بآيات الله وعصوا رسله، قد أهلكهم الله، وعجّل لهم العذاب فى الدنيا، ولم يمهلهم كما أمهل أهل هذه القرية «مكة» والقرى التي حولها، رحمة منه سبحانه وإكراما لنبيه(8/639)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
الكريم.. وفى هذا تهديد لمشركى مكة، وإلفات لهم إلى أنهم واقعون تحت حكم القوم الهالكين، فتلك هى سنة الله التي قد خلت فى عباده، لمن كفروا بالله، وعصوا رسله.. وقد كفر أهل مكة بالله، وعصوا رسله.. وإن فيما أخذ الله به القرى الظالمة من قبلهم لعبرة لهم.. وعلى هذا فإنه وإن أمهل الله أهل هذه القرية، فلم يعجل لها الهلاك، فإنهم هالكون لا محالة: «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» .
فالضمير فى «لِمَهْلِكِهِمْ» يعود إلى أهل مكة، وهو أولى من عوده إلى أهل القرى المشار إليها فى أول الآية.. إذ كان قوله تعالى: «لَمَّا ظَلَمُوا» يحمل معه الموعد الذي أهلكوا فيه، وهو عند ظلمهم وكفرهم بالله، وعدوانهم على رسلهم.. فعود الضمير إلى أهل مكة الذين أشار إليهم قوله تعالى:
«وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» .. أولى من عوده على أهل القرى، إذ يحقق معنى جديدا، فيه تهديد لمشركى مكة، وقطع لآمالهم فى هذه الحياة، وتصحيح لظنونهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة، وأنهم ليسوا خالدين فى هذه الدنيا..
الآيات: (60- 64) [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 64]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)(8/640)
التفسير:
فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة عجيبة، وحدث عجب، بين موسى، والعبد الصالح.. حيث تجرى الأحداث فى متّجه على غير مألوف الحياة، وما اعتاد الناس أن يجروا أمورهم عليها..
وقبل أن نلتقى بآيات الله، وما تحدث به عن تلك القصة، نودّ أن نشير إلى أمور:
أولها: أن هذه القصة لم تذكرها التوراة.. ومن ثمّ فقد أنكرها اليهود وأنكروا أن يكون «موسى» المذكور فيها هو موسى بن عمران رسول الله..!! وهذا ما جعل كثيرا من المفسّرين يقيمون لهذا الإنكار من اليهود وزنا، ويجعلون من مقولاتهم عن «موسى» هذا، أنه رجل آخر غير موسى ابن عمران، ثم يحاولون أن يجعلوا له نسبا لا يتفقون عليه.. فهو عند بعضهم موسى بن مشيا بن يوسف بن يعقوب، وعند آخرين، هو موسى بن أفرائيم بن يوسف.. إلى كثير من تلك المقولات التي لا حدود لها..
وهذا كله مردود على أهله، سواء اليهود، أو من جعل لمقولاتهم حسابا فى هذا المقام..
فليس فى القرآن الكريم أىّ ذكر فى غير هذا الموضع لموسى، غير موسى رسول الله، فإذا ذكر «موسى» فى أي موضع من القرآن، فهو «موسى» رسول الله، ما دام ذكره مجردا من كل وصف خاص، يفرّق بينه وبين موسى رسول الله.(8/641)
وليس إنكار اليهود حجة على القرآن، وليس عدم ذكر هذه القصة فى التوراة حجة على القرآن كذلك.. وذلك:
1- أن القرآن مصدّق للكتب السابقة- ومنها التوراة- ومهيمن عليها.. فهى جميعها تبع له، وليس هو تابعا لها..
2- أن التوراة قد دخلها كثير من التحريف، والتبديل، والحذف، والإضافة.. وقد ذهب بهذا مالها من حجة على أنها هى كتاب الله، الذي يلتزم المؤمنون بكل ما جاء فيه..
3- ليس كل ما جاء فى القرآن عن موسى وقومه قد ذكرته التوراة، وما ذكرته التوراة لا يتفق أكثره مع ما جاء فى القرآن.. ومن ثمّ فلا وجه لاختصاص هذه الحادثة بالإنكار.. من جهة اليهود.. فقد أنكروا كثيرا مما جاء فى القرآن من أحداث، بل لقد أنكروا ما هو موجود فعلا فى التوراة مما تحدّث به القرآن من رجم الزاني، وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى:
«وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» (43: المائدة) . وأكثر من هذا، فإنهم أنكروا ما فى التوراة من وصف لرسول الله، كما يقول تعالى:
«الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ» (157: الأعراف) 4- هذه الحادثة أمر خاص بموسى، ودرس من دروس العلم العالي، الواقع على مستوى فوق مستوى الحياة الإنسانية.. وهو حدث يمكن أن يقع لموسى، أو لغيره من الناس، نبيا كان أو وليّا من أولياء الله، أو عبدا من عباده الصالحين.. ومع هذا، فإن ذكر «موسى» مجردا من كل صفة، لا يعنى إلا موسى الذي له ذكر فى القرآن..
وثانيها: هذه المقدّمة التي تمهد بها الآيات القرآنية لهذا اللقاء، الذي وقع بين موسى والعبد الصالح، يثير بعض التساؤلات، كأن يقال:
ما داعية هذا الحوار الذي بين موسى وفتاه؟ وما شأن هذا الحوت؟(8/642)
وما متعلّق القصة به؟ وما هذه الصخرة التي جاوزها موسى وفتاه ثم عادا إليها؟.
وأخيرا: ماذا لو خلت القصة من كل هذا، ووقع اللقاء بين موسى والعبد الصالح من غير هذه المقدّمات؟ أفي ذلك ما يذهب بشىء من مواقع العبرة والعظة التي جاءت القصة من أجلهما؟
والجواب على هذا:
أولا: أن القصة- كما قلنا، وكما سنرى- تجرى أحداثها فى اتجاه على غير الاتجاه المألوف للناس، حسب تقديرهم وتفكيرهم.. وإذ كان موسى سيدخل فى هذه التجربة، وسيجرى مع هذا الأحداث على صورة يرى فيها أنه يسير فى وضع مقلوب، حيث أنه يمشى القهقرى، على حين أنه يريد أن يتجه إلى الأمام لغاية يقصدها- إذ كان ذلك كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يعانى شيئا من هذه التجربة بنفسه، ومع إنسان يفكر على مستوى تفكيره، ويجرى فى الحياة على ما اعتاد الناس منها، وهو فتاه الذي كان رفيق رحلته..
فموسى مع فتاه.. يسيران سيرا مجهدا إلى غاية يقصدانها، وهى الصخرة، التي سيلتقى عندها موسى مع العبد الصالح.. ومع هذا يمرّان بتلك الصخرة، ويأويان إليها، ثم يجاوزانها، حتى يجهدهما السفر.. ثم ينكشف لهما فيما بعد، أن هذه الصخرة، هى الصخرة المطلوبة، فيعودان إليها مرة أخرى.. ولو كان لموسى شىء من هذا العلم الذي سيكشفه له العبد الصالح لما دار هذه الدورة الطويلة ولما بذل كل هذا الجهد الضائع! إن موسى هنا يبحث عن حقيقة مادّية وهى «الصخرة» ومع أن الصخرة كانت تحت قدميه، فإنه لم يرها، ولم يتعرف عليها.. ولو رفع عنه حجاب الغيب للزم مكانه، ولما سعى هذا السّعى المجهد.
وفى هذا درس بليغ للإيمان بالقدر المتحكّم فى مصائر الناس.. وأنه(8/643)
لو انكشف للناس ما قدّر لهم لما سعوا، ولما تحركوا، ولجمدت الحياة بالناس حيث هم.. لا يعملون، ولا يتحركون! وخذ مثلا «الغلام» الذي قتله العبد الصالح.. أترى لو انكشف لأبويه منه ما انكشف للعبد الصالح.. أكانا يبغيان الولد؟ بل أكانا يتزوجان؟ ..
وقل مثل هذا فى كل شأن من شئون الحياة، خيرها وشرها.. أكان أحد يتحرك إلى غاية أبدا؟ وكيف والغايات- بحكم القدر- تطلب الناس، ولا يطلبونها؟ أما ونحن محجوبون عن أقدارنا، فإننا- بحكم الرغبة فينا- نسعى إلى أقدارنا، ونسلك إليها مسالك مستقيمة أو معوجة.. حتى نبلغها..
وتلك هى سنة الحياة فينا، والقوة الدافعة لنا إلى السعى والكفاح..
يتحرك الناس ويتحركون.. ثم ينتهى بهم المطاف إلى ما يحمدون أو مالا يحمدون.. ولو انكشفت لهم عواقب الأمور لوقفوا حيث هم، ولما ركبوا المخاطر والأهوال.. ولكنهم- مع هذا- مدفوعون إلى أقدارهم، يركبون إليها كل هول وخطر.. يقول ابن الرومي:
أقدّم رجلا رغبة فى رغيبة ... وأمسك أخرى رهبة للمعاطب
أخاف على نفسى وأرجو مفازها ... وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى! ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب؟
وثانيا. أن موسى يريد أن يحصّل علما.. والعلم هو أعظم وأكرم ما يطلبه الإنسان فى الحياة.. وشأن العلم وتحصيله، شأن كل ثمرة طيبة، يريد الإنسان الحصول عليها.. لا بد من مجهود يبذل، وإنه على قدر الجهد المبذول، تكون الثمرة التي تقع ليد الطالب.(8/644)
ومن هنا كان على موسى إذن أن يبذل من جهده هذا الذي بذله، حتّى يصل إلى النبع الذي يريد أن يروى منه ظمأه، ويشفى عنده غليله، وينال طلبته..!
أما الحوت، فهو حدث عارض من أحداث هذا الموقف، ولون من ألوانه، حتى تكتمل الصورة، شأنه فى هذا شأن الفتى الذي صحب موسى، وشأن الصخرة، وشأن البحر.. ولو لم يكن الحوت لكان هناك شىء آخر يقوم مقامه.
ونعود إلى الآيات، وسينكشف لنا عند النظر فيها، ما يزداد به هذا القول.
بيانا ووضوحا.
قوله تعالى.
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» ..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة قد نعت على المشركين عنادهم وضلالهم، وتأبيهم عن الهدى، وقد جاءهم عفوا صفوا من غير أن يسعوا إليه، ويبذلوا الجهد فى طلبه، وقد كان جديرا بهم، أن يطلبوا الهدى لأنفسهم، وأن يبذلوا فى ذلك الجهد والمال.. ولكنهم لم يفعلوا.. سفها، وغفلة! فإذا جاءهم الهدى، وطلبهم قبل أن يطلبوه، ثم زهدوا فيه، وردوه ردا منكرا، كان ذلك سفها فوق سفه، وغفلة فوق غفلة..
وهذا بنى كريم من أنبياء الله، هو موسى عليه السلام، قد كلمه ربه، وأنزل عليه آياته وكلماته، ومع هذا، فهو لا يزال يطلب العلم، ويجدّ فى تحصيله ويبتغى المعرفة، ويسعى للاستزادة منها..(8/645)
وفى هذا ما يكشف عن مدى ما ركب سفهاء قريش وحمقاها، من جهل فاضح، وكبر صبيانى غشوم! إذ كانوا يرون أنهم لا يحتاجون إلى علم، حتى ولو كان هذا العلم يطرق أبوابهم، ويدخل عليهم بيوتهم!.
- وقول موسى لفتاه: «لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» .. يريد به أنه على نية صادقة، وعزم وثيق، من أمره هذا الذي هو متجه إليه، وأنه لا ينقطع عن السير إليه حتى يبلغه.. فمعنى لا أبرح أي لا أزال، وهو فعل من أفعال الاستمرار، وخبره محذوف، تقديره لا أبرح سائرا.. ومجمع البحرين ملتقاهما..
وقد اختلف فى البحرين.. ما هما؟ وأين ملتقاهما، أو مجمعهما؟
والذي أميل إليه، أنهما خليج السويس، وخليج العقبة، وأن ملتقاهما هو رأس شبه جزيرة سيناء عند طرفها الجنوبي، حيث يتفرع عندها البحر الأحمر إلى فرعين يذهبان شمالا ويحصران بينهما شبه جزيرة سيناء.. فحيث كان افتراقهما يكون اجتماعهما.. أي هو مجمعهما، وهو مجمع البحرين..
ويقوّى هذا الرأى عندنا، أنّ تحرّك موسى بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر لم يجاوز شبه جزيرة سيناء، حيث ضرب فيها التيه على بنى إسرائيل أربعين سنة.
ومن جهة أخرى، فإن رأس شبه الجزيرة الجنوبىّ صخرى، تكثر فيه الصخور، والآكام، وتتشابه فيه معالم تلك الصخور، الأمر الذي اختلط به على موسى وجه الصخرة التي كانت موعدا له مع هذا العبد الصالح، الذي جدّ فى طلبه..
أما ما يذهب إليه بعض المفسرين من أنه «طنجة» حيث يلتقى البحر الأبيض بالبحر المحيط، فهو بعيد إلى حد الاستحالة!(8/646)
وأيا ما كان الأمر، فإنه ليس للبحرين، أو لمجمعهما شأن فى كبير مضمون القصة ومحتواها..
- وقوله تعالى: «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» هو حكاية لقول موسى لفتاه، وتتمة لما قاله له.. من أنه لا يزال هكذا سائرا حتى يبلغ مجمع البحرين وأنه إذا لم يبلغ مجمع البحرين، ولم يهتد السبيل إليه، فسيظل ماضيا فى سيره، لا يتوقف أبدا.. وفى هذا ما يشير إلى أن موسى- عليه السلام- وهو يطلب مجمع البحرين، لم يكن يعلم على سبيل القطع واليقين أين يجتمع هذان البحران، وإنما هو يتظنّى ذلك ظنا..
وهذا ما يكشف عنه قوله «لا أَبْرَحُ» التي تفيد أنه لا يكفّ عن الطلب والبحث.. وأما قوله: «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» فهو يكشف عن حرصه الشديد على تحقيق هذه الرغبة، حتى أنه إذا لم يبلغها فى المدى الذي قدره، فإنه لن يكف عن السعى، بل يظل هكذا طول حياته، راصدا لهذه الغاية، ساعيا إليها.. شأن من تتسلط عليه رغبة، ويستولى عليه أمل، فيعيش حياته كلها ساعيا لهذه الرغبة، جاريا وراء هذا الأمل، إلى أن يتحقق أو يموت دونه.
والحقب: الأزمان المتقطعة، تجىء زمنا بعد زمن، والحقبة: القطعة من الزمن، وجمعها القياسي: حقب لا حقب.. ولكن النظم القرآنى أصل يقاس عليه، ولا يقاس هو على ما ضبط من مقاييس اللغة.
وقوله تعالى:
«فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً» .
هذه حادثة وقعت فى طريقهما إلى مجمع البحرين.. لقد بلغاه فعلا، ولكنهما لم يكونا يدريان أن هنا هو مجمع البحرين..!
ويظهر أن موسى وفتاه لم يكونا قد سارا سيرا طويلا، حسبما كان ذلك(8/647)
فى تقديرهما، شأن من يطلب أمرا عظيما، ويسعى وراء أمل ضخم، فيرصد له من كيانه عزما وثيقا، ويهيىء نفسه- سلفا- لملاقاة الشدائد والأهوال فى سبيله.. فإذا عرض له المطلوب من قريب، أو لاحت له بعض أماراته، لم يلتفت إليه، ولم يقع فى ظنه أنه هو الذي يجدّ فى طلبه!! إنه أبعد من هذا، وإن الثمن المطلوب له لأغلى مما بذل له!! وهنا يستكثر المفسرون من الأقوال فى «الحوت» الذي كان معهما، والذي نسياه عند مجمع البحرين! والذي نؤثر أن نقول به، هو أن هذا الحوت ليس إلا سمكة من أسماك البحر، وحوتا من حيتانه، وأنهما قد اصطاداه، أو صيد لهما، وحملاه حيا معهما، ليمكث أطول مدة، دون أن يتعفن، حتى يعدّاه طعاما لهما.. والحوت أكثر أنواع السمك احتمالا للحياة خارج الماء.. ولعلّ هذا هو السرّ فى اختيارهما لهذا النوع من السمك، ليكون زادا لهما يتزودان به فى رحلتهما.
ولقد غفل الفتى عن أمر هذا الحوت، فانسرب منه إلى البحر.. إذ كانا يمشيان على الشاطئ ويتخذانه دليلا لهما إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين..
فهما يسيران على شاطىء أحد البحرين إلى أن يلتقى بشاطئ البحر الآخر..
حيث يكون مجمعهما، وحيث توجد الصخرة!.
«فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ! وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» .
أي فلما جاوزا مكانهما الذي كانا فيه عند مجمع البحرين، وسارا حتى أجهدهما السير، وهما يطلبان هذا المجمع، قال موسى لفتاه: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ(8/648)
لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً»
أي تعبا شديدا، نحتاج معه إلى شىء من الراحة، وشىء من الطعام، حتى نقوى على مواصلة السير.. وقد أسرع الفتى ليعدّ الطعام، ويهيىء الحطب والنار، ليشوى عليها الحوت الذي معهما.
وبحث الفتى عن الحوت فلم يجده.. وهنا تذكر أنه نسى الحوت عند ما أويا إلى الصخرة، واستراحا قليلا عندها.. فقال لموسى فى أسف، وعجب من أمره: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ؟. فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ!! وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» وأحمله معى فيما أحمل من زاد ومتاع.. ثم إنه لم يمهل موسى، وينتظر رأيه فى هذا الأمر، بل اندفع إلى البحر، ليصطاد شيئا يجعلانه غذاء لهما.. «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» أي أنه اتجه إلى البحر فى قوة وعزم حتى يكفّر عن فعلته تلك، التي عدّها إهمالا منه، ولا يجبره إلا أن يسدّ هذا النقص، ويأتى بحوت كهذا الحوت الذي ضاع، أو بشىء يغنى غناءه..!
ولهذا كان منه هذا الأسلوب العجب فى الاندفاع نحو البحر.!
وقوله تعالى: «قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» .
القصص: تتبع الأثر..
وهنا يتذكر موسى أمارة من تلك الأمارات التي يتعرف بها إلى المكان الذي يلتقى عنده بالعبد الصالح.. فالعبد الصالح هناك عند صخرة، عند ملتقى البحرين.. ولكن عند ملتقى البحرين صخور لا حصر لها، تمتد إلى مسافات بعيدة، قد تبلغ مسيرة أيام.. فأى الصخور هى؟ إنها صخرة يفقد موسى عندها شيئا من متاعه، على غير قصد منه، وإلّا ما عدّ هذا فقدا.. هكذا كانت الأمارة الدالة على التقائه بالعبد الصالح.. وقد تكون هذه الأمارة وحيا تلقاه من ربّه، أو رؤيا رآها فى منامه..
وأما وقد فقد الحوت عند تلك الصخرة التي أويا إليها.. فتلك إذن هى(8/649)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
الصخرة المقصودة.. ولهذا، لم يلتفت موسى إلى فتاه، ولا إلى ما كان من نسيان الحوت، بل اتجه إلى المكان الذي عنده الصخرة، قائلا: «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» أي ذلك هو المقصد الذي كنا نقصده، والموضع الذي نبحث عنه..
«فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» أي فعادا إلى الوراء، يتبعان آثارهما التي تنتهى بهما إلى حيث أويا إلى الصخرة، التي نسى الحوت عندها..
ذلك- فى تقديرنا- هو أقرب مفهوم إلى تلك الآيات، وما ضمّت عليه من أسماء، ومسمّيات.. أما ما ذهب إليه المفسّرون من مقولات، لا يحتملها النظم القرآنى على أية صورة من صور الاحتمال، فذلك ما رأينا أن نصرف النظر عنه، فهو أقرب إلى الأساطير والخرافات منه إلى أي شىء آخر!!
الآيات: (65- 78) [سورة الكهف (18) : الآيات 65 الى 78]
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)(8/650)
التفسير:
فى هذه الآيات تبدأ أحداث هذا الحدث العظيم الذي كان موسى على موعد معه، والذي من أجله قطع هذه الرحلة المثيرة، واحتمل ما احتمل من جهد وعناء.
وهنا يلتقى الرجلان: موسى والعبد الصالح، ويقول المفسّرون، والمحدّثون عن هذا العبد الصالح إنه «الخضر» الذي يصفونه بصفات عجيبة، هى من بعض واردات ما تشير إليه الآيات، والتي يبدو فيها أستاذا كبيرا يعلّم نبيّا من أنبياء الله..
والقرآن الكريم، لم يتحدث عن هذا العبد الصالح أكثر من وصفه بأنه عبد من عباد الله، آتاه رحمة منه، وعلمه من لدنه علما.. ولا شك أن هذا الوصف يضفى على صاحبه من الألطاف الربانية ما يرفع مقامه إلى أعلى عليّين، حيث يشهد من عالم الغيب ما لم يظهر الله سبحانه عليه أحدا إلا من ارتضى من عباده..
أما ما ذهب إليه أكثر المفسّرين من مقولات فى «الخضر» وفى أن يملأ هذه الدنيا حياة وأنه يطوف بآفاق الأرض، ويردّ السلام على كل من يسلّم عليه،(8/651)
وأنه يظهر لبعض الناس ويتحدث إليهم.. فذلك كلّه من وراء ما تحدث به آيات القرآن الكريم.
وهذا اللقاء الذي وقع بين موسى والعبد الصالح لم يدم طويلا، ولم تجر فيه بينهما إلا أحداث ثلاثة، أوقعت بينهما خلافا حادّا، ثم انتهت بفراق..
ويبدأ اللقاء بين العبدين الصالحين، بأن يعرض موسى على صاحبه أن يقبله تابعا له، يتعلم من علمه، ويغترف من بحره.. وذلك فى تواضع كريم وأدب نبوىّ عظيم.. فيقول:
«هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟» .
وفى هذا العرض أمور:
1- استئذان مصحوب برجاء، وتلطّف..
2- أن يكون موسى تابعا يقفو أثر متبوعه، ويمشى فى ظله.
3- أن تكون غاية هذه الصحبة، وتلك المتابعة، تحصيل العلم والمعرفة، فيفيد موسى علما، وينال العبد الصالح أجرا.
4- هذا العلم الذي عند العبد الصالح ليس من ذات نفسه، بل هو علم علّمه، وإذن فهو مطالب بأن يعلّم كما علّم..
5- هذا العلم المطلوب تعلّمه، هو مما يكمل به الإنسان ويرشد.. فهو علم يهدى إلى الحق، وإلى الرشاد، لا إلى الضلال والفساد.
ويستمع العبد الصالح إلى هذا العرض من موسى، فيرى أن العلم الذي عنده، والذي يطلب موسى تناول شىء منه، هو علم لا يستسيغه عقله، ولا يقبله منطقه، فيقول له فى وداعة ولطف:
«إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ؟(8/652)
أي إن العلم الذي معى، هو علم فوق إدراك العقول وتصوراتها،. وإذن فلن يكون مبعث اطمئنان لك، إذ يرفضه عقلك، ويتأبّى عليه منطقك.. والعلم الذي يفيد صاحبه، هو العلم الذي يحيط به عقله، وتتسع له مداركه، فينزل عنده منزل القبول والاطمئنان.. فإذا لم يكن كذلك أضرّ ولم ينفع، وأثار فى النفس قلقا، واضطرابا، وعقد فى سماء الفكر، سحبا من الشكوك والريب.
وإذ يتلقّى موسى هذا الرد، يجد أن الفرصة تكاد تفلت منه، ويرى سعيه الذي سعاه قد جاء بغير طائل.. ولكنه لا بد أن يمضى فى التجربة إلى غايتها، خاصة وقد أثار هذا القول غريزة حبّ الاستطلاع عنده، وأغراه بأن يخوض عباب هذا البحر، ولو خاطر بنفسه.. فقال فى أدب نبوىّ رفيع:
«سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» .. هكذا ينبغى أن يكون أدب الطلب والتحصيل..
وإزاء هذه الرغبة الملحّة من هذا التلميذ الحريص على طلب العلم والمعرفة، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده، ولكنه يشترط لنفسه، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم..
فيقول:
«فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .. أي إن اتبعتنى فعليك أن تلزم الصمت، ولا تنطق بكلمة، ولا تنبس ببنت شفة، حتى أكون أنا الذي يدعوك إلى الكلام فيما أريدك عليه..
وهنا تبدأ الرحلة، فى رحاب هذا العلم الربّاني..
«فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» .. وهكذا تبدأ الجولة الأولى بهذا الحدث، الذي يدور له رأس موسى، ويأخذ عليه العجب كلّ(8/653)
سلطان على نفسه.. فيصرخ فى وجه أستاذه قائلا:
«أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها.؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» !! فما هكذا يعمل العقلاء، وما هكذا تجرى أعمال أهل الصلاح والتقوى.. إنه عدوان صارخ على الأبرياء.. لا مبرّر له، ولا عذر لمرتكبه! والإمر: المنكر من الأمر..
ويتلقى العبد الصالح هذه الثورة المتوقعة من موسى، فى رفق ولطف..
فلا يزيد على أن يقول له:
«أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟» .
وهنا يتنبّه موسى إلى الشرط الذي كان قد اشترطه عليه صاحبه، وصحبه هو عليه.. فيقول معتذرا فى أدب كريم:
«لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» .. أي هذه هفوة فتجاوز لى عنها.. وخذنى برفق، ولا تشتدّ علىّ، وأنت تعلم من أول الأمر ثقل هذا الذي تلقيه علىّ من علمك..
«فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ» ! وهذه فعلة أشد من سابقتها وقعا، وأفدح خطبا، وأنكر نكرا..
إذ كانت الأولى فى متاع من متاع الدنيا.. أما هذه، فقد وقعت على نفس إنسانية بريئة براءة الطفولة.. لم تقترف إثما، ولم تأت منكرا.. ومن أجل هذا ينسى موسى وجوده كلّه، ولا يذكر الشرط الذي بينه وبين صاحبه، ولا يلتفت إلى زلّته التي زلّها منذ قليل مع أستاذه، واعتذاره له.. فيصرخ صرخة عالية مدوّية:(8/654)
«أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» .. هكذا يلقى فى وجه أستاذه بهذا الاتهام الصريح.. «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً!» وكان فى المرة الأولى قد لقيه بالاتهام فى مواربة وعلى استحياء: «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» .. فالموقف هنا إزاء جريمة صارخة لا يمكن أن يقوم لها- حسب تقديره- عذر أبدا.. وإن كان يمكن أن يقام لخرق السفينة- ولو على سبيل المراء والجدل- عذر..
وهنا، يأخذ الأستاذ تلميذه بشىء من الشدّة، والتأنيب.. فيقول:
«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ؟ ففى كلمة «لك» نخسة قوية، ويد تمتد إلى موسى من صاحبه فتعرك أذنه! ولا يجد موسى أمام هذا البعد البعيد الذي بين منطلقه ومنطلق صاحبه، إلا أن يحسم الموقف، ويقطع الشوط الذي إن طال بينهما إلى أبعد من هذا المدى، لم تحمد عاقبته، وربما تصارعا، وتقاتلا إذ لم يعد اللسان أداة قادرة على سدّ هذه الثغرات الهائلة بينهما.. فيقول:
«إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .
لقد وجد موسى لصاحبه العذر فى ضيقه به، ولومه له.. إنه قد صحبه على شرط، وها هو ذا يخرق الشرط مرة، ومرة.. وهو بسبيل أن يخرقه مرات إذا طال الطريق بهما..
«فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ..»
وهذا عمل لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق.. قرية، ينزلان بها، ويطلبان(8/655)
إلى أهلها أن ينزلاهما فيها منزل الضيفان، فلا يجدان منهم إلا الصدّ، والدّفع..
قرية ماتت فيها كل مشاعر الإنسانية، وذهبت منها كل معانى المروءة.. ومع هذا يجدان فيها خربة، لا يأوى إليها إلا الهوامّ، فيغشيانها، ليجدا فيها من السّكن ما لم يجداه عند أهلها.. ثم يريان فيها جدارا «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» قد تصدّع بنيانه، وارتعشت أوصاله، وكاد يهوى إلى الأرض.. وهنا يدعو العبد الصالح عزمه وقوته، فيقيم هذا الجدار المتداعى، وإذا هو وقد دبت الحياة فى كيانه، فثبتت قواعده، واعتدل قوامه!! ويرى موسى هذا، فيعجب ويدهش، ويفيض به الكيل، ثم لا يملك أن يحتفظ بما يزمجر فى صدره من مشاعر الغيظ والألم.. فيقول لصاحبه:
«لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» ؟
وفى هذه القولة لم يلق موسى بكل ما عنده.. ولكنّه، وقد عرف أن تلك هى الحاسمة القاطعة لما بينه وبين صاحبه، وإنه ليعزّ عليه أن ينهى هذه الصحبة، التي حرص عليها، وتوقع العلم الكثير المفيد منها- يعزّ عليه أن ينهيها على هذا الوجه، ولم يحصّل علما، ولم يفد معرفة، وإنما كل محصوله منها هو تلك المتناقضات، التي يقع كثير منها فى كل لحظة من لحظات الحياة، وفى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، على مختلف مستوياتها..
- نقول إن موسى لم يلق بهذه القولة المستكينة الضارعة، إلا ليجد لها عند صاحبه قبولا، فلا يحتسبها عليه، ولا يعدّها مما ينقض الشرط الذي بينهما، فيمضى به إلى غاية أخرى، لعلها تكشف له علما، أو تجىء إليه بجديد غير هذا الذي ما زال صاحبه يطلع به عليه! ولكن العبد الصالح لا يلتفت إلى المشاعر التي تلبّست بها هذه القولة،(8/656)
بل يأخذها كما هى.. إنها اعتراض ولا شك، وإنها خروج على الشرط الذي اشترطه على صاحبه: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ! وهنا يسمعها موسى منه.. حكما قاطعا: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» !.
فقد بلغ الأمر بينهما غايته، ولم يعد ثمة أمل فى أن يلتقيا على طريق واحد..
ولكن.. لم كان هذا العناء الذي عاناه موسى، حتى التقى بهذا الرجل الذي قيل له إنه سيجد عنده من العلم ما لم يجده عند غيره؟ فأين هو هذا العلم؟
إن يكن ما حصّله موسى من تلك التجربة، هو هذا الذي وقع فى نفسه من أحداثها.. فما أغناه عن هذا العلم، الذي بلبل خاطره، وشتت مجتمع رأيه، وألقى فيه ما ألقى من وساوس وظنون! وإنه ما يكاد موسى يستمع إلى شىء من هذه الخواطر، حتى يطلع عليه صاحبه بقوله:
«سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ! أهكذا الأمر إذن؟
أهناك نبأ وراء هذه الأحداث، غير ما يحدّث به ظاهرها؟ وماذا عسى أن يكون هذا النبأ؟
وإنه لنبأ عظيم! سنرى فيما ينكشف منه علاجا لقضية من أعقد القضايا التي واجهها العقل الإنسانى، وهى مشكلة «القضاء والقدر» .. التي نرجو أن نعرض لها- إن شاء الله- بعد أن نرى تأويل العبد الصالح لموسى «ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .(8/657)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
الآيات: (79- 82) [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
التفسير:
كان لا بدّ للمعلّم أن يكشف لتلميذه عن خفايا هذه التجربة المثيرة، التي أراه منها ظاهرا لا يستقيم على أي منطق، ولا يتفق مع أي عاقل، ولا يلتقى مع تقدير أي إنسان سليم الإدراك.. إنها أمور تدور لها الرءوس، وتضطرب معها العقول.. وإن موسى لفى حيرة بالغة من أمر صاحبه هذا، الذي جاءه ليطلب العلم عنده، بتوجيه من ربّه.. وحيا، أو إلهاما! وقد فعل المعلم ما تقضى به الحكمة، ويعتدل به ميزان التربية السليمة- فلم يدع تلميذه نهبا للوساوس والشكوك، بل إنه ما كاد يؤذنه بالفراق، وبإنهاء هذه التجربة التي أدخله فيها، حتى أخذ يشرح له حقيقة الموقف، ويكشف له عن الوجه الخفيّ من كل حدث من تلك الأحداث الثلاثة.. فكانت قولته له:
«هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» مشفوعة بقوله: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .(8/658)
وهنا فى هذه الآيات، تأويل كلّ حدث منها..
وفى كلمة «تأويل» إشارة إلى أن هذه الأحداث- كما بدت فى ظاهرها- لا تعدو أن تكون أشبه بالأحلام، التي لها مفهوم يغاير منطوقها فى صورته، وأن هذا المفهوم لا يعلمه إلا الله والراسخون فى العلم، وذلك كتأويل «يوسف» لرؤيا الملك، التي عجز العلماء عن تأويلها، وقالوا: «أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» .. (44: يوسف) فالأحداث التي أجراها العبد الصالح بين يدى موسى أشبه بهذه الرّؤى، وإن كانت أبعد فى المفارقة، بين منطوقها ومفهومها.
وتأويل الحدث الأول، هو كما يقول العبد الصالح:
«أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً.»
هكذا الأمر إذن؟
إنه كما يبدو الآن عمل من أعمال البرّ والرحمة لأصحاب السفينة.. وقد كان يرى من قبل عدوانا عليهم، وظلما صارخا لهم..
إن هذا الخرق الذي أحدثه العبد الصالح فى السفينة، قد جعلها سفينة معطوبة، معيبة، لا تصلح للغرض الذي من أجله كان الملك يستولى على السفن، وينتزعها من يد أصحابها، قهرا وقسرا.. وبهذا تخطّت عين الملك هذه السفينة، حين رآها على تلك الحال، وبهذا أيضا سلمت السفينة من هذا العدوان، وبقيت فى أيدى أصحابها المساكين، الذين يعملون عليها، ويرزقون منها.
أما هذا العطب الذي لحق بالسفينة- أيّا كان- فإنه ممكن إصلاحه..
- وفى قوله: «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» لا تعنى كلمة «وَراءَهُمْ» أن الملك نفسه(8/659)
كان على أثرهم، وإنما تعنى أن سلطان الملك قائم عليهم، كما فى قوله تعالى:
«مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» (16: إبراهيم) أي أنها مسلطة على هذا الظالم، محيطة به، لا يفلت منها..
هذه واحدة! وقد تلقّاها موسى بأذن واعية، وقلب متفتّح.. فأشرق وجهه، ولمعت عيناه ببريق السّكينة والرضا.. ثم ها هو ذا يصبح كلّه كيانا مستمعا لما يقول صاحبه، فى أمر هذا الغلام الذي سفك دمه، من غير ذنب ظاهر! ويجيئه الجواب فى غير مهل:
«وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» .
ويقع فى نفس موسى شىء من هذا التأويل.!
إنه تأويل مستند إلى احتمالات المستقبل، وقائم على توقعات يمكن أن تقع أو لا تقع!! وكيف لموسى أن يتحقق من إرهاق هذا الغلام لوالديه- بعد أن يكبر- بما يكون منه من طغيان وفجور، وإفساد فى الأرض، وكفر بالله؟
وكيف يحكم على هذا الغلام البريء بما سيكون منه بعد سنين؟ إن ذلك مجرد فرض يفترض! وأكثر من هذا، فإن كلمة «فخشينا» تشعر بأن العبد الصالح نفسه لا يرى الأمر أكثر من مجرد احتمال غير متيقّن.. إنه مجرد خشية.. والخشية قد تقع، وقد لا تقع! ولكن يقوم بين يدى موسى شاهد يدفع هذه الوساوس، ويذهب بتلك الشكوك..(8/660)
فأولا: لقد رأى السفينة التي أعطيها صاحبه، قد سلمت من يد الملك، على حين أخذ كل السّفن التي كانت صالحة للعمل، مثلها، قبل أن يصيبها العطب! فهو إذ يجىء إلى أمر الغلام وما يقال فيه، إنما يجىء إليه ومعه هذا الشعور الذي ملأ قلبه طمأنينة وتسليما لصاحبه، الذي يرى ما لا يراه.
وثانيا: كان موسى يعلم مقدّما أنّه بين يدى عبد من عباد الله الصالحين، قد آتاه الله من العلم ما استحقّ به أن يكون أستاذا لنبىّ من أنبياء الله..
اصطفاه الله لرسالته، وكلّمه تكليما مباشرا، بلا واسطة.. فإنّ من كان هذا شأنه، لا يتّهم فى أخباره، وأفعاله، وإن احتاج المرء إلى تأويلها، وتوضيحها، حتى يطمئن قلبه، وتسكن وساوسه.
وثالثا: يعرف موسى عن يقين أن وراء تحركات الأحداث قوة قادرة قاهرة، هى التي تضبط حركاتها، وتجرى بها إلى قدر معلوم، سواء أكان ذلك مما يتفق مع تقدير الناس لمجريات أمورهم، ومنطلقات سعيهم، أولا يتفق..
وعلى هذا، فإنه ليس بالبعيد المستغرب- عند موسى- أن يكون هذا الذي كرهه من صاحبه وعدّه شرا، هو أمر محبوب فى عاقبته، خير فى مآله الذي يؤول إليه..
- فإذا كان قد وقع فى نفس موسى شىء من هذا التأويل لمقتل الغلام، فإن فى نفس موسى أيضا كثيرا من قوى الإيمان التي تدفع هذه الشكوك التي ساورته..
وأما قول صاحبه: «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً» .. فإنه محمول على أمرين:
أولهما: أن هذا الغلام الذي هو شرّ كلّه، وبلاء على الإنسانية، بما يحمل فى كيانه من طغيان، وفساد، وكفر- هذا الغلام- وذلك شأنه- إن(8/661)
تأذّى به المجتمع الذي يعيش فيه، فإن ما ينضح منه من الأذى النفسىّ على أبويه المؤمنين، هو أضعاف مضاعفة لما يجده غيرهما من شروره وآثامه، إذ كان هو غرسهما الذي غرساه، وكان الشرّ الواقع على المجتمع منه، هما- لسبب أو لآخر- شركاء فيه..
فالخشية التي يصورها العبد الصالح هنا، هى خشيته على هذين الأبوين الصالحين المؤمنين، وما يدخل على قلبيهما من حسرة وكمد على مصابهما فى ابنهما هذا، ثم فى مصاب الناس به.. وإذا كان ذلك لم يقع بعد، فهو مما يخشى أن يقع لو ترك الغلام يأخذ مسيرته فى الحياة.. والخشية لا تكون إلا مما لم يقع، لا مما وقع..
وثانيهما: أن هذا الغلام، هو بلاء على نفسه، وأنه نبتة سوء، لو تركت حتى تبلغ مداها، لأوردت صاحبها موارد الهالكين.. فكان موته فى هذه المرحلة من عمره رحمة به، إذ عاجله الموت قبل أن يبلغ مبلغ التكليف، وقبل أن يأتى ما كان يمكن أن يأتى به من آثام.. فالخشية هنا، خشية منه، كما أنها خشية عليه..
أما عزاء هذين الأبوين الصالحين المؤمنين عن فقد هذا الغلام، فهو ما كشف عنه العبد الصالح فى قوله:
«فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» ..
والزكاة: الطهر، والنقاء، والصلاح والتقوى..
والرّحم: الرحمة التي تكون بين المتراحمين، من أبناء وآباء، وإخوة وأصدقاء..
فهذا الولد الذي سيرزقه هذان الأبوان خلفا لابنهما القتيل، سيكون لهما(8/662)
فيه قرة عين، وأنس نفس، ومسرة قلب.. مما يريان فيه من صلاح وتقوى، وما يجدان منه من برّ بهما، وإحسان إليهما..
ثم إن بين يدى موسى- مع هذا كله- مثلا ماثلا له، فيما كان بين نوح وابنه.. فقد جعله الله سبحانه وتعالى فى المغرقين، ولم يقدّر له أن يكون فى الناجين المؤمنين.. لقد أغرقه الله أمام عينى أبيه.. وكان العزاء الذي عزّى الله سبحانه وتعالى به نوحا، قوله سبحانه له،: «يا نُوحُ.. إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» !! (46: هود) فماذا يبدو من فرق بين هذا الغلام الذي قتله العبد الصالح، وبين ابن نوح الذي أغرقه الله؟ .. إنه القدر الذي أجرى حكمه على هذين الابنين، ولم ينكشف أمر القدر لنوح إلا بعد أن أنبأه الله فى قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» .. تماما كما لم ينكشف أمر القدر لموسى إلا بعد أن أنبأه العبد الصالح بقوله: «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» ..
بقيت مسألة الجدار!.
ويبدو وجه اللقاء بين ظاهرها، وباطنها بعيدا، أبعد من الحدثين السابقين..
ذلك أنه إذا أمكن أن يلتمس لأمر السفينة وجه يحمل عليه ما أحدث العبد الصالح فيها من خرق، وإذا أمكن أن يقال فى قتل الغلام قول- فإنه لا يمكن أن يلتمس لأمر هذا الجدار وجه، ولا أن يقال فيه قول- إذا أخذت الأمور بظاهرها- إلا أن يكون ذلك على سبيل المغالطة والسفسطة..
فإذا قيل إن خرق السفينة كان لشىء من المعابثة أو اللهو، أو لامتحان(8/663)
صبر أصحابها، واستخراج ما عندهم من حكمة وعقل، فى مواجهة هذا التصرف الشاذ.. وإذا قيل إن قتل الغلام كان عن خطأ غير مقصود، أو كان عن فراسة تفرسها فيه العبد الصالح، فرأى فيه- وهو غلام- الرجل الذي سيكونه.
حين يبلغ مبلغ الرجال، ويملأ الدنيا بغيا وعدوانا ومحادّة لله، وكفرا به..
فأخذه بجزاء الذين يحاربون الله، ويسعون فى الأرض فسادا..
نقول إذا أمكن أن يقال هذا أو ذاك، أو غير هذا أو ذاك، فى خرق السفينة، وفى قتل الغلام- فأى قول يمكن أن يقال فى شأن هذا الجدار المتداعى، الذي ينقضه العبد الصالح ثم يعيد بناءه؟
إن الذي كان من الممكن أن يكون من العبد الصالح إزاء أي شىء يراه فاسدا فى أهل هذه القرية، التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما- هو أن يدع هذا الفساد على حاله، يعيش فى أهل هذه القرية الظالمة، أو يغريه بهم، ويهيجه عليهم، فيكون العقاب الذي يؤخذون به مسلطا عليهم من قريتهم.. فإذا جاوز الأمر هذا، وأخذ العبد الصالح أهل القرية بالصفح والمغفرة، ثم جاوز هذا أيضا إلى أن يدفع شرا يأتيهم من قبل هذا الجدار المتداعى- فليكن ذلك بهدمه، حتى لا يسقط على من يجلس إليه، أو يمر به! أما أن ينقض هذا الجدار، ثم يقيمه.. فذلك مالا يحتمله أي وارد من واردات الظن، أو الوهم! خاصة، وأن الفعلتين السابقتين كانتا من العبد الصالح، قد وقعتا- فيما يبدو- عدوانا منه بغير حق، وإساءة إلى من لم يقع منه سوء..، وكان الظن بالفعلة التي تأتى بعدهما أن تجرى فى هذا الاتجاه، وأن يرمى أهل القرية بصواعق مهلكة أو يتركوا وما هم فيه.. أما أن تقابل إساءتهم بهذا الإحسان، فذلك تيار مضادّ للتيار الذي كانت تجرى فيه سفينة موسى وصاحبه، ومن شأن هذا أن يحدث دوامة تضطرب فيها السفينة اضطرابا مجنونا، ثم لا تلبث أن تهوى إلى القاع!!(8/664)
ولا يترك العبد الصالح لتلميذه فسحة من الوقت، يسير فيها تفكيره فى هذه المدارات التي تزمجر فيها الأعاصير، والزوابع، بل إنه سرعان ما يكشف له وجه الحقيقة سافرا، وإذا موسى يجد هذه الكلمات تنفذ إلى أعماقه، فتنزل على قلبه بردا وسلاما، وتدفع سفينته فى ريح رخاء، إلى شاطىء الطمأنينة والسلامة.
«وَأَمَّا الْجِدارُ. فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.. وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما.. وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما..» .
وماذا يقول موسى بعد هذا القول؟
إن يكن ثمّة قول يقال.. فهو تلك الخاطرة التي تخطر له، وهو يصل مجرى الأحداث بعضها ببعض، فيقول فيما بينه وبين نفسه: إذا كان صلاح الأب قد امتد إلى ولديه، فنفعهما وحفظ لهما كنزهما الذي تركه لهما من بعده- فكيف لا ينفع إيمان الأبوين وصلاحهما، هذا الغلام الذي قتل؟ وكيف لا ينفع صلاح الأبوين فى استنقاذ ولد واحد، على حين ينفع صلاح أب وحده، فى استنقاذ ولدين؟
وما يكاد موسى يلتفت إلى هذا، وإلى غير هذا ممّا ساوره من خطرات، حتى يلقاه أستاذه بقوله:
«رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ..» !
إنها رحمة الله، ينزلها حيث يشاء، ويختصّ بها من يشاء.. حسب ما تقضى به حكمته، ويحكم به علمه فى خلقه.. كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» (56: يوسف) وكما يقول جلّ وعلا: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ.. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (105: البقرة) .
والأمر كله فى حقيقته، قائم على الرحمة..(8/665)
فخرق السفينة، كان- كما آل إليه الأمر- رحمة بأصحابها..!
وقتل الغلام، كان- كما آل إليه الأمر- رحمة به، وبأبويه، ورحمة بالناس..!
وإقامة الجدار، كان- كما آل إليه أمره- رحمة بالغلامين اليتيمين! إن أمر الله، وقضاءه فى خلقه.. حيث كان، وعلى أية صورة وقع، هو رحمة.. من ربّ رحيم! وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (156: الأعراف) .
ورحمة الله إنما تجرى بأسباب، وتنزل حيث تنزل بقوى مسخرة، تدفع بها إلى المواطن المسوقة إليها، بقدر مقدور، وتقرير معلوم.
وهذا حكم يقرره الأستاذ لتلميذه، فيرى من هذا الحكم أن أستاذه ليس إلا سحابة تحمل غيثا، تدفع بها قدرة الله، إلى حيث يراد لها أن تنزل..
فيقول له:
«وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي..!» .
إنه لا أمر له مع أمر الله.. وما هو إلا رسول يفعل ما أمر الله به، فيمن أرسله إليه.. شأنه فى هذا شأن تلميذه «موسى» الذي أمر بأن يبلّغ رسالة ربّه إلى من أرسله الله إليهم من عباده! وهنا يصافح الأستاذ تلميذه، مودّعا.. بقوله:
«ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ! ويفترق الصاحبان- ويأخذ كل منهما طريقه فى الحياة، على ما كانا يعهدان من قبل..!
أما العبد الصالح.. فطريقه قائم على مستوى القدر، المختفى وراء ستر(8/666)
الغيب، المحجب بنور الله، لا يراه إلا بنور من هذا النور.. «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) .
وأما موسى.. فيأخذ طريقه القائم على مستوى الحياة، وما ينكشف له منها، حسب تقديره، وتفكيره، كإنسان ذى بصيرة مشرقة- إن انكشف له شىء لم ينكشف لغيره، فقد غابت عنه أشياء، وأشياء! وهنا إشارة لا بد منها، إلى هذا الاختلاف الذي جاء عليه النظم فى قول العبد الصالح لموسى، حين وصل الأمر بينهما مداه، فقال له: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ثم فى قوله له، بعد أن أنبأه بما لم يستطع عليه صبرا، إذ قال: «ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .
فهناك قولتان تبدوان وكأنهما على سواء: «تَسْتَطِعْ» و «تسطع» وهما كذلك فى غير القرآن الكريم.. ولكنهما فى كلام الله ليستا على سواء، فى الميزان، الذي جاء عليه النظم القرآنى، وإعجازه القاهر المتحدّى! فكلمة «تستطع» فيها شدة، وقسوة، ومصارحة مكشوفة، بالعجز عن الاستطاعة.. وقد قالها العبد الصالح هكذا صريحة مكشوفة، ليقطع بها الرحلة مع تلميذه..
ولكن حين جلس إلى تلميذه مجلس المعلّم، الذي يكشف لتلميذه، معالم الطريق المظلم أو المشرق، الذي كان يطوّف به فيه- جاءه بهذه الكلمة «تسطع» وقد اقتطع منها هذا المقطع الحادّ، فإذا هى كلمة وديعة رقيقة فيها هروب من المواجهة الصريحة المتحدّية، وعليها مسحة من الحياء والخفر! ومما ينبغى الالتفات إليه أيضا، هذا الاختلاف فى موقف العبد الصالح من(8/667)
الأحداث الثلاثة، ومكانه منها، ودوره فيها..
فهو فى حدث السفينة يقول: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» مضيفا الفعل إليه، وجعله عن إرادة منه وحده..
وفى قتل الغلام، يقول: «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» .. مضيفا الفعل هنا إلى ضمير المتكلمين «نا» .
أما فى إقامة الجدار، فيقول: «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» مضيفا الفعل إلى الله وحده..
ولا شك أن وراء هذا الاختلاف فى الموقف الذي يأخذه العبد الصالح من هذه القضايا، والدور الذي يبدو فيه على مسرح أحداثها- لا شك أن وراء هذا الاختلاف أسرارا لطيفة، إذا كشف الحجاب عن بعضها، أشرقت منه وجوه وضيئة، من الإعجاز المبين، لآيات الله وكلماته..
فمن تلك الأسرار، لهذا الاختلاف فى موقف العبد الصالح من هذه الأحداث، أنه فى حادث السفينة نسب الفعل إليه بقوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» وذلك لأن أثر الحدث جاء فى أعقاب الفعل مباشرة، بحيث لم يكن هناك وقت بين خرق السفينة، وصرف نظر الملك أو أعوانه عنها، للعيب الذي كان فيها.. ولو كان هناك وقت بين خرق السفينة، وبين مرور الملك أو أعوانه بها، بحيث يسمح لأصحابها بإصلاح ما أفسد العبد الصالح منها لما سلمت من أخذها من أيدى أصحابها.. ولما كان للخرق الذي أحدثه فيها حكمة..
وذلك أمر إن لم يلحظه موسى فى حينه، ولم يدرك السرّ الذي من أجله سلمت السفينة المعطوبة لأصحابها- فإنه قد وقع منه موقع اليقين حين كشف له صاحبه(8/668)
عنه، وأراه أن هذا العيب هو الذي فوّت على الملك فرصة الاستيلاء عليها..
فهذا، الفعل من العبد الصالح، هو مما يجرى مجرى العادة فى أفعال الناس على مستوى الظاهر.. ولو أمكنت الفرصة أصحاب السفينة أن يحدثوا فيها ما أحدث العبد الصالح لفعلوا، ولكن وسائلهم إلى هذا كانت محدودة، والأمر أسرع من أن ينتظر تلك الوسائل المحدودة القاصرة.. فلما أن فعل العبد الصالح ما فعل لم ينكر عليه أصحاب السفينة فعلته، وإلا لأمسكوا به وبصاحبه.. ولكنهم.. وقد رأوا فى هذا الفعل الحكيم الحاسم ما يحقق إرادة كانت تراودهم ولا يجدون سبيلا لتحقيقها- أمسكوا عن أن يقولوا شيئا، أو يحدثوا أية حركة تنبىء عن أن أمرا قد حدث، حتى لا يفتضح هذا الفعل، الذي ربّما عدّوا صاحبه الذي فعله واحدا من جماعة حركة مضادة للملك، قائمة فى وجه هذا الفعل الظالم الذي يجريه على أصحاب السفن!! إذن.. فالأمر هنا لا يخرج عن أن يكون إرادة بشرية، إزاء أمر عارض، يأخذه الإنسان بتقديره، ويجريه بإرادته..! وحقّ للعبد الصالح أن يقول:
«فأردت» ناسبا الفعل إلى إرادته..
أما فى قتل الغلام، فإن الأمر مختلف، حيث كانت المسافة بعيدة بين دواعى قتله عند العبد الصالح، وبين ظاهر الحال من أمر هذا الغلام.. كما أن الحكمة التي سيكشف عنها العبد الصالح لموسى من قتل هذا الغلام، معلّق تحقيقها بمستقبل بعيد يستغرق من الزمن، مدّة الحمل بطفل، ثم ولادته، ثم بلوغه مبلغ الرجال، حيث يبدو صلاحه، وينكشف معدنه..
وهذا كله من شأنه أن يوقع فى نفس موسى كثيرا من الشكوك والريب حول تقبّل هذا التعليل الذي تعلل به صاحبه لقتل الغلام..
ولهذا جاء إليه صاحبه من عل، فتحدث إليه بلسان الذي يعرض نفسه(8/669)
فى مستوى غير المستوي الذي كان يخاطبه فيه، بعد خرق السفينة..
إنه هنا يملك من العلم ما ينبغى أن يذكره موسى إن كان قد نسيه حين جاءه يطلب التعلم من علمه.. ولهذا قال له بضمير المتكلم المعظم نفسه:
«فَخَشِينا» ولم يقل «فخشيت» ثم قال: «فَأَرَدْنا» ولم يقل «فَأَرَدْتُ» ..
إنه هنا- وإن كان عبدا من عبيد الله- يحدّث بنعمة الله عليه، وبما آتاه من رحمته، وما علمه من لدنه من علم، وأنه يستند إلى قوى خفية، ينطق عنها، ويحدّث بجلالها وعظمتها.
وأمام الجدار، فقد رأى العبد الصالح أن يعود فى الحديث عنه إلى مكانه الطبيعي من قدرة الله، وأنه لا إرادة له مع إرادة الله، وأن حديثه عن نفسه بضمير المتكلم المعظم لذاته لم يكن إلا من قبيل التحدث بنعمة الله عليه..
ولهذا قال لصاحبه.. «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما» ..
فنسب الأمر كله إلى الله سبحانه، وأضافه إلى إرادته جلّ شأنه.
هذا وجه من وجوه النظر فى هذا الاختلاف الذي جاء عليه النظم القرآنى لحديث العبد الصالح عن نفسه..
ووجه آخر.. وهو وجه يمكن أن يرى فيه العبد الصالح قد أضاف الفعلين الأولين- خرق السفينة وقتل الغلام- إلى نفسه، لما يبدو فى ظاهرهما من ظلم وعدوان، على حين أضاف إقامة الجدار إلى الله سبحانه وتعالى، إذ كان- كما يبدو- عملا من أعمال الخير والإحسان..
ووجه ثالث..
وهو أن الأحداث الثلاثة، فى مجموعها، تصور مشيئة الله سبحانه وتعالى ومشيئة الإنسان..(8/670)
ففى خرق السفينة.. إرادة مطلقة للإنسان، ومشيئة خالصة له، يتصرف بها كيف يشاء.. هكذا: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» .
وفى قتل الغلام، تبدو مشيئة الإنسان مختلطة مع مشيئة الله، داخلة فيها..
هكذا: «فَخَشِينا» .. «فَأَرَدْنا» .. فهذا الضمير يشير إلى أن العبد الصالح ليس وحده هنا، وإنما هو مع مشيئة مشىء، وإرادة مريد! وفى إقامة الجدار.. يتجرد العبد الصالح من كلّ مشيئة وإرادة.. إنه هنا ليس أكثر من أداة منفذة لمشيئة الله، عاملة بإرادته..
وهكذا الإنسان، فى هذه الحياة، وفى كل ما يأخذ أو يدع من أمورها..
إنه يمرّ فى ثلاث مراحل، مع كل أمر يعالجه..
المرحلة الأولى.. يبدأ فيها العمل، وكأنه مطلق من كل قيد يتسلط على إرادته..
والمرحلة الثانية.. يعالج فيها العمل، وهو مصطحب هذا الإحسان بالحرية الكاملة فى أخذ الاتجاه الذي يتجهه.. ولكنه يجد أثناء العمل ما قد يعترض طريقه، فيعثر، أو ينحرف، أو يأخذ طريقا غير هذا الطريق الذي بدأ منه..
والمرحلة الثالثة.. يأخذ فيها العمل صورته النهائية، ويصبح أمرا واقعا، مؤثرا فى حياة صاحبه بما يسرّ أو يسوء، وبما يحمد أو يكره..
وهذه المرحلة الأخيرة التي ينتهى عندها العمل، هى الإرادة العليا، وهى القدر المقدور، الذي لا بد أن يصير إليه الأمر.. مهما تكن إرادة الإنسان على وفق هذه الإرادة أو خلافها..!
تلك هى بعض الأسرار التي لاحت لنا من خلال نظرنا الكليل.. وهناك(8/671)
أسرار لا تحصى، يراها ذوو الأبصار التي اكتحلت بنور الحق، فترى ما لا تراه العيون.
ويحسن بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة «مع القضاء والقدر» .. حيث كانت قصة موسى والعبد الصالح درسا عمليا لهذه القضية، التي يتحكك بها العقل، ويدور فى فلكها مسير الإنسان ومصيره..
[القضاء.. والقدر.. والإنسان..]
موضوع القضاء والقدر لا يعتبر مشكلة يعالجها العقل، ويلتمس الحلول لها، إلا إذا نظر إليه من جانبين معا: جانب يتصل بالله، وجانب يتصل بالإنسان.. وهذا يعنى أن الذي ينظر فى هذه المشكلة، لا بد أن يكون من المؤمنين بالله، أو على الأقل من المؤمنين بما وراء المادة.. أما المادّيون الذين يقيمون وجودهم، ويسوّون حسابهم على مستوى العالم المادي، فليس القضاء والقدر من المشكلات التي تلقاهم على طريق الحياة، وتوجّه أبصارهم إليها، وتلفت عقولهم نحوها..
وتبدو المشكلة- عند المؤمنين بالله، أو المؤمنين بما وراء المادة- هكذا:
إذا قلنا إنّ الإنسان مخيّر، كان معنى هذا أنه مطلق من كل سلطان، وأن ليس بينه وبين الله، أو بينه وبين أية قوة أخرى غير منظورة- علاقة، تحدّ من مجرى حياته، أو تؤثر فى تصرفاته..
وفى حدود هذا القول، لا مجال للنظر فى القضاء والقدر، حيث يبدو(8/672)
الإنسان خارجا عن دائرة المؤثرات التي تجعل للقضاء والقدر شأنا معه..
وإذا قلنا إن الإنسان مجبر، كان معنى هذا أن شيئا ما وراء الإنسان، يملى عليه، ويؤثّر فى إرادته، أو يعطل مشيئته..
وهنا تبدو الصلة واضحة بين الإنسان وبين القضاء والقدر.. وهى صلة تظهر آثارها فى تصرفاته، وفى موقفه حيال كل أمر يعرض له..
ولكن هاتين المقولتين، لم يسلّم العقل الإنسانى بأيّ منهما، تسليما مطلقا..
إذ كان الواقع العملىّ ينقض كل مقولة منهما، إذا أخذ بها على إطلاقها..
فالإنسان- كما يبدو له- حرّ من جهة، ومقيد من جهة أخرى..
إنه مطلق، تماما- كما يبدو- ولكن يرى أن قوة خفية تأخذ عليه طريقه إلى ما يريد.. قوة غير منظورة، تقيّد إرادته المطلقة تلك..
فهو مختار يفعل ما يشاء، وهو مجبر حيث يفعل أو يفعل به ما لا يشاء! وبين الاختيار والجبر، عاشت الإنسانية حائرة مضطربة، قلقة.. تقول بالاختيار، وتحلم به، وتتمنّاه.. ولكن الواقع يفجؤها بما يلغى هذا الاختيار، ويعطل وجوده.. وإذا هى أي الإنسانية، ريشة فى مهب الريح، يسوقها القدر إلى حيث يشاء..
وتقول بالجبر، فلا يصدّقها الواقع الذي تعيش فيه. والذي ترى صفحته فى آثار تفكيرها، وثمار إرادتها، وعزيمتها..
فلا هى.. أي الإنسانية، فى الاختيار المطلق، ولا هى فى الجبر المطلق..
إنها تعيش متأرجحة بينهما.. هى فى اختيار وجبر معا.. ذلك ما يشعر به كل إنسان فى ذاته، وتشعر به الإنسانية فى مجموعها.. وذلك من الجلاء والوضوح، بحيث لا ينكره إلا أهل الجدل والمراء!!(8/673)
ولكنّ القدر الذي فى الإنسان، من جبر أو اختيار، هو الذي يضع الأمر موضع الخفاء والحيرة.. ويقع من الناس موقعا يثير الجدل والخلاف حقّا.
كم فى الإنسان من جبر؟ وكم فيه من اختيار؟ لا أحد يدرى.. فتلك مسألة تختلف من إنسان إلى إنسان.. بل إنها تختلف فى الإنسان نفسه، حسب الحالة التي يواجهها، وحسب الظروف المحيطة به، والمشاعر المستولية عليه..
على ما سنرى. من خلال هذا البحث.
ما القضاء؟ وما القدر؟
القضاء:
لم يذكر «القضاء» فى القرآن الكريم بلفظه هذا، وإنما ذكرت مشتقاته، فى آيات كثيرة.. فذكر فى صورة فعل كقوله تعالى: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» (12: فصلت) وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» (20: غافر) وفى قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (23: الإسراء) كذلك ورد من مشتقات «القضاء» : اسم المفعول فى قوله تعالى: «وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» (21: مريم) واسم الفاعل فى قوله سبحانه: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» (72: طه) .
والذي ينظر فى هذه الآيات، يجد تقابار واضحا بين المعاني التي تدور حولها مشتقات القضاء، وأنها تلتقى جميعا عند معنى واحد، هو: الفصل، والحسم فى الأمر، وأن قضاء الأمر معناه إنجازه، وحسمه، من جهة قادرة ممكنة(8/674)
مما تقضى به.. منه القضاء، وهو الفصل فى الخصومات، ومنه القاضي الذي يفصل بين المتخاصمين.
وقد ذكر القرطبي فى تفسيره:
«أن «القضاء» يكون بمعنى «الأمر» كقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ..
ويكون بمعنى «الخلق» .. كقوله تعالى: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» .
«ويكون بمعنى «الحكم» .. كقوله تعالى: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» ..
«ويكون بمعنى «الفراغ» .. كقوله تعالى: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» (41: يوسف) ..
«ويكون بمعنى الإرادة، كقوله سبحانه: «إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (47: آل عمران) .
«ويكون بمعنى «العهد» .. كقوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ» .. (44: القصص) والذي ينظر فى هذه المعاني التي ذكرها القرطبي «للقضاء» يرى أنها جميعا تنزع منزعا واحدا، وتلتقى عند معنى واحد، هو الفصل، والحسم.
فالأمر.. والخلق.. والحكم.. والفراغ.. والإرادة.. والعهد..
كلها تنبىء عن حسم الأمر وإنجازه.. قولا، أو فعلا.
القدر:
ورد فى القرآن الكريم، لفظ «ق.. د.. ر» مصدرا، وفعلا، واسم فاعل(8/675)
قال تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (49: القمر) وقال سبحانه:
«وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» (10: فصلت) ومعنى هذا فى المصدر، ومشتقاته: التقدير، ووضع الشيء فى موضعه المناسب له..
عن عكرمة عن الضحاك، قال فى قوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أي أرزاق أهلها، وما يصلح لمعاشهم، من التجارات، والأشجار، والمنافع، فى كل بلدة، ما لم يجعله فى الأخرى..
من ذلك نرى أن دائرة القدر أشمل وأعمّ.. من دائرة القضاء..
فالقدر تدبير.. والقضاء حكم..
القدر تصميم.. والقضاء تنفيذ..
يقول الإمام الغزالي..
القدر: اسم لما صدر مقدّرا عن فعل القادر..
والقضاء: هو الخلق..
«والفرق بين القضاء والقدر، أن القدر، أعمّ، والقضاء، أخصّ..
«فتدبير الأوليات قدر..
«وسوق تلك الأقدار بمقاديرها وهيئاتها إلى مقتضياتها، هو القضاء.
«فالقدر.. إذن.. تقدير الأمر بدءا.
«والقضاء.. فصل ذلك الأمر وقطعه، كما يقال: «قضى القاضي» «1» أما الفيلسوف «ابن سينا» فيرى عكس هذا..
__________
(1) من كتاب فرائد اللآلى من رسائل الغزالي ص 156.(8/676)
يرى أن القضاء أعمّ من القدر، وسابق عليه..
يقول:
«القضاء.. هو علم الله المتعلّق بالكلّ، على النظام الأكمل الذي يكون فى الوجود.
«والقدر.. هو إفاضة الكائنات على حسب ما فى علمه. فالكلّ صادر عن الله، ومعلوم له، وكلّ ذلك بقضاء وقدر» «1» .
أما ابن عربى.. الفيلسوف المتصوّف، أو الصوفي المتفلسف، فإنه فى التفرقة بين القضاء والقدر، على رأى يتفق ورأى ابن سينا.. فهو يقول:
«القضاء.. حكم الله..
«والقدر.. تقدير ذلك الحكم..
«والتقدير.. تابع للحكم.. والحكم تابع للعلم» «2» ونحن على رأينا، الذي يوافق رأى الإمام الغزالي فى أن «القدر» أعم، و «القضاء» أخصّ.. لأن آيات الكتاب الكريم توحى بهذا الفهم لكل من القضاء والقدر.
ونستطيع أن نتصوّر- مجرد تصوّر- إن صح فهمنا هذا- أن القدر، هو الأسباب التي أودعها الله سبحانه فى المخلوقات، بحيث لو جرت إلى غايتها لنتج عنها مسبباتها التي تلازمها، والتي لا تتخلّف أبدا..
فالنار- مثلا- سبب الضوء، والدفء، والإحراق.. فإذا أوقدت
__________
(1) الملل والنحل للشهرستانى.. جزء 3 ص 153.
(2) النصوص.. لابن عربى.(8/677)
النار.. أخرجت ضوءا، وأعطت دفئا، وأحرقت ما يتصل بها من الأشياء التي أودع فيها الخالق من الأسباب ما يجعلها قابلة للاحتراق.. ففى كل شىء قدر، أي أسباب، وكيفيّات تنتج مسببات، فإذا تلاقت تلك الأسباب المودعة فى الأشياء، كانت قضاء.
فالمسببات التي تحدث من تلاقى الأسباب بعضها ببعض، هى القضاء، فإذا تلاقت الأسباب، فتوافقت أو تدافعت فهى فى دائرة القدر.. أما ما يقع من هذا اللقاء بين الأسباب- فى توافقها أو تدافعها- من مسببات فهو القضاء..
فالقدر كون، والقضاء ظهور!
الأسباب والمسببات:
اختلفت آراء المفكرين من الفلاسفة، والفقهاء فى الصلة بين الأسباب ومسبباتها.. واتسعت شقّة الخلاف بينهم حتى بلغت درجة التضادّ.
فبينما ينكر بعضهم التلازم بين السبب والمسبب، إذ يقرر بعضهم حتمية هذا التلازم، وعدم تخلفه فى حال أبدا.. بل إن بعضهم تمادى فى هذا، فجعل الأسباب قوّى عاملة، تعمل فى وعى وبصيرة، وذلك حين رأوها تعطى نتائجها دون أن تنحرف، أو تضلّ.. وكان من هذا أن آمن كثير من هؤلاء، بالطبيعة، وعدّوها كائنا عاقلا.. يحمل فى كيانه مقوّمات وجوده، مستغنيا عن مدبّر يدبّر أمره، ويقوم عليه.. ولا شك أن هذه النظرة إلى الطبيعة وأسرارها، هى نظرة محدودة، قصرت عن أن ترى القدرة القادرة التي تربط عوالم الموجودات كلها برباط وثيق محكم، بحيث تجعل منها كيانا واحدا، يجرى لغاية واحدة، فى حكمة، ونظام.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (3: الملك) .
هذا، والفلسفة الحديثة تؤيد الرأى القائل بفاعلية الأسباب، وبالترابط بين(8/678)
الأسباب والمسببات.. وما كان للفلسفة الحديثة أن تقرر غير هذا، بعد هذا التقدم العلمىّ، الذي أحرزه الإنسان فى كل مجال.. وليست القوانين التي استخدمها العلم فى كشف أسرار الطبيعة إلّا من نسيج الأسباب وتفاعلها.. فهذا الاطراد فى ظواهر الطبيعة، هو الذي أتاح للعلماء وضع قوانين ثابتة لطبائع الأشياء ولما تحدثه الأسباب من احتكاك بها.. وبهذا أمكن تسخير قوى الأشياء بمقتضى هذه القوانين، كما أمكن التنبؤ بما سيحدث قبل حدوثه، اعتمادا على معرفتنا السابقة بخواصّ الأشياء، وبالآثار التي تحدث عند تحريك أسبابها المودعة فيها.
وقد رأى الأشاعرة- وهم الذين يمثلون الرأى السّنيّ- أن لا تلازم بين الأسباب والمسببات، ورفضوا أن يسلّموا بوجود أي قانون للطبيعة، واستبعدوا البديهة القائلة: بأن الأسباب المتماثلة تولد نتائج متماثلة..
وقد بنوا رأيهم هذا، على أساس أن التلازم بين الأسباب والمسبباب، فيه تحديد لقدرة الله على كل شىء، إذ أن هذا التلازم يحدّ من قدرة الله، ويجعل للأسباب قوة ملزمة لله..
وهذا رأى لا نسلّم به، ولا نرتضييه رأيا يراه المسلم حيث لا نرى فى التلازم بين الأسباب والمسببات ما يراه الأشاعرة، من أن فى ذلك تحديدا لقدرة الله..
فالله سبحانه وتعالى، قد أقام الوجود على نظام، وأجراه على سنن أودعها فيه.. كما يقول سبحانه: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) .. فإذا كان من نظام الكون الذي أوجده الخالق جل وعلا، أن الشمس تطلع من الشرق، وأن الأرض تدور(8/679)
حولها.. فهل فى هذا تحديد لقدرة الله؟ وهل فى خضوع هذه الأكوان لهذا النظام المودع فيها إلا استجابة لقدرة الله، وخضوع لمشيئته؟
وللفيلسوف المسلم «محمد إقبال» رأى يجرى مع رأى الأشاعرة، فى نتائجه ولكنه يختلف معهم فى مقدماته.
فإقبال يرى أسبابا قائمة فى الأشياء.. ولكنه يرى- مع هذا- أن الأسباب تعمل فى ظل قدرة، حكيمة، عليمة.. ومن ثمّ فإن الحوادث التي تنتجها الأسباب ليست مواليد آلية، جاءت متكررة، وإنما كل حادثة لها ذاتية مستقلة.. إنها خلق جديد، تقوم القدرة الإلهية على إبداعه وتكوينه..
«الأشاعرة» لا يعترفون بوجود أسباب مطلقا.. وإنما يقولون بالخلق المتجدد من غير أسباب! و «إقبال» يقول بالأسباب، ولكنها- فى رأيه- أسباب يقظى واعية، تتخلق منها الحوادث، تخلقا يحفظ لكل حادثة ذاتيتها المستقلة..
فلا تنتظم فى ركب حوادث صماء متتابعة، متماثلة.. لا نهاية لها..!
يقول «إقبال» :
«فتقدير شىء ما، ليس قضاء غاشما يؤثّر فى الأشياء من خارج..
ولكنه القوة الكامنة، التي تحقق وجود الشيء وممكناته التي تقبل التحقّق، والتي تكمن فى أعماق طبيعته، وتحقق بالتالى وجودها فى الخارج، دون إحساس بإكراه من وسيط خارجى..
«ومن ثمّ فإن تكامل وحدة الديمومة، لا تعنى أن هناك حوادث تامة التكوين، أشبه بأن تكون فى أحشاء الحقيقة، لتسقط منها واحدة واحدة، كما تسقط حبات الرمل فى الساعة الرملية!!(8/680)
«والواقع أن كل نشاط خالق، هو نشاط حرّ.. فالخلق يضاد التكرار، الذي هو من خصائص الفعل الآلى..» «1»
والذي نود أن نقرره، هو أن فى كل شىء أسبابا مودعة فيه، وأن الأسباب تنتج مسبباتها، عند تحريكها بأسباب أخرى مناسبة لها..
أما التلازم بين الأسباب والمسببات، فليس يعنينا أن يكون هذا التلازم محكما مصمتا لا يتخلف، أم أن تكون فيه خلخلة تسمح بتخلف المسببات عن الأسباب، ما دمنا نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى، هو خالق الأسباب، وهو خالق المسببات! والتلازم أو غير التلازم هو مما قضت به حكمته، وشاءته مشيئته وعلمه..
ولكن الذي يجب أن نعرفه، وأن نقيم وجودنا عليه، هو أن ملاك أمرنا فى هذه الحياة قائم على أن نحرك الأسباب المودعة فى الأشياء، على الوجه الذي اهتدت إليه عقولنا، وأن ننتظر النتائج المقدرة لهذه الأسباب، على حسب ما نتوقعه ونرجوه منها.
فنحن نبنى حياتنا على المستقبل أكثر من الحاضر الذي نعيش فيه.. وهذا المستقبل إنما نبنيه على أسباب نحركها ونرقب ثمرتها.. إننا نزرع وننتظر الحصاد، وهيهات أن يزرع زارع ولا يجنى ثمرة ما زرع، وهيهات أن نجنى ثمرا دون أن نزرع ما يعطى هذا الثمر!! يقول الفيلسوف «إقبال» :
«فالنفس وهى مطالبة بالعيش فى بيئة مركبة.. لا تستطيع أن تحتفظ
__________
(1) تحديد التفكير الديني الإسلامى.. لإقبال ص 61.(8/681)
بوجودها فى تلك البيئة دون أن تردها إلى نظام يعطيها- أي النفس- نوعا من الضمان فيما يتعلق بسلوك الأشياء الموجودة حولها..
«وعلى هذا، فإن نظر النفس إلى بيئتها باعتبارها نظاما (مكونا) من علة ومعلول، هو وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها..
«والواقع أن النفس- بتأويلها للطبيعة على هذا النحو- تفهم بيئتها، وتسيطر عليها، فتحصل بهذا على حريتها، وتزيدها قوة ونماء» «1» .
() ونود هنا أن بعد هذه المقدمة، أن ندير النظر إلى قصة موسى والعبد الصالح..
ففى هذه القصة درس عملىّ ينكشف منه وجه القضاء والقدر، ومدى ما يمكن أن تطوله يد الإنسان، وتبلغه قدرته، تحت سلطان القضاء والقدر، وما يعمل فيه الإنسان من أسباب، وما يقع له من مسببات..
لقد كان موسى فى هذه القصة، ممثلا للإنسانية فى حدودها التي أقامها الله عليها، وفى تصرفاتها مع الأشياء على مقتضى ما تعلم منها بإمكانياتها المحدودة، على حين كان العبد الصالح، ممثلا للعالم العلوي، عالما ما وراء المحسوس، يستملى معارفه من عالم النور.. فيرى بعين الغيب، عواقب الأمور، ويصل إلى نتائجها الحاسمة، قبل أن تتحرك الأسباب، وتتولد المسببات!.
موسى يمثّل الإنسان، من حيث هو كائن محدود القدرة، لا يرى من الأشياء إلا ما على السطح، أو ما وراء السطح بقليل.. أما أعماق الأشياء
__________
(1) تجديد التفكير الديني الإسلامى ص 124.(8/682)
وأما صميمها، فليس له إليها سبيل مهما يبلغ علمه، ومهما تكن معارفه.. إن له حدودا لا يتجاوزها، وله مجالات لا يخرج عليها، وهو فى هذه الحدود يعمل، وفى هذه المجالات يتحرك- حسب تفكيره وتقديره..
ثم مع هذا، فإن الأشياء تتحرك حركتها المقدورة لها.. وهى حركات قد تتفق مع حركات الإنسان، وقد لا تتفق..
والشيء الذي ينبغى أن نؤكده، هو أن العلم والمعرفة، يكشفان للإنسان من حقائق الأشياء، بقدر ما يحصّل الإنسان منهما.. فكلما ازداد علما ومعرفة اتسعت أمامه الآفاق التي ينظر فيها إلى هذا الوجود، وتكشف له حقائق كثيرة كانت محجوبة عنه وراء هذه الآفاق التي أخفاها عنه الجهل، وضآلة المعرفة..
والذي نودّ أن نؤكده أيضا، هو انه مهما بلغ الإنسان من العلم والمعرفة فلن يبلغ من العلم بحقائق هذا الوجود، إلا قدرا ضئيلا، لا يعدل حبّة رمل من هذا الكون العظيم.. والله سبحانه وتعالى يقول. «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (85: الإسراء) .
وهنا نستطيع أن نحدد مكان الإنسان من القدر، ونتعرف إلى المجال الذي يعمل فيه كل منهما: الإنسان والقدر..
فالقدر هو «دولاب» ينتظم الوجود كله، وتتحرك كل أجزائه، حسب القوى التي أودعها الخالق جل وعلا فى كل موجود.. وكل موجود يتحرك حركته فى الاتجاه، وفى المدى المقدور له.. وأقرب شبه لهذا ما نرى فى «دولاب» بخارى أو كهربىّ، يدور يجميع أجهزته وأجزائه، ثم إن جميع هذه الأجهزة، وتلك الأجزاء، مع اختلاف حركاتها تحقق آخر الأمر غاية واحدة،(8/683)
وتعمل جميعها لهدف واحد.. فلا يرى الرائي منها إلا حركة واحدة، وإلا اتجاها واحدا.. هكذا يرى المهندس الميكانيكى أو الكهربى حركات الجهاز، الذي يقوم عليه، ويديره.. إنه يعرف وضع كل قطعة منه، كما يعرف وظيفتها ودورها الذي تؤديه..
أما من ينظر إلى هذا الجهاز نظرا سطحيا بغير علم، فإنه لا يرى فيه إلا أشياء صاخبة مضطربة، يضرب بعضها وجه بعض! كذلك هذا الوجود الذي نحن فيه، وهذا العالم الذي تقلّنا أرضه، وتظلنا سماؤه- حيث ننظر، فلا نرى- لعلمنا القاصر.. إلّا فوضى، وإلا اضطرابا، وإلا تخالفا وعنادا بين كل موجود وموجود، الأمر الذي يوقع بين الموجودات هذا الصراع الحادّ المتصل.. سواء فى ذلك عالم الجماد، وعالم الأحياء.. فالبحر تهيجه العواصف وتثيره الرياح، وهو بالتالى يصخب ويموج، ويضرب بأمواجه العاتية فى أصول الجبال، فتتصدع وتنهار.. والجبال بدورها، تتصدى للرياح العاتية فتلطم وجهها، وللسحب السائرة، فتمزّق أوصالها، وتلقى بها تحت أقدامها.. وكذلك الشأن فى عالم النبات والحيوان، والإنسان.. هى فى صراع دائم، فيما بينها وبين الموجودات القريبة أو البعيدة منها.. والإنسان بخاصة يواجه الموجودات كلها، ويدخل معها جميعها فى صراع، لا يلقى معها سلاحه إلا إذا استسلمت له، وأعطته ولاءها..
هكذا يبدو الوجود غارقا فى الفوضى، لمن ينظر إليه نظرا شاردا، لا يستصحب معه فيه عقله، ولا يفتح له قلبه..
أما حقيقة هذا الوجود، فهو نظام محكم دقيق، وتناغم منسجم رائع، وتجاوب بين كل ذرة من ذراته، وكل موجود من موجوداته.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ(8/684)
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ»
(3- 4: الملك) ..
أرأيت إلى جماعة كبيرة من العازفين على مجموعات متعددة من آلات الموسيقى، يقومون على أداء لحن رائع منسجم متناغم؟
إن الذي لا يحسن لغة الموسيقى، ولا يعطى أذنه وقلبه لهذا اللحن الذي يجتمع من هذه الأنغام التي ترسلها أيدى العازفين، وأفواههم وأرجلهم، من تلك الآلات التي يقومون بالأداء عليها- لا يرى إلّا فوضى مجنونة متخبطة، ولا يسمع إلا ضجيجا وصخبا وتلاطما.. أما حقيقة الأمر، فهو- عند الموسيقى- على خلاف ذلك تماما.. إنه يرى تآلفا وتلاقيا، ويسمع تجاوبا وتناغما، فيجد لذلك روح روحه ونشوة فؤاده، ويقظة وجدانه..
ذلك أشبه شىء بالوجود فى نظر من يعلم ومن لا يعلم! وننظر مرة أخرى إلى ما كان بين موسى والعبد الصالح..
لقد كان موسى يسير فى اتجاهه الإنسانى.. ويأخذ طريقه على قدر ما ينكشف له من عوالم الوجود..
على حين كان العبد الصالح يسير فى اتجاه الدولاب القدرىّ.. ويأخذ الأمور على الوجه الذي تستقيم فيه مع حركة هذا الدولاب القدرىّ.. وقد وقع الصّدام، بل والصراع بين الاتجاهين..
والواقع أنه لم يكن ثمة خلاف بين هذين الاتجاهين.. إذ كل منهما منته إلى نهاية واحدة، يلتقيان عندها..
وكل ما فى الأمر، أن الحركة القدرية فى هذه المرحلة القصيرة التي صحب فيها موسى صاحبه، قد وجدت فى العبد الصالح مفسّرا لها، وكاشفا عن وجهها، ولولا هذا لظلّت فى عينى موسى وفى تفكيره قدرا لا يدرى له مفهوما، ولا يعرف(8/685)
له متأوّلا.. تماما كما يقع لعينى الإنسان منا كلّ يوم من مئات الأحداث، فى نفسه، وفى غيره، دون أن يعرف وجه الحكمة فيها.. ولو أننا وجدنا مثل العبد الصالح من يكشف لنا عما وراء هذه الأحداث، لما أصابنا همّ، ولما بتنا على قلق، لما وقع أو يتوقع من سوء، وما نزل أو ينزل من مكاره، ولظهرت لنا هذه الأحداث آخذة أتمّ وضع وأصلحه لنا، ولنظام الوجود العام كله.. وهذا ما تشير إليه المأثورة الإسلامية: «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع» ! وإذن.. فالماديون الذين ينكرون القدر، هم محقّون ومبطلون فى آن..
هم محقون، لأن كل ما ينسب إلى القدر، ويضاف إليه، ليس شيئا خارجا على سنن الكون، ولا مطلقا من العلل والأسباب التي تحكم الوجود وتمسك بكل موجود.. وغاية ما فى الأمر، أن هذه العلل، وتلك الأسباب مطوية عنّا، بعيدة عن واقع علمنا، وأنها لو انكشفت لنا لما كان فيها إلا ما نراه فى كل أمر نعلم حقيقته، ونعلم العلل والأسباب المتحكّمة فيه..
وهم مبطلون.. لأن العلم الذي فى أيديهم، والذي يستطيعون به النظر فى الوجود- هو علم قاصر محدود، لا يحمل من الطاقات الضوئية، إلا شعاعات باهتة متكسّرة، لا تنفذ إلى أعماق الوجود، ولا تكشف إلا بعض ما يظهر على حافانه وحواشيه.. وعلى هذا، فإنه ستظل موجودات الوجود كلها- فيما عدا هذه القشور منها- بعيدة عن متناول العلم، مجهولة الأسباب والعلل.. وهى التي تطلع علينا حين تطلع، قدرا مقدورا.. لا نعرف لها تأويلا، ولا ندرى لها تفسيرا! والعبرة الماثلة لنا من قصة موسى والعبد الصالح، هى أن نلزم أنفسنا الأخذ بالأسباب الظاهرة لنا، وأن نصرّف أمورنا بمقتضى هذه الأسباب التي تقع فى(8/686)
تفكيرنا وتقديرنا، وألا نتطلّع إلى ما وراء ذلك.. ففى هذا- وفى هذا وحده- ضمان لاستقامة تصرفاتنا، مع ما يصلح عليه أمرنا، وأمر المجتمع الإنسانى الذي نعيش فيه..
إن القوى المحدودة التي أودعها الله فينا، هى التي تتفق اتفاقا تامّا مع الوجود الذي أقامنا الله عليه، ومع الموجودات التي أوجدنا الله معها..
فجوارحنا، ومدركاتنا، مضبوطة على أعدل وضع يمكن أن يعطينا من الحياة أكبر قدر يمكن أن نأخذه منها، وأن ننتفع به على الوجه الملائم لنا..
ولو خرجت مدركاتنا وحواسنا عن هذا المعدّل- بالزيادة أو النقص- لاضطرب وجودنا، وفسد نظام حياتنا..
فالماء الذي نشربه، والذي نراه نظيفا، سائغا- إذا نظرنا إليه بما وراء أبصارنا- كالمجهر مثلا- رأيناه مسبحا لجيوش كثيرة من الحيوانات.. وهو بهذه النظرة يتحول- فى تصورنا- من طيّب سائغ، إلى ماء تعافه النفس، وتقزّز منه، وتموت عطشا دون أن تقدم على شربة منه..
وكذلك قل فى كل ما نأكل وما نشرب. إننا لا نرى فى مأكولنا ومشروبنا ما نكره، ولكنا إذا نظرنا إليه بعيون مجهريّة، تبين لنا أن هناك عوالم سابحة فيه، من غرائب المخلوقات، تأخذ طريقها إلى جوفنا، دون أن نراها، فلا يهنئونا مع ذلك طعام، ولا يسوغ لنا شراب! وقل مثل هذا فى المسموعات، والمشمومات والمذوقات، إذا نحن جئناها بحواس أقوى أو أضعف من حواسّنا.. إنّها تقع منا موقعا بغيضا كريها..
من الخير إذن، ومن الرحمة بنا أن نعيش فيما خلقنا الله بما خلقنا به، وألّا نذهب إلى أبعد مما قدّر لنا.. بل نجعل الأسباب المعروفة لنا، هى الأساس الذي نتصرف بمقتضاه، فى تعاملنا مع الحياة، وملابستنا للموجودات.. ثم ليكن(8/687)
قبل هذا كلّه، إيماننا بقدرة الخالق، وبتقديره لكل شىء، وأننا إنما نعمل لنحقق إرادته مما أودع فى الكائنات من أسباب، وبما جعل لها من مسببات..
فهذا الإيمان هو الذي يسند الإنسان فى صراعه مع الحياة، وهو الذي يشدّ عزمه، ويدفع به إلى غايات لا يتطلع إليها أولئك الذين فقدوا هذا الإيمان..
وشتّان بين من يعمل، وهو على يقين بأنه فى رعاية ربّ الأرباب، وأقوى الأقوياء، وبين إنسان يعمل معزولا عن الشعور بهذا الإيمان.. يعمل فى حدود جهده البشرى المحدود، دون سند أو ظهير! إن النعمة فى كل صورة يتلقاها المرء عليها، لا يدخل منها على قلب المؤمن بالقدر، زهو ولا خيلاء.. لأنها من عند الله! وإن البلاء، والشدّة، والضرّ.. لا يقع منها على قلب المؤمن بالقدر، يأس ولا قنوط من روح الله.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» .. الكافرون بالله، وبما قدّر الله! والقدر بهذا المفهوم لا يخلى الإنسان من مسئولياته، إزاء الحياة، وإزاء التكاليف المنوطة به فيها.. فهو مطالب بأن يجهد جهده، ويبلى بلاءه فى كل أمر يعرض له، وأن يلقاه بكل حوله وحيلته، وأن يجىء إليه بعلله وأسبابه، التي يراها ويقدّرها.. فإن هو فرّط أو قصّر، كان ملوما، وكان أهلا للجزاء الذي يناسب تفريطه، وتقصيره.
فليس إيمان المؤمن بالقدر، وبأنه صائر آخر الأمر إلى المصير المقدور له- ليس هذا الإيمان بالذي يخلى المؤمن من المسئوليات المنوطة به.. فهو مطالب بأن يقدّر ويفكر، ويدبّر، ويعمل بالقدر الذي يسعفه به تفكيره، ويحتمله جهده..(8/688)
وهذا- على الأقل- هو الذي يعفيه من المسئولية أمام عقله وضميره! وفى نظرة الإسلام إلى القدر، تلك النظرة التي يبدو منها القدر غائبا كحاضر- فى هذه النظرة يقوم القدر على الناس، سلطانا رحيما، يفيئون إلى ظلّه الظليل، إذا هم أضناهم السير ولفحهم الهجير وأقعدهم الإعياء! فالقدر فى التفكير الإسلامى، لا يلتقى به المسلم إلا عند آخر المطاف من سعيه الذي سعى، وعمله الذي عمل، لا أن يقدّمه بين يدى كل عمل، فإن هذا من شأنه أن يقعد بالإنسان عن أن يعمل أو أن يسعى، تاركا زمامه للقدر، يتصرّف كيف يشاء..
وفى هذا اللقاء الذي يلتقى فيه الإنسان مع القدر- بعد كل عمل لا قبله- فى هذا اللقاء يلقى الإنسان بوجوده كلّه، وبما أصاب، أو أصيب به- يلقى بهذا كله فى ساحة القدر! فإن يكن قد أصاب خيرا لم يقل قولة قارون من قبل: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (78: القصص) بل يقول قولة المؤمنين الشاكرين: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) .
وإن أصابته مصيبة، أو مسه ضر، لم يقل: «أَنَّى هذا؟» (165: آل عمران) .
بل يقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (156: البقرة) أو يقول:
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» (18: يوسف) .
أما غير المؤمن، فإنه لا يلتقى بهذا الوجه الكريم فى السراء أبدا، ولا يتلقّى هذا العزاء الجميل فى الضراء أبدا..(8/689)
إنه إن أصاب خيرا، أشر وبطر، وطغى وبغى، وإن أصابته مصيبة احترق بنارها، كمدا وحسرة، دون أن يجد لمصيبته عزاء من إيمان، أو مواساة من قدر! وانظر إلى هذا العزاء الجميل الذي عزّى الله سبحانه وتعالى به النبىّ والمؤمنين فيمن أصيبوا فيهم من الشهداء فى غزوة أحد: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (156: آل عمران) .
و «لو» هذه، هى التي تدمى قلوب الذين لا يؤمنون بالله، ولا يستسلمون لقدر الله، فى أعقاب الشدائد والملمات، وهى التي تنكأ جراحهم كلما عملت يد الزمن على التئامها! وفى الحديث الشريف كما رواه مسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شىء فلا تقل: لو أنى فعلت كان كذا وكذا؟! ولكن قل: قدّر الله، وما شاء الله فعل.. فإن لو تفتح عمل الشيطان» .
وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو أن الرضا، الذي يستقبل به المؤمن ما يقع من مقدرات القدر- ليس هذا الرضا عن قهر وإلزام، وإنما هو عن إرادة واعية مدبّرة مقدّرة.. ذلك أنه ليس من الدين، ولا فى الدين- أعنى الإسلام- ما يحول بين الإنسان وبين حقه الطبيعي، فى معالجة الواقع، وفى محاولة تغييره يكل ما يملك من وسائل كريمة سليمة، ناظرا إلى الله، طامعا فى رحمته، مستمدا العون والتوفيق من لدن رب رحيم كريم..(8/690)
إن الرضا بالواقع الكريه البغيض، ليس فى الإسلام، ولا من الإسلام..
لأن ذلك معناه إهدار لعقل الإنسان أن يفكر، وتعطيل لإرادته أن تعمل ووقوف بالحياة أن تتحرك، بل وتمكين للشر أن يستشرى، واعتراف للباطل أن يقيم حيث شاء.. آمنا مطمئنا، لا يلقاه أحد بإنكار، ولا يزعجه منكر بسوء! ..
وكلّا.. فإن هذا غير سبيل الأحياء فى الحياة، كما هو غير سبيل الدّين والمتدينين..
وتاريخ الإسلام، يحكى فصولا طويلة، مثّل فيها هذا الدور الغبىّ الدخيل على الإسلام، فقتل فى الناس الهمم الصادقة، وأطفأ من صدورهم وقدة العزمات المتوثبة لملاقاة البغي وردع الباغين.. وذلك حين قام فى الناس من يدعونهم إلى الاستسلام للقدر، والرضا بالمقدور.. وتلك كلمة حق أريد بها باطل..
إذ كانت أشبه بمخدّر ثقيل، أمات فى الناس مشاعر الإحساس بكل ظلم، فاستساغوا طعمه، واستناموا فى ظلّه، يجترّون كل ما يلقى إليهم من عسف، وما يساق إليهم من بلاء.. وإنه لولا هذا ما استطال حكم أمراء السوء، ولا امتدّ سلطان الملوك والسلاطين الباغين المفسدين، دون أن يلقاهم أحد بنكير، أو يؤاخذهم مؤاخذ بما اقترفوا من مظالم، وما ارتكبوا من آثام..
إن مهمّة الرسل، والمصلحين فى الناس، إنما هى فى صميمها ثورة على أوضاع قائمة جائرة، وحرب على مظالم صارخة، هى فى نظر الحق والعدل منكرات يجب أن تزول، وهى عند البغاة والمتسلطين حق مشروع، ثم هى عند أدعياء الإيمان قدر مقدور! ولا نريد أن ندع هذا البحث فى «القضاء والقدر» قبل أن نذكر رأيا(8/691)
«لابن القيّم» فى هذه القضية، يعتبر- فى رأينا- مقطع الفصل فيها، عند المؤمنين بالله، وبما لله من أحكام فى عباده..
يقول ابن القيّم فى كتابه: «روضة المحبين» :
«فأحكام العالم العلوىّ والسّفلىّ وما فيهما، موافقة للأمر..
إما الأمر الدينىّ، الذي يحبّه الله ويرضاه، وإما الأمر الكونىّ الذي قدّره وقضاه..
«وهو سبحانه لم يقدّره- أي الأمر الكونىّ- سدى، ولا قضاء عبثا، بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة، وما يترتب عليه من أمور، يحبّ غاياتها وإن كره أسبابها ومبادئها..
«فإنه.. سبحانه وتعالى- يحبّ المغفرة، وإن كره معاصى عباده، ويحبّ الستر، وإن كره ما يستر عبده عليه، ويحبّ العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار.. ويحب العفو، وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار.. ويحبّ التوّابين وتوبتهم، وإن كره معاصيهم التي يتوبون إليه منها.. ويحب الجهاد وأهله، بل هم أحبّ خلقه إليه، وإن كره أفعال من يجاهدونهم..
ثم يقول:
«وهذا باب واسع، قد فتح لك، فادخل منه، يطلعك على رياض من المعرفة مونقة، مات من فاتته بحسرتها، وبالله التوفيق.
ثم يقول:
«وسرّ هذا العباب، أنه- سبحانه- كامل فى أسمائه وصفاته، فله الكمال المطلق، من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه ما..(8/692)
وهو- سبحانه- يحبّ أسماءه وصفاته، ويحبّ ظهور آثارها فى خلقه، فإن ذلك من لوازم كماله..
فإنه- سبحانه- وتر يحبّ الوتر.. جميل، يحبّ الجمال.. عليم، يحبّ العلماء.. جواد، يحبّ الأجواد.. قوىّ، والمؤمن القوىّ أحبّ إليه من المؤمن الضعيف.. حيىّ، يحبّ أهل الحياء.. وفىّ، يحبّ أهل الوفاء.. شكور، يحبّ الشاكرين.. صادق، يحبّ الصادقين.. محسن، يحبّ المحسنين..
«فإذا كان- سبحانه- يحبّ العفو، والمغفرة، والحلم، والصفح، والستر- لم يكن بدّ من تقدير الأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها، ويستدلّ بها عباده على كمال أسمائه وصفاته، ويكون ذلك أدعى إلى محبته، وحمده، وتمجيده، والثناء عليه بما هو أهله.. فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق.. وإن فاتت من بعضهم، فذلك الفوت سبب لكمالها وظهورها..
«فتضمّن ذلك الفوت المكروه له- سبحانه- أمرا هو أحبّ إليه من عدمه! «فتأمّل، هذا الموضع حق التأمل..
«وهذا ينكشف يوم القيامة للخليقة بأجمعهم، حين يجمعهم فى صعيد واحد، ويوصّل لكل نفس ما ينبغى إيصاله إليها من الخير والشرّ، واللذة والألم، حتى مثقال الذّرة، ويوصّل كلّ نفس إلى غاياتها التي تشهد هى أنّها أولى بها..
«فحينئذ ينطق الكون بأجمعه، بحمده، تبارك وتعالى، قالا (أي قولا) وحالا، كما قال سبحانه وتعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» فحذف(8/693)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
فاعل القول، لأنه غير معيّن، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه.. فيحمده أهل السموات، وأهل الأرض، والأبرار والفجّار، والجنّ والإنس.. حتى أهل النار! قال (الحسن البصري) وغيره: «لقد دخلوا النار وإن حمده لفى قلوبهم» ..
«وهذا- والله أعلم- هو السر، الذي حذف لأجله الفاعل، فى قوله:
«قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» وقوله: «وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» كأنّ الخلق كله، نطق بذلك وقاله لهم.. والله تعالى أعلم بالصواب» ا. هـ
الآيات: (83- 98) [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)(8/694)
التفسير:
الذّكر: الخبر، والحديث عن الأمر بما يذكّر به.
مكنّا له فى الأرض: جعلنا له مكانا ذا سلطان فيها..
السبب: ما يتوصل به إلى أمر من الأمور.. وهو فى الأصل: الحبل الذي يصل شيئا بشىء.. ويقال للباب الذي يدخل منه إلى المكان: سبب..
عين حمئة: الحمأة: الطين الأسود، والعين الحمئة: التي اسودّ ما فيها من طين.. وقرىء: «عين حامية» أي شديدة الحرارة.. كما فى قوله تعالى:
«وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ» .
(8- 11: القارعة) السّدّان: مثنىّ سدّ، والسدّ: الحاجز بين الشيئين، ويسمى الجبل سدّا، لأنه يحجز بين ما بين يديه وما خلفه.
زبر الحديد: القطع العظيمة منه.. واحدتها زبرة: كغرفة.
الصّدفان: مثنىّ صدف، والصّدف جانب الجبل، ولا يقال له صدف حتى يكون فى مقابله صدف آخر.. فكأن أحدهما صادف الآخر، وقابله.(8/695)
القطر: النحاس المذاب، لأنه يقطر كما يقطر الماء.
أن يظهروه: أي أن يتسلقوه، ويركبوا ظهره، لملامسته وارتفاعه..
النقب: الثقب والخرق فى الجدار، ينفذ من جانبه إلى الجانب الآخر..
[ذو القرنين.. من هو؟ وما شأنه؟]
فى الخمس عشرة آية السابقة قصّة رجل ذى شأن عجيب، بين يديه قوّى، ومعه سلطان، قلّ أن يقع مثلهما ليد إنسان.. وسمى ذا القرنين لبلوغه المشرق والمغرب، فكأنه حاز قربى الدنيا.
ومن أجل هذا كانت المناسبة قوية بين قصة هذا الرجل، وبين قصة العبد الصالح.. صاحب موسى، فجاءت هذه القصة وراء قصّة العبد الصالح، تالية لها.
ثم إنه- مع هذا- يوجد بين القصّتين، أكثر من وجه من وجوه الشبه..
فأولا: العبد الصالح، وذو القرنين، كلاهما ممن اختصه الله سبحانه وتعالى بشىء من فضله ورحمته..
فالله سبحانه وتعالى يقول عن العبد الصالح: «عَبْداً مِنْ عِبادِنا.. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» .
ويقول جل شأنه فى ذى القرنين: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» .
والفرق بين الرجلين فيما اختصهما الله تعالى به، أن ما أصاب العبد الصالح من فضل الله، كان علما لدنّيّا، ارتقى به فوق مستوى العلم البشرى، على حين أن ما أصاب ذا القرنين كان تمكينا فى الأرض، وهداية إلى الأسباب التي تدعم هذا التمكين، وتحرسه من الآفات التي تجعل من تلك القوة الممكنة،(8/696)
أن تكون أداة بغى وعدوان.. فكان بهذا على مستوى من الحكمة والتدبير وحسن السياسة للملك، بما يكاد يتفرد به بين أصحاب الملك والسلطان..
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن العبد الصالح نسيج وحده فى العلم الذي معه، وإن ذا القرنين، نسيج وحده كذلك فى دنيا الملوك والسلاطين، أصحاب الجاه والسلطان..
وثانيا: الأحداث التي اشتملت عليها كلتا القصتين..
ففى كل منهما ثلاثة أحداث، هى التي كشف عنها القرآن من أمر صاحبى القصة..
فخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.. هى الأحداث الثلاثة التي جرت على يد العبد الصالح..
وبلوغ مغرب الشمس، وبلوغ مشرقها، وإقامة السدّ.. هى أحداث ثلاثة، من أحداث ذى القرنين..
ثالثا: تحركات الرجلين..
كانت لكل منهما ثلاثة منطلقات.. كل منطلق إلى غاية من الغايات الثلاث، التي تولد من كل غاية منها حدث..
فالعبد الصالح، ينطلق فى كل مرّة، ومعه صاحبه موسى.. وكأن موسى هو السبب الذي كان عنه منطلقه إلى كل غاية من غاياته الثلاث: «فانطلقا» ..
«فانطلقا» .. «فانطلقا» .
وذو القرنين، ينطلق فى كل مرة، ومعه سبب، يتبعه سبب، حتى يبلغ غايته.. «فَأَتْبَعَ سَبَباً» .. «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» .. «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» !(8/697)
ورابعا: أسباب العبد الصالح، تجرى على مستوى قدرى، فوق مستوى البشر..
أما أسباب ذى القرنين فتجرى على مستوى العقل البشرى، حيث يأخذ الأمور بأسبابها الظاهرة التي تبدو لعين العاقل، البصير، العالم..
ومع هذا، فإن أسباب كلّ منهما تلتقى عند نهايتها بما هو مطلوب ومحمود..
وهذا يعنى أن مستوى البشرية، يستطيع أن يرتفع بما يكتسب من العلم والمعرفة إلى حيث يجرى فى طريق مستقيم، تتكشف فيه لبصيرته مواقع الحق والخير، فلا يخطىء الغاية، ولا يضل السبيل..
وهذا يعنى من جهة أخرى أن العلم المكتسب: إذا صادف قلبا سليما، وعقلا حكيما، ونفسا مطمئنة، كان أشبه بما يفاض على الإنسان فيضا، مما يفتح الله للناس من رحمته، فضلا، وكرما، من غير كسب! ذلك أن فى الإنسان- كل إنسان- قبسة من العالم العلوىّ إذا أمدّها الإنسان بالسعي والجدّ فى تحصيل المعرفة، ونفخ فيها من روحه وعزمه، ظلت مضيئة مشرقة، ثم ازدادت مع السعى والجدّ ضياء وإشراقا..
أما إذا أهمل الإنسان هذه القبسة العلوية التي فى كيانه، ولم يمدّها من ذات نفسه بالوقود المناسب لها، خبت، ثم انطفأت وخمدت! «تساؤلات.. وتصورات» وفى أحداث القصة أمور لفتت إليها الأنظار، وأثارت كثيرا من التساؤلات، التي أدت بدورها إلى كثير من المقولات المتضاربة، الناجمة فى(8/698)
أكثرها عن تصورات وأوهام: دون أن يكون لها مستند من واقع، ولا قبول من عقل، ولا إجازة من منطق..
ومن هذه التساؤلات، والمقولات، ما دار حول ذى القرنين والأسباب التي معه، ومغرب الشمس ومطلعها، ويأجوج ومأجوج، والسدّ الذي أقيم دونهم..
فكل أمر من هذه الأمور أصبح قضية، كثر المتخاصمون فيها، وكثرت مدّعيات كل طرف من أطراف الخصومة عليها، بحيث كان على من يريد النظر فى أية قضية منها، أو أن يتعرف على وجه الرأى فيها- أن يستمع إلى عشرات الأقوال المتناقضة، التي يدعمها أصحابها بأحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبآراء تستند إلى الأجلاء الأعلام من صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، كعلىّ بن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، وابن عباس..
وغيرهم..
ولا نريد أن نشغل أنفسنا بهذه المقولات، ما صح منها وما لم يصح..
وذلك لأمرين:
أولهما: أن أية مقولة تقال فى هذه الأمور، لا تزيد من قيمتها، ولا تنقص من قدرها فى ميزان العبرة والعظة الماثلة منها.. إذ لا تعدو هذه المقولات التي قيلت أو تقال فى هذه المسميات أن تكون ذيولا وإضافات، لا تغير شيئا من ذات المسمّى.. تماما كالاسم الذي يطلق على المسمى.. إنه ليس أكثر من إشارة يشار بها إليه، أو رمز يستدل به عليه!! أما ذاته وحقيقته، فلا يؤثر فيها الاسم الذي يطلق عليها، ولا يغير من صفتها شيئا..
وثانيهما: أن هذه المقولات مبثوثة فى كتب التفاسير، والحديث، والقصص.. بحيث لا يحتاج الأمر فى الوقوف عليها عند من يهمّه أمرها، إلى(8/699)
كبير مشقة.. فما هى إلا أن يمد يده إلى أي كتاب منها حتى يقع على ما يريد وأكثر مما يريد! وعلى هذا، فإننا سنقتصر على إشارة دالة على كل مشخص من هذه المشخصات، حسب مفهومنا له..
فأولا:
(ذو القرنين)
هو الإسكندر الأكبر، ملك مقدونيا، من بارد اليونان.. والذي استطاع أن يضم بلاد اليونان كلها إلى ملكه الذي ورثه عن أبيه، ثم استطاع كذلك أن يوسع دائرة مملكته شرقا وغربا، حتى ضمّ إليه بفتوحاته معظم العالم المعمور الذي كان معروفا فى وقته.. فبلغ الصين والهند شرقا، ودارت فى فلك دولته قرطاجنة، ومصر، والشام، والعراق، وإيران، وأفغانستان، والهند، وأطراف الصين..
أما سبب امتداد ملكه جهة الشرق لا الغرب، فلأن الشرق فى ذلك الحين، كان هو مركز النشاط الإنسانى، ومطلع العلوم والفنون، والآداب، وكان هو الذي يناظر بلاد اليونان التي كانت الشعلة المضيئة فى الظلام المنعقد على أوربا فى ذلك الحين.. ولهذا كان الاحتكاك دائما فى هذه العصور الغابرة، واقعا بين بلاد اليونان، وفارس، وما بينهما..
وقد تتلمذ الإسكندر على الفيلسوف اليوناني العظيم، أو المعلم الأول «أرسطو» .. وساعده نبوغه العبقري على أن يهضم فلسفة «أرسطو» فى فترة قصيرة، وأن يتمثلها تمثيلا صحيحا، وأن يصفّيها من كلّ شائبة.. فكانت تلك الفلسفة غذاء صالحا لهذا العقل السليم المتفتح لاستقبال كل ما يمدّه(8/700)
بطاقات من النور، تزداد بها بصيرته نفوذا إلى أعماق الأشياء، والوصول إلى لبابها..
فالإسكندر، بذكائه وعبقريته، وباستعداده الموروث للملك والسلطان- استطاع أن يحوّل فلسفة «أرسطو» إلى واقع عملىّ، وإلى قوة منطلقة معه لتحقيق آماله الكبيرة، وبناء هذه الدولة العظيمة التي تحركت لها همته، على أساس وطيد، من العدل والإحسان..
وذو القرنين- كما يذكره القرآن- رجل مؤمن بالله، التقى فيه هذا الإيمان بطبيعة قوية، تنفى الخبث، وتعاف المنكر من الأمور، وتأبى أن تنزل إلى ما يمسّ المروءة، ويجور على الشرف والكرامة..
فكانت خطواته كلّها قائمة على طريق الحق، والعدل، والخير..
والإسكندر، أشبه الناس بذي القرنين هذا فقد كان مؤمنا بالله، وقد فتح له الطريق إلى هذا الإيمان أستاذه «أرسطو» ، الذي كان موحّدا، يقول بالصانع الأول، وبالعقل الأول، وبالمحرّك الأول، وبالسبب الأول.. إلى غير ذلك من المقولات، التي تجعل على الوجود قوة عاقلة، يدور فى فلكها كل موجود! وإذا كانت تصورات «أرسطو» لله سبحانه وتعالى يحفّها الغموض، فإنها تصورات فى صميمها، تبلغ بمن يأخذ طريقه معها على هدى وبصيرة- إلى التصوّر الصحيح لله سبحانه وتعالى..
وليس بالبعيد أن يكون «الإسكندر» قد اهتدى فى طريقه إلى الله بما لم يهتد إليه أستاذه، فآمن بإله متفرد بكل كمال، منزّه عن كل نقص.. لا يشاركه أحد فى ملكه، مما كان يقول به أستاذه، وتقول به الفلسفة اليونانية، من العقول السبعة، النابعة من العقل الأول، والعاملة معه..!(8/701)
وعلى أىّ، فإن ذا القرنين، سواءا كان هو الإسكندر الأكبر، أو غيره من عباد الله، فإنه على صفتين:
أولهما: أنه ذو سلطان متمكن، وأنه- بما آتاه الله من عقل وحكمة، ومن ملك وسلطان- قد اجتمع له من الأسباب ما يمكّن له من الحصول على مسببات لم تجتمع ليد أحد غيره، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» وليس المراد بقوله تعالى: «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» العموم والشمول، لجميع الأشياء.. وإنما المراد به كل شىء يصلح به أمره، ويقوم عليه سلطانه.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان الهدهد عن ملكة سبأ: «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ» (23: النمل) ومثله قوله تعالى على لسان سليمان: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (16: النمل) .. فالمراد بكل شىء فى الموضعين: ما يصلح عليه الأمر، ويتم به نظام الحياة فى المستوي الطيب الكريم..
وثانية الصفتين اللتين يتصف بهما ذو القرنين: أنه مؤمن بالله وأنه أقام هذا الملك الواسع العريض على الحق، والعدل والإحسان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً»
فهو فى هذه الآيات يخاطب من الله وحيا أو إلهاما، كما أنه فى هذه الآية أيضا يقوم داعية لله يدعو إلى الإيمان بالله.. ثم هو مؤمن بالآخرة وبالجزاء الأخروي، يأخذ الكافرين بالله بالبأساء والضراء فى الدنيا، ثم يدعهم ليلقوا فى الآخرة العذاب الشديد النّكر الذي لا تعرفه الحياة، ولا يذوق مثله الأحياء فى الدنيا..
ومما يدل على إيمانه بالله، ما تكرر على لسانه من إضافته إلى ربّه..(8/702)
فيقول: «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ» .. ويقول: «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» ..
ويقول: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» .
[الأسباب التي بين يدى ذى القرنين]
والأسباب هى الوسائل التي يتوسل بها إلى نتائج ومسببات.. وقد تكون هذه النتائج، وتلك المسببات أسبابا إلى نتائج ومسببات.. وهكذا..
أسباب يتوسل بها إلى مسببات، ثم مسبّبات تكون وسائل يتوسل بها إلى مسببات.. ثم تكون هذه المسببات، وسائل إلى مسببات.. فى سلسلة تتصل حلقاتها، ويتكون من كل حلقة منها سلسلة من الأسباب والمسببات..
بحيث ترتبط أحداث الحياة كلها بهذه السلاسل، وتلك الحلقات، كما ترتبط بالشجرة أغصانها، وفروعها، وأوراقها.
وما آتاه الله سبحانه وتعالى ذا القرنين من أسباب لكل شىء..
هى تلك الوسائل السليمة الصحيحة، المؤدّية إلى مسبّبات طيبة كريمة، قائمة على الخير والإحسان..
وقد يكون للشىء أكثر من سبب، وأكثر من وسيلة يتوسل بها إليه..
وبعض هذه الأسباب سليم كريم، وبعضها ملتو خبيث..
فالحصول على المال مثلا، يمكن أن يتوسل إليه بالعمل الجادّ، وبالكسب الحلال، كما يمكن أن يتوسّل إليه بأسباب كثيرة فاسدة، كالسّرقة، والغصب، والاحتيال، والنصب، والغشّ، والرّبا.. ونحو هذا..
وفى قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» إشارة إلى أن الأسباب التي وضعها الله سبحانه وتعالى فى يد ذى القرنين، وأقام نظره وقوله عليها، هى الأسباب السليمة الصحيحة المعزولة عن الأسباب الفاسدة الظالمة.. وهذا(8/703)
هو السرّ فى النظم الذي جاء عليه النظم القرآنى، من إفراد كلمة «سبب» ، ليكون ذلك إشارة دالة على أنه سبب واحد، متخيّر من بين كل الأسباب، وأنه السبب الصالح السليم فيها، أو هو أصلح وأسلم الأسباب.. ويكون معنى النظم: «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» .. أي آتيناه سببا من كل شىء يعالجه، ويعمل فيه، وهو السبب الموصّل إليه على أكمل صورة وأعدلها.. وفى تنكير السبب، ما يغنى عن وصفه، إذ أن هذا التنكير يحمل فى كيانه- مع هذا الأسلوب الذي عليه النظم القرآنى- تنويها به، ورفعا لقدره، واستعلاء بمكانته بين الأسباب المتداخلة معه فى الوصول إلى الغاية المتّجه إليها..
(مغرب الشمس.. ومطلعها)
تحدثت الآيات عن بلوغ ذى القرنين مغرب الشمس، ومطلع الشمس..
وأنه تحرك غربا حتى بلغ مغرب الشمس، وتحرّك شرقا حتى بلغ مطلعها..
وقد حمل ذلك كثيرا من المفسّرين على الخوض فى تحديد المكان الذي تغرب فيه الشمس، والمكان الذي تطلع منه.. وكثير من الخائضين فى هذا الأمر كانوا على علم من هذا الذي نعلمه نحن اليوم من أمر الفلك، وأن الشمس لا تغرب أبدا.. وأنها إذا غربت من أفق من آفاق الأرض كانت فى شروق على أفق آخر من آفاقها..!
وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن غروب الشمس وشروقها، فهو حديث منظور فيه إلى الواقع المشاهد من حياتنا، فى تعاملنا مع الشمس.. فنحن نراها تغرب وتشرق كل يوم، على الأفق الذي نعيش فيه من الأرض..
فذو القرنين، يرى- كما نرى- الشمس تغرب وتشرق كلّ يوم.. وقد ذكر القرآن الكريم وصفا للمكان الذي بلغه ذو القرنين غربا، والذي كانت(8/704)
تغرب فيه الشمس، على مستوى نظره: «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» أي أنها كانت فى نظره تسقط وتختفى عند عين حمئة: أي عين ماء فيها طين قد اسودّ كثيرا، وكأنه الحمم.. أو هى «عين حامية» كما قرىء بها.. أي شديدة الحرارة.. وكما وصف القرآن الكريم هنا طبيعة الأرض التي تغرب فيها الشمس، وصف المجتمع البشرى الذي كان يعيش هناك، فقال تعالى: «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» ..
فهم قوم غير مؤمنين بالله..
أما مطلع الشمس، فلم يصف القرآن طبيعة الأرض التي تطلع منها، وإنما وصف طبيعة الجماعة الإنسانية كانت التي تقيم هناك.. فقال تعالى: «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً..» أي أنهم على حال من البدائية، بحيث لا يرتفعون كثيرا عن مستوى الحيوان. فهم عراة أو شبه عراة.. لا تكنّهم بيوت مصنوعة، ولا تسترهم ثياب منسوجة.. يأوون إلى الكهوف والمغارات.
ولهذا اختلف موقف ذى القرنين من الجماعة البشرية، هنا وهناك.. فالجماعة التي وجدها عند مغرب الشمس، كانت على مستوى من الفهم والإدراك، ولديها ما يؤهلها لأن تتحمل التكاليف، وتدعى إلى الإيمان بالله..
ولهذا، وقف عندها ذو القرنين، وامتثل ما أمره الله فيها بقوله سبحانه:
«يا ذَا الْقَرْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» فكان موقف ذى القرنين هنا جامعا الأمرين معا.. «أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» ..
أما الجماعة التي وجدها عند مطلع الشمس، وهى الجماعة التي كانت فى مرحلة الطفولة الإنسانية، فقد تجاوزها، ولم يقف طويلا عندها، ولم يعرض عليها(8/705)
الإيمان بالله، إذ كانت بحيث لا تعقل تلك الدعوة، ولا تجد لها مفهوما، فهى- والحال كذلك- لم تبلغ مبلغ التكليف بعد، وقد تركها تعالج أمورها على ما يقع فى تصورها الطفولىّ، حتى ينضجها الزمن، ويبلغ بها مبلغ الرجال! ولا نقع فيما وقع فيه الذين سبقونا من المفسّرين من الرجم بالغيب حول تحديد المكان الذي غربت عنده، أو طلعت منه، شمس ذى القرنين.. ويكفى أن نشير إلى أنّهما لم يكونا أقصى الأرض غربا، أو أقصاها شرقا.. فقد صرّح القرآن الكريم، بأن ذا القرنين، بعد أن بلغ مطلع الشمس، جاوز هذا المكان، حتى بلغ بين السّدّين.. أي الجبلين، أو الحاجزين، إذ كان كل منهما يحجز ما وراءه عما هو أمامه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» .. وقرىء «يَفْقَهُونَ» بضمّ الياء، وكلا القراءتين على معنى سواء، فى أن القوم ما زالوا فى درجة متأخرة من الإنسانية، وأنهم وإن ارتفعوا قليلا عن هؤلاء القوم الذين صادفهم عند مطلع الشمس إلا أنهم ما زالوا فى مرحلة الصّبا، لا يحتملون تبعات التكاليف، ولهذا كان موقفه منهم موقفا وسطا، فلم يدعهم إلى الإيمان بالله، لأنهم دون مستوى هذه الدعوة، ولم يتركهم وشأنهم، بل أخذهم بشىء من الوقاية والرعاية، حتى يرشدوا ويبلغوا مبلغ الرجال، وهم على وشك أن يبلغوه فأقام لهم هذا السدّ الذي يحميهم من عواصف الشر التي تهبّ عليهم من جيرانهم: «يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» .
(يأجوج.. ومأجوج)
لم يشر القرآن إلى يأجوج ومأجوج بأكثر من هذا الوصف الذي يصفهم به جيرانهم، وأنهم مفسدون فى الأرض، وهم لهذا يطلبون من ذى القرنين أن(8/706)
يجعل بينهم وبين هؤلاء المفسدين سدّا، يدفع عنهم عدوانهم..
«قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» .
- «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» .. هذا هو كل ما كشف عنه القرآن من «يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» .
ولكن يظهر أن غرابة الاسم «يأجوج» ومزاوجته مع «مأجوج» الذي يشبهه فى غرابته، قد أغرى المفسّرين، وغيرهم من أصحاب السّير بأن يخلعوا على المسمّى من الصفات الغريبة، والأوصاف العجيبة، مالا يكاد يقع لخيال الذين ألفوا ليالى «ألف ليلة وليلة» : فهم- أي يأجوج ومأجوج- بين طويل يبلغ طوله عشرات الأمتار، أو قصير لا يجاوز ذراعا! وقل مثل هذا فى أفواههم، وأسنانهم، ورءوسهم، وشعورهم، مما لا يكاد يكون إلا فى عالم الشياطين والمردة، فى تصورات الذين يتحدثون عنهما..
إن «يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» هذين الاسمين فى غرابتهما، وازدواجهما كانا مادة خصبة لتوليد الصور الغريبة، وتأليف الروايات المختلفة، حتى يستقيم المسمّى على دلالة الاسم، وحتى لقد سمح الخيال بأن يقال: إن هذين الاسمين عربيان، وإن يأجوج، مشتق من أجيج النار، وهو هذا الصوت الرهيب الذي تشهق به النار حين يتأجج وقودها ويندلع لهيبها.. كما أن مأجوج، مشتق من الموج والاضطراب.. يقال ماج البحر: أي اضطرب وهاج..!
ولعلّ أغرب ما قيل فى هذا المقام من مقولات، أن آدم كان قد احتلم، فوقعت نطفته على الأرض، وكان أن تخلّق من هذه النطفة كائن هو الأب الأكبر لهؤلاء القوم!!(8/707)
وهذا وكثير كثير غيره مما قيل فى يأجوج ومأجوج، هو- كما قلنا- بعيد غاية البعد عن منطوق القرآن، كما أنه بعيد غاية البعد عن الحقيقة الممكن تصورها.. فما عرف فى التاريخ البعيد، أو القريب، جماعة بشرية لها شىء من هذه الأوصاف.. وما عرف فى أبناء آدم هذا التفاوت البعيد فى الصفات الجسدية، وإن وجد بينهم تغاير فى الألوان، وفى الأخلاق والعادات، وتفاوت فى العقول والملكات.. ولكن مع هذا التغاير وذلك التفاوت- لا يبدو منهم جميعا ما يقطع نسب بعضهم عن بعض، ولا يدفع نسبة بعضهم إلى بعض..
وعلى هذا، فإنا نقول بأن «يأجوج ومأجوج» هما جماعة أو جماعات من تلك القبائل المتخلفة، التي تسكن الآجام والغابات، وتأوى إلى الكهوف والمغارات، والتي لم تبعد كثيرا عن حياة الحيوانات المتوحشة المفترسة، وتسبب كثيرا من القلق والإزعاج للجماعات القريبة منها والتي أخذت حظا من المدنية والعمران..
وحسبنا أن نذكر هنا المغول وما أحدثوا من إفساد للحضارة الإسلامية، مما لم تحدثه أعظم الزلازل، وأعتى الأوبئة وأشدها هولا وفتكا..!
(السد، وما أقيم منه)
كان السدّ الذي أقامه ذو القرنين، استجابة للقوم الذين لقاهم بين السدين- كان أقل أحداث هذه القصة إثارة للبحث، وتوليدا للصور والخيالات..
وذلك أن القرآن الكريم قد تحدث عن هذا السدّ بشىء من التفصيل، لم يدع لأصحاب الخيال أن ينطلقوا بخيالاتهم فيه إلى مدى بعيد..
وفى هذا يقول الله تعالى:
«قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. فَهَلْ(8/708)
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟» .
«قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» .
«آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا.. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» ..
هذه هى قصة إقامة «الردم» كما سماه ذو القرنين، أو «السد» كما طلبه القوم..
إن مادته من قطع الحديد، التي جمعها القوم من كل مكان. وجعلوا منها جسرا كبيرا يسدّ الفراغ الذي كان بين الجبلين، والذي كان ينفذ منه يأجوج ومأجوج إلى القوم..
وقد أمر ذو القرنين القوم أن يوقدوا على هذا الحديد، النار، وأن يستعملوا المنافيخ كى يشتدّ اشتعال النار. وينصهر الحديد..
فلما تم له ذلك، دعا القوم إلى أن يأتوا (بالقطر) وهو النحاس المذاب، فيفرغوه فوق هذا الحديد المنصهر، فيمسك بعضه ببعض، كما يفعل الملاط بأحجار البناء..
ولا شك أن الحديد لم يكن هو كل مادة البناء التي بنى بها «الردم» ..
وإنما كان هو العنصر القوى فيها، بل هو كذلك العنصر الغريب غير المألوف فى البناء..
ولهذا اختص بالذكر.. وهناك الأحجار، والرمال، وغيرها مما اتخذ فى مادة البناء مع الحديد، والتي بها أمكن تسوية السدّ، وإلا لو كان السدّ حديدا حالصا لا حتاج إلى مالا تحتمله الطاقة البشرية، وخاصة فى هذا الزمن البعيد، مع تلك الوسائل البدائية المحدودة للحصول عليه..(8/709)
ومن تمام هذا التدبير الحكيم فى إقامة «الردم» أن يختبر، وأن يرى منه القوم ثمرة هذا الجهد العظيم الشاق الذي بذلوه فيه..
وقد رأى القوم رأى العين الأثر العظيم الذي كان لهذا «الردم» .. فقد مضت الأيام، والشهور، دون أن يطرقهم طارق من هذا الشرّ الذي كان يبغتهم مصبحين وممسين، وكذلك رغم المحاولات التي بذلها يأجوج ومأجوج، لتسلقه، أو إحداث نقب أو ثقب فيه، ينفذون منه، كما يقول تعالى:
«فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» هذا هو الذي نطق به لسان الحال، وتحدث به القوم..
وحين رأى ذو القرنين هذا قال:
«هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» .
أي أن هذا الرّدم، هو رحمة من رحمة الله ساقها الله سبحانه وتعالى، إلى هؤلاء القوم على يديه..
ووعد الله هنا، قد يكون مرادا به يوم القيامة، وقد يكون مرادا به الأجل المقدور فى علم الله لبقاء هذا الرّدم.. والرأى الأول هو الأولى، إذ كانت الآية التالية لهذه تومىء إليه، وهو قوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» ..
وهذا يعنى أن هذا الرّدم قد صار أشبه بجبل من تلك الجبال المتصلة به من طرفيه، وأنه باق ما بقيت فإذا جاءت أشراط الساعة، دك هذا الردم ودكت الجبال كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى سورة أخرى:
«وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» (14: الحاقة) .(8/710)
وهكذا تنتهى مسيرة ذى القرنين، يصحبه فيها عقل حكيم، وقلب سليم، متخذا إلى غاياته الأسباب المستقيمة مع العدل والإحسان..
إنه يضع فى مسيرته تلك آثار أقدام الإنسان الرشيد، المهتدى بعقله، الموقظ لضميره.. فكاد الإنسان بتحريك ملكاته، وإطلاق قوى الخير فيه- كاد- يتعادل ميزانه مع ميزان الإنسان الذي يتلقى فيوض العلم العلوي ويقيم خطواته على هديها..
وهكذا يستطيع الإنسان أن يثبت أنه كائن له إلى العالم العلوي سبيل، وأن بينه وبين الملأ الأعلى طريقا يصل ما بين الأرض والسماء..!!
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما بين قصة ذى القرنين، وقصة العبد الصالح من تلاق وتوافق فى أكثر من وجه.. كما أشرنا إلى ذلك من قبل..
والذي نود أن نشير إليه هنا من وجوه هذا التلاقي والتوافق، هو ما جاء فى قصة العبد الصالح من قوله لموسى، حين أراد فراقه: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» فلما نبأه بتأويل هذا قال له: «ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ..
وهنا فى قصة ذى القرنين يجىء قوله تعالى: «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» .
فيجىء فعل الاستطاعة فى القصتين، بتاء المطاوعة مرة، ويجىء بغير التاء مرة أخرى..
وقد قلنا إن هذه التاء تدل على زيادة فى الشدة والقسوة، حيث يفترق بها فعل عن فعل..(8/711)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
وهنا- فى قصة ذى القرنين- نجد نفس الشيء.. حيث أن القوم أرادوا أن يصعدوا السدّ صعودا فما «اسْتَطاعُوا» .. وأما حين أرادوا أن يحدثوا فيه نقبا فما «اسْتَطاعُوا» .. ومعالجة النقب أشدّ صعوبة من محاولة التسلق..!!
الآيات: (99- 110) [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 110]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)(8/712)
التفسير:
قوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» .
هو معطوف على قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» .. أي أنه إذا جاء الأجل الموقوت عند الله لقيام- هذا السدّ وبقائه- دكّ هذا الرّدم الذي أقامه ذو القرنين، وانطلقت جماعات يأجوج ومأجوج إلى ما كانت تنطلق إليه من قبل، ونفذت إلى هؤلاء القوم الذين احتموا من عدوانهم بهذا الردم.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ..» (96- 97: الأنبياء) .
- فقوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» يبيّن ما سيقع فى هذا اليوم، أي اليوم الذي يأذن فيه الله سبحانه وتعالى بزوال هذا السدّ من مكانه، ونهاية دوره.. ففى هذا اليوم- وهو أيام وأعوام- تتبدل معالم الأرض، وينهال هذا الردم، ويفتح السدّ فيما بين يأجوج ومأجوج، وبين الجماعات المتحضرة التي كانت فى حماية بهذا السدّ من فسادها.. وعندئذ يختلط بعضهم ببعض، ويموج بعضهم فى بعض، وتعصف بهم عواصف الشرّ والفساد حتى يفنى بعضهم بعضا. ثم بعد قليل أو كثير من الزمن، ينفخ فى الصور، فيبعث الموتى من قبورهم، ويساقون إلى المحشر، وعندئذ يرى الكافرون جهنم بارزة، يتلظى لهيبها.. كما يقول سبحانه: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف) .(8/713)
- وقوله تعالى: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» هو وصف كاشف لهؤلاء الكافرين، الذين عرضت عليهم جهنم عرضا تنخلع منه قلوبهم فزعا، وتمتلىء به نفوسهم رعبا.. فهؤلاء الكافرون كانوا فى غفلة عن الله، وعن دعوة الحق التي كان يحملها إليهم رسل الله.. إذ كانت أعينهم فى غطاء عن ذكر الله، فلم ينظروا فيما خلق الله فى السموات والأرض.. ثم إنهم إذ عموا عن آيات الله، ولم تتجه إليها عقولهم، ولم تتفتح لها قلوبهم- أصمّوا آذانهم عن آيات الله التي يحدثهم بها رسل الله..
- وفى قوله تعالى: «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» إشارة إلى ما ختم الله به على سمعهم.. فهم- والحال كذلك- مصابون بهذا الصمم عن كل ما هو حق وعدل، وخير.. أما ما كان من واردات السوء، والشرّ، فهم أسمع الناس له، وأكثرهم استجابة لندائه..
قوله تعالى: «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ.. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» .
المراد بالذين كفروا هنا، هم اليهود والنصارى، ومن كان على شاكلتهم، ممن ألّهوا غير الله، من عباده، كما قالت اليهود عزير ابن الله، وكما قالت النصارى، المسيح ابن الله..
فهؤلاء، وإن كانوا أهل كتاب، قد خرجوا على تعاليم كتبهم، وأفسدوا المعتقد الصحيح، الذي جاءهم به رسل الله، فاتخذوا من عباد الله آلهة، وجعلوا ولاءهم لهم، من دون الله..
وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه السّياق، وتقديره: أحسب الذين(8/714)
كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء، ثم لا يلقون جزاء هذا العمل الفاسد الأثيم؟ كلا.. «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» وإذ كانوا يعملهم هذا قد دخلوا مداخل الكفر، وأصبحوا فى زمرة الكافرين، فإن جزاءهم هو جزاء الكافرين، ولا جزاء للكافرين إلّا جهنم التي جعلها الله المنزل الذي ينزلونه يوم الدّين..
قوله تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» .
الاستفهام هنا خبرى، يراد به الكشف عن المجرمين، وعن الطريق الذي ركبوه، حتى وصلوا إلى هذا الذي هم فيه من كفر وضلال.
وفى سوق الخبر فى مساق الاستفهام، إثارة الانتباه إلى ما وراء هذا الاستفهام من جواب عليه.. ولو جاء الخبر مباشرا لما كان له هذا الوقع على النفس، حين تتلقاه بعد هذا الاستفهام المثير لحبّ الاستطلاع! والآيتان تقرران حكما هو: أن أخسر الناس أعمالا، وأبخسهم حظا بما عملوا، هم هؤلاء الذين يركبون الطريق المعوج، طريق الضلال، وهى فى حسابهم وتقديرهم أنها طريق خير وفلاح.. فمثل هؤلاء لا يرجى لفسادهم صلاح أبدا، إذ لا تكون منهم لفتة إلى أنفسهم، ولا نظر إلى ما هم فيه من سوء، حيث يرون أنهم على أحسن حال وأقوم سبيل! إن الذي يركب الشرّ، وهو عالم أنه على طريق الشر، لا يعيش مع نفسه(8/715)
فى حال من السّلم والرضا، بل يظل هكذا قلقا، مضطربا، من تلك الحال التي هو عليها.. وقد يبلغ به الأمر إلى حد يستطيع معه أن يكسر القيد الذي قيّده به ضعفه، فى مواجهة شهوات نفسه الأمارة بالسوء، وعندها يجد أنّه قادر على التحرك فى الاتجاه الصحيح الذي كان يهمّ به، ولا يستطيعه.. فما أكثر ما يعرف الناس أنهم على غير طريق الهدى، وأن ما هم فيه من ضلال، هو من واردات الضعف المستولى عليهم، وأنهم- والحال كذلك- يودّون لو كانت بهم قوة تمكن لهم من تخطى هذه الحدود التي أقامهم فيها ضعف العزيمة، وغلبة الهوى.. كما يقول الشاعر:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
أما من يركب الضلال، ويأتى المنكر، وهو على هذا الفهم السقيم، الذي يزين له الباطل، ويبيح له المنكر- فإنه لن ينتهى أبدا عن غيه، ولن يفيق أبدا من سكرة ضلاله.. وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى:
«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) ويقول سبحانه: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (12: يونس) .
فهؤلاء الذين زين لهم سوء عملهم، فلم يروا ما هم فيه من كفر وضلال، فمضوا فى كفرهم وضلالهم، ولم يستمعوا لنصح ناصح، ولم يستجيبوا لدعوة داع يدعوهم إلى الهدى، وينذرهم بلقاء يومهم هذا- هؤلاء الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، لن يقام لأعمالهم وزن يوم القيامة: «إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (139: الأعراف) .
وفى الآيتين إشارة إلى هذا المعتقد الفاسد الذي يعتقده المعتقدون بألوهية عزير، والمسيح.. فهم- مع هذا المعتقد- على يقين بأنهم على الحق، وأنهم(8/716)
إنما يرجعون فى معتقدهم هذا إلى نصوص من كتبهم المقدسة، التي أوّلوها هذا التأويل الفاسد، الذي أقام لهم من عباد الله آلهة يعبدونها من دون الله.
- وفى قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ» الإشارة إلى الجزاء الذي يجازى به هؤلاء الكافرون.. فاسم الإشارة مبتدأ، وجزاؤهم خبر، وجهنّم بيان لهذا الجزاء، وكأنه جواب عن سؤال هو: ما جزاؤهم هذا؟ فكان الجواب:
جهنم..
وهذا الجزاء سببه كفرهم بالله، واتخاذهم آياته ورسله هزوا.. فقد استهزءوا بآيات الله التي بين أيديهم، فحرفوا وبدلوا فيها، وتأوّلوا ما أبقوا عليه منها تأويلا فاسدا.. وكما استهزءوا بآيات الله بهذا المسخ الذي غيّروا به وجوهها، استهزءوا برسل الله، إذ غيّروا وجوههم، وألبسوها أقنعة تثير الضحك والسخرية، حيث يبدو الإنسان مسخا هزيلا، وشبحا باهتا، ودخانا متصاعدا يمثل إنسانا قدماه على الأرض، ورأسه فى السماء! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» .
فى هاتين الآيتين، عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها المؤمنون يوم القيامة، وللجزاء الكريم الذي يلقونه يوم الجزاء.. فعلى حين يصلى الكافرون العذاب الأليم، ينعم المؤمنون بنعيم الجنّة ورضوان الله، وفى هذا ما يزيد من حسرة الكافرين، ويضاعف من عذابهم، بالقدر الذي يزيد من نعيم المؤمنين، ويضاعف من سرورهم ورضوانهم.
قوله تعالى:(8/717)
«قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» ..
هو بيان لقدرة الله، ونفوذ سلطانه، وتفرده بالألوهية.. وأن كلماته، وهى التي تنفذ بها مشيئته فى خلقه، لا تنفد أبدا، يقول الحق جلّ وعلا للأمر «كُنْ فَيَكُونُ» .. وهذا يعنى دوام الأمر والخلق أبدا.. كما يقول سبحانه:
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) .
- وقوله تعالى: «لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي» هو مثل قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» (27: لقمان) وهذا كله تصوير لقدرة الله، وبسطة سلطانه، وقيوميته على كل شىء.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» .
بهذه الآية تختم سورة الكهف، بتقرير بشريّة الرسول، وأنه وجميع رسل الله، ليسوا إلا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، اختصهم الله برحمته، واصطفاهم لرسالته..
وكما تقرر الآية بشريّة الرسول، تقرّر الطريق السّوىّ الذي ينبغى أن يستقيم عليه الإنسان كى يكون فى عباده الله الصالحين المؤمنين.. وهذا الطريق إنما يقوم على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح، الذي لا يجد الإنسان غيره فى هذا اليوم، مركبا يدفع به إلى شاطىء الأمن والسلام، ويفتح له أبواب الجنة والرضوان..(8/718)
ويلتقى ختام السورة مع بدئها.. فى تقرير وحدانية الله، وتنزيهه عن الشريك والولد.. فقد جاء بدؤها: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» وهكذا يجىء ختامها: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» .
فإذا ادعى المدّعون من أهل الكتاب، أو غيرهم، أن لله ولدا، من هؤلاء الذين اصطفاهم الله لرسالته، وآتاهم من فضله، ما زاغت به عيون الضالين، حتى حسبوا أن هذا الاصطفاء وهذا الفضل، هو لقرابة أو نسب لله- إذا ادعى المدّعون الضالون نسبة أحد إلى الله، فإن محمدا براء من هذا، وبرىء ممن يضعه بهذا الموضع.. فما هو إلّا بشر من البشر، وإنسان من الناس، وعبد من عباد الله، وأنه إذا كان يدعو الناس إلى الله بكلمات الله التي معه، فذلك من فضل الله عليه، وهذه الكلمات التي يدعو بها إنما هى وحي أوحاه الله إليه، لهداية الناس، وخيرهم وسلامتهم.(8/719)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
19- سورة مريم
نزولها: مكية.. وقيل إلا بعض الآيات منها فمدنية عدد آياتها: ثمان وتسعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 6) [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
التفسير:
مناسبة هذه السورة لسورة الكهف قبلها، أنها اشتملت على آيات وخوارق، على نحو ما اشتملت عليه سورة الكهف، التي ضمّت على هذه الآيات العجيبة.. فى أصحاب الكهف، وفى صاحب الجنّتين، وفى موسى، والعبد الصالح.. ثم فى ذى القرنين، وما جرى على يديه!.
وفى سورة مريم هذه، تعرض السورة آيات من قدرة الله، نجدها فى استجابته سبحانه لدعوة عبد من عباده هو زكريّا عليه السلام، إذ رزقه الولد على الكبر، وعلى ما كان من امرأته من عقم.. كما نجد تلك الآية العجيبة فى ميلاد المسيح- عليه السلام- من غير أب!(8/720)
كما نجد المناسبة أيضا: بين قوله تعالى: فى آخر سورة الكهف: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» وبين قوله تعالى فى مطلع سورة مريم: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ... »
إلى قوله تعالى: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» .. فعيسى عليه السلام، ليس إلا كلمة من كلمات الله التي لا تنفد.. كما يقول سبحانه:
«إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (171: النساء) .
قوله تعالى:
«كهيعص» ...
بهذه الأحرف الخمسة تبدأ السورة، وهى تكاد تكون فريدة فى هذا البدء، بذلك العدد الكثير من الحروف، لا يشاركها فى هذا إلا سورة الشورى، فقد بدأت مثلها بخمسة أحرف مرتبة على هذا النحو: «حم عسق» .. وقد انفردت كل منهما بأربعة أحرف، واشتركتا معا فى حرف واحد هو العين.
ولا نستطيع أن نعل لهذه الكثرة من الحروف، فذلك وجه من وجوه إعجاز القرآن الذي لا يزال سرا محجبا لم ينكشف لنا. وإن يكن قد انكشف للراسخين فى العلم، فجعلوه سرا، لم يؤذن لهم البوح به! قوله تعالى:
«ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» .
- «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف تقديره، هذا، و «عبده» مفعول به للمصدر «ذكر» و «زكريا» بدل من «عبده» .
- ومعنى «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» أي: هذا خبر رحمة ربك، وألطافه بعبده زكريا..(8/721)
- وقوله تعالى: «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» بيان للظرف الذي كانت فيه مهابّ أنسام هذه الرحمة ... وإذ كانت رحمة الله لا تنقطع عن عباده المؤمنين وخاصة من اصطفاهم لرسالته، فإن ذكر الرحمة، والحديث عنها فى هذا الظرف، هو لبيان مزيد هذه الرحمة ومجيئها فى صورة، تكاد- لما حملت من ألطاف- تكون رحمة خاصة تستحق الذكر والتنويه.
والنداء هنا معناه: الدعاء، كما ذكر ذلك فى قوله تعالى: «هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» (38: آل عمران) .
والنداء الخفي: هو الدعاء فى سرّ، دون جهر ومعالنة.. إذ كان ذلك فيما بينه وبين ربه.. بعيدا عن أعين الناس، وأسماع الناس.
وقد يكون هذا الدعاء من خواطر النفس، وأمانىّ الفؤاد. ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى، قد سمعه، وعلمه، وجعله قولا مصوّرا فى كلمات، منطوقا باللسان.. وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» .
هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا ربه..
وقد بدأه أولا بهذا التذلل والتشكّى إلى الله.. وفى هذا الموقف، يقف العبد من ربه الموقف الذي ينبغى أن يكونه.. فهو عبد ضعيف، فقير، ذليل، بين يدى السيد القوى العزيز.. من بيده ملكوت السموات والأرض.
وهكذا ينبغى أن يكون الأدب من العبد بين يدى ربه.. وبهذا يكون فى معرض من أن يؤذن له بالقرب من ربه، وأن يلقى الرضا والقبول.(8/722)
- «إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» .
ووهن العظم، ضعفه ودقته.. وإذا ضعف عظم الإنسان ووهى، أو شك أن ينهار بنيانه، وأن تنقض أركانه.. فهيكل الإنسان هو هذا العظم، الذي يقوم به شكله، وتتحدد به هيئته..
وقوله: «وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي» أبلغ فى الإبانة عن الضعف، وذهاب القوة، من قوله: «وهن عظمى» .. إذ أن القول الأول يشير إلى أنه لا عظم معه، بل لقد ذهب هذا العظم، وما بقي منه فإنه لا غناء فيه.. أما القول الآخر فإنه يحدّث عن أن معه عظما، وأنه لا زال يملكه ويحرص عليه..
- وقوله: «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» أبلغ كذلك فى الإبانة عن استيلاء الشيب على الرأس كلّه، من قوله: «واشتعل رأسى شيبا» .. فإن فى النظم الذي جاء عليه القرآن دلالة على أن هذا الرأس كائن غريب يكاد ينكره صاحبه، لأنه أصبح بهذا الشيب على صورة غير تلك الصورة التي عهده صاحبه عليه منذ عرف أن له رأسا.. فهذا الرأس كان أسود الشعر، أو أصفره.. ثم ها هو ذا يراه وقد استحال إلى بياض معتم، كرماد تخلّف من النّار! - وقوله: «وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» استحضار لما لله سبحانه وتعالى من سوابق الإحسان، وسوابغ الفضل على هذا العبد.. فما خذله ربّه أبدا، فى أي موقف لجأ إليه فيه، وما ردّ ربه يده فارغة فى أىّ حال مدّ إليه يده فيها.. وهو فى هذه المرّة على رجاء من أن يستجاب له فى يومه، كما استجيب له فى أمسه! - وقوله: «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» .
هنا- وبعد أن أدّى زكريّا ما يجب من الولاء لربّه، واللّجأ إلى فضله وإحسانه،(8/723)
وهو ما ينبغى أن يؤديه العبد لسيده ومالك أمره- هنا يبدأ زكريا يعرض حاجته، ويكشف عن الحال الداعية إلى هذا الطلب، الذي مدّ به يده إلى ربّه..
إنّه لا ولد له، والولد رغيبة تهفو إليها نفوس الآباء والأمهات، لا فرق فى هذا بين إنسان وإنسان، حيث يجد المرء فى الولد امتدادا لحياته، وروحا لروحه، وأنسا لقلبه..!
وقد كان زكريا- شأنه شأن كل رجل- يرجو أن يكون له ولد من صلبه، يتلقّى عنه رسالته فى الحياة من بعده، وهاهوذا قد بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد، وهو يرى من أهله وقرابته، من ينتظر موته ليرث مخلّفاته، وكانوا شرار بنى إسرائيل.. فحزن لهذا، واشتدت رغبته فى الولد، ليقطع به على هؤلاء الطامعين فيه، والمتعجلين موته- آمالهم.. ولكن أنّي يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر ما بلغ، إلى ما عليه امرأته من عقم؟
ولم يكن بين يدى زكريا إلّا هذه الخواطر، يردّدها فى صدره، ويتعزّى بها بينه وبين نفسه، ويدعو ربّه أن يجعل من هذه الخواطر، واقعا فى يده.
- وفى قوله: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» .. ما يسأل عنه.. وهو:
كيف يطلب أن يكون له ولد يرثه، والأنبياء لا تورث.. كما فى الحديث:
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة» ؟
والجواب على هذا، هو أن الميراث، هنا ليس ميراث مال، ولا متاع، وإنما هو ميراث خلافة، يقوم فيها الخلف مقام السّلف.. حيث يكون الولد وارثا لاسم أبيه، وأصلا سلسلة النسب الممتدة من الأجداد، إلى الآباء، إلى الأبناء..(8/724)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
الآيات: (7- 15) [سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 15]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
التفسير:
فى هذه الآيات نجد ما يأتى:
أولا: قد استجاب الله لزكريا ما طلب، وهو فى مقام الدعاء لم يبرحه بعد..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» (39: آل عمران) كما يشير إلى هذا أيضا، ما جاء عليه النظم القرآنى فى هذه الآية، حيث لم تصدّر بقول، بل جاءت بمقول القول هكذا: «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى» .. وهذا يعنى أن زكريّا كان فى مقام التخاطب مع الله سبحانه وتعالى.. فهو يدعو، والله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب.
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي اختار للولد اسمه، فسمّاه «يحيى» .. وهو اسم لم يسمّ به أحد قبله..
وفى تسميته بيحيى، إشارة إلى أنه سيبقى له ذكر مخلّد فى هذه الحياة، وأن(8/725)
حياته ستمتدّ بعد موته، بما يجرى على ألسنة الناس من ذكره، فى مقام الحمد والثناء..!
وثالثا: أن عجب زكريّا ودهشه من أن يولد له ولد، وهو يعلم أن الله سبحانه لا يعجزه شىء، وأنه إذ يعلم هذا فقد طلب الولد، وهو فى حال لا يولد منه ومن امرأته العقيم ولد- نقول: إن عجبه ودهشه لم يكن متوجها إلى الله سبحانه وإلى قدرته، وإنّما كان عجبا ودهشا من نفسه ومن زوجه أن يكون لهما ولد، وأن يراهما الناس وقد ولد لهما بعد هذا الزمن الطويل الذي عاشاه بغير ولد.. وقد جاء قوله تعالى: «قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» - جاء هذا القول من الله تعالى، ليسكن به قلب زكريّا الذي طارت به الفرحة، واستبدّت به المفاجأة بهذا الأمر العجيب! ورابعا: استعجل «زكريا» الإمساك بهذا الولد الذي كان حلم حياته، فأراد ألّا يخرج من هذا المقام الذي هو فيه، دون أن يكون بين يديه أثر من هذا الولد، يمسك به، ويتعلل بالحياة معه، حتى يحين مولده، ولهذا قال: «رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! فهو يريد الآية التي يرى من خلالها وجه هذا الغلام، الذي طال انتظاره له.. فجاء قوله تعالى: «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» ..
فكانت آيته أن يحبس الله لسانه عن الكلام لغير علة ثلاثة أيام، وثلاث ليال كاملة، لا يتعامل مع الناس فيها إلا بالرمز والإشارة..
وقد جعل بعض المفسّرين هذه الآية ضربا من الأدب، أو نوعا من العقوبة لزكريا، على اعتبار أن طلب الآية إنما هو لطلب اليقين من قدرة الله! وهذا فهم لا يستقيم، مع تلك النعم، وهذه الألطاف التي يفيضها الله على عبده زكريا..(8/726)
والفهم الذي نستربح له هنا، هو أن هذا الصوم عن الكلام إنما كان عبادة يتقرب بها زكريّا إلى الله، إزاء تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه.. ثم هو إشارة إلى الناس الذين سيطلع عليهم زكريا بأن حدثا عجيبا سيحدث، وأنهم فى وجه معجزة، وشيكة الوقوع.. وهذا ما كان من موقف مريم حين ولدت عيسى، فقد أمرها الله سبحانه وتعالى، أن تلقى قومها صائمة عن الكلام يوما.. كما سيأتى فى هذه السورة وقد عرضنا لهذا الأمر فى سورة آل عمران..
وخامسا: فى قوله تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» نداء من الله ليحيى الذي سيولد.. فهو مخاطب من الحق سبحانه وتعالى، وهو فى عالم الغيب، كما يخاطب أبوه زكريّا، وهو فى عالم الشهادة..
إن هذا الغائب الذي لم يوجد بعد، هو وهذا الحاضر الموجود، على سواء عند الله، ومع قدرة الله، وفى علم الله.. وكما يعقل الكائن الحىّ الرشيد العاقل، ما يخاطبه الله سبحانه وتعالى به، كذلك تعقل النطفة، أو ما ستتخلق منه النطفة..!!
وهكذا سيكون «يحيى» على هذه الصفة التي وصفه الحق سبحانه وتعالى بها، وندبه إليها، وهو أن يأخذ الكتاب- أي التوراة بقوة أي بجدّ، واجتهاد فى تحرّى أحكامها، والاستقامة على تلك الأحكام.. وأنه سيبلغ مبلغ الرشد والكمال، وهو فى سن الصبا.. «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» .. والحكم هنا، هو الحكمة التي يحكم بها فى الأمور التي تعرض له..(8/727)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
الآيات: (16- 36) [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 36]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)(8/728)
التفسير:
هذه الآيات تحدث عن قصة مريم، وعن ميلاد المسيح عيسى ابن مريم، على تلك الصورة العجيبة، التي جاءت على غير مألوف المواليد من الأحياء فى عالم البشر خاصة.
وقد ذكرت هذه القصة فى سورة آل عمران، تالية لقصة ميلاد يحيى، كما جاءت على هذا الترتيب هنا..
غير أننا إذ نكتفى بما قلنا فى تفسير الآيات الواردة عن هذه القصة فى آل عمران.. نودّ أن نفسر هنا بعض المفردات، ثم نشير إلى ما لا بد من الإشارة إليه من مضامين القصة الواردة هنا..
انتبذت: انتحت ناحية، وأخذت مكانا خاصا.. وفى التعبير عن هذا بالانتباذ، ما يشير إلى أنها كانت فى حال خاصة، تتكرّه فيها أن تختلط بالناس..
والرّوح: الملك، ويغلب أن يكون وصفا خاصا بجبريل عليه السلام..
والبغيّ: الفاجرة الزانية.. وهو من البغي والعدوان..
أجاءها المخاض: ألجأها واضطرها.. والمخاض ما يعترى المرأة وقت الولادة.
والنّسى المنسيّ: الشيء التافه الذي لا يحرص أصحابه على الإمساك به، ولا يذكرونه إذا ضاع منهم..(8/729)
والسّرىّ: النهر الصغير، الذي يسرى فى رقة وسكون.. والسّرىّ:
العظيم من الناس، المحمود فيهم..
والشيء الفرىّ: هو الغريب العجيب، الذي يجىء على غير مألوف الناس، فيفرى: أي يخرق عاداتهم..
والذي نريد أن نشير إليه من هذه القصة:
أولا: قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ»
هو تنويه بشأنها، وذلك بإفساح مكان لها فى القرآن الكريم، تذكر فيه، مع من يذكر من عباد الله المخلصين..
وثانيا: فى سورة آل عمران، جاء قوله تعالى: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» (45: آل عمران) ..
فالخطاب موجه إلى مريم من جماعة من الملائكة.. وهنا فى سورة مريم يكون الخطاب بينها وبين ملك واحد: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» .
«قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا»
.. فما وجه هذا الخلاف فى الموضعين، والقصة واحدة؟.
ونقول: إن المراد بالملائكة هناك هو عالم الملائكة، الممثل فى واحد أو أكثر كما فى قوله تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» (173: آل عمران) حيث يصح أن يكون القائل واحدا من الناس لا جماعة منهم..
والذي يشهد لهذا أنه حين استمعت مريم إلى ما حدثها به عالم الملائكة وأظهرت عجبا واعتراضا على ما حدّثت به- كان الذي تولى دفع هذا العجب(8/730)
وردّ هذا الاعتراض، ملك واحد.. كما جاء فى قوله تعالى: «قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» (47: آل عمران) ..
وثالثا: لم تشر الآيات فى آل عمران إلى أن أحدا من الملائكة قد تمثل لها فى صورة بشر، وهنا قد أشارت الآيات إلى أن «الروح» قد تمثل لها بشرا سويا..
فما جاء هنا مكمل للصورة التي جاءت هناك، شارح لها، على حين يمكن أن تستقل كل صورة بالكشف عن الحدث، دون أن يختلف وجه الحقيقة بينهما..
ورابعا: فى قوله تعالى: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» إشارة إلى أن عيسى عليه السلام قد ولد ميلادا طبيعيا من رحم أمه، كما يولد غيره من الناس، وكما تلد الأمهات أبناءهن.. وأن مريم قد حملت به حملا طبيعيا، حتى إذا استوفت مدة حمله، وأحست بالمخاض لجأت إلى جذع نخلة، واستندت إليها، حتى تجد القوة على دفع الحمل من رحمها..
وخامسا: قوله تعالى: «فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» ..
اختلف فى المنادى لها: أهو ملك؟ أم وليدها الذي بدأ يتحرك إلى العالم الخارجي؟ ..
والذي نأخذ به، هو أن المنادى لها، لا يكون ملكا، إذ لو كان ملكا لناداها من علوّ، وهو الجهة المتنزل منها.. وأنه إذا كان المنادى ملكا فلم يجىء إليها من تحت لا من فوق؟ وإذن فالمنادى لها هو من كان تحتها بالفعل، وهو وليدها! ..
وفى حديث وليدها إليها فى هذا الوقت، ما يكشف لها عن التجربة التي(8/731)
ستواجه بها قومها منه، حين تدعوه إلى الكلام، فيتكلم.. ولو أن عيسى لم يكن قد تكلم إليها، وأسمعها صوته من قبل، لما وجدت الجرأة على أن تلقى قومها بالطفل، ثم تلقاهم بهذا التحدّى، وهو أن تدعوهم إلى الاستماع إليه! ومما يؤيد هذا الرأى قراءة من قرأ: «فَناداها مِنْ تَحْتِها» باعتبار «من اسم موصول» يقع فاعلا، للفعل، «نادى» ..
وسادسا: فى قوله تعالى: «يا أُخْتَ هارُونَ» ..
اختلف فى هرون هذا.. من يكون؟ أهو هرون النبىّ أخو موسى؟
أم هو أخ لها من أبيها؟ أم هو رجل صالح معروف بين قومها بالتقوى؟ أم هو رجل فاجر يضرب به المثل عندهم لكل من يأتى منكرا؟
والذي نأخذ به أن «هرون» هذا هو هرون النبىّ، وقد أضيفت إليه، ولم تضف إلى موسى، لأنها كانت من نسل هرون، ولأن موسى لم يعقب نسلا..
وأضيفت إليه إضافة أخوة، لا إضافة بنوّة، لأن أبناء هرون، وذريته المتعاقبة منهم لم يكونوا على حال واحدة من الاستقامة والتقوى، ففيهم الصالح، وفيهم الفاسد،.. فهى وإن كانت بنت هرون نسبا، هى أخته وصنوه استقامة وصلاحا! ..
وسادسعا: قوله تعالى: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..
هو تعقيب على القصة، وعلى ميلاد هذا المولود على تلك الصورة التي أوقعت كثيرا من الناس فى الضلال، فاتخذوا منه إلها، وجعلوه وجها من(8/732)
وجوه ثلاثة جعلوها لله، هى الأب، والابن، وروح القدس..
وهذا التعقيب، قد يكون على لسان عيسى عليه السّلام.. كاشفا به عن حقيقته، وأنه إن يكن قد ولد لغير أب، أو تكلّم يوم مولده، فإن ذلك لم يكن ليخرجه عن حدود البشرية، ولم يكن ليجعل له إلى الألوهية سبيلا من أي وجه، وعلى أية صفة.. وقد يكون ذلك قولا ينبغى أن يقوله كل من يستمع إلى آيات الله التي تحدّث بها القرآن، عن مولد عيسى، فيصدّق بها، وينظر من خلالها إلى جلال الله وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر..
فالذين يمترون فى عيسى، ويجادلون فى أمره، بين من يرميه بأنه ابن سفاح، وبين من يقول إنه إله أو ابن إله- هؤلاء الذين يمترون فيه، قد كشف لهم عيسى عن وجهه، وتحدث إليهم بلسانه.. إنه عيسى بن مريم، وذلك هو القول الحق الذي ينبغى أن يقال فيه.. فهو ابن امرأة، لم تجىء به من رجل، وإنما من نفخة تلقتها من روح الله.. وانتماؤه أولا وأخيرا إلى أمّه، التي حملت به، ووضعته وأرضعته.. أما القول بأنه ابن الله، فهو قول آثم، سفيه «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ.. سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ولو شاء- سبحانه- أن يخرج عيسى إلى هذه الدنيا من غير أب أو أم لما كان ذلك بالمعجز لقدرة الله.. «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59: آل عمران) .
ويكفى أن يكون آخر ما نطق به عيسى أن قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ» ويكفى أن يكون آخر ما نطق به فى مهده: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» - يكفى هذا ليكون شهادة تبطل كل قول يقال فيه، غير الذي نطق هو به.(8/733)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
الآيات: (37- 40) [سورة مريم (19) : الآيات 37 الى 40]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .
الأحزاب، هم الطوائف والجماعات، التي اختلفت فى شأن المسيح، وهم اليهود والنصارى، على مختلف مذاهبهم فيه..
فاليهود، يقولون عنه إنه ابن زنى، أو إنه ابن رجل كان يخدم مع أمّه فى الهيكل، اسمه يوسف النجار..
والنصارى، يقولون: إنه ابن الله، أو إنه هو الله ذاته، يمثّل أحد أوجه الثالوث المقدس لله- كما يزعمون- وهو وجه الابن..
والفاء فى قوله تعالى: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ» هى فاء التفريع، التي تفيد العليّة والسببيّة، حتى لكأن دعوتهم إلى عبادة الله، واعتبار المسيح عبدا من عباده الله- لكأن هذا كان داعيا لهم، إلى أخذ هذه السبل الضالة المنحرفة..(8/734)
وهكذا الطباع غير السليمة، تتلقى النّصح بقلوب مريضة، تتأبّى عليه، وتأبى إلا أن تأخذ بالوجه المخالف له..
- وقوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» هو وعيد، وتهديد لهؤلاء المختلفين فى شأن المسيح، وفى النظر إليه على مستوى دون، أو فوق مستوى رسول من رسل الله.. فكل من قال فيه قولا يخرج به- صعودا، أو نزولا- عن هذا المستوي، فهو كافر، له الويل والهوان من عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى:
«أَسْمِعْ بِهِمْ، وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
- «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا» ، هو تعجب من رفاهة سمعهم، وحدّة بصرهم، يوم القيامة.
والمراد بهؤلاء المتعجّب من سمعهم وبصرهم، هم أولئك الكافرون، الذين اختلفوا فى أمر المسيح هذا الخلاف الأثيم الضالّ، فلم يسمعوا ما قيل لهم على لسان المسيح، ولم يعقلوه، ولم يكن لهم من أبصارهم وبصائرهم ما يعدل بهم عن طريق الضلال التي ركبوها، فمضوا على هذا الضلال، ودخلوا به مداخل الكفر، حتى ماتوا على ما هم عليه.. من ضلال وكفر.
فهؤلاء الذين أصمّوا آذانهم، وأغمضوا أعينهم فى الدنيا، سيكونون يوم القيامة على حال من قوة السمع، وحدّة البصر، بحيث لا تفوتهم همسة، ولا تغيب عن أعينهم كبيرة أو صغيرة.. هنالك تتردد فى آذانهم أصداء ما سمعوا من آيات الله، وينكشف لأعينهم ما عموا عنه فى دنياهم من أمارات الهدى..(8/735)
فلا يملكون إلا الحسرة تقطّع أكبادهم، وإلا الألم ينهش صدورهم لما فاتهم من أمور كانت ترد على سمعهم، وتحتشد أمام أنظارهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .
- وقوله تعالى: «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. لكن هنا للاستدراك والتعقيب على هذا الوصف الذي يكون عليه هؤلاء الظالمون يوم القيامة.. إنهم يوم القيامة سامعون مبصرون.. لكنهم اليوم، أي اليوم الذي هم فيه فى الدنيا، فى ضلال مبين، لا يسمعون ولا يبصرون.
قوله تعالى:
«وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .
هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو أمر له صلوات الله وسلامه عليه بأن ينذر المشركين، وأن يحذّرهم من يوم الحسرة، وهو يوم القيامة، حيث تشتد فيه حسرة الذين غفلوا عن هذا اليوم، ولم يعملوا له، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ» (27: الفرقان) . وقوله سبحانه:
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
(40: النبأ) .
وفى توجيه الأمر بالإنذار إلى المشركين، بذكر ضميرهم، العائد على غير مذكور.. هكذا: «وَأَنْذِرْهُمْ» فى هذا إشارة إلى أنهم بعض هؤلاء الضالين الكافرين الذين ذكروا قبلهم فى قوله تعالى: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا» .. فأهل الضلال- أيّا كانوا- هم كيان واحد، لا خلاف بين من تقدّم منهم، أو تأخر، ولا فرق بين من يكون من هؤلاء القوم، أو أولئك..!(8/736)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
وفى قوله تعالى: «إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» تخويف لهؤلاء المشركين. وإلفات لهم من أن تفوتهم الفرصة، ويفلت منهم العمر، قبل أن ينزعوا لباس الكفر والضلال، ويلبسوا لباس الهدى والإيمان..
قوله تعالى:
«إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» ..
هو تذكير لهؤلاء المشركين، بأن ما هم فيه من شغل بمال وبنين، ومن انصراف عن الآخرة، والعمل لها- إن هذا لن يكون لهم منه شىء، إذا هم فارقوا هذه الدنيا، وأنه إذا ورثهم أبناء، وورث الأبناء أبناء.. إلى ما شاء الله، فذلك كله إلى نهاية ينتهى عندها، حيث لا وارث إلا الله سبحانه.. وحيث يحشر الناس إليه مجرّدين من كل ما كان لهم فى الدنيا من مال، وولد، وأهل، وصديق، وجاه وسلطان!
الآيات: (41- 50) [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)(8/737)
التفسير:
مناسبة قصة إبراهيم مع أبيه هنا، هى أنها تمثل للنبى صلى الله عليه وسلم صورة من الصراع الحادّ بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين، وأن هذا الصراع قد يبلغ الحدّ الذي يفرق بين الابن وأبيه..
وإذن، فإنه ليس للنبىّ أن يأسى كثيرا على ما وقع أو سيقع بينه وبين أهله وقومه، من فرقة واختلاف، وقد جاءهم لينذرهم يوم الحسرة، ويلفتهم إلى تلك الفرصة السانحة لهم للخلاص مما هم فيه من ضلال، وإلا فالويل لهم من يوم عظيم! ومن قصة إبراهيم مع أبيه تنكشف أمور.. منها:
أولا: هذا الأدب فى الخطاب، من الابن إلى أبيه.. حيث تصدّر كل دعوة من إبراهيم إلى أبيه بقوله: «يا أَبَتِ»
.. وقد تكرر هذا النداء الرقيق الحبيب، أربع مرات..
وهذا، فوق أنه أدب يوجبه حقّ الأبوّة، هو أدب تقتضيه النبوة، ويقضى به الأسلوب الذي تقوم عليه دعوتها فى الناس كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..»(8/738)
وانظر فى قوله: «يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» .. كيف يدعوه باسم «الرَّحْمنِ» ويحذره مما هو فيه من منكر غليظ، لا تناله فيه رحمة الرحمن، تلك الرحمة التي وسعت كل شىء..!
فإذا كان «الرحمن» لا يرحمه فى تلك الحال التي هو فيها، فكيف بالله، المنتقم، الجبار؟؟
إنه مدعوّ الآن إلى الرحمن من رب رحيم، فإذا لم ينته عن غيّه وضلاله، فإن مع هذه اليد الرحيمة، يد النقمة والبلاء حيث يصبح وإذا هو من أولياء الشيطان وأتباعه.. وليس للشيطان وأولياء الشيطان إلا الخزي والبلاء العظيم..
وثانيا: وكما هو الشأن دائما فى أهل الضلال، وأصحاب الشناعات..
إنه لا يجىء منهم إلا ما هو منكر وشنيع، من قول أو فعل.. وهذا داء مستحكم فيهم، لا يجدى معه لين، ولا تخفف من حدته عاطفة رحم وقرابة..!
فها هو ذا الأب الضال العنيد، يلجّ فى ضلاله، ويستبد به كفره، فلا تندّ منه قطرة من عاطفة نحو ابنه، ولا يلقى هذا النداء الذي ينادى به بأحب اسم يسمعه الآباء من أبنائهم: «يا أَبَتِ» - لا يلقى هذا النداء عنده أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له.. وإذا هذا الأب الضال العنيد يرجم ابنه البار الرحيم، بهذا القول المنكر الغليظ:
«يا إِبْراهِيمُ.. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» ! هكذا يقولها «يا إِبْراهِيمُ» .. ولم يقل يا بنى، أو يا ولدي.. ثم يتبع ذلك بهذا التهديد: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ..» !! أهكذا تبلغ غلظة القلب، وعمى البصيرة، حتى تنزع من صاحبها كل عاطفة، وحتى يجد الأب اليد التي تطاوعه(8/739)
على رجم ابنه؟ أإلى هذا الحد ينحدر الإنسان إلى مالا يرضى به الحيوان لنفسه مع أولاده؟
ولقد أفاق الرجل من سكرة جهله، وضلاله، حين نطق بهذه الكلمة «لَأَرْجُمَنَّكَ» ورأى أن ابنه قتيل بيده، وأنه دمه يسيل فيغطى الأرض من حوله..
ومع هذا فلم تكن هذه الصحوة لتعيد إلى الرجل ما عزب من عقله، أو لتصحح ما انحرف من عاطفته، بل إن كلّ ما كان لهذه الصحوة، هى أن جعلته يذكر أنه أب قد كانت بينه وبين هذا الإنسان الذي يهمّ برجمه، شئون وشئون.. وهذا ما جعله يمسك يديه عن هذا الفعل الآثم، فيصرخ فى إبراهيم: أن أغرب عن وجهى، قبل أن يعود إلىّ جنونى، وأفتك بك!! وهذا هو سرّ العطف بين قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ» وقوله تعالى:
«وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» الأمر الذي يشير إلى أن هنا كلاما محذوفا بين المتعاطفين، تقديره: فانج بنفسك «وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» أي اهجرني زمنا طويلا، وليكن إلى الأبد! وانظر كيف استقبل إبراهيم هذه الثورة العاصفة المجنونة، وكيف ردّ هذا الحمق الجهول، بتلك القولة الكريمة الحانية: «سَلامٌ عَلَيْكَ.. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي.. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» !! أي إن ربّى كان مكرما لى إكراما عظيما.. وكما أكرمنى ربّى، سأكرمك بالاستغفار لك وطلب المغفرة من ربّى! إنها الكلمة الجديرة بأن تكون من خليل الرحمن، الذي وصفه سبحانه وتعالى بقوله. «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود) .
فما يكون هذا الحلم، ولا تلك الوداعة، ولا ذلك الرفق، إلا من مثل هذا النبىّ الكريم، الذي أدّبه ربّه أدبا رفعه به إلى مقام الخليل! ويأخذ إبراهيم طريقه إلى ربّه، ويدع أباه وقومه، وما هم فيه من عمى(8/740)
وضلال، بعد أن دعاهم إلى الهدى فأبوا، ومدّ يده إليهم بالخير فردّوه، وتوعدوه، «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا» .. ولن يشقى من يتجه إلى ربّه، ويبسط إليه يده، سائلا متضرعا..
وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» .
فى هذا ما يسأل عنه.. وهو: لماذا اختصّ إسحق ويعقوب بالذكر هنا، ولم يذكر إسماعيل، مع أنه الابن الأول لإبراهيم، ومع أن يعقوب ليس ابن إبراهيم، وإنما هو ابن ابنه إسحق؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن إسماعيل كان قد ولد لإبراهيم، وأن إبراهيم كان على يأس من الولد من امرأته «سارة» أمّ إسحق إذ كانت عقيما.
فذكر إسحق، هنا، هو تذكير بتلك النعمة التي جاءت على غير انتظار، بل جاءت على يأس من أن تقع.. وهى- فى صورتها تلك- أشبه بالجزاء المعجّل على هذا البلاء العظيم، الذي كان من إبراهيم فى موقفه من أبيه ومن قومه، وهذا ما يشير إليه تقييد هذه الهبة بهذا الظرف، الذي اعتزل فيه إبراهيم قومه، وما يدعون من دون الله. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» .
ومن جهة أخرى، فإن ميلاد إسماعيل من أمّه هاجر، كان ميلادا من امرأة لم تحكم عليها ظواهر الأمور بالعقم.. فهو- والأمر كذلك- ميلاد طبيعىّ، يجرى على المألوف من حياة النّاس.
أما ذكر يعقوب، وهو ابن الابن، وليس ابنا مباشرا، فهو إلفات إلى زيادة المنّة، ومضاعفة الإحسان، حيث يرى إبراهيم أن ولده إسحق لا يبتلى(8/741)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
مما ابتلى به هو من تأخير الولد عنه إلى سنّ الشيخوخة، وإلى حمل نفسه على مرارة اليأس من الولد..!
هذا، وسيأتى لإسماعيل ذكر خاص، فى الآيات التالية، كما سنرى..
الآيات: (51- 58) [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
التفسير:
فى هذه الآيات، ذكر لبعض من أنبياء الله ورسله.. هم موسى، وإسماعيل، وإدريس.. ثم هارون باعتباره نبيّا، غير رسول..
وقد وصف الله سبحانه وتعالى موسى بأنه كان مخلصا.. أي أخلصه الله سبحانه وتعالى له، واختصه بكلامه.. ثم وصفه سبحانه بأنه كان نبيا، أي يجمع بين الرسالة والنبوّة، ثم وصفه سبحانه وصفا ثالثا، بأنه نودى من الحق(8/742)
جلّ وعلا فقال تعالى: «وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» أي قرب من حضرة الحق جلّ وعلا إلى حيث ناجاه، كما يناجى الخليل خليله.. كما يقول سبحانه فى آية أخرى:
«وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (164: النساء) .
وبهذه الأوصاف استحق موسى أن يقدّم على رسل وأنبياء، كانوا أسبق منه زمانا، كإسماعيل، وإدريس.. وهذا التقديم- وإن رفع من قدر موسى- لا ينقص من قدر هذين النبيين الكريمين، «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (253: البقرة) .
وفى قوله تعالى عن موسى: «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» تكريم، فوق تكريم لموسى، وأنه إذ لم يوهب له الولد، فقد وهب له نبىّ يعمل إلى جانبه، فى الرسالة التي ندب لها..
وفى قوله تعالى عن موسى أيضا: «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» .. تحديد للمكان الذي نودى منه موسى، وهو أنه كان بالجانب الأيمن من الطور، حين تلقى نداء الحقّ جلّ وعلا..
والجانب الأيمن من الطور، هو الجانب الغربىّ منه..
وهذا التحديد الجغرافى لمكان النداء، يشير إلى أن موسى كان قادما من مدين فى طريقه إلى مصر، وأنه فى متوجّهه هذا كان يخترق أرض الطور، التي يشرف عليها الجبل المسمى بهذا الاسم فى صحراء سيناء على ساحل البحر الأحمر..
فكان الجانب الغربي من الطور على يمين موسى، والجانب الشرقي على يساره..
وحين ناداه ربه، سمع النداء من جانبه الأيمن، وهو الجانب الغربىّ من الطور، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (44: القصص) .(8/743)
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا، نَبِيًّا» ..
الصفة البارزة الموصوف بها إسماعيل فى ديوان الأنبياء والمرسلين، هى، أنه «كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» ..
والوعد، هو قوله لأبيه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وذلك حين قال له أبوه: «يا بُنَيَّ.. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» (102: الصافات) ..
وصدق الوعد فى أنه كان قولا صدقه العمل، فلم يكن قوله لأبيه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» مجرد قول يقال، ولكنه كان مصحوبا بنية صادقة على إمضاء هذا القول إلى غايته.. وقد تبين هذا حين جاءت ساعة التنفيذ.. فاستسلم إسماعيل لأمر ربه، وأعطى رقبته للسكين.. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (103- 105: الصافات) :
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» ..
إدريس عليه السلام، هو من ذرية آدم الأولين، وهو جدّ أعلى لنوح ولهذا اختصّ بالذكر لأنه ليس من الأنبياء الذين جاءوا من ذرية إبراهيم..
والذين لم يذكروا هنا كعيسى، ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، ففى ذكر إبراهيم ذكر لهما، لأنهما من ذريته.. كإسحاق، ويعقوب، ويوسف..(8/744)
أما ذكر إسماعيل- وهو ابن إبراهيم- فهو تنويه خاص به، إذ كان من ذريته خاتم النبيين محمد، صلوات الله وسلامه عليه..
هذا، ولم يلحق بإدريس وصف الرسول، إلى جانب الوصف بالنبوة..
فهو- بهذا- نبى، وليس برسول..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا» ..
الإشارة هنا «أولئك» مشار بها إلى المذكورين فى الآيات السابقة، من النبيين.. وهم موسى، وإسماعيل، وإدريس..
وهؤلاء الأنبياء الثلاثة، يمثلون الصور كلها التي جاء عليها أنبياء الله ورسله..
فموسى يمثل الأنبياء المرسلين، أصحاب الكتب السماوية، والرسالات، الخارجة عن نطاق الأهل والأسرة، إلى القوم، والأمة..
وإسماعيل.. يمثل الأنبياء المرسلين، الذين لم تكن لهم شريعة خاصة، ولم يكن بين أيديهم كتاب سماوى منزل عليهم، وكانت دعوتهم إلى الله مقصورة على آل بيتهم..
وإدريس.. يمثل الأنبياء غير المرسلين..
وهذا يكشف عن بعض السر فى أن ذكرهم فى هذه الآيات لم يجىء على حسب ترتيبهم الزمنى، بل جاء على حسب درجاتهم فى مقام النبوة..(8/745)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
فهؤلاء الأنبياء الثلاثة، موسى، وإسماعيل، وإدريس، يمثلون وجوه النبوة، فى درجاتها الثلاث:
والإشارة إليهم بأولئك، هى إشارة إلى جميع الأنبياء والمرسلين، الذين أنعم الله عليهم من النبيين! وحرف الجر «من» فى قوله تعالى: «مِنَ النَّبِيِّينَ» هو للبيان، وليس للتبعيض.. إذ أن كل النبيين، هم من الذين أنعم الله عليهم، بهذه النعمة الجليلة، التي لا تعدلها نعمة فيما أنعم الله به على عباده من نعم! وهم جميعا ممن هداهم الله، واجتباهم.. هداهم إلى الحق، والإيمان، واختصهم بنعمة النبوة والرسالة، أو النبوة وحدها.
وأما حرف الجر «من» فى قوله تعالى: «من» ذرية آدم و «ممن» حملنا مع نوح.. و «من» ذرية إبراهيم وإسرائيل» - هذا الحرف فى مواضعه الثلاثة للتبعيض.. أي إن هؤلاء النبيين الذين أنعم الله عليهم هم من بعض ذرية آدم، وهم بعض من آمن مع نوح وحمل معه فى السفينة، وهم بعض ذرية إبراهيم وإسرائيل، وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم.. إذ ليس كل أبناء هؤلاء وذرياتهم من النبيين، ولا ممن هداهم الله واجتباهم، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية التالية لهذه الآيات وهى قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» ..
الآيات: (59- 63) [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)(8/746)
التفسير:
الخلف بسكون اللام، الفاسد، الضالّ من الذرية، على خلاف الخلف، بفتح اللام.. فكأن الخلف خلف يجمع بين الخلف والخلف.. وهذا من الصيغ القرآنية العجيبة، التي تزداد بها اللغة ثراء، وتزدان حسنا..
وقوله تعالى:
«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» ..
هو تهديد لهؤلاء الضالين، الذين خرجوا على سنن الفطرة السليمة، كما خرجوا على واجب الولاء والطاعة لآبائهم المكرمين من عباد الله، واتبعوا الغاوين والمفسدين من الآباء..
- وفى قوله تعالى: «أَضاعُوا الصَّلاةَ» تنويه بشأن الصلاة، ورفع لقدرها إذ كانت الصلاة عماد الدين، فى كل شريعة، وكل ملة..
وقد نوه الله سبحانه وتعالى بإسماعيل عليه السلام، فجعل دعوته بالصلاة فى أهله، رسالة رسول.. «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» ..(8/747)
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» وعيد بالعاقبة السيئة التي سيؤول إليها أمر هؤلاء الضالين، الذين أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات..
والغىّ: هو الضلال.. وقد جعل فى مقام الهلاك والعذاب فى جهنم، لأن القوم كانوا غواة، وأنهم سيلقون هذا الغىّ، وسيجدونه حاضرا يوم القيامة، وبه سيردون مورد الهلاك، وبه يصلون العذاب! قوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً» ..
هو استثناء منقطع، و «إلّا» بمعنى «لكن» .. وبهذا الاستثناء يفتح باب النجاة من هذا المهوى الذي هوى فيه الضالون إلى جهنم.. فمن دخل هذا الباب، وتاب عما هو فيه من منكرات وضلالات، وصحّح إيمانه بالله، فهو من عباد الله، الذين سيلقاهم فى الآخرة برضوانه، وبجنات لهم فيها نعيم مقيم..
«فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً..»
وقوله تعالى:
«جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» .
هو بيان للجنّة، التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» فهى فى سعتها جنات، وإن كانت جنّة واحدة.. وهى جنات عدن، أي خلود وإقامة، لا يتحول عنها أهلها أبدا، وهى التي كانت وعدا تلقّاه المؤمنون بالله من ربّهم فى الدنيا، فآمنوا بهذا الوعد على الغيب، دون أن يروه، وقبل أن يتحققوا منه عيانا.. إنه إيمان بالله، وبكل كلمات الله.. فهو إن يكن وعدا، فإنه حاضر فى يقين المؤمنين، وهم بهذا الوعد أوثق مما فى(8/748)
أيديهم.. «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» أي آتيا، أو يؤتى إليه الموعودون به..
لا يتخلّف أبدا.. إن لم يجئهم جاءوا هم إليه.
وقوله تعالى:
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» .
هو وصف لهذه الجنة، أو تلك الجنات، وأن أهلها فى أمن وسلام، لا يسمعون فيها كلمة لاغية عابثة، فإن اللغو والعبث هو شغل الفارغين التافهين أما أصحاب الجنة فهم كما وصفهم سبحانه وتعالى: «فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» (55: يس) وشغلهم هو هذا النعيم الذي يملأ كل لحظة من لحظات وجودهم..
و «إلا» فى قوله تعالى: «إِلَّا سَلاماً» بمعنى لكن، أي لا يسمعون لغوا، ولكن يسمعون سلاما..
- وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» إشارة إلى أن أهل الجنّة قد تركوا وما هم فيه من نعيم الجنّة، يطعمون منه، وإنما هم مع هذا محفوفون برعاية الله، آخذون من عطائه، الذي يلقاهم به بكرة وعشيّا.. فكل ما يناله أهل الجنة من صنوف النعيم، هو رزق من رزق الله، المجدّد عليهم، حالا بعد حال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (25: البقرة) ..
قوله تعالى:
«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» .
الإشارة هنا تنويه بالجنة، التي ذكرت بأوصافها، وأوصاف أهلها فى الآية السابقة..
فهذه الجنّة المشار إليها هنا، هى الجنة السابقة، والتقدير تلك هى الجنّة(8/749)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
التي جعلها الله سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيّا من عباده، أي مؤمنا به، مستقيما على أوامر شريعته ونواهيها. فيأتى ما أمر الله به، ويجتنب ما نهى الله عنه..
وفى التعبير عن دخول الجنة بالميراث، إشارة إلى أن أهلها ممكّنون من كل نعيم فيها، يتصرفون فيه كيف يشاءون، كتصرف الوارث فيما ورث..
لا يبخل على نفسه بشىء منه، إذ كان ذلك الميراث من غير كسبه، بل جاءه صفوا عفوا..
والجنة، هى ميراث للمتقين، لم يكن نزولهم منازلها إلا برضوان الله، ورحمته.. وإلا فإن ما عملوه فى دنياهم من طاعات وما قدموه من صالح الأعمال، لا يؤهّلهم لدخولها.. كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» ..
الآيات: (64- 70) [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 70]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)(8/750)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» ..
ضمير المتكلم فى قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ» يعود إلى الملائكة، المأمورين من قبل الحقّ سبحانه وتعالى بما يتكلفون به من تصاريف فى العالم الأرضى..
كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» (4: القدر) .
والمتحدث عن الملائكة هنا هو جبريل عليه السلام، إذ كان هو الملك الموكّل بالاتّصال بين الله سبحانه وتعالى وبين رسله الكرام، والمأذون له بالحديث إليهم. أما غيره من الملائكة فلهم شئون أخرى..
وقيل فى سبب نزول هذه الآية، أن الوحى قد احتبس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم مدة، حتى وجد الوحشة فى نفسه، وحتى لقد قالت قريش إن ربّ محمد ودّعه وقلاه.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة ذكرت الأنبياء والرسل، وهم الذين أنعم الله عليهم من عباده بالرسالة، واختصهم بالنبوّة.. وإذ كان الملائكة هم السفراء بين الله سبحانه وتعالى وبين رسله، فإنه فى هذا المقام قد(8/751)
يقع فى تصوّر بعض المشركين أن يتنزّل عليهم الوحى وأنّهم إذا عبدوا الملائكة أو تقربوا إليهم، قد يكون لهم ما كان لهؤلاء الأنبياء، ومنهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي يحدّث قريشا بأنه يوحى إليه من ربه! - فكان قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» قطعا لهذه الأمانىّ الباطلة، التي يمنّى بها بعض المشركين أنفسهم، حتى لقد قالوا ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) وما حكاه عنهم فى قوله سبحانه: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» (21: الفرقان) .
وقوله تعالى: «لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ» إقرار من الملائكة بما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق، لا يملك أحد معه شيئا، حتى أقرب المقربين إليه، وهم الملائكة.. إن الله سبحانه وتعالى يملكهم، ويملك كل ما يعملون فيه.. فى ماضى أمرهم، ومستقبله، وما بين ماضيه ومستقبله..
- وقوله تعالى: «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» هو مما أعلته الملائكة عن علمه سبحانه وتعالى وقدرته.. وأنه جلّ شأنه لم يكن عن نسيان منه، هذا التأخير فيما يوحى به إليك أيها النبىّ.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وإن هذا التأخير لحكمة يعلمها الله، وعن تقدير قدّره..
قوله تعالى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ.. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» ..
هو عرض لبعض قدرة الله، وبسطة سلطانه.. وأنه سبحانه ربّ السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما من عوالم ومخلوقات..(8/752)
ولهذا فهو وحده- سبحانه- المستحقّ للعبادة.. «فَاعْبُدْهُ» أيها النّبىّ «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» أي وطّن نفسك على العبادة وحمل أعبائها.. فهى تكاليف، لا يقوم بها على الوجه الأكمل إلا من راض نفسه على الصبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» (45: البقرة) .. وما يشير إليه قوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (132: طه) .
وقوله تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» استفهام يراد به نفى الشبيه والمثيل لله سبحانه وتعالى.. والسّمىّ، هو الذات المسماة باسم من أسماء الألوهية، مثل الرّبّ، والإله.. ونحو هذا، فهذا المسمّى وإن أخذ الاسم فإن هذا الاسم، لا يعطيه شيئا مما لله سبحانه وتعالى، من قدرة، وعلم، وحكمة، وإحياء، وإماتة وغير هذا مما تفرّد به المولى، جلّ وعلا..
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا» ..
هو إنكار لهذا القول المنكر الذي يقوله الذين لا يؤمنون بالبعث، وهو استبعادهم أن يبعث الموتى، بعد أن تبلى أجسادهم، وتحلل وتصير ترابا..
والإنسان هنا ليس إنسانا بعينه، وإنما هو جنس للإنسان، يدخل فيه كل من يقول هذا القول، ويعتقده..
وقوله تعالى: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» ..
هو ردّ على هذا الإنسان الذي يمثل الإنسانية الضالة المنكرة للبعث، التي يقال على لسانها هذا القول: «أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟» أفلا يذكر هذا الإنسان كيف كان خلقه؟ ثم ألا يذكر أين كان هو قبل أن يولد؟ لقد كان عدما، لا وجود له، ثم صار هذا الكائن الذي يقف من ربّه موقف المحادّ المحارب؟
ثم لينظر هذا الإنسان: أخلق مخلوق من عدم.. أهون، أم خلق مخلوق(8/753)
من بقايا مخلوق؟ لينظر فى هذه القضية على مستواه البشرىّ، وسيرى أن إيجاد شىء من عدم مستحيل استحالة مطلقة، أما إيجاد شىء من حطام شىء، فهو واقع فى حدود الإمكان، المتاح للإنسان..!!
فإذا كان ذلك كذلك فى حدود الإنسان، المخلوق، الضعيف.. أفيعجز الله القادر القوىّ، الذي خلق الإنسان من عدم- أن يعيد هذا الإنسان مرة أخرى، بعد أن يرجعه إلى العدم، أو ما يشبه العدم؟ ..
«وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا.. وَنَسِيَ خَلْقَهُ.. قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (78- 79: يس) ..
قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا..»
الخطاب هنا للنبىّ، صلوات الله وسلامه عليه، وفى القسم له بربّه وإضافته إلى ربّه، تكريم عظيم له، واستدناء له من ربّه، وإفضاء إليه بهذا الخبر، الذي يردع الظالمين ويفزعهم..
فهؤلاء المشركون، الضالون، المكذبون بيوم الدّين، سيحشرون مع الشياطين، حشرا واحدا، يجمع بينهم.. إذ كانوا على شاكلة واحدة.. ثم هم بعد هذا الحشر مدعرون إلى جهنم، يساقون إليها سوقا، ويجتمعون حولها، جاثين على ركبهم، فى هوان وذلة، حيث يشهدون بأعينهم المنزل الذي سينزلونه منها! قوله تعالى:
«ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» ..
ننزعن: نخرجنّ، والنزع إخراج الشيء بشدة وقوة، وقهر.
والشيعة: الجماعة على رأى واحد، يلتقون عنده، ويتناصرون عليه..(8/754)
والعتىّ: العتو، والمشاقّة، والخلاف القائم على الظلم..
والصّلىّ: الاصطلاء بالنار والقرب منها، والمراد به هنا: الاحتراق بها..
والآيتان تصوران بعض مشاهد القيامة، وما يقع للظالمين، والضالين، من أهوال فى هذا اليوم العظيم..
ففى هذا اليوم يحضر المجرمون جميعا، حول جهنّم، جاثين على ركبهم، حيث لا يستطيعون القيام على أرجلهم، مما أصابهم من هول، انحلّت به عزائمهم، وانهدّت منه قواهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» (45: الذاريات) .. ثم إذا اجتمع جمع هؤلاء المجرمين حول جهنم، انتزع من بينهم أئمة الضلال فيهم، وقادة الكفر منهم، ثم يلقى بهم فى جهنم، حيث يشهد أتباعهم بأعينهم ما يلقون من بلاء، سيلقونه هم عما قليل، وحيث يرى هؤلاء الأئمة أن زعامتهم وإمامتهم فى الدنيا، لم تكن إلّا وبالا عليهم، وأن أتباعهم أحسن حالا منهم، وأن مواقع الضّلال والفتن، وإن كانت كلها سوءا ووبالا، فإن المتأخر فيها خير من المتقدم، والتابع أدنى إلى السلامة من المتبوع..
وفى المثل: «كن فى الفتنة ذنبا» ! - وفى قوله تعالى: «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» - فى هذا ما يسأل عنه..
وهو: لم عدّى المصدر «عتىّ» بحرف الجرّ «على» الذي يفيد الاستعلاء..
بمعنى «أيهم أشد عتيّا على الرحمن» .. وكان يمكن أن يكون النظم هكذا:
«أيهم أشد للرحمن عتيّا» بتعدية المصدر بحرف الجرّ «اللام» الذي يفيد الملك، ثم التفلّت من هذا الملك!! فما سرّ هذا؟
نقول: - والله أعلم- إنّ ذكر الصفة الكريمة «الرحمن» هنا، دون صفات المولى جلّ وعلا، كالقوىّ والعزيز، والقادر- إن هذا يشير إلى شناعة هذا الجرم الذي يتلبس به المجرمون، ويتخذون به موقفا معاديا، ومحاربا،(8/755)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
لأرحم الراحمين، الذي لو شاء لمسخهم قردة وخنازير، ولو شاء لرماهم بكل داء، ولأخذ سمعهم، وأبصارهم، وسلط عليهم من الأوبئة ما يجعل أنفاسهم تتقطع أنينا وصراخا.. إلى غير ذلك مما فى قدرة الله، ومما رأوا منه مارأوا فى بعض الناس منهم..
فهؤلاء المجرمون- وتلك رحمة الله بهم- يخرجون عن طاعة الرحمن، بل ويحاربونه، بل ويستعلون على الولاء له، والانقياد لأمره..
والصّورة تمثل معركة بين هؤلاء العتاة المجرمين، وبين رحمة الله.. حيث تدعوهم الرحمة إلى رحابها، وتفسح لهم الطريق إليها، وهم يتأبّون عليها، ويتفلّتون منها.. فهم فى هذا أشبه بالمغالبين لرحمة الله، وهذا أسوأ ما يمكن أن تكون عليه حال إنسان.. من شقاء غليظ، لا تنفذ إليه فيه بارقة من رجاء فى عافية، أو خروج من بلاء..!
الآيات: (71- 72) [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» .
[جهنم.. هل يردها الناس جميعا؟]
الضمير فى واردها يعود إلى جهنم، المذكورة فى قوله تعالى: «ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا» ..(8/756)
أمّا الضمير فى «منكم» فقد اختلف فيه ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن المراد به الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم.. بمعنى أن كلّ إنسان، حتى الأنبياء، والرسل، سيردون النار ويمرّون بها، ويشهدون أهوالها، دون أن يصيبهم منها أذى، بل ستكون بردا، وسلاما عليهم.. ويأتون على هذا الرأى بأحاديث، وأقوال تشهد له!! ثم يقوى من هذا الرأى عندهم قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» ! ثم هم- من جهة أخرى- يدفعون ما قد يثور فى النفس من تخوّف على المؤمنين من هذه التجربة التي يمرّون بها، والتي إن سلمت منها أجسامهم، فلن تسلم منها مشاعرهم- هم يدفعون هذا، بأن المؤمنين حين يمرّون بجهنم، ثم يخلصون منها إلى الجنة، يشهدون عظمة النعمة وجلالها، التي أنعم الله بها عليهم، إذ عافاهم من هذا البلاء العظيم، الذي رأوه رأى العين!! ونحن نردّ هذا القول، ونأخذ بما هو أولى وأكرم بكرم الله، وفضله، وقدرته على إبلاغ نعمته إلى عباده المخلصين، خالصة من كل شائبة أو كدر! فنقول: إن الضمير فى «منكم» يعود إلى هؤلاء المجرمين الذين سيقوا إلى جهنم، واجتمعوا حولها جاثين على ركبهم، لم يدخلوها بعد.. ثم ينتزع من بينهم أئمتهم، وقادة الضلال والكفر فيهم، فيلقى بهم فى جهنم.. كما جاء فى قوله تعالى: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» .
وإلى هنا لم يكن قد انكشف أمر الأتباع، المتعلقين بهؤلاء الأئمة..
فجاء قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» ليكشف لهؤلاء الأتباع عن مصيرهم(8/757)
وأنهم مأخوذون بما أخذ به هؤلاء القادة الذين سبقوهم إلى جهنم! «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.. كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» أي أمرا قضى به الله سبحانه وتعالى على الظالمين، من الكافرين، والمشركين، وأصحاب الضلالات أن يردوا جهنم، وأن يقفوا على هذا المورد الوبيل، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140: النساء) وكما يقول جل شأنه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119:
هود) وكما يقول سبحانه: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (98: الأنبياء) .. فجهنم هى الحكم الذي قضى به الحق جل وعلا على أهل الشّقوة من الناس..
ثم إنه ليس يصحّ أن يكون من تكريم المؤمنين فى هذا اليوم، وعلى رأسهم الأنبياء، والرسل والصديقون، والأولياء، والأبرار، والشهداء- ليس يصح أن يكون من مظاهر تكريمهم أن يدخلوا فى هذه التجربة القاسية، وأن يردوا هذا المورد الجهنمى، وهم إنما سعوا إلى الله، وأحبّوا لقاءه، ليخلصوا من أكدار الدنيا.. فهل مما يقع فى التصور أن يكون أول ما يلقونه فى الآخرة، هو هذا الوجه الكريه المشئوم منها، وهو جهنم؟
وكيف يرد المؤمنون وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، هذا المورد الذي لا يرده إلّا الخاطئون، والذي يصفه الحق تبارك وتعالى بقوله عن فرعون:
«يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (98:
هود) ؟
ثم كيف، والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ(8/758)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»
(101- 103: الأنبياء) فهذا صريح قول الله تعالى، فيما يلقى المؤمنون الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من كرامة، وتكريم، فى هذا اليوم، إنهم مبعدون عن جهنم، لا يسمعون حسيسها.. فكيف يردونها؟ ثم كيف يدخلونها؟ إنه على أي حال دخول فى محيط هذا البلاء العظيم، وإن خرجوا منه من غير أن يصيبهم من لظاها أذى! والمثل يقول: «حسبك من شرّ سماعه» فكيف بلقائه، والانغماس فيه؟
- أما قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» .. فهو معطوف على قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» ..
فهذه الآيات تصور موقف الضالين والكافرين يوم القيامة، وما يلقون من بلاء وهوان، وأنهم جميعا واردون جهنم على دفعات.. الرؤساء أولا.. ثم المرءوسون ثانيا..
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» بيان لما يكون للمتقين، ولعباد الله المكرمين فى هذا اليوم من تكريم، حيث يفوزون بالنجاة من هول هذا اليوم، ومن عذابه الأليم.. كما يقول سبحانه «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» (11: الإنسان) ..
أما أهل الشّقوة فيتركون على ما هم فيه من بلاء وضنك، ونكال، حيث يشهدون بأعينهم هذا الركب الميمون، تزفه ملائكة الرحمن، إلى جنات النعيم، وإلى ما يرزقون فيها من كل طيب وكريم..
وتقديم الفصل هنا فى أمر أصحاب النار، على الفصل فى أصحاب الجنة، هو(8/759)
الذي تجىء عليه أحداث القيامة يومئذ، حيث يؤتى بالمجرمين أولا. ثم يقضى فيهم بدخول النار.. ثم يجاء بالمؤمنين فيقضى فيهم بدخول الجنة..
وحكمة هذا، هى أن يعجل لأهل النار بالنار، حتى تنقطع آمالهم من أول الأمر، بأن لا مكان لهم فى الجنة، وأن لا مطمع لهم فى أن يكونوا من الناجين، وذلك مما لا يتحقق، لو بدىء بالفصل فى أصحاب الجنة، حيث يعيش المجرمون لحظات تداعبهم فيها الآمال، وتتحرك فى نفوسهم الأطماع أنهم قد يكونون فى هؤلاء الآخذين طريقهم إلى الجنة، وأن دورهم لم يأت بعد، كما يقول سبحانه:
«وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ» (46: الأعراف) .
وفى تقديم الفصل فى أصحاب النار على الفصل فى أصحاب الجنة، جاء قوله تعالى: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً..» (69- 73: الزمر) .
وجاء قوله تعالى أيضا: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ(8/760)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
مَجْذُوذٍ»
(105- 108: هود) .
هذا ويمكن أن تؤوّل الآية الكريمة على وجه آخر، وهو أن قوله تعالى:
«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» يراد به أهل النار جميعا، على اختلاف حظوظهم السيئة منها.. سواء فى هذا من يخلدون فى النار من الكافرين والمشركين والمنافقين، أو من كان من المؤمنين، أصحاب الكبائر والصغائر..
ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» محتملا أن يراد به بعض أهل النار، وهم أولئك المؤمنون من أصحاب المنكرات.. فهؤلاء- لا شك- غير مخلدين فى النار، وإنما هم فيها أشبه بالمسجونين سجنا مؤقتا، سيخرجون منه حتما بعد استيفاء المدة المحكوم على كل واحد منهم بها.. ثم بعد هذا قوله تعالى: «وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» مبينا المصير الذي يعيش فيه الظالمون من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، بعد أن انكشف المصير الذي صار إليه من كانوا معهم فى النار من عصاة المؤمنين..
الآيات: (73- 76) [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)(8/761)
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة جهنم وأهوالها، وعرض أهل الضلال عليها، ثم إلقاءهم فيها.. جاءت هذه الآيات بعد ذلك لترد هؤلاء الضالين إلى الحياة التي كانوا فيها، بعد هذه الرحلة المرهقة التي رأوا فيها جهنم عيانا، وطلع عليهم من أنفاسها الملتهبة ما يكظم منهم الأنفاس، ويشوى الوجوه..
جاءت هذه الآيات، لتعرض هؤلاء الضالين المشركين، بعد تلك التجربة، لترى أثرها فيهم، وفى موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستجابة لرسول الله- وإذا هم على غيّهم وضلالهم: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» أي واضحات مشرقات: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ» نحن أم هؤلاء الذين مع محمد..؟
أي الفريقين منا ومنهم «خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» أي خير حياة، وخير تمكنا من هذه الحياة، وأحسن مظهرا، حيث يضمنا نادينا، وحيث يجتمعون هم إلى محمد؟ إننا فى نعمة ظاهرة، وفى حياة رافهة، وفى مجالس عامرة بسادة القوم، ووجوه الناس.. وهم بين عبيد أرقاء، وبين فقراء لا وزن لهم فى الناس، ولا مكانة لهم فى المجتمع..
واللام فى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا» : إما أن تكون لام التعدية، وعلى هذا يكون القول من الذين كفروا موجها إلى الذين آمنوا..(8/762)
وإما أن تكون متعلقا بمحذوف، تقديره «محقّررين» أو «كائدين» للذين آمنوا.. أي قال الذين كفروا محقرين للذين آمنوا: أي الفريقين خير مقاما..؟
- وفى قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً..»
تهديد لهؤلاء المشركين، وتسفيه لجهلهم وضلالهم، إذ تمسكوا بهذه الدنيا وجعلوا كل وجودهم لها- فهؤلاء الضالون لن يخلدوا فى هذه الدنيا، ولن ينفعهم ما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين.. إنهم هالكون لا محالة، طال الزمن بهم أم قصر.. فإن شكّوا فى هذا، فلينظروا فى الأمم التي خلت من قبلهم، وما كان بين هذه الأمم من أصحاب أموال، ورياسات.. كانوا أكثر منهم مالا ومتاعا، وأبهى منظرا، وأعظم جاها وسلطانا.. فأين هؤلاء؟
لقد هلكوا فيمن هلك.. وسيهلك هؤلاء المشركون- سادة ومسودين- ولن تبقى منهم باقية!.
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» .
أي من كان على تلك الحال من الاستغراق فى الضلالة، واستهلاك وجوده فيها، فإنه لن يرجع عن ضلالته، ولن يستمع لنصح ناصح، أو عظة واعظ..
وإذن «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» وليترك له الطريق مفتوحا إلى غايات الضلال، فلا يضيّق الله عليه فى الرزق، ولا يبتليه بشىء فى نفسه أو ولده، حتى لا ينصرف عن هذا الضلال، الذي هو غارق فيه.. كما يقول سبحانه:
«أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» هو تكريم لهم، وإحسان منا إليهم؟ كلا.. ولكن «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» (55- 56: المؤمنون) .(8/763)
- وفى قوله تعالى: «مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ» إشارة إلى أنه مستغرق فيها، وأن الضلالة ظرف قد احتواه، واشتمل عليه، فلا مخرج له منه..
وفى فعل الأمر: «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» إشعار بأن هذا قضاء قضاه الله سبحانه وتعالى فى أهل الضلال، وأوجبه جل شأنه على نفسه، كما أوجب رحمته لمن سبقت لهم من الله الحسنى.. فكأن ذلك أمر تقتضيه حكمة الله من الله..!
وفى إسناد فعل الأمر إلى «الرحمن» إشارة أخرى إلى أن هذا المدّ من الله سبحانه وتعالى للمشركين إنما هو- مع ما فيه من خذلان لهم- محفوف بالرحمة، إذ لو شاء الله سبحانه، لأخذهم بذنوبهم، ولعجّل الله العذاب فى الدنيا، ولما أمهلهم تلك الفسحة من العمر، ليكون لهم فيها نظر إلى أنفسهم، وعودة إلى الله..
«حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» ..
حتى حرف غاية إلى هذا المد الذي يمده الله للمشركين، وأنه منته بهم إلى أمرين:
إما العذاب فى الدنيا، بمهلكة يصبّها الله سبحانه عليهم، ويأخذهم بها، أو بالهزيمة والخزي على أيدى المؤمنين، فيما سيكون بينهم وبين المسلمين من قتال، كما يقول سبحانه: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا» (52: التوبة) .
وإما عذاب الآخرة.. فإنهم إن أفلتوا فى الدنيا من هذا العذاب أو ذاك، فإنهم لن يفلتوا من عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، كما يقول سبحانه:(8/764)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
«أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (44- 48: القمر) .
وعندئذ، سيعلم هؤلاء الضالون: «مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» وسيرون أىّ الفريقين «خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟» قوله تعالى:
«وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» .
هو بيان لما يلقى المؤمنون المهتدون من إحسان الله سبحانه إليهم، وألطافه بهم.. إنه سيمدهم فى الدنيا بالهدى، ويزيدهم فلاحا إلى فلاح، وإيمانا مع إيمان، على حين يخذل الله سبحانه المشركين، ويمدّ لهم فى الغى والضلال..
- وفى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» تعقيب على ما للأعمال الصالحة من آثار طيبة، تثمر لأهلها ثمرا طيبا.. إنهم غرسوا فى مغارس الخير، وقد بارك الله عليهم فيما غرسوا، وحرسه لهم من الآفات والمهلكات، وها هم أولاء وقد نضج الزرع، وطاب الثمر.!
والمردّ: المرجع، والمآل، والعاقبة..
الآيات: (77- 87) [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 87]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)(8/765)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً» ..
الاستفهام هنا للتعجب، والمخاطب هو النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم هو خطاب لكل من هو أهل للخطاب..
والتعجب، والعجب، هو من أمر هذا الذي كفر بآيات الله، ولم يؤمن بأن لهذا الوجود إلها خالقا، وربّا قائما على ما خلق- ومع هذا الإنكار لله من هذا الكافر الجهول، يقسم بأنه سيؤتى فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- سيؤتى مالا وولدا، كما أوتى فى هذه الدنيا، الكثير من المال والولد! هكذا يذهب الشيطان بأوليائه، تلك المذاهب البعيدة فى الضلال، ويقيم لهم حججا من الوهم والخيال، فهم كافرون بالله، إذا لم تكن هناك آخرة..
وإذن لا خسران عليهم من هذا الكفر.. وهم مؤمنون بالله إن كانت هناك آخرة، وإذن فلن يفوتهم حظهم الكبير إن كان للناس هناك حظوظ من مال وبنين!! «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (12: يونس) .(8/766)
قيل إن هذه الآية نزلت فى بعض مشركى قريش، ولم يتفق المفسّرون على واحد بعينه، قيل فيه هذا القول..
وهذه الروايات المتعارضة المتضاربة فى أسباب النزول، تدعونا إلى أن نسقط هذه الآراء جميعها، ولا نأخذ بواحد منها، إذ أن ذلك يعد ترجيحا بلا مرجّح! والذي نطمئن إليه، هو أن الآية تشير إلى الرجل صاحب الجنتين، الذي جاء ذكره فى سورة الكهف، فى قوله تعالى: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» .. (36: الكهف) .
فالآية إلفات إلى قصة هذا الرجل، وقد سمعها المشركون من قبل، فيما كان يتلوه النبىّ عليهم من آيات ربّه.. وهذا يعنى أن سورة مريم، قد نزلت متأخرة عن سورة الكهف.
قوله تعالى:
«أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» .
هو استفهام إنكارى، ينكر فيه على هذا المتألّى على الله.. الكافر به، هذا الادعاء الذي يدعيه، وأنه سيؤتى يوم القيامة مالا وولدا.. مثل ما أوتى فى الدنيا المال والولد.. فهل اطّلع الغيب، وقرأ ما سطر له فى علم الله؟
أم أنه اتخذ عند الله عهدا بذلك؟ .. إنه لا هذا ولا ذاك، فكيف صحّت عنده هذه الدعوى، وعلى أي أساس أقامها؟ إنه لا شىء إلّا الوهم الذي يمليه الضلال، ويزين وجهه الهوى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) .(8/767)
قوله تعالى:
«كَلَّا.. سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» ..
كلا، كلمة ردع، وزجر، وتكذيب لهذا الادعاء الفاسد.. ونفى مؤكّد لهذا الافتراء.. فلن يؤتى هذا الشقي مالا ولا ولدا، وإنما سيكتب عليه قوله هذا مع ما يكتب من أقواله وأفعاله المنكرة، ثم يكون حصاد هذا كلّه لا مالا ولا ولدا، وإنما هو المزيد من العذاب، والمضاعفة من البلاء..
أما ما فى يديه من مال وولد، فى هذه الدنيا، فسيخرج من يديه، ويصبح ميراثا لغيره لا يمسك بيده شيئا منه يوم القيامة، بل يأتى فردا، عاريا، حافيا، كما ولد من بطن أمه.. عاريا حافيا! قوله تعالى:
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» :
الضمير فى «وَاتَّخَذُوا» يعود إلى المشركين الذين ذكروا من قبل فى قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» ..
فهؤلاء المشركون، قد اتخذوا من مستولدات أوهامهم وضلالاتهم، آلهة يعبدونهم من دون الله، ويرجون عندهم الخير، ويلتمسون منهم العون، والقوة، والتمكين فى الأرض..
قوله تعالى:
«كَلَّا.. سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» ..(8/768)
أي ولكن هؤلاء الآلهة التي هى صنعة أولئك المشركين، سينكرونهم يوم القيامة، وينكرون صلتهم بهم، بل ويكونون شهادة قائمة عليهم بما يفضحهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما..!
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» ..
الاستفهام هنا للأمر.. وتقديره انظر كيف أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين.. تؤزهم أزّا.. أي تغريهم إغراء، وتدفعهم إلى الضلال دفعا..
فالمشركون- والحال كذلك- مدفوعون دفعا إلى هاوية مهلكة، لافكاك لهم منها.. إن هناك قوى خفية تدفع بهم إلى الشر، وتغريهم به، وتوردهم موارده..
وإذن، فلا تعجل عليهم، واصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم، وسترى قضاء الله فيهم.. فإنهم مأخوذون بذنوبهم، التي تزداد كل يوم يمضى من حياتهم فى هذه الدنيا.. وهذه الذنوب محصاة عليهم، معدودة فيما يعدّ لهم من سيئات وآثام.. فكلما طالت أيامهم فى هذه الدنيا، كثرت أحمالهم من الذنوب، وضوعف لهم العذاب.
قوله تعالى:
«يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً» .
«يوم» ظرف، متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» فهذا العدّ الذي يحصى على المشركين أفعالهم المنكرة، يلزم منه الجزاء(8/769)
والعذاب.. والتقدير إنما نعدّ لهم عدّا، فنأخذهم بما كسبوا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا..
وحشر المتقين إلى الرحمن، جمعهم إلى ساحة فضله وإحسانه، فى هيئة وفد كريم، يفد إلى جناب كريم، حيث ينزل منازل الإكرام والإعزاز..
وسوق المجرمين إلى جهنم وردا، هو دفعهم إليها، وسوقهم نحوها، كما تساق الأنعام.. فهم أشبه بقطيع من الماشية يساق إلى المذبح، ولا يدرى ماذا يراد به هناك! وفى التعبير عن المشركين بالمجرمين، وصف لهم بالصفة البارزة فيهم، والتي هى لازمة من لوازم الشرك.. فالمشرك مجرم آثم..
ومعنى «وردا» واردين، جمع وارد، والوارد، من يرد الماء ليشرب ويرتوى من ظمأ.. وهؤلاء إنما يردون عطاشا ليرتووا.. ولكن لا يجدون هناك إلا حميما وغسّاقا، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56 الواقعة) قوله تعالى:
«لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» .
أي إن هؤلاء المجرمين المساقين إلى جهنّم، الواردين حياضها على ظمأ يحرق أكبادهم- لا يملكون ما يشفع لهم عند الله، ويعدل بهم عن هذا المورد الوبيل الواردين عليه.. لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا، وأمضى هذا العهد ووفى به، فإن له شفاعة عند الله.. فى نفسه، وفى غيره أيضا..
ومن هذا العهد ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ(8/770)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ»
(111: التوبة) فهذا عهد عاهد الله عليه المجاهدين فى سبيله، وقد اتخذ المجاهدون هذا العهد من الله، ووفوا به، فكان شفاعة لهم عند الله من عذاب جهنم..
والإيمان بالله، وبشريعة الله، هو عهد بين المؤمن وربّه، فإذا وفى بما عاهد الله عليه، أنجز الله له ما وعده من رضوانه، وفى هذا يقول الله تعالى:
«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (60- 61: يس) ..
الآيات: (88- 98) [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 98]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
التفسير:
الإدّ: الأمر المنكر، الذي يثقل كاهل صاحبه، ويقصم ظهره..(8/771)
يتفطّرن: يتشققن، خوفا وإشفاقا من هذا البهتان العظيم..
قوما لدّا: أي ذوى لدد وشدّة فى الخصومة، ولجاجة فى الجدل..
الركز: الصوت الخفيض..
وقوله تعالى:
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» .
هو عرض لمقولة من مقولات الضالين، وهم تلك الطوائف من اليهود والنصارى، الذين نسبوا إلى الله الولد، فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله..
وفى الإخبار بقولهم هذا، تهديد لهم، ووعيد شديد، بما سيلقون من وراء هذا الافتراء، الذي فزعت له السموات والأرض، حتى لقد اضطرب كيانهما، فكادت السموات تتشقق، وكادت الأرض تتصدع وتنخسف، وكادت الجبال تنهدّ وتتهاوى..
فمن يمسك على هذه الموجودات وجودها، ومن يحفظ عليها نظامها، إذا كان لله ولد؟ إن إلها يتخذ ولدا لأعجز من أن يقوم على أمر نفسه، فضلا عن أن يدبّر وجود غيره ويحفظه..
- وقوله تعالى: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» هو ردّ على تلك المقولة المنكرة..
قد نطق به الوجود كلّه، الذي يرى آثار الله فيه، وتدبيره له- نطق به منكرا هذا القول المنكر.. الذي جاء به الضالون، من واردات الإفك والزور.(8/772)
قوله تعالى:
«أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» .
هو بيان، وتفسير للضمير فى قوله تعالى: «منه» أي تكاد السموات يتفطرن، والأرض تنشق، والجبال تنهدّ، من أن ينسب هؤلاء الضالّون ولدا إلى الله.. إذ ما يصحّ، ولا يجوز أن يتخذ الرحمن ولدا.. فما يتّخذ الولد، إلّا ليسدّ حاجة فى نفس والديه.. والله سبحانه وتعالى فى غنى مطلق عن أن يحتاج إلى شىء، فكل ما فى السموات والأرض ملك لله، خاضع لمشيئته، كلهم عبد، وعابد له..
وقوله تعالى:
«لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» .
هو بيان لقدرة الله تعالى، وسلطانه على هذا الوجود، وأن كلّ موجود فيه- صغر أم كبر- هو بيد القدرة الممسكة به، العالمة بكل ما فى ظاهره وباطنه.. وكل إنسان سيأتى يوم القيامة فردا، لا يصحبه أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا متاع.. فهؤلاء الضالّون محصون فى علم الله، معروفون بذواتهم وأعمالهم، ومعدود عليهم كل نفس يتنفسونه، فلا يقع فى ظنهم أنهم غائبون عن الله، تائهون فى خضمّ هذا الوجود..!
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» .
وأهل الفوز من الناس جميعا، هم أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات..
فهؤلاء، حين يأتى الناس يوم القيامة، ولا شىء معهم- سيأتون هم ومعهم صالح أعمالهم، التي تقربهم إلى الله، وتدنيهم من رحمته، وتنزلهم منازل مودّته وألطافه..(8/773)
قوله تعالى:
«فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» .
الضمير فى يسّرناه، يعود إلى القرآن الكريم، الذي لم يجر لهم ذكر فى هذا العرض الذي جاءت به الآيات السابقة.. وفى هذا تنويه بفضل القرآن، وأنه هو المذكور فى هذا الموقف، والملجأ الذي يلجأ إليه الناس، ويجدون فيه الهدى، والنجاة من أهوال يوم القيامة.
فهذا القرآن ليس مما يخفى أمره على من يريد الهدى، ويلتمس النجاة.. إنه لا هدى إلا منه، ولا نجاة إلا بالتعلق به.. وإنه ممهد السبل، واضح المناهج، قريب التناول.. إنه يخاطب القوم بلسانهم الذي يتخاطبون به، فلا غموض فيه ولا إبهام.. إنه ليس سجعا كسجع الكهان، ولا تمتعة كتمتمة السحرة..
ولكنه بلسان عربى مبين.. وهذا الأسلوب الذي جاء عليه القرآن بلسان النبىّ، ولسان قومه، إنما ليكون حجة قائمة على الناس.. يدعوهم إلى الله، وإلى الإيمان به، وامتثال أو امره، واجتناب نواهيه.. فمن آمن، وعمل صالحا، فيا بشراه بما يلقى من نعيم الجنات ورضوان الرحمن.. ومن أبى، وأعرض..
فيا لخسرانه، ويا لحسرته.. يوم لا ينفع مال ولا بنون..!
- وفى قوله تعالى: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» إشارة كاشفة إلى تلك الآفة التي حجزت المشركين عن الاهتداء بهذا الهدى، والاستضاءة بذلك النور..
وإن آفتهم لهى هذا اللجج فى الخصومة والجدل، كما يقول سبحانه فيهم:
«بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» (58: الزخرف) .(8/774)
قوله تعالى:
«وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ.. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» ..
هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا أمسكوا على ما هم عليه من عناد وضلال، فإنهم سيخرجون من هذه الدنيا بأخسر صفقة..
فما هى إلا أيام يعيشونها فى هذه الدنيا، ثم يطويهم التراب، كما طوى أمما وقرونا كثيرة من قبلهم، فأصبحوا ترابا هامدين، لا يذكر لهم أثر، ولا يسمع لهم نبأ! ..(8/775)
20- سورة طه
نزولها: مكيّة.. نزلت بعد سورة «مريم» .
عدد آياتها: مائة وخمس وثلاثون آية.
عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفا.
مناسبتها للسورة التي قبلها
ختمت سورة مريم بقوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» .
وبدئت سورة طه بقوله: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» .
والختام، والبدء، على سواء فى تذكير النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ليس مسئولا عن هداية الناس، وحملهم حملا على الإيمان بالله.. وإنما دعوته هى تبليغ رسالة ربّه.. والرسالة- كما يحملها القرآن الكريم- واضحة بيّنة، لا تحتاج إلى جهد يبذل وراءها، ليكشف عن مضامينها.. إنها لا تحتاج- لكى يجنى الناس ثمراتها- إلا إلى آذان تسمع، وعقول تعقل، وقلوب تعى «فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (41: الزمر) «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ.. وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف)(8/776)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (1- 8) [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
التفسير:
قوله تعالى:
«طه» ..
قيل: إن طه، منادى، ومعناه: يا رجل.. وقيل: إن «طه» بمعنى رجل هو فى اللغة النّبطية، وقيل فى السّريانية.. وقيل فى لغة بعض القبائل العربية، واستدلّ القائلون بهذا، بأشعار أوردوها..
والرأى عندنا، أن «طه» حرفان، هى: الطاء والهاء، وقد بدئت السورة بهما، على ما بدئت به بعض السّور.. مثل: حم، ويس..
ولعل أقرب مفهوم لهذين الحرفين هنا، هو أنهما من السهولة، والوضوح، بحيث لا يخفى أمرهما على ناطق باللسان العربي.. وهكذا شأن القرآن الكريم، فى آياته وسوره، وفيما حمل إلى الناس من أحكام، وشرائع، ومواعظ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آخر سورة مريم: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ» ..(8/777)
فهو ميسّر للذكر والفهم، كتيسير طاء وهاء، فى وضوحهما ويسرهما، نطقا، ومدلولا..
قوله تعالى:
«ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» .
فى هذه الآية الكريمة نفحة من نفحات السّماء، وروح من رحمة الرّحمن، يتلقاهما النبىّ الكريم، من ربّه، وهو فى هذا المعترك الصاخب بينه وبين قومه، الذين لج بهم العناد، وأعماهم الضلال، فركبوا رءوسهم، وأبوا إلا خلافا عليه، وسخرية به، وإيذاء له.. وهو البارّ بهم، الحدب عليهم، الحريص على هدايتهم، واستنقاذهم من الضلال والهلاك..
وليس يدرك ما كان يجد النبىّ من خلاف قومه عليه، من أسى وحسرة، إلا من يستمع إلى قوله تعالى فى وصف الله سبحانه للرسول بقوله: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» (128: التوبة) .
وليس يتصور مدى ما كان يحمل النبىّ من آلام، وما يكابد من مشقات، وهو يدور حول هؤلاء السفهاء من قومه، ليجد منفذا ينفذ منه إلى مواقع الهدى منهم ومواطن الاستجابة فيهم- ليس يتصور هذا، إلا من يستمع إلى قوله تعالى، ناصحا لنبيه داعيا إياه إلى الرفق بنفسه، والمصالحة مع كيانه، الذي كاد يتمزق ألما وضيقا وحسرة عليهم..
إذ يقول سبحانه وتعالى له: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) ويقول جل شأنه: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» (137: النحل) ويقول جل من قائل: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (6: الكهف) ويقول سبحانه:(8/778)
«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) ..
هكذا كان يعيش النبىّ مع قومه، فى عطفه ورحمته، وهم فى غلظتهم وسفاهتهم.. وهكذا كانت تنزل عليه آيات ربه، تدعوه إلى الترفق بنفسه، والتخفف من حرصه.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بما ملأ الله به قلبه من رحمة، لا يكاد يمسك من نفسه هذا التيار المتدفق من الرحمة والحنان، حتى تغلبه رحمته، وإذا هو على هذا الطريق المسدود.. يهتف ولا مجيب، وينادى ولا مستمع! - وفى قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» أكثر من نصح للنبىّ، إلى الرفق بنفسه.. بل إنه شىء أقرب إلى العتاب واللوم.. ولكنه عتاب فى مقام الفضل والإحسان، ولوم فى موطن المبالغة فى الفضل والإحسان، شبيه بقوله:
تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» (1: التحريم) ..
فالقرآن الكريم هو رحمة الله المنزلة على عباده.. فكيف يشقى به النبىّ، ويحمل منه هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال؟ كيف هذا، وهو الذي من حقّه أن يأخذ من هذه الرحمة النصيب الأوفى، والحظ الأعظم؟
إن الله سبحانه وتعالى، ما أنزل عليه القرآن الكريم، ولا اختصه به، إلا ليسكن به فى قلبه السكينة والمسرة، وإلا ليملأ به كيانه روحا، وأنسا..!
فكيف يشقى به، ويحمل منه هذا العناء الشديد؟
- «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» فرفقا بنفسك، ودع هؤلاء الغواة الضالين وشأنهم، بعد أن بلغتهم رسالة ربك..(8/779)
قوله تعالى:
«إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» ..
تذكرة مفعول لأجله، للفعل فى قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، لا لتشقى به وتحمل نفسك هذا العناء الشديد المتصل، الذي أنت فيه.
فمن كان عنده استعداد لقبول الهدى، فإنه لأول لقاء له مع القرآن الكريم، جدير به أن يؤمن، ويستجيب لله وللرسول.. وأما من كان ممن ختم الله على قلبه، وجعل على سمعه وبصره غشاوة، فإنه لن يهتدى أبدا، ولو قضيت العمر كله، تأتيه من كل جانب. وتلقاه بكل سبيل..
واختصاص أهل الخشية بالتذكرة والانتفاع بالقرآن، لأنهم هم الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، ولا يعيشون ليومهم كما يعيش أهل السفاهة والضلال.. فإن من خشى العواقب استعمل عقله، وقلّب وجوه الأمور التي تعرض له..، فاستبان له وجه الحق منها.
قوله تعالى:
«تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى» .
تنزيلا مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره تنزل، أي تنزل هذا القرآن الذي أنزله الله عليك تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى..
والمراد بالتنزيل أنه نزل منجما، مفرقا، لا دفعة واحدة.. وهذا من أمارات الرفق بالنبيّ الكريم، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .
قوله تعالى:
«الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» ..
هو بيان لقدرة الله تعالى، وبسطة سلطانه على هذا الوجود الذي أوجده..(8/780)
فهو سبحانه قد استوى على عرش هذا الوجود، وانفرد بمقام الملك والحكم فيه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك من صاحبة أو ولد! ..
وقد كثر القول بين أصحاب المقولات، من فرق المعتزلة، والقدرية، والمجسّدة، وغيرهم- كثر القول والخلاف فى تأويل العرش، والاستواء على العرش.. وخير ما قيل فى هذا المقام قول الإمام مالك وقد سئل عن تأويل الآية، فقال للسائل: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.. وما أراك إلا مبتدعا» .. فمن ذا الذي يعلم العرش؟ ثم من ذا الذي يعرف ذات ربّ العرش؟ وإن كان ذلك فوق العقل، فكيف يعرف شأن ذات لا سبيل إلى أن تعرف؟.
قوله تعالى:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى» هو بيان، لقدرة الله، وسعة سلطانه، ونفوذ أمره إلى كل موجود فى هذا الوجود، علوه وسفله.. وهذا لا يكون إلا لمن ملك هذا الوجود ملك قدرة وحكمة وعلم، بحيث يقوم الوجود كله على ميزان مستقيم، لا يهتزّ أية هزّة، وإلا لما كان لهذا المالك أن يستوى على العرش، وأن يستقرّ عليه، وأن يدوم له استقرار!.
قوله تعالى:
«وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» .
ومن دلائل ما لله سبحانه وتعالى من علم، أنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تنطوى عليه الصدور، وما تتلبس به المشاعر.
والمعنى: إن تجهر بالقول، سمعك السميع العليم، وإن تسرّ به،(8/781)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
أو تطوه فى صدرك، فإنه يسمعه ويعلمه.. «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» أي وما هو أخفى من السرّ، وهو حديث القلب وهجسات الخاطر.. وذلك هو الله الذي لا إله إلّا هو.. «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» أي له من الأسماء كل ما هو كمال كله، وحسن جميعه.. «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» .. فأى اسم يفرد الله بالكمال والجلال، ويخصّه بالربوبية والألوهية، فهو من أسمائه، التي يدعى بها، ويتعبّد له بذكرها.
الآيات: (9- 16) [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
التفسير:
فى هذه الآيات، والآيات التي ستأتى بعدها، ذكر لقصة موسى عليه السلام..
والذي ذكر من قصة موسى هنا، يمثّل مقطعا كبيرا من حيلته.. وذلك من بدء اختياره للرسالة، ولقائه فرعون، وما كان بينه وبين السحرة، ثم خروجه مع بنى إسرائيل، وغرق فرعون.. ثم ما وقع لبنى إسرائيل من(8/782)
فتنتهم وعبادتهم العجل، وما جرى بين موسى وأخيه هرون، ثم ما جرى بين موسى والسامرىّ الذي صنع العجل، ودعا القوم إلى عبادته.
أما ذكر ميلاد موسى، وإلقائه فى الميم، وعودته إلى أمه.. فقد جاء فى أثناء القصة، تذكيرا لموسى بنعمة الله عليه، ورعايته له، تلك الرعاية التي نجا بها من فرعون حين أوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه فى اليم، فساقه اليمّ إلى يد فرعون، الذي كان يطلب قتله!! فحفظه وربّاه، واتخذه ولدا!.
ومناسبة قصة موسى وفرعون لهذا البدء الذي بدئت به هذه السورة، هو تذكير للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بما تنطوى عليه قلوب الظالمين من ظلم، وما تتلبّس بهم عقولهم من ظلام وضلال، وأنهم فى وجه الآيات المشرقة عمى لا يبصرون، وفى مواجهة الحق السافر يشهرون أسلحة الجدل والعناد، ويصطنعون مع الحق معركة، يلقون فيها بكل مالديهم من سفاهة، وسخرية واستهزاء..
فموقف موسى من فرعون، هو نفس الموقف الذي يقفه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من هؤلاء الفراعين، من سادة قريش، وقادة الكفر والضلال فيهم.
وفى هذا جذب للنبىّ من دائرة الضيق والأسى، التي هو فيها، حزنا على قومه، وحسرة على أنه لم يستطع أن يطبّ لدائهم ويشفى العلل المتمكنة منهم.. إنهم ليسوا أحسن حالا من فرعون، الذي لم يستطع موسى بآياته المحسوسة، أن يشفى داءه، ويذهب بعلته.. فليمت هؤلاء الفراعين بدائهم، كما مات فرعون بدائه.. ولن يندبهم أحد، ولن يأسى على مصابهم قريب أو حبيب.
راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ... ولا تعطّلت الأعياد والجمع(8/783)
وتبدأ القصّة بهذا الاستفهام، الذي يثير أشواق النفس إلى الاستماع للجواب عن هذا السؤال المثير:
«وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» أي لمحتها، وفى التعبير عن رؤية النار بالفعل «آنست» الذي يدلّ على الأنس بها، والبشاشة بوجودها، ما يشير إلى أن موسى كان فى وحشة ليل بهيم، فى هذه الصحراء التي لا أحد فيها.. فهو فى وحشة الليل، ووحشة الوحدة.. فلما رأى النار، وجد شيئا من الأنس والطمأنينة، لأن النار لا بد أن يكون عندها من أوقدها.. وكان موسى قادما من مدين إلى مصر ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام.
«لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» .. فهو إذ يتجه إلى حيث تشتعل النار، إنما يرجو أن يأتى منها «بقبس» أي شىء من الحطب المتّقد، أو يجد عند النار من يدلّه على الوجهة التي تتجه به إلى مصر..
وفى قوله: «عَلَى النَّارِ» بدلا من «عند النار» إشارة إلى أن الوقت كان بردا، وأن من يوقد النار إنما كان يوقدها ليستدفئ بها ويعلوها..
«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» .
وما كاد موسى يبلغ النار، حتى نودى من قبل الحقّ جلّ وعلا:
«يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» تأدبا، لأنك فى مقام تخاطب فيه ربّك ويخاطبك.. «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي بالوادي المبارك، المطهّر، الذي باركه الله وطهّره بمناجاتك فيه..
وطوى: هو اسم البقعة من هذا الوادي، أو هو نفس الوادي.(8/784)
- «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» واصطفيتك لرسالتى.. فأنت منذ الآن رسول من رسلى.. «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» إليك منى..
«إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» .
فهذا أول ما يستقبل الرسول من أمر ربّه.. أن يعرف ربّه، ويعرف صفاته، ثم يعبده كما أمره.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ» فاعرف من يخاطبك.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ.. لا إِلهَ إِلَّا أَنَا» ليس هناك إله غيرى.. وإذ تقرر ذلك، وعرفته وآمنت به «فاعبدنى» أي كن عبدا لى، وعابدا.. «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» .. أي اجعل الصلاة هى العبادة التي تذكرنى بها.. وخصّت الصلاة بالذكر من بين العبادات، لأنها هى المناجاة التي يناجى بها العبد ربّه، ويكشف فيها عن ولائه، وما ينطوى عليه قلبه من تعظيم لله، وولاء له، وانقياد وخضوع لجلاله وعظمته..
«إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» .
وممّا ينبغى أن يؤمن به الرسول قبل أن يبدأ رسالته، أن يؤمن بالآخرة، كما آمن بالله، وأن يستيقن أنها آتية لا ريب فيها..
- وفى قوله تعالى: «أَكادُ أُخْفِيها» إشارة إلى أن الساعة غيب من غيوب الله، وأنها محجبة وراء ستر الغيب، وأن الذي يؤمن بها إنما يؤمن إيمان غيب، لا إيمان شهادة ومعاينة.. ومع هذا، فإنّ هناك من الأمارات، والدلائل، ما يجدها العقل بين يديه، ليستدلّ منها على أن الحياة الدنيا ليست هى مبدأ الإنسان، ونهايته، وأنه لا بد أن يكون وراء هذه الحياة حياة أرحب وأوسع، لتجزى فيها كلّ نفس بما عملت فى هذه الدنيا.. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى: «أَكادُ أُخْفِيها» ولم يجىء النظم القرآنى «أخفيتها» فهذا التعبير القرآنى يحمل فى طياته إشارة مضيئة إلى أن الإنسان مطالب- بما أودع الله(8/785)
سبحانه وتعالى فى كيانه من قوّى عاقلة مدركة- بأن يتجنب الشر، ويتجه إلى الخير، وأن يتنكب طرق الضلال، ويأخذ طريق الهدى، وبذلك يكون مهيئا تلقائيّا للقاء الآخرة، وللفوز برضوان الله فيها.. أما من زهد فى عقله، وتنكر لفطرته، فركب طريق الغواية والضلال، فإن ما يلقاه فى الآخرة من عذاب وبلاء، هو الجزاء العادل الذي يستحقه.
وهذا يعنى أنه إذا لم تكن هناك آخرة، أو حساب وجزاء- فإنه كان جديرا بالإنسان أن يحاسب نفسه، ويقيمها على ما هو أكرم لإنسانيته، وأحفظ لقدرها وكرامتها..
- وقوله تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» أي أكاد ألّا أنبئ أحدا عنها، وألا يقع فى حساب الناس أنها آتية، حتى يعمل كل بما فى طبيعته، وحتى يجزى كل بما هو أهل له، إذا جاء يوم الحساب، على غير حساب أو انتظار من الناس.
ولكن رحمة الله بعباده، قد شملتهم، فأنذروا بهذا اليوم قبل أن يقع، وحذّروا بما فيه من نكال وبلاء للضالين والمنحرفين، ووعدوا بما فيه من خير ونعيم ورضوان، للمؤمنين المتقين..
«فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى» وفى هذا إشارة إلى بنى إسرائيل، وتعريض بإيمانهم بالآخرة، إذ كان إيمانهم بها إيمانا غير مستيقن.. وإنما هو متلبس بالشكّ، والظنون.. ذلك أنهم لا يؤمنون إلّا بما هو مادىّ، يجبه حواسّهم، وفى هذا يقول الله عنهم:
«وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) يقولون هذا عن الله وآيات الله تنزل عليهم من السّماء، يرونها رأى العين، ويعيشون فيها، فكيف بيوم القيامة وليس فى أيديهم شىء منه؟(8/786)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
الآيات: (17- 24) [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 24]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24)
التفسير:
فى هذه المرحلة من رسالة موسى، يبدأ الاستعداد للمرحلة الثانية، التي هى رسالته إلى قومه بنى إسرائيل، وذلك بعد أن يخلصهم من يد فرعون.
ولكن قبل أن تبدأ هذه المرحلة، وقبل أن يدعى موسى إلى لقاء فرعون، تكون له وقفة بين يدى ربّه، يهيئه فيها لهذا اللقاء المثير المخيف.
وها هو ذا موسى يستمع إلى نداء ربه..
«وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» إن موسى يعرف ما بيمينه، ولهذا قال على الفور:
- «هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها.. وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي.. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ..
وهذا الوصف المستغرق لصفات العصا، إنما هو لما وجد موسى من غرابة، السؤال، ووقعه على نفسه.. فليس بين يديه إلا عصا كسائر العصىّ.. يتوكأ عليها، ويهشّ بها على غنمه، ويردّ بها كل عاد عليه، أو يعلق عليها أدواته..(8/787)
أو نحو هذا مما تستخدم له العصىّ فى يد من يحملونها..
وكأنّ موسى قد استشعر من هذا السؤال أنه يحمل شيئا منكرا، لا يليق بمن يخاطبه الله، ويصطفيه لرسالته، أن يحمله.. ولهذا أعطى عصاه كل الأوصاف التي يحملها من أجلها..
وفى هذا الوصف يتحقق موسى أن عصاه هذه ليست إلا عصا من العصىّ التي يحملها الرعاة، والتي يقتطعونها من أغصان الأشجار..
وإذن فليعلم موسى من أمر هذه العصا ما لم يكن يقع له فى حسبان!.
«قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» ..
ولا شك أن موسى قد فزع واضطرب.. وقد فزع واضطرب فعلا، وولّى مدبرا ولم يعقب.. كما يقول سبحانه فى موضع آخر.. «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» (31: القصص) ..
ولهذا جاء قوله تعالى له:
«قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى» ..
وهكذا أخذ موسى العصا، فإذا هى على ما كان يعهدها عليه..
«وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.. آيَةً أُخْرى» ..
هو معطوف على قوله تعالى: «خُذْها» أي خذ العصا، «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» .. ولهذا جاء الأمر هنا غير مسبوق بالقول! - وقوله تعالى: «آيَةً أُخْرى» منصوب باسم فعل محذوف، تقديره: إليك آية أخرى، إلى تلك الآية الأولى، آية العصا، التي عرفتها.. ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من قوله تعالى: «تَخْرُجْ بَيْضاءَ» حالة كونها آية أخرى، إلى الآية السابقة، وهى العصا..(8/788)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
«لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» أي فعلنا ذلك لتشهد ما لنا من قدرة، وما بين أيدينا من آيات.. فهذه بعض آياتنا، وإن آياتنا كثيرة لا تنتهى، عظيمة لا تحدّ..!
وإذا عرفت من بعض مظاهر قدرتنا ما قد عرفت، فلا يهولنّك أمر وإن عظم، ما دمت مندوبا من قبلنا، داعيا باسمنا..
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» .. ولا يخيقنك طغيانه، ولا يروعنّك سلطانه.. إنك- بتأييدنا لك- أشد منه قوة، وأعز سلطانا..
الآيات: (25- 41) [سورة طه (20) : الآيات 25 الى 41]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29)
هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)(8/789)
التفسير:
ويتلقى موسى أمر ربه بلقاء فرعون.. ويقع اسم فرعون من نفسه موقعا يثير الرعب والفزع.. إنه فرعون بجبروته، وعتوه!! فيضرع إلى الله أن يعينه على مواجهة هذا البلاء، وأن يذهب ما به من اضطراب وفزع! «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» حتى يتّسع لامتثال أمرك، ويتقبله قبولا حسنا، فلا يضيق به، ولا يجد حرجا منه..
«وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» .. فإن الموقف خطير، والأمر عظيم.. فإذا لم يكن منك العون والتيسير، فلا طاقة لى به، ولا حيلة لى فيه..
«وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» أي امنحني بيانا وقدرة على محاجّة فرعون، وغلبته، حتى يفقه هو والملأ من حوله، قولى، ويعقلوه، وحتى لا تأخذهم العزّة بالإثم، فلا يقبلوا قولا، ولا يتمهلوا حتى أبلغهم ما أرسلت به إليهم، وأسمعهم إياه، بل يعاجلوننى بالردّ، وربما بالعقاب قبل أن أبلّغ رسالة ربى.
«وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي» .. أي واجعل لى معينا يعيننى على أداء رسالتى إلى فرعون، وليكن هذا المعين هو هرون، أخى، فهو بحكم عاطفة الأخوة حريص على سلامتى، يقف إلى جانبى فى ساعة العسرة، ولا يتخلّى عنىّ..
والوزير، هو المعين المساعد، وهو من المؤازرة، والمعاونة..
«اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» أي اجعله ردءا لى، يقوّى ظهرى.. واجعله شريكا لى فى هذا الأمر الذي ندبتنى له، وأكرمتنى به..
فلا تخصنى وحدي بالكرامة دون أخى..(8/790)
«كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» أي بهذا الإحسان الذي تحسن به إلى هرون أخى كما أحسنت إلىّ، تتضاعف نعمك علينا، ويعظم إحسانك إلينا، وبدلا من أن يشكرك لسان واحد، سيشكرك لسانان، لسانى، ولسان أخى.. فأنت أعلم بنا، وبما تريده لنا من فضل وإحسان «إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» .
«قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» .. السّؤل: ما يسأل من خير..
وأوتى سؤله: أي أجيب إلى ما طلبه من ربّه.
«وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» .
فى هذه الآيات عرض، للفترة الأولى من حياة موسى وهى الفترة التي تخطتها الآيات السابقة، فعرضت موسى وهو فى دور الرجولة التي أصبح أهلا فيها لتلقّى الرسالة من ربّه..
وقد جاءت هذه الآيات حديثا لموسى من ربّه، يذكّره فيها بنعمه عليه، وإحسانه إليه من قبل الرسالة.. فهو سبحانه قد نظر إليه بعين اللطف والرعاية، منذ ولادته، بل ومن قبل أن يولد.. فقد ولد موسى فى حال كان فرعون فيها مضيّقا الخناق على بنى إسرائيل، مسلّطا أعوانه على قتل كل مولود ذكر يولد لهم.. وكانت أم موسى حاملا به، حاملة معه الهمّ الثقيل الذي يؤرّق ليلها، ويشقى نهارها.. إنّها تحمل فى كيانها وليدا تستقبله يد الذابحين إذا أطلّ بوجهه على(8/791)
هذه الدنيا، بل ربّما أخذته يدهم قبل أن يولد، فشقّوا بطنها عنه، وأخذوه حيّا أو ميتا..!
- وفى قوله تعالى: «إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى» إشارة إلى أن ما أوحى به إليها إنما كان مما يناسب هذه الحال التي هى فيها، ولهذا صدّر الوحى بكلمة «ما» الدالة على التعميم، والتي فسّرت بقوله تعالى: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ» وهو ما أوحى إليها به..
وفى العدول عن أن يكون النظم القرآنى هكذا: ضعيه فى التابوت ثم ضعيه فى اليم- إلى ما جاء عليه النظم القرآنى: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ، فِي الْيَمِّ» - إشارة إلى أن الخطر المطلّ عليها من أعوان فرعون، كان داهما دانيا، وأنها إذا لم تعجّل بهذا العمل أخذ وليدها منها.. ولهذا عطف قذفه فى اليم على قذفه فى التابوت بحرف الفاء، الذي يفيد التعقيب المباشر، دون فاصل زمنى بين الأمرين..
والتابوت، أشبه بالصندوق، يسوّى من خشب أو نحوه.. وفى قوله تعالى:
- «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» أمر من الله سبحانه وتعالى إلى اليمّ، وهو النهر، أن يلقى موسى إلى الساحل، وألا يبتلعه فى كيانه.. وهذا إشعار لأم موسى بالطمأنينة على وليدها، وأن اليمّ لن يبتلعه، وقد تلقّى هذا الأمر من صاحب الأمر فيه.
- وكذلك ما جاء فى قوله تعالى: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» .. إنه أمر لفرعون أن يأخذ هذا الوليد.. وفرعون هذا عدوّ لموسى.. ومع هذا، فإنه لا يملك من أمر نفسه، إلّا أن يأخذ عدوّه هذا، ويربيه، ويجعله ابنا له!! فما أعظم قدرة الله، وما أمكن سلطانه!.
- وفى قوله تعالى: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» إشارة إلى ما صنع الله لموسى، إذ جعل عدوّه الذي يطلب قتله، محبّا له، حبّ الآباء(8/792)
للأبناء! وهكذا يربّى موسى فى ظل من رعاية الله سبحانه وتعالى، تلك الرعاية التي تجعل له من الشرّ خيرا، ومن العدوّ صديقا..! «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (100: يوسف) ثم كان من تدبير الله لموسى، أن أعاده إلى أمه، فجمع بينه وبينها فى بيت فرعون لتكون له مرضعا.. مرضعا لابن فرعون هذا المتبنّى!! ومن لطف الله بموسى أن نجّاه من يد فرعون، وكان فرعون قد طلبه ليقتصّ منه بقتيل قتله.. فنجا موسى، وهرب إلى مدين.. ثم ها هو ذا يعود إلى مصر، ليلقى فرعون مرة أخرى! فهل مع هذا، وبعد هذا، يخشى موسى بأس فرعون وبطشه؟
إنه قد فوّت على فرعون فرصتين كانتا قد سنحتا لقتله من قبل..
فهل كان مع موسى حول أو حيلة يدفع بهما عن نفسه ما كان سينزل به فى كلتا الحالين.. حين كان فرعون يطلبه وليدا، وحين كان يطلبه قاتلا؟
فكيف يخشى فرعون الآن، بعد أن قهره مرتين، وهو لا شىء..
أما الآن فهو يحمل بين يديه آيتين، معجزتين، متحدّيتين.. يحار فرعون فيهما، ويخزى أمامهما، ويفتضح كبره وجبروته بهما، على الملأ من قومه..
ثم كيف يخاف بأس فرعون وجبروته، والله معه.. يخاطبه، ويؤيده؟
ولهذا جاء بعد هذا الإعداد الكامل لموسى، وبعد أن ملأ يديه من السلاح السّماوى القاهر الذي لا يغالب- جاء الأمر إلى موسى بأن يلقى فرعون، وهو أمر قد تلقاه من قبل فى صيغة موجزة، أشبه بالإشارة إلى هذا الأمر المجدّد.. كما سنرى فى الآيات التالية.(8/793)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
الآيات: (42- 56) [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 56]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51)
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)
التفسير:
ولا يتوجه الأمر هنا إلى موسى وحده، بل إليه وإلى أخيه هرون..
«اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ» فأنت الآن لست وحدك.. «بآياتى» أي ومعكما آياتي التي وضعتها بين يديكما «وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي» لا تضعفا ولا تفترا(8/794)
فى ذكرى بل اجعلا ذكرى حاضرا فى قلبيكما، جاريا على لسانيكما.. فهو الزاد الذي يمنحكما القوة على اقتحام هذا الهول الذي أنتما مقدمان عليه.
«اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ» فهذه هى وجهتكما.. إنها إلى فرعون..
«إِنَّهُ طَغى» وتكبر، وعلا فى الأرض، وقال لقومه أنا ربكم الأعلى..
«فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» .. فهذا شأن الحكماء مع الجهلاء، وموقف الأطباء من المرضى.. اللين واللطف، والموادعة..
فإن لقاء السفاهة بالسفاهة، والجهل بالجهل، هو نفخ فى النار الموقدة، وإمداد لها بالوقود، الذي يزيدها اشتعالا وتأججا..
«قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى» .
كم كان فرعون باغيا متسلطا، وجبارا عنيدا؟ وكم أوقع فى قلوب الناس من فزع ورعب، حتى كاد يكون ذلك طبيعة متمكنة فيهم، لا يمكن مغالبتها إلا باستئصالها بعملية أشبه بتلك العمليات الجراحية، التي تغيّر من خلق ذوى العاهات!؟
وإلّا فما بال موسى، وقد رأى من آيات ربّه ما رأى، فى كل مرحلة من مراحل حياته، ثم أمدّ من السماء بهذه الأسلحة من المعجزات القاهرة المتحدية، ثم كان إلى جانبه أخ له، رفده الله سبحانه وتعالى به، وجعله عونا وظهيرا له- ما باله لا يزال مع هذا كلّه يخشى فرعون، ويرهبه؟ إن ذلك ليس إلا لما كان عليه فرعون من جبروت أوقع به فى قلوب الناس هذا الخوف الرهيب، الذي يندسّ فى كيان الناس، ولا يخرج أبدا!.
ومعنى «يفرط» أي يعجل علينا بالعقوبة، قبل أن يسمع منا ما أرسلنا به إليه، «أَوْ أَنْ يَطْغى» أي يتجاوز هذا إلى العدوان على ذاتك والتطاول على مقامك العلىّ.(8/795)
- «قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» .. وفى ظلّ هذا الوعد الكريم من الله سبحانه، يجد موسى وهرون ما يسكن به خوفهما، وتثبت به أقدامهما.
«فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» .
وهكذا يلقى الله سبحانه وتعالى إليهما بمحتوى الرسالة، ويلقّنهما الكلمات التي يقولانها لفرعون، فى هذا الإيجاز الخاطف، وفى تلك العبارات القصيرة المتتابعة، التي تشبه طلقات المدفع! «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ.. «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ.. «وَلا تُعَذِّبْهُمْ.. «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.. «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى..
إن فرعون لا يصبر على الاستماع، وإنّ أحدا لا يجرؤ على أن يجرى معه حديثا ممتدا.. فما اعتادت أذنه أن تسمع كلاما، وإنما هو الذي يتكلم.
وسرعان ما تتحول الكلمات إلى أفعال..
ولهذا كان هذا التدبير الحكيم، بتلخيص الرسالة التي جاءه بها موسى وهرون من ربهما، وإيجازها هذا الإيجاز المعجز! لقد أدى الرسولان رسالة ربهما.. وها هما ذان الآن يستعدان لمواجهة العاصفة..
ولكن لا تزال للرسالة بقية، وإن ظهر أنها أنهيت بهذا السلام الذي ختمت به. وإنه لا بأس من أن يستمع فرعون أو لا يستمع إلى بقية الرسالة، فقد استمع(8/796)
إلى الصميم منها، وما بقي هو أشبه بالتذييل لها، والتعقيب عليها.. ولهذا يقول الرسولان، فى صوت خفيض، وهما يتراجعان إلى الوراء:
«إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» ! إنه أشبه بالحديث إلى النفس، أكثر منه بالحديث إلى فرعون..! إنهما لا يواجهان فرعون بهذا القول باعتباره مقولا من مقولاتهما، وإنما هو وحي أوحى إليهما به.. وإنهما ناقلان لهذا الوحى.. لا أكثر ولا أقل..
ويدهش فرعون لهذه المفاجأة، التي طلع بها عليه هذان الرسولان، وتضل من وعيه الكلمات التي سمعها، ولا يمسك منها إلا بالكلمة الأولى منها.. «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» .
ويقلّب هذه الكلمة «ربّك» ويوردها على ذاته الإلهية، فيرى أن الرسولين ينسبانه إلى ربّ.. وهذا هو النكر أعظم النكر؟ أربّ يضاف إلى ربّ؟ إنه إن تكن ثمة إضافة فهو الربّ الأعلى الذي تضاف إليه الأرباب..
وإنه إذا جاز أن يكون للناس رب. فلن يكون له هو رب..
ولهذا اتجه إلى موسى مخاطبا فى تهكم واستنكار..
«قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى!» إنه لا ينتسب إلى رب، فإذا كان لموسى وهرون رب غير فرعون فليقولا له من هو؟ ولهذا لم يقل فرعون: من ربى هذا؟ بل قال من ربكما أنتما؟
وكان جواب موسى:
«قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» ..
وفى هذا الجواب، تحدّ لفرعون، وأنه ليس هو ربّا بهذا الادعاء الكاذب الذي يدعيه، ويقبله منه قومه!(8/797)
ربنا خالق كل شىء، ومدبر كل شىء.. فهل لك يا فرعون فى هذه المخلوقات من خلقته ودبرت أمره؟
إن الرب الخليق بهذا الاسم، الجدير بهذا الوصف، هو من يخلق، ويرزق، ويحيى، ويميت.. فمن خلقت يا فرعون؟ ومن أحييت؟
- وقوله: «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي خلق كل مخلوق على الصورة التي بها يستقيم وجوده.. فكل شىء مخلوق بتقدير، وحساب..
- وقوله: «ثُمَّ هَدى» هو من تمام الخلق، حيث أودع الخالق العظيم، فى كل مخلوق، ما يتهدّى به إلى حفظ ذاته، وبقاء نوعه..
وهذا دليل على أن كل مخلوق- صغر أو كبر- هو عالم بذاته، فى تقدير الله سبحانه وتعالى، وتصويره له، وقيامه على أمره..
وقد وجم فرعون لهذا الجواب المفحم.. فأدار الحديث إلى وجه آخر..
«قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟ ..
ولم القرون الأولى؟ وهل فرعت يا فرعون من النظر فى نفسك، وفيمن حولك، وما حولك؟
إنها مماحكة، يراد بها التضليل، والتمويه على من حوله.. ليروا منه أنه قد أخذ بقول موسى، وبوصفه لربه.. وحتى لكأن هذا الوصف ينطبق عليه هو.. وإذن فلا خلاف!! ويجيب موسى على هذا السؤال المماحك:
«قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. فِي كِتابٍ.. لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» ..(8/798)
لم يشأ موسى- فى هذا الجواب- أن يجرى مع فرعون فى هذا التيه، وأن يبتعد عن غايته التي جاء من أجلها..
ولهذا جاء إلى فرعون بالجواب على تلك الصورة: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» أي لا أعلم من أمرها شيئا.. وإنما علم ذلك عند ربى.. ثم أتبع ذلك بقوله:
«فِي كِتابٍ» أي أن أخبار هذه القرون السابقة وأحوال الشعوب والأمم الغابرة، مسطورة فى كتاب.. ثم لكى يقطع على فرعون الطريق إلى أن يسأله «وهل ربك ينسى حتى يسجل ما يقع من أحداث؟» - لكى يقطع الطريق إلى هذا، قال: «لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» أي أن هذا الكتاب الذي تسجل فيه أحداث الوجود، إنما هو بعض علم الله، كما أن هذا الوجود هو بعض قدرته..
أما ربى فإنه لا يضل ولا ينسى..
هذا هو ردّ موسى على فرعون، وجوابه على هذا السؤال المماحك الغبي..
أما قوله تعالى:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى» ..
أما هذه الآيات الأربع، فإنها معترضة بين أحداث القصة، لتذكر بنعم الله، وتزيد فى العرض لدلائل قدرته، ثم إنها من جهة أخرى فاصل بين مجرى الأحداث، يخرج فيه الناس من هذا الجو المتأزم، إلى رحاب هذا الوجود، حيث يستمعون فيه إلى هذا النشيد العلوي، المسبح بحمد الله، المحمل بجلائل نعمه وأفضاله على عباده..(8/799)
- «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» أي مهادا، وبساطا ممتعا، «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» أي طرقا تسلكونها فى البر والبحر.. «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» أي أخرجنا بهذا الماء عالم النبات كله من حشائس، وزروع، وأشجار.. وهو عالم متزاوج كعالم الحيوان والإنسان، فيقوم التوالد فيه كما يقوم فى عالم الإنسان والحيوان.. باللقاح بين الذكر والأنثى..
- «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» إنه أمر يراد به التذكير بهذه النعمة العظيمة، التي تقوم عليها الحياة للناس ولأنعامهم..
- «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» أي فى هذه المعارض من قدرة الله، المبثوثة فى هذا الوجود آيات مبصرة «لِأُولِي النُّهى» أي العقول الواعية، والبصائر المدركة..
- «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» ..
أي هذه الأرض التي أنتم عليها، والتي جعلها الله بساطا ومعاشا لكم، هى أمّكم التي خلقكم الله منها، وهى القبر الذي يضمكم، ويعيدكم إلى التراب كما كنتم، وهى التي تنشق عنكم، فتخرجون منها مرة أخرى، إلى الحياة الآخرة..
- «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى» .. وإذا كان فى آيات الله تبصرة لأولى الأبصار، فإن هناك من لا يهتدى بها، ولا يجد فيها هاديا يهديه إلى الله.. ومن هؤلاء أو على رأس هؤلاء- فرعون الذي أراه الله آياته كلها..
فأراه من المحسوس آيات، وأراه من المعقول آيات.. فكذب وأبى أن يستجيب لما دعى إليه من هدى وإيمان..
والآيات المحسوسة هى ما كان بين يدى موسى من معجزات، والآيات(8/800)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
المعقولة هى ما حدّثه به موسى عن ربّه، الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى.
فهذه الآيات بمحسوسها ومعقولها، تمثل الآيات كلّها التي لا تنتهى عدّا.
الآيات: (57- 70) [سورة طه (20) : الآيات 57 الى 70]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)
التفسير:
لقد أسقط فى يد فرعون، وبكلمات قليلة موجزة قطع موسى عليه حبل(8/801)
المماحكة والجدل.. فجاء إلى موسى من الجانب الذي يستند فيه إلى جبروته وسلطانه، بعد أن خذله المنطق وأفحمه.. جاء إلى موسى يتّهمه بأنّه ساحر!.
ولم تذكر القصة هنا ما كان من موسى من إلقاء العصا، بين يدى فرعون، فانقلبت حيّة تسعى، وما كان من إدخال يده فى جيبه، ثم إخراجها بيضاء مشرقة من غير سوء! - لم تذكر القصة هذا الحدث، فقد جاء ذكره فى أكثر من موضع من القرآن الكريم..
وهذا يعنى أن تكرار القصة الواحدة، فى القرآن، يعنى ترابط أجزائها، بحيث يكمّل بعضها بعضا، كما سنعرض لذلك، فى بحثنا: «التكرار فى القصص القرآنى» ، إن شاء الله عند تفسير سورة القصص.
قلنا: إن فرعون جاء إلى موسى بسلطانه الغشوم، يتهمه بالسّحر، وأن ما بين يديه لا يعدو أن يكون مما يتعامل به كهنة فرعون من سحر! فقال له:
«أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى» .؟
وإذن، فالمعركة لن تكون بين فرعون وموسى.. ولكنها ستكون بين موسى وسحرة فرعون! فهذا هو مكان موسى فى نظر فرعون! ولهذا بادر فرعون بإعلان البدء بالمعركة..
«فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ» .. وأدخل فرعون نفسه فى المعركة باعتباره شاهدا متفرجا، يرفّه عن نفسه، بما يرى من ألاعيب السحر وفنونه! «مَكاناً سُوىً» أي واختر مكانا مبسوطا مستويا، يسع الجموع الحاشدة التي ستشهد هذا السّحر، وفنونه، وحيله!!.
«قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» - هذا الموعد، هو يوم العيد، حيث يخلو الناس، ويفرغون لهذا اليوم.. «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وأن تكون ضحوة العيد(8/802)
هى وقت اللقاء، حيث شباب النهار، وضحوة الشمس، فلا يخفى على المشاهدين شىء! وهكذا تحدّد المكان والزمان لهذا اللقاء المثير.
«فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» فى هذه الكلمات القليلة المعجزة، قصة طويلة، تضم أحداثا كثيرة، مما كان من فرعون فى جمع السحرة، وحشدهم، وتخيّرهم، واختبار وسائلهم، وتخيّر المناسب القوىّ منها.. كل هذا جمعته كلمة واحدة هى «كيده» فالكيد هنا، هو السحرة، والسّحر، وأدوات السحر..
«قالَ لَهُمْ مُوسى.. وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» .
إن كل ما معهم هى مفتريات، وأباطيل، قد لفّقوها، وأخرجوا منها تلك الألاعيب التي تخدع، ولكنها لا تقنع!.
- وقوله: «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» أي يأخذكم بعذاب يستأصلكم..
وأصل السّحت: ما يستأصل من قشر الرأس، ومنه السّحت: وهو الحرام، الذي يهلك صاحبه ويورده النار، كما فى الحديث: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به» .
«فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» .
لقد كثر صخب السّحرة، وضجيجهم، وتضاربت آراؤهم فيما يلقون به موسى.. ثم اختلوا بأنفسهم، حتى لا يفتضح أمرهم.. وكان مما تناجوا به أنهم فى مواجهة ساحرين يريدان أن يفسدا على فرعون وقومه أمرهم، وأن يخرجاهم من أرضهم، وأن يبدّلا دينهم.. وليس لدفع هذا الخطر إلا أن(8/803)
يجمعوا أمرهم، ويوحّدوا كلمتهم، ويلقوا هذين الساحرين صفّا واحدا، وجبهة واحدة.. إنّ الأمر جدّ ليس بالهزل، فإمّا حياة وإما موت!.
«قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى» .
وحين اجتمع للسحرة رأيهم، خرجوا على موسى يدعونه إلى النزال..
وجاءوا إليه مستعلين، متمكنين مما فى أيديهم..
فخيّروه بين أن يبدأ هو المعركة، أو يبدءوها هم!.
«قالَ أَلْقُوا» .
وهكذا لقيهم موسى.. لقد أعطاهم الجولة الأولى.. وأتاح لهم الفرصة فيه، وأمكنهم منه، إن كانت بين أيديهم القوّة للقضاء عليه..
وهذا التدبير من موسى، وإن يكن مما تقتضيه آداب الحرب، ومقابلة الخصم بمثل ما قابله به من فضل- فإنه هو الموقف الذي كان لا بدّ له أن يتخذه، حيث يفرغ القوم كل ما فى أيديهم، ثم إذا ضربهم الضربة القاضية، لم يكن لقائل أن يقول إنّه لم يتح لهم فرصة كى يعملوا فيه أسلحتهم، ولو أتيح لهم هذا..
فلربما قضوا عليه، قبل أن يقضى عليهم!.
«فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» .
لقد ألقى القوم بكل كيدهم، وإذا حبالهم وعصيّهم، بما عمل فيها من حيل، يخيّل للناظر إليها أنها حيات تسعى.
«فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» .
لقد وقع فى نفس موسى، من هذا الصّخب واللّجب الذي آثاره فرعون وقومه حين ألقى السحرة بعصيّهم- لقد وقع فى نفس موسى شىء من الرهبة والخوف.. حتى ليكاد الأمر يفلت من يده..(8/804)
«قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» .
لقد جاءت نجدة السماء إلى موسى، فربطت على قلبه، وثبتت قدمه، فألقى عصاه، فإذا هى تلقف ما يأفكون..
«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» .
وهكذا انتهت المعركة فى لحظة خاطفة.. فلا طعن ولا ضرب، ولا كرّ، ولا فرّ.. لقد أعطى السّحرة يدهم لموسى، وآمنوا بالله ربّ العالمين..
إنها ضربة واحدة، انتهى بها كلّ شىء.. وإذا الحبال والعصىّ قد اختفت من الميدان.. إنها جميعا فى جوف الحية.. لم يبق منها فى مرأى العين رأس ولا ذنب!.
وهكذا يشهد فرعون بعينه تلك الهزيمة المنكرة، التي حشد لها كل كيده، والتي جمع لها فى يوم الزينة الجموع الحاشدة لتشهد الضربة القاضية التي يضرب بها فرعون هذا الساحر الذي جرؤ على لقائه وتحديه..
وهكذا يجىء تدبير الله فوق كل تدبير، وتعلو كلمته كل كلمة..
وإذا هذه الجموع الحاشدة كأنما دعاها موسى، واستجلبها من كلّ مكان، لتعلن فى الناس هذه الضربة القاصمة التي تلقاها فرعون على ملأ من الناس!.
ولا يجد فرعون ما يفثأ به غضبه، ويمسح فيه خزيه، إلّا السّحرة..
وها هو ذا يضرب فى وجوههم ضربات مجنونة، ويرميهم بكل ما بين يديه..
ثم يتوعدهم بالموت على أبشع صورة وأشنعها..(8/805)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
الآيات: (71- 76) [سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
التفسير:
والتهمة التي يلقى بها فرعون فى وجه السحرة، ويتهددهم بها، هى أنهم قد تواطئوا مع موسى على هذا الأمر، وأن موسى ليس إلا واحدا منهم، بل إنه كبيرهم الذي علمّهم السحر! وإذن، فإن فرعون لم يغلب فى هذه المعركة، إلا لأنها كلها كانت جبهة واحدة، ولم يكن فرعون فى الجبهة المقابلة التي تلقى هذه الجبهة وتقاتلها، وتقضى عليها..!
إنها جميعا جبهة سحرة تآمروا عليه واتّحدوا ضده! وليس موسى إلا كبيرهم ومعلمهم! ..
«قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟» .
هذه أول تهمة تدين السحرة عند فرعون.. إنهم آمنوا بموسى قبل أن يأخذوا إذن فرعون وإجازته!! حتى لكأنّ الإيمان بالله، عمل من أعمال(8/806)
السيادة التي فى يد الحاكم، لا يمارسه الإنسان إلا بإذن من السلطان، فهو أشبه بأملاك الدولة، التي تحتاج إلى إذن خاص لتملكها والانتفاع بها..!!
وإذا كان للسلطان أن يملك من الناس ما يملكون من مال ومتاع، ويتسلط على الكلمة ينطقون بها، أو يأخذ عليهم السبيل إلى أي وجه يتجهون إليه- فهل يملك السلطان من الناس، ما تكنّه السرائر وما تنطوى عليه القلوب؟.
هكذا خيل لفرعون أنه يملك من الناس كل شىء، حتى خفقات قلوبهم، وخلجات صدورهم، فأنكر على السحرة أن يؤمنوا قبل أن يأذن لقلوبهم أن تستقبل أنوار الهدى ونفحات الإيمان!!.
«إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» ..
ولهذا تواطأتم معه، وكدتم هذا الكيد، الذي أخرجتم به الناس ليشهدوا تلك المعركة الخاسرة! «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» .
لقد اختلق فرعون التهمة، ولفق الجريمة، ثم حكم، دون أن يسمع دفاعا، أو يسمح لأحد أن ينطق بكلمة! وعلى تلك النية الشنعاء يعرض فرعون السحرة، ويعدّ العدّة لتنفيذها فيهم..
- وفى قول فرعون: «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» إشارة إلى ما تهدد به موسى السحرة، قبل أن تبدأ المعركة، وذلك فى قوله: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» .
فالعذاب الذي تهددهم به موسى، هو عذاب مؤجل ليوم القيامة.. وهذا(8/807)
العذاب لا يدرك مداه إلا من يؤمنون بالله وباليوم الآخر..
وإذن فالذى وقع فى السحرة من هذا التهديد، هو مجرد توقعات لهذا العذاب، كما تصوره فرعون..
أما العذاب الذي سيأخذهم به فرعون، فهو عذاب حاضر واقع فى الحال، وهو عذاب- على تلك الصورة- فظيع مهول! ولهذا وازن فرعون بين عذابه، والعذاب الذي توعد موسى السحرة به، وأراهم أن عذابه أشد: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً» أعذابي الحاضر، أم العذاب الذي يهددكم به موسى؟ وأنا، أم موسى «أبقى» لكم، وأملك لأمركم، وأقدر على التسلط عليكم؟
«قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا.. فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا.. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ.. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» ..
وهكذا الإيمان إذا جاء إلى الإنسان، أو جاء إليه الإنسان عن طريق النظر، والبحث، والتحليل، والتعليل.. إنه حينئذ إيمان يخالط المشاعر، ويملك القلوب، ويأسر العقول، ويجعل من الإنسان الفقير الضعيف، قوة هائلة، تتحدى الجبابرة، وتستخف بأعظم الأهوال، وأشد الخطوب..
وهل كان يقع فى الحسبان أن جماعة من رعايا فرعون، وعابديه، الذين ولدوا- كما ولد آباؤهم- فى ظل ربوبيته، وسلطان ألوهيته- هل كان يقع فى الحسبان أن يجىء يوم يقف فيه هؤلاء «العباد» فى وجه هذا «الإله» موقف التحدّى، بل والاستخفاف والسخرية؟ ولكنه الإيمان، يفعل المعجزات، ويقلب الأوضاع والمواضعات!(8/808)
وقولهم: «وَالَّذِي فَطَرَنا» .. يمكن أن يكون معطوفا على قولهم: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» أي لن نقدمك ونختارك على تلك البينات والدلائل التي كشفت لنا عن وجه الحق، وأرتنا الله ربّ العالمين، الذي فطرنا وأوجدنا، والذي حجبتنا عن رؤيته الضلالات والأباطيل التي كنا نعيش فيها.. ويمكن أن يكون هذا قسما منهم بالله الذي عرفوه منذ الآن، وآمنوا به..
- وقولهم: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» هو رد على قول فرعون لهم: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» ..
قوله تعالى:
«إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» ..
هذه الآيات، هى تعقيب، على هذا المشهد من مشاهد القصّه..
وفى هذا التعقيب، إلفات إلى مواقع الإيمان من قلوب المؤمنين، وإلى ما يحصّله المؤمنون من ثمرات لهذا الإيمان.. كما يجد فيه المشاهدون لموقف فرعون من السحرة، ما أعد الله للمحرمين من عذاب ونكال..
وإذن فالقضية هكذا:
«مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ.. لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» .. فهذا هو جزاء المجرمين، الذين يلقون الله بجرمهم، ولم يتطهروا منه بالإيمان والتوبة.. إن لهم جهنم، لا شىء لهم غيرها.. وهم فيها بين الموت والحياة..
«لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها..» (36: فاطر) .
وأما «مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى»(8/809)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
وتلك الدرجات هى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» أي جنات خلود، «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. خالِدِينَ فِيها» لا يبغون عنها حولا.. «وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» وتطهر من ذنوبه وآثامه، بالإيمان، والعمل الصالح، فأصبح أهلا لأن ينزل منازل الطهر والنور، فى جنات النعيم.
الآيات: (77- 82) [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
التفسير:
بعد هذا التعقيب، يجىء فصل جديد من فصول القصة، حيث تنتقل الأحداث إلى مسرح آخر.. تتغير فيه المشاهد، وتنطلق فى اتجاه غير الاتجاه الذي كانت تسير فيه..
فهذا موسى، عليه السلام، يتلقى وحيا من ربه بأن يسرى ليلا ببني إسرائيل، متخذا وجهته نحو الشرق إلى سيناء، ويعبر بهم البحر، صانعا لهم طريقا يبسا(8/810)
بعصاه التي يضرب بها البحر، فينشق، وينحسر ماؤه عن الأرض.. فإذا هى طريق يبس، كأن لم يمسسه الماء من قبل..
وقبل أن ينطلق موسى بقومه، يسمع كلمات ربّه: «لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» فيمتلىء قلبه طمأنينة وأمنا إنه لا يخاف (دركا) أي لحاقا من فرعون وجنوده.. وإنه لا يخشى البحر، حين يلقاه معترضا طريقه إلى النجاة من يد فرعون الذي يجدّ فى طلبه..
فالخوف، هو مما يجيئه من ورائه.. والخشية، مما يلقاه من أمامه.. وإنه لا خوف ولا خشية، مع عون الله، وتأييده! وها هو ذا فرعون يحث السير بجنوده، طلبا للحاق بموسى.. ويمضى فى طريقه، حتى يركب الطريق اليبس الذي ركبه موسى وقومه منذ قليل..
وقد أعماه الغيظ، وحبّ الانتقام، من أن يقف على رأس هذا الطريق قليلا، ويسأل نفسه: كيف قام هذا الطريق وبأى يد أقيم إنه ليعلم عن يقين أن لا طريق بين عبرى هذا البحر؟ أفلا تلفته هذه الظاهرة إلى هذه المعجزة التي بين يدى موسى؟ ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» .
لقد أورد فرعون نفسه وقومه موارد الحتوف: «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» .. أي غطاهم من البحر ما غطاهم من مائه الغمر.. «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» ! وهكذا يسدل الستار على هذه المأساة، التي طوت فرعون وقومه فى لمحة خاطفة..!
ولا تذكر القصة ما صنع فرعون بالسحرة، وهل أمضى حكمه فيهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلّبهم فى جذوع النخل.. أم أنهم أفلتوا من يديه، ونجوا فى زحمة هذه الأحداث؟(8/811)
يمكن أن يكون فرعون قد ألقى بالسحرة فى السجن، وانتظر تنفيذ حكمه فيهم حتى يفرغ من موسى وقومه.. كما يمكن أن يكون قد أمضى فيهم حكمه..
إن الأمرين يستويان.. فإن يكن السحرة قد هلكوا بيد فرعون، فليسوا هم بأول أو آخر مستشهدين فى سبيل العقيدة.. وإن يكونوا قد نجوا من هذا البلاء، فقد نجا كثير غيرهم من المؤمنين، وأفلتوا من يد البغاة والمتجبرين..
فليس المهم إذن هو أن يهلك المؤمنون أو يسلموا، وإنما المهم هو أن يثبتوا على إيمانهم، ويوطدوا النفس على احتمال كل بلاء، وملاقاة كل شدة.. ثم لا عليهم أن يسلموا أو يعطبوا، مادام قد سلم لهم إيمانهم، وظل بمكانه المكين من قلوبهم..
ثم هاهم أولاء بنو إسرائيل، قد وجدوا نعمة الله وخلصوا من يد فرعون، ونجوا من هذا العذاب المهين الذي جعله طعاما وشرابا لهم..
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» .. فاذكروا هذه النعمة، وارعوها، ولا تفسدوها بالمكر بها، والتنكر لها..
«وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» أي هذا هو موعد لقائى بكم، حيث تنزلون بالجانب الأيمن من الطور، وحيث يتلقى نبيكم موسى ما أوحى به إليه من كلماتى.. فاستمعوا له، وخذوا بما يوحى إليه، واستقيموا عليه..
«وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» .. وفى هذا المكان الجديب القفر..
ستجدون طعامكم طيبا حاضرا.. «إنه الْمَنَّ وَالسَّلْوى» ..
والمن: هو مادة كالعسل تنزل من السماء كالندى، فتنعقد على ما تعلق به من شجر أو حجر..(8/812)
والسلوى: طائر يشبه السّمانى..
«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» ..
فمن هذا الطعام الطيب- المن والسلوى- كلوا، وانعموا، واشكروا لله الذي رزقكم.. ولا تطغوا فى هذا الرزق، الذي جاءكم من غير عمل..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» إشارة إلى هذا الرزق الذي أفاضه الله عليهم، بلا حساب، حتى لقد كان ظرفا يحتويهم، ويشتمل عليهم، ويحفّ بهم من كل جانب.. إنه خير كثير، ورزق غدق.
وهذا الرزق الغدق، إذا صادف نفوسا خبيثة، بشمت به، وتداعت عليها العلل والأسقام، وتحول به الإنسان إلى حيوان ضار شرس.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (6- 7: العلق) ..
- وفى قوله تعالى: «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» تحذير لبنى إسرائيل، وتهديد لهم من أن تبطرهم هذه النعمة، ويغرّهم بالله الغرور.. والويل لمن تعرض لغضب الله.. إنه يهوى إلى مكان سحيق، حيث الهلاك والبلاء.
وقد بطر بنو إسرائيل، ومكروا بآيات الله، وكفروا بنعمه، فحلّ عليهم غضبه، ونزلت بهم لعنته.. كما أخبر الله تعالى عنهم فى آيات كثيرة..
فهم المغضوب عليهم فى كل موضع من القرآن الكريم، ذكر فيه غضب الله..
فمن ذلك قوله تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (61: البقرة) وقوله تعالى: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ(8/813)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ»
(112: آل عمران) .
«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً.. ثُمَّ اهْتَدى» ..
فالله سبحانه وتعالى يمدّ للظالمين، ويمهلهم، ليكون لهم فى ذلك فسحة من الحياة، يراجعون فيها أنفسهم، ويرجعون إلى الله، تائبين مستغفرين..
وعندئذ يجد هؤلاء الراجعون إلى الله أبواب القبول مفتحة لهم، ويد الرحمة ممدودة إليهم..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ اهْتَدى» .. إشارة إلى أن التوبة لا تقبل إلّا إذا صحّت نيّة التائب، وصدّق نيّته العمل.. فاستقام على طريق الهدى، ولم يلتفت إلى طريق الضلال الذي قطع مسيرته فيه، وجاء إلى الله تائبا..
الآيات: (83- 98) [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 98]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)(8/814)
التفسير:
وبهذه الآية تختم القصة.. وفى ختامها ينكشف بنو إسرائيل، حيث يرون بأعينهم المنحدر الذي انحدروا إليه، فلقد كفروا بالله، وجعلوا من العجل إلها يعبدونه من دون الله! فما أجدت معهم هذه الآيات، ولا رفعت عن أعينهم ما عليها من الغشاوة، ولا أزاحت عن قلوبهم ما ران عليها من الضلال..!
لقد كان موسى على موعد مع ربّه، ليتلقّى الألواح، وما كتب له فيها..
وفى قوله تعالى:
«وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» إشارة إلى أن حدثا قد حدث فيهم(8/815)
من بعده، وأنه وقد جاء يستعجل لهم الخير، قد طعنوه من وراء ظهره، وأفسدوا كل ما أصلحه منهم! ولكنه لم يكن يدرى ماذا حدث..
ولهذا جاء جواب موسى:
«هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» أي أنهم على ما تركتهم عليه، يسيرون على المنهج الذي رسمته لهم، ويتأثرون خطاى فى طاعتك وابتغاء مرضاتك..
«وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى» - هذا هو الجواب عما سأل الله سبحانه وتعالى موسى عنه.. أما ما سبق ذلك، فهو جواب عما استشعره موسى من ذكر قومه فى سياق هذا السؤال..
وتلقى موسى ما أذهله، وأشعل نار غضبه:
«قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» .
فهؤلاء هم قومه.. وما أحدثوا.. إنهم ليسوا على أثره كما كان يظن..
لقد ضلوا، ووقعوا فى فتنة عمياء!.
- وفى قوله تعالى: «فَتَنَّا قَوْمَكَ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى خلّى بينهم وبين أنفسهم، وما ينضح منها من مكر وضلال، فتركهم ليد السامرىّ يضلّهم ويذهب بهم فى مذاهب الضلال كيف يشاء! ..
«فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ؟ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟» والأسف، هو الحزين الذي يكاد يقتله الحزن..
والوعد الحسن الذي وعد الله بنى إسرائيل، هو أنه أنزلهم هذا المنزل من جانب الطور الأيمن، وأنزل عليهم المنّ والسلوى..(8/816)
وفى قول موسى:
«أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟» استفهام إنكارى، يراد به أن العهد الذي بينهم وبين الله لم يطل، حتى ينسوه. وأنه ليس هذا عهدا تلقوه عن آبائهم وأجدادهم، بل هو عهد معقود مع هذا الجيل نفسه! فكيف ينسى هكذا سريعا؟
وفى قوله:
«أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» ؟.
هو إنذار لهم بتلك العاقبة السيئة التي تنتظرهم من هذا الفعل الذي فعلوه، ولم ينظروا فى عواقبه..
وقوله:
«فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي» .. معطوف على محذوف، تقديره، أم ظننتم بي الظنون فأخلفتم موعدى معكم الذي واعدتكم عليه، وهو أن أعود إليكم بعد مناجاة ربى؟ ..
ويجىء جواب القوم فى هذا الأسلوب الخبيث:
«قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا..»
إنهم يلقون التهمة عنهم بهذا الاعتذار الصبيانى: «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا!» أي بإرادتنا، واختيارنا، فقد كنا إزاء أمر لاخيار لنا فيه.. وإليك ما حدث فاحكم..
«وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ.. فَقَذَفْناها..»
وزينة القوم هى الحلي التي كانوا قد سلبوها من المصريين، ليلة خروجهم من مصر..
والأوزار: الأحمال جمع وزر..(8/817)
وعبّروا عن الحلىّ، بالأوزار، لأنها كانت كثيرة من جهة، ولأنها كانت نهبا واختطافا من جهة أخرى.. فتحرّجوا من أن يحملوا هذا الحلىّ، وقد رزقهم الله كفايتهم من المنّ والسلوى.. هذا إلى أنه لم تكن بهم من حاجة إلى المال، فى هذا المكان الذي اعتزلوا فيه الناس..
وانتهزها السامري فرصة، فألقى بما فى يديه على هذا الحلي الذي قذف به القوم.. «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» أي عجلا مجسدا، فيه حياة وله خوار.. أي يخرج من فمه هذا الصوت المعروف للبقر..
«فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى.. فَنَسِيَ» ..
إنه ما كاد ينظر القوم إلى هذا العجل، الذي خرج من هذا الحلي، حتى فتنوا به، وحتى أطلّ عليهم منه وجه العجل الذي كان يعبده فرعون وقومه..
فقالوا: «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى» الذي ذهب إليه، ليلقاه هناك بعيدا عنا، فنسى نفسه هناك.. وفاته أن يدرك حظه من لقاء ربه معنا هنا!! وفى الانتقال بالحديث من الخطاب إلى الغيبة، إشارة إلى أن الذين واجهوا موسى أولا بقولهم: «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها» - هؤلاء هم الذين سبقوا إلى أن يبرئوا ساحتهم.. وأن كل ما فعلوه هو أنهم تخلصوا من هذا الحلي المغتصب الذي كان معهم!! - أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» - فهو مما نطق به لسان الحال، وكشف عنه الواقع..
وهو ردّ على هؤلاء الذين جاءوا فى جلود الحملان الوادعة.. قائلين إنهم لم يفعلوا منكرا، بل فعلوا ما يحمدون عليه.. وهو التخلص من هذا المال الحرام!!(8/818)
قوله تعالى:
«أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» .
هو تعقيب على هذا الحدث، وفيه تسخيف لعقول القوم، وتسفيه لأحلامهم وإنهم لو كانت بهم مسكة من عقل لما رأوا فى هذا الحيوان إلها، يعبدونه، ويرجون منه ما يرجو العابدون من ربهم! فهل إذا تحدثوا إلى هذا الحيوان.. يرجع إليهم قولا، ويرد إليهم جوابا؟ وهل لهذا الحيوان حول وطول يقدر به على النفع لعابديه، أو الضر لذابحيه؟ فما أحط الإنسان، وما أنزل قدره، حين يتخلى عن عقله..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي» ..
هو تعقيب أيضا على هذا الحدث، يذكر فيه لهرون موقفه من هذا الأمر المنكر، وأنه وقف للقوم، وأنكر عليهم ما هم فيه، وأنهم وقعوا فى فتنة عمياء، وأن هذا ليس ربهم، وإنما ربهم الرحمن، الذي لو لم يأخذهم برحمته لمسخهم على هذه الفعلة، قردة وخنازير!! ولكن القوم مضوا فى ضلالهم، وأبوا أن يستمعوا لهرون..
وكان ردهم عليه أن: «قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» .. وإنهم ليقولون هذا، وقد قطعوا من قبل بأن موسى قد ضل طريقه، فهلك، ولن يهود! ومن عجب أن التوراة تذكر فى صراحة أن الذي صنع العجل ودعا القوم إلى عبادته، هو هرون عليه السلام..(8/819)
تقول التوراة فى الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج:
«ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ فى النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه.. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتونى بها.. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي فى آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا..»
أهذا فعل يكون من نبى من أنبياء الله، ورسول من رسله؟ «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (16: النور) وليس هذا الذي تقوله «التوراة» عن «هرون» إلا واحدة من تلك الشناعات الكثيرة التي سوّد بها اليهود وجه التوراة، بما حملوا إليها من مفتريات وأباطيل، على الله، وعلى أنبياء الله، وعلى عباد الله!! ثم تعود أحداث القصة إلى التحريك من جديد..
فها هو ذا موسى- عليه السلام- يتجه إلى أخيه هرون، ويأخذ برأسه وبلحيته فى عنف وقوة.. قائلا:
«يا هارُونُ.. ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ.. أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» أي ما منعك أن تأخذ الجانب الذي أنا عليه من الإيمان بالله، وأن تنحاز إليه أنت ومن اتبعك؟ «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» ..
والأمر الذي أمره به موسى، هو قوله له، حين ذهب لمناجاة ربّه: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (142: الأعراف) .. وجاء جواب هرون:(8/820)
الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي.. إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي»
..
إنه لم يلق أخاه بالشدّة التي لقيه هو بها، وإنما عرف لأخيه قدره ومقامه، وأنه كليم الله، وأن هرون وزيره.. فقال فى لطف ورقة: َا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي»
بل أطلق سراحى، ودعنى أبين لك ما حدث..
إنى خشيت أن أعتزل القوم أنا ومن كان معى، ممن لم يرض ما فعله القوم- فتقول لى: إنك فرقت بين بنى إسرائيل، ولم تتبع ما قلت لك حين دعوتك إلى أن تخلفنى فيهم، وأن تصلح، ولا تتبع سبيل المفسدين.. وقد رأيت أن الفرقة بين القوم ستحدث تصدعا وشقاقا، وربما قتالا.. فرأيت أن أدع الأمر على ما هو عليه، بعد أن نصحت واجتهدت فى النصح، حتى تأتى أنت وتعالج هذا الدعاء بما ترى، أو بما يريك الله! ويدع موسى أخاه. ويتلفت إلى السامري:
«قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟» أي ما شأنك؟ وماذا فعلت؟
«قالَ «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ.. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ.. فَنَبَذْتُها.. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» .
- قوله: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» .. أي رأيت ما لم ير القوم.. وهو أنى رأيت أثرا من آثار الملك الذي كان يتحدث إليك.. فقبضت قبضة من التراب حيث موضع قدمه.. وعلمت أن الملك روح خالص، وأن فى آثاره على الأرض أثرا من الروح.. هكذا قدرت.. وقد رأيت أن أجرّب الأمر فصنعت من الحلىّ تمثالا على هيئة عجل.. ثم ألقيت فيه بهذا الأثر، فدبت فيه الحياة، وانطلق منه الخوار.. ففتن القوم به.. وعبدوه!(8/821)
وكان ردّ موسى على السامري:
«قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ» .
هذا هو عقابك فى الدنيا، أن تتحاشى الناس، ويتحاشاك الناس..
وألا تمسّهم، ولا يمسّوك، فإن فعلت أو فعل بك، أصبت بالحمى، أو مسّك شواظ من نار.. وهذا هو عقاب الدنيا.. وهو من جنس عمله، فقد أراد بالعجل الذي صنعه، أن يجمع الناس حوله، وأن يكون ذا سلطان فيهم..
فكان أن حرمه الله هذا السلطان، بل وأخرجه من أن يعيش مع أحد، أو يتصل بأحد، بهذا الداء الذي الذي رماه به..
وقوله: «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ» .. الموعد، هو الوعد، وهو يوم القيامة.. وهو موعد الناس جميعا للحساب والجزاء.. ومن بين الناس السامرىّ هذا، فإنه سيبعث، ويحاسب، ويجازى على ما كسب.
وقوله: «وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً» .. هو خطاب من موسى إلى السامري، وإلى بنى إسرائيل جميعا.. وخصّ السامرىّ بالخطاب، لأنه رأس الفتنة، ومدبرها، ومخرج هذا الإله للناس، فى العجل الذي صوّره..
فهذا الإله والعجل الذي ظلّ عليه القوم عاكفين، يعبدونه، ويقدمون القرابين إليه- سيمثل به موسى أشنع تمثيل أمام أعينهم.. إنه سيحرقه، ثم يطحنه طحنا، وينسفه نسفا، حتى يصير رمادا.. ثم يلقى به فى اليم.. فهل بمثل هذا يفعل بالإله؟ وهل يكون إلها من لا يدفع عن نفسه ما يفعل به من مكروه؟
وقوله تعالى: «إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» .. هو من قول موسى، تعقيبا على هذا الفعل الذي فعله بالعجل، وأرى القوم منه بأنه ليس إلا شيئا من هذه الأشياء القائمة بينهم، من جماد أو حيوان.. وبأنهم(8/822)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
كانوا على ضلال مبين، وجهل غليظ، حين عبدوا هذا الكائن، واتخذوه إلها..
ولكن هل ينتفع القوم بهذه التجربة الحيّة؟ وهل تخلص نفوسهم للإيمان بالله والاستقامة على سبيله؟
إن الأيام ستكشف منهم عن أخبث طباع، والأم نفوس ركبت فى الناس!
الآيات: (99- 104) [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
التفسير:
بدأت قصة موسى بتوجيه الخطاب إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى.. «وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى..» ثم جاءت الآيات بعد هذا تحدّث بهذا الحديث.. فهو إذن حديث مساق إلى النبىّ، صلوات الله وسلامه عليه..
تسرية له، وتثبيتا لفؤاده، بما يشهد من مواقف النبيين مع أقوامهم، ومواقف أقوامهم منهم، وما يلقى النبيون من معاندين، وضالّين، وسفهاء..(8/823)
ثم إذا انتهت القصة، عاد الخطاب إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توكيدا للخطاب الأول، وتذكيرا به، وأن هذه القصة، وغيرها من القصص القرآنى، إنما كانت من أجل النبىّ.. ثم إنه من جهة أخرى إيناس له صلوات الله وسلامه عليه، بهذه الصلة الدائمة بينه وبين ربّه، بهذا الخطاب الذي يخاطب به من ربّه..، فى ثنايا الآيات التي تتنزل عليه.
وقوله تعالى:
«كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» ..
إشارة إلى أنه بمثل هذا القصص يقصّ الله على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أنباء ما قد سبق من أحوال الرسل والأمم.. وأن قصة موسى هذه ليست إلا واحدة من القصص الذي سيقصه الله سبحانه وتعالى على النبىّ، فيما سينزل من القرآن بعد هذا..
- وفى قوله تعالى: «وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» - إشارة أخرى إلى أن القرآن الذي بين يدى النبىّ، وما فيه من آيات، دالّة على قدرة الله، وما فيه من شرائع وأحكام- هو ذكر لمن يتذكر، وعظة لمن يعتبر، وأن هذا القصص ليس إلا من بعض آيات الله التي تحمل العظة والعبرة..
قوله تعالى:
«مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» ..
أي من أعرض عن هذا القرآن، ولم يقبل عليه، وينتفع به، ويأخذ بما فيه من عبر وعظات، وأحكام وشرائع- من أعرض عن هذا «الذكر» فإنه قد خاب وخسر، وجاء يوم القيامة حاملا «وزرا» أي إثما عظيما، ينوء به(8/824)
كاهله، ويعيا به جهده.. لأنه يحيا بغير نور، ويسعى على غير هدى..
ثم يتجه الخطاب بعد هذا إلى المعرضين جميعا عن هذا الذكر.. إنهم سيحملون هذا الوزر أبدا، لا يتخلّى عنهم، ولا يرفع عن كواهلهم.. وهو حمل يسوء حامليه يوم القيامة، ويصبّ عليهم البلاء صبّا..
والسرّ فى إفراد الخطاب أولا، ثم فى جمعه ثانيا «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ...
وَساءَ لَهُمْ» ، هو- والله أعلم- أن الإعراض عن الذكر حال من أحوال الإنسان فيما بينه وبين نفسه.. لا ينكشف لغيره من الناس، إلا ما شفّ عنه عن ظاهره، أما ما انطوى عليه باطنه- وهو الذي يمثل الحقيقة، فإنه سرّ بين الإنسان وخالقه..
أما يوم القيامة، فلا سرّ، حيث تفضح الأعمال، وينكشف المستور..
وهنا يجتمع المجرمون إلى المجرمين.. وإذا هم جميعا على حال سواء..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً» ..
الظرف هنا «يوم» هو بدل من الظرف فى قوله تعالى: «وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» فيوم القيامة، هو يوم النفخ فى الصور، حيث يحشر المجرمون يومئذ زرقا، أي زرق الوجوه، لما يركبهم يومئذ من همّ وكرب، وما يظهر على وجوههم من آثار هذا الهم، وذلك الكرب، إذ كانت الوجوه هى التي تكشف عما يقع على مشاعر الإنسان من سوء أو مسرة.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها.. فاقِرَةٌ» (22- 25: القيامة) .
وكما يقول سبحانه فى وجوه أهل النعيم «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (24: المطففين) وفى وجوه أهل الشقوة والجحيم: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ(8/825)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ»
(40- 42: عبس) .
والزرقة التي تعلو الوجوه، هى أولى الدلالات على انحباس الدم وتجمده فى كيان الإنسان، مما يعانى من ضيق وبلاء! قوله تعالى:
«يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» ..
يتخافتون: أي يتحدثون بحديث خافت، يسترونه بينهم.. فيقول بعضهم لبعض «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» أي: ما لبثتم إلا عشرا، أي عشر ليال فى دنياكم هذه التي كنتم فيها..
- وقوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى بكل ما يسرّ به بعضهم إلى بعض، وبكل ما يجرى فى خواطرهم..
- وقوله تعالى: «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» أي ونحن أعلم بما يقوله «أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً» أي أعدلهم قولا، وأقربهم إلى الحال التي يجدونها فى أنفسهم: «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» أي ما لبثتم إلا يوما.. فهذه الدنيا، وما تقلّب فيه أهلها، من نعيمها، وسلطانها، لا تبدو لأهلها يوم القيامة إلا أشبه بيوم، طلعت شمسه، ثم غربت.. «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185: آل عمران) ..
الآيات: (105- 114) [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)(8/826)
التفسير:
ذكرت الآيات السابقة على هذه الآيات، يوم القيامة، وما يقع للظالمين فيه، وما يجرى بينهم من أحاديث متخافتة.. وكان مما يسأل عنه من شأن هذا اليوم.. هذه الجبال.. وهل تبقى على ما هى عليه؟ فكان السؤال، وكان الجواب:
«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» أي ما شأنها يوم القيامة؟ وهل تظلّ قائمة؟
وهلّا يجد الناس فيها يومئذ عاصما يعتصمون به فى مغاراتها وكهوفها، من هول هذا اليوم.. «فَقُلْ يَنْسِفُها. رَبِّي نَسْفاً» أي يدكها دكّا، ويهدّها هدّا، فإذا هى تراب على هذا التراب: «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً» أي يتركها، ويصيرها، «قاعا» كهذه القيعان التي كانت تعلوها..
والقاع: الأرض المنخفضة.. والصفصف: المستوي من الأرض..(8/827)
«لا تَرى فِيها عِوَجاً» حيث تسوى بوجه الأرض، فتكون هى والأرض بساطا واحدا، لا عوج فيه، لأن العوج إنما يبدو فى الأماكن البارزة..
«وَلا أَمْتاً» أي لا ارتفاعا ولا انخفاضا، بل كلها على سواء..
وقوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ.. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» ..
أي فى هذا اليوم، يستجيب الناس- بعد أن يبعثوا من قبورهم- يستجيبون لصوت الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر، دون أن ينحرفوا أو يتلبثوا..
«وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ» أي سكتت الأصوات، خشية وجلالا لله سبحانه وتعالى «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» فلا يكون هناك إلا الهمس والتخافت..
قوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» .
أي فى هذا اليوم لا تنفع الإنسان شفاعة فى نفسه إلا من أذن له الرحمن بالقول، والمحاجّة عن نفسه.. ثم كان قوله هذا مقبولا عند الله، مرضيا عنه..
والمراد بالقول، هو القول الذي يعرض فيه الإنسان أعماله فى الدنيا، من خير وشر، وحسن وقبيح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا.. لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» (38: النبأ) ..(8/828)
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» ..
أي أن الله سبحانه يعلم من أمر عباده كل شىء.. فما ينطقون به، وما لم ينطقوا به، هو فى علم الله، لا يعزب عنه شىء.. أما هم فإنهم لا يحيطون علما بالله سبحانه وتعالى، ولا يدركون كنهه وحقيقته..
قوله تعالى:
«وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» ..
أي فى هذا اليوم تعنو الوجوه، وتخضع الرقاب لله الحي القيوم..
لا تملك نفس لنفس شيئا.. «وَقَدْ خابَ» وخسر فى هذا اليوم «مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» أي من جاء وهو يحمل على كاهله «ظلما» أي منكرا من المنكرات وأفدح الظلم وأبهظه، هو الشرك بالله كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. وذلك هو البلاء العظيم، والخسران المبين.
قوله تعالى..
«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» أي أما من جاء بالصالحات من الأعمال، وكان مؤمنا بالله، فإنه فى أمان من أهوال هذا اليوم.. «فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» .. بل سيجد الجزاء الحسن لما عمل، ويوفّى أجره كاملا، بل ويضاعف له أجره.. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» ..
والهضم: هو الجور على الحقوق، وبخسها ونقصانها..
قوله تعالى:(8/829)
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» ..
أي بمثل هذا التّصريف، والتنويع، فى عرض ما يعرض من صور الوعيد لهذا اليوم، والتخويف منه- صرّفنا، وعرضنا هذه المعارض من أهوال الآخرة، وما يلقى الظالمون فيها.. وذلك ليكون للناس من ذلك ما يحملهم على اتقاء أهوال هذا اليوم، بالإيمان بالله، والأعمال الصالحة التي تنال مرضاته..
فإن لم يتقوا هذا اليوم، ويعملوا له، فلا أقلّ من أن يحدث لهم هذا التصريف والعرض لعذاب هذا اليوم- ذكرا، أي تذكرا له، وإحساسا به.. فإذا صحبهم هذا الإحساس، كان من شأنه أن يحيد بهم عن طريق الضلال يوما إلى طريق الهدى والإيمان..
أما من لا يكون لهم من هذا التصريف ما يبعثهم على التقوى، أو استصحاب الخوف من عذاب الله- فهم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة..
- وفى قوله تعالى: «أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» إشارة إلى هؤلاء المشركين من قريش، وأن هذا التصريف من الوعيد، قد جاءهم بلسان عربىّ مبين، بحيث لا نخفى عليهم دلالاته، وإذن فلا عذر لهم، إذا هم عموا عن النظر فى آياته البينات! قوله تعالى:
«فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ..
«فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» أي تنزّه، وعلا، وعظم، سبحانه وتعالى(8/830)
جلّ شأنه.. فهو «الْمَلِكُ الْحَقُّ» له الملك وحده، لا يشاركه فيه غيره، ولا يملك معه أحد شيئا.. فهو- سبحانه- المالك ملكا حقيقيا لكل موجود..
وفى هذا المقطع من الآية تمجيد لله، وتنزيه له.. لأنه سبحانه وحده المستحق للتنزيه والتمجيد، والحمد، إذ خلق الوجود، وأقام كل مخلوق فيه، وهداه إلى ما هو أصلح له، ورسم للناس طريق الهدى، وأبان لهم معالمها، وبعث فيهم رسله، مبشرين ومنذرين.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (165: النساء) «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» ..
هو دعوة للنبى صلى الله عليه وسلم ألّا يعجل بقراءة ما ينزل عليه من القرآن، من قبل أن ينتهى جبريل- مبلّغ القرآن- من الإفضاء بكل ما أمر بتبليغه..
وقد كان النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، كلّما سمع آية أو بعض آية من جبريل ردّدّها خوفا من نسيانها.. ثم يصل ما سمع بما يسمع.. وذلك حرصا منه صلى الله عليه وسلم، على ألا يفوته شىء من كلمات ربّه..
- فجاء قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» - إرشادا، وتعليما، للنبىّ، وتوجيها كريما لحسن الاستماع لآيات الله.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» (203: الأعراف) ..
وقد جاء فى موضع آخر، قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
(16- 19:
القيامة) ..
وجاء فى موضع ثالث قوله سبحانه: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (6: الأعلى)(8/831)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
وهذا كلّه تطمين للنبىّ، وإزالة لمخاوفه من أن يفوته شىء من كلام ربّه..
فالله سبحانه وتعالى سيقرئه، والله سبحانه وتعالى، سيحفظ عليه ما قرأ، فلا ينسى..
- وفى قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» .. أي اطلب المزيد من العلم، فيما ينزل عليك من آيات ربك.. فهذا الذي أخذته من كتاب الله، هو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي لم ينزل عليك بعد.. فلا تعجل!! وصبرا، فإن ما عند الله لك، كثير..
الآيات: (115- 127) [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)(8/832)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، قد جاءت إلى النبىّ الكريم منبهة له ألا يعجل بالقرآن، وألا يسبق الوحى، حتى ينتهى جبريل من أدائه..
وهذا الذي ينزل من القرآن الكريم، هو عهد بين النبىّ وربّه، وأن من واجبه أن يتثبت منه، وأن يقف طويلا عند آياته وكلماته، حتى يقوم بالوفاء بهذا العهد، على أكمل كماله، وأتم تمامه..
وهذا عهد كان بين الله سبحانه وتعالى، وبين آدم.. وقد نسى آدم هذا العهد، فكان أن وقع فى المعصية..!
والله سبحانه وتعالى يريد أن يعصم النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مما وقع فيه آدم.. ولهذا، فهو سبحانه، يدعوه إلى التثبت من الوحى.. ثم يعرض له صورة يمكن أن تحدث له، إذا لم يتثبت مما يتلقى من آيات ربّه..
والعهد الذي عهد به سبحانه وتعالى إلى آدم، هو قوله سبحانه وتعالى:
«وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» (35: البقرة) .
- وقوله تعالى: «فَنَسِيَ» أي نسى آدم عهد ربّه، وأكل من الشجرة!(8/833)
وفى التعبير عن مخالفة أمر ربّه وأكله من الشجرة، بالنسيان، إشارة إلى ما شمل الله سبحانه وتعالى به آدم من لطفه ورحمته.. فتاب عليه، وغفر له، وجعل معصيته تلك من قبيل ما يقع من الإنسان من سهو ونسيان! - وقوله تعالى: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» إشارة إلى أن آدم قد ضعف أمام إغراء الشيطان له، ولم يجد العزم الذي يمضى به أمر ربّه، ويخزى به الشيطان الرجيم، ويكبته! قوله تعالى:
«وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى» .
هو استعراض لقصة آدم، وعهد الله إليه..
وفى القصة تقديم وتأخير. فقد قدمت خاتمتها على أحداثها، فقوله تعالى:
- «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ..» هو ختام القصة، أو التعقيب عليها، وقدّم للاهتمام به، ولإلفات النبىّ إليه، لأنه هو المقصود من القصة هنا..
قوله تعالى:
«فَقُلْنا يا آدَمُ.. إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» ..
وتوجيه الخطاب إلى آدم فى قوله تعالى: «فَتَشْقى» إشارة إلى أن آدم هو الذي يحمل العبء الأكبر فى مواجهة الحياة، إذا هو خرج من الجنة..
قوله تعالى:
«إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» .
تلك هى جنة آدم..!
إنها غابة من تلك الغابات الكثيفة، التي تكثر فيها الفاكهة والظلّ والماء.(8/834)
فمن فاكهة تلك الجنة يأكل هو وزوجه.. فلا يجوع.. ومن ماء الينابيع يشرب، فلا يظمأ.. وفى أكناف الغابة يستكن، ولا يخرج للعراء..
وفى ظلال الأشجار، يتّقى أشعة الشمس.. فلا يضحى.. أي لا يجد الحرّ الذي يتسلط عليه من الشمس، حين يكون بالضّحّ، أي العراء..
تلك- فى رأينا- هى جنة آدم، وهى جنة أرضية، وآدم فى هذه الجنة، أو الغابة لم يكن إلا الثمرة الأولى التي نضجت على هذه الأرض، من شجرة الحياة..
وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، فى الجزء الأول من كتابنا هذا:
«التفسير القرآنى للقرآن» ..
قوله تعالى:
«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ.. هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» ..
ولقد استجاب آدم لإغراء الشيطان، ولدوافع نفسه للكشف عن هذا السر المضمر فى تلك الشجرة، التي نهى عن الأكل منها.. فأكل منها هو وزوجه.
وهنا تكشفت لهما الحقيقة من أمرهما، ونظرا إلى وجودهما- لأول مرة- نظرة واعية مدركة، فرأيا أنهما على حال من العرى، لا تليق بهما.. فأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ليسترا به عورتيهما..
- وقوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» إشارة إلى موقف آدم بعد أكله من الشجرة.. لقد عصى ربه، عصاه لأنه أصبح ذا إرادة،(8/835)
تجىء منها الطاعة، كما يجىء منها العصيان! وهو بهذا العصيان قد «غوى» أي ضلّ، إذ اتبع الجانب المنحرف من إرادته، ولم يتبع الجانب المستقيم منها.
قوله تعالى:
«ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى» ..
إشارة إلى أن الله سبحانه، قد تجاوز لآدم هذا، عن فعلته تلك..
إذ كانت أول زلّة له، وهو يضع أول قدم له على طريق الإنسانية.. ثم هداه ربّه بعد هذا، وثبت قدمه على الأرض، بما فتح له عقله من آفاق واسعة فيها، لا تزال نتسع يوما بعد يوم.. إلى ما شاء الله.
قوله تعالى:
«قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» والهبوط هنا، هو الخروج من الجنة أو الغابة، إلى حيث الحياة الواسعة الرحيبة..
والخطاب هنا للآدميين، الذين خرجوا من عالم الغابة، إلى عالم الإنسان فى شخص آدم وزوجه.. وهم فى هذا العالم، متنافسون، متنازعون، متعادون..
تنفرق بهم السبل، وتنحرف الاتجاهات.. وقد كان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون فى أيديهم مصابيح الهدى.. فمن اتبع هدى الله، فلا يضلّ ولا يشقى.. ومن أبى، وأعرض عن ذكر الله والاستقامة على هداه، فإنه سيحيا فى هذه الدنيا حياة تعسة ضالة، يضرب فيها فى ظلام، لا يرى فيه بصيصا من الأمل والرجاء.. ثم يحشر يوم القيامة أعمى، حيث يشتد به(8/836)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
الكرب، وتغيم فى وجهه المرئيات، فلا يرى إلا ظلاما وضلالا.
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» .
وفى ذلة وانكسار، يسأل الظالم ربه: «لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟» فى الدنيا.. ويأتيه الجواب من الحق سبحانه وتعالى: «كَذلِكَ» أي كهذا العمى الذي أنت عليه فى الآخرة، كنت فى الدنيا، إذ أتتك آياتنا فعميت عنها، وأهملت النظر فيها.. «وَكَذلِكَ الْيَوْمَ» أي فى هذا اليوم، يوم القيامة «تنسى» أي تترك فيما أنت عليه من عمى..
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى» .
أي بمثل هذا الجزاء نجزى من أسرف على نفسه، ودفع بها فى متاهات الضلال، ولم يؤمن بآيات ربه التي عرضت عليه.. إنه يحشر يوم القيامة أعمى.. ثم إن وراء هذا عذابا هو أشدّ من هذا العمى، وأبقى أثرا.
الآيات: (128- 135) [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)(8/837)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى» ..
الاستفهام هنا للإيجاب والتقرير.. ويهدى: يبيّن.. والنّهى العقول، حيث تنهى أصحابها عن المنكرات من الأمور..
ويكون المعنى.. أن القرآن الكريم قد بين لهؤلاء المشركين ما حل بالأمم السابقة قبلهم، وما صار إليه أمرهم، بعد أن عمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، وقد كان فى ذلك عبرة لمن يدير نظره، ويلفت عقله إلى هذه العبر والمثلات.. ولكن القوم فى غفلة معرضون..
- وقوله تعالى: «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» جملة حالية، وصاحب الحال ضمير الغائب العائد على المشركين فى قوله تعالى: «قَبْلَهُمْ»(8/838)
قوله تعالى:
«وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى» .
الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى، هى قوله تعالى للنبى الكريم:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فلولا هذه الكلمة التي أعطاها الله سبحانه وعدا لنبيه الكريم «لَكانَ لِزاماً» أي لكان أمرا لازما لا محيص عنه، وهو أن يحلّ بهؤلاء المشركين، الذين عصوا رسول الله ما حلّ بغيرهم من القرون السابقة، الذين عصوا رسل الله..
- وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «كَلِمَةٌ سَبَقَتْ» .. أي لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان لزاما..
وقدّم جواب لولا على بقية الشرط، للاهتمام به، والإلفات إليه.. وأن كلمة الله هى الرحمة التي رحمهم بها بفضل مقام النبىّ الكريم فيهم.. فلعلّ هؤلاء المشركين يعرفون نعمة الله فيهم، ومقام النبي بينهم..
والأجل المسمى، هو ما قدّر لهم من آجال فى هذه الدنيا..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» .
الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو دعوة له بالصبر على ما يكره من أقوال المشركين المنكرة التي يرمونه.. بها وليجعل من تسبيح ربّه، وذكره وحمده وشكره، غذاءه الذي يتغذّى به، ودواءه الذي يتداوى به، فى أوقات(8/839)
مختلفة من الليل والنهار.. قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وفى أجزاء من الليل، وأطراف من النهار.. وبذلك تسكن نفسه ويطمئنّ قلبه..
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) .
قوله تعالى:
«وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا.. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» .
والخطاب هنا أيضا للنبى، ومن ورائه كل من اتّبعه، وسلك سبيله..
- وقوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» نهى يراد به النصح والإرشاد، وذلك بألا يلتفت النبىّ والمؤمنون إلى ما بين أيدى هؤلاء المشركين من أموال وبنين وألا يقع فى نفسه، أو أنفس المؤمنين، أن ذلك الذي أمدّ الله بعض المشركين، به، من نعمة، هو تكريم لهم، وإحسان منه سبحانه وتعالى إليهم.. بل هو ابتلاء وامتحان لهم، ليرى منهم سبحانه أيشكرون أم يكفرون؟ .. وها هم أولاء قد كفروا به، وحادّوه، وحاربوا رسوله، وبهذا تحولت هذه النعم إلى سيئات وأوزار، تضاف إلى رصيدهم مما كسبوا من سيئات وأوزار..
- وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى أن ما يتمتع به المشرك من عطاء الله هو شركة بينه وبين زوجه، التي هى متعة من متعه وهو متعة لها..
فالمرأة كالرجل هنا، فى أنها مبتلاة بنعم الله، ومحاسبة عليها.. فإن شكرت، وآمنت، وعملت صالحا أخذت بحظها من رضوان الله، وإن جحدت وكفرت، وخالطت الآثام، فعليها وزر ما عملت، وستلقى جزاءها من عذاب الله.
- وفى قوله تعالى: «زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى أن ذلك المتاع الذي فى(8/840)
أيدى الناس، هو زهرة من زهرات الحياة الدنيا، يبهج العين، ويسرّ القلب..
ولكنّه لا يعمّر طويلا، بل سرعان ما يذبل ويجفّ، ثم يصير حطاما.. تماما كالزهرة. تملأ العين بهجة ومسّرة، ثم تموت وشيكا!! و «زهرة» منصوب على أنه مفعول ثان للفعل: «متّعنا» لتضمنه معنى «أعطينا» .
- وفى قوله تعالى: «وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» - إشارة إلى ما بين يدى النبىّ الكريم من رزق عظيم.. هو القرآن الكريم، ثم تلك الرسالة الشريفة التي اصطفاه الله لها، وتخيّره لتبليغها عنه إلى عباده! فأى رزق خير من هذا الرزق؟ وأي عطاء أكرم وأوفر من هذا العطاء؟ إنه أشرف قدرا، وأعظم أثرا، وأخلد ذكرا من كلّ ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع! قوله تعالى:
«وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها.. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً.. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» ..
هو دعوة للنبى الكريم أن يدعو أهله من زوج وولد، وكلّ مؤمن ومؤمنة، إذ كانوا جميعا أهله، وهو القيّم عليهم، والمدبّر لأمرهم- أن يدعوهم جميعا للصلاة، إذ هى الصورة المثلى الكاملة لذكر الله، وحمده وشكره..
- وقوله تعالى: «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» أمر بالمداومة عليها، وإن كان فى تلك المداومة شىء من العناء.. فذلك تكليف، وللتكاليف أعباؤها وأثقالها، وإلا ما استحقّ القائمون بها حمدا، ولا استوجبوا أجرا..
- وفى قوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» - إشارة إلى أن الصّلاة التي يؤديها النبىّ ومن معه من المؤمنين لله- ليست سدّا لحاجة الله سبحانه وتعالى إليها،(8/841)
فالله سبحانه فى غنى عن العالمين.. وكلّ ما يتقدم به المؤمنون والمتقون إلى الله من طاعات وقربات عائد إليهم، حيث تطهر به قلوبهم، وتزكو به نفوسهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (57- 58: الذاريات) ويقول سبحانه فى هدى الأضاحى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (37: الحج) .
- وفى قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» مقابلة لقوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» أي بل نحن نرزقك، ونتفضّل عليك ابتداء وانتهاء..
- وقوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» - إشارة إلى أن ما يؤديه النبىّ والمؤمنون لله سبحانه وتعالى من عبادات، وقربات، هو مما يدّخر لهم، ويبقى.. كما يقول سبحانه: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (46: الكهف) .
وفى إسناد العاقبة إلى التقوى، لا إلى الأعمال الصالحة، إشارة إلى أن الأعمال الصالحة هى وسائل إلى غاية، والغاية هى التقوى.. التي هى ثمرة الأعمال الصالحة..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ؟ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟» ..
القائلون هذا القول هم المشركون.. وفى حكاية قولهم، إعلان لهم بتلك التهمة، وعرضهم فى ساحة الاتهام بها، والحساب عليها..
والآية التي يطلبونها، ويلحّون فى طلبها، هى آية مادية، يرونها رأى(8/842)
العين، ولو كانت عذابا يسقط عليهم من السماء، أو بلاء يطلع عليهم من الأرض..
وفى قولهم: «مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بالنبيّ وسخرية به، وسفاهة عليه منهم..
وقد ردّ الله عليهم بقوله: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟» والبيّنة هى القرآن الكريم، والنبىّ الكريم معا.. كما يقول سبحانه:
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (1- 3: البينة) .
والصحف الأولى، هى صحف إبراهيم وموسى، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18- 19: الأعلى) .
والقرآن والرسول هما بينة لما فى الصحف الأولى، أي هما بيان لها، ومعلم لما جاء فيها.. فهو المصدّق لها، والمهيمن عليها..
قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» .
هو تهديد للمشركين، وأنهم فى معرض العذاب بعد أن نزل عليهم القرآن، وبلّغهم الرسول آيات ربّه.. وأنهم لا حجة لهم إذا هم وقعوا تحت عذاب الله، وأخذوا بما أخذ به الظالمون قبلهم.. فهم- والأمر كذلك- لا يستطيعون أن يقولوا: ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تأخذنا بهذا العذاب؟ إنك لو أرسلت إلينا رسولا لآمنا به، ولما حلّ بنا الذل والخزي، ولما نزل بنا ما نزل من بلاء!(8/843)
لقد قطعت حجتهم.. فهذا رسول الله بينهم، وهذا كتاب الله يتلى عليهم..فماذا هم قائلون لو أخذهم الله ببأسه، وأوقع بهم عذابه؟
قوله تعالى:
«قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ.. فَتَرَبَّصُوا.. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى» ..
وبهذه الآية تختم السورة الكريمة، لتنهى موقفا من مواقف الدعوة، بين النبىّ والمشركين..
إنهم قد أبلغوا رسالة ربّهم، وقد صرّفت لهم الآيات، وضربت لهم الأمثال، وأقيمت الحجج والبراهين.. وها هم أولاء على مفترق الطرق.. فإما أن يأخذوا يمينا أو شمالا.. إما أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لرسول الله، فتسلم لهم دنياهم وآخرتهم جميعا.. وإما أن يصدّوا عن سبيل الله، ويأخذوا طريقهم مع أهوائهم وشياطينهم، فيخسروا الدنيا والآخرة معا.. وستكشف الأيام ما يكون منهم..
وسيعلم الظالمون لمن عقبى الدار! بعون الله تم الكتاب الثامن، ويليه الكتاب التاسع إن شاء الله.
وفيه تفسير الجزءين السابع عشر والثامن عشر.. وعلى الله قصد السبيل، ومنه سبحانه السداد والتوفيق، وله الحمد فى الأولى والآخرة.(8/844)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
[الجزء التاسع]
21- سورة الأنبياء
نزولها: مكية.. بلا خلاف.
عدد آياتها: مائة واثنتا عشرة آية.
عدد كلماتها: ألف ومائة وثمان وستون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة وسبعون حرفا.
وسميت سورة الأنبياء لكثرة من ذكر فيها من الأنبياء.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 9) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)(9/845)
التفسير:
مناسبة هذه السورة لما قبلها: ختمت سورة طه بالتنديد بالمشركين من أهل مكة، وبمشاقّتهم لرسول الله، وتأبّيهم على الهدى الذي يدعوهم إليه، ثم إنهم وقد بعث الله فيهم رسولا بلّغهم رسالة ربّه، فلا حجة لهم على الله، إذا أخذهم بعذابه، ولا سبيل لهم إلى أن يقولوا: «رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» .. ثم تختم السورة بهذا النذير المطلّ عليهم، وقد تركوا بمنقطع الطريق، بعيدين عن أن يضعوا أقدامهم على طريق الهدى:
«قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى» .
وفى مفتتح هذه السورة- سورة الأنبياء- تطلّ على المشركين نذر هذا اليوم، وهم على موعد معه، وإن كانوا فى غفلة وذهول عنه.. «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» ..
قوله تعالى:
«اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .
الناس هنا، هم هؤلاء المشركون، من أهل مكة، ثم يدخل معهم كلّ الناس، الذين غفلوا عن ذكر الله، وعن العمل ليوم الجزاء..
وفى النظم القرآنى «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» وفى الخروج به عن مألوف النظم، وهو: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» - فى هذا توكيد لحسابهم، وشدّهم به شدّا وثيقا لا يفلتون منه.. وشتان بين النظمين: اقترب للناس حسابهم..
واقترب حساب الناس..!(9/846)
- «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» أي وهم فى غفلة مطبقة عامة.. غفلة عن كل ما هو حق، وخير، كما يدل على ذلك تنكير الغفلة. وليس هذا فحسب، بل إنهم مع غفلتهم هذه العامة الشاملة، «مُعْرِضُونَ» عن كل داع يدعوهم إلى أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن ينتبهوا من غفلتهم..
والغفلة قد تكون لأمر عارض، بحيث إذا نبّه الإنسان تنبه، وإذا دعى أجاب.. ولكن غفلة هؤلاء القوم، غفلة مستولية عليهم، آخذة بكل حواسّهم ومدركاتهم: «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» حيث أنهم مع هذه الغفلة المستولية عليهم- بعيدون عن دعوات التنبيه، لا يلقونها إلا من وراء ظهورهم.. فهم عنها معرضون..
«ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» ..
هكذا شأن هؤلاء الغافلين.. تطرق أسماعهم دعوات متتابعة، مجدّدة، تجيئهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق.. ومع هذا فهم على ما هم عليه، من غفلة، ولهو، وعبث..
والذّكر المحدث، هو ما يتنزل من آيات الله، حالا بعد حال، ويتجدّد زمنا بعد زمن.. وهؤلاء المشركون الغافلون على حال واحدة، مع كل ما ينزل من آيات الله يسمعونها بآذان لا تصغى إلى حق، وبقلوب لا تتفتح لقبول خير..
«وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ..
النجوى: التناجي فيما بينهم..
وإسرار النجوى: مبالغتهم فى إخفاء ما تناجوا به من منكر القول، حتى يحكموا كيدهم، ويصلوا إلى رأى يجتمعون عليه، ثم يطلعون على الناس به.. إنهم(9/847)
يأتمرون فيما بينهم، ليتفقوا على الكيد الذي يكيدون به لرسول الله، ولآيات الله.
- وقوله تعالى: «الَّذِينَ ظَلَمُوا» هو بدل من الضمير فى «أَسَرُّوا» .. أي أن هؤلاء الذين أسرّوا النجوى، هم ظالمون، قد ظلموا أنفسهم بعزلها عن موارد الهدى، وقطعها عن مناهل الخير..
- وقوله تعالى: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» هو بيان لما تناجى به القوم، وأتمروا فيما بينهم على اصطياده، من واردات أوهامهم، وضلالاتهم.. «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» ؟ وإذا كان بشرا مثلنا فكيف يكون له هذا المكان الذي يطلّ عليكم منه، من هذا العالم العلوىّ؟
«أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ؟ وإذا فكيف نقبل على أنفسنا أن نجىء إلى هذا الخداع ونحن نراه رأى العين؟
وهل يليق بعاقل أن يرى من يدعوه إلى ختله، ولا يحتيال عليه، ثم يأتيه طائعا؟ هكذا يريدون هذا اللّغو، ويسمرون به! قوله تعالى:
«قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
قرىء: «قل ربى يعلم القول فى السماء والأرض» .
وعلى كلتا القراءتين، فإن الآية ردّ على ما تناجى به المشركون وأسرّوه..
حتى إذا أحكموا نسجه، أعلنوه فى هذا القول المنكر: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .. وأن الله سبحانه يعلم ما أسروا وما أعلنوا، فهو سبحانه يعلم كل ما يقال فى السماء والأرض، وهو «السَّمِيعُ» الذي يسمع نجوى القلوب، «الْعَلِيمُ» الذي يعلم ما تكنّ الضمائر.. «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (13: الملك) .(9/848)
قوله تعالى:
«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» .
هو فضح لما تناجى به القوم، وكان مما جرى به الحديث بينهم.. فقالوا فيما قالوه عن القرآن الكريم: هو «أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أي أخلاط أحلام، وهلوسة نائم، معتلّ المزاج، مخبول العقل.. وإذ لم يرتض بعضهم هذا القول ردّوه، وقالوا: «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» أي من واردات الشعر، ومن نسج أخيلته..
وإذ لم يرض بعضهم هذا القول أو ذاك قالوا: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» أي يدع محاجّته فى هذا الكلام الذي يلقيه علينا، ويقول عنه إنه معجزته التي يقدّمها بين يدى رسالته، وليأتنا بمعجزة غير كلامية، فإن مجال الكلام متّسع لكل قائل.. فإن كان رسولا من عند الله، كما يدّعى، فلم لم يأت بمعجزة نراها، كناقة صالح، وعصا موسى، ويد عيسى؟ عندئذ يمكن أن يكون له وجه يلقانا به على طريق دعوته، ويكون لنا يظر فيما يدّعيه..!
فانظر إلى كلمات الله، وقد أمسكت بالقوم وهم على مسرح الجريمة، ثم أخذت ما جرى على لسان كل ذى قول قاله فى هذا المجلس الآثم..
«قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» .
لقد ذهب كل فريق منهم بقول من هذه الأقوال..!
وقد نسبت كل مقولة إليهم جميعا.. إذ كانوا كلهم شركاء فيما قيل..
فالمتكلم والسامع جميعا، شركاء فيه.
قوله تعالى:
«ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.. أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ» .(9/849)
هو ردّ على ما اقترحه المشركون من أن يأتيهم النبىّ بآية كآيات المرسلين قبله..
فهل آمن أهل القرى الذين جاءتهم تلك المعجزات؟ لقد كفروا بتلك الآيات، فأهلكهم الله.. وهل شأن هؤلاء المشركين غير شأن من سبقهم؟
إنهم لو جاءتهم آية كتلك الآيات لن يؤمنوا، ولن ينجوا من هذا المصير الذي صار إليه المكذبون قبلهم.. أفليس من الضلال إذن أن يستعجلوا ما فيه هلاكهم؟.
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .
إنهم ينكرون أن يكون رسول الله بشرا مثلهم.. فعلى أيّة صورة يكون الرسول المبعوث من الله إليهم؟
ولم يكون رسولهم غير بشر، ورسل الله كلهم كانوا من البشر، ومن بين أقوامهم؟ إن لم يعلموا هذا فليسألوا أهل العلم، الذين لا تخفى عليهم هذه الحقيقة السافرة.
وقيل إن «أَهْلَ الذِّكْرِ» هنا، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
والأولى أن يكون «أَهْلَ الذِّكْرِ» هم كلّ من عنده علم بهذا، سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم..
قوله تعالى:
«وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ» .(9/850)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
أي أن هؤلاء الرسل، مع أنهم بشر، فإن اختيارهم للرسالة، لم يغيّر شيئا من بشريّتهم..
فهم مثل سائر البشر، تحكمهم ضرورات البشرية.. يأكلون، ويشربون وينامون، ويفرحون، ويحزنون. ثم يموتون..
والجسد: هو المادة المتجسّدة. والرسل مادة متجسدة، وليسوا من عالم الملائكة النورانى الشفاف..
قوله تعالى:
«ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» .
ذلك ما لرسل الله عند الله.. إنهم على وعد الله لهم بالنصر، هم ومن اتبعهم من المؤمنين وقد صدقهم الله وعده، فأنجاهم وأنجى من آمن بالله من أقوامهم، ممن شاء الله لهم الهدى.. فمن شاء الله لهم الهدى اهتدوا، فلم يصبهم شىء مما يحلّ بالمكذبين الضالين من أقوامهم، من هلاك وعذاب..
الآيات: (10- 18) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 18]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)(9/851)
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» .
فى هذه الآية تنويه بالأمة العربية، ورفع لقدرها، باختيارها من بين الأمم لتكون الوجه الذي تلتقى به رسالة الإسلام، والراية التي يجتمع عليها الداخلون فى دين الله، وليكون لسانها هو اللسان الذي يحمل كلمات الله، ويكتب له الخلود بخلودها.
وفى قوله تعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله الكريم هو منزل كذلك على قومه العرب..
فالرسول منهم، والكتاب المنزل عليه هو كتابهم، ومنزل إليهم.. وإذ كان هذا هو الحال، فإن من الخسران لهم أن يتخلّوا عن هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، واختصّهم به، وإنهم إذا لم يبادروا ويأخذوا حظهم من هذا الخير، أو شك أن يفلت من أيديهم، ويعدل عنهم إلى غيرهم، كما يقول سبحانه:
«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ.. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) وفى تنكير الكتاب، تعظيم له، ورفع لقدره، وأنه أعرف من أن يعرّف بأداة تعريف.. فهو بهذا التنكير علم لا يشاركه غيره فى هذا الاسم.
وفى قوله تعالى: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» تحريض العرب على أن ينشدوا الهدى من هذا الكتاب، ويستظلوا بظله، ففى هذا عزّهم، ومجدهم، وخلود ذكرهم فى العالمين..(9/852)
وفى هذا أيضا إشارة إلى ما يكشف عنه المستقبل من موقف قريش، والعرب، من الدعوى الإسلامية، وأنهم جميعا سيدخلون فى دين الله، وسيبقى ذكر العرب خالدا ما ذكر الإسلام الخالد.
فالعرب- كما فى المأثور- هم: «مادّة الإسلام» .. وبجهادهم فى سبيل الله امتدّ ظلّ الإسلام، واتسعت رقعته، ورفرفت أعلامه فى كل أفق من آفاق الدنيا..
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» نخسة رقيقة، تدعو هؤلاء القوم، وتدفع بهم دفعا إلى أخذ حظهم من الكتاب المنزل إليهم.. إنها غمزة حبّ، وإغراء، ودفعة من يد كريمة رحيمة ودود!! قوله تعالى:
«وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» .
هو تعريض بأهل القرية «مكة» ، وتهديد لهم بأن يسلكوا فى عداد القرى الظالمة التي قصمها الله، أي أهلكها، وقطع دابرها.. ثم أقام مكانهم «قَوْماً آخَرِينَ» . والقصم: القطع الحاسم، وهو أشد من القضم.
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» .
البأس: العذاب، والبلاء.
أي فلما أراد الله أن يأخذ الظالمين بظلمهم، ساق إليهم بأسه وعذابه..
فلما استشعروا وقوع العذاب بهم، بما طلع عليهم من مقدماته ونذره، ذعروا، وأخذوا يركضون، أي يجرون مسرعين فى فزع واضطراب، فرارا من تلك(9/853)
القرية، وخوفا من أن ينهار عليهم بنيانها، أو تخسف بهم أرضها.
قوله تعالى:
«لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .
هذا هو صوت الحال ينادبهم: إلى أين؟ قفوا حيث أنتم، ولا تركضوا كركض الحمر المستنفرة.. إنكم لن تفلتوا من هذا البلاء النازل بكم..
ولمن تتركون دياركم وما حشدتم فيها من متاع، وما جلبتم إليها من متع؟.
وكيف تتركون هذا الذي أنتم فيه من ترف ونعيم؟ ارجعوا.. أفتذهبون وتتركون هذا الذي أذهبتم حياتكم، واستهلكتم أعماركم فى إعداده وجمعه؟
ارجعوا، ولو كان فى ذلك هلاككم.. إن السفينة لتغرق ويغرق معها كل شىء لكم.. فما حياتكم بعد هذا؟
وفى قوله تعالى: «وَمَساكِنِكُمْ» إشارة إلى ما للوطن، والسّكن، من مكان مكين فى قلب الإنسان.. وأنه شىء أحبّ وآثر من كل ما يحرص الإنسان عليه، وأن نعيم الإنسان لا يجتمع إلا فيه، ولا يتمّ إلا به.. وإن الغريب الذي لا وطن له ولا سكن، هو إنسان ضائع شقىّ، وإن طعم أطيب المطاعم، ولبس أفخر الملابس، ونزل أحسن المنازل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» (66: النساء) .
فجاء هنا الخروج من الديار، معادلا لقتل النفس! وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» استهزاء بهم، وسخرية من مشاعرهم(9/854)
التي يداعبها الأمل بالنجاة فى هذا الركض الذي يركضونه..
فهم مسئولون لا محالة عما كانوا فيه من ضلال، واستغراق فى الترف الذي أذهلهم عن النظر فى أنفسهم، وطلب النجاة قبل وقوع البلاء بهم.. وقد جاء الإخبار بسؤالهم فى صورة الرجاء، الذي يمكن أن يقع أو لا يقع، وذلك لتتحرك فى صدورهم مشاعر الأمل فى النجاة، ثم إذا هم تحت ضربات البلاء، وقد أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. فيالخيبة الأمل! لقد برقت بوارقه، ثم انطفأت، فإذا هم فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى:
«قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» .
وهكذا أصبحوا وجها لوجه مع عذاب الله النازل بهم، لا يملكون معه إلا التّنادى بالويل، وإلا أن يندبوا حظهم المنكود، ويرجعوا على أنفسهم باللائمة والندم، ولات ساعة مندم! وهكذا تظل تتعالى صيحاتهم، ويتعاوى صراخهم، إلى أن تخمد أنفاسهم، ويصبحوا جثثا هامدة، كحصاد هشيم، تذروه الرياح.
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» .
أي أن الله سبحانه وتعالى ما خلق شيئا عبثا ولهوا.. فالسماء والأرض وما بينهما من كائنات وعوالم، إنما خلقت لحكمة مرادة لله سبحانه وتعالى، ولقصد حكيم قصده من خلقها..
وكذلك الناس، لم يخلقوا عبثا، وإنما خلقوا ليعمروا الأرض، ويعبدوا(9/855)
الله فيها، ثم يردّوا إلى الله، ليحاسبوا على ما عملوا، وليلقى المحسن منهم جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته.. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) .
قوله تعالى:
«لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» .
هو توكيد، لما تضمنته الآية السّابقة، من أن خلق المخلوقات، علوها وسفلها، ناطقها، وصامتها، لم يكن للهو والعبث، وإنما كان خلقا قائما على ميزان الحكمة والتقدير.. وأنه سبحانه لو أراد أن يتخذ لهوا لا تخذه من لدنه أي من ذاته، أو لأقام له فى الملأ الأعلى مسرحا للهو، ولم يقمه على هذه الأرض.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ويجوز أن تكون «أَنْ» هنا نافية بمعنى «ما» أي ما كنا فاعلين ذلك.. تعالت عن ذلك حكمتنا.
قوله تعالى:
«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» .
القذف: إلقاء الشيء، ورميه بقوة وشدة..
والدمغ: وسم الشيء بسمة تغيّر معالمه.. والزاهق: الهالك، والضائع.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضرب الباطل بالحق، ويدمغه به، فإذا هو زاهق، أي ذاهب ومنهزم..
وهكذا آيات الله وما تحمل من حق، إنها تلتقى بما يختلقه المبطلون من ضلالات وأباطيل، فتدمغها، وتزهقها، وتخنق أنفاسها، وإذا تلك المفتريات والأباطيل، دخان وهباء، لا يمسك أصحابها منها بشىء.. والمثل المحسوس فى هذا، عصا موسى، وعصىّ السحرة.. إن العصا، حق من الحق،(9/856)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
وعصىّ السحرة باطل من الأباطيل.. فلما التقت العصا بالعصىّ ألقت بها فى غياهب الظلمات.. فلم يجد أصحابها لها ظلا.. «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (117 118- الأعراف) - وفى قوله تعالى: «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالويل والهلاك، الذي يأتيهم من هذه الأباطيل التي يعيشون معها، بما يصفون به الله سبحانه وتعالى من صفات لا تليق بجلاله وعظمته كنسبتهم الملائكة إلى الله، وقولهم إنهم بنات الله!.
الآيات: (19- 29) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 29]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)(9/857)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» .
لا يستحسرون: أي لا يملّون، ولا يكلّون..
لا يفترون: أي لا يتراخون، ولا ينقطعون عن العبادة، لحطة، أو فترة.
والآية والآيات التي بعدها، تكشف عن بعض سلطان الله، وتحدث عن بعض ما له من قدرة قادرة على كل شىء، ممسكة بكل شىء..
فهو- سبحانه- المالك لمن فى السموات والأرض، من عوالم.. من الذرة، وما دون الذرة، إلى الكواكب فى مساراتها، والنجوم فى أفلاكها.. إلى الملائكة الذين هم عنده، حافّين بالعرش.. وهو سبحانه المتصرف فى هذه الموجودات، الموجه لها، المقدّر لوضعها الذي تأخذه فى هذا الوجود.
وإذا كان هذا سلطان الله، وتلك قدرته الآخذة بناصية كل شىء، فإنه من غير المعقول أن يكون شىء من خلقه ذا سلطان معه، أو خارجا عن سلطانه..
والملائكة، الذين هم عند الله بهذا المكان الرفيع، لم تخرج بهم منزلتهم هذه عن أن يكونوا عبادا من عباد الله يدينون له بالولاء ويتقربون إليه بالعبادة:
«يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» .. إنهم فى عبادة دائمة متطلة، وذكر لله لا يفترون عنه! والسؤال هنا، هو: إذا كان الملائكة على هذا الصفاء النورانى الذي خلقوا منه، وعلى تلك العبادة الدائبة والطاعة الدائمة، فلم هذا الخوف؟ ولم(9/858)
تلك الخشيه؟ كما يقول سبحانه: «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» (13: الرعد) والجواب على هذا، هو أن الملائكة لقربهم من الله سبحانه وتعالى، ولكمال معرفتهم بماله سبحانه وتعالى من جلال وكمال- هم أكثر عباد الله ولاء لله، وانقيادا له، وفناء فيه.. فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن كان إلى الله أقرب كان لجلاله وسلطانه أرهب.! يقول الله سبحانه وتعالى:
«إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» .. فالعلماء بالله، العارفون به، هم أكثر الناس خشية له، وولاء لذاته.. والملائكة يعلمون أكثر مما يعلم العالمون من جلال الله وسلطانه، وعظمته..
وقوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» هو تسفيه لعقول هؤلاء المشركين، الذين يعبدون مما على الأرض، من ناطق أو صامت، مثل أولئك الذين اتخذوا من البشر آلهة، أو من الأحجار أصناما ينحتونها ويعبدونها.. فهؤلاء أحمق عقولا، وأغلظ جهلا من أولئك الذين عبدوا الملائكة، وإن كان هؤلاء وأولئك جميعا فى ضلال مبين..
فلا الملائكة المقربون، ولا الجن، ولا البشر، ولا الأحجار، ولا أي شىء مما خلق الله، مما يصح فى عقل عاقل أن يجعل له إلى الله نسبا، فضلا عن أن يجعله إلها مع الله، يشاركه التصريف والتدبير.
وفى قوله تعالى: «مِنَ الْأَرْضِ» إشارة إلى مدى الانحطاط العقلي، الذي وصل إليه أولئك الذين يعبدون ما على هذه الأرض من مخلوقات.. فهى من معدن هذا التراب الذي تدوسه الأقدام، فكيف يكون هذا التراب المشكّل فى أي صورة من الصور، إلها يعبد من دون الله، ويرجى منه ما يرجو المؤمنون بالله، من الله رب العالمين؟.(9/859)
وقوله تعالى: «هُمْ يُنْشِرُونَ» .. يمكن أن يكون استفهاما.. تقديره أهم ينشرون؟ أي أهؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من الأرض ينشرون الأموات ويبعثونهم من قبورهم، كما يفعل الله؟ والاستفهام هنا إنكارى..
ويمكن أن يكون جملة خبرية، هى صفة للآلهة، وتكون الآية كلها مبنية على الاستفهام الإنكارى، ويدخل فيها إنكار الجملة الخبرية، كذلك..
قوله تعالى:
«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» .
هذه قضية، هى تعقيب على ما وجه به المشركون الذين يتخذون من عباد الله، فى السماء أو فى الأرض: آلهة، فإن ذلك سفه وجهل، وسوء تقدير لما ينبغى أن يكون للإله المعبود، من صفات الكمال والجلال المطلقين..
وإذا كان الإله الذي يستحق العبادة موصوفا بصفات الكمال المطلق، فإن هذه الصفات- فى إطلاقها- لا تكون إلا لإله واحد، لا يشاركه أحد فيها، إذ لو شاركه غيره فيها، أو كان له مثلها، لما كان له الكمال المطلق، ولما كان له التفرد بالألوهية.. إذ الكمال المطلق صفة واحدة، ولا يتصف بها إلا موصوف واحد، هو الله سبحانه..
ومن جهة أخرى.. فإن هذا الوجود، فى علوه وسفله، وفى سمائه وأرضه- لو قام عليه أكثر من ذى سلطان واحد مطلق، لما استقام أمره، ولما استقرّ نظامه، ولكان لكل ذى سلطان أن يتصرف فيما له سلطان عليه، ولذهب كل منهم مذهبا، فمضى ذا مشرّقا، ومضى ذاك مغرّبا.. وأخذ هذا يمينا، وأخذ ذاك يسارا.. فيتصادم هذا الوجود، وتتضارب الوجودات، وينفرط عقدها، وتتناثر أشلاؤها(9/860)
فالإنسان مثلا، وهو العالم الأصغر، الذي يناظر العالم الأكبر.. يقوم على ملكة التفكير فيه، عقل واحد.. ويقوم على تغذيته بالدم- الذي هو ملاك حياته- قلب واحد..
وتصوّر أن يكون لإنسان عقلان.. ماذا يكون حاله؟ وكيف يكون مقامه فى عالم البشر؟ إن لكل عقل مدركات، وتصورات وتقديرات.. فبأى عقل يسير؟ وبأى عقل يحكم على الأشياء ويتعامل معها؟ إنه بهذين العقلين إنسانان لا إنسان واحد..
إنه ذو شخصية مزدوجة، تتصارع فيها العواطف والنوازع، وتقتتل فيها الآمال والرغبات، ثم لا يسكن هذا الصراع، ولا ينتهى هذا القتال، حتى يتحطم هذا الكائن العجيب، الإنسان.. له رأسان، أو عقلان..!
وقل مثل هذا فى القلبين، اللذين يفسد أحدهما عمل الآخر، وينقض أحدهما ما بناه صاحبه..
والله سبحانه وتعالى يقول: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (4: الأحزاب) .
وقل مثل هذا فى الجماعات البشرية.. إن كل جماعة يجب أن يكون على رأسها رأس واحد.. وإلّا فالتنازع والتصادم، والفساد..!
وقوله تعالى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» ..
هو تنزيه لله سبحانه عما يصفه به الواصفون، من صفات لا تخصّه بالكمال المطلق، بل تجعل له شريكا فيها، ويكون له بمقتضى ذلك سلطان مع سلطان الله، وعرش كعرش الله.. فالله سبحانه منزه عن أن يكون على تلك الصفة..
إنه سبحانه الإله المتفرد بالخلق والأمر..(9/861)